تخليد ذكرى المفكر العربي الإسلامي بابكر كرار

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٦:١٥، ١٢ مارس ٢٠١٣ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات) (حمى "تخليد ذكرى المفكر العربي الإسلامي بابكر كرار" ([edit=sysop] (غير محدد) [move=sysop] (غير محدد)))
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تخليد ذكرى المفكر العربي الإسلامي بابكر كرار
بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته
الخرطوم 29 -30/7/2006م
بمبادرة من الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية
الأستاذ:أحمد عبد الرحمن محمد
الدار السودانية للكتب الخرطوم


كلمة الأسرة

الأستاذ الغزالي بابكر كرار
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم ..

السلام عليكم ورحمة لله وبركاته:

الحقيقة أنني ومنذ وفاة الوالد في 6 / 7/1981م وطنت نفسي على عدم الحديث عن الوالد (الله يرحمه) خاصة فيما يتعلق بفكره ونضاله حتى لا أسئ إلى هذا التاريخ الكبير أما إذا تحدثت عنه كولد فسوف أتحدث عنه كما يتحدث أى ابن عن والده ولكن يكفي انه قد علمنا الكثير .

إنني ونيابة عن الأسرة أتقدم بالشكر الجزيل لأسرة مجلس الصداقة الشعبية العالمية وعلى رأسه الأستاذ الفاضل أحمد عبد الرحمن محمد وللسادة جمعية الصداقة الليبية السودانية وأنتهز هذه الفرصة لأحيي الأستاذ عمر خليفة الحامدى أمين مكتب الإخوة العربي الليبي بالخرطوم والسادة:اللجنة القومية لبناء منزل المرحوم بابكر كرار وعلى رأسها والدي لأستاذ الجليل ميرغني النصرى والذي أضعه في مرتبة والدي والأساتذة الأجلاء د. ناصر السيد ومولانا. مصباح الصادق وعمر الفاروق شمينا ود. محمد سعيد الريح

تقديم بقلم:عبد لله محمد أحمد حسن
(وزير ودبلوماسي سابق)

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله الوالي الكريم والصلاة والسلام على التسليم مع سيدنا محمد وآله وصحبه الغر الميامين وبعد،،،

تقديم لما قيل في ذكرى بابك كرار السادسة والعشرين
(توفي في 6 / 7/1981)

يعود فضل المبدرة بذكرى المرحوم بابكر كرار محمد النور بعد مضي 26 عام من وفاته للأخ لأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية والسيد السفير عمر خليفة الحامدى والدكتور ناصر السيد وقد طلب منى السيد الأمين العام أن أكتب هذه المقدمة لعلمه أني كنت من حوارى بابكر منذ عام 1947م كمعجب بحيويته الاجتماعية والرياضية في مدرسة حنتوب الثانوية .

وازداد قربي منه في عام 1949م حين استنهضني مع آخرين للالتفاف حول حركة التحرير الإسلامي التي أنشأها مع آخرين ثم زاملته عاملا في خلايا التجنيد التي حظيت بعنايته المباشرة ... وكان يكاتبني في فترات العطلات الدراسية وتخرجت وعملت مدرسا في خور طقت الثانوية بكردفان وأصدر بابكر جريدة بعنوان الرسالة ثقافية شهرية حملت عصارة فكره واختارني رئيسا لتحريرها دون استشارتي لثقته بقبولي اختياراته لى بكل الرضا بين عامي 19551957م.

وعملت في الصحف الاستقلالية وسكنت معه في حي الدباغة بأم درمان ثم رحلنا إلى الخرطوم اثنين في بيت بالامتداد الجنوبي لشارع القصر ودامت سكنانا وآخرين معا لأكثر من ثلاث سنوات (1957 -1959) ...وهو الذي دفعني للانخراط النيابي في حزب الأمة عام 1957م وزكاني للإمام الصديق (عليه رحمة الله) الذي كان يسعى لاستعادة ولاء أبناء الأنصار الذين انخرطوا في التنظيمات السياسية والعقائدية بسبب ما ألصق بحزب الأمة من سمعة غير وطنية .

هذا بإيجاز هو سجل العلاقة الوطيدة بيني والمرحوم بابكر كرار ... وإن كان بعض المتحدثين في ذكراه أعلنوا أنهم لم يلتقوا به إلا لقاءات عابرة فقد عشت معه وعرفته عن كثب منذ عام 1947 م وحتى وفاته في عام 1981م.

وأنتهز هذه التكليف لأسجل بعض ملاحظتي حول بابكر وذكرياتي من واقع هذه الصحبة الطويلة والحميمة لأن ما يرد فيها لم يكن لتتوفر معرفته للآخرين إتماما لما قيل في ذكراه عن فكره وأنشطته في مجالي الدعوة والشؤون الوطنية العامة .

نشأته وسيرته

ولد بابكر كرار في السابع من فبراير عام 1930 بمدينة ود مدني عاصمة الجزيرة في أسرة تنحدر من أصول عربية كانت في الماضي تستوطن منطقة أوربي بدنقله في الشمال المتاخم للحدود المصرية ...وكان أسلافه يعملون بالزراعة وصناعة المراكب وبالمتاجرة في المحاصيل الزراعية ...وعندما شح الخشب الصالح لنجر المراكب في دنقلة وأشتد الطلب عليها في وسط السودان هاجر الأسلاف إلى ود مدني لتوفر أشجار السنط واتساع الطلب للمراكب ..

واشتد عود الحركة الوطنية السودانية وتمركزت رئاستها الفرعية في مدينة ود مدني في هذا الحي واتخذ كل من حزبي الأمة والأشقاء دارا له وسط بقية الأندية والتف الأنصار حول حزب الأمة والختمية حول الأشقاء واستعرت المنافسات بينهما مما زاد حيوية الحي ..

وكالعادة انحاز كثير من ذوى الأصول النقلاوية والأورباوية على الأخص إلى حزب الأمة ومنهم آل النور وآل النميري وآل نقد الله وآل عبد اللطيف مناصرين لود المهدي في مطالبته بالاستقلال وقد سهم هذا النشاط الجديد في الحي في تغذية الشعور الوطني بين ناشئة الحي وعلى رأسهم بابكر كرار .

وحرص الشيخ كرار النور على تربية أولاده الستة:(محمد ،وأحمد ،ومصطفي وإبراهيم ،وبابكر، وعمر) وبناته الثلاث:(بتول ،وعواطف ،وبت المنى) بالأسلوب التقليدي الموروث ،الصارم القائم على التمسك بأهداب الدين ،وعقيدة المهدية ،وكراهة الاستعمار ،ومظاهره الإجتماعية ،واحترام الكبير ،ومساعدة الضعيف كما كان مرنا معهم في تعاطيهم الأنشطة الرياضية والمشاركة في المساهمات الثقافية ما دام ذلك غير مؤثر على آداب الأسرة وعلاقاتها مع الآخرين في الحي خاصة وفي عامة ود مدني .

ومن ناحية أمه فهي عائشة محمد حلمي المنسى المصري الجنسية وأمها من قبيلة الكواهلة التي يتصل نسبها بالصحابي الجليل الزبير بن العوام .. وكان أخوها الوحيد يوسف مولعا بالموسيقي والأغاني المصرية ومنه تشرب بابكر حب الاستماع لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ومؤخرا عبد الحليم حافظ.

وكان وهو الداعية الإسلامي يملك مكتبة غنية بالتسجيلات الموسيقية والغنائية العربية والأجنبية وتتخلل مجالسه تعليقات لها نكهة من الانتقاد مرة ومن الاستحسان مرة من منطلقات فنية بحتة ... أما حفلات أم كلثوم وعبد الوهاب الشهرية فهي مناسبات يجتمع فيها أصدقاءه من شتى المشارب الفكرية ليشاركوه الاستماع والتعليق .

إلا أنه لم يكن يستمع إلى (هنش الأغاني) وإنما يحرص على الاستمتاع الفني لعيون شعر الغزل والحب والهوى القديم والحديث ولا يرى في ذلك حرجا ما دام لا يؤدى إلى رذيلة وله فيما ذهب إليه الإمام الغزالي من مخارج عن مزالق الاستماع (راجع أحيا علوم الدين).

أما في الجانب الفني السوداني فهو يحتفي بالكلمات أكثر من احتفائه بالموسيقي ..وكان يستعذب فن خليل فر ح الوطني وله علاقة خاصة بإبراهيم الكاشف لكونه بلدياته. أما حسن عطية (أمير العود السوداني) فكان صديقا حميما له يتردد عليه وينديه بإمارة الفن..

وله علاقة إعجاب بأحمد المصطفي لغلبة الوطنية على فنه الغنائي وله صلة خاصة أخرى بالفنان عبد العزيز محمد داؤود.. وكان يحث المغنين والشعراء الغنائيين على تشكيل تنظيم يرعى حقوقهم عند وسائل الإعلام وكان رأيه هذا أحد الدوافع التي حثتني وأنا وزير للثقافة والإعلام (1991م) أن أشكل هيئة حماية الملكية الفنية .

وعف بابكر نفسه بالزواج مبكرا من السيدة سيدة يوسف محمود زواجا سهلا بدون مبالغات مادية أو مظهرية وقد أبلغني وشقيقه عمر وكنا نسكن معه بأنه مسافر لود مدني وسيعود لنا بمفاجأة .. وعاد بالمفاجأة بعد ثلاث أو أربع أيام وكانت سيدة بنت جيرانهم في الحي.

وله من السيدة سيدة ثلاث أولادهم (الغزالي صاحب إحياء علوم الدين وإمام المتصوفين) و(محمد إقبال) شاعر الإسلام الذي كان من أوائل من رفعوا

لواء إنشاء دولة باكستان مأوى سياديا لمسلمي القارة الهندية وناصر القائد العربي الذي رفع لواء القومية العربية وأجج أوار نارها من الخليج إلى المحيط ... هذه الأسماء عينها تكشف مستلهمات أشواق بابكر السياسية والدينية .

وله من البنات لبني وسوسن وسمية ... ومرة أخرى يختار مزيجا من الأسماء التي يطرب لها سامعها لما لها من خلفيات قديمة تتجدد بالذكريات المقرونة بها . فالتدين المفضي إلى الاستشهاد قرن بسمية الصحابية والهوى العفيف الذي سارت به الركبان العرب علق بلبنى وأما السوسنة فمن عبق الطبيعة الفواح وجمالها الأخاذ اللذين يعبران عن جمال لمسة رب المخلوقات .. وذلك هو بابكر في اختيار الأسماء لأبنائه وبناته ولذرية أصدقائه إذا طلب منه ذلك.

تعلم القرآن في الخلوة على يد الشيخ آدم في جامع البوشي وفي نفس الجامع تلقي علوم الدين في حلقات مشايخ المسجد ومن نفس المسجد خرج بمظاهرة معادية للاستعمار كان جزاؤه عليها الحكم بحسن السير والسلوك وهو ما يزال لين العود..

وتلقى تعليمه النظامي الأساسي في مدارس ود مدني وبدأ دراسة المرحلة الثانوية في أم درمان عام 1945م ثم نقل إلى حنتوب عام 1946م وفيها التقيت به زميل دراسة عام 1947م وكان في السنة الثالثة شابا متفتحا يفيض مودة وقدرة على اختراق الحواجز والنفاذ إلى القلوب .

والأكباد يومها المتشككين في كل ما حولنا , المنطوين على تخلف في المسلك والرأي.. كنا نظن أننا سلالة أقوياء سعي إليهم مهدى لله (عليه السلام ) فآووه ونصروه فهزم بهم الترك وغردون ..وكنا نظن أن بلادنا غرب السودان هي معقل الثورات التي لا تهزم ومستودع الثروات التي لا تنضب من إبل وماشية وأغنام وصمغ وعيوش ورياش ...

لذلك لم يكن لآخرون يساوون شيئا بالنسبة لنا وفي حضرتنا .. وكنت بعض الدروس المدرسية تغذي وتقوى هذه المزاعم الخاطئة مما جعلنا نضرب على أنفسنا في مجتمعنا المدرسي سياجا من العزلة كنا نعيش وحدنا في الفصل والداخليات وميادين الرياضة في مجتمعات لم يستطع اختراقها إلا بابكر كرار بحلو معشره وعذب كلامه وعميق نظره وبإعادة تفسيره لنا تاريخ المهدية المشترك بيننا وبينه وبقية السودانيين بصورة أعادت عندنا ترتيب الثوابت المشتركة القومية والدينية ..

وأخرجنا إلى علاقات حميمة مع مجتمعات أبناء الجزيرة وجنوب النيل الأزرق والنيل الأبيض مما أهل جيل زملائنا في حنتوب أن يرثوا جيل عمالقة التحرير الوطني ويحدثوا ما جرى من تطورات في السودان المستقل مع ما حول أدوارهم من اختلاف نظر مادح وفادح .

استطاع بابكر أن ينسج تحفة العلاقة بين أبناء غرب السودان وأبناء ضفاف النيلين الأزرق والأبيض في حنتوب لثقتهم في ملكاته وتفوقه في كل ما يتناوله بالقول أو الفعل.

كان الرئيس الأول لداخلية ود ضيف الله وكان الرياضي المرموق في السباحة وكرة القدم وسبق الضاحية بالإضافة لتميزه الدراسة والسلوك العام .

واجتاز امتحانات شهادة كمبردج في عام 1948م بامتياز والتحق بكلية الآداب لسنة واحدة ثم تحول لدراسة القانون في عام 1949م وأسس مع آخرين حركة التحرير الإسلامي ....ولهذه الميزات سهل عليه أن يقود زملاءه بين الثانوية والكلية الجامعية .

نفس هذه الملكات سهلت عليه إلحاقنا بحركة التحرير الإسلامي إذ زارنا في حنتوب بعيد تأسيس الحركة في يوم خميس واجتمع بنا بعد صلاة العصر في مسجد المدرسة مخاطبا : يا إخوني أيد أن أفضي إليكم بسر ولا تواخذني إن طلبت منكم أخذ قسم مغلظ بأن من لا يتفق معي حول هذا السر أن لا يبوح به لأى أحد كان ...

وأقسمنا على حفظ سره وشرح لنا أنه وعدد محدود من أصدقائه أسسوا حركة تحرير إسلامي سرية لتحرير الإنسان السوداني من فساد الأخلاق والمعاملات وتحرير مجتمع السودان من الاستعمار والتخلف والفقر والعودة به إلى ما كان عليه المجتمع في عهد الراشدين وإلى ما كان يراود خلد مهدى لله (عليه السلام)

وأعطيناه عهدن ن نحفظ السر وأن نساند الحركة ونناصرها في المكره والمنشط ولم يشذ من الأربعين الحاضرين أى فرد واتفقنا أن نضع قيادة أمرنا محليا على كاهل إخوتنا ميرغني النصري وأحمد عبد الحميد ومعاوية عبد العزيز. ومن ثم انطلقت مسيرة الدعوة في حنتوب ... وحدث نفس الشئ في مدرسة وادى سيدنا على يد زميل آخر لبابكر انتدب لها للقيام بنفس المهمة ..

واتسعت دائرة النشاط والتجنيد بوصولنا لكلية الخرطوم الجامعية عام 1951م وما دام الأمر يتعلق بذكرى بابكر أركز على بعض الأحداث التي أدت مشاركته فيها إلى إرساء قواعد في التعامل بين طلبة الكلية وأساتذتها وإدارتها ..

ومن هذه الأحداث أسوق التالي:

الحدث الأول:

كان مدرج محاضرات الآداب الرئيسي في الطابق الأرضي من مبني الجناح القديم ويقع في الناحية الجنوبية الغربة وفوقه المدرج الرئيسي لمحاضرات الحقوق وإلى شرق مدرج الحقوق يوجد مكتب لأساتذة الأدب العربي وأحدهما يدعي الأستاذ محمد عبد العزيز إسحاق وكان هذا الأستاذ يدرس لنا الأدب العربي الحديث وكان كثير التحايل للسخرية من الإسلام والصحابة رضوان الله عليهم باستعراض نصوص من أدب الكفار والمنافقين في الطعن والفخر حول مصداقية الإسلام .
وانقسم الطلاب وكنا ثلاثين طالبا بين معاد لتوجهه الساخر وآخرين غير مبالين وفريق آخر يشجع اتجاهاته .. وتوليت قيادة الفريق المناهض له ويساندني زميلي عبد الرحمن العبيد ومنا نحن معشر المعادين لهذا الأستاذ نجلس في مؤخرة المدرج المرتفعة عن مقدمته مما يجعلنا في موقع مسيطر على المدرج..
وفي صباح يوم قارس البرد دخل الأستاذ وشرع في استعراض نص أدبي عن النبيذ وأثره في درء وقع برد الشتاء عن شاربيه وتحول من ذلك بدون تحفظ إلى أن شتاء يثرب كان قارسا , وأن نبي الإسلام كان ينتبذ .. وكان الرد المباشر منى وعبد الرحمن العبيد أن أمطرناه بم تيسر لنا من الكتب والمراجع التي أمامنا فتساقطت عليه وعلى المتضاحكين الجالسين في الصف الأول..
وخرج جاريا صاعدا لمكتبه في الطابق الأعلي ونحن نطارده.. ودخل المكتب وأغلقه على نفسه بالمفتاح.. ومن شبابيك مدرج الحقوق أطل علينا بابكر كرار متسائلا عما حدث .. وندفع نحو باب المكتب يساعدنا في كسره فلم نفلح ..

وحدث هرج ومرج وتناول بابكر أقرب هاتف إداري وأبلغ أصدقاءه الإسلاميين في المدن الثلاث وفي لمح البصر جاءنا الشيخ على طلب الله مراقب الإخوان المسلمين في السودان والشيخ محمد هاشم الهدية زعيم أنصار السنة والشيخ عوض عمر الإمام إمام جامع أم درمان القديم والأستاذ الصائم محمد إبراهيم والأستاذ محمود محمد طه زعيم الجمهوريين والشيح العجيمي والشيخ حسن طنون الداعية الإسلامي والشيخ عبد الله الغبشاوى الداعية الإسلامي المشهور والأمير عبد الله نقد أمين شؤون الأنصار ... الخ القائمة وفي أقل من ساعة ماجت ساحات الكلية بالغاضبين الهتفين بطرد الساخر الكافر من أرض السودان وإلا سيحرقون الكلية وشرعوا في توفير وجمع المواد الحارقة .

واتخذ مفتش الخرطوم البريطاني وأعوانه موقف المراقب عن بعد حتى لا يتورطوا في ما يفجر عنفا يصعب احتواؤه وظهر بعض الوسطاء من رجال الخدمة العامة المتنفذين مع المستر ولشر الاسترالي ومدير الكلية آنذاك طالبين إمهاله ليجمع مجلس إدارة الكلية .. فأمهله الغاضبون ساعة واحدة وإلا أحرقوها..
وخرج بعد أقل من نصف ساعة ليعلن إن الإدارة اتخذت قرارها بشطب الأستاذ من قائمة التدريس وتسفيره فورا إلى بلاده في أول طائرة مغادرة للخرطوم .. ولم ينفض الغاضبون إلا بعد أن حملته السيارة حوالي الساعة الثالثة قبل العصر وشيعوه رجما ولعنا .. وعاد هذا الأستاذ إلى الخرطوم بعد أكثر من ثلث قرن باحثا عني وعن بابكر كرار ومقدما اعتذاراته عما حدث منه وكنت وقتذاك عضوا في الجمعية التأسيسية الأولي ( جمعية عام 1965م).

الحادث الثاني:

أما الحادث الثاني فقد جرى مع الدكتور هارولد أستاذ الجغرافية وهو بريطاني متغطرس .. خرج في نهار غائظ الحر محمر الوجه ويغطي جسمه عرق وفي يده لفافة من دفتر محاضراته ومرجع جغرافي ووجد بعض الطلبة بالقرب من مدرج الجغرافية يتبادلون الحديث وقد ظن أنهم يتغامزون حول تأثير الحر عليه فقذفهم بما في يده من أوراق ومرجع ...وكان بابكر واحد من هؤلاء الطلبة فتناول المرجع والأوراق وقذفه على ظهره لأنه توقع نوعا من التعدى فأولاهم ظهره.
ورفع الدكتور هارولد الأمر لإدارة الجامعة التي اتخذت قرارا بفصل بابكر كرار من كلية الحقوق لمدة عام وكان في السنة النهائية .. وأن يحرم من السكن الجامعي عندما يعود للدراسة .
وعلق بابكر على قرار فصله بقوله إنه ثمن بخس في سبيل إرساء علاقات سوية بين الطالب السوداني وأستاذه البريطاني الاستعماري ... والتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة الفرع وأكمل فيه سنته النهائية وتخرج بدرجة نجاح عالية .
لقد جعل بابكر من الحادثين السابقين وحوادث أخرى أقل أهمية منهما سوابق فرضت الاحترام من علاقة الجمعة بالطالب وفي تناول الشؤون الإسلامية في كلية الخرطوم وما تطورت إليه من جامعة الخرطوم لعدة عقود بعد هذه الأحداث التي تولي بابكر قيادة تصعيدها في أوانها ..
كان بابكر قارئ نهما بالعربية والانجليزية ومستمعا صبورا ... كان يقرأ في التراث والفقه وعلوم القرآن وعلوم التصوف وعلوم السنة وسير الأوائل دون تمييز بين الأفذاذ من مسلمين وغير مسلمين ... وكان يقرأ في أخبار الحضارات القديمة والحديثة والعلوم الحديثة ..
يقوم بكل هذه للمعرفة والاستنباط وللمقارنة وتوسيع دائرة الخيارات والبدائل .. كنت تجد في رفوف غرفته القرآن وكتب الحديث وأحدث ما صدر عن الإسلام وعلومه وتجد فيها رأس المال لكارل ماركس وكفاحي لهتلر وأحدث ما كتب عن السياسة والاقتصاد والاستراتجيات الدولية .
وكان أول كتاب أهدانيه وأنا طالب في نهائي المرحلة الثانوية كتاب هارولد لاسكي الأديب الفيلسوف في الإشتراكية الفابية (باللغة الانجليزية) ... وكان صديقا لأغلب موزعي الكتب وأصحاب المكتبات في العاصمة يزورهم ويتبادل معهم الأحاديث في ود وحميمية ويوصيهم بحفظ كل ما يقع في أيديهم من كتب يرون أنه لم يحصل عليها منهم ...وعندما يزور القاهرة يدور على أسوار الأزبكية وسيدى الحسين والأزهر لعله يجد لقظات من الكتب القديمة ..
وكنت أمتع ساعاته تلك التي يقضيها مع قارئين مدمنين على الكتاب من أذكياء جيله .. لذلك كان كثيرا ما يدعوني لمرافقته زيارته للأستاذ عوض عبد الرازق الذي أنشق عن الحزب الشيوعي وكان يسكن وحيدا في أحد مساكن إدارة الكلية وحوله أكوام من الكتب والتقارير ..
وكان يقول:لى إن عوض لا يجد وقتا للخروج للمطاعم فيحمل معه سندوتشات وقوارير مشروبات باردة وفعلا كنا نجده جائعا... ويجلس معه بابكر طوال ساعات يناقشه ويناكفه ويختلف معها ويتفق معه ومع ذلك يتبادلان ألطف النكات والعبارات وهما على طرفي نقيض : إسلامي وشيوعي ... وعندما يخرج منه تبدو السعادة على وجه بابكر ويقول لى:إنه رجل متفتح (غير ججامد) يطور النظرية الشيوعية وأنا سعيد أن تجد الشيوعية مثل عبقرية عوض عبد الرازق التي تنبجس منها آراء تجديدية .
وانقسمت حركة التحرير الإسلامي حول التربية وتقوقعت الأغلبية حول مفهوم ضيق لها بحجة أن المرحلة الأولي في الدعوة في مكة كانت لأعداد يتحمل أعباء المرحلة الثانية (رحلة ما بعد الهجرة)

وخرجنا من الحركة بقيادة بابكر ومفهومنا للتربية أوجزه في التالي:

السعي السياسي والنقابي الميداني في مصلحة الناس هو تربية عملية لأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .

زيارة المرضي للمواساة والمساعدة بالدواء والدعاء تربية إنسانية وقربه لرب العباد:مرض عبدى فلان ولم تزره وإن كنت زرته لوجدتني عنده .. هكذا معني ما جاء في نص الحديث القدسي .

وكان إذا شكى له حد شطف الحياة .. يقول له .. سافر للجزيرة أو كردفان أو دافور أو مصر أو السعودية ... فلما راجعناه في هذا قال لنا : أو لم تقرؤوا قوله تعالي (إن الذين توفهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء:97).

وكن إذا التقي من يتوسم فيه القرب لله يقول له ادع لنا الله من مفهوم الآية (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم) (التوبة: 103) والصلاة في مفهومه تعنى الدعاء إلى جانب العبادة المفروضة بأركانها..وكثيرا ما كان يلتقي بالشيخ العجيمي والشيخ محمد الهداية والشيخ عوض عمر الإمام .

وفي ختام اللقاء يقول للواحد مهم: ادع لنا الله يا مولانا ... بالهداية والاستقامة وأن نلقاه على ما هدنا إليه .. واتسعت المعاني الإنسانية عند بابكر لتشمل خصومه في الرأي والفكر وأذكر في هذا الصدد إنه كان يتفقد مواسيا ومساعدا مناضلين في الحزب الشيوعي أفنوا شبابهم وأفرغوا طاقاتهم في النضال من أجل الشيوعية وعندما طرأت عليهم عوارض صحية تخلوا عنهم أمثال الأستاذين عبد الرحمن الوسيلة والجنيد على عمر .

وكنا نراجعه في مثل هذه الحالات خاصة بعد انقسام الحركة الإسلامية وإعلاننا موقفا اشتراكيا أدى إلى خروج إحدى الصحف بما نشيت رئيسي جاء فيه :شيوعان إسلام ..

وكان يرد على مراجعتنا له بأنهم شرفاء في خدمتهم لبلادهم وإن اختلفت مرجعيتنا مع مرجعيتهم ...وبنفس المستوى كان يواظب على تفقد أخوة لنا سقطوا في الصف لضعف اعتراهم وأخذ بأيديهم وأعادهم مرة أخرى للمسيرة .

وكن يأخذني معه لزيارة الأخ المرحوم الرشيد الطاهر في حجزه المنزلي بالخرطوم بحرى بسبب تورطه في انقلاب عسكرى على نظام عبود رغم أن الأخ الرشيد كان الأقوى والأعنف في قيادة الحملة على بابكر ومن خرجوا معه من حركة التحرير الإسلامي ... كنا نجلس معه الساعات الطوال لتداول وجهات النظر السياسية والدعوية بدون حساسيات انقسام ..كذلك كانت التربية عند بابكر .. نضال وإنسانية وحوار مع من تختلف معه بحثا عن المشترك بينكما ..

وأدت كثرة إطلاعه إلى تنوع آرائه وتعدد الحلول عنده وعدم وقوفه عند رأى واحد في الشؤون العامة وفي بحثه عن التنوع والبدائل كان كثير التنقل بين المفكرين القدماء المحدثين تعينه في ذلك ذاكرة قوية تحفظ كل تصنيفات القضايا وما أطلع عليه من حلولها عند الآخرين..

وهو بهذا يأخذ بنظرية أنه قد تتباين وجهات نظرك مع الآخرين في القضية الواحدة ولا يعني أن الحقيقة أو الحل الصحيح مع واحد والباقون على غير الصواب بل عنده أن هناك صواب وأصوب درجة منه وأقرب إلى الصواب ومخرج فيه بعض الصواب متداخل مع مشتبه في صوبه وقد يكون كل من المختلفين في اجتهاداتهم مصيب فيما ذهب إليه وقد تكون المقومات المؤهلة للحكم متوفرة عند البعض وغير كاملة عند البعض ...

وفي هذا له حجة فيما ذهب إليه أئمة المذاهب الإسلامية من تعدد وتباين الاستخلاصات بين المذاهب وفي المذهب الواحد أحيانا ..والنظرة الظاهرية المحدودة .. تقول:إنها خلافات ونظرة بابكر لها أنها هي سبب خلود [[الإسلامي] إلى قيام الساعة إلا إذا تسلل المغرضون لثناياها بحثا عن أكثرها ما كان يستشهد بالمأثور الجاري: نصف رأيك عند أخيك.

روى بعض الإخوة إنه من مآثره في هذا الصدد أن واحدا ناكفه في قضية دون أن يقتنع بوجهه نظر بابكر فيها وغاب عنه ثم التقي به وأخبره قائلا : يا بابكر قد اقتنعت برأيك في ذاك الأمر .. ورد عليه بابكر ببساطة:ولكني غيرت رأيي ذاك إلى ما هو أصوب منه .

هذا هو بابكر يجدد فكره واستخلاصاته وينوع بدائله وخياراته في حل القضايا كل يوم وآخر إلا حالة يقف عندها بالضرورة هي علوم الغيب والأوامر التعبدية التي وردت في القرآن أو أخبر بها الرسول صلي الله عليه وسلم عن رب العباد ليعلمها أو يعمل بها البشر إلى يوم المعاد .

واكتسب بابكر قدرة فريدة على التوازن والوسطية في قوله وعمله ..وفي ظني أنها نتاج البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها .. كذلك اكتسب قدرة فريدة في اختراق الحواجز مع الآخرين لأثر هذه البيئة في تربيته وفكره وسلوكه.

اكتسب هذه المقدرات في توازن ووسطية واختراق الحواجز وتكيف سريع مع الحال التي يجد نفسه فيها مثل مواقفه السريعة في حادثني أستاذي الجامعة اللذين رويناهما سابقا بسبب العوامل التالية:

  1. كونه من أسرة عربية هاجرت إلى بلاد النوبة ( دنقلا) وفرضت عليها ظروف الحياة أن توازن بين ما كانت عليه وما آل إليه حالها ثم هاجرت من دنقلا إلى الجزيرة حيث وجدت نفسها في جيرة عربية أخرى هم المغاربة القادمون من الأندلس بعد اضطهد النصارى الفرنجة لهم بعد توهانفي الشمال الإفريقي دون أن يجدوا ملاذا مريحا فاندفعوا إلى قلب أفريقيا هذه الظروف فرضت على طرفيها ضرورة المرونة والتوازن والوسطية والاستعداد للدخول على الآخرين وموجبات ذلك من لغة مختارة وسلوك مرن واستعداد لقبول الآخرين بما هم عليه .
  2. كونه من أب عربي تسودن عبر القرون وأم من جذور مصرية قريبة العهد بالتراث العربي المصري فرض ظروف توازن داخل الأسرة أقل مظاهرها هذا الميول الفني عنده يطرب للفن المصري مثلما يطرب للفن السوداني (بتوازن) فهو يعيش في صداقة على بعد مع عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وفي نفس الوقت يلتقي بحسن عطية وأحمد المصطفي وإبراهيم الكاشف ومن في طبقتهم من الفنانين.
  3. كونه تربي في حي في ود مدني فيه يؤذن المؤذنون وتقرع أجراس الكنائس ويعيش السودانيون والأوربيون والآسيون جنبا إلى جنب دون اعتبار لفوارق لونية أو دينية أو ثقافية مما أسقط عند بابكر كل الحواجز ..

بالإضافة إلى ذلك فإن مدني عاصمة الجزيرة حيث نشأ وترعرع كانت تعج بالوافدين من كل أنحاء السودان طلبا للعمل في مشروع الجزيرة الزراعي أكبر مشروع من نوعه في أفريقيا كما تعج بكبار الإداريين والفنيين والخبراء البريطانيين والمتعلمين السودانيين وقد أدت ظروف عملهم لإسقاط الحواجز بينهم مما جعل لهذه البيئة طعما خاصا ألقي بثقله على فكر وسلوك بابكر ..

لذلك سهل عليه أن يخترق حواجز المجتمعات الإقليمية الضيقة في حنتوب الثانوية وكلية الخرطوم الجامعية ومضى إلى أبعد من هذا بإسقاط الحواجز بينه وبين عمالقة حركة التحرير الوطني فهو صديق لكل أطيافهم .. يدخل عليهم ويناقشهم ويتوسط بينهم ..

زرت معه مرارا وتكرارا السادة إسماعيل الأزهري وعلى عبد الرحمن ومحمد نور الدين ويحي الفضلي ومحمود الفضلي وشيخ المرضي وآخرين من قادة الاتحادين , وزرت معه في الطرف الاستقلالي السادة الصديق المهدى وعبد الله بك خليل وأمين التوم وعبد الرحمن عابدون ومحمد صالح الشنقيطي ومحمد الخليفة شريف ..

وزرت معه وتعرفت بسببه على كثير من قادة الخدمة المدنية ممن لا يتسع المجال لذكر أسمائهم وكان يقول لى إ زيارة هؤلاء ضرورية للتأثير عليهم لأنهم هم الخبراء والمستشارون الذين يصنعون السياسات العملية لسياسي كل المعسكرت والتأثير عليهم هو نصف الطريق للتأثير على سياسات البلد العامة .

كما كان له صداقات وزملاء ومعجبين به وسط العسكريين وقادة الشرطة: إما زملاء دراسة أو زملاء مهنة لأخيه أحمد كرار قمندان الخرطوم .

كونه عاش في أسرة من ستة أشقاء ذكور وثلاث شقيقات إناث تربوا تربية سودانية مصرية (مزدوجة) ثبت عنده ضرورة إرساء معاني التعامل الرفيع بين الذكران والإناث وأشهد أن بابكر هو أول من راجع موروثنا (رواد حركة التحرير الإسلامي الأوائل) في العلاقة والنظرة المتخلفة للمرأة لقد دفعنا للاتصال مع زميلاتنا في الدراسة بالكلية على قلتهن ودعوتهن للمشاركة في العمل السياسي العام وفي الحركة الإسلامية ..

وكان يلتقي بالعنصر النسائي في الكلية وعلى هامش التنظيمات السياسية على قدم المساواة مع العنصر الرجال .. وقد حضرت مناسبات عدة فيها شاركت عناصر نسائية من الرائدات في أنشطة عامة بدعوة شخصية من بابكر .. ولا أريد أتطرق لأسماء بعينها بعضها ذهب لرحمة مولاه وبعضها لا يزال حيا وآمل أن تطلع على هذا الذي أدعيه إحداهن فتشهد إحداهن بصحة ما أدعيته .

الخلاصة:

كانت هذه العوامل التي سقتها عالية (وغيرها) هي المؤثرات الاجتماعية والنفسية التي جعلت بابكر شخصية قيادية (كارزمية) تتميز بالوسطية والتوازن والقدرة على إسقاط الحواجز والمرونة في الطرح والمقدرة على استضافة الرأي الآخر وقد مكنه كل ذلك من المسهمة في تأسيس حركة التحرير الإسلامي وعندما ضاقت مواعينها بالانحصار في التربية وحدها خرج لتأسيس الجماعة الإسلامية ثم عدلها إلى الحزب الاشتراكي الإسلامي .
وعندما دخلت البلاد في سلسلة الانقلابات انقلاب نوفمبر 1959 م بقيادة الجنرال إبراهيم عبود توسط بين الانقلابيين والإمام الصديق ثم جاء انقلاب مايو 1959 بقيادة جعفر نميري (زميله في الدراسة الثانوية) فترك البلاد إلى مصر وليبيا ليساهم في العمل العربي التحرير كواجب إسلامي (إذ ذل العرب ... ذل الإسلام) ذلكم بابكر كرار الذي عرفته وصادقته وهو الذي أثر في مسيرة حياتي إلى ما أنا عليه اليوم..

أسأل الله له ولنا الرحمة والمغفرة والتجاوز عن الأخطاء وقبول الصواب في عمله وأعمالنا إنه رب غفور شكور .

تقديم

بقلم:محمد يوسف محمد (المحامي)

هناك صعوبة في كتابة مقدمة لهذا الكتاب حيث أن كل محتويات الكتاب تتحدث عن شخصية المرحوم بابكر كرار ولعله من السهل على أن أكتب عن شخصية بابكر حيث أنني أكثر الناس صلة به فقد بدأت صلتنا منذ مرحلة المدرسة الوسطي بمدينة مدني وحتى مرحلة الجامعة .

في مرحلة المدرسة الوسطى كنا مجموعة تتكون من:بابكر كرار ،والمرحوم الدكتور عوض محمد أحمد ،والمرحوم حكيم محمد بخيت وشخصي وكنا لا نفترق طيلة اليوم وقد كان منزله مكان لقائنا اليومي . وتعرفنا على أسرته وإخوانه ووالدته وإخواته وقد كانت هويتنا المشتركة القراءة ونتداول الكتب بيننا..

لقد كان للأخ بابكر هوايات مختلفة فقد كن يحب السينما ويعرف كل الممثلين والفنانين المصريين ويحفظ أغانيهم كمحمد عبد الوهاب محمد وفريد الأطرش وأم كلثوم وكان يحب الرياضة لاعب كره ممتاز.

هناك شخصية كان لها الأثر في حيتنا معا وهو الأستاذ المرحوم الدكتور الصائم محمد إبراهيم الذي كان أستاذنا في مرحلة المدرسة الوسطى بمدني ولكن رغم ذلك نمت علاقة شخصية بيننا وبين الدكتور الصائم وكان يحدثنا كثيرا عن القضايا الوطنية واستقال الأستاذ الصائم من وزارة التربية وذهب إلى مصر لمواصلة دراساته في جامعة القاهرة كلية القانون .

لقد زارنا الأستاذ الصائم في حنتوب ونحن في السنة النهائية وخرج معنا في رحلة في غابة حنتوب بابكر كرار وشخصي وحدثنا عن أوضاع الطلبة في مصر وأن اتحاد الطلبة السودانيين يسيطر عليه الشيوعيون وحدثنا عن رابطة الطلاب السودانيين وهي تجمع كل الطلاب غير الشيوعيين وطلب منا أن نكون فرعا لهذه الرابطة في السودان فطلبنا منه أن يمدنا بنظام هذه المنظمة وأهدافها.

وطلب منا أن نكتب للطالب آنذاك وزميله في الدراسة السيد عباس موسي من أبناء أم درمان والسيد عباس موسى كان سفيرنا بالعراق وهو دبلوماسي وقانوني فأرسلت له خطابا طلب منه معلومات عن منظمة رابطة الطلاب ونظامها وأهدافها .

لقد وصلتنا رسالة من السيد عباس موسى تحو نظام وأهداف الرابطة وجلسنا معا واطلعنا على ما جاء في رسالة عباس موسى وقد قررنا صرف النظر عن هذا الموضوع كانت هذه المبادرة من أستاذنا الصائم لها أثرها في مسيرة حياتنا عندما التحقنا بجامعة الخرطوم .

هناك موضوع لابد من الإشارة إليه فقد ذكر بعض الإخوان الذين تحدثوا عن الأخ بابكر كرار أنه التحق بالحزب الشيوعي ولهذا الموضوع قصة ففي آخر آيامنا بحنتوب شعرنا بأن هناك نشاط شيوعي بدأ في صفوف الطلاب وبابكر له صلات واسعة ومن بينها صلته بأحد الطلاب الشيوعيين يدرس القنون بجمعة القاهرة وهو المرحوم سعد أمير طه وهو تحدث مع الأخ بابكر لينضم للحزب الشيوعي وتشاورنا معا في هذا الموضوع وقررنا الاستجابة لهذه الدعوة وقد كان الدافع وراء هذا القرار أن نعرف ما وراء الأكمة أى ما هي هذه الشيوعية ؟

التحقنا بخلية شيوعيو برئاسة الشيوعي عبد القيوم محمد سعد وفي جلسات متعددة استمعنا إلى محاضرات عن البيان الذي يشرح معني الشيوعية وأهدافها ومحاضرة عن النظرية المادية والجدلية وحديثا عن الدين باعتباره أفيون الشعوب وكفاح الطبقات وغيرها من النظريات الماركسية وأخيرا تأكد لنا أن هذه أفكار لا تتناسب مع عقيدتنا وهي دعوة الحادية فانصرفنا عنها بعد سماع تلك المحاضرات التي ذكرتها وبالتالي كان انضمامنا للحزب الشيوعي دافعة حب استطلاع وليس قناعة .

عندما التحقنا بجامعة الخرطوم وجدنا أمرا عجبا فاتحاد الطلبة يسيطر عليه الشيوعيون والنشاط الثقافي والرياضي يسيطر عليه الشيوعيون وميادين الجامعة تحتسي فيها الخمور علنا من شري وبيرة ولا يرتفع صوت إلا وقوبل بالهجوم وبدأت مجموعتنا ونحن قلة تعترض على ما يدور في اجتماعات الاتحاد والندوات وكان الأخ بابكر أكثرنا جدالا ومعارضة لما يدور في هذه الندوات وعلى سيطرة الفكر الشيوعي في الجامعة دعني أذكر لك حادثة تؤيد ما ذكرته

إنني عندما وصلت الجامعة وجدت نفسي في عنبر الداخلية مع مجموعة من طلبة حنتوب ومن بينهم شيوعي من أبناء سنار فقمت لأداء الصلاة وبعد انتهاء صلاتي قالي لى هذا الطالب:(انتظر إن شاء الله بعد شهرين تترك الصلاة) كانت مجموعتنا ظاهرة شاذة في مجتمع الجامعة آنذاك .

وكما ذكرت فإن الأخ بابكر كان صاحب مبادرات في الجو السائد في الجامعة وكثيرا ما جلسنا نتفاكر عن هذه الأوضاع في الجامعة هناك نقطة هامة وهي عمق صلتي بالأخ بابكر ولمدة طويلة جعلت بيننا توافق فكري لحد كبير إذ قل أن نختلف في أمر من الأمور وعلى أثر اجتماع صخب لاتحاد الطلبة في موضوع إضراب دعا له الاتحاد كان أى شخص يعارض الإضراب يتهم بأنه يعبر عن رأي الاستعمار ويأمره رئيس الجلسة بالجلوس قبل أن ينهي حديثه.

بعد نهاية الاجتماع جلسنا معا نتحدث عن ما جري في الاجتماع فقال لى الأخ بابكر: لماذا لا نرجع للموضوع الذي حدثنا عنه الأستاذ الصائم في حنتوب فوافقته على ذلك وناقشنا الموضوع وتركز النقاش على تحديد الأهداف لهذا التنظيم بحيث يلبي تطلعات الطلبة في ذلك الوقت؛

وكان الهدف الأول محاربة لاستعمار آنذاك ثم الوضع الاقتصادي بما ينافس الفكر الشيوعي السائد في الجامعة من كل ذلك خرج التنظيم تحت اسم حركة التحرير الإسلامي هذه المبادرة من الأخ بابكر كرار كانت بداية الحركة الإسلامية في الجامعة والتي كان لها الأثر الكبير في خلق جيل حمل راية الإسلام وضد الفكر الماركسي الذي كان سائدا آنذاك وظل كذلك حتى وصل إلى السلطة في السودان .

هناك سؤال هام... لماذا فارق الأخ بابكر كرار الجماعة التي كان من أول المؤسسين لها؟عندما شعر الشيوعيون أن هناك تحركا جديدا وسط الطلاب سارع الشيوعيون بشن حملة إعلامية ضد هذا التنظيم ونشروا في جرائد الحائط في الجامعة مقالات مطويلة تحذر الطلبة من هذا التحرك الجديد.

وأطلقوا عليه (حركة الإخوان المسلمين) وكانت آنذاك حركة الإخوان في مصر تعاني من هجمة شرسة وقد حلت الجماعة وقتل مرشدها الإمام حسن البنا ووصفت بالتخلف والإرهاب فكان من الصعب على الفرد منا أن ينسب للإخوان المسلمين رغم نفينا لأى علاقة بالإخوان ورغم أن البيان الخاص بإنشاء التنظيم يوضح عدم العلاقة بأى تنظيم خارجي .

ظل الشيوعيون ينشرون فقرت من كتاب أصدره حزب الوفد المصري تحت عنوان الإخوان في الميزان والكتاب ملئ بالإساءة للإخوان ووصفهم بكل الصفات للتنظيم لا يهتمون بالاسم أهو حركة التحرير الإسلامي أو الإخوان المسلمون وظل اسم الإخوان هو الاسم السائد على المجموعة في عام 1954م عقد اجتماع في در الثقافة بأم درمان لمناقشة موضوع الاسم

وكان هناك من يقول:

إن الاسم الشائع الآن هو الإخوان المسلمون كما أن حركة الإخوان في مصر هي الحركة الرائدة للبعث الإسلامي الجديد وأنها انتشرت بنفس الاسم في أغلب الدول ولذلك الأفضل أن نسمي أنفسنا الإخوان المسلمون بدل الاسم الأول وهو التحرير الإسلامي .

وبعد نقاش طويل كان رأى الأغلبية قبول الاسم الإخوان المسلمون وكان الأخ بابكر معارضا لهذا الرأي .وفي اليوم التالي لهذا الاجتماع خطرني الأخ بابكر بعدم موافقته على ذلك وقررت ترك المجموعة وخرج معه بعض الإخوان وعلى رأسهم الأستاذ ميرغني النصري وعبد الله محمد أحمد وأحمد عبد الحميد وعبد الله زكريا وآخرون..

وأنشئوا حركة الجماعة الإسلامية وتفسيري لموقف لأخ بابكر يرجع إلى أن بابكر من أسرة أنصارية وأنه ذو ميول استقلالية وبالتالي لا يرغب في أن تكون ذات صلة بالحركة المصرية وإذا كان أخيرا أصبح الأخ بابكر من أكثر المتحمسين للعلاقة السياسية مع مصر.

رحم الله الأخ بابكر لقد كان شخصية فريدة وذا مبادرات عديدة

كلمة اللجنة القومية

الأستاذ حمد عبد الرحمن محمد

رئيس اللجنة القومية للاحتفال

قال تعالي:(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب:23)

أيها الإخوة الأعزاء ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسعدني أن أرحب بكم باسم اللجنة القومية لتخليد ذكرى المرحوم الأستاذ الكبير بابكر كرار وباسم مجلس الصداقة الشعبية وباسم جمعية الإخوة السودانية الليبية أرحب بكم في دار كم لنحتفي بذكرى مرور أربعة وعشرين عاما على رحيل الأستاذ بابكر كرار صاحب الرؤية والنظر الثاقب والنهج التربوي والثقافي والسياسي المتميز والمتفرد وصاحب التوجه الوطني الغيور والنزعة العربية القومية والاهتمام الأفريقي والإسلامي العالمي النشط .

والمخضرمون من أمثالنا الحضور في هذه المناسبة ممن عاصروا الحياة العامة من خلال تطوراتها المتواصلة وخاصة في المدارس الثانوية وفي كلية غردون التذكارية وكلية الخرطوم الجامعية ثم جامعة الخرطوم يدركون المفارقة العظيمة قبل وبعد أن صدع الأستاذ بابكر كرار النور ورفاق دربه من الرواد الأوائل للحركة الإسلامية بدعوتهم ونذكر منهم على سبيل المثال الأستاذ المحامي محمد يوسف محمد والأستاذ المحامي الرشيد الطاهر بكر والأستاذ يوسف حسن سعيد والأستاذ المحامي ميرغني النصري والأستاذ محمد الخير عبد القادر والأستاذ أحمد محمد بابكر الكندو والأستاذ الطيب صالح ومولانا الأستاذ أحمد محمد على وآخرين .

ولا يفوتنا أن نذكر المرحوم الدكتور الصائم محمد إبراهيم (والذي ظل توجيهه وعطاؤه المادي والفكري موصولا لهذه المجموعة) فقد دفعت هذه الكوكبة بالخيار الإسلامي في الوسط الشبابي السوداني في المدارس الثانوية والجامعة وكان الأستاذ بابكر كرار والذي جباه الله ببسطه العقل والجسم الدينمو المحرك والقوة الموجهة في تلك الظروف الصعبة الملغمة فقد كان بابكر شامخا في قامته جريئا في بسط الدعوة واسع الثقافة قوى الحجة مهاب الشخصية .

طرح الأستاذ بابكر ورفاق دربه الخيار الإسلامي في السودان في وقت كانت الحركة الوطنية السودانية حركة ليبرالية علمانية تتطلع إلى النموذج البريطاني أو حزب المؤتمر الهندي أو نموذج حزب الوفد المصري وكانت لحركة الماركسية قد سبقت في الجامعة وفي بعض المدارس الثانوية والصناعية تتطلع وتبشر بالنموذج السوفيتي وكان النظر إلى الإسلام والمتمسكين بشعائره من الطلاب على مستوى المدارس الثانوية والجامعة محل شك وازدراء واستهداف وبدأ الوضع في التغير عند انبعاث الطلائع المؤمنة الغيورة على دينها المعتزة بقيمها وتراثها بقيادة المرحوم بابكر كرار وصحبه .

وبمرور الأيام قويت شوكة الحركة الإسلامية في جامعة الخرطوم خاصة والمدارس الثانوية بصورة عامة واشتد ساعد الحركة الإسلامية فخرجت إلى دائرة الضوء من نصر إلى نصر في كل الأوساط الطلابية ومما يجدر ذكره وجود حركة إسلامية أخرى متزامنة مع الحركة الطلابية الإسلامية هي حركة الإخوان المسلمين والتي كان يقودها الأستاذ المرحوم المجاهد المرشد على طالب الله وكانت امتدادا لحركة الإخوان المسلمين في مصر .

الأستاذ الراحل بابكر كرار وصحبه كان لهم الفضل في الذود عن حياض الدين والقيم في وجه جمهرة المستهزئين والمتربصين والمحرضين من العناصر الوطنية العدوانية والبريطانية النافذة في الجامعة في ذلك الوقت كان الأستاذ كرار كثير التصدي لهذه الحملات فهو يتميز بقوة الحجة والمنطق وجرئ لا يخشى في الحق لومة لائم .

لقد تعلمنا الكثير من الأستاذ الراحل بابكر كرار فقد أعجبنا بالتزامه وكان يحرص على دراسة القرآن والوقوف والتمعن في آياته واهتمامه بدراسة السنة والسيرة النبوية بمنهج علمي يسعى لاستنباط الدروس والعبر والعظات والأستاذ بابكر كان كثير الاهتمام كذلك بسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين فقد تأثر كثيرا بمآثرهم ومجاهداتهم وكان بابكر من المعجبين بالإمام وكتابه إحياء علوم الدين وقد سمي ابنه الأكبر باسم الغزالي تيمنا به.

وكان الأستاذ بابكر كرار محدثا بارعا وخطيبا مفوها يستطيع أن يجذب من حوله بخطابه الرصين وحجته القوية وقد كان مفكرا بارزا مقنعا لمن يستمع له من الإخوة كبارهم وصغارهم وكان يحض على أهمية العمل الجاد لتغيير المجتمع ويحرص على الاستعداد للتضحية والبذل والفداء والبحث عن الأساليب والآليات والمفاهيم الجديدة التي تستوعب كل المستجدات .

كان حريصا على البدء بتغيير النفوس وشحذ الهمم وانتزاع قيادة المجتمع بدءا بالأسرة والنقابة وكل منظمات المجتمع المدني والأستاذ بابكر كان وظل حتى غادر هذه الحياة الفانية يؤمن بالنهج السلمي في التغيير وشجب بشدة كل صور العنف ويؤكد بأنه لا تؤمن عواقبه ولا يؤدى إلى إصلاح وله موقف جرئ ومشهود في إدانة حركة يوليو 76 رغم انطلاقها من الأراضي الليبية بقيادة الجبهة الوطنية .

الأستاذ بابكر كرار كان قارئا نهما متفتح الذهن على كل التيارات المحلية والعربية والعالمية وكان يقرأ للعقاد وطه حسين ومشاهير الكتاب العرب وغير العرب وذكر أنه كان يشجعنا كثيرا ويحثنا على قراءة أدبيات الحركة الإشتراكية الغربية وروائع القصص التي تصدر بالإنجليزية وكان حريص الاطلاع على الصحف والمجلات المتخصصة العربية والأجنبية .

لقد خرج الأستاذ بابكر كرار من الحركة الإسلامية السودانية التي كان له القدح المعلى في تأسيسها لاعتبارات ليس هذا مجال سردها وأسس حزبا جديدا أسماه الجماعة الإسلامية وذلك في أواخر الخمسينات .

تنتقل الأستاذ بابكر كرار في بلاد عربية حين كره الحياة في السودان في فترة مايو شأنه شأن الكثيرين من القادة والمفكرين وتوجه إلى القاهرة وكان مقر إقامته قبلة للطلاب والمفكرين من كل البلاد العربية من المشاهير من أصحاب الثقافة والسياسة .

وكان له إسهام كبير في مسيرة وحركة التضامن الآسيوي الأفريقي وله ارتباط قوى بمؤسسيها وقياداتها وكانت للأستاذ بابكر كرار رؤية بالنسبة لحركة الإخوان المسلمين بمصر يشاركه فيها كثيرون في السودان فهو ممن يرون أن الحركة الإسلامية في مصر لها مجاهداتها ومنطلقاتها الفكرية الدعوية المرتبطة بموقع انطلاقها ولها تأثيرات وبصمات على كثير من الحركات خارج مصر بحكم ثقل الموقع إلا أنه يرى أن الحركة الإسلامية في السودان لها خصوصيتها وبنيتها ومنهجيتها .

لقد كان الأستاذ بابكر ملتزما وطنيا وقوميا ومتجاوبا مع الفكر التحررى العالمي وكان منفتحا على الحركة الإسلامية في باكستان والهند وحركة التحرير الوطني الجزائري وحركة التحرير الفلسطيني وحركات التحرير في أفريقيا وفي العالم أجمع والثورة الليبية التي كانت في عنفوانها وقد كان لبابكر ورفاقه خاصة الأستاذ عبد الله زكريا والأستاذ ناصر السيد ورفاقهم دورا بارزا وإسهاما وافرا فقد كان الأستاذ الراحل بابكر المعلم والموجه وقدم إسهامات فكرية وتنظيمية بينة .

لقد كانت مدينة ود مدني منبع الفكر والثقافة في تاريخنا الوطني المعاصر فقد أنتجت فكرة مؤتمر الخريجين واحتضنته وخرجت مدرسة حنتوب الحركة الإسلامية لحديثة بقيادة بابكر كرار ورفاقه وأنشئت بها أول مكتبة للحركة الإسلامية بإدارة لأستاذ موسى أبو زيد (مكتبة الفكر الإسلامي الجديد)

ولا يفوتن ونحن نحتفي بذكرى الراحل بابكر كرار أن نحيى حركة المقاومة في لبنان ونشيد بالمجاهدات والملاحم الدائرة في وطننا العربي بقيادة الشيخ حسن نصر الله وحماس وكل فصائل المقاومة على مستوى الساحة العربية والإسلامية ألا رحمن الراحل بابكر كرار وأدخله فسيح جناته وجعل البركة في ذريته .

كلمة الإمام الصادق المهدي في تأبين الأستاذ بابكر كرار

في الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله
(29 يونيو 2006م)

الحمد لله والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أخوني وأخواتي أبنائي وبناتي مع حفظ الألقاب لكم جميعا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من أهم التحديات التي تواجهنا اليوم ثقافيا وفكريا قوى الهيمنة الدولية لسلخ جلدة منطقتنا وإلباسها جلدا آخر على مزجها سموه الشرق الأوسط الجديد. التيارات المناوئة للهيمنة لدولية من بيئة المنطقة الثقافية ثلاثة:التيار الإسلامية والتيار العروبي والتيار الافريقاني التيار المناوئ لها من داخل الحداثة هو التيار الإسلامي .

أهم مفتاح لشخصية الراحل الحبيب بابكر كرار هو التأصيل والكرامة المرتبطة به ومهما تنوعت التعابير الفكرية إسلامي وعربيا واشتراكي فقد انطلقت من بوصلة وجدانية واحدة ما وقر في قلب الراحل الأخ بابكر كرار هو التأصيل المنطلق من تلك المرجعيات .

وأنا سوف أذكر رؤيتي لشخصيته وتجربتي معه في النقاط الآتية:

أولا: في باكورة وعيه السياسي أحس بأن الحركة الشيوعية تريد أن تفرض استلابا ماديا غريبا على بيئة إسلامية فاندفع هو وزملاؤه في حركة التحرير الإسلامي وفي مرحلة لاحقة عندما تصدى التيار العربي للهيمنة الدولية فصار المدفع عن هوية المنطقة في وجهها انخرط فيه الأخ بابكر .
التيار العروبي الحديث تطلع لإيجاد بديل للتنمية الرأسمالية ودفعت به مساجلات الحرب الباردة وضرورات التسليح للتحالف مع المعسكر الشرقي وهي نفسها الأسباب التي جعلته يقول بالإشتراكية .
ثانيا: في كل مراحل المقولات الفكرية التي تقلدها الراحل اتسم نهجه باللانمطية وبالشجاعة الأدبية في التعبير عن رؤيته علقت له ذات يوم في طرابلس على التنقل من مقولة إلى مقولة فقال لى:أنت تسحبني سياسيا أنا فنان ومنذ قالها تأملت لأمر لأجد أن كل تعاط مع الفكر كان بصورة خلاقة يكتسب صورة الإبداع الفني إنه معني أجاد في وصفة التجاني يوسف بشير .
قم لمحاك بين صحوان ندى
وبين سهوان ساكر

ينفخ الله في مشاعرك اليقظي

وجودا فخم التصاوير فاخر

ويفجر لك الغيوب

وينشر بين عينيك عالما من ذخائر

فتخير وصف وصور رؤى

وصغ الوجود المغاير

ثالثا: لم نتفق أنا وهو أبدا بصورة كاملة في القضايا الفكرية والسياسية التي مرت بالسودان ولكن ذلك لم يمنع التعاون بيننا في مراحل مختلفة فلا أنسي انفعاله بزيارتي لطرابلس عام 1974م لأنه كان يرى فيها تحالفا مثمرا في التصدي للهيمنة الدولية وعبر عن حماسته؛
فقال لى ذلك وأقدم على لقائي وقبلني معتزا بالموقف يؤمئذ قلت عنه مقولة كررتها إن بابكر هو غير الأنصاري المعجب بالأنصار أكثر من إعجابهم بأنفسهم وهي ظاهرة وجدتها في كثير من أهل السودان لعلهم يجدون في الأنصارية تعبيرا مركزا عن الأصالة والكرامة كما ورد على ليسان أحدهم الشاعر الفحل البليغ عبد القادر كرف في رثائه للإمام عبد الرحمن وهو من غير الأنصار .
حملوا لواء أبيك وهو مؤزر
بالنصر متشح به ومنطق

للدين للوطن العزيز صدورهم

وفيهم غضبة وترفق

خفوا بنعشك مسرعين كأنما

فصموا عرى التاريخ ثم تفرقوا

رابعا: لم يكن بابكر استقلاليا بالمعني النمطي ولكن في عام 1953م احتدم الجدل بين الطلاب الإسلاميين لتحديد موقفهم من تقرير المصير وقد كنت معهم مجادلا حول هذه القضية ورتبت لجماعة قيادية منهم لقاء مع الإمام عبد الرحمن وكان على رأسهم الأخ الراحل بابكر كرار والرشيد وآخرين وكان اللقاء مكاشفة أبدى فيه الإمام إعجابا بشباب مثقف ومتحمس للإسلام وناشدهم أن يفكروا في استقلال السودان لا من زاوية العداء لمصر فهو يقر بحقيقة الروابط المشتركة بين البلدين

ولكنه قال:

المصريون والإنجليز يتنازعون السيادة علينا وكأننا بلا إرادة وهذا لا يليق بكرامتنا وعلينا أن نقول لهم إن السيادة لنا نحن أهل السودان ومن منطلق الشعب السيد يمكن أن نقيم علاقتنا مع مصر إلى أقصي درجة نختارها أما أن نسلم لأحدهما بالسيادة علينا بحق الفتح كما يقولون فلا فكان ذلك اللقاء مثمرا واستمر الجدل داخل الطلاب الإسلاميين حول الاستقلال فاختارت الجماعة الإسلامية التي أسسها الأخ بابكر أن تؤيد الاستقلال واختار الإسلاميون الآخرون رؤية أخرى إلى أن وقعت محنة الإخوان المسلمين في مصر فاتجهوا هم أيضا نحو الاستقلال .
خامسا: إبداعية الأخر بابكر وإقدامه غير الهيوب في التعبير عن رؤاه وتعامله اللانمطي مع القضايا الفكرية والسياسية جعله في تقديرى أقرب إلى الحادى منه إلى رجل التنظيم أنه من الذين يهزون جذع النخلة ولا يعبؤون في المواعين ما تساقط رطبا جنيا ..
سادسا: لقيته في أواخر أيام إقامته في طرابلس بعد أن عزم على العودة إلى السودان وكن محبطا لأنه لم يدرك من النتائج العملية ما كان يأمل فيه فقلت له لا عليك الغرس ينبت ولو بعد حين وتلوت الآية:(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين أمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قربت) (البقرة / 214)
ولكن مهما كان إحساسه بالإحباط فإن عزة نفسه وطموح أفكاره ولم تبارحه أبدا فكان وهو يتألم مما حوله من إحباط عزيز النفس قوى الشكيمة واضح الرؤية حقا:
وفي العصافير نبل وهي طائرة
وفي النسور إباء وهي تحتضر

سابعا: الهيمنة الثقافية والفكرية الطاغية لا تقتل الشعوب بالسكين وحدها ولكن تقلتها كذلك بتبخيس عطائها الفكري والثقافي حتى يستقر في نفسها كراهية الذات وهي حالة الاستعداد للاستعمار التي تحدث عنها مالك بن نبي وكجزء من هذا التبخيس تشوه القيادات الوطنية في كل المجالات حتى لا نجد مثالا يحتذي بل نلتمس المال من الخارج فحواؤهم معطاءة وحواؤنا عقيمة .

إننا غذ نقف عند مآثر المرحوم بابكر كرار وأمثاله نهزم جزءا من مشروع الهيمنة الثقافية والفكرية الوافدة.إن في رسم صحف لعطاء هؤلاء تسهيلا لانتزاع مثال يستهدى به ويهتدى به الآخرون وهذا سر قوله صلي الله عليه وسلم :" اذكروا محاسن موتاكم "

ألا رحم لله بابكر رحمة واسعة في الخالدين وإني أعتقد أن احتفالنا بذكراه وهو صاحب البوصلة الرافضة للهيمنة الدولية في هذا الظرف الذي فيه تهم الهيمنة الدولية أن تفرض علينا رؤاها مناسبة تناسب ما نحن بصدده نعم سيكون هناك شرقا أوسطا جديدا ولكنه شرق أوسط سوف تخطه إرادة الشعوب وعناية الله وليس شرقا أوسطا مستوردا (والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)

خطاب السيد ميرغني النصري بمناسبة إحياء ذكرى لأستاذ بابكر كرار

مقر مجلس الصداقة الشعبية العالمية

أيها السادة الأجلاء اسمحوا لى أن احيي مقامكم الكريم وأنتم تحتفلون بالذكرى الرابعة والعشرين لرحيل المفكر السوداني الفذ المغفور له بإذن الله الراحل بابكر كرار .

السادة الأجلاء: إن بابكر كرار لم يكن شخصا .

فردانيا بل كان مدرسة بل كان مؤسسة بل كان ملكة كونية بل رؤية إستراتيجية مستقبلية أما أن بابكر كرار كان مدرسة فهو مدرسة في نكران الذات مدرسة في التجرد ،مدرسة في التفاني ،مدرسة في تطابق القول مع الفعل وبكونه مدرسة في نكران الذات والتجرد والتفاني

فقد خرجت هذه المدرسة منذ العام 1949 م وحتى ميقات رحيله مدرسة من الأجيال تلو الأجيال ممن انتصروا للحركة الإسلامية الحديثة في السودان تأسيسا وفكرا وجهادا ونضالا وتنظيما وتعميما على مدى الفضاء السوداني على مستوى الوفاء والفداء في تجرد أو تميز ..

السادة الأجلاء: إن بابكر كرار لم يكن شخصا فرداني بل مؤسسة للفكر الأصيل مؤسسة للعقلانية الفريدة مؤسسة حرة للاستكشاف والتجديد والبعث أكسب الحركة الإسلامية الحديثة في السودان ملامحها الفكرية الأصيلة وامتدادها وأبعادها العقلانية المتفردة فنقل توجهات الحركة من العموميات التي اتسمت بها الحركة الإسلامية قطريا وعالميا إلى مشروعات الفكر المحددة فهو لا يتحدث عن العدالة الاجتماعية في الإسلام التي يمكن أن يمنحها القائد الإسلامي عدة تفسيرات؛

بل في فكر بابكر كرار الفكر الاقتصادي الإسلامي فكر اشتراكي يقوم على الملكية العامة والأرض لم يفلحها والعمل أما من حيث الفكر التنظيمي فإن الحركة الإسلامية الحديثة في السودان تنظيم وطني مستقل لا يرتكز على وصاية إقليمية أو عالمية إذ لكل مجال إسلامي ظروفه ومعطياته ومكاسبه ..

السادة الأجلاء: إن بابكر كرار لم يكن شخصا فردانيا بل كان ملكة كونية .. كونيا في فكره .. كونيا في ثقافته في توجهه الإنساني كونيا في توجهه الرسالي ولهذا له ذهنية كونية استوعبت ثقافات العصر ومكتسبات الحضارات وقمم الفكر المرجعي الرسالي ولهذا كان خطابه الجامع الذي لقي قبول الفكر والعلم والسياسة وفروع المعرفة المتعددة .

ففي منتداه يجتمع أهل السياسة وأعلام الثقافة وثقات المراجع في كافة المعارف إن هذه الملكة الكونية هي المجال الحيوي الجامع لكل هذه الفعاليات والذهنيات المطلقة .

السادة الأجلاء: إن بابكر كرار لم يكن شخصا فردانيا بل كان رؤية إستراتيجية مستقبلية للحركة الإسلامية الحديثة في السودان اخترق بها كل الخطوط الحمراء للقادة التقليديين للحركة الإسلامية وطنيا وإقليميا وعالميا وذلك منذ العام 1954 م حيث أصدر مؤلف "الجماعة الإسلامية دعوة ومنهاج" مستمدا من رسالة الخط السياسي لحركة التحرير الإسلامي الحركة الإسلامية الأم عام 1949م

وتتمثل هذه الخطوط الحمراء للقادة الإسلاميين الكلاسيكيين في الآتي:

أولا:العداء وعدم الالتقاء بين الإسلام والإشتراكية
كان القادة التقليديون للحركة الإسلامية في السودان وخارج السودان يعلنون عداء صريحا وقاسيا بين الإسلام وبين الإشتراكية بل كان بعضهم يعتبر الحديث عن الإشتراكية إنما هو زلة كفرية ولكن الراحل بابكر كرار أثبت أن التوجه الإسلامي توجه اشتراكي في جوهره حيث إن حديث صاحب الرسالة العظمي عليه صلاة الله وسلامه قرر شراكة الناس كل الناس في الماء والكلأ والنار وكان الاختراق لهذا الخط الأحمر في العام 1954م
وهو تقرير للاشتراكية في الإسلام في العالم الإسلامي حيث إن أول تقرير حكومي لذلك كان في عهد عبد الناصر أول الستينات .. وهذا استباق استراتيجي تاريخي للحركة الإسلامية في السودان حيث إن الحركة الإسلامية التقليدية (قادة جبهة الميثاق الإسلامي السوداني تحدثوا في برنامجهم عام 1965 م عن الملكية العامة والقطاع العام ... الخ)
ثانيا:العداء بين الإسلام والقومية العربية:
الخط الأحمر الثاني للقادة الكلاسيكيين في الحركة الإسلامية معاداتهم للقومية العربية باعتبار أنها خروج عن الإسلام وقد اخترق الراحل هذا الخط الأحمر استراتيجيا واستباقيا حوالي العام 1956 ودافع بأن الإسلام هو قوة العروبة وتفعيلها والعرب هم عتاد الإسلام حيث إن الخطاب الرسالي قرر أن الإسلام شرف للعرب حيث يقول تبارك وتعالي (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) (الزخرف : 44)... القومية من القوم ولله الأمر من قبل ومن بعد.. وهكذا فإن القيادة التقليدية للحركة الإسلامية لم تعترف علنا بذلك إلا في العام 1990 م حيث عقدت المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي بالخرطوم.
ثالثا:الخط الأحمر الثالث هو عدم قبول المجتمع الفئوي:
في العام 1954 م قررت حركة التحرير الإسلامي بقيادة الراحل بابكر كرار أن يقوم خط الحركة السياسي على العمل في أوساط القوى المنتجة أى القوة الحديثة من مثقفين وعمال وزراع على أنها القوى الفاعلة والقادرة على التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي أما القيادة الكلاسيكية للحركة الإسلامية فقد اعترضت على هذا التوجه باعتبار أن التعبئة للحركة تقوم على أنهم مسلمون وليس فئات
ولكن حوالي أوائل الستينات عدل عن ذلك وأقرت هذا التوجه وفي إطار كل ذلك كانت الحركة الشيوعية السودانية قد عبأت كل القوي الفئوية في تنظيمها وحسب طبيعة الأشياء كان لابد للحركة الإسلامية الحديثة في السودان أن تعمل من خلال القوى الفئوية لتنتزع قيادتها وهذا الاتجاه للحركة الإسلامية بقيادة الراحل بابكر كرار
قد أدى لانتصار هذه الحركة على الوجه التالي:
في العام 1949م عبأت الحركة الشيوعية الطلاب في حركة سميت (بمؤتمر الطلبة) وقد استطاعت الحركة الإسلامية تحت قيادة بابكر كرار أن تقضي على مؤتمر الطلبة وأن تؤسس لتنظيم الطلاب تحت اسم:الاتحاد العام للطلاب السودانيين

وأن تنتصر على الشيوعيين في كلية الخرطوم الجامعية (جامعة الخرطوم) في العام 1952م وأن تستولي على اتحاد طلاب الجامعة ثم الجمعيات في ذلك الاتحاد هذا وقد أنزلت رسالة الاتحاد العام للطلاب السودانيين إلى الدارس الثانوية وبموجبها كونت اتحادات للطلاب في المعاهد الثانوية على مستوى المدارس وأن الاتحاد العام للطلاب السودانيين هو الوريث السياسي لرسالة الاتحاد العام الذي أسس الراحل قاعدته في العام 1952 م.

أما اتحاد العمال فقد استولى عليه الحزب الشيوعي وكانت قيادته تحت إمرة هذا الحزب ولكن الحركة الإسلامية بقيادة الراحل بابكر ظلت تعمل لانتزاع القيادة الشيوعية وإحلال قيادة وطنية محلها وقد تم له ذلك في أوائل الستينات ..

هذا ولقد كان الخط السياسي للعمل وسط الفئات القوى الحديثة وهو الانتزاع المباشر للقيادة في أوساطها من الحركة الشيوعية إلى قيادة وطنية حرة الإرادة.. وهذا من الاختراق الجرئ للخط الأحمر الثالث للقيادة التقليدية للعمل والتنظيم في أوساط القوى والذي قبلته هذه القيادة بعد حين وهذا يدل على سبق رؤيته الإستراتيجية للقوى الإسلامية التقليدية الكلاسيكية..

السادة الأجلاء: نخلص من هذا أن الراحل بابكر كرار لم يكن شخصا فرادنيا بل كان أمة كان مدرسة كان مؤسسة كان ملكة كونية وكان رؤية إستراتيجية مستقبلية شرفت الحركة الإسلامية الحديثة وكان يتوجب أن يقام له هذا التشريف وهذا التخليد سائلين له الله المرقد في مساكن طيبة في جنات عدن مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

كلمة الأستاذ عمر خليفة الغامدى أمين مكتبة الإخوة العربي الليبي بالخرطوم

بابكر كرار أمة في رجل مفكر عربي مسلم عمر قلبه وعقله الإيمان بحرية وكرامة الإنسان والتوق إلى الكمال فكان رائدا ومناضلا لا يشق له غبار ورمزا على مستوى عال من العلم والخلق .

بسم الله الرحمن الرحيم

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب : 23)

الإخوة الأصدقاء: باسمكم جميعا نشكر مجلس الصداقة الشعبية وجمعية الإخوة العربية السودانية الليبية على هذه اللفتة الكريمة ولو جاءت بعد ربع قرن من أجل تكريم إنسان بكل المقاييس يستاهل التكريم والاحترام وأكثر من ذلك الاستفادة من فكره ونضاله وسيرته العطرة؛

وبهذه المناسبة نتوجه بالتحية والتقدير لأسرته الكريمة ولزملائه ولجميع أصدقائه ومعارفه جميعا وإلى الشعب الواحد في البلدين الشقيقين السودان والجماهيرية وأشكر اللجنة التحضيرية التي أفسحت لى المجال لكي أخاطبكم في هذه المناسبة الهامة باعتبار ى ممن عرفوا المرحوم في فترة مجيئه إلى ليبيا بعد قيام ثورة الفاتح 69 وعاش بها فترة متواصلة من عام 1973 -1978م.

وسأتحدث لكم عن هذا الرمز الكبير كما عرفته من خلال هذه النقاط:

  1. مقدمة عامة عن بدايات صلت بالسودان وكيف تعرفت على المناضل بابكر كرار .
  2. بابكر كرار المفكر الموسوعي الذي هو عربي ومسلم وإنساني بامتياز .
  3. دوره القومي ومجاهداته وهجرته إلى مصر وليبيا .
  4. الحاجة الماسة اليوم للاستفادة من فكر هذا الرائد الرمز

مقدمة

خلال شهر الفاتح (سبتمبر 1972م) كلفت بالسفر إلى السودان على رأس وفد للشباب العربي الليبي يضم 45 عضوا وقتها كنت عضوا بالأمانة العامة للإتحاد الاشتراكي العربي بالجماهيرية ويدخل في اختصاص عملي النقابات والمنظمات الشعبية ومن بينها الشباب ولن استفيض كثيرا في هذه النقطة فقط لأنها المدخل لعلاقتي بالسودان؛

وقضيت في ربوع هذا البلد الجميل أسبوعين كانا في غاية التكريم شعرنا أننا بين أهلنا وذوينا وخرجت من تلك الزيارة بانطباعات منها:إنني لمست عن كثب طيبة الشعب السوداني وإنسانيته وحسن معاملته للضيف ومدى انسجامه وقتها حيث لم أسمع أى مفردة تخل بذلك من مثل القبيلة أو النعوت العنصرية عربي زنجي ... الخ .

شعرت بالقرب بل بالتوحد الوجداني والسلوكي بين الشعب السوداني والشعب الليبي .وسياسيا كنا في ذلك الوقت طموحين بتحقيق الوحدة العربية والزيارة تمت في إطار ميثاق طرابلس لتوحيد مصر والسودان وليبيا فجئت مفعما بهذا الشعور ولكن رجعت بعد الزيارة بخيبة أمل ذلك أنني لم أجد أثرا لميثاق طرابلس ولا للإتحاد الاشتراكي في السودان على الرغم من زيارتنا لمقره ذلك أن احتكاكا بالشباب والقواعد الشعبة وعلى نحو حاسم في اللقاء بطلبه جامعة الخرطوم لم نعثر على أثر لذلك التنظيم؛

وتعرفنا بالمعارضة (ناصريون بعثيون إسلاميون شيوعيون) وقد كان الحوار معهم حاميا وعميقا المهم في الأمر أنه بعد عودتي والحوار مع زملائي خاصة رفاقي في الاتحاد الاشتراكي والذين يعملون في الإطار الفكري والسياسي نقلت لهم انطباعاتي ومشاهداتي ودهشتي من الوضع السياسي .

وبعد ما أصبحت أهتم بالشأن السوداني وزاد الخلاف بين الأنظمة في البلدان الثلاثة الذي فاقمته أحداث متعددة ولكن زادته حرب أكتوبر تجذرا وصولا إلى مرحلة القطيعة بعد ذلك.

كان زملائي قد سألوني هل التقيت بالأستاذ بابكر كرار وكان بعضهم قد التقى به خلال مؤتمر الفكر العربي عام 1970 م ولكن لسوء حظي أن ذلك لم يحصل لأن مهمتى كانت في إطار برنامج لوزارة الشباب ولم تسمح لى باللقاء بشخصيات أخرى .

بعد ذلك بدأت الأحداث في الوطن العربي تأخذ منح الفرز للأوضاع في الوطن العربي بين القوة المحسوبة على حركة التحرر العربي والثورة العربية وبين تلك القوى المحسوبة على التيار المحافظ والذي وجد له سندا في التحالف مع الغرب

وكانت الفترة بين حرب أكتوبر 1973 م وزيارة السادات للقدس عام 1977م حاسمة لحفر خندق الخلاف بين الأنظمة العربية .

خلال هذه الفترة تعرفت على عدد من المثقفين والمناضلين السودانيين الذين وفدوا إلى ليبيا في مهام فكرية وتواصل من خلال المؤتمرات والحوارات التي كانت ليبيا ملتقي لها وأهمها في تلك الفترة المؤتمر الفكرى العالمي الإسلامي عام 1971 م ومؤتمر المفكرين العرب 1972م ومؤتمر القوى الناصرية عام 1973

لأن ثورة الفاتح بقيادة الأخ معمر القذافي أرادت التعرف عن كثب عما يطرح في العالمين العربي والإسلامي وكان أبرز هؤلاء الذين تعرفت عليهم ثلة من المفكرين والمناضلين منهم المرحوم بابكر كرار وزملائه د. ناصر السيد ،ميرغني النصرى ،عبد الله زكريا ،مجدى سليم ،الإمام الصادق المهدى ،د. عمر نور الدائم ،إدريس البنا ،عبد الرسول النور ،د. حسن الترابي ،دز عثمان خالد مضوى ،الأستاذ إبراهيم حسن عمر ،الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد ،المناضل الشريف حسين الهندى ،الأخ حسن دندش ،الأستاذ محمد عبد الجواد ،المحامي أحمد زين العابدين ،المحامي على محمود حسنين ،طه ميرغني ،كمال حسن بخيت ... وآخرون .

ولما كنت أعمل في المجال السياسي كما أسلفت كعضو بالأمانة العامة للإتحاد الاشتراكي 1971 م تم تكليفي مديرا عاما للمؤسسة العامة للصحافة , ورئيسا لتحرير صحيفة الفجر الجديد عام 1972 م بعد عودتي من السودان؛

فقد كن المرحوم بابكر كرار على علاقة مباشرة ومتواصلة بهاتين الجهتين بل أنه يحرص وأحيانا يوميا على الحضور إلى المؤسسة العامة للصحافة , ومنها مجلة الشورى, فقد كانت علاقتي وصلتي بالأستاذ بابكر كرار مباشرة ولصيقة وقد زادها رسوخا تشكيل الجبهة الوطنية السودانية للمعارضة والتي كان للمرحوم جهد أساسي وتأسيسي في تكوينها؛

وأذكر هنا للتاريخ أن أول خطوة عملية بعد مشاروات واسعة كانت لقاء بين وفد سودني ليبي بالأخ الصادق المهدي بروما عام 1973 م شارك فيه من الجانب اليبي الأخوة جمعة الفزاني وصالح الدروقي ومن الجانب السوداني المرحوم بابكر كرار

وقد توجهنا من طرابلس للقاء الأخ الصادق المهدي الذي تحاورونا معه لمدة يومين وكان اليوم الأول مخصصا للحوار والسجال بين بابكر كرار والصادق المهد تسوية لخلافات تاريخية واستشرافا للمستقبل ووزن الأمور لإمكانية نسج تحالف بينه والتيار القومي.

وتم بعد ذلك زيارة الإخوة قادة الجبهة إلى طرابلس والاتفاق على العمل معا من أجل استعادة السودان لإرادته الشعبية ولابد ن أضع حدا لهذا لاستطرد الذي فرضته سانحة الحديث عن الفكر والمناضل المرحوم بابكر كرار .

بابكر كرار المفكر الموسوعي

الذي يجسد العروبة والإنسانية كما أسلفت تعرفت على المفكر والمناضل بابكر كرار بعد رحيله إلى ليبيا وأقام بأسرته بها وأصبحت علاقتنا مفتوحة على المستوى الشخصي والعائلي والعمل السياسي فكنت ألتقي به وبزملائه باستمرار بحكم ظروف عملي كما أشرت وقد كان لطبيعة المرحوم الأثر الطيب في نفوس كل من تعرف إليه فقد كان متواضعا ولكنه معتد بنفسه ولا يتنازل عن آرائه إلا بعد حوار وتوفر شروط جدية للقناعة.

لا شك أن شابا في العام الأول من دراسته الجامعية يشكل لجنة لتفسير القرآن الكريم أنه موهوب وله كفاءات عالية وأن دخوله إلى الحزب الشيوعي ثم مساهمته في تأسيس الحركة الإسلامية ثم الخروج منها والدعوة إلى تنظيم يزاوج بين الإشتراكية والإسلام وفي وقت مبكر لدليل على نبوغه وجديته .

وقد كانت طرابلس كما أسلفت تمر بالنشاطات والنداوات ويأتيها المثقفون والمناضلون من كل حدب وصوب حيث رفعت ثورة الفاتح أعلام الثورة العربية وصاغ القائد معمر القذافي شعارات المرحلة وقدم مشروعا استراتيجيا للتحرير والوحدة والإشتراكية فتعرف عليهم المرحوم بابكر كرار وتعرفوا عليهP

وأصبح بابكر كرار حديث كل من عرفه بمعرفته الموسوعية واهتمامه المتنوع وقد كان متميزا بين أولئك القادة من النخب العربية الذين يتم تعريفهم ببعد واحد قومي أو شيوعي أو إسلامي لكن بابكر كانت لكل هذه النعوت له منها نصيب يزيد أو ينقص بل ويمكنني القول بثقة أنه فيه إيجابيات هذه الصفات جميعها .

وقد صقلته الحياة خبرة وتعمقا فأصبح له منهج وأسلوب في القول والعمل فهو قومي عربي منفتح على الإشتراكية العلمية ولكنه مسلم تنويري يضع العروبة والإشتراكية في كنف الإسلام هذه الظاهرة الحضارية التي أراد لها أن تكون محتوى الثورة العربية؛

وقد وجد في ثورة الفاتح التي طرحت منذ بيانها الأول عام 1969 الحرية والإشتراكية والوحدة ورفعت شعار الطريق الثالث الذي دشنته عام 1973م بخطاب زواره التاريخي الذي طرح الثورة الثقافية طريقا لبناء الشعبية لسلطة الشعب وبدأت هذه لأفكار تتنزل عبر المعارك على مختلف الأصعدة حتى اكتملت صياغتها في الكتاب الأخضر عام 1975م.

وقد تميز المرحوم بابكر كرار أنه من بين المفكرين العرب انحاز بدون تحفظ للمشروع الحضاري الذي طرحته ثورة الفتح من سبتمبر لأنه وجد أنه ينسجم مع الأفكار التي يؤمن بها .

وإن كانت هناك بعض الأفكار والمحطات التي يمكن مناقشتها خلال الندوة الفكرية صباح الغد حول بعض الأطروحات التي لم يكن يدعمها أو لا يوافق عليها مثل الوحدة الاندماجية واستخدام العنف في التغيير لكنه مع ذلك فقد كان مؤمنا بميثاق طرابلس ووحدة مصر والسودان وليبيا

وكما أسلفت فقد كان دينمو تأسيس الجبهة الوطنية السودانية وعلاقتها بالجماهيرية وسأذكر لاحقا معلومة توضح أن المرحوم كان مخلصا للعلاقة مع مصر ولموقفه الجذري من التغيير وقد يكون كمفكر ينحو إلى المثالية ولم يتحوط لأن ذلك العمل قد يأخذ العنف في إطار المنازلة التاريخية .

عن دور بابكر كرار القومي ومجاهداته بعد رحيله إلى مصر وليبيا

كما أشرت سابقا أن حديثى في الفترة التي عرفت خلالها المرحوم وبطبيعة الحال في إطار ما يسمح لى الظرف أن أتحدث فيه عن الأوضاع في السودان بكل احترام وحيدة.

فبعد خلاف المرحوم مع نظام نميرى وخروجه من السجن رحل إلى مصر ومعروف أنه كان معجبا بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر وقد زادته ثورة 23 يوليو بمعاركها وأطروحاتها تعميقا وتجذرا في موقفه القومي العربي لكنه فوجئ أن الأوضاع في مصر قد تغيرت وأن النظام ينحو في اتجاه مختلف عما كان عليه أيام عبد الناصر .

وعندما أندمج مع أصدقائه ومعارفه في مناقشة الأوضاع وكيف يمكن التأثير عليها والدعوة إلى قيام الوحدة بين البلدان الثلاث إيمانا منه بضرورة دعم الثورة العربية خاصة بعد غياب عبد الناصر وضرورة خلق مركز قوة قومي يتم الانطلاق منه ولكنه فوجئ أن السلطات المصرية تطلب منه مغادرة مصر ولم يشفع له علاقته بعدد من كبار المسؤولين مثل عبد العزيز حجازي .

وهكذا أوصل إلى الحدود البرية غربا إلى ليبيا حيث كان قد تعرف خلال السنوات الماضية على عدد من المسؤولين الليبيين ومنهم العقيد أبو بكر ونس جابر والرائد صالح الدروقي والأخ جمعة الفزاني حيث وجد الترحيب واندمج في المجتمع كاتبا ومحاورا ومناضلا وهكذا وجد المرحوم مناخا خصبا يسمح لإمكانياته وطاقاته للتعبير والعمل على عدة مستويات:

  • مستوي بناء الجبهة الوطنية السودانية .
  • مستوى العمل مع الجهات والأشخاص من الليبيين.
  • مستوى العمل مع الجهات والأشخاص العرب الذين يفرون إلى ليبيا .

وسأفصل هنا قليلا في الحديث لأقول :

(أ‌) على مستوى بناء الجبهة الوطنية السودانية يرجع للمرحوم الفضل في تقديم اقتراح التحالف بين ثورة الفتح في مرحلة صعودها وهي لا تؤمن بدور الأحزاب خاصة إذا كان بعضها محسوبا على القبائل أو الطوائف ولكن من خلال الحوار وشرح ما يتعرض له الشعب السوداني وأهمية تحصين المعارضة من العمل مع القوى الأجنبية فقد فتحت ثورة الفاتح الحوار مع قادة الأحزاب الذين وفدوا من الخليج وأوربا حتى أمكن الاتفاق على بناء الجبهة وتغيير النظام .
(ب‌) وهنا أروى واقعة مهمة جدا توضح نقاء المرحوم وشفافية العمل الذي تم الاتفاق عليه بينه وبين ثورة الفاتح.
(ت‌) بعد أن رسمت خطوط العمل طرح المرحوم على طاولة الاجتماع مع الوفد الليبي أن المسؤولية القومية تفرض علينا أن نحيط مصر بهذه الترتيبات باعتبار مصر الغائب الحاضر ولأهمية دوره وللرغبة في أن تكون جزءا من التغيير
وبالفعل سافر الأخ بابكر مع عضو ليبي من اللجنة المشتركة إلي القاهرة والتقوا بعدد من المسؤولين من بينهم الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء آنذاك, ورجعوا خائبين بعدم موافقة النظام المصري وقد تم تسرب المعلومات إلى حكومة السودان لكن قطار العمل والتغيير قد انطلق
وقررت قوى المعارضة السودانية تشكيل جبهة وطنية ستكون من القوى القومية يمثلهم بابكر كرار وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدى والحزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة الشريف حسين الهندى والجبهة الإسلامية بقيادة الدكتور حسن الترابي ومندوبه الدكتور عثمان خالد مضوى وتم الاتفاق على التنسيق مع الحزب الشيوعي وذلك بمعرفة الدكتور عز الدين على عامر والقوى الوطنية الأخرى.
(ث‌) ونحن هنا نتحدث عن دور وعلاقات المرحوم بابكر كرار فقد ارتبط بعلاقات خوية ونضالية مع قيادة الثورة من خلال الأخ العقيد (وقتها) أبو بكر يونس وعن طريق الإخوة أبو زيد درودة وزير الإعلام (وقتها) والأخ محمد الزوى وكيل الوزارة والأخ إبراهيم أبجار مدير الإعلام الخارجي والأخ جمعة الفزني الذي كان عضوا بالأمانة العامة للإتحاد الاشتراكي
ثم أصبح رئيسا لتحرير مجلة الشورى والأخ المحامي إبراهيم الغويل والأخ سعد مجبر مدير وكالة الأنباء (وقتها) وغيرهم على النحو الذي ذكرته سابقا وآخرين كثيرين وكانت للمرحوم علاقات مميزة بالاتحاد العام للعمال الليبيين وكذلك الطلاب والمثقفين ومنهم المرحوم على النفيشي رئيس اتحاد العمال وسالم وحميد جلود وغيرهم من القيادات بالاتحاد .
أذكر أنني كنت أحيانا أتصل بالمرحوم بمقر إقامته في فندق الودان فلا أجده وعندما سألته قال لى:إذ لم تجدني بالفندق سأكون بمقر اتحاد العمال لأن هذا هو المكان المفضل لمثقف يهتم بنشر أفكاره ونضاله .
(ج‌) وقد وفرت للمرحوم إقامته بليبيا فرصة التعرف على الشخصيات والمنظمات العربية من المحيط إلى الخليج وقد ارتبط بعلاقات خاصة مع عدد من الشخصيات والمنظمات منهم الرئيس ياسر عرفات وقادة فتح مثل أبو جهاد وأبو أياد والحركة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) والحركة الديمقراطية (نايف حواتمة) والقيادة العامة (أحمد جبريل) ... الخ
(ح‌) وكذلك قادة التنظيمات اللبنانية د. عبد الله سعادة وأنعام رعد وإبراهيم قليلات وجورج حاوى وأحمد موسي.... إلخ كما كانت له علاقات واسعة بقيادات المعارضة المصرية خالد محيي الدين وفريد عبد المجيد ومحمود أمين العالم ود. عصمت سيف الدولة ومن المغرب العربي محمد البصري القائد السابق لحركة المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي والمناضل محمد الشريف مساعديه والدكتور العربي البيري وعبد القادر حجار من الجزائر والدكتور محمد مواعده من تونس .

وعلى العموم تعرف على الكثير من قادة الرأي العام العربي الذين شاركوا في تأسيس مؤتمر الشعب العربي عام 1977م.وقد شارك المرحوم وعدد من المناضلين ومنهم المرحوم محمد البصري في صياغة ميثاق مؤتمر الشعب العربي.

وتميز المرحوم بابكر كرار بأنه يدعم خيارا ثورة الفاتح بل عبر عنها في مقالاته وحواراته موضحا أن القائد معمر القذافي يقود الأمة العربية على طريق التجديد الفكرى والمشروع الحضاري وإنها تعبر عن عبقرية الزمان والمكان وكان في ذلك متجاوزا لبعض المثقفين والمناضلين الكيانيين (القطريين) بل والقوميين العرب وأهمهم الناصرين الذين لم يفهموا قيام ثورة الفاتح بريادة العمل القومي وإعلانها أنها امتداد بالتجاوز للفكر والحركة الناصرية ودعت إلى أعمال الرأى من أجل تحقيق رؤية تقدمية مستقبلية وهو ما تضمنه الكتاب الأخضر.

وأشير هنا إلى حدثين أحدهما فكرى ولآخر سياسي:

الفكري: حيث تصدى المفكر القومي د. عصمت سيف الدولة للرد على ما كتبه المرحوم بابكر كرار حول عبقرية الزمان والمكان لإبداع ثورة الفاتح وكان كتب حينها مراجعة نقدية لمجلة الشورى وكانت المناقشة من وجهة نظر قومية تدحض أن يكون لجزء من الوطن والأمة عبقرية مختلفة عنها ولكنه في العمق فهم البعض أنه يدافع عن عبقرية المركز (مصر) لكن المرحوم تمسك بوجهة نظره وجاهر بدور ثورة الفاتح وضرورة التحالف معها
السياسي: عندما عقد مؤتمر للقوى الناصرية بطرابلس عام 1973 م كانت رغبة القيادة الثورية في الجماهيرية القيام بمراجعة عامة للفكر والممارسة على الصعيد القومي وخلق أفق جديد للأمة العربية يقوم على أساس العروبة والإسلام والتقدم الاجتماعي والإشتراكية لكن ذلك المؤتمر الذي شكلت القوى المصرية عصبة عارض هذه التوجهات وتمسك بوثائق المرحلة الناصرية وهو ما شكل صدمة كبيرة إذ كيف يعتبر مثلا بيان 28 مارس وثيقة ناصرية وهي معالجة مرحلية لمشكلة اعترضتها .

وهكذا بعد معارك متعددة وحوارات متعددة شملت المسلمين (مؤتمر المفكرين المسلمين 1971م ،ومؤتمر المفكرين العرب 1972 م ،ومؤتمر القوى الناصرية عام 1973 م) واصلت ثورة الفاتح النضال على أساس الطريق الثالث وسلطة الشعب وفي هذه المرحلة وصل المرحوم بابكر كرار إلى طرابلس وأعلن موافقته على هذه الخيارات ودعي إلى أهمية التحالف وتبني أطروحات ثورة الفاتح.

الخاتمة

واليوم نحن نستذكر هذا المفكر والمناضل الفذ ما أحرانا أن نعمل من أجل الاستفادة من آرائه ومسيرته التي تنضج بالإخلاص والغيرة والرؤية المستقبلية وحب التضحية وباختصار يمكن أن نستخلص بعض الأفكار والاختيارات التي يمكن أن نستفيد منها اليوم بعد غياب المرحوم منذ ربع قرن

ولكن أفكار بابكر كرار لا تزال راهنة ومنها:

(1) علاقة العروبة بالإسلام
وهي علاقة تمازح عضوى واندماج موضوعي لا فكاك فيه وأن الأمة التي كرمها الله بالإسلام لا يمكن ألا تنهض بمهمتها أو تخرج عن مضامين الإسلام كما أن المسلمين مندوبون لاحترام العروبة ولو لم يكونوا عربا لما في ذلك من تأكيد لمفاهيم الإسلام الذي جاءت اللغة العربية ناطقة به وكما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"إذا ذل العرب ذل الإسلام" وقد كان المرحوم أمينا لهذا الفهم مسكونا بحب العرب وعميق الإيمان بالإسلام .
(2) علاقة الإشتراكية بالإسلام:
لقد كان المرحوم بابكر كرار عميق الفهم للإسلام وكذلك الإشتراكية وقد جاهر برأيه أن فضائل الماركسية موجبات في الإسلام (ندوة بنادى العروبة بطرابلس عام 1975م) أمام جمع كبير من الشخصيات العربية الفكرية والسياسية
(3) البعد الإنساني للقومية العربية:
ورفضها للعنصرية وتلاحمها مع قضايا الشعوب في كل زمان ومكان وأن العروبة لا لون لها بل هي كل الألوان لأنها غير عنصرية وذلك هو مفتاح فهم التعريب الذي حصل في إفريقيا والذي أسماه المرحوم:(الحدود المتحركة للقومية العربية) ودعوته لحسم عروبة السودان.
(4) وحدة قوى الثورة العربية:
منذ هجرته إلى مصر ليبيا حمل لواء وحدة قوى الثورة العربية ووحدة العمل العربي المشترك وهو في ذلك يدافع عن:
(أ‌) الثورة الفلسطينية التي يرى أن مسؤولية كل العرب التلاحم معها لأن العدو الصهيوني عدو لكل العرب بل للإنسانية جمعاء .
(ب‌) توحيد قوى الثورة العربية وهي تلك الحركات والقوى المعادية لأمريكا والعدو الصهيوني والقوى الرجعية .
(ت‌) كان يركز على ضرورة لانطلاق من مركز قوة ويدعو إلى بناء قوة تخدم كل تلك الأهداف ودفع الأوضاع العربية نحو الوحدة الشامل ولذلك إلى الوحدة بين مصر وليبيا والسودان وانحاز إلى هذه الفكرة وحاول أن يجسدها في كتاباته ومقالاته المتعددة .

ما أحرانا اليوم أن نؤكد علاقة العروبة بالإسلام والإشتراكية هو منهج حضارى تواصل ثورة الفاتح من سبتمبر تعميقه وجعله منهجا حضاريا للأمة العربية والإسلامية قاد إلي تأسيس الاتحاد الأفريقي والعمل على إقامة الفضاء العربي الإفريقي وكان ذلك من أشواق المرحوم بابكر كرار.

اليوم لابد لن ن نستفيد من هذه الأفكار والمضامين والعمل على تحقيقها على رض الواقع وخاصة أن أمتنا اليوم مستهدفة وهي تواجه عدوانا إمبرياليا صهيونيا همجيا لا يفرق بين واحد من هذه المكونات .

رحم الله المفكر بابكر كرار وأسكنه فسيح جناته وندعو الله أن يلهمنا الصواب والتوفيق في أعمالنا والاستفادة من لأفكار والدروس التي ناضل من أجلها المرحوم وأجيال سبقته خاصة والأمة العربية والشعوب الإسلامية تواجه تحديات خطيرة في مواجهة الاستلاب والعدوان والهيمنة الإمبريالية الصهيونية .

كلمة الدكتور جعفر شيخ ادريس في حفل تأبين المرحوم بابكر كرار

تعرفت عليه في مدينة ود مدني عام 1950 وكنت طالبا في مدرسة حنتوب في السنة لأولي وكان هو في الجامعة واختلفنا في تفسير آية ولا تعجبوا كيف يختلف ويجادل طالب في السنة الأولي الثانوية مع آخر في الجامعة فأنا تأخرت كثيرا ولم يكن بيني وبينه في العمر فرق ربما سنتان و سنة أو ثلاث اختلفنا في تفسير آية وكان هذا الحوار وهذا الاختلاف هو سبب الود والصداقة بيننا التي استمرت إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالي .

وكنت مثل السيد الصادق المهدى اختلف معه في بعض الأشياء ليست السياسية فقط ولكن حتى بعض اجتهاداته الدينية ولو كنت لا أعرف عنه غير قبوله الاختلاف بصدر رحب لما كان بيني وبينه من صلات ولكن أعرف عنه شيئا آخر أثر في جدا وهو تقديره العظيم لمقام النبوة كان بابكر كرار رجلا محب للنبي صلي الله عليه وسلم ومفسرا له؛

وما ترك من كتاب في السيرة النبوية سواء باللغة العربية أو اللغة الانجليزية إلا قرأه وكان أحيانا وفي السنوات الأولي من تخرجه من جامعة الخرطوم يقرأ جزءا كاملا من البخاري من أجزائه التسعة وكان يقول لى : إن أعظم كتاب بعد القرآن الكريم هو البخاري

وكان دائما يقول:الإمام البخاري ولا يقول:البخاري فقط وقال:لى إنه لا يقول هذا الكلام كما يقوله الناس ولكن عن تجربة خاصة وكان كثير التعليق كلما تكلم إخوننا متعمقا في فهم الآيات القرآنية وكان كذلك معجبا إعجابا خاصا بالأحاديث النبوية.

كان متعمقا في فهم القرآن الكريم وكان أحيانا يكلمك بالهاتف يقول :يا أخي هل فكرت في سورة الماعون أو في الآية الفلانية أو كذا ....كان كثير التقدير للرسول صلي الله عليه وسلم وأيضا يحترم علماء المسلمين حتى من يختلف معهم من الماضيين والمعاصرين .

كما قلت كان معجبا بالإمام البخارى وكذلك بالإمام الغزالي وكان لا يتكلم عن سيد قطب إلا أن يقول:الأستاذ سيد قطب وكذلك الشيخ حسن البنا .

فيما أعلم أن السبب الأساسي الذي جعله يترك الحزب الشيوعي كما في الكتاب المكتوب عنه الآن أنه فعلا كان عضوا في الحزب الشيوعي عندما كان طالبا في المدرسة الثانوية ولكن الذي عرفته منه أن السبب الأساسي الذي جعله يترك الحزب الشيوعي هو مسألة الإلحاد والشيوعيون كانوا في ذلك الوقت يصرحون بهذا الأمر ولكن فيما بعد علموا ن هذا خطأ فأصبحوا لا يصرحون بذلك .

والمسألة الثانية التي أعجب بها في بابكر كرار هي أنه قدم أكبر خدمة للحركة الإسلامية وهنا لا أقصد تنظيما معينا ولكن اقصد الحركة الإسلامية في مجملها هو أنه جعلها حركة حديثة وعني بحديثة أنها كيف تتعامل مع المؤسسات الحديثة وكيف تهتم بالقضايا الفكرية الحديثة

وكان نتيجة هذا الأمر أن الحركة الإسلامية في السودان متميزة على الجماعات الإسلامية في العالم العربي وغير العربي وظل هذا التأثير على تنظيم الإخوان المسلمين حتى بعد أن خرج هو وأذكر في هذا التأثير اهتمامه بالمؤسسات والاشتراك في الاتحادات والنقابات والكلام عن القوى المحركة والمفاتيح الخمسة الجيش والشرطة وكذا وكذا..

كنت الحركة الإسلامية من حيث التعامل مع المؤسسات حركة ليست حديثة لذلك كان الناس يهتمون بالخطب في القرى ولكن هو الذي حولها إلى حركة إسلامية حديثة.

كان مهتما بالقضايا السياسية والاقتصادية وأذكر أن السيد الصادق المهدى في خطبة ألقاها على قبره يوم ذهبنا للتشييع قال : إن الأستاذ بابكر كرار كان من أوائل الناس الذين اهتموا بالسياسة الخارجية وعلم الناس أصول السياسة الخارجية .

وكانت السياسة بالنسبة له فكرة وكان كما قال بعض الإخوان يقرأ التراث ويقرأ الكتب الحديثة سواء كانت شيوعية أو غربية وكان هذا أمر مميز لم يكن الناس يعتادون عليه .

إنه بعد سنين قد يكون عام 1960 م ولعل الأخ أحمد عبد الرحمن يتذكر في اجتماع مجلس شورى الإخوان المسلمين طلب حد الزعماء الذين جاؤوا بعده بأن تترك مسألة النقابات والاتحادات باعتبار هذه مسألة بتاعت شيوعيين وأصررت أنا أن أدافع عن هذه المسألة وأظن أن الأخ أحمد عبد الرحمن من الذين أيدوني في هذا المشروع .

كانت الحركة بسبب تأثير بابكر كرار متميزة بهذه الدرجة أنه في سنة من السنين اجتمعنا في بلد عربي وجاء أخوان من بعض البلدان العربية وغير العربية ليتعلموا من تجربتنا في العمل وسط النقابات الاتحادات والمؤسسات الحديثة .

أهتم كما ذكر لإخوان بالفكرة الشيوعية وبمعاداة الحركة الشيوعية وأظن بسببه أن الحركة الإسلامية في رأيي أضرت بالحركة الشيوعية ضررا بليغا لا أعني أنها هزمتها فكريا ولكن جعلت الحركة الشيوعية معادية للإسلام وتحولت الحركة الشيوعية بدلا من الحديث عن الإشتراكية إلى وكلاء للدفع عن ثقافة الشارع الرأسمالي بسبب معاداتهم للحركة الإسلامية وصاروا يتحدثون عن الموسيقي ... الغناء ... الاختلاط ... الشراب .. إلخ .. وتركوا القضايا الأساسية .

إن بابكر كرار كان له مقدرة عجيبة على الاتصال بالناس مهما كان يختلف معهم وكان يلومني في هذا إن طبعي مختلف عنه في شئ من العزلة كنت أعجب كيف يستطيع الاتصال بالناس ويناقشهم ويختلف معهم ورغم اتصاله بهم يظل موقفه منهم

وكان يقف أحيانا بسبب هذه الاتصالات مواقف تبدو وكأنها متنقضة كنت أقول له:كيف يا أخي تحب عبد الناصر وسيد قطب في نفس الوقت ! فقال لى عندما قتل الأستاذ سيد قطب:إن عبد الناصر لما يأتي للنوم يقول:النهارده أنا قتلت أعظم رجل في مصر هذا الكلام لا يمكن أن يقوله إلا بابكر كرار.

كان بابكر كرار رجلا مرحا كثير النكتة وكان يستعمل النكات للدفع عن أفكاره في مرة ذهب لحضور ندوة للحزب الجمهوري وبالمناسبة هو الذي عرفني بمحمود محمد طه .. وفي تلك الندوة قال محمود محمد طه كلمته التي كان يرددها كثيرا ويقول بها بعض الصوفية وهي أن الإنسان يترقي إلى يكون الله وأثناء حديثه دخل شخص قبيح فقال: بابكر ممكن يكون ده ربنا .

وأيضا من نكاته أنه حضر وفد من الصحفيين المصريين لزيارة السودان فاتصل بهم وسألهم من قابلتم فقالوا له:قابلنا رجال حزب الشعب الديمقراطي ناس شيخ على عبد الرحمن (عليه رحمة الله) قل لهم:ما عملتم حجة ما ديل ناسكم البيجوكم في مصر قالوا له:نعمل أيه ؟ قال لهم:تقابلوا حزب الأمة ،الإخوان المسلمين ،الحزب الشيوعي .

والله عملتم زى خونا الدنقلاوي (بالمناسبة بابكر كرار دنقلاوي) ذهب إلى أمريكا بدل ما يتقن اللغة الانجليزية رتاح قعد مع الدناقلة في نيويورك ورجع لغته الدنقلاوية محسنة .

كان عبد الخالق محجوب صديقا لبابكر وتأثر به كثير وصحبته لبابكر أفادته كثيرا فقال لى:أنا الذي علمت عبد الخالق أن يقرأ الصحف الأجنبية التايمز اللندنية وغيرها في مرة استشارة عبد الخالق وقال له:أريد أن أرد على سيد قطب في بعض أفكاره قال:قلت له يا عبد الخالق:هل أنت عارف الفرق بين كلام الأستاذ سيد قطب والقرآن الكريم؟ أمكن تقول:عاوز أرد على الأستاذ سيد قطب تروح تقول حاجة مخالفة للقرآن تقع في مشكلة .

الأخ بابكر كرار ما يمكن أن يكون رجلا حزبي كما قال السيد الصادق المهدى بل هو رجل فنان وأنا كنت أقول له إنك غير حزبي وليس رئيس حزب إن الإنسان المفكر تضيق به الحزبية لذلك كثير من المفكرين يخرجون من الكنيسة الكاثوليكية ومن الحزب الشيوعي وبابكر لا يستطيع أن يتقيد بحزب لأنه يقول كلام ويمكن أن يغيره بعد أسبوع ولا يمكن أن يتقيد برأي وهو يفتخر بذلك أتي إليه أحدهم وقل له : بابكر أنا اقتنعت بكلامك الكنت تقوله قبل كم سنة قال له:أنا غيرت رأيي فيه.

إذا كان الإنسان نهم في القراءة تكون علاقته بالناس محددة بل إن كثيرا من الأكاديميين لا يحسنون التعامل مع الناس بغض النظر عن تخصصاتهم إلا أن بابكر كرار كان محبا للناس وللضعفاء وكان يقول:فلو خيروني ماذا يسمونني أحب أن يسمونني "خادم المسلمين" .

قال الأخ التجاني الكاذب عندما ذهب إلى العزاء في بابكر كرار أخذ معه والدته فقالت له والدته:وماذا كان يعمل صاحبكم هذا؟ قال له:ليس له مركز عمل مهم ثم قال لها:لماذا تسألي؟ قال له:ما في إمرأة في مدينة واد مدني إلا وجاءت تبكي عليه بكاء خاصا فهذه ساعدها في أبنها ،وهذه في أخوها،وتلك في زوجها ،إنه كان فعلا محبا للناس المساكين والضعفاء .

وأختم أخيرا: إنه كان من الناس النادرين الذين يتحدثون عن أزواجهم وكان يحب زوجته السيدة "سيدة" ويذكر فضلها عليه وحدثني الأخ عصام عبد الغفار وكان له استديو وسط الخرطوم قال:جاء بابكر كرار وقال لى:أريد منك أن تعمل أكبر وأحسن صورة لسيدة ولا تسألني كم تكلف .

أقول قولي هذا وأستغفر لى ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته