التصور الفكري للأزمة الحضارية (الجزء الأول)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٩:٥٣، ١١ مايو ٢٠١٦ بواسطة Sherifmounir (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التصور الفكري للأزمة الحضارية
في مشروع التجديد الحضاري عند "الإخوان المسلمون"

بقلم: ح.ع

خاص موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

مدخل فهم الأزمة

البحث في فهم الأزمة جزء من الحل والتصور لها فرع من الحكم عليها وعلى طبيعتها, وقد وقع العقل المسلم إبان أزمته الحضارية في تصورين متضادين الأول ينزع إلى فكرة الجبرية والتي تعني الاعتقاد بأن ما وصل إليه المسلمون هو أمر مقدر تسقط مع المسؤولية, وأن رفعه أيضًا مقدر ينتفي معه العمل لتغييره وتبديله ولعل هذا كان التصور كان يرجحه طريق التصوف في إحدى مراحل ضعفه, والتصور الثاني يقوم على الوعي بأن التراجع الحضاري وما شهدته الحضارة الإسلامية – بصفة عامة- من تراجع وسقوط الخلافة الإسلامية 1924م –بصفة خاصة- إنما تقدر مسؤوليته على المسلمين والقصور الداخلي على عدة مستويات أهمها البعد الديني والتفريط في صحيح فهم الدين, والجمود والغفلة عن سنن التطور والتغيير.
(شعار الإخوان)
(شعار الإخوان)

وهذا التصور هو ما تبنته حركات الإصلاح في العالم الإسلامي أفرادًا وجماعات, على الرغم التباينات الحادة في مداخل هذا الإصلاح بين مداخل إسلامية, ومداخل علمانية, " حيث وجدت الشعوب الإسلامية أن عليها, وهي تحشد قواها المعنوية والفكرية في نضالها ضد أوروبا للدفاع عن عقيدتها وعن حريتها, أن تبدأ بتغيير أوضاعها الاجتماعية والثقافية, وأدى ذلك إلى كثير من الأزمات بين الجيل الجديد والجيل القديم, وفيما بين الأوساط الاجتماعية كذلك, وعلى الأخص عند المثقفين, بين أنصار التجديد والمدافعين عن الأفكار والقيم السلفية باعتبارها أفضل تعبير عن النموذج الإسلامي". (1)

وجماعة الإخوان المسلمين من الحركات التي تبنت المدخل السنني في فهم الأزمة الحضارية التي دخلت فيها الأمة, واهتمت بالبحث في جذورها, وأبعاد وجودها وامتداداتها في واقع الأمة. وسوف نتناول في هذا القسم مفهوم المدخل السنني عند الإخوان المسلمين في فهم الأزمة الحضارية, ومظاهر تلك الأزمة ومشكلاتها في تصورهم الفكري كما يوضح الشكل التالي.

التصوور.png

التصور الفكري للأزمة الحضارية في مشروع التجديد الحضاري

أولاً: أبعاد المدخل السنني للوعي بالأزمة الحضارية


يؤكد الإمام حسن البنا في تصوره للأزمة على التصور السنني وعلى دورة الحضارات التي تبدأ فتية ثم تصل إلى ذروة قوتها ثم تبدأ في الضعف والشيخوخة مثل الكائن الحي, إلا أن هذا التطور في حياة الأمم يحدث لأسباب على الإنسان الوعي بها واكتشافها ليدرك بها سنن الصعود والهبوط الحضاري " إن مثل الأمم في قوتها وضعفها وشبابها وشيخوختها وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء، فالفرد بينما تراه قويًا معافى صحيحًا سليمًا، إذا [بنا] نراه وقد انتابته العلل وأحاطت به الأسقام وهدت بنيته القوية الأمراض والآلام، ولا يزال يشكو ويئن حتى تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى بطبيب ماهر ونطاسي [ الطبيب الماهر] بارع يعلم موطن العلة ويحسن تشخيصها ويتعرف موضع الداء ويخلص في علاجه، فإذا [ بنا ] بعد حين ترى هذا المريض وقد عادت إليه قوته ورجعت له صحته، ربما كان بعد هذا العلاج خيرًا من قبله.

ومثل ذلك في الأمم تمامًا، تعترضها حوادث الزمن بما يهدد كيانها ويصدع بنياتها ويسرى في مظاهر قوتها سريان الداء، ولا يزال يلح عليها ويتشبث بها حتى ينال منها فتبدو هزيلة ضعيفة يطمع فيها الطامعون وينال منها الغاضبون، فلا تقوى على رد غاضب ولا تمنع من مطامح طامح، وعلاجها إنما يكون بأمور ثلاثة : معرفة موطن الداء، والصبر على آلام العلاج، والنطاسي الذى يتولى ذلك حتى يحقق الله على يديه الغاية ويتمم الشفاء والظفر". (2)

يؤكد حسن البنا هنا على أهمية الوعي بالتاريخ وبسننه الماضية في الأمم والحوادث, ويرى أن التغيير سنة ماضية بشروط وقوانين وضعها الله في الكون ولا يمكن التخلف عنها, لأنها لا تحابي أحد, ويؤكد على ضرورة الإصلاح فهو الفكرة الأساسية في هذا الدين والغاية الكبرى للأنبياء  إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {هود:88}.
تبدو أهمية المدخل السنني-أيضًا- في فهم الأزمة الحضارية لأنه من أهم أصول النظر الاستشرافي للمشروع الحضاري العربي الإسلامي، ويعنى تعلم فعل السنة، والسنة الإلهية التى تؤصل قواعد قوانين ونواميس تحكم الحركة والممارسة في عالم التاريخ، والأنفس والاجتماع، وقبل هذا كله التعلم على النواميس التى تتعلق بالحركة الكونية، النظر السنني يحمل في مكنوناته نظرًا استشرافيًا وإمكانات مستقبلية في تشكيل الوعي وحركة السعي. السنن تنساب ضمن حركات الزمن وترابطها "الحاضر والماضي والمستقبل" وتربط فيما بينها ربطًا محكمًا وحركات المجالات "الكون والتاريخ والنفس والاجتماع"لتؤكد بذلك نظرًا استشرافيًا محكومًا بالقوانين والسنن. (3)
ومن ناحية أخرى يقوم المدخل السنني على مبدأين قرآنيين أساسيين هما مبدأ "السعى" [ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] {النَّجم:39}، والمسؤولية [ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ] {الشُّورى:30} فعين العبرة على الحدث الذى وقح- تجعل الفرد أو الجماعة أو الأمة في حالة عبور مستمر من الحدث الذى وقع إلى استشراف لمستقبل يتحرك صوب إمكانات التغيير وحركته الفاعلة، وإمكانات التدبر لتشكيل حركة المستقبل من دون منافاة للإيمان بالغيب [ ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى ] {النَّجم:41} ، إنها حركة مستمرة لمصلحة النظر والفعل المستقبليين لا التوقف الأسير للحدث فيتحكم به الحدث، لا يتحكم هو به وفق منظور التعرف على الأسباب والوعي بالسنة والتقاط العبرة وبما يشكل ذلك منظومة متكاملة للدافعية للحركة نحو المستقبل، والبحث عن مناط الفاعلية فكرًا وممارسة لصياغة المستقبل. وفي كل الأحوال لابد أن يتعرف على الحركة السننية الحاكمة: [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] {آل عمران:165}. ((4)
إن المدخل السنني لفهم الأزمة الحضارية التى تحياها الأمة ينفي فكرة الجبر التى ترى أن الإنسان ليس حرًا في الوجود، وبالتالي ليس له فعالية حقيقية في الحياة، وأن كل شئ يقوم به مفروض عليه بقوة غيبية لا يدركها ولا يحسها، والحق أن الإنسان لا يقدر على فعل شئ ضد مشيئة الله، والله ذاته شاء أن يمنح الإنسان قدرًا من الحرية في الاختيار والقدرة في السلوك والعمل ليدبر شئوونه، ولعل دليلنا على هذا هو إحساس الإنسان في ذاته (قرارة نفسه) أنه حر يستطيع فعل ما يشاء وترك ما يشاء متى أراد وكيف أراد، دون جبر داخلي أو قهر خارجي صادر عن غيره ولذا كان الإنسان مسؤولًا مسؤولية كلية عن حياته في حاضره ومستقبله أمام الناس وأمام الله في الدنيا والآخرة. (5)
والسنة في الفكر هي مجموعة القوانين التى يسير وفقها الوجود كله وتتحرك بمقتضاها الحياة وتحكم جزئياتها ومفرداتها فلا يشذ عنها مخلوق وما في الكون ذرة أو حركة إلا ولها قانون وسنة فكل الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات.. إلا وله قانون وما من كوكب أو نجم إلا وله لا إرادي أولا ذاتي يسير وفقه... وما من حركة نفسية أو اجتماعية أو نقلة حضارية إلا ولها قانون أيضًا يتجلى في الأسباب والعوامل المؤدية إليها. وسلبت الإرادة من كل الكائنات المخلوقة إلا للإنسان. ولذلك كان هو وحده المطالب بالبحث عن هذه السنن ومعرفتها في الحياة المبثوثة فيها بمثابة الأسرار للاضطلاع بإعمار الأرض وأعباء الاستخلاف. (6)
يشير الإمام حسن البنا إلى كليات الأزمة والعوامل الكلية والسننية لوقوع أمتنا فيها، ويرصد مجموعة من الأسباب التى أثرت في حركة هبوط الحضارة الإسلامية وتراجعها، بعد حركة الامتداد والعمران الإنسانية الواسعة التى قامت بها تلك الحضارة, فمع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع للدولة الإسلامية؛ فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية، وتعظم وتنتشر وتقوى شيئًا فشيئًا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية وكان من أهم هذه العوامل: (7)
(أ) الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه، مع التحذير الذى جاء به الإسلام في ذلك والتزهيد في الإمارة، ولفت النظر إلى هذه الناحية التى هي سوس الأمم ومحطمة الشعوب والدول: [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46}.
(ب) الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وإهمال كتاب الله وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم- والجمود والعصب للآراء والأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وكل ذلك مما حذر منه الإسلام ونهى عنه أشد النهي، حتى قال صلى الله عليه وسلم "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل".
(ج) الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات، حتى أثر عن حكام المسلمين في كثير من العصور ما لم يؤثر عن غيرهم، مع أنهم يقرأون قول الله تبارك وتعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.
(د) إهمال العلوم والمعارف الكونية وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة، مع أن الإسلام يحثهم على النظر في الكون واكتناه أسرار الخلق والسير في الأرض، ويأمرهم أن يتفكروا في ملكوت السموات والأرض [قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {يونس:101}.
(هـ) غرور الحكام بسلطانهم والانخداع بقوتهم وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم في الإعداد والأهبة، وقد أمرهم القرآن باليقظة وحذرهم من مغبة الغفلة واعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179}.
(ز) التقليد الأعمى والانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم والاندفاع فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم، والأمر الصريح بمخالفتهم.

أما محمد عبده (1849- 1905م) فيرى أن الجمود, وغياب الفهم الصحيح للدين هما سبب تخلف المسلمين وتراجعهم الحضاري, هذا الجمود الذي شمل اللغة والاجتهاد والفقه والتعليم, حيث توقف كل شئ في الأمة بتوقف العقل المسلم عن العطاء الحضاري, كما حَمَلَ "محمد عبده" علي الحكام ودورهم في الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة وذلك بقدرتهم علي إخراجها من الحالة التي هي فيها، لما لهم من سلطة وحكم وتأثير وقدرة، إلا أن عدم قدرتهم علي "الفهم" الحقيقي لدورهم ودور "الحكومة" في حياة المجتمع أدي إلي مشاركتهم في حدوث هذه الأزمة وكانوا سببًا لها. (8)

ويرى مصطفى صبري "شيخ الإسلام" (1869 – 1954م) أن العوامل الأكثر تأثيرًا في تخلف المسلمين تتمثل في محاور هي: محور التقليد للغرب وما تبعه من انتشار واسع لحركة وتيار التغريب بين "المجددون المسلمون" وكتب فيه مؤلفه "ديني – مجددلر"، "مجددو الدين"، والمحور الثاني: الفساد الأخلاقي والتربوي والعلمي، والثالث: محور فصل الدين عن السياسة. (9)
في الشرق الإسلامي نجد على شريعتي (1933-1977م) والذي يحدد وجوه الأزمة بعاملين: أحدهما خارجي، يتمثل في الغرب الرأسمالي الذى يستهدف في برنامجه الشرق كله بهدف تحويله من حيث الشكل والمظهر إلى النمط الثقافي الغربي ببث – بحسب شريعتي – "الروح المادية الحقيرة" و"فلسفة أصالة الاستهلاك" وذلك من خلال تسخير كافة وسائله وإمكاناته المادية والفكرية والنفسية، "من قوة العلم والفلسفة والتقنية والفن والأدب، وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس وسلاح الحرب والسلام والسياسة، وذلك بهدف تنازل الأمم كلها عن أصالتها وخصائصها المعنوية والتاريخية والدينية والقومية التي تشكل شخصيتها واستقلالها".
( ) أما العامل الآخر فهو داخلي ورآه شريعتي بأنه الأكثر خطورة في أزمتنا الحضارية لأن العدو الداخلي – الذى يكون من نفس الدين – يكون أكثر تأثيراً وامتداداً, فالإسلام لم يهزم في معركة خارجية ولكنه هزم داخلياً، فالداخل بقصد أو بدون قصد عن علم أو جهل كان يحقق أهداف الغرب في إضعاف الأمة وسحق هويتها، وأحد أبرز هذا الداخل ما أسماهم شريعتي بـ"أشباه المثقفين" أو "المثقف المزيف"، فالاستعمار احتاج إلى فئة تقوم بدور المثقفين في المجتمع المسلم تتبنى الرؤية الغربية ومنهجها المادي دون أن تدرك حقيقتها أو غايتها.
وفي المغرب العربي يركز مالك بن نبي مالك (1905-1973م ) في تصوره للأزمة الحضارية وما يرتبط بها من عناصر مختلفة على المشكلة الفكرية التي يعانى منها العالم الإسلامي منذ عصر ما بعد الموحدين ويرى أن الجانب الفكري هو الأساس في المشكلة التي نحن بصددها إن الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمة ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقومات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، و تعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها. وهذه الثغرة تعود في تكوينها، إلى شئ من التخلف في تطورنا الاجتماعي.

ويرى أيضًا أن الأزمة في جانبين أساسيين: الأول العوامل الداخلية ويتمثل في ثلاثة عناصر

1-اختلال العالم الثقافي.
2-داء القابلية للاستعمار.
3-وهن الدفعة القرآنية)

والجانب الثاني: الاستعمار الذي أوقف تطور حركة المجتمع المسلم، واستهدف نظامه القيمي، وسلبه حريته فالاستعمار حاول أن يكف العالم الإسلامي عن التطور، ويضع العراقيل أمام حلول مشكلاته النفسية والاجتماعية، ليس هذا فحسب، وإنما ظهر– أيضًا – في صورة محسة وأعمال سالبة تهدف إلى طمس قيم الفرد وإمكانيات تطوره. (10)

تكون الأمم ودورة الحضارة بين حسن البنا ومالك بن نبي

يرى حسن البنا أن الأمة تمر بخمسة مراحل حتى تتكون، وهو في ذلك يتصور حال الأمة بعد تراجعها وانحطاطها الحضاري وهذه المراحل: يصورها في قصة موسى عليه السلام: (11)
المرحلة الأولى: ضعف, ويشبه تلك المرحلة بضعف موسى عليه السلام وتجبر فرعون واستعباده للناس بدون حق، ثم أراد الله تبارك وتعالى – ببعثة موسى – أن يعيد بهذا الشعب المستعبد حريته المسلوبة وكرامته المغصوبة، فكان أول شعاع من فجر حرية هذا الشعب إشراق شمس زعيمه العظيم على الوجود طفلاً رضيعًا [نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {القصص:3}.
المرحلة الثانية: زعامة, حيث يقوى هذا الزعيم ويبلغ أشده، وتتولاه العناية الإلهية، واصطنعه الله وحمله عبء الرسالة، وأسند إليه خلاص شعبه؛ فآب مملوءًا بالإيمان مؤيدًا باليقين، يواجه ذلك الجبار فيطلب إليه أن يعيد إلى شعبه حريته ويترك له كرامته ويؤمن به عند تبعه [فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ(16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(17)]. {الشعراء}.
المرحلة الثالثة: صراع, وهي مرحلة الصراع السنني بين أهل الحق وأهل الباطل، فتشهد غضبه القوة على الحق كي تثور عليه وتنتقم منه، وتعذب أهله وتقهر مناصريه، ثم كيف يصبر أهل الحق على كل ذلك، وكيف يضللهم رؤساؤهم بالآمال الحلوة والأماني العذبة حتى لا يجد الخور إلى نفوسهم سبيلًا [وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128)] {الأعراف}.
المرحلة الرابعة: إيمان, وهي مرحلة الثبات على الحق والصبر على الأخرى، والاستهانة بكل شئ حتى الحياة في سبيل الإيمان والعقيدة من إتباع هذا الزعيم الذين آمنوا بدعوته [قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] {طه:72}.
المرحلة الخامسة: انتصار, إن عاقبة كل ما مضى هو الفوز والفلاح والنجاة، وتحقق أمل الحالمين [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ] {طه:80}.
أما مالك بن نبي انطلاقًا من هذا المبدأ الجوهري والمدخل السنني المعرفي فيحدد ثلاث مراحل أساسية تمر بها الحضارات, يمكن من خلالها متابعة الدرس السنني والمنهجي لقيام الحضارات وهبوطها وهي كالتالي:
1-المرحلة الروحية: هذه المرحلة يتوافر فيها توهج الفكرة الدينية وجذبها الاجتماعي وتقوم بدور القائد والموجه لنشاط الفرد والمجتمع، وهي المرحلة التي تطبع فيها سلوك الفرد, وتتكون شبكة العلاقات الاجتماعية في أكثف حالاتها... وهذه المرحلة هي العصر الذهبي لأي مجتمع؛ لأنه يتمتع بميزتين: فقواه جميعًا في حركة, وهذه الحركة دائمة وصاعدة... وفي هذه المرحلة يخضع تنظيم الطاقة الحيوية للفرد كلية للفكرة الدينية, ويتم توجيهها إلى مقتضيات وغايات المجتمع السامية في هذه اللحظة التاريخية من ميلاده, بما يحقق النشاط المشترك للمجتمع في هذه اللحظة التاريخية لحظة ميلاد الحضارة. (12)
2-مرحلة العقل: أو المرحلة العلمية، وهى مرحلة جني ثمار الحضارة العلمية والفكرية وهي المرحلة التي يظهر فيها نتائج الحضارة, وهي التطور الفكري والعلمي والمادي, غير أن شبكة العلاقات تبدأ تشوبها بعض الشوائب والقصور نتيجة طبيعة تلك المستجدات, التي تسلك سبيل العقل لا الروح, وتكون نقطة تحول للغرائز والطاقة الحيوية للفرد التي تتفلت من سلطة العقل, لأن سلطة العقل لا تعدل سلطة الروح...- مثال المجتمع العباسي في الدولة الإسلامية- وهو ما يؤثر تدريجيًا في البناء النفسي للفرد والبناء الأخلاقي للمجتمع". (13)
3-مرحلة الغريزة: وهي مرحلة انحلال الحضارة والمجتمع والتي تبدأ بتحلل الغرائز نهائيًا من سلطة العنصر الديني, فلا تعود تعمل بشكل منسجم مع حركة المجتمع ونشاطاته الحضارية, ولكنها تعمل بصورة فردية, كل يعمل لحسابه الخاص, ومن هنا يختل نظام الطاقة الحيوية, ويفقد قيمته الاجتماعية, وتتحلل شبكة العلاقات. وفي هذه المرحلة- أيضًا- تسود الفردية, وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيًا, ويدخل المجتمع في عصر الانحطاط. وهو العصر الذي هيأ في المجتمع الإسلامي مناخ القابلية للاستعمار والاستعمار. (14)

المراجع

(1) على مراد: الإسلام المعاصر, ترجمة: محمود على مراد, القاهرة الهيئة العامة للكتاب, 1994م, ص28.

(2) حسن البنا: مجموعة الرسائل، الإسكندرية، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 1990م، ص34.

(3) سيف الدين عبد الفتاح: المشروع الحضاري الإسلامي.. سيرة ومسيرة، القاهرة، دار البشير، 2011، ص76.

(4) المرجع نفسه، ص78.

(5) محمد هيشور: سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1996م، ص316.

(6) المرجع نفسه ص27.

(7) حسن البنا: مجموعة الرسائل، مرجع سابق, ص149: 150.

(8)حسان عبدالله حسان: الإصلاح المعرفي والتغريب في العالم الإسلامي (1), مجلة المسلم المعاصر, بيروت, العدد 152,يونيو 2014م, ص122 .

(9)المرجع نفسه ص121 .

(10)علي شريعتي: ماذا يجب عمله؟ اتحاد الجمعيات الطلابية الإسلامية في أوروبا, مركز البحوث والمعلومات, 1984, ص2 .

 عصر ما بعد الموحدين : يبدأ عصر ما بعد الموحدين بسقوط الدولة الموحدية بعد هزيمة الناصر لدين الله الموحدي في موقعه خص العقاب في الأندلس في 15 صفر (609 هـ). وقد اعتبرت هذه الموقعة نذيراً بنهاية قوة المسلمين بالمغرب والأندلس على السواء.وقد ازدهرت الفلسفة والعلوم في عهد الدولة الموحدية فكان فيها ابن طفيل وابن رشد وابن باجة والوزير الطبيب ابن زهر.وفي رأي مالك بن نبي أنه بزوال دولة الموحدين في المغرب وانطواء الدولة الأيوبية المعاصرة لها في القرن الثاني عشر انتهت دورة الحضارة الإسلامية، وبدأ عصر الانحطاط رغم ما لمع من بوارق انتصارات المماليك والدولة العثمانية في الشرق والغرب. وبدأت دورة جديدة للحضارة المسيحية الغربية تبعث على أشلاء الأندلس وتأخذ إصرارها على حيث نرى نتائجها في عالمنا الحاضر.

(11)بن نبي, مالك. وجهة العالم الإسلامي، ص108.

(12)حسن البنا: مجموعة الرسائل, ص 65.

(13) مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، 76.

(14) المرجع نفسه، 77.

(15) المرجع نفسه، 77.