توفيق كنعان مسيحي دافع عن هوية فلسطين الإسلامية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٥:٢٢، ٢١ مايو ٢٠١١ بواسطة Elsamary (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
توفيق كنعان مسيحي دافع عن هوية فلسطين الإسلامية


بقلم:صبحي حديدي

مقدمة

كنعان: الفلسطينيون ينتمون بقوة لعمقهم الإسلامي نتاجا لهويتهم الحضارية

أعمال الطبيب والأديب والباحث والمؤرخ والأنثروبولوجي الفلسطيني توفيق بشارة كنعان (1882-1964) كانت -وينبغي أن تظلّ- ردّاً علمياً بليغاً ومبكّراً للغاية على الشعار الصهيوني الأشهر، والأشدّ تضليلاً وخبثاً وبذاءة في آن معاً "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

وهذا الردّ لا يبرهن على أنّ الشعب الفلسطيني موجود على أرض اسمها فلسطين فحسب (فهذه البرهنة تكفّل بها التاريخ على الدوام، سواء قبل إقامة دولة إسرائيل أم في أيامنا هذه بالذات) بل أيضاً على أنّ لهذا الشعب تاريخه الطبيعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي والأدبي والأسطوري والأركيولوجي والأنثروبولوجي.

وإذا كان هذا الشعب ينتمي بقوّة إلى عمقه العربي والإسلامي (حسب كنعان، المسيحي الأرثوذكسي) فلأنّ الفلسطينيين لا يزعمون أيّ نقاء عرقي، بل يفاخرون بأنهم جماع معقّد ناجح لثقافات بابلية وعمورية وآرامية وكنعانية وفينيقية وفرعونية وعبرانية وهيللينية وإسلامية.

وفي عشرات الدراسات التاريخية والإثنوغرافية المدهشة، وفي أطوار مبكرة من عشرينيات القرن الماضي، وصف توفيق كنعان سيرورات هذا المزيج العبقري الذي جعل من الممكن لأهل غزة أن يكونوا سمر الوجوه مثل سكان دلتا النيل، وأن تذكّر قسمات بعض سكان منطقة الجليل بملامح الـFrank الصليبيين من حيث الشعر الأشقر والوجه الأبيض والعيون الزرقاء، وأن تكون ملامح أهل أريحا صورة طبق الأصل عن الوجه البدوي الصحراوي النموذجي.

هوية فلسطين

آمن كنعان أن الغزو الصليبي ساهم في ترسيخ الهوية العربية الإسلامية لفلسطين (رويترز-أرشيف)

وفي كتابه الهام "قضية عرب فلسطين" الذي صدر أولاً بالإنجليزية وترجمه إلى العربية النهضوي العلماني المعروف سلامة موسى عام 1963، وصف كنعان أهمية الفتح العربي الإسلامي لفلسطين في القرن السابع، وكيفّ تعرّب الفلسطينيون سريعاً وعلى نحو بنيوي شامل، فولدت هويتهم العربية الإسلامية وترسخت أكثر فأكثر مع الغزوات الخارجية اللاحقة (الصليبية والعثمانية والغربية) دون أن تخسر هذه الهوية عناصرها التكوينية الأولى (الكنعانية والآرامية والهيللينية، وسواها).

ولقد أتيح لتوفيق كنعان أن يراكم تجربة غنية منذ السنوات الأولى لتفتّح وعيه بالبيئة الحضارية الزاخرة التي تحيط به، والتي تتجلى في جميع مظاهر الحياة اليومية الاقتصادية والاجتماعية.

ولد في بيت جالا، البلدة الفلسطينية التي تتّسم بتعددية مسيحية إسلامية مميّزة، ودرس في دار المعلمين بالقدس، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت، وتخرج فيها طبيباً عام 1905.

هذا الطور الأول في مراقبة المحيط الفلسطيني والعربي المجاور أعقبه طور العمل الطبي الميداني الواسع بعد تخرّجه وحتى عام 1947، حيث عمل في مستشفيات فلسطين، وترأس دائرة الملاريا التابعة لمكتب الصحة العام، وترأس دائرة المختبرات الطبية العثمانية، التي يمتد نشاطها من بئر السبع في فلسطين وحتى مدينة حلب شمال سوريا وقريباً من الحدود التركية، وتابع أثناء ذلك تعميق معرفته الطبية فدرس علم الجراثيم والأمراض الاستوائية وأمراض الدرن على يد أطباء ألمان.

معارف نظرية

"كتب توفيق كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة حافظ فيها على منهج علمي وبحثي متقدم للغاية وسابق لعصره"

وأتقن كنعان ستّ لغات (منها الألمانية والإنجليزية والفرنسية والتركية بالإضافة إلى العربية) فأتاح له ذلك أن يوسّع معارفه النظرية، وأن يكتب مقالاته في صحف بريطانية وألمانية وفرنسية.

وفي هذا الطور سوف تتكامل ملامح توفيق كنعان الأنثروبولوجي، وبالمعنى الدقيق لفروع هذا العلم الذي لم يكن قد دخل العالم العربي لأسباب تاريخية وثقافية (ذات صلة بالقراءة الدينية لأصل الإنسان والتكوين) واجتماعية (على رأسها أنّ العلم بدا "عنصرياً" وغربي التمركز في حديثه عن "الأقوام البدائية" كلما اتصل الأمر بشعوب آسيا وأفريقيا).

ففي فرع الأنثروبولوجيا الجسمية الفيزيقية Physical Anthropology وضع كنعان كتباً في الطبّ المحض (مثل "حبّة حلب، التهاب السحايا الدماغية والشوكية في القدس، عدوى الجذام") وفي علم اجتماع الطبّ أيضاً (مثل كتابه المدهش "الطب الشعبي في أرض الكتاب المقدس").

وله أيضا "علم النبات في الخرافات الفلسطينية" وكذلك "طاسات الرعبة العربية" التي تدرس تاريخ العلاقة الوثيقة بين العلاج المادي عن طريق التداوي بالأعشاب، وبين العلاج النفسي عن طريق توظيف رموز وأساطير الخرافة الشعبية، واستخدام التكنيك الشعبي المعروف باسم "طاسة الرعبة".

النور والظلام

ورغم أنّ هذين الكتابين يدخلان أيضاً في فرع الأنثروبولوجيا الثقافية، فقد كتب توفيق كنعان عشرات المقالات التي تناقش ظواهر أنثروبولوجية ثقافية مباشرة: النور والظلام في التراث الشعبي الفلسطيني، الطفل في الخرافات العربية الفلسطينية، الماء، "ماء الحياة" في الخرافات الفلسطينية، "اللعنة" في التراث الشعبي الفلسطيني، حلّ رموز الطلاسم العربية، "الينابيع المسكونة" وكذلك "الشياطين المائية" في فلسطين.

وفي هذه الدراسات والمقالات حافظ كنعان على منهج علمي وبحثي متقدم للغاية وسابق لعصره، يتفاوت عمقه من حيث نطاق الدراسة والأمثلة الميدانية، ولكنه يتشابه دائماً في حفاظه على المبادىء التالية:

1 ـ المزج التحليلي الذكي بين المعطيات الإثنوغرافية (الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة وأنساق التقاليد والقيم والمهارات والفنون والمأثورات الشعبية) والمعطيات الإثنولوجية (الدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية، واستخلاص تعميمات نظرية بصدد وجود -أو إمكانية وجود- نُظُم اجتماعية ذات ملامح مشتركة).

2 ـ البحث في الجانب الوظيفي من الظاهرات التي تبدو فولكلورية صرفة في الظاهر (الأزياء، الفنون الشعبية، الاحتفال بالأعياد...) ولكنها تكشف عن أغراض وظيفية نفعية ذات صلة مباشرة بالتأقلم مع البيئة، وعادات العمل، والحاجات الموضوعية، وتطوير نوعية الحياة المادية.

قال كنعان إن نصارى فلسطين صاروا الأشد كرها لبريطانيا بسبب إساءتها للمسيحية (الفرنسية-أرشيف)

3 ـ التركيز على إقامة الرابطة بين البُعد الفلسطيني المحلي والأبعاد الأعرض (العربية والإسلامية والمتوسطية) لمختلف الظاهرات التي يدرسها ميدانياً.

ففي دراسته للطلاسم، على سبيل المثال، كان كنعان يتعمد اختيار الأمثلة التي تبرهن على وجود جذور عميقة تشدّ الطلسم الفلسطيني إلى الموروث الروحي والتاريخي والبصري التشكيلي العربي، ثم والشرق أوسطي، فالمتوسطي.

4 ـ إبراز الخلفية التاريخية للظاهرات الأنثروبولوجية، بما يشدد دائماً على خصوصية الهوية الفلسطينية من جهة، والإمتزاج الغنيّ الذي اكتنفها على مرّ العصور، فمثّل بذلك حضارات وثقافات وديانات المنطقة، وتلك التي وفدت إليها مع مختلف الغزوات الخارجية.

التكوين الجغرافي والتاريخي

ونشاطات توفيق كنعان البحثية امتدت إلى الدراسات الجغرافية والطبوغرافية والأركيولوجية والمعمارية، فكتب العديد من المقالات حول طرق القوافل العربية الفلسطينية، وأهمية منطقة النقب في التكوين الجغرافي والتاريخي والاقتصادي لفلسطين قديماً وحديثاً، وطبوغرافية البتراء وخصوصيتها الأركيولوجية، وعمارة البيت الفلسطيني التقليدي، والأنساق المعمارية للمزارات الإسلامية ودلالاتها الروحية.

وأمام هذه الإنجازات الرفيعة، كان من الطبيعي أن يترأس كنعان "جمعية الاستشراق الفلسطينية" وأن يترأس تحرير مجلتها أيضاً.

وتبقى إشارة إلى الجانب النضالي في شخصية هذا الرجل الفذّ، أقدم طبيب عربي في مدينة القدس، والأنثروبولوجي الرائد الأول بلا منازع. وهذا، بدوره جانب حافل ومشرّف، سواء على صعيد التأليف والكتابة باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، أو على صعيد التعرّض للقمع المباشر جرّاء الانخراط في النضال العلني.

ففضلاً عن مقالاته الكثيرة في الصحف والمجلات، خصّ كنعان القضية الفلسطينية بثلاثة كتب أساسية "قضية عرب فلسطين" الذي سبقت الإشارة إليه، "الموت أم الحياة" وصدر بالإنجليزية عام 1908 ثم تُرجم إلى الفرنسية والعربية، "الصراع في أرض السلام" وظهر بالإنجليزية عام 1927.

بريطانيا والمسيحيون

"نحن المسيحيين العرب الفلسطينيين الذين حصل معظمنا تعليمهم في مدارس بريطانيا، وصرنا أكثر الفلسطينيين تعلقاً بالشعب البريطاني والآداب والسياسة البريطانية، أصبحنا الآن أشدّهم مقتاً وكرهاً لسياسة بريطانيا المنافية للروح المسيحية

توفيق كنعان

"وفي مقال نشره عام 1936 في صحيفة Daily Mail البريطانية عبّر كنعان عن خيبة أمل العرب (وخصوصاً المسيحيين الفلسطينيين المثقفين منهم) في بريطانيا، وقال: ومن دواعي العجب أنّ كلّ عربي، مسلماً كان أو مسيحياً، بدوياً أو فلاحاً أو مدنياً، متعلماً أو أمياً، أخذ يشعر بأن هذه السياسة (البريطانية) الظالمة تتهدد حياته ووجوده نفسه.

ومن عجب أنّ كلّ واحد قد أصبح يمقت هذه السياسة غير الإنسانية ويعمل كلّ ما في وسعه لتغييرها.

وتابع في مقالته تلك "ونحن المسيحيين العرب الفلسطينيين، الذين حصل معظمنا تعليمهم في مدارس بريطانيا، وصرنا أكثر الفلسطينيين تعلقاً بالشعب البريطاني والآداب والسياسة البريطانية، أصبحنا الآن أشدّهم مقتاً وكرهاً لسياسة بريطانيا المنافية للروح المسيحية".

بعد سنوات قليلة، وفور نشوب الحرب العالمية الثانية، سوف تقدّم له بريطانيا دليلاً إضافياً على خيبة الأمل الختامية القصوى: اعتقال كنعان مع زوجته وشقيقته بالتهمة الكاذبة الرائجة آنذاك لدى سلطات الانتداب (أي الدعاية لألمانيا الهتلرية) وزجّهم في سجن عكا.

ولم تكن مفارقة كبيرة أن يقتسم الطبيب والأنثروبولوجي والمؤرّخ المسيحي التهمة ذاتها مع الحاج أمين الحسيني...

المسلم والشيخ ومفتي القدس. وهاهنا أيضاً عثر توفيق كنعان على دليل إضافي لحقيقة كان يعرفها وكتب فيها الكثير: أنّ فلسطين ليست بالأرض الخراب المهجورة، وأنّ الفلسطيني الواحد المتعدد موجود... بمزدوجات أو من دونها!


موضوعات ذات صلة