وحى رمضان .. سبيل القرآن إلى الوحدة الدينية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
وحى رمضان .. سبيل القرآن إلى الوحدة الدينية


بقلم / الإمام الشهيد حسن البنا

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * .فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة: 136-138].

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].

(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 123].

وهكذا نرى القرآن الكريم يطلع على الإنسانية بهذا المبدأ الجديد والدعوة الجديدة، ويسلك إليها هذه السبل البديعة الفريدة فى وقت كانت الدنيا فيه تشتعل بنيران الأحقاد الدينية، وتضطرم بسير الخصومات المذهبية؛ فأهل كل دين سماوى يخاصم بعضهم بعضًا، ويخاصمون غيرهم من أبناء الأديان والنحل الأخرى، وسائر الناس غير أهل الكتب السماوية يهيمون فى أودية من الخرافة، ويتيهون فى بيداء من الجهالة، ما بين عبادة أشخاص، إلى تقديس أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى من الحق شيئًا.

وفى هذه المعترك الروحى العجيب من الخصومة والجهالة يطلع القرآن على الناس بهذه الدعوة الجديدة؛ دعوة التآخى فى الدين، والاجتماع على أصوله الحقة، والإيمان به كوحدة ربانية، إن اختلفت فيها الفروع بحسب الأزمان والأعصار؛ فقد اتفقت فيها الأصول الخالدة الباقية؛ لأنها من الفطرة التى لا تقوم إنسانية الناس إلا عليها.

ويسلك إلى تحقيق هذه الدعوة أقرب وأيسر وأسهل المسالك على هذا النحو الذى فصله القرآن وبينه.

يقرر أن التوحيد دين إبراهيم -عليه السلام- وشريعته، وإبراهيم جد موسى، وبه يتصل نسب عيسى -عليهما السلام- وإبراهيم مقدس معظَّم عند أتباع موسى وأتباع عيسى على السواء، وما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذا التوحيد نفسه؛ بالحنيفية السمحة دين إبراهيم وملته؛ فهو إذن لم يأت بجديد، ولم يرهق العقول ولا النفوس بأمر عويص، ولكنه إنما يدعو الكتابيين من قبله إلى ما به يؤمنون، وله يعظمون، يدعوهم إلى إبراهيم وملته، وهو فى ذلك مثلهم، يؤمن بما يدعوهم إليه، ويحمل نفسه قبلهم على ما يحملهم عليه؛ ففيم الفرقة والخلاف؟

ولم الخصومة والنزاع؟ ومرد الأمر بعد ذلك كله إلى الله، صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة؛ فهذه واحدة. والثانية أن هذا القرآن الكريم فرض على المؤمنين به أن يؤمنوا بكل نبى سبق، ويصدقوا بكل كتاب نزل، ويحترموا كل أمة مؤمنة مضت، فإذا ذكروا موسى قالوا: (وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا) [الأحزاب: 69]، وإذا ذكروا عيسى قالوا: (وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران: 45]، وإذا ذكروا التوراة قالوا: _فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 44]، وإذا ذكروا الإنجيل قالوا: (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 46]، وإذا ذكروا الحواريين ذكروا بهم وصية ربهم إياهم (كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) [الصف: 14]، وبذلك كسر حدة الخصومة، وعهد السبيل للتفاهم الحق الكريم.

والثالثة أنه لم يقف عند حدود هذا التمهيد العاطفى النظرى؛ بل فتح باب التعاون العملى، والتواصل الفعلى، فقال لأتباعه والمؤمنين به: (طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5].

وجعل الأساس فى هذا التعاون العدالة والإنصاف بل البر والإحسان، فقال: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

وبعد هذا كله أوصى وصية مشددة، وأمر أمرًا جازمًا أن يكون الجدال إذا وجد ما يدعو إليه بالتى هى أحسن، فقال فى ذلك: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46].

وإنك لترى خلال جدل القرآن ونقاشه أجمل معانى النزاهة فى اللفظ والقصد والحرص على تحرى الهداية إلى الحق بالحق، واقرأ بربك هاتين الآيتين لترى أسلوبًا فريدًا من العرض السليم المحكم والجدل النزيه الملزم فى سورة النساء (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) [النساء: 171].

وفى سورة الشورى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15].

ألا وإن الإنسانية اليوم وقد اكتوت بنار المادية الطاغية، وذاقت الأمرَّيْن من الإلحادية الكافرة والإباحية الفاجرة.. أحوج ما تكون إلى ظل ظليل من تعاليم السماء، يعيد إليها الطمأنينة والمسرة، ويقر على الأرض السلام، ويكون رحمة من الله للعالمين، ولن يكون ذلك حتى يخلص ورثة الأديان وحملة الكتب لهذه التعاليم الراقية التى ورثوها، وسيرون إذا أخلصوا أن الوجهة واحدة، والطريق معبدة، ورسالة الخير التى يعملون لها مشتركة، وإنما يحجب الناس عن الحق فيها المطامع والغايات، والأهواء والشهوات، وسوء الفهم وقلة البضاعة من العلم، والقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) [يونس: 99-100].

فيا أيها الصائمون القائمون، إذا قعد غيركم من الناس عن أن يقوموا لهذه الرسالة بحقها؛ فكونوا أنتم لها أوفياء وعليها أمناء، واعملوا لها، وجاهدوا فى سبيلها، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، وكونوا فى ذلك خير خلف لخير سلف (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]


المصدر : جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 81 – صـ3 – 9رمضان 1365هـ / 6أغسطس 1946م.