يا زمن.. احكِ يا زمن!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
يا زمن.. احكِ يا زمن!
توفيق الواعي.jpg

بقلم: د. توفيق الواعي

يقولون: "تعيش في بلادنا يا ما تشوف"، وكلما مشيت أكثر تشوف أكثر!! تشوف الجاهلية الأولى.. تشوف الظلم والظلمات والغرائب والعجائب، وتشوف الهموم والغم المكتوم، حتى أصبح كأنه قدرهم المكتوب عليهم ولا فكاكَ منه، حتى قال بعضهم:

من قبل ما يتخلق آدم ويبقى دم والبين مؤرخ لي اسمي في دفاتر الهم

شفت خراب البيوت، وشفت حصارَ أسرة المعتقل وقطع الأرزاق عنه، ومعاقبة من يعطف عليه، حتى كان من يعطي هذه الأسرة خمسة قروش يُحكَم عليه بخمس سنوات سجن، ومن يُعطي عشرة قروش يُحكَم عليهم بعشر سنوات سجن، وكان السجن معروفًا بالعنابر: عنبر الخمسات، وعنبر العشرات.

ولذلك انقطع الناس عن إعطاء هذه الأسر التي فقدت عائلها ولا حول لها ولا قوة لتنفضح وتنحرف مقابل لقمة العيش، وخرجت العفيفات المصونات للضرب في الأرض والبحث عن لقمة العيش حتى روى لي صديقي يقول: "بينما أنا أسير ذات يوم على شارع النيل في مصر ، جلست قليلاً أستمتع بالنيل، فإذا بطفلٍ يمر من أمامي يحمل قراطيس من الترمس وقال لي: يا "عمو" هل تريد قرطاسًا من الترمس؟

فلفتتني كلمة يا "عمو" هذه وأخذت منه قرطاسًا بقرش، ثم التفتُّ فوجدتُّ سيدةً محتشمةً تجلس بعيدًا، تعبِّئ القراطيس للطفل ليبيعها، فحرَّك هذا فضولي، وسألت الطفل: من هذه الجالسة هناك تملأ لك هذه القراطيس؟ قال: أمي، قلت له: وأين أبوك؟ قال: محبوس، فقلت له: لماذا؟ قال: لأنه من الإخوان المسلمين.

فدمعت عيناي، ونظرت إلى المرأة التي تجلس بعيدًا على استحياء، وإلى الطفل الغضّ الذي يذهب هنا وهناك، وقلت: سبحان الله!!.. أهكذا يُفعل بالأسر المسلمة، يُرمى كاسبُهم في قعرٍ مظلمة، وتخرج ربَّات الطهر والعفاف تتكفَّف الناس وتُحاصَر ولا يستطيع أحد مساعدتها أو الرثاء لحالها؛ خوفًا من العقاب؟!

وتذكَّرت محاصرة ومقاطعة كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه؛ حيث عقدوا لذلك معاهدةً اتفقوا فيها على ألا يبيعوا أو يبتاعوا منهم شيئًا، وألا يزوِّجوهم أو يتزوَّجوا منهم، وكتبوا ذلك في صحيفةٍ وعلَّقوها في جوف الكعبة، وضُيِّق الحصار على المسلمين وانقطع عنهم العون، وقلَّ الغذاء حتى بلغ بهم الجهد أقصاه، وعضتهم الأزمات العصيبة حتى رثى لحالهم الخصوم.

قال السهيلي: "كانت الصحابة إذا قدمت عيرٌ إلى مكة تحمل الطعام يأتي أحد المؤمنين السوق ليشتريَ من الطعام قوتًا لعياله، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد؛ حتى لا يدركوا معكم شيئًا، وأنا ضامن لا خسارة عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة أضعافًا ولا يعطونهم شيئًا، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله وهم يتضوَّرون من الجوع".

هذا حال الجاهلية الأولى، أما جاهلية اليوم فإنها تصادر كل شيء عند المسلم: تجارةً وأموالاً ومصاغًا، ولا تترك شيئًا، ثم تعتقل ربَّ العائلة وترميه في السجن سنين طويلة.

إلى الله فيما نابنا نرفع الشكوى ففي يده كشف الضر والبلوى

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها        فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاءنا السجَّان يومًا لحاجةٍ عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا؟!

ونفرح بالرؤيا فجلُّ حديثِنا إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا

وقد بلغني أنه قبل أمس ذهبت عصابات الفجر وزوَّارُه إلى أحد الإخوان المسلمين وهجموا على الأسرة الآمنة مروِّعين ومدمِّرين، وجاء هولاكو الذي يقود العصابة هو ومن معه من الهكسوس فدمَّروا كل شيءٍ وأفزعوا كل سيدة وطفل حسبةً للوطن، وحبًّا في إكرام الشرفاء المؤمنين العلماء، وقال كبيرهم متلمِّظًا للدكتور المراد خراب بيته: "أخرج ما عندك من مال"، فقال: "ليس عندي إلا قوت أولادي ورسوم تعليم أبنائي في الجامعات الخاصة، ومال صيدليتي التي بعتها لضائقتي المالية لأسدِّد بها ديوني، وأرتزق بما تبقَّى منها في شيء" ولكن هيهات هيهات!! فليس هناك قانون يتحاكم إليه، أو ضمير يسمع إليه، ونهب كل شيء وأُخِذ الدكتور ربّ الأسرة، وتُركَت الزوجة وأولادها لتحب مصر.. عظيمة يا مصر!!

فهل كانت الجاهلية الأولى تدخل على البيوت لتفسح ما فيها عنوةً واقتدارًا وتجر الناس إلى السجون؟!

إن فعل المقاطعة في الجاهلية الأولى لم يستمر إلا يسيرًا ثم زال، أما جاهلية اليوم فاستمرت نصف قرن أو يزيد، والغريب أن أبا جهل وأولاده اليوم يزدادون ثراءً، ويغيرون في نهم منقطع النظير على أقوات الناس، ويبدِّدون أرزاقهم، وقد تزوَّجت السلطة بالثروة، وأصبحت أرصدةُ الدولة أرصدةً لهم، وأصبح المليارات يُلعب بها في أيدي العابثين من الناس، وفي المقابل أناس في القمة العلمية والفكرية لا يجدون القوت، وإن وجدوه وأخذوه من حلال أُغِيرَ عليهم وسُلبُوا كل شيء.

ذهب الذين حموا حقيقة علمهم واستعذبوا فيه العذاب وبيلاً

في عالم صحب الحياة مقيدًا بالفرد مخزومًا به مغلولاً

وتروي شبكات المعلومات العالمية عن أقطار العالم كل تقدُّم وعزة ورفعة، وتروي عنا أخبار الفساد وسرقات البنوك ونهب أرصدتها حتى بلغ المنهوب منها حوالي مائة مليار جنيه لا يُسدَّد منها شيء، وتقول: "هذه جرائم اغتيال أمة مع سبق الإصرار والترصُّد"، وأكبر أنواع الاغتيال أسرعه في الفتك بالجوع، وأسوأ أنواع الاغتيال اغتيال الفساد وتجريف ثروات الوطن، وسلب صحة المواطنين بأغذيةٍ مسرطنة، وحرمانهم من الخدمات الصحية المجانية، مع زيادة الأوبئة والحوائج المتزايدة.

ولقد أثار تقريرٌ خطيرٌ صادرٌ عن هيئة النيابة الإدارية حول جرائم الفساد في مصر ماليًّا وإداريًّا داخل الأجهزة الحكومية قدرًا كبيرًا من القلق والاستياء لدى المواطنين؛ حيث أعلن أن عدد قضايا الفساد قد بلغت 66422 قضيةً عام 1999م، ثم تزايدت القضايا حتى بلغت حدًّا مخيفًا بلغ جريمة فساد مالي وإداري كل دقيقتين، وهو ما يكشف عن صورةٍ مخيفةٍ للانحراف والفساد تثير القلق على مصير المال العام وعلى مستقبل الأمة، خاصةً وقد أصبح 50% من أبناء الشعب تحت خط الفقر؛ منهم 9 ملايين عاطل عن العمل!.

فهل هذه الأوضاع تقتضي حبس علماء الأمة وأصحاب القوى الحيوية فيها بأمر المفسدين في الأرض؟! أم تقتضي المحافظة عليهم وتقديرهم؟! وهل هذا أيضًا يقتضي الغارة على قوتهم ومقدَّرات أولادهم واعتقالهم؟! أم إعطاءهم الجوائز والنياشين جزاءَ اجتهادهم ونفعهم لأوطانهم؟!

هذا، وما زال الزمان يحكي ويحكي ويحكي حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولاً.

المصدر

قالب:روابط توفيق الواعى