يا مبارك.. هل تنام?

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
يا مبارك.. هل تنام?

بقلم: أ.د/جابر قميحة

مقدمة

ينقل لنا التاريخ ما خلاصته أن مبعوث (رسول) كسري الفرسِ وصل إلي المدينة يريد مقابلة الخليفة عمر بن الخطاب, فأخذ يستهدي إلي قصره (أي: يسأل الناس عن قصره), فعلم أنه لا يسكن قصرًا, وانتهي به الأمر إلي أن وصل إلي بيت كبيوت أفقر العرب, وهناك كان الخليفة العظيم راقدًا علي الرمل أمام البيت, جاعلاً منه وسادة, أسند إليها رأسه, ولم يكن حوله من مظاهر هذه الحياة ما يميزه عن أصغر فرد في رعيته, فلما رأي رسول كسري ذلك دهش, ووقف أمامه خاشعًا, وقال: "عدلت, فأمنت, فنمت يا عمر".

وقال شاعر النيل..

وقد عبر حافظ إبراهيم (1872- 1932) عن هذا الخبر بشعر أخاذ فقال:

وراع صاحبَ كسري أن رأي عمرًا

وعـهـده بـمـلوك الفرس أنّ iiلها

رآه مـسـتـغـرقًا في نومه iiفرأي

فوق الثري تحت ظل الدوح iiمشتملاً

فـهـان فـي عـينه ما كان iiيُكبرهُ

وقـال قـولـة حق أصبحت iiمثلاً

أمـنـت لـما أقمت العدل iiبينهمو

بـيـن الرعية عُطلا, وهو iiراعيها

سـورًا من الجند والأحراس يحميها

فـيـه الـجلالة في أسمي iiمعانيها

بـبـردة كـاد طـول العهد يبليها

مـن الأكـاسـر والـدنـيا iiبأيديها

وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها ii:

فـنـمـت نوم قرير العين iiهانيها

نفس بالعدل مطمئنة

ولا عجب أن ينام عمر -رضي الله عنه- ملء جفنيه, مطمئن النفس علي فراش من رمال وحصي, أمام كوخ متواضع.. لا قصر.. ولا منتجع.. ولا استراحة.. ولا رفاهية" لأنه كان حاكمًا عادلاً في رعيته.. لا يشتد إلا علي أهله وبنيه.. ويُروي أنه كان يقول لأبنائه وأقربائه: "ألا إني سآمر الناس -في الحق- بكذا, فمن خالفني منهم عاقبته, ومن خالفني منكم ضاعفت له العقوبة".. إنه الضمير الحي الذي لا يري للعدل في أنقي صورة بديلاً, ولا يهدف بأحكامه وسلوكياته وأقواله الخاصة والعامة إلا إرضاء الله {إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء: 58]. وصدق الرسول -صلي الله عليه وسلم- إذ قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.. وإذا وُسِّد الأمرُ غيرَ أهله (أي: حكم الناس من ليس جديرًا بحكمهم) فانتظر الساعة".


النفس اللوَّامة

هذا الضمير الحي سماه القرآن "النفس اللوامة". يقول الحسن البصري في سياق تفسيره لهذه النفس: "... إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه (في حوار معها): ما أردت بكلمتي? ما أردت بأكلتي? ما أردت بحديث نفسي? وإن الفاجر يمضي قدمًا ما يعاتب نفسه".


ويقول الشهيد سيد قطب: ".. فهذه النفس اللوامة, المتيقظة التقية الخائفة, المتوجسة التي تحاسب نفسها, وتتلفت حولها, وتتبين حقيقة هواها, وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة علي الله, حتي ليذكرها مع القيامة" {لا أقسم بيوم القيامة . ولا أقسم بالنفس اللوامة } [القيامة: 1, 2].

ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة, نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر, ويمضي قدمًا في الفجور, والذي يكذب, ويتولي, ويذهب إلي أهله يتمطي, دون حساب لنفسه, ودون تلوّم, ولا تحرج ولا مبالاة.."

وعمر الذي "عدل, فأمن, فنام نومًا عميقًا علي رمال وحصي -لا في قصر, ولا منتجع, ولا استراحة- كان يتمتع بضمير حي متيقظ, جعله يعيش مشكلات أمته, ويعيش آلامها ومحنها.. ففي سنة 18هـ كان عام الرمادة.. والرمادة في اللغة معناها "الموت", فهو عام المجاعة التي لم تُسقط فيه السماء نقطة مطر واحدة فهلك الزرع والضرع, والخف والحافر, واسودت الرمال الصفراء فصارت في لون الرماد المتخلف عن حريق, وكلحت وجوه الناس, فصارت كذلك في لون الرماد, وقيل إنه مات في هذه المجاعة أكثر من ثلث الناس.

وهنا لم يهنأ عمر بنوم, ولا راحة, ولا طعام, وحرم علي نفسه أكل السمن. وكانت وجبته: كسرات من الخبز مغموسة في الزيت, واستبد به الحزن, من أجل المسلمين, حتي أصبح علي خديه خطان أسودان من كثرة البكاء .

قال أحد الصحابة: "والله لو امتدت الرمادة (المجاعة) زيادة علي العام أشهرًا لمات عمر من شدة حزنه وأساه وإشفاقه علي الرعية".

ولم يمنعه هذا الحزن من أن يتولي بنفسه التخفيف عن الناس بإطعامهم وكسائهم.. مستمدًا المعونة من مصر والعراق والشام. وقبل كل أولئك كان قدوة حسنة للناس.


معتقل واحد في عشر سنين

وكان بعبقريته يواجه كذلك "المشكلة الفردية", ثم يحاول أن يجتث جذورها, إذا كانت مظنة التجدّد والتكرار. ومن ذلك ما نقله التاريخ من أن "الحطيئة" الشاعر المخضرم كان مطبوعًا علي الهجاء, وكان الناس "اتقاءً لفحش لسانه" يعطونه "إتاوات" حتي لا يهجوهم, وأصبحت هذه الإتاوات هي مصدر رزقه الوحيد. إلي أن هجا "الزبْرقان بن بدر" ذات مرة -وكان من عيون الناس- فرفع شكواه إلي عمر -رضي الله عنه- فأمر بحبسه. فأرسل إليه أبياتًا يستعطفه بها ليطلق سراحه.. متشفعًا بأطفاله الصغار, وقد شبههم بفراخ الطير الصغيرة, التي تحتاج إلي طعام ورعاية, وفيها يقول:

مـاذا تـقـول لأفـراخ بذي iiمرَخ

ألـقـيـت كاسبهم في قعر iiمظلمة
أنـت الإمـام الذي من بعد iiصاحبه

لـم يـؤثـروك بـها إذ قدموك iiلها

زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ ?!

فـاغـفـر عليك سلام الله يا iiعمر

ألـقـي إلـيـك مقاليد النُّهي البشر

لـكـن لأنـفـسهم كانت بك iiالأثر

(وذومرخ: واد بالحجاز, والأُثر: المكرمات, والنُّهي: العقول)

فاهتز عمر لذكر الأطفال, واشترط علي الحطيئة حتي يطلقه ألا يهجو مسلمًا. قال الحطيئة: "إذًا أموت جوعًا أنا وأولادي فأنا أعيش علي عطاء الناس اتقاء للساني". فاشتري منه عمر أعراض المسلمين, ومنحه من ماله ثلاثة آلاف درهم, وعاهده علي ألا يعود للهجاء.


25 ألف معتقل يا مبارك

وواقعه الشاعر الحطيئة "المعتقل الوحيد" الذي تشفع -في شعره- بأطفاله, ذكرتني بالخمسة والعشرين ألف مواطن الذين ألقي بهم في المعتقلات والسجون المباركية, وذكرتني بأطفالهم الذين يعيشون "أيتامًا", وآباؤهم أحياء.

خمسة وعشرون ألفا -يا مبارك- أغلبهم مضي عليهم في جحيم معتقلاتهم أكثر من عشر سنين. وأسراك هؤلاء -يا مبارك- يمثلون في العدد ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف أسري الفلسطينيين في سجون إسرائيل.

وعدد أسراك هؤلاء -يا مبارك- يعني أنهم تركوا وراءهم قرابة مائة ألف طفل يعيشون علي الألم والحرمان والضياع والفقر والمرض.أما التعذيب في سجونك – يا مبارك – فصفحة دامية...سوداء...سوداء...سوداء .

فكيف تنام -يا مبارك? وهل يهنأ لك منام في قصورك, ومنتجعاتك, واستراحاتك? ألم يؤرقك ضمير, وتصرخ فيك نفس لوامة? ألم تقل لك: إن أسراك هؤلاء إما أبرياء, فيجب أن تطلقهم فورًا, وتعوضهم -من مالك الخاص- عن زهرة عمرهم التي أُهدرت وديست في معتقلاتك? وإما مذنبون فيجب تقديمهم فورًا لمحاكمات علنية عادلة?!

أنا لم أسرق القروض من البنـ

لـم أبع ذمتي, ولا خنتُ iiيومًا

أنـا لـم أقتحم بيوتًا مع الفجـ

لا, وما زورت انتخابًا ولا iiكنـ

إنـمـا عـشت شامخا بيقيني

أنـا مـا بعت أمتي iiبرخيص

ما اتخذت الإرهاب دينًا iiونهجًا

فـلـمـاذا أصير رهن iiاعتقال

وأعـانـي لهيب شوقي iiلطفلي

ك, ولـم أخـتلس جهارًا نهارًا

أو لـبـست الرياء ثوبًا iiمعارًا

ـر, وأفزع أطفالها iiوالعذاري

ـتُ دعـيـا أسـاير iiالأشرار

رافـع الـرأس عزة.. iiوفخارًا

أو بـغـال, ولم أخرب iiديارًا

لا ولا حـتـي فكرة أو iiحوارًا

وأعـانـي القيود والأسوارا ii?

وبـناتي للحزن عشن iiأساري?

وكيف تنام – يا مبارك – وأنت تعيش في شرنقة مصفحة من الطوارئ الممتدة من ربع قرن ؟ ألم يؤرقك صراخ أرواح قتلى الانتخابات المزورة , وضحايا عبارة رجل حزبكم : ممدوج إسماعيل ؟ وغير ذلك كثير وكثير ...


وأخيرًا

وأخيرًا.. هلا رجعت -يا مبارك- إلي ما كتبته أنا آنفًا من لمسات تاريخية عفوية? وبعدها أعاود سؤالك -وعلي أسي ووجع أليم-: يا مبارك.. يا رئيس هذه الأمة: هل تنام? وكيف يهنأ لك منام أمام ظلمكم هذا الفادح, الذي يؤرق جبالا وبحارًا وتهتز منه وله أرض وسماء?!

المصدر:رابطة أدباء الشام