حلاوة الإيمان ونور العبادة (شرح الأصول العشرين-3)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٣:٢٠، ١٣ مايو ٢٠١١ بواسطة Rod (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حلاوة الإيمان ونور العبادة (شرح الأصول العشرين-3)
أ. جمعة أمين


مقدمة

الإمام الشهيد "حسن البنا"

إن من نعم الله على المسلم أن يرزقه الله فهمًا لهذا الدين، فإذا رزقه الفهم رزقه العمل، وسار طريقًا كله نور يعرف معالمه؛ ولذلك أصرَّ الإمام البنا على أن يجعل الفهم الركن الأول من أركان البيعة، ووضع له الأصول التي نعرفها "الأصول العشرين"؛ لكي يوحد التصور والوجهة بين أفراد الجماعة.

الحقيقة إن الجهد الذي بذله الإمام البنا في أركان البيعة، وخاصة ركن الفهم، يستحق منا الوقوف طويلاً أمام هذه المعانى؛ لأن أي عثرة في الطريق أو زلل نتيجة سوء الفهم قد يؤدي بنا إلى طريق غير طريق الإسلام، وأريد أن أركز على ضرورة تحديد الاعتقاد السليم، والفهم الدقيق لهذا الدين، وكما بين الإمام البنا في الركن الأول شمول الإسلام وعمومه، ثم بين مصدر التلقي من كتاب وسنة، الركن الثالث وضع يدنا على أمرٍ من الأهمية بمكان، فليس الأمر أمر معارف فحسب، فحينما تكلمنا في الأصلين الأول والثاني، كانت معارف وعلوم وتحديد للمفاهيم، وهذا أمر ضروري بدأت به الآية: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ (محمد: 19)، ثم يأتي العمل: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ (محمد: 19)، هذا أمر لا نشك فيه؛ ولكن إذا كان الأمر يقف عند العلم والمعرفة، فالكفرة قال الله فيهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (لقمان: 25)، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (الزخرف: 78).


* العلم وأثره على القلب

إذًا ليس الأمر أمر تحصيل علوم ويبقى العقل مخزنًا للعلم والمعارف فحسب؛ بل لابد من نبض قلبي وحركة قلبية، ونور يملأ هذا القلب، وهذا هو الأهم من المعارف، أثر هذه العلوم في هذا القلب؛ لِيُنار بعلم الله، وإلا فهناك أناس قال فيهم ربنا: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 8)، ويستطيع أي إنسان أن يعطي محاضرة قيمة جدًّا، وتذكرون أنني قلت لكم في مرة سابقة: إنه ليس عند المسلمين من يسمى بمفكر إسلامي فحسب، مما يعني أن مهمته يفكر وفقط؛ لكن عندنا مفكر إسلامي تطبيقي، مفكر عملي يضع ما يفكر فيه موضع التنفيذ.. هذا هو المهم عندنا؛ ولذلك تجد استخدام القول دائمًا في القرآن فيه تحذير للمسلم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ﴾ (العنكبوت: 10)، قول باللسان.. ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 47)، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (البقرة: 204)، فمظاهر العلوم والمعارف والأقوال قد تؤدي إلى زعم الإيمان طالما أنها لم تتجاوز اللسان: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ (النساء: 60).. هذا زعم فقط لا أكثر ولا أقل؛ لكن نحن كمسلمين مؤمنون بتفاعل القلب بهذا الإيمان، وبتأثره به، نحن نريد القلب النابض بهذا الإيمان؛ ولذلك حينما جاء القرآن يستخدم القول قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83)، ولا يقول للناس حسنًا إلا صاحب القلب السليم؛ وهو ما يعني ربط القول بالعمل وبالحركة، "تبسمك في وجه أخيك صدقة".

وهنا لابد أن يكون هناك ترجمة لهذا العلم، تشترك فيه الجارحة كما يشترك فيه القلب النابض، الاثنان معًا، ومن هنا: "رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره"، و"رب عالم أضله الله على علم"، فالقلب النابض هذا قلب حي لاشك، حتى القول الذي نقوله لابد أن نصل به إلى رضا الله: ﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه: 109)، فحينما نقول وحين نتعلم، فإننا نبتغي رضا الله من هذا القول، والرضا موطنه القلب: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (الفتح: 18)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ (الأنفال: 70)، فإذن التركيز على هذا الجانب من الأهمية بمكان.. نحن نريد العبد المتبتل لله، نريد العبد القانت لله، نريد العبد الذي يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: 5)، مهما حصَّل من علوم، فهذه العلوم لتحقيق عبوديته لله رب العالمين؛ ولذلك نجد الرسول وأصحابه- رضوان الله عليهم وأرضاهم- تأثروا بهذا القرآن تأثيرًا عجيبًا، فكانت الآيات حياة لهم، يترجمونها حياة فعلاً؛ رهبان بالليل، فرسان بالنهار كما قالوا، ورأينا سيدنا عمر- رضوان الله عليه وأرضاه- يقرأ الآيات من القرآن فيصاب.. ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ (الطور: 8)..

يا الله، قرأناها مرارًا وتكرارًا، وما زلنا نصلي بها في ركعاتنا؛ لكن قرأها عمر فمكث في بيته شهرًا كاملاً يرتجف من الحمى التي أصابته، فكان هناك تجاوب بين الوحي وبين الصحابة، وبين الصحابة والوحى، حينما نزل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ (المؤمنون: 12- 14)، ووقفت الآية هنا وجدنا سيدنا عمر يقول: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 14)، فقال رسول الله: "هكذا نزلت يا عمر"، هذا هو تجاوب الصحابة مع الوحي: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ (الليل: 5- 7).

نحن لا نريد آلات صماء؛ بل تفاعل وانفعال، وهناك مثال على كتب التوحيد التي نقرؤها الآن مثل العقيدة الطحاوية وغيرها، يقرؤها الإنسان وينفعل، ويحاول أن يفهمها؛ لكن يتحسس قلبه فلا يجد أثرًا للقلب؛ لأن كل الكلام في العقيدة الطحاوية كلام عقلي، وما كانت العقيدة هكذا في يوم من الأيام؛ إنما هي انفعال قلبي ووجداني، أدركها العربي الأمِّي الذي لا يقرأ ولا يكتب، فانفعل بها.. انظروا أثر هذا الأمر في هذا الصبي البسيط الذي رآه عمر وهو يرعى الغنم، قمة التوحيد وقمة الخشية من الله، يراه وهو يرعى الغنم، فأراد أن يختبره، فقال له: "يا غلام، أعطنا غنمة نأكلها"، والغلام لا يعرف أن هذا أمير المؤمنين، قال له: "إنها ليست ملكًا لي، إنها ملك لسيدي"، فقال: "نأكلها، وتقول له: أكلها الذئب"، قال: "وأين الله؟!".. صبي في مجتمع عمر.. هذا هو التوحيد، هذه هي الخشية من الله، لم يأخذ محاضرات في العقيدة، ولا دَرَّسوا له توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات؛ ولكن تأثر بهذا الكلام وهذه التربية الإيمانية في داخل المجتمع، فكان هذا الصنف من الصبية الذين كانوا يسارعون للمشاركة في القتال، وقصة الصبيين اللذين تشاجرا وتصارعا أمام النبي- صلى الله عليه وسلم- ليفوز أحدهما بمشاركة الجيش في الغزوة، هذا هو الذي نسعى إليه.


* الدعاء مخ العبادة

ولذلك كان الدعاء مخ العبادة، والإنسان حينما يتبتل إلى الله ويدعوه، وعندما تنزل دموعه بالليل وهو يشعر أنه أمام القوي وهو الضعيف.. الغني وهو الفقير.. محتاج يسأل ويتذلل إلى الله ودموعه تسيل من خشية الله.. مخ العبادة لأنه استشعار بالضعف، واعتراف بالقوي، وإن الإنسان يلجأ إلى القوي، فكان الدعاء مخ العبادة، وكما يظهر من دعاء المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي؛ ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات..." إلى آخر الدعاء المعروف، وفيه تذلل وإخبات لله، وأثر الإيمان واضح في هذا التذلل؛ ولذلك كان ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26).

لكن بعدما وضح الإمام البنا هذا الجانب التصوري، ومصدر التلقي، وكيف نمحصه، وكيف نتلقاه بالقبول الحسن، وحتى لا يغرق الإنسان في المشاعر القلبية، فلابد أن يكون للمشاعر القلبية ضوابط؛ لأن المشاعر لابد أن تكون مربوطة بالشرع، "من أحب لله، وأبغض لله، وأخذ لله، وترك لله، فقد استكمل الإيمان"، فنحن نتحكم في مشاعرنا بأوامر الله، وضبط المشاعر يظهر في هذا الأصل؛ لكي لا يكون مصدرًا من مصادر التشريع، فالإلهام والرؤى كلها نواحي مشاعر؛ ولذلك فلا إفراط ولا تفريط، فمصدر التلقي هو الكتاب والسُّنة، والمشاعر الفياضة من الإيمان؛ لكن لا يمكن أن نستخرج حكمًا من حلم أو إلهام، وهذا الأمر كان يعالج انحراف الصوفية التي كانت منتشرة في مصر انتشار النار في الهشيم في ذلك الوقت، فهو يضع مضامين وضوابط للذين أنكروا الكتاب والسنة، وانحرفوا بعواطفهم، فيعيدهم إلى الأصل الثابت، ويؤكد لهم أن الأوهام أو الإلهام أو الرؤى ليست مصدرًا من مصادر الشرع الحكيم.


* خصائص الدعوة

والأصول كلها متداخلة مع بعضها، وتكمل بعضها بعضًا، ولا يمكن فصل واحد عن الآخر، والتقسيم هنا للتعلم وتحكيم الفهم؛ لكن الواقع أن الإسلام كلٌّ متكامل، والرسول- صلى الله عليه وسلم- علمنا أن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ بل إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه لا يستطيع أن يضيف أو يحذف: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ* لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة: 44- 47)، وقال له: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الزخرف: 43)، وحذره: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: 49)، وقال له: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (الشورى: 15)، وخصصت هذه الدعوة بعدة خصائص هي:

- ربانية المصدر.

- شمولية المنهج.

- عمومية الرسالة.

- عالمية الدعوة.

- أخلاقية الوسيلة والغاية.

- جهادية الطريق.

فكانت السنة هي التطبيق العملي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهذا الدين الحنيف؛ ولكن أين من قال الله تعالى فيهم: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات: 17- 18)؟ وأين العينان اللتان لا تمسهما النار: "عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله"؟ وأين السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟ فنحن في أمس الحاجة إليهم الآن؛ لأننا في مجتمع مادي فُرض علينا فرضًا، ومسَّنا بفكره، وينقصنا هذا الجانب التعبدي لله سبحانه وتعالى.. الأيدي المتوضئة، والعيون الدامعة، والجفون المتقيحة، من الوقفة بين يدي الله ذليلةًً، فهذا هو الذي نصر المسلمين الأوائل؛ فأين هؤلاء؟ وأين: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ (التوبة: 112)؟

وهذا الركن يتحدث عن هذا الجانب الإيماني وأثره في قلب المؤمن، وأين هذا الأثر وهو ما نسميه الآن التربية الإيمانية، والجانب الإيماني هام جدًّا، فنحن ننتصر بضعفائنا، وننتصر بالسُّجَّد الركع، وننتصر بـ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 54)، ننتصر بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ (المائدة: 54)، فهذه هي أدوات النصر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45).

والإمام البنا يركز على هذا الجانب في بداية هذا الركن، وتُبيِّن لنا السُّنة اهتمام الصحابة بهذا الأمر، وتسابقهم إلى الخيرات عملاً بقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: 148)، ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ (الحديد: 21)، ولننظر إلى عكاشة بن محصن- رضي الله عنه- عندما سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب"، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن أكون منهم، فقال: "أنت منهم"، فقام رجل آخر وقال: وأنا يا رسول الله، فقال: "لقد سبقك بها عكاشة".

والإنسان تستهويه هذه المشاعر فيقرأ من آن لآخر في العلم المجرد، ويذهب إلى "الترغيب والترهيب" و"حياة الصحابة" ليرى مواقفهم الإيمانية الجميلة التي تمثل زادًا على الطريق، يجعل نظرة الإنسان للطغاة كأحقر ما يكونوا في أعينه، هذا الإيمان يثبت الله به الأقدام؛ ولننظر إلى بعض الفقراء الذين جلسوا يفكرون في حالهم مع الأغنياء الذين يصلون كما يصلوا هم، ويصومون كما يصوموا، وظنوا أن هؤلاء الأغنياء سيفضلون عليهم بالإنفاق في سبيل الله، وهم ليس لهم ذنب في ذلك؛ فذهبوا للرسول- عليه الصلاة والسلام- يقولون له: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور (أهل الدثور يعني أهل الأموال)؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، وينفقون بفضل أموالهم. فيقوم الرسول- عليه الصلاة والسلام- يمسح على الصدور ويقول:"أليس لكم في كل تسبيحة صدقة، وفي كل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"، فهم مشغولون بقضية القرب إلى الله، فإليه المنتهى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى﴾ (النجم: 42)، ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).

وللدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (الإيمان) تعريف لطيف جدًّا للإيمان جمع هذه المعاني؛ حيث يقول: الإيمان عمل نفسي، يبلغ أغوار النفس، ويحيط بحواسها كلها من إدراك، وإرادة، ووجدان، فلابد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي في الواقع، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي المعصوم، ولابد أن يبلغ هذا الإدراك الجزم الموقن أو اليقين الجازم، الذي لا يزلزله شك، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات: 15)، ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبي وانقياد إرادي يتمثل في الخضوع والطاعة والرضا والتسليم: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).

وهذا التعريف لمعنى الإيمان جمع كل هذه المعاني من المعارف والإدراك والحركة القلبية للمؤمن؛ ولذلك: ﴿قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ (الحجرات: 24)، فأنتم تؤدون المظاهر فقط.. لكن أين الأثر القلبي؟ ويوم أن جاء فريق من الأعراب يمُنُّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهذا الإيمان نزل قول ربنا: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات: 17).


* حلاوة الإيمان

وللإيمان حلاوة يذيقها اللهُ للعبد القانت لربه، الواقف بين يديه ركوعًا وسجودًا، ولا أقول حلاوة معنوية؛ بل هي حلاوة مادية، يجد لها مذاقًا يتذوقها، وسلوا قوَّام الليل، وسلوا هؤلاء الذين ذاقوا هذا الطعم، والرسول- صلى الله عليه وسلم- بالرغم من أنه المبيِّن، كما جاء في مهامه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2)، وبالرغم من هذا التعلم، إلا إنه كان ينصح الصحابة من آن لآخر لغرس هذه القيم في النفس؛ حتى لا يكون علم مجرد، ولنسمع إليه وهو ينصح معاذ بن جبل فيقول: "يا معاذ، أوصيك باتقاء الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ولزوم الإيمان، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة والجزع من الحساب، وخفض الجناح؛ وأنهاك أن تسب حكيمًا، أو تُكذِّب صادقًا، أو تطيع آثمًا، أو تعصي إمامًا عادلاً، أو تفسد أرضًا؛ وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومضر، وأوصيك أن تُحدِث عند ذنبٍ توبةً، السر بالسر، والعلانية بالعلانية"، ولننظر لهذا الحديث الجامع.. حديث لو وضعه الإنسان أمامه لكفاه، ولينظر كل إنسان إلى كل صفة فيه، وأين هو منها؛ حتى نأتي الله بقلب سليم: ﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 89)، قلب ذاق لهذا الإيمان طعمًا خالصًا لله، يتوقى الشر ويسرع إلى الخير إسراعًا.. إن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سأل أُبي بن كعب- رضي الله عنه- عن التقوى، فقال: "يا أمير المؤمنين، أما سلكت طريقًا ذا شوك؟"، قال: "بلى"، قال: "فما عملت؟"، قال: "شمرت واجتهدت".. تشمير عن المعاصي واجتهاد في الطاعات. الإمام ابن القيم يقول: "إن أولى مراحل العبودية هي اليقظة"، وعرف اليقظة بأنها "انتباه القلب من رقدة الغافلين"، فيبقى الإنسان دائمًا في يقظة، يطرد كل أمر يعوقه عن طاعة الله، حتى الخاطرة التي لا يحاسب عليها.

فالخواطر نحن لا نحاسب عليها؛ لكن المسلم يترصد الخاطرة ليطردها من بؤرة تفكيره حتى لا يفكر فيها؛ لأنه إذا همَّ بالمعصية عملاً يُحاسَب عليها؛ لكن أن تكون خاطرة في ذهنه، فلا حساب عليها؛ لكن توجد خواطر تشغلنا بإسلامنا، وما الأذان الذي نسمعه الآن إلا ورود لخاطرة عند صحابي سبقه الوحي بها، انشغل بأمر تنبيه الناس للصلاة، وفكر في وسيلة؛ فهل ندق ناقوسًا أم ننفخ في قرن؟ فأُلهم وسمع هذا الأذان، وذهب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرض عليه هذه الكلمات لينادي بها للصلاة، فقال له: "قد سبقك بها جبريل"، وهذا التجاوب من صفاء النفس، وهي أمور حقيقة؛ حيث يشعر الإنسان بحساسية الضمير، وشفافية الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم.

ولننظر لقول أبي بكر- رضي الله عنه-: "لو كانت إحدى قدميَّ في الجنة والأخرى خارجها، ما أمنت مكر الله"، والمصطفى- صلى الله عليه وسلم- يقول:"وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب"، وأيضًا: "فاطلعت على أهل النار فوجدت أكثر أهلها النساء"، وهذا الحديث فيه تكريم من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تكون المؤمنة القانتة على حذر دائم، فيحفزها ذلك على زيادة العمل والاجتهاد في الطاعات؛ والإنسان الذي يصبو إلى صحبة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ويكون من الوجوه الناضرة، إلى ربها ناظرة، لا يستثقل الطاعة: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة: 45)، ويكون على حذر دائم، وكما قال ابن تيمية: "العبودية هي كمال الحب، وكمال الذل، ولا يجتمعا إلا لله"، فلا يجتمع الحب مع الذل البشري؛ لكنهما يجتمعان لله (كمال الحب وكمال الذل)، فكلما ذل الإنسان لله وخشع له أحبه، فيزداد ذلاًّ وخضوعًا لله.


* الصدق مع الله

لذلك وجدنا في هذا المنهج الفريد فئة ترجمان القرآن العابد لله، والمحدث الدقيق وعالم الفرائض وأصحاب السير، وحفظة كتاب الله والمفسرين له، وكل هؤلاء قلوبهم نابضة، وكذلك العلوم الطبيعية كالطب والهندسة والفيزياء والرياضة، وكل هذه العلوم أصبحت ملكًا للمسلمين بعلماء عُبَّاد لله، وصدق الإمام البنا حين قال: "كونوا عُبَّادًا قبل أن تكونوا قُوَّادًا؛ تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة"، وهذا الكلام أثبته التاريخ، وقراءة بسيطة جدًّا وموضوعية لتاريخ الجاهلية الأولى، ونرى الصحابة- رضوان الله عليهم وأرضاهم- أصحاب العيون الدامعة، الذين هانت عليهم الدنيا حتى يقول بعضهم: "أبَيْني وبين الجنة تلك التمرات؟! والله إنها لحياة طويلة"، وكذلك من صدق مع الله وجاء بالغنيمة ونصيبه منها قد حدده المولى- عز و جل- ولكنه يقول للرسول- صلى الله عليه وسلم-: "ما على هذا اتبعتك"؛ أي إنني لم أتبعك لكي تعطيني من الغنيمة؛ وهو ما يؤكد أنه ذاق للإيمان طعمًا فيه حلاوة، أو أنه رأى الجنة رأي العين، فسعى لها سعيها، فيقول للرسول- صلى الله عليه وسلم-: ما على هذا بايعتك. قال: "علام إذًا؟!"، قال: على أن أُرمى بسهم هنا وسهم هنا، وعلى أن تنحر سالفتي. قال:"إن تصدق الله يصدقك"، وبعدها يأتي به الصحابة محمولاً على الأيدي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيقول: "أهو هو؟!"، فيقولون: هو هو يا رسول الله، قال: "صدق الله فصدقه".

ولقد رأينا هذا الصنف من الناس، وإن كانوا لم يصلوا إلى درجاتهم بالطبع؛ لكن والله رأيناهم رأي العين في السجون؛ رأينا الأخ المتبتل لله، الدامع العينين، الخاشع لله، الذليل أمامه، القائم الصائم، وكذلك مَن وضع في زنزانة فيها سبعة كلاب، ويمازحه أحد الإخوة ويقول: كيف قضيت ليلتك؟! فيقول: نِعم تدبير الله، فهذا اختيار الله لي، فنعم الاختيار؛ والله لقد بِتُّ ليلةً آمنة.. فمن الذي أخضع هذه الكلاب التي كان مفترضًا أن تنهش لحمه، فأصبحت ذليلة أمامه؟! أليس هو خالقها؟! فلنذق طعم وحلاوة الإيمان حتى إذا أدبرت الدنيا هانت في أعيننا.

ويعبر أحد الإخوة عن البلاء تعبيرًا لطيفًا فيقول: "يُِستعذب العذاب في سبيل الله"؛ أي يجد في العذاب عذوبة الماء البارد؛ لأنه في كنف الله. وهنا أذكر قصة حدثت معنا في السجن: جاء أحد المجرمين في عام 1965؛ وهو فؤاد علام.. وسيأتي اليوم الذي فيه: ﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً﴾ (الفرقان: 27- 29)، وكنا مجموعة من الإخوة، تم عزلنا، وكنا حوالي 115 شخصًا، عزلونا عن الإخوان، ووضعونا في عنبر آخر، وأطلقوا عليه اسم "عنبر العزل"، أو "عنبر المعزولين"، وكان لنا معاملة خاصة؛ حيث لا توجد طوابير، ولا يوجد اتصال بالإخوان الآخرين؛ وفي ليلة من الليالي جاء هذا الطاغي، وأرسل إلى أحد الإخوة الكبار، وقال له: قل لإخوانك يجهزوا أنفسهم؛ لأنه سيتم ترحيلهم إلى الواحات الخارجة، فقال له: سأفعل، وتركه وذهب؛ فجُن جنونه وقال له: هل سمعت ما قلته لك؟! فقال له: سمعتك جيدًا يا فؤاد يا علام، لقد قلت لي: قل لإخوانك جهزوا أنفسكم؛ لأنكم سوف تُرحلَّون إلى الواحات؛ أليس كذلك؟ وأنا من غير ما تقول عارف الواحات التي تقصدها أنت؛ ولكنني سأريحك يا فؤاد يا علام إن استطعت أن تحبس ربنا هنا مثلما تقول، فلا تأتنا به هناك! ولكني أقول لك: أما وإنك أعجز من أنك تقوم من على هذا الكرسي إلا بإذن الله، فإن الذي حمانا منكم هنا قادر أن يحمينا هناك؛ فبُهت فؤاد علام!

فالإيمان يثبت الأقدام ويطمئن الإنسان، والأمل لا يأتي إلا بالإيمان، وكان أحد الإخوة يضحك قائلاً: "اعمل لمعتقلك كأنك لن تخرج أبدًا، وثق في الله أن تتصل بأهلك كأنك تخرج غدًا"، ثقة في الله تعالى، حتى إن أحد الإخوة عندما سمحوا لنا بالجرائد، فكان يضحك مع الأخ الذي يوزع الجرائد، ويقول له: اعطني الجريدة لنرى وفيات اليوم، ثم ينظر في مانشيت الصفحة الأولى ويقول لأخيه: خد يا بني، ما لم أجد ما أبتغي؛ فيضحك الأخ وهو يعلم ما يقصده، يقول له: يا أستاذ، الأموات في الصفحة الأخيرة، يقول له: لا، يا بني من أنتظره سيأتي في الصفحة الأولى، حتى جاء ما يبغيه، فقال له: يا أستاذ، فرد عليه: نعم؟ فقال له: لقد جاء الخبر.. ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ* وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ﴾ (إبراهيم: 45)، والحق يقول: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ (إبراهيم: 47)، هذا لا يأتي من العلم؛ ولكن يأتي من جذور الإيمان في قلب الإنسان.

نحن فقط نستبطئ النصر، ولا نستطيع أن نقف بصدق مع أنفسنا: أين نحن من الله؟ بصدق رجالاً ونساءً، الدنيا تجذبنا، طال علينا الأمد، فقست القلوب؛ إنما نحن في أمسِّ الحاجة إلى من قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الحج: 35)، وهم من كانوا.. يشربون الخمر، ويلعبون الميسر، ويأكلون الربا، عابدو الصنم والوثن، وأصحاب بيوت الدعارة التي كانت تطوق مكة، ينصب عليها رايات كما قالت السيدة عائشة، وكانت المرأة تطوف عارية كيوم ولدتها أمها، انظر كيف صنع منهم خير أمة أخرجت للناس، بصفاء العقيدة، ونداوة القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس.

وهذا هو الجانب الذي يجب أن نركز عليه، ونربي عليه الأفراد؛ ولذلك قد يتفاوت الأفراد علمًا، واحد أُعطي له فقه، وآخر له تاريخ، وثالث سِيرة، ورابع مصطلح حديث؛ لكن لا يسمح أن يكون هناك تفاوت أبدًا في الأخلاق والإيمان؛ لأن ربنا يقول: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 173)، وتلك هي صفات حزب الله، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾ (الفرقان: 63)، المهم هو أن نتذوق حلاوة الإيمان، وأن يجتهد العابد لكي يجد هذه الحلاوة؛ لأن الغريب في الأمر أنه كما تشعر الأبدان بالسقم والصحة، تشعر القلوب بالسعادة والشقاء؛ حيث يحس الإنسان بالسعادة والشقاء من نبض القلب؛ لذلك يعرِّف الإمام ابن القيم السعادة بقوله: "أطباق السعادة ثلاثة: إذا أُنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر"، هذه هي أطباق السعادة التي حددها ابن القيم- رضوان الله عليه وأرضاه- فقد يشقى الإنسان بالمال والجاه والسلطان، وقد يسعد مع الفقر وقلة المال والولد؛ لكن لو امتلأ القلب بالايمان وصدق الله: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ (طه: 123- 124)، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97)، والتعبير العجيب: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ بالتأكيد فلنحيينه حياة طيبة..

لما جاء الرجل يسأل الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن أخاه أصيب في بطنه، قال: "شرّبه عسلاً"، فشربه العسل وعاد، وادعى أنه لم يُشف عدة مرات، قال له: "صدق الله، وكذبت بطن أخيك"، ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (النحل: 69)، وأنا لي تجربة أقولها عمليًّا؛ حيث جاءتني حساسية شديدة جدًّا في عيني، ما تركت طبيبًا عندنا إلا ذهبت إليه، وفي يوم من الأيام كان يزورني أخ كريم، فسألني.. فقلت له: حدث كذا وكذا، قال لي: أدلك على الشفاء؛ ضع نقطة عسل نحل في عينك، فدعني أنا أحضر لك العسل الذي أطمئن على صفائه، وأنه جاء من مصدره الرباني، وأحضر لي زجاجة، وقال لي: ضع منها، فجئت بالليل وزوجتي خائفة عليَّ، فقلت لها: سأضع عسل نحل، فاقترحت عليَّ أن أضع في عين واحدة، قلت لها: لو وضعت في عين واحدة تبقى تجربة، ولابد أن أضع في الاثنين؛ لأنني متيقن، وتوضأت، ووضعت العسل، ووضعت نقطة هنا ونقطة هنا، ونمت.. سلمت أمري لله، وإذا بالعين كالمرجل، وكأنها تغلي، لدرجة أنني خشيت أن يكون حدث شيء في العيون؛ لكن اليقين ملأني، ونزَلَت مياه بغزارة على خدي ساخنة جدًّا، وعيني راحت في النوم ونمت، قمت على أذان الفجر وتوضأت؛ لكي أنزل لصلاة الفجر، وإذا بعيني قد برئت، ولا أثر للمرض، وطبعًا أنتم تذكرون أن عالمًا روسيًّا كتب كتابًا عن الشفاء بعسل النحل، وعندما حيل بين العين والشفاء، لجأنا إلى ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (النحل: 69)، فشفانا المولى..

إذًا الوقفة والتلقي القلبي من المدرسة من المكان الذي يتخرج منه الرجال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ﴾ (النور: 36)، ماذا؟ ﴿رِجَالٌ﴾.. ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ (النور: 37). انتبهوا.. فتلك هي الوسائل التي توصل لمذاق الإيمان في الوصية التي قدمها الرسول- صلى الله عليه وسلم- لسيدنا معاذ في وصيته، وهذا حديث آخر يقول فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا أؤتمنتم، واحفظوا فرجوكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم" (حديث صحيح)، وتطهير للداخل والخارج، للباطن والظاهر، وإذا كان الإنسان سيتطهر باطنًا وظاهرًا فإنه يصبح من أصحاب القلب السليم، اسمعوا الكلام الذي قاله قتادة- رضوان الله عليه وأرضاه- يقول: "خلق الله الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وخلق الإنسان عقلاً وشهوة، فمن سبقت شهوته عقله فهو مع البهائم، ومن سبق عقله شهوته فهو مع الملائكة".

عقل يتحكم، منساق إلى طاعة الله- عز وجل- لكي تصبح نفسه مطمئنة، يناديها ربها من علٍ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (الفجر: 27- 28)، يقول ابن عباس: نزلت وأبو بكر جالس مع رسول الله، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا! فقال: "أما إنه سيقال لك يا أبا بكر، سيقال لك هذا".

تأمل البشارات.. أناس من أهل الجنة يعيشون على الأرض، أيُّ نعيم! هذه الثقه قد يتصورها العقل المجرد غير مضبوط الإيمان بأنها يجب أن تعقب براحة طالما بُشروا بالجنة، وهذا منطق العقل المجرد المُفلس؛ لكن الأمر ليس كذلك، هؤلاء الناس يريدون أن يضاعفوا العمل بالرغم من أنهم ضمنوا الجنة: ﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: 31)، يريد مزيدًا من الحب، مزيدًا من القرب؛ ولذلك كان من دعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- الذي وصى به أحد الصحابة قال له: "قل اللهم إني أسألك نفسًا بك مطمئنة؛ تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك"، يقول محمد بن عمرة: وكان من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لو أن رجلاً خرَّ على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله- عز وجل- لحقره ذلك اليوم، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب‏"‏‏، تأمل فضل الله- عز وجل- وراقب الناس الذين ذاقوا طعم الإيمان، أنا حقيقةً أريد أن أوجز بعد هذا الإطناب في هذا الجزء من الإيمان، ومن سرد الوسائل التي تذيق المؤمن هذا الطعم، ما بالكم لو انتقلنا إلى التفكر!


* عبادة التفكر

التفكر في خلق السماوات والأرض، في هذا الكون وقدرة الله- عز وجل- القادرة.. اجعل لنفسك وقتًا تتخلى فيه مع ربك.. دقائق.. من السنة أن الإنسان إذا قام بالليل يقلب وجهه في السماء ويقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 190- 191).

ربنا- عز وجل- خلق كونًا عجيبًا، والذي سمع منكم الدكتور زغلول النجار، ورأى مواضع العلماء؛ وهو من الإخوة الأفاضل الذين كنا نسمع منه هذا العلم من سنوات بعيدة، وكان الإنسان عندما يسمع هذا الأمر تبكي عينه، ويستشعر قدرة الله.. ما نقوله قشور؛ فما بالكم بمن غاص في أعماق الكون علمًا، ويقدم آيات الله من خلال العلم، وكم من كفرة آمنوا حين عُرض عليهم هذا الأمر! إن كانوا بعقولهم التي سلمت علمًا؛ لكن والله لولا نبضة القلب عندهم ما آمنوا؛ لأنه: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف: 105)؛ لكن ربنا إذا أحب عبدًا فتَّح له القلب، فيتلقى به، ويصبح النور، وتطمئن القلوب، ويصبح وليًّا من أولياء الله، الذين قال الله فيهم في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته" (صحيح البخاري).

هل بعد ذلك الإنسان يخاف من بشر: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ (الزمر: 36)، ومن أجل ذلك فعندما أمر ربنا برجال أُحد من الجرحى، وقال: ارجعوا في حمراء الأسد للحرب لم يخافوا عندما عرفوا أن هذا أمر الله؛ ولكن استبشروا والقرآن نقل لنا إحساسهم من داخلهم، وقال: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران:171- 173)؛ فماذا كانت النتيجة؟ ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ (آل عمران: 174). آيات تهز كيان الإنسان من داخله وهو يتذوقها؛ لذلك هناك تعبير لابن تيمية يشعرك باطمئنان النفس وراحة البال في الدنيا، يقول ابن تيمية: "للمؤمن جنتان؛ جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، حُرم جنة الآخرة من لم يدخل جنة الدنيا".. وجنة الدنيا ندخلها بالطاعة، بالإيمان، بالإخبات إلى الله، بالخشية منه، بالركوع، بالسجود، بالاستغفار، بالتوبة النصوح، ولا يزال العبد يخرج من طاعة إلى طاعة، فإذا به يرزق الرضا والسكينة وطمأنينة النفس، وطهارة القلب، وسعادة الدنيا، وغنى النفس، وكل هذا في عينه لا قيمة لها البتة، لو كانت الدنيا تساوي جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء، لا قيمة لها، دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له.

وهذه ليست دعوة للفقر؛ إنما الذي يجمع للآخرة مطلوب أن يكون مالك للدنيا كلها، مالكها.. لكن تبقى في يديه؛ لأن الذي يجمع لها تدخل في قلبه، فإذا دخلت القلب عُبدت، وإذا كانت في اليد أُنفقت، وتعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، بالعكس الغني الشاكر عند الله أحب إلى الله من الفقير الصابر، فترتفع همة الجماعة ممن يقولون همتنا فترت؛ ماذا نعمل عندما تجذبنا الدنيا؟ وكأن الرسول لم يبين، وما ذنب الطبيب إذا حدد لك المرض وأحضر لك الدواء، وحدد لك الجرعات، ثم أبيت أن تأخذه؟ ما ذنبه؟!


* السعادة

الحكيم العليم الرءوف الرحيم دلَّك على سعادة الدنيا قبل الآخرة، وحتى النصر وعد ربنا به في الدنيا قبل الآخرة: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أين؟ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ (غافر:51)، ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾، شرط ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: 55).. يا الله! بالله عليكم استشعروا حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- يدلنا نحن الملأى بالخطايا والذنوب، نحن الذين تجذبنا الدنيا ويمسنا الشيطان بمسه، بالله عليكم كيف الحال عندما تشعر أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يدلك على أمر عجيب؛ وهو أن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ويقول:"ألا هل من مستغفر فأغفر له، ألا هل من تائب فأتوب عليه، ألا هل من سائل فأعطيه"، إنه الله المبسوطة يده بالليل ليتوب مسيء النهار، والمبسوطة بالنهار ليتوب مسيء الليل، فاتح باب التوبة على مصراعيه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِن كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ* وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الزمر: 53- 61).

آيات تتنزل بردًا على قلب المؤمن؛ فلا يقنت من رحمة الله عندما يستشعر أن ربنا- عز وجل- يبدل السيئات حسنات: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا﴾ (الفرقان: 70)، ما مصيرهم؟ ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ (الفرقان: 70)، أي غنى من الله وعفو، أي فتح باب للإسراع إليه، له أن يقول فعلاً: وسارعوا، وسابقوا.. ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 88- 89)، والحديث عن مذاق الإيمان وحلاوته يأخذنا للحديث عن مدارس التهذيب عند بعض الصوفية، فليست الصوفية بكلياتها يُلقَى بها في سلة المهملات، فيهم أناس تكلموا عن أحوال النفس وتهذيبها، وحسن الصلة بالله- عز وجل- وتصغير الدنيا في عين الإنسان، والوقوف بين يدي الله مناجيًا ربه ومستغفرًا.

يقول ابن عطاء السكندري: شكوت همومي وأحزاني إلى العباس المرسي فقال لي: أحوال العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. فإن كنت في النعمة فمقتضى الحق منك الشكر، وإن كنت في البلية فمقتضى الحق منك الصبر، وإن كنت في الطاعة فمقتضى الحق منك شهود مِنَّتِهِ عليك، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجوب الاستغفار.. يقول ابن عطاء السكندري: فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبًا نزعته.. كأن الهموم والأحزان ثوبًا نزعه بعد ما قال له هذا الكلام الطيب. ويقولون: إن من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، الإنسان الذي تشرق بدايته نورًا ويستمسك تكون نهايته هذا النور، ولن تشرق البداية إلا حين يكون النداء إليك محببًا في حضرة المولى جل وعلا.

يقول الإمام جعفر الصادق: إذا سمعت المولى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الأحزاب: 9)، فاصغ إليه، فإنما هو أمر أو نهي.. فإذا كان أمرًا أتينا به، وإذا كان نهيًا انتهينا عنه، ويقول: وإجابة ذلك على الحقيقة ثلاثة: تصديقه، والعمل به، وإرادة وجهه بالعمل به، واعلم أن أصل كل معصية وشهوة وغفلة: الرضا عن النفس.

وكيف أعرف أنني راضٍ عن نفسي؟ قال: وعلامة ذلك هي رؤية الحق لنفسه، والشفقة عليها والإغضاء عن عيوبها، تشفق على نفسك وتغمض عينك عن العيوب التي تأتي بها، وأصل كل طاعة وعفة ويقظة عدم الرضا منك عنها، وعلامة ذلك اتهامها والحذر من آفاتها وحملها على المكاره في عموم أوقاتها.


دلائل حب الله

إذا عاش الإنسان بهذا الإيمان، يصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، فيتقبل الله- جل وعلا- منه القبول الحسن، وينادي: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، فينادي جبريل في ملائكة السماوات: يا ملائكة الله، إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيجبه أهل السماء، ثم ينزل الله له القبول على الأرض، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم: 96)، هذه في الدنيا، وأيضًا فضل الله ورحمته عند الموت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30)، دائمًا الإنسان الذي يذهب إلى بلد مجهول ولأول مرة يهابه، كمن يذهب لأول مرة إلى أمريكا أو أوروبا، يهاب المكان إن لم يجد من يؤنسه؛ فما بالك بربنا جل وعلا، الذي كلامه كله يقين عندما يريد أن يزيل مخاوف إنسان ذاهب إلى مجهول، ذاهب إلى قبر وهو في الغرغرة لم يمت، تتنزل عليه الملائكة وتقول له: ﴿أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30)، يرى موضعه من الجنة قبل أن تصعد الروح إلى خالقها؛ أيّ بشارة هذه، وأي اطمئنان نفس، وينزل إلى المقبرة، وتسأل الملائكة عبدًا كان يقول ربي الله، تدافع عنه الصلاة والصيام والزكاة وأعماله الصالحة، يعيش في روضة من الجنة، وعندما يحين: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ* وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ* وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (الزمر: 68-70)، تأتي لحظات الفرح.. ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ (الزمر: 73)، لست وحدك، أحباؤك معك؛ لأجل أن تظل هذه الرابطة موجودة: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ (الطور: 21)، راحة نفسية، وسعادة في الدنيا والآخرة، وملائكة يستغفرون لك: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ (غافر: 7).

ربما يسأل سائل: كيف يحبنا ربنا؟! ما دلائل هذا الحب؟ ربنا سبحانه يطمئن العبد، ويعطي له معالم يشعر بها أن ربه- جل وعلا- يحبه.. أليس هو الذي يقول: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 7)، فكلما أحببت الإيمان يكون هذا دليل حب الله لك، وإذا كان ربنا يحب عبدًا وأنت تصاحبه: ﴿قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء: 84)، فإذا كانت هناك الصحبة الطيبة: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ (الكهف:28) كان هذا دليل حب الله لك، وأن تتبع الحسنة بحسنة، وأن تتبع الطاعة بطاعة أخرى.. هذه دلائل تدل على حب الله للعبد، وهذا من فضل الله عليه.. يعرف العبد منها أن ربنا يحبه - كما قلنا- حين يحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، فكل عمل فيه طاعة وقربى إلى الله- جل وعلا- يجد له حبًّا في قلبه، وكل أمر يبغضه الله- جل وعلا- تجده يبغضه هو أيضًا ويكرهه.

يؤلف بين قلبه وقلب الصالحين من عباده، وهذا دليل من دلائل حب الله له، وهو أمر ليس بسيطًا.. سيدنا عمر يقول: "لولا ثلاثة ما أحببت البقاء: لولا أن أُحمَل على جياد في سبيل الله، ومكابدة الليل (يعنى قيام الليل)، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تُنتقى أطايب الثمر".. أحد ثلاثة لولاهم لا يريد الدنيا، ابنه عبدالله ردَّد نفس المعنى، وقال: "والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حبٌّ لأهل طاعته ولا بغضٌ لأهل معصيته، ما نفعني ذلك شيئًا".

وكوننا نجد أنفسنا نحب بعضنا بعضًا، فهذه الألفة ليست باجتهاد العبد، ولا من صناعته، هذا من صناعة الله- جل وعلا- لأنه هو الذي قال: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ﴾ (الأنفال: 63).. الشعور دائمًا عند الإنسان بأنه كلما فعل طاعةً ينعم الله عليه بنعمة، فيشعر أنه لم يوف الله شكرًا.. كل ما وُفِّق إلى طاعة يشعر بأن هذه الطاعة تستحق شكر الله، هذا الشعور إذا انتابه دليل على حب الله له أيضًا، ويوفقه الله إلى التوبة النصوح؛ لأن ربنا يعلم أن عباده يخطئون: "لو لم تخطئوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يخطئون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم"، والإنسان الذي يذنب ثم يشعر بأن الله- عز وجل- وفقه للتوبة من هذا الذنب، فهذا دليل من أدلة حب الله- جل وعلا- له، فهو غافر الذنب، وقابل التوب، أيضًا مزيد العلم والفقه، و"من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، كل ما يشعر بأن لديه فقهًا في دينه يكون هذا أيضًا دليل من الأدلة التي تدل على حب الله- جل وعلا- له؛ لأن الله يعطى الدنيا لمن أحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، أيضًا صلاح البال وطمأنينة النفس.. ربنا يقول في سورة محمد: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ (محمد: 1- 2).

وكانت جدتى تدعو لي وأنا صبي بدعوتين لم أشعر بهما إلا عندما كبرت وتفقهت في الدين، كنت دائمًا تقول لي: ربنا يريح بالك يا ابني. وكنت أحزن؛ فما هو صلاح البال؟ ثم تكمل: ربنا يسترها معك، فكنت أمتعض: ما هذا الدعاء؟! ثم وجدت ربنا- عز وجل- ذكرها في القرآن يمن بها على المؤمنين: ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾، والستر كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يدعو مرتين مرة بالنهار ومرة بالليل:"اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتم عليَّ نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة"، وعندما يأتي الليل يقول: "اللهم إني أمسيت منك في نعمة وعافية وستر، فأتم علي نعمتك وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة"، فاتضح أن الذي يذهب مدارس مثلي ليس عنده فقه مثل السيدة الأمية التي تلقت علمها بالفطرة والسماع، فصلاح البال دليل حب الله.


* الصبرعلى البلاء

والصبر على البلاء "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"، وإذا لقي الله وما عليه خطيئة يكون دليل على ماذا؟ على حب، فإذا ابتلانا ربنا- جل وعلا- وصبرنا، ولم نتبرم مثل ما حدث مع أمنا بالضبط، لما تعلمت من الرسول- صلى الله عليه وسلم.. أمنا أم سلمة تعلمت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كلمات تقولها حين المصاب؛ تسترجع وتقول: "اللهم أجرني في مصيبتي، وأبدلني خيرًا منها"، فلما توفي عنها زوجها سألت نفسها من داخلها تقول: "علمني رسول- صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولها حين المصاب: اللهم أجرني في مصيبتي وأبدلني خيرًا منها، من لي خيرٌ من أبي سلمة؟! كيف أقول أبدلني خيرًا منه؟! ومن خيرٌ منه، وهو زوجي؟! فترد وتقول: "نعم، أبدلني الله خيرًا منه؛ تزوجت رسول الله- صلى الله عليه وسلم".

اليقين دليل حب الله- جل وعلا- وكذلك القناعة بما في يدك، وعدم التطلع إلى ما في يد الغير. لو أن لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له وادٍ آخر، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب؛ لكن تحقق القناعة والرضا بما قسم الله- جل وعلا- لنا كفيل بأن نكون أغنى الناس، وإخلاص النية في كل أمر لله- عز وجل- دليل توفيق منه سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ (الأنعام: 162- 163)، فإذا منح الله الإلهام لمن توافرت فيهم الصفات السابقة صار أصحابها من أولياء الله: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62)، من؟ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (يونس: 63- 64). هذا حالهم.. هؤلاء هم أولياء الله، وأولياء الله بما فيهم إن كانوا من العلماء، مطلوب منا أن نحترمهم ونقدرهم، وهناك فرق كبير جدًّا بين الاحترام والتقدير والتقديس، نحترم ونقدر؛ لكن لا نقدس، نحن نقدس الله- جل وعلا- ومن الأمانة أن نرد الفضل لأهله.

ولا علة لمن يدعي أن الإخوان لا يقولون أبدًا قال الله وقال الرسول، دائمًا يقولون قال حسن البنا، قال البنا، وهذا كما يقول ابن الجوزي هذا لون من ألوان التلبيس؛ لأن من الأمانة أن ترد ما حصلت عليه من علم إلى صاحبه، ومن أحكام التأليف أن نوثق كلامنا، وأن نرجع كل رأي لصاحبه وقائله بالصفحة من المرجع، فكوننا أننا نقدر البنا الذي صحح لنا الطريق، ووضع قدمنا على الطريق الصحيح والسليم، وأعطانا الفهم الكامل لهذا الإسلام، فهذا من حقه علينا، ونحيل المعارضين لكتب ابن القيم، الذي كلما تكلم كلمتين قال: قال شيخنا، يقصد من؟ ابن تيمية؛ لماذا لم ينكرعليه أحد أنه يكثر من قال شيخنا؟!

وكما يقول علماء أصول الفقه لا يقع هنا مفهوم المخالفة، بمعنى أنك عندما تقول فلان ليس معناه أنك لا تقول قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا كان هذا المعنى يتمشى ومفاهيم الإسلام، فأسنده إلى صاحبه ولا شيء، والعلة بالمنطوق، فعندما أقول "كونوا كالشجر، يُرمَى بالحجر فيلقِي بالثمر"، هل هذا الكلام يصطدم بالإسلام؟ وعندما أقول قال إمامنا: "كونوا كالشجر يُرمى بالحجر فيلقي بالثمر" بدلاً من أن أقولها مجردة كأنها مسندة إليَّ؛ فهل أرفضها لأنها لم ترد في الكتاب والسنة؟!

وأقوال الصحابة كلها، عندما نستشهد بالصحابة والتابعين، كلامهم مستمد من ماذا؟ من كتاب الله وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- عندما يأتي ابن عباس ويقول: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب وقوةً في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق".. يأتي أحد الناس ويقول لي: يا أخي، قل: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم! فأنا أسندها لقائلها طالما القولة سليمة وصحيحة، حتى علماء الحديث عندما يكون الحديث ضعيفًا أو يسمونه أثرًا يقولون: قيل في الأثر كذا.. إذًا أنا أقدِّر وأحترم مَن علمني، هذا من أخلاق الإسلام، أن أسند العلم لصاحبه من الأمانة العلمية، وفي رسائل الماجستير والدكتوراه نقول لهم: لماذا لا تقولون في الرسائل: قال الله وقال الرسول، في حين أن الذين يقولون هذا الكلام تجدهم كثيري الاستشهاد بعلمائهم، وعندما كنتُ في السعودية كانوا يقولون عن العالم الفذ ابن باز: قال ابن باز... وهذا أحترمه لقوله؛ لأنه عالم وعلى علم غزير، وإسناد قوله له تقوية للكلام، وكي أعرف من صاحبه.. فهل عندما أقول: قال الإمام البنا يكون هذا تقديسًا، وعندما يقول ابن القيم قال شيخنا ابن تيمية يكون تقديرًا؟ وعندما يقول غيرنا قال الشيخ ابن باز يكون تقديرًا؟ وإذا قلنا قال الإمام البنا يكون تقديسًا؟! فنحن لم نقل مثلاً: إن الإمام البنا كان يصلي الفجر في القاهرة، والظهر في مكة، والعصر في المدينة، حتى يقولون إننا دخلنا في شطحات الصوفية، وأنا على يقين من أن ما جاء به البنا هو الإسلام.

قد نختلف في أمر فرعي، أما الأصول التي تكلم فيها عن الإسلام فلا أحد يستطيع أن يخوض فيها، فهي من كلام أهل السنة والجماعة، وهي سلفية لا شك؛ لأن السلفية ليست مرحلة زمنية، السلفية منهج تفكير، فعندما يأتي الشيخ القرضاوي يفكر في قضايا العصر بمنهج السلف، فالذي يكتبه يكون مستمدًا من السلف؛ لأن السلفية منهج وليس طريقة كتابة، وما يكتبه يطابق ما قاله أهل السلف؛ لكن بلغة العصر.


* الكرامات وشطحات الصوفية

وفي مقام الحديث عن الكرامات، فإننا نؤكد أننا لا ننكر الكرامات، ونؤمن بجريانها بحول الله على يد الصالحين؛ كإلهام سيدنا عثمان الذي دخل عليه أنس بن مالك وقد نظر إلى امرأة وضيئة، ودخل على سيدنا عثمان فنظر إليه وقال: ما لكم تدخلون عليَّ وأثر الزنا في وجوهكم- وأنس بن مالك صحابي كريم- فقال له سيدنا أنس: أَوَحْيٌ بعد رسول الله؟ قال: لا؛ ولكنها فراسة المؤمن.. فيقول أنس: لقد نظرت إلى امرأة جميلة قبل دخولي عليه.

وإذا كان هناك إلهام وفراسة فيوجد أيضًا الرؤى، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "الرؤيا ثلاثة: رؤية من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان"، وأذكر عندما كنت في السجن، أسرَّ إليَّ أخ- وكنا نسميه "ابن سيرين"، وكان فيه شفافية- وقال لي: أنا رأيت رؤيا وعبرتها، رأيت نجمين في السماء، أو هلالاً وقمرًا يتعاركان بعضهما مع بعض، وسقط وخبا أحدهما وانتهى، وبعد فترة ليست بالطويلة سقط الآخر؟ فقلت له: وبماذا عبرتها؟ فقال: بأن عبدالحكيم عامر سيموت (وكان الرجل الثاني في مصر بعد جمال عبدالناصر) بعد تنازع فيقتل ويموت، ثم يسقط بعده عبدالناصر.. وقال لي: اكتمها عني.. طبعًا لا نستطيع أن نقول هذا الكلام وهما أحياء، وشاء الله- جل وعلا- أن يحدث هذا ونحن في السجن، فقد وقعت قصة نهاية عبدالحكيم عامر، ثم تلاه عبدالناصر.

وما نسرده بالطبع يناقض الخزعبلات التي تدعيها بعض شطحات بعض الفرق الصوفية الموجودة والمنتشرة في مصر، وإذا كنا نقر بوجود الرؤى الصالحة، فإننا نؤكد- كما أشار الإمام البنا في هذا الأصل من الرؤى والإلهام- أنها ليست من مصادر الأحكام الشرعية، نعم.. الرؤى موجودة، وهناك مَن يمنُّ عليهم ربنا- جل وعلا- بالرؤيا الصادقة.. نعم، لا شك في ذلك لكن منهم من شطح، نحن نتكلم إذن عن الصالحين منهم أمثال الفضيل والبصري وابن عطاء السكندري لا ابن عربي وغيره من الشاطحين، فموقفنا من الكرامات وسطي لا إفراط فيه ولا تفريط وفق القواعد المتعارف عند سلفنا الصالح وأهل العلم، وهناك أمثلة كثيرة على هذه الشطحات؛ حيث قال بعضهم: أنتم تأخذون كلامكم من ميت عن ميت (يقصدون الصحابة)، أما نحن فنأخذ من الحي الذي لا يموت مباشرةً، فعندما يقول الإمام البنا نحن حقيقة صوفية لا يتكلم عن هؤلاء المهاويس، وإنما يتكلم عن الجانب الإيماني من تهذيب النفس وحسن الصلة بالله، وحسن التعبد له سبحانه وتعالى، فهؤلاء أجمع العلماء على أنهم خرجوا عن حظيرة الإسلام، و"الحلولية" أيضًا كالذي يقول: "ليس في الجبة غير الله"، وهو يقصد أن الله عز وجل قد حل فيه شخصيًّا وأصبح هو الإله- أعاذنا الله من هذا وتعالى شأنه عن هذا علوًا كبيرًا، ومن الغريب أنه في السنوات الأخيرة تمَّ نشر كتب ابن عربي وبأسعار زهيدة حتى يقرأها الجميع دون أن ينبه أحد أنه "حلولي"، ولا يصح مطلقًا قراءة هذه الكتب وأخذ العلوم منها.

والإمام البنا عندما قال "حقيقة صوفية" ما كان أبدًا يقصد هذا الجانب، ولم يقل أحد أبدًا أن الصوفية بكاملها تُرفض، وخير مثال على ذلك المجاهدين في السودان من المهدية، وعبد القادر الجزائري الذي حارب في ليبيا مع عمر المختار، فهؤلاء مجاهدون لكن تربيتهم تربية صوفية وأصل الصوفية مجاهدة، كأبي الحسن الشاذلي الذي كان رجلاً مجاهدًا وفقيهًا.


* ما الصوفية؟

يقول ابن تيمية إنها ظهرت لأول مرة في البصرة على يد بعض أصحاب عبدالواحد بن زيد؛ وهو من أصحاب أبوالحسن البصري، وهناك رأي يقول إنها جاءت من لبس الصوف كنوع من أنواع الزهد حتى قال أحدهم- يرد عليهم- "لو كان التقي بالصوف لطار الخروف"، وبعضهم قال: "إن الصوفية نسبة لأهل الصُّفَّة، وهي المجموعة التي قامت على التعبد في مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وسُموا بهذه الاسم لاتصافهم بصفاء القلوب وطهارتها، وهؤلاء الذين كانوا مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- كانوا صحابة وكانوا مجاهدين، وعبدوا الله حق عبادته إلا أنهم زهدوا في الدنيا وكانوا من فضلاء العباد والزهاد.. ينقطعون للذكر والتبتل في مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولم يكونوا من القاعدين في يوم من الأيام.

هل يجوز أن نستخدم مصطلح حقيقة صوفية ما دام فيهم الحسن والقبيح؟ وهل كان من الجائز أن يستخدم الإمام البنا هذا المصطلح شرعًا؟

لننظر إلى حديث المولى عز وجل عن الرهبانية فقال فيها في موطن الذم: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ﴾ (الحديد:27) ويأتي الرسول– صلى الله عليه وسلم- فيقول: "رهبانية أمتي الجهاد"، واستخدام المصطلح هنا يقصد به الجانب الإيجابي فيها، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- استخدم مصطلح الرهبانية بالرغم من أنها وردت في القرآن في مجال الذم، لكن أخذ منها الجانب الإيجابي فالقرآن يقول: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ﴾ (الأحزاب:40) في إشارة إلى سيدنا زيد فنفى لفظ الأبوة للرسول- صلى الله عليه وسلم-؛ وهو يقول في الحديث: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد" فأخذ الجانب الإيجابي فيه وهو التعليم والتوجيه والتربية لكن القرآن استخدم ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ﴾ في موقف التبني، وبذلك يجوز شرعًا أن نستخدم المصطلح إذا كان يرمي إلى معنى داخل هذا المصطلح، والإمام البنا كان فقيهًا ووالده كان فقيهًا، ومن بيت فقه وعلم، فضلاً عن أنه كان نابغة وملهم، فكل كلمة يقولها الإمام البنا لها مرمى ومغزى ومقيدة بالفقه، وعندما قال حقيقة صوفية كان يعني ما يقول.

جاء رجلان إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخطب أحدهما فعجب الناس من فصاحته وبلاغته فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن من البيان لسحرًا" فاستخدم لفظ السحرعلى سبيل المجاز في مجال الإعجاب؛ ومن يعترض على الجمع بين السلفية والصوفية نقول له: إن الجمع بينهما أولى، فنحن نؤكد أننا نرفض رفضًا تامًا التصوف الفلسفي عند اليونان والهنود وكذلك الفارابي وابن عربي والحلاج، فالتصوف الفلسفي مرفوض عندنا أصلاً وموضوعًا، ولننظر إلى بعض مقولاتهم: يقول أحدهم إن القطب (الذي يقول حدثني قلبي عن ربي والذي يصلي المغرب في مكة والعصر في بيت المقدس) يقول: "إن على كل قدم نبي من الأنبياء وليٌ من أولياء الله، وإن في الأرض سبعة أبدال ونقباء ونجباء، وكلما مات رجلٌ أقام الله عوضًا لرجل، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن إلى قيام الساعة".

وهؤلاء الذين قالوا: خاتم النبيين يعني زينة النبيين، أي أن خاتم هنا جاءت من خاتم الزينة، أي أنهم لا يمنعون أن يأتي نبي ورسول بعد محمد- صلى الله عليه وسلم- ونسوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:"أنا خاتم الأنبياء، ولا نبي بعدي".

ولننظر إلى تفسيرهم للقرآن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ﴾ (التوبة: 123)، قالوا "يلونكم" تعني الذي يليك والقريب منك، وقالوا في "يلونكم من الكفار": إن الكفار هنا مقصود بها النفس؛ لأن أقرب شيء للإنسان نفسه؛ أي إنهم يطلبون منا أن نقاتل أنفسنا، وذلك حتى ينفوا الجهاد تمامًا، فهم يقولون: أمرنا أن نقاتل مَن يلينا، وهي النفس؛ لأنها أقرب الشر من الإنسان إلى نفسه!!

فهذه كلها وغيرها شطحات بعيدة تمامًا عمَّا تحدث عنه الإمام البنا بقوله "حقيقة صوفية"، فقد وصل بهم الأمر إلى أنهم يعتقدون أن الله يلقي إليهم كلامًا ينتفعون به، وفي ذلك قال بعض العلماء مثل أبوالحسن الواحدي: "إذا قال ذلك اعتقادًا فقد كفر وهم الباطنية"، وقال ابن تيمية عنهم: "انتسَبَ إلى الصوفية طوائف من أهل البدع والزندقة؛ منهم طائفة ذمهم العلماء وقالوا مقتلعون خارجون على أهل السنة، وطائفة غالت فيهم وقالت إنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء"، ثم يقول ابن تيمية رأيه في الصوفية: "إنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعات، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، فالتصوف الذي نرفضه من حارب الجسد كالنصرانية والبوذية وترك عمارة الدنيا، ودعا إلى الكسل والتواكل وانسحب عن الناس.. فهذا الذي يجب أن يحارب "وأيضًا مَن يدعو إلى بناء المساجد على القبور، وأصحاب الموالد المليئة بالفسق، فهذه كلها أمور لا نختلف أبدًا في محاربتها لكن هناك نماذج نتعلم منها مثل عبدالله بن المبارك وابن تيمية وابن القيم في كتابه مدارج السالكين، وشفيق البلخي وابن عطاء السكندري؛ حيث كان الواحد منهم يقول: "إن سجني لخلوة، وإن نفيي لسياحة، وإن موتي لاستشهاد".. وكذلك أبي حامد الغزالي في كتابه المشهور "إحياء علوم الدين"؛ حتى إن بعض المتحيزين للغزالي يقولون: مَن قرأ الإحياء فقد حيا، ومن لم يقرأ الإحياء لم يحيا، بالرغم مما فيه من أحاديث ضعيفة نقاها العلماء الأفاضل، ولا ننسى هنا الجنيد الذي يسمونه سيد الطائفة، ويكفي أن ابن تيمية يقول عن الجنيد: "كان الجنيد- رضي الله عنه- سيد الطائفة وإمام هدى، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا".

فقد كان هناك الكثير من الشطحات؛ ولكن الإمام البنا جاء ينقِّي ما لحق بالصوفية، ويبين معنى "حقيقة صوفية".


* أقوال صوفية مفيدة

ونذكر هنا بعض أقوال الصوفية يمكن الاستفادة منها، مثل ما قاله ابن عطاء السكندري عن سهل بن عبدالله التستري حيث يقول: "احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس، القرَّاء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين، والجبابرة الغافلين"، ويقول: "كن طالب الاستقامة، ولا تكن طالب الكرامة؛ فإن نفسك تهزك لطلب الكرامة ومولاك يُطالبك بالاستقامة، ولئنْ تكن بحق ربك أولى من أن تكون بحظ نفسك"، ويقول عمى البصيرة ثلاثة: "إرسال الجوارح في معاصي الله، والطمع في خلق الله، والتصنع بطاعة الله".

وسُئل أحد الصوفية: بم أدركت ما أدركت؟ قال: "وحَّدته بأفضل التوحيد وخدمتُه خِدمة العبيد، أطعته فيما أمرني ونهاني فكلما سألته أعطاني"، وهذا كلام جميل يرطب القلب ويدفع الإنسان إلى التعلق بالربوبية.. ويقول آخر: "اليقين نور يجعله الله في قلب المؤمن حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهد لها"، ويقول أيضًا: "من علامات الاكتفاء بالله ثلاث: الرضا عن الله والاهتمام بأمره وعدم الالتفات لغيره"، ولذلك قال أهل السلف: الإيمان الصادق يتحقق بصحة الاعتقاد وصدق الاتباع كما تتحقق العبادة بإخلاص النية ومتابعة عمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومع هذا فأنت مطالب بأن تجاهد في مجالات متعددة، تجاهد نفسك وتجاهد هواك وتجاهد الشيطان، تجاهد نفسك حتى تصبح نفسًا مطمئنة، وتجاهد هواك حتى يكون تبعًا لما جاء المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، وتجاهد الشيطان بطاعة المَلَك الذي يأمرك بأمر الله.

والشيطان يغزو القلب بسلاحين: سلاح الشهوات ليفسد به عملك، وسلاح الشبهات ليفسد به اعتقادك، فإذا تغلب على الإنسان بسلاح الشهوات وسلاح الشبهات فسد عمله واعتقاده، وما بقي له شيء من إسلامه، والإنسان لا يستطيع أن ينتصر على سلاح الشهوات إلا بالصبر ولا ينتصر على سلاح الشبهات إلا باليقين، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24)، وإن للإيمان الصادق نورًا يمشي به المؤمن كما قال الله عز وجل ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام: 122)، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ (النور: 40).

نسأل الله أن يجعل في قلوبنا نورًا وفي سمعنا نورًا وفي أبصارنا نورًا وعن أيماننا نورًا وعن شمائلنا نورًا ومن أمامنا نورًا ومن خلفنا نورًا ومن فوقنا نورًا ومن حولنا نورًا، وأن يجعل لنا نورًا.

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.