حماة السلوم الحلقة الأولى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٢٥، ٢٨ أغسطس ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حماة السلوم
(الحلقة الأولى)


حماة السلوم.jpg
من سلسلة المذكرات الوطنيةالمليئة بالمغامرات والمفاجآت الرهيبة

الصاغ محمود لبيب

الاهداء

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

إلى الوارثين من أبناء مصر للتركة المثقلة... تركة الوطن وحريته.. أقدم هذه الصفحات

محمود لبيب

هذه المذكرات!!

كانت الدوافع التي أملت على إخراج هذه المذكرات الآن إلى حيز الوجود... كثيرة ومتعددة المناسبات.. منها تحقيق استقلال ليبيا في أوائل عام 1952 م.. ومطالبة مصر بتعديل حدودها الغربية.. وغير ذلك من الأحداث التي تجتازها مصر الآن!!

مقدمة

لقد طلب إلي في إلحاح شديد كثير من إخوان كرام وأبناء أعزاء أن أنشر مذكراتي لعل فيها ما يكشف الغطاء عن ناحية مطوية من جهاد فريق من أبناء مصر ، ستر جهادهم متعمدين أو مروا على ذكره عابرين، وطمسوا حقيقته حتى لا يكون فيه قدوة وهزة للناشئين.

وفي هذه الجهاد إنصاف للجندية في مصر ، فقد سبقت ثورتهم على الحماية الإنكليزية ثورة الشعب في سنة 1919 وفي ثورة أولئك الضباط والجنود ومن انضم إليهم من العشائر والقبائل العربية. وزعمائهم من معاني التضحية والفداء والبطولة والصبر على البلاء والمواقف الخالدة ما يرفع الرأس ويشرف القومية المصرية وينحني أمام روعة التاريخ.

ويعلم الله أنني لم أستجب لكتابة مذكراتي، لا منًّا، ولا ضنًا بها، ولكنني فقد كل ما كان لدي منها، فقد كانت في عهدة ياوري الضابط البطل إبراهيم عوض (من بلبيس) وكانت هي جريدة الحرب التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة، وبلغ من حرصه عليها أنه كان يحملها راجلاً ومقيمًا، وفي يقظته ونومه. وفي أثناء الوقائع وقد فقدناها يوم استشهد في موقعة ضد الطليان.

أنزل الله عليه وعلى إخوانه من الشهداء شآبيب الرحمة والرضوان وأنزلهم منزل الصديقين والشهداء.

كما فقدت أيضًا مذكراتي عن الانقلاب الكمالي في تركيا عندما تركتها وبقية متاعي في سنة 1924 في عهدة ضابط صديق في إستانبول.

وحضرت إلى مصر وحجزتني الظروف عن العودة، توفي في أثنائها ذلك الصديق وتبدد كل ما عنده، وخشيت أن أركن في كتابة مذكراتي إلى ذاكرتي وقد أوهنت الأيام منها.

وهذا عذري الذي أوقفني موقف من لا يستجيب. فإذا جاء اليوم زميل مجاهد عزيز، وصديق كريم، ووطني صادق الوطنية ينفض الغبار عن الماضي، ويكشف القناع عن ذلك الجهاد الرائع وقد أسعفته ذاكراته القوية التي لم تنل الحوادث والأحداث منها وساعدته على المضي في كتابتها عزيمة لا تخمد ولا تهمد، فأقدم على نشر هذا التاريخ.

فباسمي واسم إخواني المجاهدين الأحياء منهم والشهداء، أشكره سلفًا على هذا الفضل الذي جاوز ساحة الحمد والشكر والثناء وكأني به يوم ينتهي منها، وقد وفاها حقها، قد أضاف إلى جهاده يدًا جديدة لا تنسى.

ولا يجوز أن أزكي ذلك الجهاد بتصوره كما يجب أن يصور، فإن ذلك فوق قلمي وبياني، ولكني أترك الوقائع والحوادث تتكلم، وأرجو أن يوفق قلم الصديق المجاهد محمود لبيب بك إلى تدوينها وفيها بيان وبلاغ وغناء.

والله المستعان

لواء وزير الحربية (سابقًا)

محمد صالح حرب

كلمة لابد منها!

قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أثر اطلاعه على هذه المذكرات، أنها مجرد مغامرات قمنا بها نحن الأحد عشر ضابطًا والـ 175 جنديًّا من أبناء جنوب الوادي البواسل، الذين دربوا أكثر من أربعة آلاف مجاهد عربي ليبي على القتال وفنونه (كما سيأتي ذلك في حينه).. حبًا في المغامرة والمجازفة فحسب... كلا.. بل كانت البواعث التي أملت علينا هذه الأعمال.. أسمى من ذلك وأقدس!

وقد تتناهى بالقارئ الكريم الدهشة من سلسلة المفآجات التي صادفتنا، والطرق الغريبة النادرة التي التجأنا إليها، للتغلب على الصعاب والعقبات! ..

ولكن هذه الدهشة، ستبلغ ذروتها عندما تبلغ الأمور بنا، أقصى نهاية من التعقيد.. ثم تلين فجأة وعلى غير اتفاق... فتصبح بردًا وسلامًا!!.. حقًّا ما أغرب تصرفات القدر!.. لقد قدر الإنجليز، وأقطاب الحلفاء أمرهم!.. فكانت تقديرات القدر عكس ما قدروا!..

إن هذه الأقدار التي حملت فرعون الجبار على احتضان موسى فيصبح الربيب جلادًا!!.. هي نفس الأقدار التي اصطفت بعضنا.. ممن لا يفتقدون إذا غابوا، ولا يشار إليهم ببنان إذا حضروا!!.. اصطفتهم ليؤدوا رسالتهم السامية.. هؤلاء الذين شرفهم الله بالاختيار لهذه المهام الوطنية الجليلة.. هؤلاء العزل إلا من سلاح بسيط وإيمانهم بالله..

استطاعوا أن يجعلوا من أصابعهم اللينة مفاتيح من حديد، عالجوا بها ما أغلق أمامهم من سدود وأبواب، إنها قصة فتيان الصحراء، الذين وجهوا التاريخ حسب مشيئتهم، إبان الحرب العالمية الأولى، ومعارك ليبيا الطويلة، ومن غرائب المصادفات وأعاجيب القدر، أنهم هم أيضًا الذين وقع عليهم الاختيار بعد أربعين سنة! ليقودوا فرق المتطوعين في جنوب فلسطين كما سيأتي ذكر ذلك في سلسلة هذه المذكرات.

﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.. لقد عاشوا أبطالاً أحرارًا... ومات بعضهم كرامًا أبرارًا.. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.

إن الحقيقة التي يجب ألا تغرب عن البال، والغاية السامية التي نعمل من أجلها... والهدف المقدس الذي كنا نسعى إليه.. هو وقوفنا في وجه الاستعمار... وفضح نيات المستعمرين!! وتفويتنا على الإنجليز أغراضهم، وإحباط تدبيراتهم!! وما كنا في ذلك نبغي جزاءًا ولا شكورًا، ولكنه في سبيل الله والوطن. ولا نبالغ إذا صرحنا، بأن هؤلاء الضباط وجنودهم قد غيروا وجه التاريخ حقًّا!!..

فكانوا سببًا في سهر أقطاب الحلفاء ليال عدة، مبلبلي الأفكار.. مضطربي الخواطر.. يقلبون خططهم ويعدلونها، حسب مقتضيات الأمور والأحوال، وعلى ضوء الحقائق التي تبدت لهم بشأنهم.. وأزعجتهم هذا الانزعاج المخيف!! ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

لقد كان النشاط العسكري الذي شهدته ليبيا ، طيلة الأعوام الثلاثة العصيبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، والسنوات التي امتدت حتى عام 1924 .. كان بحق نشاط أبطال السلوم وحماته.

فقد لعب هؤلاء الحماة، الدور الأول فيه، إذ ركزوا أعمالهم في أدق المسائل العالمية الهامة، التي كانت من نتائجها.. تغيير وجه التاريخ مما سيأتي ذكره!

ولقد وصفنا في هذه المذكرات، الحالة الدولية وما كانت عليه، وانقسام الغرب إلى معسكرين أو كتلتين!.. شارحين التحالف الثلاثي، بين دول إنجلترا وفرنسا وروسيا من جهة، وما يقابل هذا من الاتحاد الثلاثي، الذي يجمع دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا من جهة أخرى،

والدور الذي لعبته إنجلترا بصدد هذا الاتحاد الثلاثي وعملها جاهدة على انقسامه، كي تنفرد بألمانيا عدوتها المخيفة، وتأليف الدول عليها، وضربها الضربة القاصمة، في حرب تجر إليها ألمانيا!! لذلك نراها ترخي العنان لإيطاليا، لتنكل هذه بأمة مسالمة وشعب أعزل..

هو الشعب الليبي!! وهدفها في ذلك، هو ضم إيطاليا إليها.. وفي الوقت نفسه، تجريح سيادة تركيا ، وإنقاص هيبتها في ليبيا !.. ذلك.. لأن تركيا صديقة ألمانيا!!

وكما كانت إنجلترا تخشى قوة ألمانيا وبأسها... فقد كانت تنظر بعين الفزع والتوجس، إلى ذلك القائد الفذ.. أنور باشا، أكبر قواد تركيا، وأعظمهم شأنًا، لذلك نراهم يسرفون في وعدهم ووعيدهم!... نعم لقد توعدونا نحن ضباط وجنود الهجانة، بأقصى العقوبات!

إذا ساعدنا أنور باشا وضباطه، ومجاهدي العرب في ليبيا بأية مساعدة!!.. كما أغرونا بالذهب الرنان، إذا ما قبضنا على أحد منهم!

وقد واتتني هذه الفرصة الثمينة! نعم لقد كان أنور باشا ورفاقه الضباط.. في متناول يدي، وكان في الإمكان القبض عليهم جميعًا، وتسليمهم للإنجليز، وفي ذلك المكافأة والترقي.. والمجد الزائف!!

ولانتهت إلى هذا الحد.. الحرب الليبية.. ولكني لم أفكر في هذا مطلقًا، بل رحت أناشد هذا القائد بكل ما هو مقدس، أن يضمني إليه لأجاهد في صفوفه، وتحت لوائه، أعداءنا جميعًا..

أعداء الشرق و الإسلام

والواقع أن من يتتبع أخبار تركيا ، منذ نيف وأربعين سنة، ليلمح ظاهرة عجيبة، تنفرد بها تركيا عن أمم العالم، ذلك أنه لم يبرز فيها اسم قائد من قواد الجيش، مثلما لمع اسم أنور باشا، خصوصًا وأن تركيا أمة عسكرية، لم تخل أبدًا من قائد مدوي الاسم ولها تاريخها الحافل بالبطولة والفخار!

لقد كان هذا القائد الذي لم يعرف لجرأته وشجاعته مثيل من قبل، والذي أخذ عليه الخبراء العسكريون، كثرة ما عرض نفسه للأخطار، بتنقله في خطوط النار! منظمًا وإداريًّا من الطراز الأول، وقوة دافعة منفذة، متحمسًا للغرض الذي يحارب من أجله، ذو عقل ميال إلى التجديد والتطور، كما كان بعيد النظر. وهكذا كلما دارت رحى الحرب..

ودوى اسمه، حتى إنه لما بلغت الحرب الكبرى الأولى ذروتها، كان اسم أنور باشا، ملء أسماع الدنيا وأبصارها.

ولو تتبعنا سيرة هذا القائد، لوجدنا أنه لم يسبق لقائد آخر، أن ارتقى في صفوف الجيش التركي، بالسرعة التي ارتقى بها أنور باشا، حتى إنه أصبح وزير حربية تركيا الحديثة، والمهيمن الأول على شئونها وأمنها.. ولكن لم يكن هذا الارتقاء وليد المصادفة، بل كان نتيجة حتمية لشدة حيويته، تحمله لأعباء المسئوليات الجسام، ومصير أمة بأسرها..

وإن التجارب والشدائد التي مرت به، كانت كفيلة بأن تضعه في مقدمة أكبر القادة العسكريين في العصر الحديث.. وقد كان.

هذه الحقيقة تفسر لنا السبب فيما وصل إليه أنور باشا، من شهرة عريضة.. الأمر الذي جعل إنجلترا تتلهف وتحاول المستحيل.. للقبض عليه.

ولا عجب إذا ما روعت لإفلاته من براثنها، هو والضباط الذين معه في الصحراء الغربية ... على أيدي وبواسطة ضباط وجنود، سلاح الهجانة المصري..

وقد استرعت هذه الحوادث، انتباه العالم الخارجي، لا على اعتبارها من حوادث الحدود العادية، ولكن على اعتبارها تطورات جديدة، وروح جديد، ينبعث بحرارة من قلوب شباب جيل جديد..

إلا أن الإنجليز وهم الذين اشتركوا في تلك الحوادث ولمسوها، فقد كونوا لأنفسهم صورة واضحة، عن قوة الليبيين، وشعور المصريين نحوهم ومساعدتهم إياهم..

بدرجة أثرت على خططهم الحربية..

قوة الليبيين في طول مقاومتهم للطليان، السنين الطوال!

هذه المقاومة التي ازدادت نتيجة لمساعدة شباب الضباط المصريين، في تهريب السلاح والأقوات والمال إليهم، بعد تهريب قادة تركيا العسكريين الأفذاذا.

هذه المساعدات التي اشترك فيها المصريون عسكريون ومدنيون، اشتراكًا فعليًّا إيجابيًا، ولم تقتصر مساعدتهم على هذا فحسب... بل عملوا على إنشاء جمهورية ليبية مستقلة هناك.. ولقد صدق الله وعده.. وتحقيق ما كنا نرمي إليه، واعترف أخيرًا بتحقيق استقلال ليبيا في عام 1952 .

وهكذا كان هؤلاء الضباط دائمًا يسبقون الحوادث البارزة في تاريخ الأمم ومصائرها وكان أصبعهم ظاهر في مجريات هذه الأمور.

نعم فلولا هذه المساعدات الجدية التي قدموها.

وبسالة الليبيين لتغير وجه التاريخ. ولكن من الممكن التغلب على المتاعب والعقبات، متاعب الحرب وأهوالها ضد ألمانيا و تركيا ، بواسطة البرنامج البعيد الغور، الذي تفتق عنه عقل الحلفاء العسكري الجبار.

نعم لولا موقف شباب الضباط.. لحققت الإمبراطورية الإنجليزية خطتها البارعة التي حشدت لها كل ما في إمكانيتها، لتوجه الضربة القاضية السريعة، للجيش التركي في الدردنيل وكان في موقف لا يحسد عليه.

وذلك بإمداد جيش الحلفاء المحارب في الدردنيل، بالقوة التي حشدتها إنجلترا في مصر ، وقوامها 200.000 مئتي ألف جندي، لاقتحام تركيا، ثم اجتياز البلقان؛ حيث الباب الخلفي لألمانيا.. ومنه تضربها الضربة النهائية وبذلك تحطم قواتها المقاتلة. كما أشير إلى ذلك في بعض مذكرات النقاد العسكريين.

ولقد كانت هذه خطة الرجل الداهية، مستر تشرشل وزير البحرية البريطانية وقتذاك، والاستعماري الأول الآن.. هذا الرجل الذي قاد حملة شعواء في إنجلترا ضد اللورد كتشنر يحذر من خطر اقتحام الدردنيل وغزو تركيا، وينادي بإرسال القوة المتجمعة إلى مصر ، إلى فرنسا لمواجهة الألمان هناك.

وكان هذا أيضًا رأي المارشال فرنش قائد عام القوات الإنجليزية في فرنسا وبعض القواد الآخرين.

وبعد وقت قليل، والسحب متكاثقة في سماء العالم، أرسلت بريطانيا وزير حربيتها كتشر إلى الروسيا، في مهمة عسكرية...

وهناك في الطريق.. وفي عرض بحر الشمال، نسفت الطرارة "همبشاير" المقلة لكتشتنر..

وهكذا طوى اليم..

سرًّا من أسرار تلك الإمبراطورية..

وصدر البلاغ الحربي البريطاني، يعلن إصابة الطرادة "همبشاير" المقلة للورد كتشنر وزير الحربية البريطانية، أثناء مرورها في بحر الشمال، متجهة إلى الروسيا، بطوربيد من غواصة ألمانية أغرقتها على الأثر..

وعلم الله أنها أكذوبة.. وأكذوبة ضخمة حقًّا.. وذهب اللورد كتشنر، هذا الرجل الذي حذر أمته مغبة الهجوم على الدردنيل ضحية أهواء المستعمرين أبناء جلدته، (وقد أخبرني بذلك، أحد كبار الضباط الألمان عام 1917 وكنت وقتذاك في ألمانيا).

وبالتالي فقد فشلت خطة تشرشل، بسبب توقف هذا الحشد الهائل من الجنود، الذين تظللهم الراية الإنجليزية.. هذا الجيش الذي بلغ تعداده 200.000 مئتي ألف جندي كما ذكرنا.. لقد توقف تمامًا في مصر .. وكان مبعث توقفه خشية الخطر الداهم الذي داعب عقولهم.. الخطر الكامن من وراء ظهورهم.. خطر حماة السلوم وأعراب مصر و ليبيا المجاهدين من جهة وخطر الجيش التركي الآتي من صحراء سينا من جهة أخرى..

وكانت النتيجة الحتمية، هي انسحاب القوات البريطانية من الدردنيل، بعد تكبدها خسائر فادحة جدًا..

في الأرواح والعتاد علامة على إطالة سنى الحرب لمدة أربع سنوات وزيادة!!

لقد كان ضباط وجنود سلاح الهجانة المصري.. سادة الموقف دون شك! إذ كانت تصرفاتهم الوطنية، نقطة التحول في الموقف الدولي كله! وفشل الهجوم البريطاني على الدردنيل..

وبالتالي غزوة ألمانيا! وفي هذا يرسل القائد البطل أنور باشا (كما سيأتي) خطابًا بهذا المعنى، إلى شقيقه نوري باشا قائد الجيش الليبي، يشيد فيه بموقف هؤلاء الضباط وجنودهم هذا الموقف التاريخي الخالد.

وبعد..

ألم يتغير وجه التاريخ بعد كل هذا الذي ذكرناه؟!

ومن ثم، فقد نمت البذرة الطيبة، وأتت أكلها... وكانت الثمرة الأولى لهذا الغرس المبارك الذي وضع نواته زعيم مصر مصطفى كامل وتعهده من بعده زعماء الحزب الوطني ! هو ثورة عام 1919 في مصر .

صاغ محمود لبيب

موقف رائع للطلبة

عدت إلى منزلي صباح يوم.. عقب عمل مجهد متواصل طول المساء، بمطبعة جريدة اللواء ، مشعل الوطنية كان لهيبه نورًا للمواطنين، ونارًا على المستعمرين.

لقد كنا نحن بعض طلبة المدارس، متوقدين ومتشوقين.. وقت أن اجتمعنا لنقرر فيما بيننا، القيام بأعمال عمال مطبعة اللواء الذين غرر بهم سماسرة المستعمرين وأغروهم بالمال! والمال له سحره في نفوس الضعاف.. فامتنعوا عن عملهم لتتوقف الجريدة عن الصدور.. ويرتع المستعمرون وأذنابهم في الديار دون رقيب!

كانت حوادث الخيانات قريبة جدًا منا، وضحايا الأصفر الرنان ما زالت ماثلة أمام أبصارنا.. والضابط الذليل، الذي له من اسمه نصيب.. "خنفس" الذي أفسح الطريق كالعبد أمام سادته الغاصبين، وأرشدهم إلى معسكرات عرابي بالتل الكبير! كل هذه الأسباب دفعتنا نحن الطلاب كما ذكرت؛ لأن نقوم بأعباء العمال المضربين يومين متواليين!! مما ترتب عليه رجوع العمال مستغفرين نادمين! وانتظم العمل وفوت على المغرضين أغراضهم!

كانت هذه الحادثة، أولى أعمالي، ثم اندمجت بعدها في محيط السياسة القومية.. بدافع داخلي عميق! روزفلت يندد بالمصريين

لم يمض وقت كبير على حادث مطبعة اللواء، وإذا برئيس جمهورية أمريكا مستر تيودور روزفلت ، يهبط أرض الكنانة يوم 24 مارس سنة 1910 ... نزول الصاعقة من السماء! وبعض الآمنين تأتيهم النوازل من حيث لا يدرون ولا يشعرون!

قصارى القول، أن هذا الرجل الذي استضافته مصر ، وقامت هيئاتها المختلفة بتحيته وتكريمه... وقف يلقي محاضرة في حفلة تكريمه بالجامعة الأهلية (الجامعة المصرية الآن)، وتطرق الحديث عن الأمم التي تمنح بالدساتير، وهي لم تزل في دور التكوين وقال: (إن مثل هذه الأمم تكون خطرًا على نفسها! لأنها لم تتم فيها الصفات التي تمكنها من الانتفاع بالدستور! وأن الأمر سوء استعمالها! وإنما هو ترقية الصفات التي يسمو بها الفرد والأمة، ترقية دائمة وإن تكن بطيئة، وأن هذه الصفات، هي التي تجعل الأمة قادرة على حكم نفسها بنفسها!!).

ثم أشار إلى الإدارة الإنجليزية في السودان وكان قد رجع من زيارته له، وأثنى على اللورد كرومر وسياسته في مصر !!

الوطنيون يثورون

أثارت محاضرة مستر تيودور روزفلت ، عاصفة من الاحتجاجات والتذمر والنقد المرير في جميع الصحف الوطنية.

ونظم شاعر النيل العظيم المرحوم حافظ بك إبراهيم قصيدة قوية يذكر فيها روزفلت برأي الأمريكيين في الإنجليز، يوم أن كانوا يحتلون بلادهم وقد جاء فيها:

يا نصير الضعيف مالك تطرى

لم تطبقوا جوارهم بل أقمتم

أنت تطريهمو وتثني عليهم

ليت شعري أكنت تدعو إليهم

يوم سجلتم عن صفحات الدهر

ووثبتم إلى الحياة وثوبًا

يا نصير الضعيف حبب إليهم

خطة القوم بعد ذاك النكير!

في حماكم من دونه ألف سور

نائيًا آمنًا وراء البحور

يوم كانوا على تخوم الثغور؟

تاريخ مجدكم بالنور

ونفضتم عنكم غبار القبور

هجر مصر ، تفز بأجر كبير

ووجه محمد بك فريد إلى روزفلت، رسالة برقية باسم اللجنة التنفيذية للحزب الوطني، يظهر فيها استياء البلاد من هذه الخطبة، التي ترمي إلى تثبيط همة الأمة المصرية، عن الاستمرار في جهادها السلمي.. للحصول على الدستور!

إبعادي إلى الصحراء الغربية !

وقامت ثائرة الشعب وقتذاك في وجه هذا الضعيف الذي أساء إلى بلد استضافته! فخرجت المظاهرات تعلن سخطها واحتجاجها على تصريحه!

وأذكر أني استأجرت وقتها جوادًا من "إسطبل" بالحلمية الجديدة كان يؤجر الخيل، وقمت على رأس إحدى المظاهرات الصاخبة – وكنت أرتدي ملابس العسكرية برتبة ملازم – أهتف بسقوط الاستعمار والمستعمرين والطفيليين! وانتهى بنا المطاف إلى فندق شبرد، حيث ينزل رئيس الجمهورية الأمريكية .. وقفت أخطب الناس خطبة طويلة، ختمتها بقولي.. أخرجوا هذا الرجل من مصر !

ولم يمض على إلقائي لهذه الخطبة، سوى ساعات قليلة.. حتى أخرجت أنا من مصر على جناح السرعة... إلى سيدي براني بالصحراء الغربية .

وهناك يشاء القدر، أن أقوم بمغامراتي أنا وإخواني.. هذه المغامرات.. التي أضعها الآن بين يدي القراء، ليستشفوا منها أدق المواقف وأحرجها... ضد المستعمرين!

سفر روزفلت وتشهيره!

أما مستر تيودور روزفلت فلم يطق الإقامة في مصر بعد هذا فغادرها وهو يحمل في نفسه أثر هذه الاحتجاجات وتلك الرودود التي انهالت عليه، وما كاد يصل في طريقه إلى مدينة لندن، حتى ألقى في جلد هول عن مصر ، خطابًا في منتهى الشدة، وفيه يدعو الإنجليز، إلى تثبيت أقدامهم في مصر (لأنهم ليسوا حراس مصالحهم فيها فقط، بل هم فوق ذلك حراس مرافق المدينة).. كما طعن في أخلاق المصريين، ورماهم بالتوحش والذل، وقال: (إن الإنجليز أصلحوا مصر ، ولكنهم أخطأوا أخيرًا إذ مكنوا المصريين من التمتع بشيء من الحرية)! إلى غير ذلك من المثالب والمطاعن!

وقد كتبت الجرائد المصرية جميعها، منددة بخطاب مستر تيودور روزفلت ، مبينة ما فيه من غلو وتجاهل في فهم المصريين.. وما يدل عليه من الحقد والتعصب على الشرقيين!

وفي 14 يونيو من ذلك العام صرح السيد إدوارد جراي وزير خارجية بريطانيا تصريحه المشهور الذي أيد فيه كلام رئيس الجمهورية الأمريكية عن رأيه في مصر والمصريين!

سفر محمد بك فريد إلى لندن

وسافر الزعيم الوطني المجاهد محمد بك فريد إلى لندن، لدحض هذه المطاعن التي أذاعها مستر روزفلت وذلك التصريح الذي ألقاه السير إدوارد جراي ، وقد ألقى خطبة جامعة في لندن جاء فيها:

..يسرني أن أتكلم هنا..

لأني أشعر بأني حر في الكلام أكثر مني في بلادي، التي تحكمها عصابة من المستعمرين الإنجليز! الذين يضرون إنجلترا، وهم يظنون أنهم يخدمونها! إننا لا يمكننا أن نقرر الاحتلال الإنجليزي، بل إنا لنعتبره ظلمًا لا يستند إلا إلى القوة التي لا تخول حقًّا، إن أمتكم تستطيع مدفوعة بيد الاستعماريين الماليين، أن تعلن حمايتها على مصر، وأن تضمها إلى أملاكها، ولكن لا يمكنها أن تجعل مركزها في مصر شرعيًّا، والحماية والضم ذاته لا يسقطان حقوقنا!

ثم تحدث فريد بك عن بطلان الاحتلال، وبطلان اتفاقية السودان وغيرها، وذكر الإنجليز بوعودهم في لهجة قاسية!

ذكرت أنه لم يمض وقت كبير على إلقائي تلك الخطبة التي طالبت فيها إخراج مستر تيودور روزفلت من مصر ، حتى أُخرجت أنا على جناح السرعة مبعدًا من مصر إلى صحراء مصر الغربية .

السفير البريطاني يقيم الوزارات المصرية ويسقطها!

وها أنذا أمسك بقلمي، يدفعني الواجب الملقي على عاتقي بأن أبصر شباب الغد، بالأحداث الجسام التي مرت على هذا الوطن العزيز لتكون لهم آية، والذكرى تنفع المؤمنين!

ولكني أرى لزامًا علي، قبل أن أسرد ما اتفق لي و الإخواني من مغامرات ومفآجات –حسب ترتيب وقوعها- أن أعود بالقارئ الكريم..

إلى تلك الفترة اللامعة من تاريخنا القومي.. تلك الفترة القصيرة من عمر هذا الوطن الذي نحيا لأجله، ونموت في سبيله.. تلك الفترة التي ظهر فيها مصطفى كامل ، ولمع نجمه المضيء في سماء مصر .. ثم هوى.

كان الشعب ما زال واقعًا تحت تأثير الضربة الأولى التي كالها المستعمرون له عقب الثورة العرابية.. فهذا عميدهم صاحب الكلمة العليا في تصريف شئون البلاد، دون معارضة أو رفع صوت..

وها هم الوزراء يتسابقون إلى استرضائه، ويسارعون إلى خطب وده، ويطردون منه بأمره وإشارته! وها هي إدارات العمل تنتزع من يد الوطنيين، بدعوى عجز المصريين عن الاضطلاع بها!

كانت مصر وقتذاك، قريبة العهد ب الثورة العرابية، وكانت أغلبية شبانها، أبناء هؤلاء المجاهدين الذين خاضوا غمار معركة الحرية ضد المستعمرين..

لك أن تفكر أيها القارئ الكريم، في تلك الفترة من الزمن.. تلك الفترة التي كان من العسير على أبناء هذا الوطن المخلصين، أن تستهويهم هذه الدنيا وبريقها الخالب!

لقد كانوا يتابعون في حنق وغيظ، أنباء الإنجليز وتعسفهم مع أبناء الوطن، وكانت تهتز أعطافهم حماسة وطربًا.. عندما يسمعون موقفًا كريمًا حرص فيه على كرامتهم..

فتراهم يتجمعون ويتندرون بنشوة الظفر والوطنية في حادث المهندس الإنجليزي مستر "بري" الذي أساء معالمة "بربري بك" أحد موظفي وزارة الأشغال، إلى حد الاعتداء عليه بالضرب، واهتمامهم بالأمر، اهتمامًا شديدًا! وارتياحهم لإجراء التحقيق الدقيق، الذي أملوا منه.. أن يضع حدًّا لسلطة هؤلاء الموظفين الأجانب.. التي استفحل أمرها!!

وها هم تستخفهم الفرحة عندما يسري بينهم. نبأ إقالة الوزارة الفهمية!

لقد كانوا يعلمون عن مصطفى فهمي باشا، ميوله الإنجليزية! واستسلامه للإنجليز:

وكان يحز في النفوس، أن يكون رئيس وزرائهم، أداة طيعة في دي المستعمرين، ومنفذًا لأوامر وإرشادات اللورد كرومر!

لذلك كانت فرحتهم شديدة بهذه الاستقالة... التي أحيت في نفوسهم.. موات الأمل!

هال الإنجليز، وكبر عليهم.. خروج رجلهم من الوزارة، دون أخذ رأيهم، وهم الذين كانوا مستأثرين بجميع السلطة تقريبًا!

وخافوا أن يضيع نفوذهم! لذلك لم يكد اللورد كرومر يعلم بالخبر حتى أبرق إلى وزير الخارجية البريطانية، يعلمه بالتفاصيل!

وهكذا تجمعت في سماء مصر الغيوم والسحب!

مصطفى كامل والحركة الوطنية

أخذت الصحف الإنجليزية، التيمس والديلي نيوز، والديلي تلغراف، والمورننج بوست..إلخ، تحمل على مصر بشدة، كما أخذت الغيوم تتكاتف من حولها، وتحدثت بعض الصحف المحلية الرخيصة، بكثير من الحماسة والاهتمام ودون حياء، مؤيدة كرومر ورؤساءه! ولكن كانت هناك القوة المعنوية الأخرى، التي تفوق جميع القوى الغاشمة.. نعم كانت هناك قوة الشعب، ويقظة روحه الوطني.. متحفزة للدفاع عن حقوق الوطن... وراحت جريدة المؤيد والصحف الفرنسية، ترد على حملات الصحف الإنجليزية.

وقامت المظاهرات الوطنية تلهب الشعور والوجدان، يقودها طالب الحقوق مصطفى كامل ، الشاب الذي لم يتجاوز عمره العشرين عامًا!

لقد استرعت خطبه وأحاديثه، انتباه الشعب وأثارت حماسته، وملأته رغبة في التضحية من أجل مصر . وإذا كان الوعي القومي، قد تنبه من رقاده، على يد مصطفى كامل ، فقد اقترن به النشاط الاجتماعي والثقافي.. توأم الوطنية وصنوانها، باسم الإمام الشيخ محمد عبده ، الذي ملكته فكرة النهوض بالبلاد في نواحي حياتها العامة، توطئة للنهوض بها من الناحية السياسية. حادث خطير

أخذ الإنجليز يترقبون ويتربصون، وقد تهيأت لهم الفرصة، في حادث استعراض الجيش المصري، بوادي حلفا، وكان نتيجته كما هو معروف، تهديد كتشنر وكرومر وروز بري وزير خارجية بريطانيا.. ظالمًا غاشمًا.. كما كان من ذيوله..

استقالة الوزارة الرياضية، لشعورها بعدم تمتعها بالثقة من البلاد، لموقفها من هذا الحادث.. حادث الحدود.

ومن الإنصاف أن نذكر ل جريدة الأهرام ، موقفها الكريم في هذا الصدد، إذ نددت بموقف الوزارة ورمتها بمساعدة الإنجليز في تنفيذ مطالبهم، وتعريض مصر لاعتدائهم، وختمت تعليقها قائلة: "إن الضباط والعساكر المصريين، سينتهي بهم الأمر إلى أن لا يعرفوا رئيسًا عسكريًّا، سوى كتشنر باشا، ولا رئيسًا سياسيًّا، سوى اللورد كرومر".

استياء الشعب!

وسرت موجة الاستياء العامة في مصر ، خصوصًا بعد أن قام هؤلاء الشبان الذين أزكى حماستهم مصطفى كامل ، فراحوا يظهرون مساوئ الإنجليز، ويلهبون بأسواطهم ظهور الأذلة الخائفين من الوصوليين والنفعيين.. وهكذا حتى أسندت الوزارة إلى نوبار باشا.

كانت النفوس متوترة، وضغط الإنجليز يزداد شدة..

كما شاع التذمر بين رجال الجيش، وانتقل الهمس من صفوف قادتهم، إلى شباب الضباط، الذين تتقد نفوسهم، بروح التضحية والحماس، وأخذ النشاط يدب في صفوفهم.. لكنه كان نشاطًا من لون آخر يخالف ما كان يحدث عادة قبل هذا الحادث.. حادث الحدود.

المحكمة المخصوصة الإنجليزية!

إن الروح التي كانت تمتلئ بها نفوسهم تفرض عليهم مواجهة النتائج كائنة ما تكون دون خداع ولا خوف.. وكانوا على استعداد في سبيل هذا الوطن.. أن يعملوا ويعملوا..

لقد شاهدوا المستعمرين، ولمسوا انتهاكهم للحرمات، ووطئهم الحريات.. هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فسادًا وسلبًا ونهبًا، واستنوا من القوانين، ما يحقق مآربهم ويرضي شهواتهم..

لذلك استقر عزمهم وتحددت غايتهم، لمناهضة المستعمرين، واستخدام كل سلاح في طاقتهم، لرد عدوانهم الآثم، الذي يحاولون به أن يقضوا على وطنهم المحبوب.

وفي الوقت الذي كانت تسري فيه هذه الروح، وتغلغل في طبقات الشعب.. كان المحتلون يوالون ضغطهم! وتوالت الأحداث والكوارث على مصر ، فشكلت المحكمة المخصوصة لأتفقه الأسباب ، بحجة حماية الأجانب وفي ذلك يقول كرومر: "إني مع اعترافي بعدالة أحكام المحاكم الأهلية! أرى أن إقامة محكمة مخصوصة، أفضل لنا وأضمن! وأطلب تشكيلها من خمسة أعضاء، ثلاثة إنجليز! ووطنيين اثنين برياسة السير سكوت!

وحمل الزعيم الشاب مصطفى كامل ، على قانون المحكمة المخصوصة حملة شعواء، تضمنها مقالة الناري (صواعق الاحتلال).

اللجنة الوطنية الأولى!

رأت مصر أن المعركة بينها وبين الإنجليز، معركة الحياة والبقاء، وأحست بالحاجة إلى سلاح يبقى على الزمن.. فلم تجد أقوى ولا أمضى من القوة الشعبية، قوة شبابها الوطني القوي..

لذلك اصطفت إمامهم .. ابنها البار الشاب مصطفى كامل ، وسلمته المشعل واللواء. وراح الوطني الأول يعالج الأمور بروحه الوثابة، ووطنيته العالية لإنقاذ البلاد من براثن الاحتلال!

ورأى مصطفى كامل ، أن يعمل على تشكيل لجنة من بعض الشبان المشهود لهم بالوطنية والذين تلقوا تعليمهم العالي ب مصر والخارج، للدفاع عن مصر ضد الإنجليز، بشتى الوسائل المشروعة، وقامت هذه اللجة بمهمتها خير قيام، كما استرعى نشاط مصطفى كامل ، وخطبه الملتهبة، أنظار العالم كله نحو مصر ، وأشاع القلق في الدوائر السياسية البريطانية!

وهكذا بذل مصطفى من عصارة قلبه ما جمع الأمة، ووحدها وبدل من ضعفها قوة، ومن ذلتها عزة.. ثم أخرج للشعب جريدته الوطنية "اللواء" يرسم فيها تعاليمه وأهدافه.

ضغط الإنجليز وظهور الحزب الوطني

ولقد حاول الإنجليز والمنافقون، أن يهدموا ما بناه مصطفى كامل ولكن محاولاتهم ذهب هباء!

شعرت بعد حادث عمال مطبعة اللواء تتحول عجب في كياني وتفكيري وإحساساتي.. ووجدتني أتابع باهتمام وشوق وحماسة، أعمال الشاب مصطفى كامل ، وجرأته ووطنيته العالية.

إن الحقيقة مهما بلغ من هولها وقسوتها، أهون وأرحم من القلق والشك.. وهكذا علمنا مصطفى كامل معنى الوطنية الخالصة، إذا أطلعنا على هذه الحقيقة، وهيأنا للجهاد والتضحية.

ارتفعت الروح الوطنية، كلما ازداد الضغط الإنجليزي، وراح مصطفى كامل يتنقل في بلدان أوربا ينشر دعوته، ويوضح حقيقة القصة المصرية أمام الضمير العالمي!

وأمام تخاذل السلطات المصرية، أخذ الإنجليز يتدخلون في شئوننا الداخلية والخارجية، تدخلاً سافرًا..

فأرادوا منع الحج بدعوى انتشار الكوليرا في الأقطار الحجازية، وبيع سكك حديد السودان إلى شركة إنجليزية! لأنه لم تعد في حاجة لهذه السكك بعد انتصار الجيش المصري الدراويش! ولأن ثمنها ضروري للحماية في أعمالهم المقبلة!

ومشروع تعديل تأليف المحكمة الشرعية العليا ، الذي تقدم به المستشار القضائي الإنجليزي، والذي يقضي بتعيين قاضيين من قضاة الاسئتناف، لحضور جلسات هذه المحكمة ثم مسألة استرداد السودان وعدم أخذ رأي مصر فيها، مما كان له أثره السيء في النفوس، واستنكار جميع طبقات الشعب.

ومما زاد الطين بلة رفع العلم الإنجليزي بجوار العلم المصري، في السودان ، وخطبة اللورد كرومر التي أكد فيها انفصال السودان عن مصر ! واستقلال الحاكم الإنجليزي بإرادته، ثم نشر اتفاقية السودان المعروفة، وتكليف الحكومة المصرية بدفع نفقات هذه الحملة، وتبلغ 215.000 جنيه إلى الحكومة الإنجليزية. ودار الزمن دورته...

وتألف الحزب الوطني في أواخر عام 1907 وانضوى تحت لوائه أبر أبناء مصر بها.. ونشأ كذلك حزب الأمة! كما أوعز بإنشاء حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية! وذلك لمناوأة الحزب الوطني ، والقضاء عليه.

ولكن عمر هذين الحزبين كان قصيرًا، فسرعان ما خذلتهم الأمة وأحاطت الحزب الوطني بسياج من قلبها فأضاء وهدى الناس إلى حقوقهم الشرعية.

ولا أجدني بحاجة إلى إطالة التفكير، فجميع الحوادث التي مرت بي في ذاك الوقت، وقد نقشت على صحفات قلبي بحروف من نار.

غيوم..كان ذلك عام 1911 ، والجو الدولي ملبد بالغيوم.

والأخطبوط الاستعماري يتحسس ويتربص لالتهام فرائس جدد! المعاهدات تبرم بين الدول الكبرى لاقتسام الدول الضعيفة والتهامها.

لقد كانت إنجلترا تتوجس خيفة من ألمانيا، لاستمالتها الشعوب الإسلامية، وإزكاء مجد الإسلام في نفوس الشرقيين.

فهذا إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، يقف أمام قبر صلاح الدين قاهر ريكاردوس قلب الأسد كبير الصلبيين، ويضع إكليلاً من الزهور ويحني هامته إجلالاً وخشوعًا، ويقول قولته المشهورة "إنني أنحني أمام أعظم قائد عرفته الإنسانية".

وتلك البعثات الحربية التي كانت توفدها تركيا إلى ألمانيا من خيرة شبانها، لتدريبهم على أحدث الفنون الحربية والبعثة الألمانية العسكرية، التي أرسلت ل تركيا لتدريب جيشها على النظم العسكرية الألمانية، والهدية التي بعثت بها ألمانيا إلى تركيا ..

هذه الهدية التي أقضت مضجع إنجلترا.. البارجة المخيفة "جوين" والطرادة القوية "برسلاو" هذا إلى أن الأمم الإسلامية، كانت كلها منطقة نفوذ إنجليزية، يخشى عليها من ألمانيا، تلك الدولة الفتية التي أصبحت تنازع إنجلترا سطوتها وسيادتها في البحار. بظهور أسطولها الحربي الرهيب وأسطولها التجاري القوي.

لقد تجلت ألمانيا في هذه الحقبة من الزمن، بقوتها الصناعية وتفوقها العلمي.

كل هذه الأمور، أصبحت تشغل بال إنجلترا، وتثير مخاوفها، فأخذت تتحين الفرص لعدوتها المخيفة ألمانيا. لتؤلب عليها الدول لمحاربتها والقضاء عليها، وتلك سياسة إنجلترا في كل وقت.

كانت دول الغرب تنقسم إلى معسكرين أو كتلتين، فبينما كان يجمع إنجلترا وفرنسا والروسيا، التحالف الثلاثي، كان يضم الاتحاد الثلاثي، دول النمسا وألمانيا وإيطاليا، لذلك أخذت إنجلترا مهد الاستعمار تلعب دورها ببراعة، فتراها تطلق العنان للطليان لينكلوا

بشعب يريد أن يحيا حياة كريمة، هو الشعب الليبي!

كانت هذه النيات مكشوفة، فبريطانيا تريد أن تضم إيطاليا إلى جانبها، وتبذر الشقاق في صفوف الاتحاد الثلاثي! ومن أجل ذلك اتبعت هذه السياسة على حساب الشرف والضمير.

هجوم غادر!!

فوجئ العالم العربي والشرق، بنبأ هذا الهجوم الغادر الذي شنه الإيطاليون ليلاً، بقوة عمادها 200.000 "مئتي ألف" جندي تحت حماية أسطولهم، على الشعب الليبي الأعزل المسالم.

هذا الشعب الذي كان آمنًا في دياره، لم يعاده أحد ولم يعمل على عداوة أحد، فصبوا الحمم عليه، فقتلوا الرجال والنساء، الشبان والشيوخ، حتى الأطفال الرضع.

ولقد هام على وجهه من تخطاه الموت، رجال ونساء وشيوخ.. آلاف منهم خرجوا من دورهم مذعورين متدافعين، كأنهم قطعان مستنفرة، فرت من قسوة.

كان المساكين يبكون ويصرخون، وإلى السماء يرفعون شكاية تهز الجبال هزًّا.

أما القوة التركية، التي كان لا يزيد عددها عن 5000 جندي "خمسة آلاف" فقد دافعوا دفاعًا مجيدًا بالقليل من الذخيرة التي معهم، حتى إذا ما أوشكت هذه الذخيرة على النفاذ وتحرج الموقف اعتصموا بالجبال والصحاري مترقبين وصول مدد إليهم من قبل تركيا .

شاع السخط في الأوساط الوطنية المصرية، وأعلنت الاحتجاجات الصارخة، وقامت المظاهرات الوطنية تطوف بالشوارع والميادين ودور السفارات، تعلن استنكارها لهذه النذالة السافرة.

وألهب الخطباء حماسة الشعب، وترنم الشعراء بالقصائد الوطنية في هذا المعنى، وإني لأذكر تلك القصيدة العصماء التي صنفها شاعر الوطنية الخالد، شاعر النيل المرحوم حافظ بك إبراهيم :

طمع ألقى عن الغرب اللثاما

فاستفق يا شرق واحذر أن تناما

ومنها:

حاتم الطليان قد قلدتنا منه

نذكرها عامًا فعامًا

أنت أهديت إلينا عدة

وعتادًا وشرابًا وطعامًا

وسلاحًا كان في أيديكموا

ذا كلال فغدى يفري العظاما

وأخذ صاحب السمو المغفور له الأمير الجليل عمر طوسن الذي كان يعمل ضد أعداء الوطن والعروبة، والذي تعهد المهمة السامية، واضطلع بالواجب المقدس، فأوقف حياته وماله، وكل ما يملك، في سبيل نصر الوطن ورفع الضيم عنه، فاحتضن الحركة القومية بزعامة مصطفى كامل ، كما أخذ يصنف المؤلفات العديدة في إظهار حقوق وادي النيل، وارتباط شطريه، الشمالي والجنوبي، بذلك الرباط المقدس، رباط الدم والدين واللغة.

كما راح يظهر المستعمرين في صورة الغاصبين الدخلاء، ولكم تحمل المشاق في طرق الأماكن النائية، في جنوب الوادي يعمل ويعمل دون ملل أو كلل.

وعندما هاجم الإيطاليون ليبيا، ونكلوا بشعبه المسالم، أخذ يعد العدة لمساعدة هذا الشعب الشقيق، فاتصل بقيادة تركيا ، ورسم معهم الخطط الجريئة الكفيلة بتفويت الفرصة على الغاصبين، كما أخذ ينظم ويتعهد جمعية الهلال الأحمر، وإيفاد البعثات الطبية التي تضم خيرة شباب مصر ،

لإرسالها إلى الميدان الليبي لمعالجة الجرحى والأخذ بيد المصابين، وإني لأذكر بالفخار هؤلاء الأطباء الذين لبوا نداء الواجب وحققوا آمال صاحب هذه الشخصية النبيلة فيهم، كانوا حضرات الدكاترة مع حفظ الألقاب:

حافظ عفيفي ، و سالم هنداوي ، و سيد شكري ، والمرحومين نصر فريد ، و محمد كامل ، وغيرهم من شباب مصر اللامع.

ولقد قام رجال الحزب الوطني في هذه الآونة بالدور الأول في إزكاء الحماسة والوطنية في قلوب الشعب، كما فتحت رجالاته أبواب منازلهم يؤون فيها قواد تركيا البواسل، الذين بعثت بهم أمتهم إلى ليبيا ، لتنظيم الجهاد ومواصلة القتال ضد المستعمرين.

لقد حضر هؤلاء القواد، أمثال أنور و مصطفى كمال (أتاتورك) وعصمت والضابطان الألمانيان البارون فون جونبنبرج ، و فون بثنهايم و عزلي جمالي وغيرهم عن طريق الصحراء الشرقية ، واستقروا في مصر في بيوت هؤلاء الأحرار من رجالات الحزب الوطني .

فنزل بعضهم ضيوفًا مكرمين في منازل أصهار الشيخ عبد العزيز جاويش ، كما نزل عاهل تركيا الخالد مصطفى كمال "أتاتورك" بعوامة محمد باشا يكن بواسطة حافظ رمضان باشا – وقد حفظ عاهل تركيا هذا الصنيع في نفسه، حتى إذا ما سافر سعادة حافظ رمضان باشا، إلى مقابلته في أنقره، رد إلى مصر في شخصه هذا الصنيع، وكلف مندوبه في مؤتمر لوزان – عصمت إينونو- بالاعتراف الصريح بتنازل تركيا عن سيادتها إلى مصر ، لا إلى إنجلترا، وذلك عام 1923 .

لوكاندة عصفور!!

على ضفاف الميناء الشرقية، وبالقرب من محكمة استئناف الإسكندرية (الآن)، كانت تربض تلك البناية التي وضعت في إحدى حجراتها، أهم خطة حربية عرفها تاريخ الشرق العربي.

نشر الليل جناحيه السوداوين على الكون. وساد الصمت والسكون، فلم يكن يسمع إلا صوت تلاطم أمواج البحر. بتلك الصخور العتيدة، المتناثرة هنا وهناك (في ذاك الوقت).

في وسط هذا السكون الشامل، برز شبح من إحدى المنعطفات الضيقة، وأخذ يتحسس طريقه في الظلام، حتى إذا ما وصل إلى بناية علقت على مدخلها لافتة تتراقص في مهب الريح، استطاع هذا الشبح أن يقرأ في هذه اللافتة، تلك الجملة "لوكاندة عصفور" تنفس الصعداء أخيرًا، وتقدم نحو الباب فطرقه، وانتظر برهة قصيرة، ارتفع على أثرها ضرير خفيف، وفتح الباب، دلف هذا الشبح في ردهة تكاد تكون مظلمة إلا من نور خافت حالم، يبين في مشقة معالم الطريق.

كانت هذه لوكاندة عصفور بشارع فرنسا ب الإسكندرية ، هذا الفندق المتواضع، الذي حدد لكل نزيل به، أجرًا قيمته خمسة قروش لمبيت ليلة، فمن كان يظن أن هذا الفندق المتواضع تضم إحدى حجراته، أعظم قادة الشرق العسكريين آنئذ، حنكة وخبرة.

عندما دلف الشخص المجهول إلى الحجرة التي يقصدها، تطلعت إليه في لهفة وحرارة، أبصار أنوار (باشا) و مصطفى كمال (أتاتورك) وعصمت (باشا) والضابطان الألمانيان، البارون فون جونبنبرج وفون بنتهايم، وأمين بك و عبد الله طومسكت و غزلي جمال بك، وغيرهم.

وعندما احتوتهم تلك الحجرة، ابتدأ هذا الرجل الذي جاء في خفية وحذر شديد، يروي لهم تدبيراته عن المهمة التي يتحرقون إليها شوقًا.

فقال أنور باشا:

-نحن نقدر للحزب الوطني جهوده في هذا السبيل، ونعلم عظم التبعات التي تحملها في سبيل قضية العرب ونصرة الإسلام .

كان هذا الشخص الذي حضر الآن في خفية هو الأستاذ عبد اللطيف جاويش ، شقيق المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش ، ذو التاريخ الوطني الناصع.

لقد كان عبد اللطيف جاويش ، همزة الوصل كما يقولون بين الحزب الوطني والقادة الأتراك، وأحد المنفذين لخطه تهريب هؤلاء القادة عبر صحراء مصر الغربية . ثم ليبيا .

أخذ الجميع يتدارسون الخطة بإمعان وروية، حتى إذا ما استقر رأيهم، وحزموا أمرهم. قال عبد اللطيف جاويش :

-أما تدرون بالقرار الأخير الذي أذاعه العميد البريطاني؟

ولما أجيب بالنفي، قال موجهًا الكلام لأنور باشا:

لقد قرر العميد أمرًا يقضي بأشد العقوبة لكل من تطاوعه نفسه ويعمل على تهريب أو مساعدة قواد من تركيا ، أو تهريب سلاح أو ذخيرة، لعرب ليبيا ، ومنح كل من يقبض على أحد من هؤلاء القواد مبلغ خمسمائة جنيه ذهبًا! وقد شمل هذا التحديد بالذات، القائد أنور باشا!

قهقه أنور باشا ضاحكًا وقال:

-عظيم جدًا هذا القرار.. لقد بخسونا حقنا في تقدير القيم الشخصية. لعنة الله عليهم. وصمت لحظة قصيرة وتابع حديثه في رزانة:

للأسف الشديد، إن الناس في هذه الأيام، يجرون وراء الثمن لأي شيء، ولكنهم لا يعرفون قيمة أي شيء، وهكذا يعمل المستعمرون.

على الحرمان البالغ والفقر المدقع. ثم البذل بسخاء لضعاف النفوس.

ثم نهض أنور باشا وقال في حزم:

-هذه هي اللحظة الفاصلة.

وإن الأقدار لا تغلق بابًا، إلا وتفتح بابًا آخر. ولقد سرنا إلى الأمام خطوات، فمحال أن نتراجع.

وعندما تنفست أشعة الفجر الأولى، مؤذنة ببداية يوم جديد كان هؤلاء القادة الميامين، يتشحون بأحزمة بيضاء، فضفاضة، ويتقدمون ركبًا من الخيول والإبل.. عبر الصحراء الشاسعة.. الصحراء الغربية .

وفي قلب الصحراء الشاسعة، المترامية الأطراف من الإسكندرية حتى بقبق.. كنا نرابط على مسافات متقاربة.

نحن ضباط سلاح الهجانة المصري.. أو صقور الصحراء كما كانوا ينعتونا.

لقد كان في أعناقنا واجبات. هكذا علمتنا تلك المبادئ... مبادئ الحزب الوطني . وجمعتنا وألفت بين قلوبنا، غاية واحدة.

هي العمل.. والعمل الإيجابي البحت. العمل على إقلاق المستعمر، وإحباط خططه، بل ومناهضته، بكل ما نملك من قوة.

وفي الحق، أن المستعمرين كانوا في هذه الفترة يتوجسون خيفة من نضوج الوعي القومي. فهم في قلق مستمر، واضطراب ظاهر، فراحوا يتوسلون بشتى الوسائل، لإماتة هذا الشعور والقضاء عليه فخلقوا الرشوة، وفتحوا معهدهم على مصراعيه.

لتخريج من أراد من... العبيد... وذهبوا يغدقون باليمين والشمال عليهم الأموال والألقاب..منشور..

لم يكن يخطر ببالي قط، أن الأقدار ستهيئ لي و الإخواني سلسلة من المغامرات الخطيرة، والمواقف الحرجة، التي كان من بينها صدور حكم الإعدام على.. من محكمة عسكرية إنجليزية!!

فلولا هذه المظاهرة التي قدتها، ووقفت أخطب فيها بملابسي العسكرية.

ضد مستر تيودور روزفلت ، رئيس الجمهورية الأمريكية ونزيل مصر وقتذاك.. نعم لولا هذا لتغير مجرى حياتي الآن، ولكن هكذا شاءت الأقدار..

وما أنا بنادم على شيء. ويكفيني أنني لم أكن في يوم من الأيام، دمية يحركها المستعمر كيف شاء، أو بالرجل اللين الذي يصاغ في أي قالب.

تسلمت عملي بسلاح الهجانة، بقسم سيدي براني في صحراء مصر الغربية ...

وقلبي يكاد يتمزق غيظًا من المستعمرين وصنائعهم من المصريين. ثم الطليان وغدرهم بالليبيين.

وكنا دائمًا نحن شباب الضباط وجنودنا السودانيون البواسل نتنسم أخبار إخواننا المجاهدين من شباب الحزب الوطني .

كما كنا نتابع باهتمام أبناء حزب الاتحاد والترقي في تركيا .

وكانت تستهويني هذه الأسماء اللامعة. أنور، نيازي، عزيز المصري .

وبينما كان طوفان السخط، يجتاح العالم العربي وخصوصًا مصر بشأن ليبيا ، وأفكارنا مبلبلة بهذا الغدر الغاشم، إذ يطلع علينا قائد عام سلاح الهجانة هنتر باشا، بمنشور خلاصته:

كل ضابط أو جندي يساعد الأتراك وعرب ليبيا بأية صورة من صور المساعدة، توقع عليه أشد العقوبات، ويمنح مبلغ خمسمائة جنيه، كل من يقبض على أحد من القواد الأتراك، خصوصًا أنور باشا، أو نيازي بك، أو عزيز المصري بك.

عندما سمعت هذا المنشور، اجتاحني موجة من الشعور لا أستطيع تكييفها أو وصفها، ولكن الذي رسخ في ذهني، أن الطير بعيد الآن عن المصيدة ولم يقع بعد في الشرك، فلابد من تحذيره بأية وسيلة وبأي ثمن! وأخذت ألوف من الأفكار والخواطر تزدحم في رأسي، حتى تكاد تخنقي لكثرتها ولاختلاف أسبابها، فهذه حوادث عرابي وذكراها، ما زالت ماثلة أمام عيني، وتلك الدماء الزكية، دماء شهداء الحرية، ما زالت ندية قانية لم تجف بعد، وهذه القيود التي كبلت بها الحريات،

وهناك أيضًا رجال وشبان، دفعهم الفقر والجهل والحرمان، إلى الشر والإجرام وهم في ذلك مدفوعين بقوة من وراء ستار، قوة المستعمر الذي يمنح بيد للأذناب – وما أقلهم وأحرقهم- ويقبض الأخرى عن السواد الأعظم، ليميت الشعور ويقضي على الوجدان.

هذا الشعور، وذلك الإحساس، وتلك الخواطر التي كانت تجول في رأسي، كانت تضطرم بها أيضًا، جوانح إخواني وزملائي من ضباط وجنود، كان هذا الشعور، هو الرباط المقدس القوي، الذي ألف بين قلوبنا على مقاومة المستعمر وإحباط خططه.

لقد كنا مؤمنين باليوم الذي سيأتي، ويصرع فيه الألم والعذاب طغيان الطغاة، ذلك اليوم الذي تشرق في سماء وطننا، شمس الاستقلال، ويشع فيه نور الحرية الغالية.

مفاجأة!!

ودارت الأيام دورتها، وبينما كنت أتجول بجوادي في سهول بقبق، والشمس تنحدر تدريجيًّا نحو الغرب، إذا بي أشاهد قافلة تسير في حذاء الأفق البعيد، أخذت أستحث الجواد، حتى لحقت بها، عند ذاك تقدم أحد رجال القافلة لمخاطبتي، وعندما تلاقينا، استولت علينا الدهشة، وغمرنا سرور مفاجئ، لقد كان هذا الرجل عبد اللطيف جاويش ، شقيق المرحوم المجاهد، الشيخ عبد العزيز جاويش .

وبعد أن حييته بحرارة قال لي:

-لقد جئنا عن طريق زاوية الشيخ بسيدي براني، وقد قابلنا هناك المجاهد اليوزباشي علي عبد الوهاب – الأميرالاي بالمعاش- وقد أمننا ودلنا على الطريق.

ثم سكت قليلاً وتابع حديثه قائلاً:

-إن معي أنور "باشا" والبكباشي مصطفى كمال "أتاتورك" والبكباشي عصمت (ويغلب على ظني أنه عصمت إينونو) والضابط الألماني البارون فون جنبنبرج والضابط فوق بنتهايم، وبعض الضباط الأتراك، ونريد اجتياز الحدود، فما رأيك؟

صراع...

رنت في أذني هذه الأسماء الحبيبة، التي كانت مشوقًا لرؤية أصحابها، أنور، مصطفى، عصمت، على قيد خطوات مني، وفي حاجة إلى مساعدتي، أنا، والآن؟!

صدقني أيها القارئ الكريم، إني شعرت منذ هذه اللحظة، أن حدثًا هائلاً يوشك أن يلم بي، وأن أمرًا جللاً، يعد لي في أطواء القدر. ومرت الذكريات كلها أمام بصري. فطالعتني الوجوه السكسونية الجامدة، ورقصت كلمات المنشور أمامي، فكشفت عن التهديد والإغراء بالذهب، ذلك المنشور الذي بعث به إلينا، قائد سلاح الهجانة هنتر باشا!

إن آثام هؤلاء المستعمرين، آثام الخلق جميعًا. مرت أمام عيني في موكب مزدحم بالشر. وفي هذه اللحظة، كان يتنازعني عاملان. كان أحدهما يقول لي:

يجب ألا تتورط في هذا. فهو الجنون بعينه، وهو عمل ليس لك ولا هو من شأنك، وأنت خاضع للقوانين العسكرية، وليس لك أن تتدخل في شيء من هذا.

وكان العامل الثاني يهيب بي، لكنهم إخوانك في الدين. ويعملون على نصرة شعب مغلوب على أمره، فلا تتخلى عن مساعدتهم، وواجبك المقدس حيالهم.

جالت كل هذه الخواطر في رأسي بسرعة البرق الخاطف. وتيقنت في هذه اللحظة، بأني لا أستطيع مقاومة العاطفة الجارفة التي استولت علي، وأحاطتني بحرارتها ولهبا. لقد كنت أشعر كأن ضوءًا باهرًا، يغمر قلبي أشعة الشمس. الحقول والأزهار أمامها...

تمالكت نفسي، وقلت لعبداللطيف:

-دعني أتقابل مع القائد أنور باشا. وسرت معه.

مغامرة

كان من العسير علي أن أفسر الأعمال والبواعث التي تدفعني إلى تلك المغامرات الرهيبة، التي صادفتني في حياتي. كنت أنسى كل شيء سوى أن وطني مكبل بالقيود الثقيلة، وأبناء عمومتي العرب، يدافعون ويزودون العدو عن ديارهم.

ولا أعدو الحقيقة، إذا قلت إن يقيني هذا، وعقيدتي تلك. كان كل شيء يثبت أن الباعث الأول هو ثمرة تلك الفكرة السامية التي غرزها فينا الزعيم الشاب مصطفى كامل ، وتلك التعاليم الدينية المقدسة، التي أفهمتنا أن المؤمنين أخوة يشد بعضهم بعضًا.

هذه التعاليم التي كنا نحافظ عليها، محافظتنا على روابط الأسرة ثم تلك التربية النفسية التي كيفتنا عليها الصحراء، وصاغتنا من معدنها، قوة لا حدود لها في شبانا وفتوتنا، وإيماننا وشعورنا العميق بالعزة والكرامة، وثقتنا بأنفسنا،

ثقة لا تتزعزع أو تلين نحن شباب الحزب الوطني .

عندما صافحت القائد أنور باشا، شعرت بأنه يشد على يدي بقوة وحرارة وهو يبتسم، ثم سألني عن اسمي، فأخبرته، وكان يقوم بالترجمة بيننا البكباشي غزلي جمال ( غزلي جمال باشا قائد الجيش السعودي سابقًا). ودار الحديث بيننا كالآتي:

-ما وجهتكم أيها القائد:

-إلى طرابلس لمحاربة الطليان.

-ولكن المعدات والذخيرة تنقصكم، ومن العسير مقاومتهم عند ذلك اتقدت عينا القائد التركي ، وقال في عزم جبار:

-هل الطليان معهم سلاح أم لا؟

-نعم بالطبع.

-إذن سننقض عليهم انقضاض الأسود الكاسرة على قطيع من الذئاب، وثق بأنا سنأخذ سلاحهم وبه وسنضربهم.

أخذت بهذه الشجاعة الفائقة، وصادفت روحي المتعطشة إلى المغامرة والمخاطرة، ألم أكن شابًا تجري في عروق دماء الحرية؟ ثم هؤلاء أبطال تربطني بهم روابط كثيرة.

نظرت للقائد أنور باشا وقلت له:

-سيدي، إنني أرجو أن تسمحوا لي بمرافقتكم إلى الميدان، حيث آخذ بنصيبي من الجهاد ، وثق أني أتمنى أن يكتب لي أجر الشهداء..

لكن القائد هز رأسه آسفًا وقال:

-فكر قليلاً يا بني. إنك تطالبني بالمستحيل.

ولكني لم أتراجع، بل قلت له في عزم:

-إصغ إلي يا سيدي. لقد توسلت إليكم كرجل مؤمن، أن تصغي لرجائي ونداء قلبي، وأنا لا أطلب إليك المستحيل كما قلت، أو تضحية ذاتكم على مذبح أمنيتي، تأكد يا سيدي أنني أحمل رأسي على كفي، وإني لا أحفل بالحياة في سبيل نصرة إخواني .. إخواني المسلمين .

كنت أتكلم بحرارة أدهشت القائد، وكاد أن يذعن لرغبتي، ولكنه تذكر أمرًا، وسرعان ما بادرني قائلاً: -يا صديقي الشجاع. إن مكانك هنا، أنفع لقضيتنا من ألف جندي محارب، فالضباط لدينا كثيرون، نحن أحوج ما نكون إلى أمثالك المخلصين، وبالذات هنا.

لم أجد بدًا من التسليم بالواقع، أمام هذا الإيضاح وذاك الرجاء الحار، الذي ناشدني إياه ذلك القائد العظيم.

سرت والقافلة، مسافة 3 كيلو مترا غربي بقبق... ثم استأذنت رجالها، بعد أن زودتهم بالمعلومات الخاصة، عن الطريق الذي يسلكونه، وهو طريق –نقب حلفاية- حتى يأمنوا الإنجليز وعيونهم... ورجعت وبين ضلوعي نار متأججة.. نار الشوق للجهاد... بجانب هؤلاء الأبطال.

رحيل.. وبكاء!!

كنت أعيش بعد هذه المقابلة، التي تمت بيني وبين أبطال تركيا الحديثة.. في وجد دائم، وشوق مستمر، لأن أشارك المجاهدين جهادهم.. وملكت على هذه الفكرة، أسارى ووجداني.

كنت نهب الأفكار والخواطر طيلة الأيام التي أعقبت مقابلتي للقائد أنور باشا.. عرفت في تلك الليالي، معنى الأرق، ومعنى الكفاح في سبيل النوم..

غير أن ما كان يهون الأمر على، تلك الأخبار التي كان ينقلها لنا البدو عن الاتصالات المتوالية التي فاز بها العرب على الإيطاليين، والخسائر الجسيمة التي يتكبدها هؤلاء الغزاة.

فكانت هذه الأنباء، مثار حديثنا جميعًا، أنا وجنود الهجانة السودانيون.. أبناء جنوب الوادي الشجعان.. لقد كانت تستخفهم تلك الانتصارات، وتملأ قلوبهم حمية وحرارة وبسالة.. وكثيرًا ما كانت تجول في أفكارهم فكرة الجهاد بجانب إخوانهم الليبيين.

وقد كنت أعلم بخبيئة نفوسهم، وكانت تملأني هذه الروح العالية. روح هؤلاء الجنود... عزة وفخارًا.. إشارة تليفونية

في الساعة الثالثة من صباح يوم من أواخر عام 1911 ، جاءت إشارة تليفونية في نقطة بقبق من القيادة. مفادها أن أبادر بالحضور إلى سيدي براني، لاستلام قوة من الهجانة.. لاحتلال السلوم قبل استيلاء الطليان عليه.

يا للمعجزة..

هل تحقق الرجاء بهذه السرعة. وهل أنال تلك الأمنية العزيزة؟ إن أمر الرحيل صريح في مبناه ومعناه.

الاسراع لاحتلال السلوم قبل استيلاء الطليان عليه... حتى لو نشبت بيننا وبينهم معركة أو قتال.

استخفني الفرح لهذا النبأ الذي سيحقق لي جزءًا من هدفي.. سأواجه الطليان أعداء العرب... وأقف في وجههم... وأقاتلهم لو استدعى الأمر ذلك.

الرحيل

كان علي أن أقطع مسافة 45 كيلومترا من بقبق إلى سيدي براني لاستلام القوة، وضعف هذه المسافة من سيدي براني إلى السلوم في العودة.

وصلت سيدي براني وتسلمت القوة...

وكلفت الباشجويش حسن محمد عامر ، اختيار أربعة جنود برياسة أومباشي، لحراسة قسم سيدي براني... وقد وقع الاختيار على الأومباشي سرور عبد الله وأربعة جنود.

ولكن سرعان ما حضر إلى الباشجويش حسن محمد عامر ، وأخبرني أن الأومباشي سرور وجنوده، يطلبون مكتبًا لأنهم مظلومون.

دهشت لهذا النبأ...

إذ كان الصلة بيني وبين جنودي، على أحسن ما تكون الصلات، متانة وقوة... وعندما أذنت لهم بالحضور، قال الأومباشي سرور عبد الله ،

وهو لا يتمالك نفسه من التأثير الشديد الذي استحوذ عليه:

-نحن جنود يا حضرة الضابط: وتعلمنا الطاعة للأوامر...

ولكن هل يرضيك بالله أن نقعد نحن هنا كالنساء، ولا نشارككم الجهاد ومواجهة الأعداء؟

بكي الأومباشي... وبكى معه الجنود الأربعة..

وترقرقت في عيني الدموع.. دموع الإكبار والتقدير لهؤلاء الجنود البواسل. ولكني قلت له:

-يا أومباشي سرور. هل تثق بكلمة الشرف التي أعطيها لك؟ قال في إخلاص ودون تردد:

-إني أثق بك يا حضرة الضابط ثقة مطلقة.

قلت:

-إذن فثق بشرفي، أنه لو قاتلنا الطليان، وواجهناهم. فإني أبعث إليك بآخرين يحلون مكانكم، لتحلقوا بنا وتشاركونا الجهاد .

وهكذا خلفنا وراءنا خمسة أبطال، يتمنون الاستشهاد في سبيل الله..

وفي سبيل أنبل غاية وأقدسها.

وقبل أن نشد رحالنا، قمنا فتوضأنا واتجهنا شطر القبلة،

وأممت رجالي في صلاة خاشعة... مبتهلين إلى الله *، أن يشد أزرنا وينصرنا على أعدائنا.

ولا أستطيع أيها القارئ الكريم، أن أصف لك موجة الفرح التي غمرت جنودي، حينما بادرنا بالرحيل.. فقد كادوا يطيرون ويستعجلون الزمن، ويتمنون أن يطووا الأرض طيًّا.. كما كانوا يبتهلون إلى الله، أن يتيح لهم فرصة امتشاق السلاح ضد الأعداء.

كانت الشقة بعيدة.. والوقت ضيق.. والسماء تهطل مدرارًا والطريق صعب وشائك.. وديان ووهاد.. وتلال ومرتفعات.. فكنا نسير على حافة كثبان الرمل على الساحل؛ لأن غالبية الطريق (سبخة) ويتعذر السير عليها بالهجن.

وقبيل الفجر... وصلنا إلى "نقب العقرب" بجبل السلوم.. فخططنا رحالنا، وبادرنا بإنشاء الاستحكامات.

الضابط الإيطالي موقف خطير

وقبل أن تنقضي بضع ساعات، لاحت في الأفق البعيد.. في عرض البحر.. طرادة إيطالية، ثم شاهدت قاربًا بخاريًا ينزل منها ويتجه إلى البر.

أسرعت نحو ركاب اللنش.. فوجدتهم ضابطًا إيطاليًّا، واثنين من البحارة، وأحد التراجمة. سألت الضابط عن سبب حضورهم إلى هذا المكان – كان يقوم بالترجمة بيننا الترجمان الذي يصحبهم. قال:

-حضرنا لاحتلال السلوم.

قلت:

-إن السلوم أرض مصرية، وأنا ضابط مصري.

قال:

-إن الأوامر التي لدينا تقضي باحتلال هذا المكان ولابد من تنفيذ الأوامر.

كان هذا أول عمل خطير الشأن واجهته واختمرت الفكرة في رأسي بسرعة خاطفة.

وقلت له في حزم:

-إنت إذن تلعب بالنار أيها الضابط.

قال:

-ماذا تعني؟

قلت:

-إني سأمنع احتلالكم لهذا المكان بالقوةل أن هذه الأرض أرض مصرية ولدي تعليمات وأوامر صريحة من القائد العام لفرق الهجانة المصرية اللواء هنتر باشا..

وهو إنجليزي ومعنا هنا...

(لم يكن هنتر باشا معنا وليس لدي أوامر ولا تعليمات باستعمال القوة ولكني قلت هذا الكلام من تلقاء نفسي وكنت فعلاً سأستعمل القوة ضد الطليان)..

أن أمنع بالقوة كل من تحدثه نفسه باحتلال هذا المكان... وأن بعملكم هذا ستسببون مشكلاً دوليًّا بين دولتكم وإنجلترا و مصر .

كانت ضربة في الصميم، بلبلت أفكار الضابط الإيطالي ولكنه قال:

-أريد مقابلة هنتر باشا والتحدث إليه؟

لم أفاجأ بهذا الطلب... لأني كنت قد أعددت للأمر عدته.. فقلت له:

-إن القائد العام خرج للصيد.

ظهر الارتباك على وجه الضابط الإيطالي وقال:

-سوف أبلغ قائدي ما دار بيننا من حديث..

ومن المحتمل أن أعود ثانية..

ومضى بطرادته نحو الغرب.

تنفست الصعداء، وحمدت الله أن وفقني إلى هذه الحيلة، وكسبنا الشوط في سلام.. لأنه لم يعد بعد ذلك. وبعد ساعة..

ظهرت الطوافة عبدالمنعم، التي تقل قائد عام السلاح هنتر باشا، والأميرالاي سنويك، والقائمقام موريس بك والصاغ تويدي..

ونزل منها في قارب، الملازم ثاني البحري سالم البدن (سعادة أمير البحر سالم باشا البدن ).

قال لي:

-إن هنتر باشا على ظهر الطوافة ويريد أن يراك.

ذهبت إليه.. فسألني عن موعد وصولي، والمكان الذي أنزل فيه بقوتي، فأخبرته.

ولما قصصت عليه ما دار بيني وبين الضابط الإيطالي، صافحني قائلاً:

-أنت رجل شجاع، وتفهم إجابتك دون توجيه أو إرشاد وجدير بي أن أهنئك على حسن تصرفك وحزمك.

شكرت القائد هذا التقدير، وأديت له التحية وانصرفت عائدًا إلى جنودي.

وبعد قليل، انضم إلى معسكرنا هنتر باشا ورفقائه وأنزلوا مهماتهم، حيث استقروا معنا هناك.

سر من أسرار الاستعمار الإنجليزي

وهنا أقف قليلاً أيها القارئ العزيز، عن متابعة سرد هذه الحوادث، لأوضح لك الخطوط الرئيسية في هذه الناحية الدقيقة الهامة..

ولأضع النقاط على الحروف كما يقولون.. أو بمعنى آخر لأكشف لك الغطاء عن سر من أسرار الاستعمار الإنجليزي.

فإن الاتجاه الراهن للحوادث العالمية اليوم، يفسر لنا النوايا الاستعمارية الإنجليزية، المبيتة منذ أربعين سنة... أيام من أن كان الهدف.. منطقة السلوم.

فقد تأكد للإنجليز، بما عرف عنهم من الدقة والعناية بالأساليب الاستعمارية، وبما توفر لهم من الدراسات والطرق الخفية!.. أن الهند ستخرج يومًا من قبضتهم عندما تشب عن الطوق...

وأن مصر بموانئها الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، سيفلت زمامها من أيديهم، يومًا من الأيام كذلك، لهذا نراهم يوجهون أنظارهم ومطامعهم الاستعمارية، نحو أفريقيا ليستعيضوا عنها بالهند!

ولما كانت إنجلترا أمة لها السيادة في البحار، وقوتها في أساطيلها البحرية الحربية، وتخشى من ضياع القواعد البحرية التي تملكها في البحر الأبيض تبعًا لما ذكرناه.

فسرعان ما لفتت أنظارهم ميناء السلوم فحاولوا اغتصابها ليضمنوا في حوزتهم ميناءين هامين على ساحل البحر الأبيض المتوسط..

هما ميناءي بردية والسلوم.. وبذا تتحقق مطامعهم في أفريقيا بدلاً من الهند و مصر ..

ويضح مشروعهم الجديد (كيب تاون سلوم) بدلاً من مشروعهم القديم (كيب تاون إسكندرية ).

لذلك عملوا جاهدين على حفظ هذه المنطقة الممتدة من السلوم إلى حدود السودان والتي تدخل ضمنها واحة جغبوب والتي أرادوا أن يضحوا في سبيلها بالأموال والأرواح كا سيأتي ذكر ذلك في سلسلة هذه المذكرات.

ولكنهم عندما رأوا أن منطقة السلوم، خرجت من أيديهم تبعًا لموقفنا نحن ضباط وجنود سلاح الهجانة المصري، وانتزاعها من أيديهم، ورفع العلم المصري عليها (كما هو مذكور في هذه الحلقة) فقد قلت أهمية جغبوب تبعًا لذلك عندهم والدليل على ذلك، إيحائهم للساسة المصريين الضعفاء عام 1925 ، برتكها وكانت ضمن الحدود المصرية والتخلي عنها للإيطاليين، الذين جمعتهم بالإنجليز فكرة القضاء على مجاهدي ليبيا واستعمارها.

وإن المتوفر على دراسة المسائل السياسية، والأحداث العالمية، والمتتبع لتطوراتها، ليجد أن إنجلترا التي أخفقت في تحقيق مطامعها السابقة في منطقتي السلوم، وجغبوب عام 1911 تريد اليوم في عام 1950 ، الاستعاضة عنها بواسطة خطتين منفصلتين، وإن كانتا متداخلتين.

فالخطة الأولى، ترمي إلى تسليم ميناء غزة إلى حليفهم الصادق، الملك عبدالله ملك شرق الأردن . بعد معاهدة تصفية بينه وبين الصهيونية. كما هو معلوم ومعروف.

وبدذا يتحقق للإنجليز، حلمهم القديم، ومشروعهم الدارس.

أما الخطة الثانية، فترمي إلى الاستيلاء على أية ميناء في ليبيا ..

ولذلك فإننا نرى اليوم الإنجليز وحلفاءهم الاستعماريين، ينادون بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة مناطق على الوجه الآتي:

منطقة برقة وتكون تحت إمارة اليسد إدريس السنوسي ، ومنطقة طرابلس تحت النفوذ البريطاني، ومنطقة فزان تحت النفوذ الفرنسي.

هذا رغمًا عن قرار هيئة الأمم، الذي يخالف رأي المستعمرين. ودليلنا على ذلك، تلك العراقيل والعقبات، التي يضعها الإنجليز الآن أمام اللجنة السياسية لهيئة الأمم المتحدة، الخاصة بنظر مشكلة ليبيا .

هذه هي الخطوط الرئيسية في تلك المنطقة الدقيقة التي أوضحناها لك أيها القارئ العزيز، لتقف على مدى المطامع الإنجليزية الاستعمارية، لكي تفكر في المستقبل القريب، وتساهم في وضع وثيقة التأمين الوطنية، التي تتطلب منك أقساطًا من الجهود والعرق لتضمن إخماد آخر أنفاس الاستعمار البغيض. ولنعود إلى سياق الحودث فنقول:

وحدة الشعور

أخذت قوات سلاح الهجانة، تفد تباعًا وعلى رأسها شباب الضباط، صالح حرب (معالي اللواء محمد صالح حرب باشا) و يوسف هيبة (المرحوم القائمقام يوسف بك هيبة ) واليوزباشي محمود حمزة (المرحوم القائمقام محمود بك حمزة ) و مرسى محمد (القائمقام مرسي محمد بك بالمعاش) والملازم ثاني عبد الحليم حمدي (الشهيد الملازم أول) واليوزباشي سيد أحمد أبو شادي (المرحوم).

كما حضر اليوزباشي البحري، محمد فهمي أبو منير (المرحوم البكباشي أبو منير بك).

لاشيء في الوجود أثمن من الشباب، وقوة الشباب.. وإيمان الشباب.. إنه عدة وذخيرة لا تنفد. وسلاح وقوة لا تقهر.

التأم جمعنا في السلوم، وكانت تدور في رؤوسنا فكرة واحدة فكرة سياسية الوجهين التي يتبعها الإنجليز حيال العرب المسلمين، وأخذنا نستعرض الأحداث، على ضوء الحقائق التي تتكشف لنا يوميًّا.

كنا نتحرق غيظًا، وتستبد بنا عواطفنا الثائرة ضد هؤلاء الإنجليز، فالتفت إلى إخواني الضباط، موجهًا الحديث إلى زميلي صالح حرب قائلاً:

-ماذا ترى يا صالح في هذه الأمور؟ أيخلق بنا أن نستمر هكذا مكتوفي الأيدي، وهؤلاء الإنجليز يلعبون بمصير أمتنا، وهم هنا وليس بينهم ضابط مصري عظيم ثم يحرضوننا على إظهار عداوتنا لإخوان تجمعنا بهم روابط كثيرة؟ هذه حالة لا تطاق!

قال الملازم صالح حرب :

-لا تجزع.. إن مصر ستحاسبهم.. وعن قريب سنهب جميعًا للذود عن الحمى، بكل ما نملك من قوى.. ولكن بما أن هذه النيات تكشفت، فلابد من عمل سريع. فما رأي الإخوان ؟

قال الملازم عبد الحميد حمدي (استشهد):

إن الحمقى والأغبياء هم الذين يجلسون أمام هذه الأحداث.. جلسة المتفرج الذي لا شأن له بما يقع.. لابد من عمل!

وقال اليوزباشي البحري محمد فهمي أبو منير (المرحوم):

-لقد انهزم أباؤنا أنصار عرابي، ولكننا سنحارب الاستعمار وسنتذوق لذة الانتصار.. لأنا لن نجرب معنى الهزيمة:

القافلة

-أترى هذه القافلة المتجهة إلى الغرب؟

قالها لي زميلي الملازم محمد صالح حرب .. وسددت نظري حيث أشار الزميل وقلت:

-نعم أراها، هيا بنا نستطلع أمرها.

وعندما أشرفنا على الركب.. طالعنا وجها الأعرابيين أبو حميدة و عبد القادر البرعصي ، وكان الأول من أعراب قبيلة المنفة، والثاني من الأعراب قبيلة الراعصة.. وكانت لهما صلات وثيقة بنا، خاصة وأنهما من تجار الصحراء.

قلت لهما:

-السلام عليكم يا رجال.

-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. أهلا "بالمصاروة". قلت:

-ما وراءكم من الأخبار؟

-أخبار سيئة يا رجل.. لقد بلغت محنة الشعب الليبي أقصى حدودها.. فالناس أصبحوا مهزولين متهضمي الوجوه، حمر العيون تكاد أعصابهم تتحطم من الظمأ والجوع والمتاعب، والخطر الدائم.

وأردف الأعرابي عبد القادر البرعصي، مكملاً حديث رفيقه أبو جويدة:

-إن أزمة الطعام تزداد حدة وشدة، لأن معظم المخازن قد دمرت، والخبز سينفد بعد قليل من الوقت.

والأمهات يعجزن عن تغذية أطفالهن لما أصابهن من ضعف واضطراب، والتيفوس، وغيره من الأوبئة، قد انتشرت تهدد الناس.

ارتسمت على وجهينا أنا وزميلي محمد صالح حرب ، الآلام النفسية الكامنة في القلب.. وقال زميلي:

-لكن ما هي الحالة المعنوية للجنود المدافعين؟

قال الأعرابي أبو جويدة:

-حالتهم النفسية لا تزال حسنة.. بل إن كل عربي ليفخر بهم أشد الفخار.. فقد ثبتوا رغم الجوع والظمأ، والإجهاد وقلة النوم ورغم هذه المصاعب والمتاعب، فعزمهم لا يهن، وشجاعتهم لم تفتر، ونحن نساهم كما ترى أيها الضابط بمجهود متواضع في الجهاد مع إخواننا فهذه القافلة.. أصارحك أنها مؤن للمجاهدين.

لم أتمالك نفسي وكذا زميلي محمد صالح حرب .. من الضحك لهذه السذاجة التي توقع صاحبها وتكاد تورده موارد التلف، ولكننا كما ذكرنا، كنا أول العاملين لنصرة العرب والمجاهدين.

باركنا جهاد الأعرابيين، وأكبرنا المساعدة التي يقدمانها، وتمنينا لهما التوفيق، وقفلنا راجعين! قلت لزميلي ونحن في الطريق:

-ما أرخص حياة الأحرار عند هؤلاء المستعمرين!

فقال زميلي:

-نعم يا صديقي، الله لهؤلاء المجاهدين الأبطال.

وأطرق صالح حرب قليلاً ثم قال:

ولكن ما الحيلة يا صديقي، والحرية تؤخذ ولا تعطى، وبابها الأحمر لا يقرع إلا بأيدي مخضبة بالدماء؟! قلت:

-أظن أن الدفاع عن ليبيا ، أصبح عسيرًا جدًا؟ قال زميلي:

-لقد علمت أن الليبيين، غنموا من الطليان سلاحًا وذخائر لا تقدر بثمن.. ثم إن انضمام عرب ليبيا بعضهم لبعض قد يكسب المدافعين فسحة من الوقت.. والوقت كما تعلم عامل جوهري.

وفجأة أمسك زميلي يدي بقوة واستطرد قائلاً:

-إني على تمام اليقين، بأن مقادير من السلاح، لابد أن تهرب إلى الليبيين! قلت لزميلي:

-ولكن يا صديقي.. أنسيت الرقابة الشديدة على السلاح.. تلك الرقابة التي يفرضها الإنجليز على القطر المصري كله.. وخاصة أنه الطريق الوحيد؟!

أجاب قائلاً:

-لم أنس مطلقًا.. ولكن لا تسقط من حسابك الحزب الوطني في مصر .. ثم لا تنس الرجال الذين يناصرون العرب.. هؤلاء الرجال الذين أقسموا أن يكونوا عونًا لهم.. ونقمة على أعدائهم.

ثم قال وهو يحدق في عيني بنظرة جامدة:

وأخيرصا لا تنس زميلنا اليوزباشي محمد فهمي أبو منير ، وتصريحاته لنا، فإني على يقين، من أنه سيلعب دوره قريبًا وسيكون دورًا بارعًا.

مؤامرة خطيرة

وفي ليلة خرجت أروح عن نفسي، وأسكن اللهب المستقر بين جنبي، ذلك اللهب الذي لا يخمد أواره كلما ذكرت نيات الغاصبين المحتلين!

وإني لكذلك وقد أخذ نسيم الليل البارد المنعش، يضرب صفحة وجهي المتقد.. إذا بقدمي تقوداني بلا قصد، نحو مخيم القيادة.. نحو الإنجليز الأربعة.. الذين حكمهم الاستعمار المعتدي، واغتصب لهم سلطة الأمر والنهي؟

قادتني قدماي، حيث يجتمع هؤلاء الأربعة. وطرق سمعي، صوت سنوبك يقول: -نعم هو في الواقع، مكان استراتيجي هام!

وساد الصمت لحظة. قطعة صوت هنتر باشا قائلاً:

-نعم فلا بد للإمبراطرية، أن تظلل هذا الجانب الهام من الأراضي، خصوصًا وأن الحالة الدولية كما تعلمون من أمرها. وعلى كل حال، فقد اتفقت مع اللورد كتشنر، على موافاتي بالتعليمات أولاً فأول بالشفرة!

ثم خفت الصوت قليلاً. ولم أستطع أن أواصل استراق السمع أكثر من ذلك.

ثورة نفسية

احتدمت في نفسي ثورة الغضب.. وتوترت حالتي النفسية.. فرجعت إلى مخيمي، وهذا التدبير الذي اكتشفت أمره.. يفزعني ويروعني، ويطاردني شبحه البغيض، وكانت هذه اللحظات، التي سمعت فيها ذلك الحديث. أسوأ وقت صادفني.

حاولت أن أنام، فلم أفلح في جذب النوم إلى عيني.. ارتديت ملابسي ثانية، وخرجت قاصدًا زميلي الملازم أول محمد صالح حرب ولما لاحظ ما ارتسم علي من اضطراب واضح، عجل بسؤالي:

-خير؟!

قلت:

-أخبار سيئة وقفت عليها مصادقة!

وأخذت أروي لزميلي، نص المحاورة التي سمعتها من الإنجليز الأربعة. وكيف سمعتها.. وكيف أذهلني وأمضني، ما يبيتون من نيات سيئة ضد البلاد!

شملت سحابة نارية وجه الملازم محمد صالح حرب ، عندما سمع هذه المعلومات. والتفت إلي قائلاً والدماء تجول في عينيه:

-إن ضعاف النفوس، هم وحدهم الذين يتركون للشهور والأعوام، أن تمحوا أحزانهم وتأسوا جراحهم، ويبقون وهم كالموتى لا يتحركون. أما نحن معشر الجنود المجاهدون، فسنكافح حتى تتحرر مصر ، وتودع آلامها وأحزانها... واعلم يا صديقي أن نجاح قضيتنا موكل بنا نحن.. وإلى قوة إرادتنا.. والفشل. مقدر للضعيف.

فكرة!!

في هذه الآونة، تجلت لي فكرة.. فقلت لزميلي في لهفة مشوبة بالفرح:

-عندي فكرة..

قال:

-ما هي؟

-قلت:

-إن وفقنا إلى ضم أحمد أفندي مسعود الحناوي (المرحوم وكيل مكتب تلغراف السلوم).. إلينا..

وأفهمناه نيات الإنجليز أفادنا في تنفيذ خطتنا، التي تتلخص في تزويدنا بصور البرقيات الشفرية، التي ترد إلى الإنجليز من القيادة وبالعكس. وأعتقد أن وطنيته وغيرته. ستفرضان عليه أداء الواجب الوطني. فما رأيك؟

قال زميلي صالح حرب :

-هي فكرة رائعة حقًّا، ولكني أخشى الفشل فيما إذا لم يوافق؛ وما عساه يترتب على ذلك من تعقيد الأمور أمامنا...

ثم إن هناك أمرًا آخر لا أظنك نستيه؟ وهو مفتاح الشفرة!

قلت له في حزم وثقة:

-سأتولى هذا أيضًا، فإن الصاغ تويدي كما تعلم "ساذج"، وسأحتال عليه في هذا الأمر حتى أبلغه منه. وعلى كل حال فلنتوكل على الله فهو حسبنا.

صافحني زميلي الملازم محمد صالح حرب قائلاً:

-مثل هذه الحوادث، هي التي تمتحن بها نفوس الرجال، وتصقل معادنهم.

وعد وعهد

وعندما اتجهت قاصدًا مكتب، وكيل التلغراف، في الصباح. كنت على يقين من نجا فكرتي، مؤمنًا بإخلاص ابن وطني ومن حسن الطالع، أن وجدت أحمد أفندي مسعود الحناوي (المرحوم) جالسًا وحده. هذا الجندي المجهول الذي خدم مصر أجل خدمة تسجل في تاريخ البطولة وإنكار الذات.

بدأته التحية. ولما آنست منه شوقًا لمعرفة سبب مجيئ إليه.

قلت له:

-ألا تريد أن تنعم بلذة جديدة من عمل لم تألفه قبلاً؟

قال وقد استحوذ عليه حب الاستطلاع:

-هذا سؤال مثير حقًّا يا صديقي! فأي إنسان يتغاضى عن عمل يجد فيه، متعة روحية ولذة جديدة. خصوصًا لشخص مثلي طوحت به الأقدار، في هذا المنأى البعيد!

إنني لمشوق إلى عمل أجد فيه لذة كما تقول، ولكني لا أستطيع الاشتراك في عمل أخجل من ذكره في أي وقت..

قلت له:

-هون عليك يا صديقي. إنه عمل نبيل في سبيل مصر ، ومغامرة رهيبة، تستلزم الكتمان الشديد، وتتطلب الإخلاص!

قال لي في حرارة صادقة:

-إنني نشأت محبًا للكتمان.. والمجازفة والمخاطرة، من عناصر اللذة التي تنقص هذه الحياة المملة التي أحياها هنا.

وصمت قليلاً، ثم تابع حديثه قائلاً وهو يبتسم:

-وأما عن إخلاصي ل مصر ، وتكليفي بأي عمل مهما بلغت خطورته.

فإني أصارحك القول، أنه ليس لي من ولد أتمسك بالحياة لأجله، أو ثروة يتطلع إليها قريب أو نسيب.

اضطربت الدموع في مآقي، لهذا الإخلاص المتاهي. وشددت على يده بحرارة. وشرحت له الأمر، وما وصل إلى سمعي، وما اتفق عليه إجماعنا في إحباط مشروعات الإنجليز!

وغادرته مزودًا. بوعد وعهد.

جرأة...

انبسطت أسارير الملازم محمد صالح حرب ، عندما أنهيت له الحديث الذي دار بيني وبين وكيل التلغراف... وهنأني على هذا النجاح والتوفيق.

وتعاقبت الأيام، دون أن يجد حادث ذو شأن. ولكن كانت هناك عيون يقظة. وقلوب متحفزة، ترصد على الأعداء أعمالهم وحركاتهم، نعم كنا هناك نحن شباب الضباط.

وأخيرًا لاحت الفرصة الذهبية..

إذ قابلت ساعي مكتب التلغراف. ويشاء القدر الموفق، أن يحييني هذا الساعي ويقول: -معي برقية لجناب القائد العام يا حضرة الضابط!

شاع في نفسي الابتهاج. وأيقنت أن رب الكنانة، يسير الأمور وفق ما ننشد وما نبتغي لخير الوطن. قلت للساعي:

-أين هي البرقية؟

فناولني إياها وما كدت ألقي عليها نظرة، حتى اهتزت أعطافي وكأن الكهرباء تسري في بدني. أخيرًا ها هي الشفرة بين يدي.. وتمنيت لو أبذل روحي، وأفرغ دمي، في سبيل معرفة محتويات هذه البرقية، ومع ذلك فالأمل مرجح.

أليس الله –سبحانه وتعالى- هو الذي يهيئ لنا كل شيء حسب ما ننشد ونبغي؟! أبعد هذا برهان، على أن يد الله قبل أيدينا؟!

نظرت في ساعتي، فإذا بها تشير إلى العاشرة، وهو الذي يذهب فيه القواد الإنجليز الثلاثة، هنتر باشا وسنوبك وموريس بك.

إلى البحر للاستحمام كمألوف عادتهم كل يوم، فلو تحقق ظني، لسهلت خطتي مع الصاغ تويدي السليم النية! جالت كل هذه الأفكار في مخيلتي، كرجع البصر، والتفت إلى الساعي قائلاً:

-سأوصلها للقيادة بنفسي.

لم أضيع وقتي. بل اتجهت فورًا إلى مخيم الصاغ تويدي، وعندما وصلت، كانت الفكرة مختمرة في رأسي، وشرعت في تنفيذها!

دلفت من باب المخيم. فإذا بي إزاء الصاغ تويدي، وهو جالس في مكتبه، مسترسل في أحلامه، وقد لاحت عليه إمارات الدهشة وأخذ يحملق في وجهي بعينيه الزرقاوتين. ثم قال وهو يتطلع إلى بفضول أكثر منه ارتيابًا:

-ما وراءك يا لبيب؟

-برقية شفرية مستعجلة لهنتر باشا. هل مفتاح الشفرة معك أم لدى سنويك كي نحل رموزها؟

مغامرة

كانت جرأة، ومغامرة مني.

وحيلة بعيدة الفور.

لقد أوهمت الإنجليزي بأني على معرفة بالأمور التي يحذقونها. وأدخلت في روعة هذه الكلمات، أني من رجالهم، وكانت الثواني التي تمر علي في هذا الموقف. فاصلة في حياتي، حياتي، وحياة مصر .

وأخيرًا سمعت الصاغ تويدي وهو يقول:

-إن مفتاح الشفرة معي.

يا للمعجزة.. كدت أنتفض فرحًا وانتعاشًا.. لكني تمالكت أعصابي بقوة، وقلت له:

-هل أمليها عليك.. أم تملي أنت؟

أجابني:

-لا.. أملها أنت، فأنا أسرع منك في الكتابة!

وأخذ مفتاح الشفرة من حافظته، وناولني إياه!

تنفست الصعداء لاجتياز هذه المرحلة بسهولة وسلام، وأخذت أملي على الصاغ الإنجليزي رموز الشفرة في هدوء كي أسجل في ذاكرتي تفسير كل حرف من هذه الرموز!

وعندما انتهت البرقية..

كنت أحفظ نصف مفتاح الشفرة! كما علمت معنى بعض كلمات هذه البرقية التي كانت مرسلة من كتشنر إلى قائد عام سلاح الهجانة هنتر باشا، وفيها ذكر كلمة السلوم.

الغاية تبرر!

قال لي الصاغ تويدي:

-حسنًا يا لبيب..

سأذهب بهذه البرقية لهنتر باشا. ورافقته حتى خرج من مخيمه، متجهًا إلى الساحل الذي تعود أن يذهب الإنجليز الثلاثة إليه يوميًّا للسباحة.. وكان يبعد عن المعسكر، قرابة كيلو متر تقريبًا.

ما كاد الصاغ تويدي يبتعد عن مخيمه، ويغيب عن نظري.. حتى تسللت إلى الداخل، وفتحت درج المكتب. وتناولت الحافظة التي بداخلها السر العظيم.. مفتاح الشفرة!

وفي دقائق معدودات، سجلت المفتاح كله! وأسرعت إلى زملائي أنبئهم بما جد من الأمور! وفي الحق أنهم عندما شاهدوني أدركوا أن أمورًا خطيرة تجري.. واحتاطوني يسألوني الخبر؟!

أخرجت صورة البرقية، وناولتها للملازم محمد صالح حرب وأنا أقول:

-لقد أصبنا الهدف!

وتناول زميلي البرقية فرحًا.. وعرف أنها بالشفرة وقال:

-لا بأس.. إنها بداية طيبة.. بل هي أفضل مما كنا نتوقع.. سنتبع كل الطرق، ونبذل شتى المحاولات لفك رموزها!

قلت وأنا أبتسم:

-لقد حصلت على المفتاح!

رسالة رهيبة

عانقني زملائي فرحين مستبشرين بهذا التوفيق.. وأخرجت مفتاح الشفرة. وأخذت أطبق حروفها على كلمات الرسالة، فطالعتنا روائح تؤذي الحواس وتحطم الشعور!

كانت برقية يتضح فيها الاتجاه الاستعماري، وهكذا انكشفت أمامنا الأسرار التي طالما استغلقت على فهمنا وإدراكنا!

كانت البرقية تحوي هذه الكلمات:

"إلى هنتر باشا، قابل الضابط التركي المعسكر بقشلاق السلوم العلوي، واحتال عليه في إخلاء القشلاق وتسليمه، وإن لم يرضخ توجه بجنودك إلى ظهر الجبل، وعسكر في جهة مساعد التي تبعد 3 كيلومترات، غربي قشلاق السلوم.. انتظر تعليمات أخرى".

كتشنر

عندما انتهيت من قراءة هذه الشفرة.. كان كل رأس يدور فيه سؤال واحد.. لماذا يريدون انتزاع هذا القشلاق؟!

كان كل هذا يوحي إلينا بالنيات السيئة، والتدابير الاستعمارية التي لا تنتهي عند حد!

إن روح الجماعات، كروح الأطفال.. تستهويها الأحداث.. وسرعان ما ارتفعت أصوات الضباط بالغضب والاستنكار، ولكن زميلنا الملازم محمد صالح حرب ، أشار إلينا قائلاً:

-اسمعوا.. اسمعوا.. ليس هناك داعٍ مطلقًا لرفع أصواتنا، وتنبيه الأعداء.. إن علينا التزامات قطعناها على أنفسنا..

وعهدًا أ قسمنا جميعًا على تنفيذه.. إذن فلابد من العمل. فكروا في القيود الجائرة التي كبلوا بها بلادنا..

فكروا في هؤلاء المعذبين الذين يسحقونهم بأقدامهم.. لقد زادوا الفقراء فقرًّا، لكي يضاعفوا من ثراء أتباعهم الأغنياء! لقد أباحوا قطرًا عربيًّا، لدولة جائرة لحاجة في أنفسهم، وها هو الشعب الليبي أمامنا في دور الاحتضار! وإذا ماتت جذور الشجرة.. سرى الموت إلى أجزائها العليا كذلك. إن الموت لا يجهز على عضو دون عضو..

وغرق السفينة.. لا يمكن أن يكون موضع قلة المبالاة من راكب دون راكب! فنحن جميعًا في الكارثة سواء! إذا قلت إن الهاوية تغفر فاها. لتبتلع الجميع!

وجلس زميلنا صالح حرب بعد أن بذل جهدًا جبارًا لتمالك أعصابه الثائرة.. وما كانت كلماته إلا وقودًا لنار متأججة!

وأخذنا نتشاور فيما ينبغي علينا عمله.. وأخيرًا استقر رأينا على احباط كل مؤامرة يحبكها الإنجليز! عندما أرخى الليل سدوله.. كنت منفردًا بزميلي محمد صالح حرب ، وكنت في حالة نفسية عنيفة!

والواقع أنه مرت بي أيام، بعد سماعي محاورة الإنجليز.. كنت نهبًا موزعًا بين العواطف الكريمة التي درجت عليها.. ووحي النوازع الجديدة التي خلقها في نفسي.. هؤلاء الإنجليز بأفعالهم! وكان يخيل إلي في أوقات كثيرة، أن شيئًا جديد! ينبض في عروقي! قلت لزميلي على حين غرة:

-يا أخي إني أبحث عن مغامرة جديدة!

نظر إلي زميلي صالح في استغراب وقال:

-لك الله.. أما تعلم أن كل مغامرة لا تخلو من مخاطرة؟!

قلت:

-إني أرحب بالخطر في سبيل أن أقنع نفسي بأني أفسدت خطط هؤلاء الإنجليز!

فقال صالح:

ما أجمل أن يبلغ الإنسان نهاية أمله، إن كان لما يرجوه حد يقف عنده.. أو نهاية يصل إليها.. سيأتي بعد ذلك.. الموت أو الحياة!

أمسكت بيد زميلي وقلت له:

-اسمع.. لقد استدعاني هنتر باشا منذ قليل، وأخبرني أن أكون مستعدًا أنا والملازم مرسي محمد .

(القائمقام مرسي بك محمد بالمعاش الآن) للتوجه معه غدًا في هذه المهمة.. مهمة تبليغ الضابط التركي أمر الإخلاء! كما جاء في البرقية الشفرية.. فما رأيك؟!

قال زميلي صالح:

-هذه النقطة بالذات؛ هي محور تفكيري الآن، وعلى كل حال فلندع الحوادث تجري في مجراها الطبيعي، ولنترقبها متحفزين حتى يقضي الله بأمره وأعتقد أنه سبحانه لا يتخلى عن نصرة جنوده المخلصين! أما عن المغامرات التي تريد أن تبحث عنها فالأيام الحافلة بها مقبلة لاشك فيها فترقب وانتظر.

وأشرق صباح يوم جديد.. على أربعة كنت أحدهم.. يذرعون الصحراء، متجهين صوب السلوم العلوي حيث تقوم الثكنة التركية!

كان على رأسنا القائد العام لسلاح الهجانة. هنتر باشا، وانتهى بنا المسير إلى الثكنة!

ولما تقابل هنتر باشا بالضباط التركي عصمت، قال في لهجة لا تخلو من عجرفة:

-عندي أوامر من كتشنر بإخلاء هذه الثكنة وتسليمها لنا!

وهنا ارتسمت على وجه الضابط التركي ، معانٍ يشدها العزم، ويدعمها الإصرار، وتغشاها غضبة الأبي. وقال:

-احتفظ بأوامر رئيسك لنفسك.. أما أنا فإني أعلنها صريحة مدوية.. إني لن أتزحزح عن هذه الثكنة حتى أبذل في سبيل الذود عنها حبات القلوب..

وأروي رمال الصحراء بدمي ودماء رجالي!

إليك عني.. اغراب عن وجهي!

عاد هنتر باشا أدراجه ونحن برفقته.. وأصدر أوامره لنا نحن الضباط وجنودنا لنعسكر فوق ظهر الجبل، في السلوم العلوي، على بعد ثلاثة كيلو مترات غربي الثكنة التركية .. تنفيذًا لأوامر كتشنر في برقيته!

وشرع الجنود تحت إشرافنا، في إقامة الاستحكامات.. وفي خلال ذلك قلت للقائمقام موريس بك:

-لقد كنا مقيمين استحكاماتنا (بنقب العقرب).. فما الذي دعا إلى إقامتنا هنا في أرض مكشوفة؟! أجابني موريس بك ضاحكًا:

-إننا نعمل هذا لأن هناك مشروعًا يسمى كيبتاون سلوم!

وهززت رأسي ناقمًا، وقد تكشفت لي نيات الاستعمار البغيضة. إذن فالإنجليز يعملون في الظلام لتكوين إمبراطورية إفريقية يثبتون فيها أقدامهم، من السلوم شمالاً حتى جنوب أفريقيا.. تكون لهم ملجأ يلوذون به، عندما تشب الهند عن الطوق، وتتمرد عليهم.. وتستقل! وقد حققت الأيام الآن.. هذا التنبؤ!

غضبة الأحرار

أسرعت ناحية زميلي محمد صالح حرب ، وانتحيت به جانبًا وأنهيت إليه ما ذكره لي القائمقام الإنجليزي موريس بك.

وبينما كنا كذلك إذا بأحد سعاة مكتب التلغراف يقبل علينا قائلاً وهو يلوح بمظروف صغير في يده ويقول:

-هذا المظروف بعث به إليكم أحمد أفندي مسعود ، ثم سلمه لزميلي صالح حرب ، الذي أمعن النظر فيه.. فوجد به برقية بالشفرة حدجني صالح بنظرة فهمت معناها وأخذتها منه، وفهمت على التو محتوياتها.. ثم قلت بأسف شديد:

-أتذكر يا صالح.. تلك البرقية الشفرية السابقة؟

قال زميلي منزعجًا:

-أتنتظرنا أحداثًا مماثلة؟ قلت:

-يظهر أن الأمر كذلك!

قال لي وهو يأخذ بيدي ويسرع الخطى:

-إذن هيا بنا لنجتمع بباقي إخواننا، لنقرأ عليهم محتويات هذه البرقية..

وفي المخيم الكبير اجتمع الضباط يستمعون لي وأنا أتلو عليهم هذه البرقية مترجمة عن الشفرة.. وكان نصها كما يلي:

"إلى قائد عام سلاح الهجانة هنتر باشا، ارفع العلم البريطاني على السلوم". كتشنر

إذن فالتاريخ يعيد نفسه.. ومأساة رفع العلم البريطاني في السودان .. يعمل الإنجليز على تكرارها.. ولكن السلوم في هذه المرة هدفهم!

كان زملائي يصغون إلى تفسير محتويات هذه البرقية، بقلوب واجفة مضطربة، وهم يتميزون غيظًا لبشاعة هذا التدبير الغاشم!

وقد احتوانا بعد ذلك صمت رهيب قطعته قائلاً:

-إن أمامنا مهمة كبرى لم نخط بعد إليها، إلا الخطوات الأولى.. وقد نجحنا فيها.. على أن الرواية لم تتم فصولها بعد، فأرجو أن نحافظ على معنوياتنا،

وسرية هذه الأمور حتى لا يَشْتَم الإنجليز أية رائحة لما يدور. ونسأل الله أن يكلل مسعانا بالنجاح، ويوفقنا لهتك ستر المستعمرين.

وقال الملازم صالح حرب :

إن الساعة عصيبة.. والوقت حافل بالخطر، إن علينا أن نتصرف بمنطق الوطنية، ونصون أرض بلادنا وما ينبغي لأي اعتبار أن يدخل في حسابنا،

أو يحول دون أداء واجبنا.. وليس أمامنا إلا عمل واحد.. وتصرف واحد، أطلبه منكم باسم وطننا العزيز هو رفع العلم المصري فوق هذه الأرض، إنها أرض مصرية، فلا بد من عمل المستحيل، وأرجو أن نقسم جميعًا على هذا المصحف بأن ندافع عن هذه الأرض، وأن لا نسمح برفع أي علم عليها.. إلا علم مصر العزيزة، حتى لا تتكرر مأساة رفع العلم البريطاني في السودان ... هنا!

وسكت لحظة قصيرة.. قال بعدها في حزم وإصرار:

-أو نموت جميعًا فداء لهذه الغاية إذا اقتضى الأمر ذلك!

وفي إيمان عميق، وحماسة زائدة، أقسمنا جميعًا على المصحف الشريف أن نبر بالوعد.. ونحافظ على العهد. ثم أخذنا نستعرض الأمر على جميع وجوهه ومختلف احتمالاته حتى إذا ما كان أصيل اليوم نفسه، إذا بوكيل مكتب التلغراف المرحوم أحمد أفندي مسعود الحناوي يرسل لي صورة برقية أخرى ما كدت أحل رموزها حتى وجدت أن الأمر جد خطير!

كان فحوى كلماتها ما يأتي:

"المستر برنجل مدير مخازن خفر سواحل الإسكندرية : أرجو إرسال العلم البريطاني والسارية مع الطوافة عبدالمنعم، لرفعه على السلوم".

هنتر

اجتمعنا وأرسلنا في استدعاء ضابط الصف الباشجاويش محمد علي الشاجي ، وقلت لإخواني :

-يجب أن لا نضيع الوقت، فهو أثمن من أن يضيع في مناقشات ما دامت الغاية واضحة، والأمر معلوم.. يجب أن نعمل وبسرعة..

إن بقبق لا تبعد عنا سوى 45كيلومترا، وفي الإمكان أن نبعث إلى رئيس النقطة هناك، الجاويش محمد عباس الفراوي ، بأن يسلمنا العلم المصري والسارية لرفعه هنا. فما قولكم؟

وهنا تقدم الباشجاويش السوداني محمد علي الشاجي ، قائلاً في حزم وثبات:

-ليسمح لي حضرات الضباط بأن أقوم بهذه المهمة في سبيل الله والوطن.. أنا وزملائي الجنود.

فقال له الملازم صالح حرب :

حسن جدًا يا باشجاويش محمد..

إذن فإلى العمل وعلى بركة الله تحرسك عنايته وترعاك.

وخرج الباشجاويش السوداني محمد علي الشاجي .. مسرعًا.. وما انقضت خمس دقائق حتى حضر بصحبة خمسة من الجنود عمالقة الأجسام، أقوياء البنية، ترتسم على وجه كل منهم معني الفضائل كلها، كانوا من أبناء وجنوب الوادي البواسل.

تقدم الباشجاويش وأدى التحية العسكرية ثم قال:

-إننا الآن على تمام الأهبة والاستعداد.

صافحناهم جميعًا.. نعم صافحنا بعثة الشرف والفداء، ورجونا لهم التوفيق في سبيل ما يهدفون إليه.

بعثة الشرف

وسار المركب الساري مزودًا بإيمان عميق، وقلوب كبيرة مخلصة تدعو لهم، وعيون الإعجاب والعرفان تشيعهم حتى تواروا عن الأنظار...

وعندما أرخى الليل سدوله، كان هؤلاء المقاديم متخذين وجهتهم إلى بقبق. كان الجو شديد البرودة، والضباب كثيف..

أخذوا يتلمسون طريقهم، وتلفح رياح الصحراء الباردة وجوههم فلا تزيدهم إلا حثًّا لمطاياهم على الإسراع، ملبين نداء الواجب المقدس نداء الشرف والضمير، في سبيل مصر المفداه، أم النيل كان عليهم أن يقطعوا مسافة 45 كليومترًا، فإذا سارت الأمور على ما يرام، فإنهم يقطعونها ويؤبون راجعين في الوقت المناسب.

وأخيرًا لاح لهم على البعد ضوء خافت.. نعم ها هي بقبق رابضة أمامهم على ساحل البحر بين التلال البيضاء، وصلوها سراعًا، وقابل الباشجاويش محمد علي الشاجي ، الجاويش محمد عباس الغراوي رئيس النقطة هناك، وسلمه الرسالة وأفضى إليه بالموضوع كله، فأجابه هذا إلى بغيته وسهل له مأموريته وسلمه العلم العزيز، علم مصر وساريته.

وهكذا فقلت بعثة الشرف راجعة إلى السلوم.

تحية العلم

أخذت الأيدي القوية تحفر للسارية مكانها، أيدينا نحن شباب الضباط وجنودنا السودانيين البواسل، وشملتنا حركة مستمرة، ولكنها في سكون.

وعندما طلع النهار، وأفاقت الصحراء، هب النيام مذهولين! على صوء بوري البروجي رزق وهو يرتل بنفيره تحية العلم، نشيد الانتصار!

أسقط في يد النيام هؤلاء الأربعة من الإنجليز، عندما رأوا العلم المصري يتخذ مكانه نحو السماء وينشر ظله علينا.. نحن شباب الضباط، وهؤلاء الأسود من الجنود أبناء جنوب الوادي، وتلك الأرض العزيزة، أرض السلوم!

ما كسبناه ل مصر .. يضيعه الضعفاء!!

وهكذا حافظنا نحن شباب مصر ، على الأرض المصرية الممتدة من السلوم إلى حدود السودان ؛ والتي تبلغ مساحتها 75.000 كيلو متر مربع تقريبًا، أي ما يعادل مساحة فلسطين كلها!

حافظنا أيضًا على تلك الواحة التي ينعتونها.. بالخنجر المسلط في ظهر مصر . واحة جغبوب! التي ضيعتها أهواء الساسة المتخاذلين. عام 1925 !

كلمة أخيرة..

إليكم يا شباب مصر .. يا شباب الجيل، عليكم أن تهتدوا بهدى الوطنية الخالصة.. وبتوجيه الآية الكريمة..

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.