سنوات عصيبة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سنوات عصيبة ذكريات نائب عام


سنوات عصيبة ذكريات نائب عام للمستشار:محمد عبد السلام

بقلم/ المستشار: محمد عبد السلام

مقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

لم أكن أتصور يوم أن أسند إلي منصب النائب العام في 31 من أغسطس سنة 1963 أنه سيأتي يوم تستبد بي فيه رغبة ملحة في أن أسطر على الورق جانبا مما مر بي من أحداث خلال ست سنوات انتهت في أواخر أغسطس سنة 1969 وقد ظللت خلال هذه السنوات الست أقوم بالمحاولة بعد الأخرى لمقاومة الانحرافات التي كان يتزعمها الكبار من أصحاب السلطان سواء في الجهاز الحكومي أو في جهاز القطاع العام،

كما حاولت قدر استطاعتي أن أرسي مبادئ العدالة وسيادة القانون وأن أحد ما أمكن من طغيان السلطات على العدالة وسيادة القانون وعلى الحريات وكنت في خلال هذه المحاولات أصطدم بالمنحرفين من أصحاب مراكز النفوذ،

وأخذ الصدام يتصاعد المرة بعد المرة حتى وصل إلى ذروته عندما أطيح بي مع الخيرة من زملائي فيما اصطلح الرأي العام على تسميته بمذبحة القضاء.

وإني إذ فكرت في تسطير هذه الأحداث فإنما كنت أعني مجرد التسطير، ولم يكن في نيتي ولا في تقديري ابتداء أن أعد مذكرات للنشر، وكل ما قصدت إليه أن أسجل ذكريات وخواطر ضاق بها صدري، فلم أجد مندوحة عن أن ينطق بها قلمين متعمدًا على ذاكرة أرجو ألا تكون قد خانتني وعلى شتات من الأوراق مما استطعت جمعه والتقاطه من هنا وهناك، وكنت أرى أن هذه الذكريات قد تكون يومًا درسًا لأولادي من بعدي وحديثًا يتناقلونه عني.

وعندما قاربت النهاية في كتابة هذه الذكريات كانت الظروف والأحداث قد غيرت من تفكيري الأول، إذ كثر الحديث عن الفساد الذي كان قد استشرى، وعن الحريات التي كانت قد كبلت، وأحس كثير من الزملاء والأصدقاء أن لدي الكثير مما يمكن قوله،

وألحوا علي في نشر ما لمسته من ذلك، وبدا لي في نظرتي الجديدة أن من واجب كل مواطن أن يسجل وأن ينشر كل ما يعرفه من حقائق، حتى تكتمل الصورة لفترة عصيبة، كان لما دار فيها من أحداث شأن كبير في الانتهاء إلى نكسة يونيو سنة 1967 وكان البادي أن البلاد تسير بعدها في نفس المنحدر الذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى هاوية لا قرار لها،

لولا أن اعترضت هذا المنحدر عملية التصحيح في 15 مايو سنة 1971، وما أدت إليه من نصر في السادس من أكتوبر سنة 1973. ولا حاجة بي إلى القول بأنني بعد هذه النظرة الجديدة قد أجريت تعديلات طفيفة لا تمس جوهر ما كنت قد سجلته من قبل.

ولقد كنت أدرك من اللحظة الأولى مصاعب المنصب الذي اتجهت النية إلى إسناده إلي، فإن بريقه لم يكن ليخدعني عن حقيقة، ولم أكن باحثًا عن جاه أو راغبًا في سلطان بل كنت زاهدًا أشد الزهد في المنصب، حتى أن الجدال بيني وبين الأستاذ فتحي الشرقاوي وزير العدل إذ ذاك وما دار من نقاش، يلح هو فيه في عرض المنصب وأصر أنا على الاعتذار، كاد أن يصل إلى حد المشادة.

وكان من بين دوافعي إلى الاعتذار أنني طوال مدة عملي القضائي التي كانت قد تجاوزت إذ ذاك الثلاثة والثلاثين عامًا، كنت قد أمضيت جانبًا كبيرًا منها في أعمال النيابة العامة وفي أعمال قضائية وإدارية فيها تتصل مباشرة بالنواب العامين، الأمر الذي أتاح لي أن أفهم تمامًا المصاعب والمخاطر التي تصادف النائب العام في الظروف العادية، فما بالك بالظروف الاستثنائية التي كانت بلادنا تمر بها في سنة 1963، وكنت أدرك أن هذه المصاعب قد تتصاعد إلى درجة الخطر،

عند التعامل مع حكام لم يكن بعضهم قد نسي بعد صفته العسكرية وكان من العسير عليهم فهم معنى العدالة، وقداستها، أو أدرك مضمون المبدأ البسيط والصحيح دائمًا وفي كل الظروف والذي يحصل في العبارة الخالدة "العدل أساس الملك". كنت أدرك كل ذلك وأشفق من تولي ذلك المنصب، بيد أن قدرة الوزير على الجدل، وإحساسي بأنه إنما كان يتحدث عن إيمان، وما استقر في يقيني مما لمسته من العمل معه خلال سنة سابقة،

كمدير للتفتيش القضائي ثم وكيل للوزارة من أنه صادق النية في سعيه إلى الاصلاح، مؤمن بقداسة القضاء، متمثل بمثل عليا، كل ذلك جعلني أذعن لرأيه وأقبل في النهاية تولي المنصب.

محمد عبدالسلام

قضية الاستيراد ورئيس الوزراء

كنت طوال حياتي الخاصة أعيش في هدوء، وطوال حياتي القضائية أعمل في سكون ولم أكن من الباحثين عن المتاعب، بيد أنه لم يكن من طبعي أن أهرب من مواجهتها أن صادفتني وفرضت علي فرضًا –واعتزمت أن يكون هذا شعاري وأن أستمد من زهدي في المنصب، ومن إيماني بالله وبالعدالة قوة، وأعتقد أنني كنت موفقًا في ذلك وأن التزامي بهذه المبادئ جعلني أترك المنصب بضمير لا يؤرقني، راضيًا عن نفسي، متمتعًا برضاء الله، ورضاء زملائي.

وكانت الأقاويل قد كثرت عن الانحرافات التي بدأت رائحتها تزكم الأنوف، سواء في الجهات الحكومية، أو في القطاع العام، ولكني لم أكن أتصور أن الأمر قد بلغ هذه الدرجة من السوء.

وكأن القدر أراد أن يمتحنني، وأن يمتحنني بأسرع مما كنت أتصور، وأن يضع في محك الاختبار اسمي وسمعتي وماضي الطويل، وهي اعتبارات تنطوي عن معانٍ لم أكن مستعدًا بأي حال لأن أتخلى عنها. ذلك بأن قضية من قضايا الانحراف الخطيرة النمطية قد بدأ نظرها في أوائل سنة 1964، وهي القضية التي عرفت باسم قضية "الاستيراد الجنائية رقم 381/1963 عسكرية عليا) وقد اتهم فيها عشرون شخصًا من كبار العاملين في إدارتي التصدير والاستيراد وشركات القطاع العام،

ومن كبار التجار المسيطرين على السوقين الداخلية والخارجية، اتهموا بتهم الرشوة والتربح واستغلال النفوذ، ووصل رقم المبالغ موضوع الاتهام إلى عشرات الألوف من الجنيهات. وكان من بين المتهمين صهر للسيد علي صبري رئيس الوزراء إذ ذاك، يشغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة من شركات القطاع العام، وكان من بين التهم المسندة إليه حصوله من أحد كبار التجار على رشوة قدرها ثلاثة عشر ألفًا من الجنيهات في مقابل استعمال نفوذه الفعلي، بحكم صلة المصاهرة التي تربطه برئيس الوزراء،

للحصول لهذا التاجر على تنازل عن تراخيص استيراد قيمتها مائة ألف من الجنيهات، وذلك على الرغم من سبق تأميم عمليات الاستيراد وحظر مباشرتها بواسطة القطاع الخاص.

وإن نظام الحكم السليم في دولة متحضرة يدرك حكامها معنى العدالة، كان يحتم على رئيس الوزراء أن يتنحى ولو مؤقتًا، عن منصبه حتى تنتفي كل شبهة في التأثير على سير العدالة.

وكان من العجيب حقًّا أن تنظر الدعوى وصهر هذا المتهم يتربع على كرسي رئيس الوزراء، وكأنه كان مطلوبًا من الشهود ومن كل من لهم شأن في العمل على الوصول إلى حكم عادل، أن يكونوا من الفدائيين.

ولقد تولى الدعوى تحقيقًا ومرافعة نفر من خيار رجال النيابة العامة ومن المشهود لهم بالكفاية والنزاهة، ومع ذلك فإن جو الدعوى كان رهيبًا يكاد يحطم أعصابهم، وكنت على اتصال دائم بهم أشجعهم وأشد من أزرهم وأبث فيهم روح الشجاعة، وأذكرهم بمعاني العدالة وما استقر في أذهان الكافة، من حرية النيابة العامة واستقلالها.

والحق أشهد أنهم قاموا بواجبهم خير قيام وصمدوا للعاصفة، وهم هادئون كالجبال الرواسي، ولكن كل ذلك لم يغن شيئًا، وصدر الحكم في في 29 من يونيو سنة 1964 هزيلاً، بإدانة ثلاثة من المتهمين وببراءة الباقيين ومنهم صهر رئيس الوزراء.

إن قضية الاستيراد من القضايا النادرة التي كان من الممكن لو أنها نظرت في ظروف ملائمة، بعيدًا عن المؤثرات، أن تصل يد العدالة فيها إلى نفر من كبار المنحرفين، بما يطمئن النفوس ويرسي معنى العدالة في أذهان الكافة، ولقد نظرت أنا إلى القضية باعتبارها صخرة يمكن أن ترتطم بها موجة الفساد، فتعود منحسرة، ونظرت إليها على أنها أمل ومعنى،

وعلى أنها يمكن أن تكون حدًّا فاصلاً بين فساد الحكم ونزاهته. من أجل ذلك صممت على أن أسير في الشوط إلى نهايته، وأن أطعن في الحكم أن ظهر لي بعد دراسته عدم سلامته، وكنت أقدر تمامًا صعوبات ومخاطر الطريق، خاصة بعد أن شغل منصب وزير العدل المستشار بدوي حمودة، وكنت،

رغم احترامي له، أقدر أنه كان من العسير عليه أن يتناسى صفته السياسية وصلته برئيس الوزراء الذي اختاره، كما قدرت من تصرفاته وأقواله أنه لم يكن على استعداد لأن يناصرني وأن يسير معي نفس الشوط، فرأيت أن أعمل في كتمان مع بعض أعواني من رجال النيابة العامة الذين أثق فيهم ثقة تامة، وعكفت معهم على دراسة أسباب الحكم، فلم نلبث أن التقينا على وجوب الطعن فيه،

وعلى أن إقراره يسيء إلى سمعة النيابة العامة أيما إساءة، ولم أشأ للأسباب السابقة، أن أصارح وزير العدل برأيي هذا، وكنت أرد على تساؤله المتكرر بأنني لم أنته إلى رأي بعد، وفوجئ هو وغيره ينشر أسباب الطعن في الصحف، فثار ثورة عنيفة واتهمني بأنني جعلت منه أضحوكة، ولم أجد مناصًا من مواجهته بالحقيقة، وصارحته بأن نيتي كانت قد صحت، بعد دراسة الحكم،

على الطعن فيه، وأن رأيه، أيًّا كان لم يكن ليثنيني عن عزمي، وهدأت من ثورته بقولي أنني إنما أردت أن أتحمل المسئولية وحدي وإلا أحمله عبء المشاركة فيها، وبدا لي أنه ارتاح إلى هذا القول، وتحقق لي ذلك عندما علمت فيما بعد أنه كان يصرح، مدافعًا عن نفسه، بأنني قد انفردت بالرأي في هذا الشأن.

إنني أدرك أن البعض قد يأخذ علي موقفي من وزير العدل وتصرفي معه على ذلك النحو، ولكن عذري في ذلك أن القضية بملابساتها لم تكن قضية عادية وإنني كنت أؤمن بأن سمعة النيابة العامة بل سمعة العدالة في الميزان، بما كان يتم علي التجاوز عن التقاليد وقواعد اللياقة التي قد يتعين التزامها في الظروف العادية.

ليس هنا مجال مناقشة أسباب الحكم وأسباب الطعن فيه، فإن أسباب الطعن هذه حررت في 65 صفحة من الحجم الكبير، بعض ما سجلته مذكرة الطعن في الحكم حتى يرجع من يشاء إليها، فقد سجلت أنه كان من العجيب حقًّا أن يهدر الحكم اعترافات صهر رئيس الوزراء واعترافات التاجر صاحب المصلحة الذي رشاه وأن ينعت هذا الأخير بالكذب، وعلى الرغم من أنه أخذ بأقواله في شأن من أدانهم وكان عجيبًا أيضًا أن يعلل الحكم اعترافات صهر رئيس الوزراء بضعف الذاكرة.

وقد أشرت في مذكرة الطعن إلى غرابة هذه الحجة وإلى أنه ليس من المفهوم أن يؤدي ضعف الذاكرة إلى حالة إيجابية وهي الاعتراف بوقائع رشوة، في الوقت الذي لم يدع فيه هو أو التاجر الراشي بأن اعترافاتهم صدرت تحت تأثير تعذيب أو خديعة أو أي مؤثر آخر غير مشروع، ولعلها المرة الأولى في تاريخ القضاء التي يحمل فيها عدم صحة الاعتراف على ضعف الذاكرة.

وكان عجيبًا أيضًا أن يقول الحكم "ليس هناك أي نفوذ حقيقي أو مزعوم استعمله المتهم، وإذا كان له صلة ببعض كبار المسئولين، فإن مجرد قيام هذه الصلة لا تنهض دليلاً على أن له نفوذًا وأنه استغل هذا النفوذ، وما كان في وسعه أن يتخلى عن صلاته هذه حتى يقوم بهذه الصفقة".

وكان عجيبًا حقًّا أن يقوم الحكم ذلك وكان، حسب مذكرة الطعن، الرد بأن النيابة لم تطلب من الصهر المحظوظ أن يتخلى عن صلته، وإنما أشارت إلى أنه لم يكن من المقبول وهو رئيس مجلس إدارة شركة من شركات القطاع العام أن يفتح مكتبًا تجاريًّا لعقد مثل هذه الصفقات،

ودللت بما لا يقبل أي شك على أن صلته هذه كان لها أثرها السحري في إجابة طلباته غير المشروعة، حتى أنه هو نفسه أبدى في التحقيق دهشته من أنه كان يستجاب من الجهات العامة إلى طلباته فورًا وبغير تلكؤ.

إذًا فقد ألقيت القنبلة وكان لها دوي شديد، وانشغل مكتب رئيس الوزراء بمستشاريه القانويين في الرد على أسباب الطعن، وأقول والألم يعصر قلبي أنه تطوع للإسهام في أداء هذه المهمة المستشار علي نور الدين، الذي كان قد طلب بالحاح من الأستاذ فتحي الشرقاوي وزير العدل الموافقة على ندبه للعمل مستشارًا قانونيًّا لرئاسة الجمهورية،

وأيده في طلبه أحد نواب الرئيس في كتاب أرسله للوزير، وأصر الوزير على رفض الطلب، إيمانًا منه بمبادئ كان يلتزمها، ومنها عدم جواز الزج برجال القضاء في أعمال ظاهرها قانوني وباطنها سياسي.

ويبدو أن السيد المستشار تواضع بعد ذلك نوعًا، فهبط من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء ونصب من نفسه وبغير إذن مستشارًا لرئيس الوزراء،

ولم يتخرج من أن يذهب إلى مقر هذا الأخير وأن يجلس في غرفة مدير مكتبه ويقوم في غير خفاء بتحرير الرد على أسباب الطعن.

وليت الأمر اقتصر على ذلك، فقد بلغ به الأمر أن حدث المحامي العام الأستاذ مصطفى الهلباوي بوصفه رئيسًا لمكتب الأحكام العسكرية ناصحًا إياه بأن يبدي رأيه برفض طعن النيابة وبإقرار الحكم،

واعدًا إياه بالسعي إلى تعيينه في مجلس إدارة إحدى المؤسسات العامة إن هو استمع إلى نصحه، ذلك أن السيد المحامي العام كان في طريقه إلى بلوغ سن التقاعد بعد أشهر قليلة، وقد أمضى في خدمة العدالة سنين طويلة، وكان فيها مثالاً للكفاية والنزاهة، فلم يستجب إلى هذا الإغراء الخبيث، وأبدى رأيه بوجوب إلغاء الحكم أخذًا بمذكرة النيابة العامة.

ولقد كوفئ السيد المستشار علي نور الدين فيما بعد بإسناد منصب مدير عام النيابة الإدارية إليه ثم منصب النائب العام بعد ذلك.

ارتاح بالي بعد الطعن في الحكم وأحسست بشعور من أزاح عن كاهله عبئًا ثقيلاً، وكان يراودني الأمل في أن تتغلب الحكمة على مستشاري رئيس الجمهورية، فيشيروا عليه بالاستجابة إلى طلب إلغاء الحكم وإعادة المحاكمة، ولو أنه فعل لكان قد غنم كثيرًا ولكان قد حقق معنى كبيرًا من معاني العدالة، لكن أملي خاب ووقع ما خشيته، وصدق رئيس الجمهورية على الحكم،

وهدد رئيس الوزراء بالويل والثبور ولولا بقية من تحرج لكان قد أطيح بي على الفور. ومنذ ذلك الحين وأنا أضع منصبي على كفي، وكان من العجيب حقًّا أن أظل بعد ذلك في هذا المنصب زهاء أربع سنوات.

وإني لأزيح التواضع جانبًا، لأقول أن سلوكي الشخصي وسلوكي في العمل لم يدعا أية ثغرة يمكن أن ينفد منها من كان يودون من صميم قلوبهم أن يتخلصوا مني.

صدام آخر مع وزير التموين

وجاءت فترة هدوء نسبي، ولم أكد ألتقط أنفاسي حتى ثارت العاصفة مرة أ×رى في صورة جديدة، ذلك بأنه لم تكد تمضي بضعة أشهر حتى ظهرت أزمة المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، ولعله لم تغب عن ذاكرتنا وعن أعيننا الصورة التي تكررت بعد ذلك وهي صورة الجموع الحاشدة من طالبي المواد التموينية وهم يصطفون في طوابير طويلة أمام المجمعات،

ويلقون أشد الناء في الحصول على حاجياتهم، وانطلقت الأحاديث والشائعات والفساد والرشاوى التي عمت واستشرت في هذه المجمعات وفي وزارة التموين بوجه عام، والتقطت الدعاية الصهيونية الفرصة السانحة فنشرت في الصحف والمجلات الأجنبية صورًا لتلك الطوابير،

وضج الناس وعمت الشكوى وجاءت البلاغات تترى من أفراد وجهات مختلفة، بعضها بدافع من المصلحة الخاصة، وبعضها بدافع من المصلحة العامة، وبعضها الآخر من جهات مسئولة في محاولة لنفي المسئولية عن نفسها، وكان على النيابة العامة أن تؤدي واجبها، وبان لي من اللحظة الأولى أن أبعاد الفساد عميقة،

كما بدا لي احتمال قوي في أن تتصاعد المسئولية لتصل إلى الرؤوس، ولم أجد بدًا من تشكيل هيئة من المحققين في القاهرة وأخرى في الأسكندرية، فضلاً عن هيئات فرعية في الأقاليم، يتفرغ أعضاؤها لتحقيق الوقائع المبلغ عنها، وأقمت على رأس هذه الهيئات محامين عامين ورؤساء نيابة، وأشرفت بنفسي على هذه التحقيقات، وسافرت أكثر من مرة إلى الأسكندرية وغيرها.

وما كاد الناس يشعرون بجدية التحقيقات وأنه لا يقف في سبيلها عائق، حتى تشجعوا وانطلقت ألسنتهم وأقلامهم، وتبادل كبار المسئولين الاتهامات، وكانت النتيجة فيضًا من وقائع الانحراف والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ.

وأحس وزير التمو ين بخطورة الأمر وأن يعد العدالة لابد واصلة إليه إن لم يسع من جانبه إلى عرقلة سير التحقيق، وإلى العمل على حماية رجال الوزارة من كبار المسئولين. وبدأت معركة حامية بين النيابة العامة في سعيها للوصول إلى الحقيقة،

وإلى أن تصل يد العدالة إلى الصغير وإلى الكبير على حد سواء، وبين وزير التموين في محاولته لعرقلة سير التحقيق، ولم أجد بدًا من الأمر بالقبض على عدد من رؤساء مجالس إدارة ومديري وكبار موظفي المؤسسات والشركات التابعة لهذه الوزارة وطلب وقف عدد آخر منهم عن العمل.

ولم يلبث الأمر طويلاً حتى تبين بجلاء أن محاولات وزير التموين لم تكن بقصد حماية مرؤوسيه فحسب، بل كانت أصلاً بقصد حماية نفسه، وأنه كان غارقًا في المسئولية إلى قمة رأسه،

ولم يكن من المعقول أو المتصور أن يجري التحقيق في هذه الظروف والوزير متربع على كرسيه متشبث بمنصبه، وكنت أتصور أن مجرد التلميح من النائب العام يقتضي على الفور استقالة الوزير أو إقالته.

ولما لم يجد التمليح لم أجد مناصًا من المصارحة، فرفعت في 25 من نوفمبر سنة 1964 تقريرًا إلى رئيس الجمهورية جاء من بين ما جاء فيه أن "بدأ من تعدد وقائع التلاعب واستغلال النفوذ وخطورتها وضخامة المبالغ المختلسة في المجمعات التعاونية الاستهلاكية، وكأن العملية عملية تخريب متعمدة"،

"أنه قد تعددت الوقائع الخطيرة على صورة شاملة وعلى نحو يكاد يكون من المستحيل معه أن يغيب عن علم الوزير"، "إن التعيينات كانت تجري بغير التحقق من المؤهل أو الخبرة بل وصل الأمر إلى أن عين صهر للوزير وأسند إليه منصب رئيسي هو منصب رئيس قسم الإنشاءات بمحافظة الأسكندرية على الرغم مما هو ثابت من أنه سبق فصله من شركة صباغي البيضا لاتهامه بتعمد التلاعب في أقشمة معدة للتصدير.

وكشف التحقيق عن أن هذا الصهر سبق أن اختلس في إحدى عمليات الإنشاءات آلاف الجنيهات ولما كشف أمر هذا الاختلاس صدر أمر من رئيس مجلس الإدارة بتسوية العجز دون تقديم مستندات" وجاء في التقرير أيضًا "أن الرقابة على المجمعات المذكورة تكاد تكون معدومة مما مكن القائمين بالعمل من التلاعب تلاعبًا واضحًا كان من الميسور كشفه والحد منه في الوقت المناسب لو أن شيئًا من الرقابة كان قد تم في الوقت المناسب،

كذا بأن عمليات الانشاءات والمشتريات لا ضباط لها من نظام تقوم عليه أو مواصفات أ, منقصات أو مزايدات من من أشخاص من ذوي الخبرة يتولونها كما أنه لا يوجود جهاز سليم لضبط وتنظيم العمليات الحسابية إلى حد أن البيانات الحسابية بآلاف الجنيهات كانت تحرر على قصصات من الورق الأمر الذي سهل اختلاس الأموال والبضائع بعشرات الألوف من الجنيهات"

على أن أخطر ما جاء في التقرير أنه "في خصوص الوقائع التي تتصل بالوزير على نحو مباشر تبين أنه كان يبيع ثمار حديقته البالغة مساحتها نحو ثلاثين فدانًا إلى تاجر فواكه اشتهر عنه بالاتجار بالجواهر المخدرة ومزاولة سيطرته على أصحاب الحدائق ليبيعوه دون غيره ثماره بالثمن الذي يفرضه،

لكن في خصوص حديقة الوزير اشترى ثمارها بثمن يزيد نحو ألفين من الجنيهات عن ثمن المثل وأسفر التحقيق عن شبهات قوية مؤداها أن الوزير كان يعوض التاجر هذه الفرق على حساب المجمعات وعلى حساب المستهلك ذلك أنه كان يستغل نفوذه وحتى يختص هذا التاجر وأقاربه وشركاءه بالقدر الأكبر من ثلاجات المؤسسة العامة للصوامع والتخزين التابعة لوزارة التموين بما يمكنه من حفظ الكثمرى إلى ما بعد انتهاء موسمها بزمن طويل ويمكنه بالتالي دون غيره من التجار من فرض سر مرتفع على المستهلك،

وبان من التحقيق أيضًا أن عملية شراء سبلة مواشي الجمعية الاستهلاكية كان يختص بها التاجر ذاته وبسعر 35قرش للمتر فلما أمر الطبيب البيطري المختص بإجراء مزايدة حقيقية رسا مزادها على تاجر آخر سعر 58 قرشًا للمتر، فأغضب هذا الوزير وأمر بنقل الطبيب وفرض على هذا التاجر أن يقتسم الصفقة مع صفيه صديق الوزير في صفقة شراء ثمار إحدى الحدائق ورسا مزادها على الأول فاستدعاه الوزير إلى منزله وطلب منه أن يتنازل عن الصفقة لصديقه وتوعده بالعمل على اعتقاله إن لم يذعن لمشيئته.

فلما أبى التاجر حدث الوزير زميله وزير الداخلية بالفعل في شأن اعتقاله. كذا تبين من التحقيق إن إدارة الأمن بمحافظة الجزية كانت قد طلبت اعتقال التاجر الصديق لخطورته على أمن ولشهرته في الاتجار بالمخدرات واعتقل بالفعل وأن وزير التموين سعى إلى إلغاء أمر الاعتقال ونجح في سعيه وقد انتهى التقرير إلى "أنني أرى أن الوقائع المسندة إلى وزير التموين قد وصلت من الخطورة والجدية إلى مرحلة يتعين معها استجوابه في شأنها".

وكان لهذا التقرير أثر سريع، فلم تكد تبزغ شمس اليوم التالي حتى اتصل بي المستشار بدوي حموده وزير العدل وأبلغني أن رئيس الجمهورية أمر بوضع وزير التموين تحت تصرف النيابة العامة، فارتحت إلى هذا التصرف أشد الارتياح، وقلت في نفسي أنها بادرة طيبة قد تدل على أن الحكومة بدأت تنظر إلى الوقائع السابقة نظرة جدية، وتمنيت من صميم قلبي أن تكون هذه البادرة إشارة إلى نية حقيقية في إصلاح الأمور والضرب على أيدي العابثين، ولم أشا أن أضيع وقتًا،

فأخبرت وزير العدل بأنني أرى أن يتم استجواب وزير التموين في اليوم نفسه، وبعد قليل عاود وزير العدل الاتصال بي طالبًا أن يكون استجواب زميله في ا لمساء وفي مكتبه هو "مكتب وزير العدل" ولم أشا – تيسيرًا- للأمور أن اعترض على هذا المطلب الشكلي، بل أبديت رغبتي إلى وزير العدل في أن يحضر استجواب زميله، حتى يقدر خطورة الوقائع المسندة إليه، وحتى يكون شاهدًا على سلامة التحقيق وصدقه.

واستجوبت بالفعل وزير التموين في حضور وزير العدل وفي الزمان والمكان المتفق عليهما، بينما كان أعضاء النيابة يواصلون سؤال الشهود في الوقائع المسندة إليه، ورفعت إلى رئيس الجمهورية في 30 من نوفمبر سنة 1964 تقريرًا تكميليًّا جاء فيه أنه "بعد تحرير التقرير السابق جاءت أقوال الشهود الجدد مؤيدة لأقوال الشهود السابقين في خصوص صلة الوزير بتاجر الفاكهة،

واستغلال الأول لنفوذه، لا يثار الثاني بصفقة شراء ثمار الحديقة التي كان مزادها قد رسا على تاجر آخر، ولا يثاره كذلك باستئجار القدر الأكبر من ثلاجات المؤسسة العامة للصوامع والتخزين.

وبان من مطالعة الملف الخاص أن ذلك التاجر الصديق كان يستأثر هو وأفراد أسرته وشركاؤه بأكثر من ثلث مساحة الثلاجات، ولم يترك لباقي التجار البالغ عددهم نحو عشرين إلا نحو الثلثين، بل وصل الأمر إلى أن ذلك التاجر كان يعطي مساحة أكثر مما يطلب بينما لا يعطى الآخرون إلا قدرًا يسيرًا مما يطلبون.

كذا جاءت أقوال الشهود مؤيدة لتدخل الوزير لاعطاء ذلك التاجر نصف صفقة البسلة التي كانت قد رست على آخر في مزايدة صحيحة، وتنكيله بالطبيب البيطري الذي أجرى هذه المزايدة ومؤيدة كذلك لتدخل الوزير في الإفراج عن صديقه التاجر،

بعد اعتقاله كذلك لتدخل الوزير في الإفراج عن صديقه التاجر، بعد اعتقاله، وعلى الرغم من خطورته المسجلة في ملفه بوزارة الداخلية، ومؤيدة كذلك لسعي الوزير إلى اعتقاله التاجر الآخر المنافس على الرغم من عدم وجود ملف له أو تحريات تفيد خطره على الأمن".

وجاء في التقرير بعد ذلك أنه "بمناقشة الوزير أبدى أقوالاً تفيد صحة هذه الوقائع وإن كان قد علل تصرفه فيها تعليلاً غير مقبولاً ذلك بأنه أقر بوجود صلة مصاهرة بينه وبين الموظف المختلس الذي عين رئيسًا لقسم الإنشاءات، وأقر بصلته بتاجر الفاكهة المذكور،

وبأنه سبق أن اشترى ثمار حديقته، في أربع سنوات سابقة، وتعاقد معه على شرائها في الثلاث سنوات المقبلة، كما أقر بأنه حدث وزير الداخلية بشأن الإفراج عنه بعد اعتقاله، فأفرج عنه فعلاً، وبأنه استدعى التاجر الآخر وتوعده بالاعتقال إن لم يتنازل إلى صديقه عن صفقة شراء ثمار حديقة أخرى، على أن يحل محله في صفقة شراء ثمار حديقة الوزير، ولم يجد الوزير ما يعلل به هذا السلوك سوى القول بأنه أراد أن يحل كل من التاجرين محل الآخر في صفقته، حتى لا تثور المنازعات بينهما، وهي حجة غير مقبولة ولا مفهومة.

والتعليل الحقيقي أن الوزير أراد أن يؤثر صديقه التاجر بصفقة رابحة، وأن يفرض على منافسه صفقة خاسرة. كذا أقر الوزير بأنه تحدث مع وزير الداخلية في شأن اتخاذ إجراء أمن ضد التاجر الآخر المنافس لصديقه، وبأنه فرض على تاجر بسلة رسا عليه مزاد صفقة بها أن يقتسم الصفقة مع صديقه تاجر الفاكهة، وبأنه أمر بنقل الطبيب الذي أجرى المزايدة من منصب رئاسي في الأسكندرية إلى منصب فرعي في القاهرة".

وكان تقديري –الذي تبين للأسف أنه تقدير خاطئ- أن هذه الوقائع التي تمس نزاهة الوزير مباشرة، فضلاً عن مسئوليته عن الفوضى التي ضربت أطنابها في الوزارة، ووقائع الاختلاس التي كانت النيابة تواصل التحقيق فيها والتي انصبت على عشرات الآلاف من الجنيهات، كان تقديري أن كل ذلك يوجب إقالة الوزير فضلاً عن تقديمه إلى المحاكمة، ولكن يبدو أنني كنت في ذاك الحين أحسن الظن أكثر مما يجب بنوايا الحكام والمسئولين وكنت أخال أن الخجل..

إن لم يكن تقدير المسئولية يمنعهم من الإبقاء على وزير تكشفت حقيقته على هذه الصورة. ولكن ظهر لي أنني كنت في واد وكانوا هم في واد آخر!!

بحث فيما إذا كانت النيابة تملك اتهام الوزراء

ولقد فكرت طويلاً فيما أفعل وروادتني فكرة الاستقالة، ولكنني استبعدت لخشيتي أمرين: الأول أن أتهم بالتظاهر بالبطولة وهو ما أبغضه أشد البغض.

والثاني: أن تسود حالة ذعر بين المحققين من رجال النيابة العامة، وأن تدفن التحقيقات التي كانت قد وصلت إلى مرحلة حاسمة، كذا فكرت في تقديم الوزير إلى المحاكمة، وبحثت صحة هذا الإجراء من الوجهة الدستورية، فلاحظت أن المادة 66 من دستور سنة 1923 كانت تنص على "أن لمجلس النواب وحده حق اتهام الوزراء فيما يقع منهم من الجرائم في تأدية وظائفهم..

ولمجلس الأحكام المخصوص وحده حق محاكمة الوزراء عما يقع منهم في تلك الجرائم" وقد فسر هذا النص بأنه جاء على سبيل القصر، إذ خول مجلس النواب وحده سلطة اتهام الوزراء،

والمجلس المخصوص وحده سلطة محاكمتهم، ودل بهذا القصر على أنه لم يكل النظر في جرائم الوزراء المتعلقة بوظائفهم إلى المحاكمة العادية، ولم يترك لسلطة التحقيق العادية، وهي النيابة العامة، أي اختصاص أو اتصال بإجراءات الاتهام أو المحاكمة.

وقد جرى نص المادة 152 من دستور سنة 1956 والمادة 49 من الدستور المؤقت الصادر في 5 مارس سنة 1958 والمادة 140 من الإعلان الدستوري الصادر في 24 من مارس سنة 1963 على تخويل "رئيس الجمهورية ومجلس الأمة حق إحالة الوزير إلى المحاكمة عما يقع منه من جرائم في تأدية أعمال وظيفته" ولم يرد في نصوص هذه المواد عبارة كتلك التي وردت في دستور سنة 1923،

والتي تفيد قصر هذه السلطة على رئيس الجمهورية ومجلس الأمة. وبذلك قد يصح القول بأن هذه المواد أتت بجهتين استثنائيتين خولتهما سلطة اتهام الوزراء.

دون أن تسلب جهة الاتهام الأصيلة وهي النيابة العامة هذه السلطة. وعلى الرغم مما يبدو في هذه الحجة من وجاهة، وعلى الرغم من وجود سابقة في فرنسا تؤيد هذا الرأي (حكم الغرفة الجنائية بمحكمة النقض في 24/2/1893 مجموعة سيرية في 1893 – 1- 217) إلا إنني كنت أقدر أن الإقدام على اتخاذ هذا الإجراء الخطير ضد وزير، وهو لا يزال متربعًا على كرسي الوزارة،

يتطلب الوقوف على أقدام ثابتة، وأنه لا مجال في مثل هذا الموقف للاستناد إلى حجة يمكن مقارعتها بحجة مضادة لا يقل عنها قوة، خاصة وأنه لا توجد سابقة في القضاء المصري يمكن الاستناد إليها لتأييد صحة هذا الإجراء من الناحية الدستورية.

ولقد قدرت أيضًا أنه سوف يكون من أيسر الأمور اتهامي بالنزق وسوء التصرف.

لو أنه قضى بعدم جواز إقامة الدعوى الجنائية قبل الوزير، أخذًا بالرأي المضاد.

لكل هذه الاعتبارات رأيت أن الطريق الوحيد الحكيم هو أن أواصل التحقيق، وأ أحث المحققين على السير فيه بكل نزاهة وشجاعة وحيدة.

انحرافات أخرى لوزير التموين

وكشف التحقيق عن وقائع خطيرة، تمس الوزير وغيره، سجلتها في تقرير آخر رفعته إلى رئيس الجمهورية في 23 مارس سنة 1965 على النحو الآتي:

أولاً- واقعة شحن وتفريغ المواد التموينية:

بان من التحقيق أنه كان يقوم بها أحد مقاولي القطاع الخاص.

وفي 26من مايو سنة 1962 وقبل تحديد عقده أجرت وزارة التموين ممارسة بين مقاولي هذا القطاع كانت نتيجتها أن عطاء هذا المقاول هو أقل العطاءات.

بيد أن وزير التموين أمر كتابة في 5 من يونيو بإسناد العملية بأكملها إلى القطاع العام، ثم عهد بها في 14 من يونيه وبناء على ممارسة صورية إلى المؤسسة العامة للصوامع والتخزين (شركة البوندد سابقًا) لتمارسها لمدة سنة تبدأ في أول يوليو،

وذلك على الرغم من أن هذه المؤسسة لم يكن لديها الامكانيات أو الخبرة اللازمة للقيام بالعملية، وعلى الرغم من أنها لا تدخل في نشاطها طبقًا لعقد تأسيسها، مما كان مؤداه حتمًا أن تعهد المؤسسة من جانبها بالعملية إلى القطاع الخاص ثانية،

بل لقد أثبت التحقيق أن الوزير كان قد كلف المؤسسة بالتعاقد مع آخر من مقاولي القطاع الخاص، ولمدة سنة، تبدأ في 11 من يونيو سنة 1962 الأمر الذي أكد صورية الممارسة التي أجريت في 14 منه، وأن هدف الوزير من كل هذه الإجراءات الملتوية، كان إحلال أحد مقاولي القطاع الخاص محل آخر سبق له القيام بالعملية،

وقدم عند التجديد أقل العطاءات. وقد ترتب على ذلك أن المؤسسة العامة وبوصفها المسئولة أصلاً عن العملية، قد تحملت غرامات بسبب تقصيرات المقاول الذي اختاره الوزير بلغ مجموعها تسعة وعشرين ألفًا من الجنيهات.

ثانيًا- واقعة التلاعب في عمليات نقل المواد التموينية:

بان من التحقيق أن هذه العمليات، كانت تقوم بها إحدى شركات النقل، وأمر الوزير كتابة في 11 من يوليو سنة 1962 بالغاء عقدها، وبإسناد العملية إلى مؤسسة الصوامع والتخزين على الرغم مما أثبته التحقيق من أنها لم تكن لديها الإمكانيات أو الخبرة للقيام بهذه العملية، التي لا تدخل في نشاطها، طبقًا لعقد تأسيسها،

مما كان مؤاده حتمًا أن تعهد من جانبها بالعملية إلى القطاع الخاص، وقد قرر أصحاب الشركة السابقة أنهم طلبوا من المؤسسة عقد ممارسة بين مقاولي النقل لاختيار أفضلهم بيد أنهم فوجئوا بتعاقدها مع مقاول من مقاولي القطاع الخاص، تربطه صلة قرابة بمدير عام المؤسسة، وثبت من التحقيق أن المؤسسة صرفت لهذا المقاول مقدمًا مبالغ تزيد على المستحق له عن الأعمال التي أداها بمبلغ 11455 جنيهًا، وأنه قد وقعت عليه غرامات بلغ مجموعها 15000 جنيه،

وأن المؤسسة دفعت رشاوى لأعضاء لجنة رفع الغرامات، في صورة مكافآت تشجيعية للموافقة على رفع الغرامات المقررة على هذا المقاول.

ثالثًا – واقعة شراء شركة فاروس لسيارات نقل:

وقد قيدت جناية برقم 4403 سنة 1965 ميناء الأسكندرية – 331/1965 كلي غرب الأسكندرية وقدمت إلى محكمة الجنايات.

بان من التحقيقات أن شركة فاروس التابعة لمؤسسة الصوامع والتخزين اشترت خمس عشرة سيارة، من المقاول قريب المدير والمشار إليه في الواقعة الثانية بثمن قدره 10000جنيه بما يزيد عما قدرته لجنة خاصة بمبلغ 1000 جنيه، وذلك بناءً على مذكرة رفعها عضو مجلس الإدارة المنتدب إلى رئيس المجلس، دون اتخاذ ضمانات معينة قبل إبرام الصفقة،

وقد تبين أن السيارات المبيعة كانت محملة بحجوزات لصالح هيئة التأمينات الاجتماعية ضمانًا لديون قدرها 28000 جنيه،

وهو ما يوازي نحو ثلاثة أضعاف ثمن السيارات الذي دفعته المؤسسة، والذي ضاع عليها كما قرر كل من مدير المؤسسة ومستشارها القانوني وعضو مجلس إدارتها المنتدب، أن الوزير كان على علم بالصفقة، وأنها عرضت عليه تفصيلاً بظروفها السابقة وأنه أقرها.

رابعًا- واقعة الإهمال في تخزين رسالة ضخمة من الفول السوداني:

تبين من التحقيق أن مراقبة التموين بالوزارة طلبت من مؤسسة الصوامع والتخزين في سنة 1962 تخزين كميات ضخمة من الفول السوداني المعد للتصدير يبلغ مقدارها نحو 90000 طن، وأن رئيس مجلس إدارة المؤسسة السابق اعترض على إسناد العملية إليها، لعدم توافر المخازن المسقوفة لديها، ولكن مراقبة التموين أصرت على رأيها وطلبت أن تخزن الفول في شونة سموحة، وهي عبارة عن أرض فضاء مكشوفة ظلت فيها تلك الكميات الضخمة مدة،

تعرضت خلالها لموسمين من مواسم الأمطار، الأمر الذي عرضها للتلف وقد قدم رئيس مجلس الإدارة مذكرة بالموضوع إلى الوزير بيد أن هذا أقر تصرف مراقبة التموين، بحجة أن تلف الفول يرجع إلى أسباب قاهرة،

وترتب على ذلك أن تحملت الحكومة خسارة تتمثل في قيمة كمية الفول التالفة التي قدرت بنحو 2500طن، مضافًا إليها الفرق بين السعر الذي اشترت به الفول مع مصروفات نقله وتخزينه وهو 76جنيهًا للطن وبين السعر الذي باعته به وهو يتراوح بين 25 و 26 جنيهًا للطن.

هذه هي الوقائع التي أثبتها في تقرير 23 مارس سنة 1965، وحرصت على أن تعرض على رئيس الجمهورية قبل استجواب الوزير فيها –وقد استجوبت الوزير فيها بالفعل، ورفعت إلى رئيس الجمهورية بنتيجة الاستجوب تقرير آخر في 4 من إبريل سنة 1965 جاء فيه أنه "

إلحاقًا بالتقرير المؤرخ في 23 من مارس سنة 1965 تم سؤال وزير التموين في الوقائع الأربع المبينة في ذلك التقرير، ففيما يختص بواقعة شحن وتفريغ المواد التموينية،

وواقعة التلاعب في عمليات نقلها، قرر أنه أمر حقيقة بعدم تجديد عقد المقاول في الواقعة الأولى وبإلغاء عقد شركة النقل في الواقعة الثانية كما أقر بإسناد كل من العمليتين إلى القطاع العام وإلى مؤسسة الصوامع والتخزين بالذات،

وأنه كان يعلم ابتداءً أن هذه المؤسسة لم تكن لديها الإمكانيات التي تتيح لها القيام بالعمليتين، وأنها كانت ستعهد بهما حتمًا إلى القطاع الخاص.

واحتج بأن هدفه من ذلك هو إشراك القطاع العام في المسئولية والرقابة، وكأن رقابة الوزارة لا تكفي.

ولما نوقش فيما أدى إليه هذا التصرف من أن التقصيرات التي وقعت من المقاولين الجديدين فاقت التقصيرات التي وقعت من المقاولين السابقين، وأن مؤسسة الصوامع والتخزين هي التي تحملت باعتبارها المتعاقدة الأصلية، الغرامات عن هذه التقصيرات، أجاب بأن هذه الغرامات تهديدية وأن العرف جرى على رفعها،

ولم يبرر بشيء الأضرار التي حلت بالمال العام نتيجة هذه التقصيرات، كما لم يبرر صرف مبالغ للمقاولين الجديدين تتجاوز قيمة الأعمال التي قاما بها فعلاً – وفيما يختص بواقعة شراء شركة فاروس سيارات النقل، أقر بأن الصفقة عرضت عليه،

وأنه أقرها بالفعل، وفيما يختص بواقعة الإهمال في تخزين رسالة الفول، قرر أنه علم بتخزينها في شونة سموحة المكشوفة، وبرر ذلك بأن التخزين تم في شهر أسغسطس حين لا يقوم باحتمال سقوط الأمطار، وأنه لم يكن يقدر أن يستمر التخزين لمدة عامين".

هكذا كان تصرف وزير التموين، أو هكذا كان سوء تصرفه. وهكذا كان تقديره للصالح العام، ولأموال الشعب. ومع ذلك ظل متربعًا على كرسيه، فلا هو رأى، ولا غيره رأى،

إن فيما اقترفه ما يستوجب مسئوليته أو حتى يدعو إلى تنحيته عن منصبه وقد تم التحقيق وانتهى إلى تقديم عشرات من موظفي وزارة التموين والمؤسسات والشركات التابعة لها إلى محاكم الجنايات والجنح، وصدرت الأحكام بإدانة البعض وبراءة البعض الآخر، وكان الأمر العجيب حقًّا أن وزير التموين كان يتجول بين المحاكم،

حاملاً صفته كعضو في الوزارة متطوعًا بالشهادة لصالح المتهمين. الأمر الذي أثار السخط وألقى في روع رجال النيابة والقضاء والكافة أن سياسة الحكومة تقوم على إقرار الانحراف والإهمال ورعاية المنحرفين والمهملين وأنها توفد ممثلاً لها إلى المحاكم للدفاع عنهم،

كما كان من العجيب أيضًا أن تستطيع العدالة في هذه الظروف الصعبة أن تصل إلى بعض كبار الموظفين ومنهم بالذات الموظف المختلس صهر نائب رئيس الوزراء (الحكم في اجلناية رقم 286 سنة 1965 محرم بك 10/1965 كلي غرب الأسكندرية) وهو مدير قسم الإنشاءات بمحافظة الأسكندرية،

ومنهم كذلك عضو مجلس الإدارة المنتدب لمؤسسة الصوامع والتخزين (الحكم في الجناية رقم 4403/1965 ميناء الأسكندرية – 331/1965 كلي غرب الأسكندرية) إذ قضى بمعاقبة كل منهما بالأشغال الشاقة المؤقتة.

مؤامرة سانتا لوتشيا

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تجددت الحملة ضدي من رئيس الوزراء، صهر المتهم في قضية الاستيراد، مستعينًا بوزيره صهر الموظف المختلس، فأعطياني صورة المتآمر على الإطاحة بالوزارة كلها، واستغلا في حملتهما واقعة تافهة استغلالاً يدل على الرغبة في الكيد لي.

وذلك بأنني في رحلة من رحلاتي إلى الأسكندرية للإشراف على التحقيق الذي كان يجري فيها، اتصلت بالأستاذ فتحي الشرقاوي وزير العدل السابق والمقيم فيها، واتفقنا على اللقاء بمطعم سانتا لوتشيا وقضينا فيه فترة لا تجاوز الساعة في حديث عادي.

ويبدو أنني كنت تحت الرقابة، إذ وصل أمر هذه المقابلة إلى علم رئيس الوزراء ووزير التموين واستخلصا أننا اجتمعنا لنرسم خيوط مؤامرة للإطاحة بالوزارة كلها وأني لا أدري كيف تكون إمكانيات النائب العام لتدبير مؤامرة إلا أن تكون وسيلة المؤامرة هي تحقيق الجرائم التي تقع من الوزراء وأصهارهم والضرب على أيدي المنحرفين والعابثين،

وأخذ التبليغات مأخذ الجد، ومقاومة التأثير على سير العدالة، والتسوية فيها بين الأمير والفقير، ومحاولة تنقية الحكم مما يعلق به من فساد. إن كانت هذه هي عناصر المؤامرة فاللهم اشهد إنني أول المتآمرين.

وكان قد انقضى على المقابلة نحو عشرة أيام، وكنت قد نسيت أمرها تمامًا حين كنت في مكتب المستشار بدوي حموده وزير العدل، وذهلت عندما سألني عن موضوع "اجتماع سانتا لوتشيا"، ولم أفهم معنى لهذا الاستفسار إلا عندما ذكرني بأنني التقيت في هذا الاجتماع بوزير العدل السابق، وواجهني بما قيل عن الغرض منه فلم أستطع أن أكتم ضحكة صدرت مني،

كما لم يكتم الوزير دهشته من أنني أنظر بهذه البساطة إلى موضوع يعتبره جد خطير. وواجهته بأن الدهشة من حقي أنا وبأنني لم أكن أتصور أن الافتراء يمكن أن يصل إلى حد تصوير لقاء عادي بأنه دليل مؤامرة للإطاحة بالوزارة، ولم أخف عنه رأيي، أن الأمر ليس أمر احتجاج على لقاء عادي، بل إنه إنما يحمل في حقيقته الاعتراض على جدية التحقيق والسير فيه، دون حدود وفواصل،

تمنع من تصاعد المسئولية إلى الدرجة التي بلغتها، وتساءلت عما يراد مني، وعما إذا كان يطلب مني أن أكون لبقًا فأوجه التحقيق وجهة ترضي الحكام، فيقف عند حدود يرتضونها، وذكرت الوزير بجلسات استجواب زميله، الذي تم في مكتبه وفي حضوره، وسألته عما إذا كان الضمير القضائي يسمح بإغفال التهم المسنودة إليه والتجاوز عنها،

ولم يرد الوزير على تساؤلي، وكل كل ما أجابني به أنه إنما قصد توجيه النصيحة إلي، وتنبيهي إلى خطورة التحقيق ومعقباته، فشكرته على نصيحته وأفهمته أنني مقدر تمامًا خطورة التحقيق ومعقباته، سواء بالنسبة لشخصي أو بالنسبة للصالح العام.

اقتراحات للإصلاح

في هذه الظروف القاسية كانت النيابة العامة تواصل مهمتها وتقدم إلى المحاكم تباعًا الكثير من قضايا الاختلاس والرشوة واستغلال النفوذ في وزارة التموين، وفي جمعياتها الاستهلاكية.

وحاولت جهدي أن يصل إلى كبار المسئولين صوتي ونظرتي إلى تلك الصورة القبيحة، التي كشفت التحقيقات عنها، ورأيي في وسائل الإصلاح، وفكرت في أنه قد يكون من المجدي أن أنقل تلك الصورة وهذا الرأي إلى أحد نواب رئيس الجمهورية.

وفي مقابلة تمت بيننا عرضت أن أبعث إليه بتقرير في هذا الشأن، ولما وجدت منه ترحيبًا بالفكرة، أرسلت إليه في 16 من فبراير سنة 1965 تقريرًا جاء فيه ما يأتي:

"كشفت التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة في بعض أجهزة الخدمات العامة، عن طائفة من العيوب الخطيرة، والتي ينبغي عدم السكوت عليها، توجيهًا للجهات المعنية لاستئصالها وإحلال الصالح من النظم محلها، حتى تترقى هذه الأجهزة الحيوية إلى المستوى الذي يتكافأ مع خطورة رسالتها،

بوصفها تجربة رائدة في مجتمعنا الحديث، من الواجب تعبئة كافة القوى لكفالة أسبا النجاح لها، لما هو ملموس من أثر الدور الذي يلعبه سلامة التطبيق، في الحكم على صواب النظرية ذاتها.

ولئن كان مما لا يمكن اغفاله في هذا المقام، خطورة جهاز يتكفل على سبيل المثال بتوفير الخدمات التموينية اليومية والطويلة المدى للملايين من أبناء الشعب، مما يبرر مدى ما يعترض تنظيمه على الوجه الأكمل من صعاب،

إلا إن ذلك لا ينبغي أن يقلل من ضرورة إحاطته بسياج دقيق من التنظيم الذي يكفل له النجاح تخطيطًا وتنفيذًا ومراقبة – كل ذلك دون التقيد بطبيعة الحال بما لا تزال ترسف فيه بعض الأجهزة التقليدية للدولة من أغلال التعقيدات المكتبة، التي لا تتفق بحال ومجالات الخدمات العامة الجديدة، التي أخذت الدولة على عاتقها تقديمها للمجتمع.

ويمكن إجمال أبرز ما تكشف للنيابة العامة في هذا المقام من عيوب فيما يلي:

أولاً – عدم العناية بالعنصر الشخصي في اختيار القائمين بالعمل في بعض الأجهزة التي تستلزم في القائمين بها صفات خاصة، من حيث الخبرة الكافية أو المستوى العلمي، أو الماضي المبرأ من الشوائب قليلي الخبرة بها، وأقر بعضهم بعدم درايتهم المبرأ من الشوائب إذ لوحظ إسناد طائفة من الأعمال الرئيسية إلى أشخاص قليلي الخبرة بها،

وأقر بعضهم بعدم درايتهم بمسالكها، وهو ما يكفي بذاته للتنبؤ بمدى ما يؤول إليه العمل، تحت قيادتهم من انحدار بما يؤدي إليه من تشبثهم بإصدار قرارات خاطئة، أو وقوعهم تحت تأثير غير المسئولين من مرؤوسيهم ممن تقتصر مؤهلات الكثيرين منهم على التوصل إلى اكتساب عطف رؤسائهم، دون رصيد من خبرة أو أمانة

–وبذلك يحاط الرئيس غير الكفء ببطانة تسيء إليه وتضر بالصالح العام.

فإذا أضيف إلى ذلك عدم خلو صحائف بعض من يقع عليهم الاختيار لشغل بعض المناصب من شوائب – هي ولاشك نذير خطر واضح – مع وفرة ذوي الماضي المشرف من المواطنين لشغل هذه المناصب،

كان في ذلك ما يبرر خطورة هذا الانحراف في الاختيار، لا من حيث أثره على سير أعمال تقوم على الأمانة في المقام الأول فحسب، بل وعلى ثقة المواطنين في سلامة الأوضاع في أجهزة تعتبر الثقة فيها هي المعيار الصحيح لنجاح الدولة في إداراتها.

وبعد فإنه ينبغي أن يكون واضحًا، أن حق ذوي الماضي المشوب في العمل الشريف يجب ألا يتم على حساب أجهزة بالغة الحساسية، قوامها الأمانة، تتولى الدولة أمرها للمرة الأولى، لما يقتضيه توفيقها فيها، من حسن اختيار الرواد الذين يشقون الطريق لمن يلونهم، لا بالخطة السليمة فحسب، بل وبالأسوة الحسنة.

ثانيًا – افتقاد التناسب أحيانًا بين خطورة العمل وبين الوضع المادي للقائمين به، من إسناد أعمال ذات خطر واضح – كالمخازن والمشتروات – إلى بعض صغار العاملين ضيئلي الرواتب،

ممن لايرقى إدراكهم للمسئولية إلى المستوى الذي يعصمهم من الانزلاق في مجالات تكثر فيها المغريات، مما يقتضي تحصينهم بالكفاية المادية التي تصدهم عن التفكير في استغلال سلطات وظائفهم،

وبخاصة ازاء ما يتسم به الكثير من أجهزة الخدمات من سبل التيسير في الإجراءات، اعتمادًا على الأمانة وافتراض الحصر على الصالح العام.

وفي هذا تختلف هذه الأجهزة عن سواها من المرافق التقليدية للدولة، التي تقوم دقة الإجراءات فيها إلى حد ما،

عائقًا دون العبث بأموال الدولة ومصالح الشعب في نطاقها، وإذا كانت هذه القيود لم تفلح للأسف في القضاء على ما هو مشاهد في هذه المرافق، من وقائع العبث والاختلاس، فإن التحلل في بعض أجهزة الخدمات أحرى بالدفع إلى ازدياد أمثال هذه الوقائع – ما لم يكن للقائمين بالعمل فيها من الدوافع وأسباب الوقاية ما يصدهم عن التردي فيها.

ثالثًا – قلة الضوابط التي تحكم تنظيم العمل في بعض الأجهزة سواء من حيث السلطة في اختيار العاملين فيها، أو من حيث وضع النظم ومراقبة سير العمل وذلك بترك أمثال هذه الأمور إلى تقدير فرد، يؤدي انحرافه عمدًا أو إهمالاً، إلى إلحاق أبلغ الضرر بالجهاز الذي تولى أمره، حالة أن مجرد الرغبة في التخفف من القيود المكتبية في تسيير العمل في بعض نواحي النشاط،

لا ينفي ضرورة وضع ما يكفل عدم انحرافه من ضوابط، تتمثل في المقام الأول في عدم انفراد شخص واحد بسلطة وضع الخطة، أو اختيار القائمين على تنفيذها، أو رقابة سير العمل. وذلك بإشراك جهاز متنوع الكفايات قادر على تحمل المسئوليات، في اتخاذ ما ينبغي لسير العمل من قرارات عليا،

والإشراف على تنفيذها – كما يقوم من جهة أخرى على وضع حدود معقولة – غير كاملة البعد عما يجري به العمل في المرافق الأصلية للدولة

– لما تملك الهيئات المشرفة على الأجهزة المستحدثة التصرف فيه، وذلك تأكيدًا لإحساس القائمين بالعمل فيها بالمسئولية وتفاديًّا لتحدي بعضهم، بدخول الكثير من التصرفات التي تستوقف النظر ولا يقرها الصالح العام – في حدود اختصاصهم- ذلك أنه ينبغي ألا يتجاوز هذه الاختصاصات بحال المدى الذي يحقق المصلحة العامة دون أن يسمح بتسلل الأهواء الشخصية أو المجاملات.

رابعًا – افتقاد اللامركزية في بعض المجالات التي يدعو الصالح العام إلى الأخذ بها فيها تفاديًا لعيوب المركزية – ذلك أنه وإن كان لاشك في صواب اتباع المركزية في التخطيط،

إلا إنه ينبغي التخلي عنها جهد الطاقة في التنفيذ، إذكاء لروح المنافسة بين الوحدات التابعة للجهاز – وتحديدًا للمسئولية عما يقع من أخطاء في أضيق نطاق وتخلصًا من ذلك الشيوع الذي يساعد على إفلات المسئولين عنها – وتجسيدًا للحافز الشخصي لدى القائمين بالعمل في تلك الوحدات، بحيث يعود عليهم جانب من حصيلة اجتهادهم يتكافأ وما يبذلونه في تحقيق النجاح من جهد جدير بالتشجيع، وإتاحة لمزيد من التجارب في الإدارة،للوقوف على أنسب الطرق المؤدية إلى الارتقاء بالخدمات وتطويرها.

ويكفي في هذا المقام تصور ما يتطلبه إمداد مدينة كالقاهرة بما يلزمها من سلع تموينية يوميًّا، من جهد ضخم يشق على أية لجنة يعهد إليها بفحص هذه السلع قبل شرائها، تمهيدًا لتوزيعها على مختلف الوحدات المحلية التابعة للجهاز التمويني فضلاً عن احتمالات الخطأ، وربما الانحراف، الذي يؤثر على الصالح العام ونصيبه بأفدح الأضرار، الأمر الذي يمكن الحد منه جهد الطاقة عن طريق قدر من اللامركزية.

خامسًا – عدم كفاية الرقابة على أجهزة الخدمات مع ما للرقابة المحكمة من أثر واضح، في ضمان حسن سير العمل، وبخاصة في أوجه النشاط التي تقوم أساسًا على عنصر الأمانة، ويتسع معها مجال التقدير- ولئن قيل بصعوبة توفير جهاز دقيق للرقابة ممن لا ترقى إليهم الشبهات،

إلا إنه في حسن مكافأة المجد منهم، وأخذ المسيء بالشدة، ما يحفزهم على مضاعفة جهودهم في أداء عملهم، ويدفعهم إلى الحرص عليه ونرى أن ما هو مشاهد، من تعدد جهات الرقابة على أجهزة الخدمات بأنواعها هو في الواقع من أسباب عدم إحكامها، نتيجة لتكرار الإجراءات في غير موجب واحتمال تنازع الاختصاص فيما بين تلك الجهات،

ولا ريب أن في تركيز عملية الرقابة في جهاز موحد كامل السلطات شامل النفوذ، ما يحقق الرقابة المرجوة التي تكفل صيانة الصالح العام، وتؤدي إلى بتر كل من تسول له نفسه الخروج على مقتضيات الأمانة أو التفريط في أداء واجباته في خدمة الشعب".

هذا هو نص التقرير الذي سلمته إلى نائب رئيس الجمهورية، وقد حرصت بقدر الإمكان على أن يكون تقريرًا موضوعيًّا شاملاً مواطن العيوب ووسائل تلافيها.

ولا أدري ماذا كان مصير هذا التقرير، وأغلب ظني أنه أخذ طريقه إلى سلة المهملات كغيره من التقارير، وقد كنت كمن يضرب في حجر أصم، ذلك أنني لم أر أثرًا لما اقترحته في هذا التقرير، وأثبتت لي الحوادث والتحقيقات التالية، سواء في أجهزة الخدمات أو الانتاج أن العيوب التي أشرت إليها ظلت قائمة، بل واستشرت إلى درجة تثير الذعر وتهدد بالانهيار،

وإلى درجة أن العامل الأمين الذي يشعر بمسئوليته ازاء وطنه وأموال وطنه، يتملكه احساس من يعمل في جو غريب عليه، ويجد نفسه مسوقًا في النهاية، إما إلى مجاراة زملائه في انحرافهم، وإما إلى تعريض نفسه لأخطار الاتهام الملفق.

أمثلة من الفوضى

سبق أن أشرت إلى الفوضى التي كانت تسود وزارة التموين والمجمعات الاستهلاكية، وأنه لم يكن يحكمها أي نظام، وإلى أن وزير التموين أقام من نفسه حاميًا لهذه الفوضى، ولم يتحرج من أن يتقدم إلى المحاكم كشاهد نفي لمن اتهمتهم النيابة العامة بوقائع الاختلاس والإهمال،

التي ترتب عليها ضياع أموال الشعب، ولقد بلغ من تأثير الوزير الشاهد أن محكمة جنايات الأسكندرية في حكمها الصادر في الجناية رقم 286 سنة 1965 محرم بك بتاريخ 16 من أكتوبر سنة 1965 والتي اتهم فيها صهر الوزير وآخرون، وعندما انتهت إلى تبرئة بعض المتهمين بالاختلاس والإهمال، ومنهم رئيس مجلس إدارة المؤسسة التعاونية الاستهلاكية،

ورئيس مجلس إدارة الجمعية التعاونية الاستهلاكية بلغ من تأثير الوزير أن المحكمة اعتبرت سند البراءة الرئيسي، هو شهادة وزير التموين، فأثبتت في خاتمة حكمها هذه العبارة "وحيث أنه بعد استعراض وقائع تلك الدعوى، وبعد الاستماع إلى شهادة وزير التموين وبعد الاطلاع على المواد.. حكمت المحكمة" فوضعت المحكمة بهذه الخاتمة شهادة الوزير في منزلة واحدة مع القانون الواجب التطبيق.

وجدير بالذكر هنا أن رئيس محكمة الجنايات التي أصدرت هذه الحكم هو المستشار محمد الصادق مهدي، الذي عين فيما بعد وكيلاً للوزارة على ما سيأتي والذي فصل بعد ذلك بحكم تأديبي سجل انحرافه في الدعوى التأديبية رقم 7 سنة 1971.

وكان من دلائل الفوضى ما سجله الحكم، من أنه ثبت وجود عجز في عهدة أحد أمناء المخازن قدره 17504 جنيهًا، ولكن المحكمة لم تجد مناصًا من الحكم ببراءة هذا المتهم، استنادًا إلى أن "اللجنة لاحظت أن دفتر الحركة متوقف اثبات البيانات فيه من تاريخ 9/7/1964 أي من تاريخ استلام المتهم لهذه العهدة، كما لاحظت اللجنة عدم الانتظام في دفاتر الإضافة،

وأن أذونات الصرف والإضافة كانت مبعثرة، وغير محفوظة في ملفات وأن اللجنة لم تجد توقيعًا لأحد على دفاتر المخزن.. وانتهى الحكم إلى أن المحكمة لا تطمئن، مع قيام هذه الفوضى، إلى إدانة هذا المتهم أو إلى أنه مسئول عن العجز في عهدته".

ومن دلائل الفوضى أيضًا، أن اثنين من المتهمين أسند إليهما اختلاس مبلغ 10770 جنيه تسلماه لشراء خضر وفواكه، فأبديا أمام المحكمة دفاعًا عجيبًا مضمونه أن العمل جرى في المجمعات على أن يحرر الموظف على نفسه إيصالات بالمبالغ التي يتسلمها، على ذمة شراء بضائع معينة، على أن يسترد هذه الإيصالات عند توريد ما يساوي قيمة المبالغ من بضائع،

وكان من النتائج العجيبة لهذا النظام، أو بمعنى أصح، لهذه الفوضى أن الموظف المختلس، يستطيع أن يصطنع إيصالات، ويوقع عليها بامضائه، ثم يزعم أنه كان قد حرر هذه الايصالات بالمبالغ التي تسلمها، وأنه استردها بعد أن ورد بضائع بقيمتها، ويتخذ من وجود الايصالات تحت يده دليلاً على براءة ذمته.

وهذا هو بذاته الدفاع الذي لجأ إليه المتهمان، وبرأتهما المحكمة على أساس.

وسواء كان هذا الدفاع على غرابته وعدم موافقته للمعقول – صحيحًا أو غير صحيح، وإن قيل أن للمحكمة عذرها في تبرئة المتهم استنادًا إلى قاعدة درء الحدود بالشبهات، فإن العجيب حقًّا أن يقر المسئولون، وعلى رأسهم وزير التموين، مثل هذه الفوضى،

وأن يشهدوا أمام المحكمة بأن العمل قد جرى عليها بالفعل، ولا أدري بعد ذلك كيف يمكن التفرقة بين الموظف الأمين والموظف المختلس، وكيف يمكن تحقيق الرقابة والحد من الانحرافات والمحافظة على أموال الشعب.

وقد سجلت تحقيقات الجنايتين رقم 4402 و 4403 سنة 1965 ميناء الأسكندرية (رقم 330 و 331/1965 كلي غرب الأسكندرية) هذه فضائح في مؤسسة وشركة الصوامع والتخزين (البوندد سابقًا)، أمر بها أو أقرها أو تجاوز عنها وزير التموين، منها تزييف الميزانيات بإضافة أرباح صورية، وديون معدومة،

واستبعاد جانب من الاحتياطي، حتى تكون النتيجة تحقيق ربح، مع أن الواقع هو تحقيق خسارة، وذلك بهدف أن يرفع تقييم الشركة إلى درجة أعلا، وترفع بالتالي رواتب المديرين، وأعضاء مجلس الإدارة، ونسبة الأرباح والمكافآت التشجيعية، ولم يكتف المزيفون بذلك، بل صرفوا للمحاسبين مكافآت إضافية، مقابل قيامهم بهذا التزييف. ولقد تملكني العجب في ذلك الحين لهذا التزييف الجريء لكن هذا العجب لم يلبث أن زال بعد أن تبينت، من تحقيقات تالية،

أن ذلك التزييف كان قاعدة متبعة في كثير من شركات القطاع العام، ومنها على سبيل المثال شركة سينا للمنجنيز، وأن الوزراء المختصين كانوا يقرون هذا التزييف، حتى أن محامي بعض المتهمين فكروا جديًّا في طلب استدعاء وزير الصناعة لسؤاله كشاهد نفي في هذا الخصوص، لكنهم انتهوا إلى العدول عن هذه الوسيلة من الدفاع، بناء على طلب موكليهم وإبقاء على حسن صلاتهم بالوزراء المسئولين،

وحتى يعاونهم هؤلاء في العودة إلى أعمالهم أو إنهاء وقفهم عن العمل وكذا التخلص من التهم المسندة إليهم.

ومن الفضائح التي سجلتها تحقيقات الجنايتين سابقتي الذكر، أن عضو مجلس الإدارة المنتدب للشركة، طلب صرف مكافآت تشجيعية لثمانية من موظفي وزارة التموين، بزعم أنهم بذلوا جهدًا في التعاون مع الشركة لإنجاز أعمالها،

ولما اعترض بعض أعضاء المجلس صارحهم العضو المنتدب بأن الغرض الحقيقي لهذه المكافآت، هو إرشاد هؤلاء الموظفين حتى يعملوا على رفع غرامات، بلغ مقدارها 15000 جنيه، تسبب فيها مقاول النقل قريب المدير، وكان المفروض أن تتحملها الشركة، بوصف أنها هي المتعاقدة الأصلية على القيام بعمليات الشحن والتفريغ والنقل، وأنها عهدت من باطنها بالعمليات إلى ذلك المقاول.

وقد سبق أن أشرت إلى أن وزير التموين هو الذي أمر بإلغاء ما تم من تعاقد مع المقاولين السابقين، بناءً على مناقصات صحيحة، وبزعم أنه سيعهد بالعمليات إلى شركات القطاع العام، وهو يعلم، بل وأمر مقدمًا، بإسناد العمليات من باطن الشركة، إلى ذلك المقاول المحظوظ.

قضية الأستاذ مصطفى أمين

كانت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، ففي هذه الغضون أبلغت بضبط الصحفي الأستاذ مصطفى أمين، بمعرفة رجال المخابرات، وهو يمد ملحق السفارة الأمريكية بمعلومات، قيل إنها ضارة بأمن البلاد، وبعد انتهاء التحقيق، أبديت رأي بأن هذه المعلومات بعيدة كل البعد عن السرية، وأنها لا تنطوي في تقديري على أي أضرار بمركز البلاد الحربي أو السياسي أو الاقتصادي،

وصارحت بهذا الرأي كلا من السيد صلاح نصر مدير المخابرات العامة إذ ذاك والمستشار بدوي حموده وزير العدل، وأفهمتهما أنه ليس من المصلحة إثارة ضجة حول اتهام لصحفي معروف سينتهي الأمر فيه إلى البراءة.

وبعد أيام أبلغني وزير العدل أنه اتصل بالجهات المسئولة، وأنه فهم منها أن رئيس الجمهورية رأى احترامًا لرأيي – ألا تقدم الدعوى إلى القضاء العادي، وأنه لا ضرر من تقديمها إلى محكمة عسكرية، باعتبار أن القضية هي أولاً وأخيرًا قضية سياسية وأن الحكم بفرض صدوره بالإدانة لن يكون سوى حكم رمزي، وأن رئيس الجمهورية بصدد إصدار قرار جمهوري بإحالة القضية إلى محكمة أمن دولة خاصة في حدود حقه المخول به بالقانون رقم 162/1958 بشأن حالة الطوارئ

– ولم يلبث أن صدر القرار الجمهوري الخاص، كما ورد من المخابرات العامة خطاب مؤرخ في 13/11/1965 يتضمن أن الأمر عرض على رئيس الجمهورية، وأنه رأى أن الأوراق والمعلومات المنقولة إلى ملحق السفارة الأمريكية تضر بمركز البلاد الاقتصادي والسياسي والعسكري، وواضح أن هذا الخطاب كان ردًّا على الرأي الذي صارحت به مدير المخابرات العامة ووزير العدل، وتأييدًا لما نقله إلى وزير العدل في شأن رأي رئيس الجمهورية.

وبذا وضعت أمام الأمر الواقع الذي لم أكن أملك له دفعًا، ونظرت الدعوى أمام محكمة أمن دولة عليا مشكلة تشكيلاً عسكريًا برئاسة الفريق الدجوي، وكان الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة هو ما وصف ابتداء بحكم رمزي.

وقد وصل إلى علمي أخيرًا أن السيد محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء السوداني السابق أرسل إلى المدعي العام الاشتراكي خطابًا يسجل فيه إن كان قد قابل الرئيس جمال عبد الناصر واستوضحه حقيقة ما أسند إلى الأستاذ مصطفى أمين من أنه جاسوس للولايات المتحدة الأمريكية فأجابه الرئيس بأنه يعلم أن الأستاذ مصطفى ليس جاسوسًا لكنه "زودها"

عندما قال لملحق السفارة الأمريكية أنه لو منع القمح الأمريكي عن مصر لركع جمال عبدالناصروأن هذه العبارة أثارته ودفعته إلى الإيحاء باتهام الأستاذ مصطفى بالتجسس.

كما وصل إلى علمي أن الدكتور بهي الدين شلش أستاذ الرمد بجامعة القاهرة شهد في تحقيق المدعي الاشتراكي أنه علم من السيد صلاح نصر مدير المخابرات العامة أنه حدث الرئيس جمال في موضوع اتهام الأستاذ مصطفى فقال الرئيس إنه يعلم أن الأستاذ مصطفى أمينليس جاسوسًا وأنه إنما أراد بمحاكمته الكيد لأصدقائه الأمريكان.

أمل يخيب في صناعة السيارات

إن الصورة السابقة من الفوضى والانحراف، لم تكن صورة وزارة التموين ومؤسساتها وشركاتها وحدها، فقد تبين أن لوحات مماثلة كانت تصور الحالة السائدة في الكثير من مؤسسات وشركات القطاع العام، الأمر الذي دعاني إلى إنشاء نيابة متخصصة ألحقتها بمكتبي،

وأسميتها نيابة الأموال العامة، وزودتها بمحام عام، وعدد كبير من رؤساء النيابة، كانوا يقومون تحت إشرافي بتحقيق وقائع الانحراف في القطاع العام.

ولست بمستطيع أن أنقل إلى هذه الذكريات صور كل تلك اللوحات، وحسبي أن أسجل جانبًا منها مما وعته ذاكرتي، ووجدت بين أوراقي الخاصة، ما يشير إليه ويذكرني به.

ولست مبالغًا إن قلت أن عدد صفحات التحقيقات والمحاكمات والتقارير والمستندات بلغت الملايين، في خلال مدة عملي كنائب عام، كما بلغت الملايين كذلك قيمة المبالغ والأشياء المختلسة، فضلاً عن وقائع الرشوة واستغلال النفوذ والإهمال وما إليها.

ولقد كنت أسائل نفسي، إلى أي مدى وإلى أي حين، يستطيع اقتصاد بلد نام كبلدنا، أن يصمد أمام عمليات التخريب هذه في وقت كنا فيه في أشد الحاجة إلى تنمية مواردنا لمواجهة الأعداد المتزايدة من السكان وإلى إقامة اقتصادنا على دعائم ثابتة تمكننا من اللحاق بركب الحضارة، الذي تخلفنا عنه طويلاً، وهو تخلف تتسع شقته بمثل هذه التخريبات والانحرافات والإهمالات.

ولست هنا بصدد بحث وتقييم صلاحية نظام التأميم في بلد كبلدنا، ومدى ملاءمته لمجتمع كمجتمعنا، قبل أن تكفل له وسائل التربية الاجتماعية والقومية، بما يؤهل كل فرد فيه إلى أن يتفهم واجبه ازاء بلاده،

وأن هذا الواجب – يقتضيه أن يحافظ على المال العام، محافظته على ماله الخاص، وكل ما أستطيع القطع به أن النتائج دلت على أن الأخذ بنظام التأميم، كان في القليل سابقًا لأوانه، وأن اتساع نطاقه وشموله للكثرة من أوجه النشاط الاقتصادي،

كان يعوق إمكانيات وقدرة أجهزة القطاع العام، سواء في ذلك قدرته الفنية على الاضطلاع بالأعمال، أو قدرته الإدارية والتنظيمية والإشرافية الكفيلة بمقاومة الانحرافات، وابتكار بدائل للحوافز، التي تدفع القطاع الخاص إلى فيض مستمر من الكم والكيف في الإنتاج.

ولأضرب مثالاً لصناعة كانت البلاد تعلق عليها آمالاً بعيدة، لكنها آمال خابت بسبب الانحراف والفوضى.. فإن صناعة السيارات كانت من الصناعات التي هللت الحكومة لها، وأوهمت الشعب بأن بلادنا وصلت فيها بالفعل إلى مرحلة الانتاج الصناعي الحقيقي، ولو علم الشعب المسكين أي فوضى كانت تسود أعمال شركة النصر لصناعة السيارات، لتملكه العجب، بل الذعر من تبديد أمواله، على نحو يتسم بالاستهتار وعدم تقدير المسئولية.

وأذكر أنه أثناء أن كنت وكيلاً لوزارة العدل دعيت إلى زيارة مصانع الشركة، وكان أول ما لفت نظري أن أجزاء السيارات كانت مشونة في صناديق، الكثير منها مكسور ومتروكة بالمئات في أرض فضاء ملحقة بالمصنع وبغير حراسة حقيقية، الأمر الذي يفتح الباب واسعًا للسرقة أو للادعاء بها إخفاء لاختلاس. ولقد صح ما توقعته،

بل تبين من التحقيقات التي أشرفت عليها بعد ذلك، كنائب عام، إن الصورة كانت أسوأ بكثير مما توقعته أو قدرته، وأن الأمر لم يكن أمر إهمال في التخزين أو الحراسة، بل أمر انعدام النظام في عمليات تقدر قيمتها بالملايين. ولقد سجلت التحقيقات رقم 115 و 243 و 81/1966 حصر أموال عامة وقائع مذهلة منها انه أجريت مناقصة عالمية لتوريد قطع رومان بلي، وأسفرت عن وجوب إسناد العملية إلى شركة يابانية تقدمت بأقل الأسعار وتوافرت فيها كل الضمانات، ومع ذلك فقد رأت عصبة من المشرفين على شئون الشركة،

وعلى رأسهم مديرها المالي والتجاري، إرساء المناقصة على شركة ألمانية هي شركة "فاج" وصدر إليها أمر التوريد بسعر يزيد 26000 جنيه عن سعر الشركة اليابانية، وعلى أن يدفع بالعملة الصعبة. وقد تبين من التحقيق كذلك أن شركة النصر لصناعة السيارات هذه ومنذ إنشائها في سنة 1962 وحتى إجراء التحقيق في سنة 1966.

كانت تعمل بغير لوائح مالية أو تجارية، واكتفت إدارة المؤسسة بإرسال خطابات روتينية إلى ذلك المدير، تنبه فيها إلى وجوب إعداد هذه اللوائح، ومن العجيب حقًّا أن تسكت المؤسسة ووزارة الصناعى على مدير مالي تسلم العمل منذ سنة 1962،

أن تتركه في منصبه يعمل في ظلال الفوضى، وتتصور أنها أدت واجبها، بتوجيه هذه الخطابات الروتينية إليه، ومع تيقنها من إصراره على العمل بغير نظم أو لوائح. وليت الأمر اقتصر على ذلك بل بلغ الاستهتار إلى حد أن موجودات الشركة لم تجرد منذ إنشائها حتى عام 1965، فلما أجري الجرد في هذا العام، أسفر عن عجز قدره نحو مليون جنيه، وقد اختفى هذا المبلغ بقدرة قادر، ولم يعرف على وجه التحديد منشأة،

بسبب الفوضى السائدة، والتي يمكن القول استنتاجًا أنها فوضى متعمدة، قصد بها عدم إمكان تحديد السبب أو المسئول عن العجز... ومن العجيب أن هذا المدير المالي، في أقواله في التحقيق، يعز العجز إلى قيام الفوضى التي خلقها هو،

فلا يتحرج من أن يقول أن العجز ظهر بسبب عدم إنشاء مخازن، وعدم تخزين موجودات الشركة على أسس علمية، بما يستحيل معه جردها جردًا سليمًا، وأنها كانت متناثرة في أماكن مؤقتة، وكانت تجرد مرة في المخازن المؤقتة، ومرة أخرى في الأماكن المفتوحة خارج المخازن، وأنه لم تتبع الإجراءات المخزنية السليمة، وأنه لم تكن هناك نظم تسمح بالتحقق من قيمة كل الوسائل الواردة، وإثبات هذه القيمة، وبذا تحققت النتيجة المطلوبة من إشاعة تلك الفوضى،

فلم يعرف إن كان العجز يرجع إلى عدم تصدير البضاعة من الشركة البائعة، أو إلى سرقتها في الطريق سواء في البحر خارج البلاد أو في البر بعد انزالها أو إلى اختلاسها أو سرقتها بعد تشوينها أو تخزينها.

وفي الوقت الذي كان أفراد الجمهور يطمئنون فيه إلى سلامة نظام الأسبقية في حجز السيارات، ويدفعون الثمن انتظارًا لدورهم في الاستلام، كان التلاعب يجري على أشده من القائمين بالعمل في الشركة، فأعطوا لأنفسهم ولذويهم وأصدقائهم ومحاسيبهم أسبقيات مزيفة، كما أعطوها لغيرهم في مقابل رشاوى، بل وصل الأمر إلى أن زيف طلبات بتواريخ سابقة على قرار رفع أثمان السيارات،

للاستفادة من الأثمان السابقة، والتي كانت تقل نحو مائة جنيه في بعض الأنواع، وكان هذا التلاعب يتم في يسر عجيب يصعب معه تصور أن الأمر كان يجري في الخفاء، بل يمكن القول، بغير تجن، أن التلاعب كان سرًّا مفضوحًا، ولقد تذكرت هذا التساهل المريب في مكافحة التلاعب حين تقدم لي مواطن يشكو مدير الشركة، الذي أصر على عدم تنفيذ حكم استئنافي صادر له بتسليم سيارة،

واعترض المحضر الذي قام لتنفيذ الحكم. فلما اتصلت بهذا المدير تليفونيًّا احتج بأن نظامًا جديدًا وضع للأسبقية في التسليم، ومقتضاه تفضيل من يدفع الثمن بالعملة الصعبة، وساق لي هذه الحجة وغيرها من الحجج، لكني تبينت من مطالعة الحكم،

أن كل هذه الحجج أبديت من محامي الشركة ورد عليها الحكم ولم يأخذ بها وقضى بتسليم السيارة لمشتريها، الذي كان قد دفع الثمن بالكامل، وتم التعاقد بينه وبين الشركة بالفعل، قبل إعمال ذلك النظام الجديد.

وأفهمت ذلك لمدير الشركة لكنه أصر، في صلف عجيب، على عدم تنفيذ الحكم، ولم يذعن إلا بعد أن لوحت له بالمسئولية الجنائية، وصارحته بأنني لم أتقاعس عن أداء واجبي في اتخاذ الإجراء المناسب ضده، إن هو اعترض سبيل المحضر عند قيامه للتنفيذ مرة أخرى،

وبعد أن اتصلت بمدير أمن القاهرة وحملته مسئولية تنفيذ الحكم ولو بالقوة عند الاقتضاء، ولقد تولاني العجب من هذا التصرف، وقارنت بين هذا التعنت، والعمل على عرقلة تنفيذ الحكم، وإعطاء ذي الحق حقه، وبين السكون الذي ينم عن إقرار التلاعب والانحراف والرشوة والاغتصاب حقوق الآخرين في الأسبقية على ما سبق بيانه.

وكانت وقائع التلاعب في تسليم السيارات مرتبطة بوقائع جنائية أخرى، قامت بفحصها مبدئيًّا الرقابة الإدارية، تمهيدًا لأخطار النيابة العامة بها، ولم يكن الفحص والتحقيق قد انتهيا بعد حين نقلت من منصب النائب العام،

ولا أدري ما تم من تصرف في شأن تلك الوقائع، على أنني لم أشأ أن أترك المسائل الأخرى الهامة معلقة فبادرت بإخطار مدير النيابة الإدارية بما تبين من انحرافات وإهمالات في عملية استيراد الرولمان بلي وفي عدم وضع لوائح مالية أو تجارية لتنظيم العمل في الشركة، وطلبت منه تقديم المسئولين والمدير المالي والتجاري بها،

ولم أكن أستطيع أن أتخذ إجراء آخر، نظرًا لعدم قيام الدليل على توافر القصد الجنائي في تلك الوقائع – لكن واقع الأمر أن النيابة الإدارية كانت في ذلك الحين،

مقبرة واسعة يدفن فيها الكثير من أمثال هذه الوقائع، وكنت أقف عاجزًا أمام هذا التهاون لأن توقيع الجزاء الإداري أو رفع الدعوى التأديبية، لم يكن يدخل في اختصاص النيابة العامة طبقًا للقانون.

الشركة العقارية المصرية ووزير الإصلاح الزراعي

ولننتقل الآن إلى مهزلة أخرى أو إن شئت فسمها مأساة أخرى، وهي تتمثل في قضية الجناية رقم 2603/1965 باب شرقي (946/1965 كلي شرقي الأسكندرية) التي انصبت تحقيقاتها على وقائع اختلاس ورشوة واستغلال نفوذ في الشركة العقارية المصرية،

وهي شركة من شركات القطاع العام، وشمل الاتهام فيها رئيس مجلس إدارة الشركة، ومديرها العام، وعددًا من المهندسين والمديرين الماليين والإداريين والمقاولين.

وترجع أهمية هذه القضية إلى أنها تعطي صورة واضحة لما كان العمل يجري عليه في شركات القطاع العام، ولا يستطيع المطالع هذه التحقيقات إلا أن يخرج بنتيجة واحدة،

هي أن رؤساء العمل في هذه الشركة تواطأوا مع أفراد عصابة من المقاولين، على اختلاس أموال الشعب معتمدين على صفاتهم السياسية وانتمائهم إلى الاتحاد الاشتراكي وصلاتهم بالحكام،

فعلى رأس قائمة الاتهام يقف مقاول معروف بصلته بوزير الإصلاح الزراعي إذ ذاك، كما يقف رئيس مجلس إدارة الشركة الذي عمل في الوقت نفسه أمين مساعد الدعوة والفكر بالإتحاد الاشتراكي.

فقد عهد إلى هذه الشركة القيام بأعمال ترابية، بمناطق مريوط والنوبارية وحفير شهاب الدين، ولما كانت قيمة هذه الأعمال تتجاوز ما هو مرخص بتنفيذه لأحد أفراد القطاع الخاص، فقد جزأ موظفو الأعمال تجزئة صورية،

وعهدوا بكل جزء منها إلى واحد من أعوان ذلك المقاول الكبير، الذي قصد أن تؤول الأعمال كلها إليه. وكانت وسائل الاختلاس متنوعة، منها أن يأمر رؤساء العمل في الشركة بتسليم المقاول مبالغ لا يقابلها في الواقع أي عمل من الأعمال،

ومنها أن يزيدوا بغير حق أو موجب الفئات المتعاقد عليها لأجور العمال ومنها تحمل الشركة أجور نقل أو أثمان أدوات يلتزم بها المقاول أصلاً طبقًا لنصوص العقد..

وقد اختلس أفراد هذه العصابة من الموظفين والمقاولين من أموال الشركة، بهذه الوسائل المختلفة مبالغ على دفعات بلغت 422507 جنيهًا، 78816 جنيها و3570 جنيها و7437 جنيها و1149 جنيها و2400جنيها و19400جنيها و 11000جنيها و1149جنيها و1517جنيها،

ولم يكتف المتهمون من رؤساء العمل في الشركة بذلك، بل اشتروا بأموالها سيارات نقل جديدة وملوكها لشركائهم من المقاولين، بأثمان قيل إنها سوف تسدد على أقساط، ولم يسدد بالطبع شيء منها، وضيعوا على الشركة بهذه الوسيلة المبتكرة مبالغ 67211 جنيها و 1226جنيها و5488جنيها ولقد بلغ الاستهتار برئيس مجلس إدارة الشركة حدا جعله يسحب من أموالها لنفسه مرة مبلغ 1149جنيها لغير سبب،

ومرة أخرى مبلغ 16873جنيها في صورة قرض، وكانت له طريقة عجيبة مبتكرة في استمرار هذا القرض وعدم سداده، إذ كان يورده على الورق في نهاية السنة المالية ثم يعود فيثبت أنه سحبه مرة ثانية في بداية السنة المالية الجديدة

– وهكذا، وتأسيًا بهذا الرئيس، لجأ إلى الطريقة ذاتها باقي الموظفين، ومنهم مدير إدارة الإمدادات والتموين، الذي سحب لنفسه مبلغ 9552 جنيها.

هذا وقد تبين أن مسحوبات المقاول الرئيسي في هذه العمليات وهو المتهم الأول، قد استغرقت رأس مال الشركة، وتجاوزته، فإن رأسمالها كان قد وصل إلى مبلغ 1250000 جنيهًا بينما بلغت مسحوبات ذلك المقاول وحده في المدة من 23/0/1963 حتى 6/2/1965 مبلغ 1300000 جنيها كما تبين من تقدير الموقف المالي للشركة، أنه بعد استهلاك رأسمالها،

بلغت خصومها 2796224جنيهًا وهي نتيجة تكفي بذاتها وبصرف النظر عن التهم السابق الإشارة إليها القول بأن تلك الشركة لم تنشأ إلا لتكون فريسة يلتهمها رؤساء العمل فيها وشركاؤهم من المقاولين.

قلت أنه كان يقف على رأس قائمة الاتهام مقاول معروف بصلته بوزير الإصلاح الزراعي وقد علمت من رئيس النيابة الذي كان يتولى التحقيق، أن هذا المقاول كان يردد لمحاميه خارج جلسات التحقيق وعلى مسمع من أفراد الجمهور، أن قدرًا كبيرًا من الأموال التي اختلسها قد آلت إلى ذلك الوزير، وأنه بنى بجزء منها "فيلا له".

وكان هذا المقاول يهدد بابداء هذه الأقوال في التحقيق كدفاع له إن لم يعمل الوزير على تخليصه من التهمة المسندة إليه، ولكن محاميه كان ينصحه بالسكوت بحجة أن هذه الأقوال قد تسيء إليه، باعتبار أنها تتضمن اعترافاته بوقائع الاختلاس. وكان المقاول في كل مرة يضيق عليه الخناق يردد في ثورته هذا التهديد، لكنه ينتهي إلى الاستماع إلى نصيحة محاميه والأخذ بها.

وقد سألني رئيس النيابة المحقق رأيي فيما يفعله ازاء ما وصل إلى علمه في هذا الشأن، وكان رأيي الذي أبديته له أن واجبه كمحقق أمين يقتضيه، من جهة، أن يثبت كل دفاع بيديه المتهم في جلسة التحقيق مهما تكن خطورته ومعقباته،

وأن يحقق هذا الدفاع كما يقتضيه واجبه من جهة أخرى كمحقق محايد ألا يتأثر إلا بما يقال في مجلس التحقيق، وألا يستمع إلى ما يقال خارجه وحتى لا يدخل في دوامة غير مجدية في تحقيق نسبة صدور أقوال إلى شخص ينفي في التحقيق صدورها منه.

ويبدو أنه كان لتهديد المقاول أثره، فقد وصل إلى علمي أن وزير الإصلاح الزراعي كان دائم القلق والسؤال عن مصير التحقيق وما يجري فيه، وبدأ يحشد عددًا من شهود النفي والخبراء الاستشارين للعمل على تقويض الاتهام،

وكان من عجائب المصادقات أن يتشابه موقفان لاثنين من الوزراء، هما وزير التموين ووزير الإصلاح الزراعي فكل منها يسعى إلى هدم الاتهام الموجه إلى أعوانه حتى لا يصل إليه ويمسك بتلابيبه، لكن أولهما كان أكثر صراحة وجرأة،

فلم يتحرج من أن يظهر أمام المحاكم بصورة سافرة، كشاهد نفي ومدافع عن المنحرفين، وكان الثاني أكثر حكمة ففضل أن يعمل في الخفاء، وقد وصل أمر تهديد المقاول وما يردده عن مساهمة وزير الإصلاح الزراعي في الاختلاس إلى كبار المسئولين، حتى أن أحد نواب رئيس الجمهورية استعلم من المستشار عصام حسونة وزير العدل حينئذ عما يقال في هذا الشأن وسألني الوزير بدوره عن الموضوع،

فأخبرته بما علمته من رئيس النيابة المحقق على النحو السابق البيان، وبأن المقاول كان ينكل في كل مرة عن أن يثبت في التحقيق ما كان يردد خارج مجلسه، وبدأت الشائعات تتردد عن محاولات وزير الإصلاح الزراعي للاتصال بمستشار الإحالة.

وقد أكد لي رئيس النيابة المحقق، والذي تولى في الوقت ذاته تمثيل النيابة في الدعوى أمام مستشار الإحالة، أكد لي صحة هذه الشائعات، بل أضاف أن الاتصال بين الوزير ومستشار الإحالة قد تم بالفعل، وروى لي وقائع خطيرة أذهلتني، ولم أجد بدا ازاء خطورتها من أن أكلفه تحرير تقرير بها، فحرره بالفعل وأبلغته لوزير العدل وفيما يلي مضمون الوقائع الواردة في التقرير:

أولاً- علم رئيس النيابة في 4 من يونيو من موظف بإدارة الأمن بالشركة العقارية المصرية، ثم من مدير الأمن بها أن الإفراج عن المتهمين أصبح أمرًا مؤكدًا وأن مستشار الإحالة صرح بذلك لابن خالته.

وقد تحقق ذلك عندما أصدر المستشار بعد ذلك أمره بالإفراج عن المتهمين في 7 من يونيو.

ثانيًا – صارح رئيس النيابة المستشار بما يتردد في هذا الشأن فنفاه، لكنه أقر بواقعة أكثر خطورة، إذ قال إنه قابل وزير الإصلاح الزراعي شخصيًّا بالقاهرة في اليوم السابق على بدء نظر الدعوى، وأنه تحدث معه بالفعل في موضوعها وإن كان قد زعم أن حديث الوزير قد اقتصر على رجائه ألا يسمح بزج اسمه في الدعوى أثناء نظرها أمامه.

ثالثًا – عقد مستشار الإحالة يوم 5 من يونيو جلسة استمرت من الصباح إلى المساء على فترتين تخللتهما استراحة فيما بين الساعة الثانية والنصف والساعة الثالثة والنصف مساءً، ولاحظ رئيس النيابة أن اتصالاً تليفونيًّا تم مع المستشار في الفترة الأولى،

وفهم من إجابة المستشار أن محدثه يسأل عما تم في الدعوى ولما سأل رئيس النيابة المستشار في الاستراحة عن المتحدث، وموضوع الحديث، صارحه بأن محدثه هو بالفعل وزير الإصلاح الزراعي وأنه يسأل عما تم في الدعوى.

رابعًا – علم رئيس النيابة بعد ذلك من مدير أمن الشركة، أن مستشار الإحالة قضى ليلة 7 يونيو بمنزل وزير الإصلاح الزراعي في الأسكندرية، وهي الليلة السابقة على صدور قراره بالإفراج عن المتهمين، ولم يجد مستشار الإحالة الشجاعة للتقرير في الدعوى بألا وجه لها واكتفى بالإفراج عن المتهمين مع إحالتهم إلى محكمة جنايات الأسكندرية.

هذا هو مضمون التقرير وقد صارحت وزير العدل إذ قدمت له التقرير، بأنني أرى تحقيق ما جاء فيه من وقائع خطيرة، سواء ما أسند منها إلى المستشار أو ما أسند إلى الوزير وبأنه لا يمكن السكوت على وزير يسمح لنفسه بأن يتحدث مع قاض في موضوع قضية ينظرها، وتبلغ به الجرأة إلى حد أن يستضيف القاضي في منزله أثناء نظر الدعوى، وأن يحدثه في موضوعها تليفونيًّا أثناء انعقاد الجلسة.

واستمهلني الوزير محتجًا بأن الأمر خطير، وأنه لا يمس سمعة الوزير فحسب بل يمس سمعة القضاء كله، وبأن الأمر يقتضي اتصالات بالجهات العليا في شأن الوزير.

وبعد أيام عاودت التحدث مع وزير العدل، مبديًا أ، له شأنه مع الجهات السياسية فيما يختص بالوزير أما سلوك المستشار فهو من شأني وشأنه ووافقني الوزير مبدئيًّا، ووعد بطلب المستشار لمقابلته، والتحدث معه في الأمر.

وقد فوجئت بعد ذلك بسفر وزير العدل إلى الخارج في 13 من يونيو للعلاج، وعلمت بعد سفره أنه كان قد استدعى بالفعل مستشار الإحالة وتحدث معه على انفراد، ولم أعرف تفصيلات ما دار بينهما من حديث، وانتظرت عودة الوزير فلما عاد أفهمني أنه كان قبل سفره قد نصح المستشار بالاستقالة، وأنه أسندت إليه بعد ذلك واقعة رشوة في قضية أخرى،

وأنه في صدد استدعائه مرة ثانية لسؤاله عنها، وقد استدعاه بالفعل ولم يجد المستشار مناصًا من تقديم استقالته، فقبلها الوزير على الفور.

وانتهى الموضوع بالنسبة للمستشار، وبقى الوزير متربعًا على كرسيه، حتى رؤى تعيينه في منصب سياسي خطير، هو أمين عام الاتحاد الاشتراكي، ثم انتهى به الأمر بعد ثورة التصحيح في 15 مايو سنة 1971 إلى السجن.

ولم يمض على إحالة القضية إلى محكمة الجنايات قليل حتى بدأت الشائعات تنطلق مرة أخرى عن اتصال وزير الإصلاح الزراعي برئيس محكمة استئناف الأسكندرية المستشار فؤاد سري، وقد تملكني الذعر حقًّا إذ علمت أن رئيس المحكمة – على الرغم من أنه رئيس الدائرة المدنية الأولى، وعلى الرغم من أن العمل قد جرى من قديم، في محاكم الاستئناف العليا،

على أن يقتصر عمل رؤسائها على الفصل في القضايا المدنية – قد قرر تشكيل دائرة خاصة برئاسته لنظر تلك الجناية وأنه ليؤسفني أن أقول، والألم يعتصر قلبي، أن الأقاويل كانت تتناول الزميل المذكور بالتجريح، وتتحدث عن صلاته ببعض الشركات من زمن قديم، ومن عصر ما قبل الثورة،

وأنه كان يتقاضى منها مرتبات كمستشار قانوني لها، وأنني لا أجد الآن حرجًا من هذا القول بعد أن أصبح الأمر سرًّا مكشوفًا، حين رشح رئيس المحكمة المذكور وزير العدل،

ونشرت الصحف خبر ترشيحه وخبر مقابلته لرئيس الجمهورية، لمناسبة هذا الترشيحن ثم عدل عن ترشيحه في اليوم التالي بعد أن قامت بين رجال القضاء على هذا الترشيح شبه ثورة رأى معها رئيس الجمهورية أنه ليس من صالح نظام الحكم أن يواجه الرأي العام ورجال القضاء بتعيين واحد من أسوأهم وزيرًا عليهم.

أعود بعد هذا الاستطراد، إلى ما ذكرته من أنني ذعرت إذ علمت أن رئيس محكمة الاستئناف قد قرر تشكيل دائرة برئاسته، لنظر قضية الجناية المذكورة، ولم أشأ أن أغض النظر عن هذه الكارثة الجديدة التي تسيء أيما إشارة إلى سمعة القضاء فانتهزت أول فرصة لانعقاد مجلس القضاء الأعلى

– وكل منا عضو فيه – وحدثته في الموضوع، وتعمدت أن يجري الحديث على مسمع من كل أعضاء المجلس، وأبديت له في شيء من اللياقة، وبعبارة لا يخفى عليه معناها، أنه ليس من صالح العدالة أن يتصدى لنظر دعوى لا تدخل في اختصاصه أصلاً،

بحسب توزيع العمل الذي أقرته الجمعية العمومية للمحكمة، وأن تشكيله دائرة جنايات خاصة برئاسته لنظر القضية سوف يثير الأقاويل ويسيء إلى سمعته وسمعة القضاء عامة، ورجوته بالحاح أن يترك نظر القضية إلى دائرة الجنايات المختصة بها أصلاً، وبدا عليه أنه استمع إلى النصيحة واقتنع بها.

وحرصت على أن أخطر وزير العدل بما جرى من حديث، بيني وبين رئيس محكمة استئناف الأسكندرية، وبأنه جرى على مسمع من باقي أعضاء مجلس القضاء الأعلى، ورحب الوزير بتصرفي وأقرني عليه

– وقد اطمأننت إلى وعد رئيس المحكمة، لكن لشد ما كانت دهشتي إذ علمت أنه نكل عن وعده وأصدر بالفعل قرارًا بتشكيل دائرة خاصة برئاسته لنظر القضية،

وزادت دهشتي عندما علمت بعد ذلك أنه عند نظر القضية، أصدر قرارًا بندب خبراء جدد، لإعادة فحص العمليات التي قام بها المقاولون المتهمون، وعلى الرغم من أن هذه العمليات كانت معالمها قد زالت بعد أن أتم الخبراء السابقون مهمتهم،

كما علمت أنه عند صدور القرار كان الخبراء موجودين في قاعة الجلسة ينتظرون ندبهم، بما يستبعد معه أي تردد في القول بأن الأمر كان مرتبًا، وأن مصير القضية قد تحدد بتلك الوسائل.

ومن المؤسف حقًّا أن الزميل رئيس محكمة استئناف الأسكندرية كان يعلن في غير مناسبة، أن زوج ابنته هو أحد أعوان السيد سامي شرف مدير مكتب رئيس الجمهورية وكان يفاخر بهذه الصلة كي يتحدى بها كل من يحاول النيل منه، وقد كانت هذه الصلة فيما يبدو هي أساس ترشيحه لمنصب وزير العدل.

أمثلة فريدة من انحرافات القطاع العام

ولأعرض الآن صورة فريدة حدثت وقائعها في شركة النصر لصناعة الزجاج والبللور، وتضمنها تحقيقات النيابة رقم 4880/1965 قصر النيل 183/1965 كلي وسط القاهرة، وكان يملك هذه الشركة قبل تأميمها عصامي معروف يعتبر بحق رائد هذه الصناعة في مصر، وهو سيد يس، وقد أنشأها بعرقه وكذه وكانت من أنجح الشركات، وبدا من التحقيقات وكأن هذه الشركة الناجحة قد أممت لتسلم

– شأنها في ذلك شأن الشركة العقارية المصرية – إلى عصابة من الموظفين لاغتيال أموالها بالاتفاق مع أحد التجار، فقد شمل تقرير الاتهام، فضلاً عن هذا التاجر، رئيس مجلس إدارة الشركة، ورئيس حساباتها ،ومدير مبيعاتها، ورئيس خزانتها، ومديرها المالي.

وبان من التحقيق أن الشركة تعاقدت مع التاجر على أن يقوم في خلال المدة من 1/7/1963 حتى 30/6/1965 بتوزيع منتجاتها كوكيل بالعمولة، وعلى ألا تتجاوز قيمة مسحوباته مبلغ خمسة وعشرين ألفًا من الجنيهات، قدم بها خطابات ضمان،

وعلى الرغم من علم هؤلاء الموظفين، وعلى رأسهم رئيس مجلس الإدارة بهذه الحقيقة وعلى الرغم من إلفات نظرهم أكثر من مرة كتابة وشفاهة إلى أن المسحوبات قد تجاوزت قيمة خطابات الضمان، فقد أصروا على تسليم التاجر المزيد من منتجات الشركة،

وظل رصيده المدين يتصاعد حتى وصل في شهر مارس 1965 أي في أقل من سنتين إلى مبلغ 135542 جنيهًا، وانتهى الأمر إلى ضياع مبلغ 107808 جنيهًا، وبلغت الجرأة بموظفي الشركة أن يثبتوا في سجلات الحسابات سداد مبالغ مجموعها 21000جنيه، وقد تبين أن الشيكات التي حررها التاجر بهذه المبالغ لم يكن يقابلها رصيد.

وإليكم على سبيل المثال أيضًا صورة أخرى من صور الانحراف والفساد والإهمال في شركات القطاع العام أظهرتها التحقيقات رقم 729/1965، 69/1967 حصر أموال عامة عليا.

ففي ظهر يوم الجمعة 10 من ديسمبر 1965 شبت النار في حجرة الأرشيف الخاصة بحفظ أوراق ومستندات إدارة التكاليف بشركة النصر للهندسة والتبريد (كولدير) وهي حجرة كائنة في الطابق الثالث من المبنى وكانت مغلقة في يوم العطلة المذكور، وأتى الحريق على أكثر هذه الأوراق،

وحاول بعض المسئولين تعليل الحريق بحدوثه نتيجة لماس كهربائي، ولكن تبين من المعاينة والتحقيق والتقارير أن التيار لم يكن متصلاً بهذه الحجرة، وأن النار قد وضعت فيها عمدًا من شخص لم يتوصل التحقيق إلى معرفته،

ودل ذلك بطبيعة الحال على أن الغرض من إشعالها كان إعدام الأوراق والمستندات إخفاء لوقائع اختلاس، فأمرت النيابة العامة بتشكيل لجان لفحص أعمال الشركة، وعلى الرغم من احتراق معظم المستندات فقد أمكن بفحص ما بقي منها التوصل إلى اعتراف من رئيس حسابات المصنع، باختلاس نحو ألفين من الجنيهات قدم للمحاكمة عنها أمام محكمة الجنايات، ودفنت باقي وقائع الاختلاسات والانحرافات، ولكن الحريق لم ينجح في إخفاء الصورة العامة، لما كان يجري عليه العمل في الشركة،

ومن ذلك أنها قامت لبعض الوزراء ورؤساء المؤسسات، وعلى سبيل المثال نائب رئيس وزراء، وزير النقل، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الصناعات الهندسية ورئيس مؤسسة النقل، قامت لهم بأعمال وتركيبات بلغت قيمتها آلاف الجنيهات دون أن يدفع بعضهم سوى جزء يسير من قيمتها،

ودون أن يدفع البعض الآخر شيئًا على الإطلاق وتبين وجود عجز في عدد كبير من أجهزة التكييف لم يعرف سببه، أو المسئول عنه كما تبين أن بعض كبار الموظفين كانوا يمنحون للمحظوظين من العملاء بغير مبرر خصمًا يتجاوز حدود سلطاتهم،

أو يسلمون آلاف الكيلو جرامات من الألومنيوم، إلى بعض التجار، دون مقابل، أو يبيعون بضائع الشركة إلى أشخاص معينيين، وبأثمان زهيدة دون ممارسة أو مزايدة، أو يشترون بضائع دون مناقصة وبأسعار مرتفعة، وعلى الرغم من وجود عروض بأسعار أقل،

وفي حالات أخرى كانت أوزان البضائع المبيعة تخفض عن أوزانها الحقيقية، وكانت بعض المسبوكات تصدر إلى الخارج حيث يثبت عدم صلاحيتها بما أساء إلى سمعة الشركة في الأسواق الخارجية، وكانت تسلم مبالغ كبيرة إلى بعض التجار على ذمة توريد بضائع للشركة، ثم لا يطالبون بقيمة ما لم يوروده منها، وفي بعض الحالات كانت أرصدة العملاء المدينة تسوى بآلاف الجنيهات دون مستندات مؤيدة.

وقد عهد بأعمال التخليص على الرسائل الواردة، إلى شقيق مدير عام الشركة ولم يطالب بما تبقى في ذمته من مبالغ تقدر بآلاف الجنيهات ولم يتقصر الأمر على ذلك بل تبين أن الشركة أغفلت أخطار إدارة النقد ببعض عملياتها في الخارج،

بما يحمل شبهة تهريب النقد، وثبت من تقرير الفحص أنه وجد حساب "مبالغ تحت التسوية مبلغ 13653 جنيها تسلمه قبل السنة المالية 63-1964 بعض موظفي الشركة، وعلى رأسهم مديرها، ومديرها المالي، على ذمة القيام ببعض الأعمال الخاصة بالشركة ولم يسو هذا الحساب،

حتى فحص الأعمال في أغسطس 1966، كما ثبت أنه حملت على بعض العمليات قيمة مهمات وأدوات بلغت 20739جنيها دون مستندات، وتبين بصفة عامة أن الانتاج الفعلي للشركة قد هبط عما قدر له، وأن الرقابة على الإنتاج ضعفت وأن الرقابة على العمليات الخارجية انعدمت، وأنه وجدت في بعض البنود عجوزات بعشرات الآلاف من الجنيهات، لم يعرف مصيرها، ولا المسئول عنها،

لاضطراب الحسابات وعدم ضبطها وضياع مستنداتها، كما تبين أنه منذ تأميم الشركة في سنة 1963 لم تجرد أموالها، وأن أمناء المخازن لم يكن لديهم أي سجل أو بطاقات يمكن بمقتضاها معرفة الأرصدة الحقيقية الموجودة لديهم، إن بعض المهمات كانت تصرف من المخازن دون إثباتها مستنديًّا،

وأن العلاقة بين حسابات المخازن ومراقبة المواد كانت مفقودة، ولم تكن تجري مطابقة بين البطاقات في الجهتين إلى غير ذلك من صور الفوضى التي يمكن بغير حرج القطع بأنها كانت فوضى متعمدة لإخفاء وقائع الاختلاس والانحراف، وهي تكاد ترسم صورة مماثلة للفوضى التي كانت سائدة في شركة النصر لصناعة السيارات وللغرض نفسه.

وقد وقفت النيابة العامة ازاء ذلك عاجزة عن إقامة الدليل على وقائع الاختلاس والانحراف، وتحديد المسئولية عنها، وكل ما استطاعته أن تبلغ النيابة الإدارية بأسماء المسئولين عن هذه الفوضى، لرفع الدعوى التأديبية ضدهم، ولم يتخذ إجراء في هذا الشأن، فقد كانت هذه النيابة – كما سبق القول – مقبرة لدفن تلك المخازن.

وفي تحقيقات النيابة رقم 7/1966 حصر تحقيق المباحث الجنائية، ثبت أن تسعة وعشرين شخصًا من المقاولين والعمال ورؤساء العمل والحركة والمراقبين وأمناء العهدة في شركة المحلات الصناعية للحرير والقطن المعروفة باسم "أسكو" قد كونوا من أنفسهم عصابة اختلست من أموال الشركة ما يقدر بآلاف الجنيهات بعضها نقدًا والبعض في صورة وقود سائل، باصطناع عمليات وهمية أخرى تزيد عن قيمتها الحقيقية، مستعينين على ذلك بوسائل مختلفة من التزوير،

وقد تتابعت عمليات الاختلاس والتزوير لمدة تزيد على السنتين من أول يوليو 1962 إلى 30 من نوفمبر سنة 1964 حتى كشف أمرها أخيرًا وبطريق الصدفة البحتة.

وفي تحقيقات الجناية رقم 3388/1964 المطرية (215/1965 كلي شرق القاهرة) ثبت أن العمل في هيئة النقل العام كان طابعه الاختلاس والرشوة كما كان يتسم بالاهمال الجسيم فقطع الغيار تشترى بأسعار خيالية، دون أن تكون مطابقة للمواصفات الفنية،

بل ودون حاجة إليها، ثم تدخل المخازن وتخرج منها، دون قيد أو إثبات في الدفاتر أو البطاقات الخاصة الأمر الذي ييسر الاختلاس والتلاعب على نطاق واسع.

وفي تحقيقات الجناية رقم 645/964 حصر أمن الدولة، تبين أن العمل كان في كثير من الحالات يسير كذلك على أساس الرشوة، وكانت مبالغ الرشوة تدفع بالآلاف، كما كان جانب منها يسلم في الخارج بالدولارات، وكان التلاعب يحصل في تواريخ أذون الاستيراد أو في مضمونها،

فيعدل التاريخ بعد انتهاء أجل الإذن، وبغير المضمون مثلا من شنابر إلى رؤوس ماكينات خياطة، وكان هذا التلاعب يتم في أذونات تبلغ قيمتها عشرات الآلاف من الجنيهات.

وفي التحقيقات رقم 13 و 19 و20 و21 و23/1965 حصر نيابة غرب الأسكندرية، كان رئيس مجلس إدارة شركة المستودعات آمرًا ناهيًا، يصول ويجول في أعمال الشركة،

وينحرف في أعمالها ما يشاء له الانحراف بغير محاسب أو رقيب، فهو يعطي احتكار شراء الجمبري لشركة دوفر الأمريكية في مقابل تعيين ابنه مديرًا بها ويصرف منتجات الشركة من الجمبري لمن يشاء من أصحاب الشركات بأثمان زهيدة مغفلاً بغير مبرر عرض الشركات الأخرى بأثمان أعلى،

وهو يبيع سيارات الشركة إلى شركة من شركات القطاع العام بأثمان زهيدة، في مقابل أن تعيد هذه الشركة بيع بعضها إلى أصدقائه من مديري الشركات الأخرى،

وهو يشتري سفينة صيد للشركة، ويحملها ثمنها بالكامل ويشرك في ملكيتها بحق النصف، صديقًا لا يدفع نصيبه من الثمن إلا آجلاً، ومن الربح الذي يحصل عليه بعد تشغيله السفينة، وهو يصنع الجمبري المعد للتصدير تصنيعًا فاسدًا يسيء إلى سمعة البلاد في الخارج، ويضطر،

بناء على طلب الشركات الأجنبية المشترية إلى إعادة تصنيعه، بما يكبد الشركة خسائر فادحة، وهو لا يدرس حاجيات السوق الأجنبية ويخزن أكثر مما تتطلبه احتياجات هذه السوق،

فيضطر إلى بيع المخزون بخسارة هو تلاعب بميزانية الشركة، ويسافر في رحلات إلى الخارج، بحجة عقد صفقات وتكون المحصلة عقد صفقات تافهة، لا تغطي أرباحها مصاريف الرحلة، وهو يحتفظ بالأصناف الممتازة، ليبيعها إلى أصدقائه من التجار، وليصدروها هم لحسابهم، ويستبقي للشركة الأصناف الأدنى وهكذا وهكذا..

ومن الأمور الطريفة حقًّا، أن مديرًا لإحدى الشركات قدم إلى محكمة الجنايات في ست جنايات، عن وقائع انحراف واختلاس واهمال جسيم، وعلى الرغم من هذا الاتهام فقد رئي اسناد منصب وكيل وزارة الصناعة إليه، ولما كان ذلك الاتهام يقف عائقًا في سبيل اسناد هذا المنصب إليه،

فقد طلب مني أكثر من مسئول طلبًا عجيبًا، أثار دهشتي بل ذهولي، ويدل على عقلية هؤلاء ومدى تقديرهم للمسئولية، ذلك بأنهم طلبوا مني وبإلحاح وأكثر من مرة، أن أحرر مذكرة تتضمن أنني أوافق على تعيين المدير المذكور وكيلاً للوزارة،

وأسجل فيها أن تلك الاتهامات لا تمنع من هاذ التعيين. وعبثًا كنت أحاول إفهامهم أنه، فضلاً عن عدم اختصاص النائب العام بالترشيح لمنصب وكلاء الوزارات، فإنني لا يمكن أن أبلغ من البله درجة تجعلني أسجل موافقتي على هذا التعيين بالنسبة إلى شخص قدمته أنا إلى محكمة الجنايات متهمًا في ست قضايا. وقد سرت عدوى الفساد حتى إلى الهيئات الخيرية والصحية،

وتبين أن المشرف على هيئة معونة الشتاء قد اختلس من أموالها ما يربو على المائة ألف جنيه وأن جرائم الاختلاس والرشوة والتزوير كادت أن تكون الأساس في أعمال هيئة التأمين الصحي، فالعقاقير والأجهزة الطبية والآثاثات والسيارات يشتريها موظفو الهيئة،

وعلى رأسهم مدير القسم الطبي لحسابها بأثمان مرتفعة. في مقابل رشاوى، تدفع لهم من البائعين ثم تزور بعد ذلك محاضر مصطنعة لممارسات وهمية بغرض تغطية هذه العمليات، هذا فضلاً عن استيلاء هؤلاء الأطباء والموظفين على بعض المشتروات لأنفسهم (المحضر رقم 2/1965 حصر تحقيق نيابة شرق الأسكندرية).

وفي مصلحة الجمارك تبين من تحقيق الجنايبة رقم 155/1966 أموال عامة أن عصابة من موظفي المصلحة وغيرهم، دابت على تزوير شهادات بدفع رسوم الجمارك على السيارات المستوردة، وتزوير خطابات لإدارات المرور بحصول هذا الدفع لاستخراج رخص بها.

ومن القضايا الطريفة حقًّا والتي تدل على مدى تغلغل الفساد قضية الجناية رقم 60/1968 أمن دولة عليا، التي ثبت من تحقيقها أن عصابة عدتها ستة وثلاثون شخصًا، جمعت بين مدير إنتاج وجميع مفتشي ومعاوني إنتاج الوجه القبلي من بني سويف إلى الأقصر بغير استثناء،

وأصحاب المستودعات ومعامل تقطير الخمور في الصعيد، اتفق أفرادها على التغاضي عن تحصيل كامل رسوم الانتاج في مقابل رشاوى.

حتى التبرعات للمجهود الحربي تطاولت إليها أيدي اللصوص، فقد تبين أن أحد أمناء الاتحاد الاشتراكي بمحافظة المنوفية وكان في الوقت ذاته عضوا بمجلس الأمة، قد استولى على جانب من أموال هذه التبرعات، ودفعه كضامن إفراج عن أحد تجار الجواهر المخدرة،

كما تبين أن عضوا آخر بالمجلس كان في الوقت ذاته رئيسًا لأحد المجالس القروية بالمحافظة كان يستولى لنفسه على أدوات ومفروشات المجلس أو يشتريها، دون أن يدفع ثمنا لها، كما كان يستغل نفوذه للتجاوز عن مطالبة أفراد أسرته بدفع رسوم إقامة المباني وكان يبيع نتاج مزرعة تابعة للمجلس من بيض وطيور وأسماك دون أن يورد أثمانها ويبيع إنتاج مصنع سجاد ونحل وعسل لأصفيائه، وأقاربه دون توريد الثمن أو توريد أثمان رمزية وهكذا وهكذا.

وقد ثبت من تحقيقات الجناية رقم 17078/1966 الوايلي (32 كلي شرق القاهرة) أن عصابة تضم ثمانية عشر شخصًا، هم خليط من تجار السوق السوداء ومهندسي وموظف الشركة العامة للتجارة والكيماويات، وشركة مصر للاستيراد والتصدير هذه العصبة قد تواطأ أفرادها على اختلاس أموال هذه الشركات، وهي من شركات القطاع العام، بما قدر بعشرات الآلاف من الجنيهات،

فضلاً عن أنهم كانوا يخصون تجار السوق السوداء من المتهمين، بالبضائع النادرة مثل السيور حرف (7) والرولمان بلي والسيور والكاوتشوك والمواسير الصلب وماكينات الخراطة والفبر العازل والأدوات الكهربائية، وغير ذلك، فكانوا يحصلون بوسائل التزوير المختلفة، دون غيرهم، على مقادير ضخمة من هذه البضائع، ويستأثرون بها،

ثم يتحكمون في سعرها ويبيعونها في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، عادت عليهم بأرباح خيالية، وبلغ من فجور أفراد هذه العصابة، أنهم كانوا يأبون ببيع هذه البضائع حتى لشركات القطاع العام، التي كانت في أشد الحاجة إليها، فكانت هذه الشركات تلجأ مضطرة إلى شرائها بنحو ثلاثة أضعاف ثمنها من التجار المحظوظين الذين استأثروا بها، وقد عرفت هذه القضية بحق بقضية السوق السوداء.

وكان المتهم الأول في هذه الجناية يشغل منصب مراقب عام شئون التوريدات الهندسية لشركة المحاريث والهندسة، وكان الاتهام ممسكًا خناقه هو وغيره حتى إنني لم أجد مفرًا –حرصًا على مصلحة التحقيق ومنعًا للتأثير عليه –من الأمر بحبسه احتياطيًّا هو وتسعة متهمين من كبار الموظفين،

واثنين من كبار تجار السوق السوداء. وقد أثار هذا الأمر في وجهي عاصفة شديدة كان سبب هبوبها أن ذلك المهندس كان شقيقًا لقائد القوات المصرية في اليمن ولم يجد هذا الشقيق حرجًا في أن يلح –في مقابلة له معي بمكتبي- في طلب الإفراج عن أخيه، ولا من أن يسوق لي فيما ساقه من حجج،

تبرر في نظره الإفراج، أن القبض على أخيه يسيء إلى سمعته كقائد للقوات المصرية في اليمن، فأي معنى يريد أن يفرضه، وأي استغلال لمركزه يريد أن يمارسه على حساب العدالة، وكان السيد القائد لا يفهم أن ما يسيء إلى اسمه وسمعته هو هذا الاستغلال وهذا التدخل وقد حاولت في أدب وهدوء أن أنبه السيد القائد إلى أن مركزه يوجب عليه

– على عكس ما يتصور – النأي بنفسه عن هذه الفضيحة وعدم الزج بنفسه فيها، لكنه خرج غاضبًا شاكيًا للمشير عبدالحكيم عامر وقد وجد عند المشير لشدة دهشتي آذانًا صاغية، حتى إن هذا بدأ يطلق علي الوسطاء يلحون باسمه في طلب الإفراج، فمنهم من كان يتصل بي تليفونيًّا مثل مدير مكتبه الذي صار فيما بعد وزيرًا للحربية، ومنهم من كان يحضر إلى مكتبي، مثل قائد المباحث الجنائية العسكرية، مما سبب لي حرجًا شديدًا،

وقد أحس رئيس النيابة المحقق بهذا الضغط العجيب ولم يجد مندوحة من أن يحدثني في شأنه منزعجًا، فكنت أطمئنه بأن الشأن شأني، وأن المسئولية مسئوليتي، وأنه لا يتلقى توجيهات إلا مني، وليت الأمر وقف عن هذا الحد بل بلغ الأمر بهؤلاء أن أرسلوا واحدًا من ضباط الشرطة العسكرية هو المقدم رياض إبراهيم إلى رئيس النيابة المحقق في منزله مهددًا.

وإلى هذا الحد نفذ صبري وحدثت مدير مكتب المشير فتظاهر بأنه لا يدري عن الأمر شيئًا، وبعث إلي بضابط الشرطة العسكرية الذي اعتذر بأن حديثه مع رئيس النيابة في منزله كان يحمل معنى الرجاء لا التهديد فحذرته من معاودة الاتصال به أو محاولة التأثير على التحقيق بأية صورة،

وسيأتي اسم هذا المقدم فيما بعد من بين أسماء رجال الشرطة العسكرية الذين أسهموا في وقائع التعذيب.

هذه صورة من صور الإرهاب التي كانت تحيط بجو التحقيقات، وهذا هو فهم الشخصية الثانية في الدولة إذا ذاك لمعنى العدالة، وهذا هو قدر احترامه لها، ولقد كان ربك بالمرصاد فانتهت حياة المشير نهاية أليمة بانتحاره وزج بأعوانه الثلاثة الذين تدخلوا في التحقيق في المعتقلات.

وقد يقال إن أمثال هذه الانحرافات تقع في كل البلاد وفي كل الأزمنة، لكنني لا أظن أنها وصلت في وقت من الأوقات في بلادنا أو في غيرها من البلاد المتحضرة،

إلى مثل هذه الدرجة من الشمول، وهوشمول يكاد يجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناء فقد أصبح الفساد هو القاعدة والأمانة هي الاستثناء.

ولا يمكن أن تكون بلادنا قد وصلت إلى هذه النتيجة إلا إذا كان الفساد قد أصبح مستساغًا مرخصًا به ضمنًا ممن يجلسون على قمة أجهزة الحكم،

مرخصًا به بالقدوة السيئة وبالتغاضي عنه إلى درجة تحمل معنى الإقرار به وإباحته. لقد عاصرت طوال مدة عملي في القضاء وفي عهد ما قبل الثورة بل وفي السنين الأولى للثورة قضايا اختلاس وانحراف،

وتوليت التحقيق في بعضها، والمحاكمة في البعض الآخر لكنني أذكر أنها كانت قضايا نادرة، كان الاتهام في أكثرها مقصورًا على الطبقة الدنيا من الموظفين، وكان اتهام من يعلو على هذه الطبقة يثير –على ندرته- الضجة والدهشة والاستنكار لدى الرأي العام.

انحرافات في وزارة الاقتصاد

ومن أعجب العجب أن الحكم الفساد والذي يثبت انحرافه في وقائع تسجلها تحقيقات رسمية، وتدون في مذكرات تبلغ إلى الجهات المسئولية، هذا الحاكم يظل شاغلاً لمنصبه الذي يمارس من عليائه انحرافه، كما هو الحال بالنسبة لوزير التموين،

على ما سبق بيانه أو يعود إلى ذات منصبه، أن كان قد رؤي أبعاده في وقت من الأوقات، ولعل أوضح مثل على ذلك مثل وزير كان يشغل منصبًا من أخطر المناصب الوزارية، وهو منصب وزير الاقتصاد، فقد ترك منصبه هذا، ثم لم يلبث أن عاد إليه، على الرغم مما ثبت من سوء تصرفه، بل وانحرافه في عديد من الوقائع.

ومن هذه الوقائع ما سجله تحقيق القضية رقم 6/1964 حصر تحقيق نيابة الأسكندرية الكلية وتحصل قصتها فيما يلي:

في خلال عام 1959 كانت توجد بالأسكندرية شركة من شركات تصدير الأقطان تدعى "شركة التصدير الشرقية المساهمة"، وقد أصدر وزير الاقتصاد المشار إليه قرارين في 21 مايو و30 يوليو سنة 1959 يقضي أولهما بإخضاع الشركة لأحكام الأمر رقم 4 لسنة 1956 باعتبار أن أكثر أسهمها مملوك لأفراد أسرة عاداة اليهودية ويقضي الثاني بتخويل مدير عام إدارة أموال المعتقلين سلطة بيع الشركة،

وقد بيعت الشركة بالفعل في أول أغسطس سنة 1959 إلى "شركة النصر للتصدير والاستيراد والمقاولات غانم وشركاه"، وثبت من التحقيق أنه كان يشترك في الإدارة الفعلية للشركة شقيق السيد الوزير إلى أن عين مديرًا لها في أول سبتمبر سنة 1960، وفي 10 من يوليو سنة 1961 صدر قارر بتعديل اسمها إلى "الشركة الشرقية لتصدير الأقطان" وجعل رأسمالها نصف مليون من الجنيهات،

توزع على 125 ألف سهم، بواقع أربعة جنيهات لكل سهم، وساهمت مؤسسة مصر بربع رأس المال المذكور، وفي 10 من نوفمبر سنة 1961 زيد رأس مال الشركة إلى مليون جنيه موزعة على 250 ألف سهم، اكتتبت فيه مؤسسة مصر بالكامل، وعين شقيق الوزير نائبًا للمدير، ثم عين في 19 من فبراير سنة 1962 عضوًا منتدبًا.

ولا يخفى أن وزير الاقتصاد كان وراء كل هذه التطورات، ليضع في النهاية يده هو وشقيقه على الشركة، وليصل رأسمالها إلى مليون من الجنيهات، هذا إلى أنه تبين من التحقيق أنه على الرغم من أن مال الشركة هو في حقيقته مال عام، فإنها ظلت بمنأى عن رقابة ديوان المحاسبة وغيره من أجهزة الدولة التي تخضع لرقابتها مثيلاتها من الشركات،

ولم يقف الأمر عند حد تسليم الشركة برأسمالها الضخم إلى شقيق الوزير دون رقابة، فقد أثبت التحقيق كذلك أن شقيق الوزير، بالاتفاق معه قد وضعا نظامًا تعسفيًّا لا سند له من القانون، وهو ما يسمى بنظام المبالغ المرتدة (الرستورن) وبمقتضى هذا النظام،

كانت الشركة الشرقية لتصدير الأقطان تحصل نقدًا ومقدمًا 25% من المبالغ الملزمة يدفعها للعمال في أجور القبانة وغيرها من مصروفات الأقطان ومن السمسرة النولون، وقد وصلت حصيلة هذه المبالغ عند التحقيق إلى مبلغ 50000 جنيها دون أن تدرج في حسابات الشركة أو أوراقها ودون أن تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة، وكان يتولى الصرف منها في فترة من الفترات شقيق الوزير وقد صرف جانبًا من هذه المبالغ على شراء الخمور والهدايا وإقامة المآدب والحفلات،

بل صرف منها بموافقة الوزير وبإقراره في التحقيق مبلغ 595 جنيهًا كتبرع لهيئة خاصة لا صلة لها بالشركة أو بعملها، وكان كل ما يربط الشركة المتبرعة بالهيئة المتبرع لها أن المتصرف في شئون الشركة هو شقيق الوزير،

وأن الهيئة هي رابطة أبناء المالية التي يرأسها الوزير نفسه. وكان من الطبيعي مع قيام هذه الفوضى، أن تختفي بعض مبالغ الرستورن دون أن يعرف مصيرها. فلما عين مدير بنك مصر فرع الأسكندرية مفوضًا للشركة في 20 من نوفمبر سنة 1961،

ألقى في نفسه الشجاعة لإلغاء نظام الرستورن، وأودع مبالغه المحصلة حسابات الشركة، وقدم إلى مؤسسة القطن في 18 من إبريل سنة 1962 تقريرًا بانحرافات شقيق الوزير، وكانت نتيجة هذا التقرير أن أعفى مقدمه من عمله بالشركة في إبريل سنة 1962 وعين مكانه شقيق الوزير، فسارع إلى إعادة نظام الرستورن.

وقد ثبت من التحقيق كذلك أن الشركة حققت منذ إنشائها في أول أغسطس سنة 1958 حتى إعداد ميزانيتها في 31 من مايو سنة 1961 أرباحًا قدرها 1890112 جنيهصا إلا أن شقيق الوزير قدم ميزانية الشركة إلى مؤسسة القطن بعد ضمها إليها على أن أرباحها بلغت 240000جنيه فقط،

وأدرج باقي الأرباح في جانب الخصوم، وقد اعترض المراقبون الحسابيون على هذا الوضع، في تقرير رفعه إلى مؤسسة القطن، ولما واجهت المؤسسة الشركة بذلك لم تعن حتى بمجرد الرد، وترتب على ذلك أن ميزانية الشركة لم تصدر حتى وقت إجراء التحقيق.

وكانت الشركة تقوم لحساب لجنة القطن بإجراء بعض العمليات في البورصة، وبناءً على أوامر شفوية من الوزير، وتفيد ما تحققه من ربح لحساب الشركة، وما تحققه من خسارة في جانب لجنة القطن.

ولما كانت الشركة الشرقية لتصدير الأقطان قد تبرعت بمبلغ 400 جنيه من حصيلة الرستورن إلى بعثة الحج للأراضي الحجازية في عام 1961 فقد أثير في التحقيق موضوع التبرعات التي تلقتها هذه البعثة التي كان يرأسها وزير الاقتصاد نفسه،

فتبين أنه حصلت بأمر الوزير – وبإقراره في التحقيق – بواسطة موظفي مكتبه، تبرعات خاصة من الشركات والأفراد بلغ مجموعها 13632 جنيها، لم يرسل عنها أي بيان إلى ديوان المحاسبة بحجة أنها أموال خاصة، وقد ضبط المحقق لدى أحد موظفي مكتب الوزير،

وكان في الوقت ذاته، أحد أعضاء اللجنة المالية للبعثة، ضبط لديه مبلغ 450 جنيها من أموالها، كما ضبط لديه أوراق تدل على أن التبرع بمبلغ 3747جنيها، كان في حقيقته يخفي عملية تهريب نقد، إذ إن من تبرعوا في مصر كانوا أعضاء في بعثة الحج واستردوا،

في الأقطار الحجازية ما تبرعوا به بل وأكثر منه في بعض الحالات وعلى رأس هؤلاء وزير الاقتصاد ورئيس البعثة الذي استرد مبلغ 500 جنيه كان قد أثبت أنه دفعه في مصر للبعثة لتصرفه في الأعمال الخيرية في الحجاز.

وقد حررت بالوقائع المتقدمة، مذكرة مؤرخة في 27 من مايو 1964 وأرسلت صورة منها في 14 من يونيو إلى الوزير الذي كان قد حل وقتذاك في وزارة الاقتصاد محل الوزير المقر بهذه الوقائع.

وهناك قصة أخرى كان بطلها وزير الاقتصاد نفسه، وتدل على مدى استغلال نفوذه ومنصبه كوزير للاقتصاد، وهذه القصة خاصة بواقعة بيع أصول شركة "روبير وأدمون خوري وشركاهم" إلى "شركة خوري للحليج وتصدير الأقطان".

ذلك أن روبين وأدمون خوري كانا قد أسسا شركتين الأولى تسمى "شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم" وهي شركة توصية بسيطة رأسمالها مليون جنيه يملك منه الشريكان المتضامنان روبير وأدمون خوري مبلغ 600000جنيه ويملك الباقي وقدرها 400000جنيه الشركاء الموصون وهم ستة من أسرة الشريكين المتضامنين، وكان نشاط هذه الشركة تجارة واستغلال عدة محالج في طنطا وكفر الشيخ ودمنهور،

والقيام بالعمليات مشاركة مع الغير، أما الشركة الثانية فكانت تسمى "شركة الحليج والمستودعات المصرية" وهي شركة مساهمة رأسمالها 40000جنيه موزعة على 10000سهم بواقع 4جنيهات للسهم الواحد،

وبلغ عدد المساهمين فيها عشرة أشخاص منهم روبير وأدمون خوري والباقون – عدا اثنين- من أقارب المذكورين. وقد بان من التحقيق أن هذه الشركة الثانية لم تكن في واقع الأمر إلا شركة احتياطية للشركة الأولى، وكان الهدف من إنشائها أن تبدو في شكل شركة مستقلة عن الأولى، حتى تستطيع أن تحصل عليه الشركة الأولى

–وقد صدر القانون رقم 71/1961 بشأن تنظيم منشآت تصدير القطن ونفذ اعتبارا من 22 يونيو 1961 ونص في مادته الأولى على أن كل منشأة تزاول تجارة تصدير الأقطان عليها أن تتخذ شكل شركة مساهمة عربية لا يقل رأسمالها عن 200000جنيه، وأن تساهم فيها إحدى الهيئات أو المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، بحصة لا تقل عن 35% من رأس المال،

ونصت المادة الثانية على أن تقوم منشآت تصدير الأقطان بتوفيق أوضاعها على أحكام هذه القانون في مهلة أقصاها سنة من تاريخ العمل به.

على أنه إلى أن توفق المنشآت أوضاعها يعين وزير الاقتصاد ممثلاً للحكومة لدى كل منشأة أو أكثر، ويكون لهذا الممثل حق الاطلاع والاعتراض على أي إجراء تتخذه المنشأة لا يتفق مع الصالح العام، ثم عدل القانون سابق الذكر في 30 من يونيو 1961 بالقانون رقم 120/1961 بأن زاد إلى 50% الحصة التي تساهم بها الهيئات أو المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي، بأن جعل مهلة توفيق الأوضاع ستة أشهر ابتداء من 22 يونيو 1961.

وبناءً على هذا القانون عين وزير الاقتصاد المعني في 22 من أغسطس 1961 وكيل مصلحة القطن مندوبًا مفوضًا على الشركتين السابقتين وبعد أن تسلم عمله في اليوم التالي 23 منه عقد اجتماعًا غير عادي للجمعية العمومية لشركة الحليج والمستودعات المصرية في 28 منه،

ووافقت الجمعية على زيادة رأس مال الشركة إلى 300000جنيه وزيادة عدد الأسهم من 10000 إلى 40000سهم وبواقع جنيه للسهم الواحد، مع إصدار 260000سهم جديد بقيمة الزيادة تخصص للمساهمين القدامى – كما وافقت الجمعية على تعديل اسم الشركة إلى "شركة خوري للحليج وتصدير الأقطان" وعلى تعيين روبير خوري، روفائيل دبوس عضوين بمجلس الإدارة،

ووافقت الجمعية أيضًا –وهذا هو بيت القصيد- على الترخيص لشركة خوري للحليج وتصدير الأقطان بأن تشتري من شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم امحلج وعمارة الأسكندرية وحقوق شركة خوري اللازمة للتصدير وتجارة الأقطان في الداخل.

وفي ذات تاريخ انعقاد الجمعية وهو 28 من أغسطس أصدر المندوب المفوض قرارًا بتشكيل لجنة لتقدير الأصول التي تقرر شراؤها من شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم وشكلت اللجنة سريعُا وقدمت تقريرها بعد يومين أي في يوم 30 من أغسطس، وفي اليوم التالي 31 منه ثم تحرير عقد البيع بالثمن الذي قدرته اللجنة والبالغ قدره 313369.208جنيه.

وفي 21 من سبتمبر 1961 أصدرت شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم الشيكات من رقم 71311 إلى 71315 بمبالغ مجموعها 265200 جنيها مسحوبة على بنك الاتحاد الاتجاري بالأسكندرية (الذي اندمج بعد ذلك في بنك القاهرة) باعتبار أن شركة الحليج والمستودعات المصرية تمثل نصيب كل شريك في زيادة رأسماله في الشركة الجديدة،

وفي يوم 21 من سبتمبر ذاته أصدرت شركة الحليج والمستودعات المصرية والتي جعل اسمها "شركة خوري للحليج وتصدير الأقطان" الشيك رقم 75671 بمبلغ 273369.208 لأمر شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم سدادًا لقيمة الأصول المشتراه.

وقد بان من التحقيق والتقارير الفنية أن الزيادة في رأس مال شركة خوري للحليج وتصدير الأقطان لم تدفع من الشركاء الجدد في الشركة، بل حملت بها حساباتهم الجارية لدى شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم،

بمعنى أن الزيادة في رأس مال الشركة الجديدة كانت في الواقع زيادة وهمية أقرها المندوب المفوض للشركة الجديدة وعتبر هذه الزيادة الوهمية وهي 265200 جنيه مدفوعة في الواقع من بنك الاتحاد التجاري بالأسكندرية من حساب شركة روبين وأدمون خوري وشركاهم لدى البنك المذكور.

كما بان أيضًا أن شركة الحليج والمستودعات المصرية التي استعين بها في إنشاء الشركة الجديدة كان رأس مالها مستنفذًا في خسائر من قبل،

وعملت شركة روبير أدمون خوري في مايو 1961 على قيد مبلغ 38000جنيه لحسابها حتى تكمل رأس مالها إلى 40000جنيه وكان الغرض من ذلك كله إعدادها للتبعات المنتظرة لها في 22 من يونيو 1961 تاريخ تنفيذ القانون رقم 71/1961.

وبان كذلك أن صرف الشيكات الخاصة بالزيادة الوهمية في رأس مال الشركة الجديدة وصرف الشيك الخاص بثمن الأصول المشتراه قد تم بطريق المقاصة الدفترية بأن تم صرف مبلغ 265200 جنيه من حساب روبير وأدمون خوري وشركاهم قيمة الشيكات من رقم 71311 إلى 71315 وقيدت القيمة في الجانب الدائن لحساب شركة الحليج والمستودعات المصرية سدادًا لقيمة الزيادة في رأس مال الشركة الجديدة.

وبذلك تم إعداد حساب شركة الحليج والمستودعات المصرية لدى بنك الاتحاد التجاري ليسمح بصرف قيمة الشيك رقم 75671 بمبلغ 273369.208 سداد لقيمة الأصول المشتراه وذلك بدون أي تأثير على الحساب إلا في حدود فرق مبلغ 8000 جنيه يمكن التجاوز عنه عند إعداد كشف الحساب لفترة بسيطة.

وفي التاريخ نفسه قيد لحساب شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم مبلغ 273369.208 قيمة الشيك رقم 75671 المنصرف من حساب شركة الحليج والمستودعات المصرية، حتى يغطي قيمة المنصرف من هذا الحساب في اليوم نفسه وقدره 265200جنيه.

ونتيجة لذلك فإن الحساب بدفاتر الشركتين يبدو وكأن الزيادة في رأس المال قد سددت نقدًا بشيكات عن طريق البنك، وكأن شركة الحليج والمستودعات المصرية قد دفعت لشركة روبير وأدمون خوري وشركاهم قيمة الأصول المشتراه نقدًا بشيك على البنك، في حين أن الحقيقة تغاير ذلك كل المغايرة،

وهذه الحقيقة هي أن بنك الاتحاد التجاري دفع قيمة هذه الزيادة من أمواله، بدليل تخلف 244000جنيه رصيد مدين حاليًا بدون ضمان باسم شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم.

وقد تبين من التحقيق أن هذا التلاعب تم تحت إشراف ومباشرة المندوب المفوض وبموافقة وزير الاقتصاد، وإن كانت هناك منذ مارس 1961 خطة معدة لمواجهة القوانين سابقة الذكر، ذلك أن الشركة المذكورة كانت قد تنازلت عن بعض أصولها الممثلة في الأوراق المالية الخاصة بمصنع كتان الشرق،

والبالغة قيمتها 228000 جنيه إلى بعض الشركاء في الشركة بصفة شخصية، وتم بيع هذه الأسهم وظهر مكانها في الأصول مديونية بقيمتها، كما تبين أن رأس مال هذه الشركة قبل 22/1961 والذي كان في الظاهر مليون جنيه كان عبارة عن مسحوبات للشركاء بمبلغ 596006.893 وأرصدة عملاء مدينين قدرها 418000.066 أما باقي الأصول الثابتة والمتداولة فيقابلها في جانب الخصوم دائنون ممثلثون في البنوك.

ومجموعات الحساب المشترك (أ. ر . ك) (أ.ر) بالإضافة إلى ضرائب مستحقة بحوالي 313000جنيه، الأمر الذي يبين منه أن رأس مال الشركة كان مستنفذًا بالكامل قبل 22/6/1961 وأنه لم يكن يحق للشركة التصرف في أي أصل من أصولها.

وقد يقال إن هذه الإجراءات الملتوية تمت بمنأى عن وزير الاقتصاد، أو في غفلة منه لكن الوقائع الثابتة تؤكد أن الوزير كان على علم بها،

وأنه تواطأ مع آل خوري في التمهيد لها، فقد عرض على الوزير قرار الجمعية العمومية غير العادية سابق الذكر والصادر في 28/8/1961 كما عرض عليه عقد البيع الصادر في 31/8/1961 ووافق الوزير عليهما كتابة في 10/10/1961.

هذا في الوقت الذي كشف فيه التحقيق عن أن وزير الاقتصاد، وهو الذي أعد القانون رقم 71/1961 لينفذ اعتبارًا من 22/6/1961 كان قد تعاقد في الشهر السابق وبالتحديد في 6/5/1961 وبوصفه رئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة مصر،

مع شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم على أن يتم شراء نفس الأصول على أن يتم ذلك بواسطة وكيل مصلحة القطن والذي عينه الوزير بعد ذلك في 22/8/1961 مندوبًا مفوضًا على الشركتين البائعة والمشترية، كما سبق البيان وعلى أن يحدد الثمن بمعرفة لجنة تعين لهذا الغرض.

ولم يكن قرار الجمعية العمومية في 28/8 وعقد البيع في 31 منه إلا تنفيذًا لتعاقد الوزير في 6/5/1961.

وعند صدور القانون رقم 71/1961 والعمل به في 22/6/1961 اجتمع مجلس إدارة شركة الحليج والمستودعات المصرية ونوقش موضوع استيعاب الشركة لنشاط شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم في عملية تجارة الأقطان وتصديرها، وتقرر أن تقوم هذه الشركة، بفتح جميع الاعتمادات باسمها في البنو، وبالتعاقد على توريد وتمويل المحصول الجديد،

ثم تحويله لصالح الشركة الحليج ثم تحويل موظفي وعمال شركة روبير وأدمون خوري وشكاهم إلى شركة الحليج بكافة حقوقهم، واجتمع مجلس إدارة شركة الحليج في 31/7/1971 وأخطر بقيام شركة روبير وأدمون خوري وبفتح اعتماد بمبلغ 300000جنيه في بنك مصر وقيامها بتمويل محصول القطن الجديد

– ووافق المجلس على دعوة الجمعية العمومية غير العادية في 28/8/1961 للنظر في زيادة رأس مال الشركة إلى 300000جنيه وتعديل اسمها إلى "شركة خوري للحليج وتصدير الأقطان" وتعيين روبير خوري وروفائيل دبوس عضوين بمجلس الإدارة والتراخيص بشراء الأصول السابق الإشارة إليها من شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم.

واجتمعت الجمعية العمومية بالفعل في التاريخ المحدد ووافقت على هذه المقترحات بالتفصيل سابق البيان.

وقد شهد في التحقيق رئيس مجلس إدارة مؤسسة القطن والحارس العام على أموال روبير خوري في ذلك الحين بأن الوزير المعنى كان يشغل منصب وزير الاقتصاد وقت أن وقع عقد بيع 6/5/1961 وكان يجمع بين منصب الوزير ومنصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة مصر في الفترة بين أكتوبر 1958 وأكتوبر 1961 وأن القانون رقم 71/1961 وتعديله بالقانون رقم 120/1961 قد صدرا من مكتب الوزير المعنى وأن شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم وشركة الحليج والمستودعات المصرية،

كانتا من شركات القطاع الخاص ولم تكونا تدخلان ضمن نشاط مؤسسة مصر التي كان يرأسها وزير الاقتصاد، وقت أن وقع عقد البيع في 6/5/1961، الذي كان في الواقع تمهيدًا لقرارات الجمعية العمومية في 28/8 وعقد بيع 31 منه،

وأن الوزير هو الذي عين وكيل مصلحة القطن مندوبًا مفوضًا على شركتي خوري، وأن قرارات الجمعية العمومية المنعقدة في 28/8/1961 لا تعتبر نافذة إلا بعد اعتماد وتصديق الوزير، وانتهى الشاهد إلى تحميل وزير الاقتصاد المعنى مسئولية ما تم من إجراءات ملتوية على التفصيل السابق.

وشهد وكيل مصلحة القطن بتسلسل الوقائع على النحو السابق، وأن وزير الاقتصاد هو الذي عينه مندوبًا على الشركتين، وأنه عقد الجمعية العمومية غير العادية واستصدر قراراتها وحرر عقد البيع في 31/8 تنفيذًا للعقد الذي أبرمه الوزير في 6/5، وقرر أنه كان فريسة لآل خوري وأنه لم يلجأ إلى ما لجأ إليه من إجراءات إلا إذعانًا لرغباتهم وإلا لأنه كان يعلم بصلتهم بالوزير الذي كان يقربهم إليه ويدعوهم لحضور الاجتماعات الخاصة بدراسة السياسة القطنية.

وشهد مدير مشتروات خوري للحليج والمستودعات المصرية وعضو مجلس إدارتها أن الوزير لم يعمل على إصدار القانون رقم 120/1961 تعديلاً للقانون رقم 71/1961 وبزيادة نسبة إسهام المؤسسات العامة في الشركات التي تزاول تصدير الأقطان إلى 50% بدلاً من 35% إلا استجابة لطلب روبير خوري من سحب أكبر قدر من النقود من بنك الاتحاد التجاري في عملية البيع على التفصيل السابق.

وقد حررت مذكرة مفصلة بالوقائع السابقة، انتهت منها إلى مسئولية وزير الاقتصاد وثمانية من موظفي الحكومة وبنك الاتحاد التجاري، وطلبت من النيابة الإدارية إحالة هؤلاء الموظفين إلى المحاكمة التأديبية.

أما بالنسبة إلى وزير الاقتصاد السابق فقد حالت الحصانة الوزارية مرة أخرى دون الوصول إليه، ولم يكن في مكنتي ازاء هذا الوضع إلا أن أسجل مسئوليته محددة في تقرير بعثت به إلى وزير الاقتصاد الذي خلفه في منصبه ليعرض الأمر على رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية،

وأطبق السكون على ذلك كله، فلا النيابة الإدارية تحركت لمحاكمة المسئولين، ولا الجهات العليا تحركت لمساءلة الوزير بل إن الأمر بدا بعد ذلك وكأن الوزير السابق قد نال بهذا التقرير وسام شرف أهله لأن يعود بعد ذلك وزيرًا ولوزارة الاقتصاد بالذات.

وقد سجلت في التقرير مسئولية الوزير على النحو الآتي وبهذا النص:

1-إنه إبان كان وزيرًا للاقتصاد عام 1961 ورئيسًا لمجلس إدارة مؤسسة مصر قد مهد بالعقد المؤرخ في 6/5/1961 لصفقة شراء أصول شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم والتي قام بها بعد ذلك المندوب المفوض للشركتين في 31/8/1961 وأن واقع الأمر أن المتعاقد الحقيقي هو الوزير وأن أرجئ تنفيذ تعاقده في 6/5/1961 إلى 31/8/1961.

2-إن عقد 6/5/1961 أبرمه الوزير في الوقت الذي كان هو نفسه يعد القانون رقم 71/1961 للإصدار، وكانت شئون القطن تتبع وزارة الاقتصاد، وأن الوزير أبرم هذا العقد تمهيدًا لعملية توفيق أوضاع شركة الحليج والمستودعات المصرية إعمالاً للقانون المزمع إصداره ثم تنفيذه اعتبارًا من 22/6/1961.

3-إن محرر بنود عقدي 6/5 / 8/31 /1961 هو شخص واحد.

4-إن الوزير وافق على قرارات الجمعية العمومية غير العادية الصادرة في 28/8/61 بزيادة رأس مال شركة الحليج والمستودعات المصرية إلى 300000جنيه، وتعديل اسمها وشرائها لأصول شركة روبير وأدمون خوري وشركاهم.

5-اعترف المندوب المفوض بمسئوليته عن وقائع الانحراف السابقة، متعللاً بأنه إنما فعل ما فعل لما كان يلاحظه من رعاية الوزير لروبير خوري ووضعه موضع ثقته، ولما تبينه من أن الوزير أبرم بنفسه عقد 6/5/1961 ولم يكن العقد الذي أبرمه هو في 31/8/1961 إلا تنفيذًا للعقد الذي أبرمه الوزير.

وهاكم واقعة أخرى سجلتها التحقيقات رقم 13/1965 حصر أموال عامة، وهي تحصل في أن لجنة القطن المصرية تحملت مسئولية دخول الحكومة الأمريكية في موسم 60-1961،

وذلك حتى لا يترك لأي مصدر شحن أقطان إلى إحدى بلاد أمريكا بكيمات تؤدي في النهاية إلى أن تتحمل الحكومة مخاطر الحصة الأمريكية على نطاق أوسع من المقدر، فقد كانت الأقطان الداخلة في هذه الحصة تشحن على مسئولية البائع ولا يمنح المصدر فيها نسبة خصم إلا بمقدار 6% بينما كانت الحصص الأخرى التي تشحن على مسئولية المشتري يمنح المصدر فيها نسبة خصم 12%.

وقد حدث أن تعاقدت شركة لطفي منصور وأولاده على بيع كمية كبيرة من الأقطان داخل الحصة الأمريكية واستبعدت لجنة القطن منها 7000 بالة، لكن محمود لطفي منصور صاحب الشركة لجإ إلى طرق ملتوية دار بواسطتها حول قرار اللجنة، ليصل في النهاية إلى غرضه،

فقد تعاقد في 12/6/1961 مع شركة وندل الإنجليزية على تصدير هذه الكمية المستبعدة من الحصة الأمريكية في الظاهر إلى إنجلترا، على أن تتولى هذه الشركة تحويل الصفقة بعد ذلك إلى أمريكا،

وكان الأمر العجيب حقًّا أن يقر وزير الاقتصاد هذا التلاعب عندما عرض عليه الأمر بمذكرة مؤرخة في 26/6/1961 – وعلى الرغم من أن الثابت أن الهدف كان تصدير الصفقة إلى أمريكا، وأن الشحن كان سيتم على مسئولية البائع طبقًا لقواعد الحصة الأمريكية،

فإن الوزير وافق على منح الشركة المصدرة نسبة خصم 12% بدلاً من 6% التي تمنح للمصدر في الحصة الأمريكية.

وبذا يكون الوزير قد أتاح للشركة ارتكاب عدة مخالفات، تحصل في تجاوز القدر المخصص للحصة الأمريكية ومخالفة قرار لجنة القطن في هذا الشأن مع تحمل مخاطر الشحن على مسئولية البائع ومنح المصدر نسبة خصم 12% بدلاً من 6%.

وقد سجلت النيابة العامة في مذكرة مفصلة، هذه الوقائع كما سجلت أن المسئول عنها هو وزير الاقتصاد ذاته المشار إليه في الوقائع السابقة، واستندت في ذلك إلى شهادة وكيل وزارة الاقتصاد لشئون القطن وشهادة مدير لجنة القطن وغيرهما من الشهود،

كما استندت إلى المذكرة سابقة الذكر والمؤرخة في 26/6/1961 والتي أقرها الوزير بما تضمنته من الوقائع السابقة، وإلى كتاب شركة وندل المؤرخ في 4/9/62 كما سجلت مذكرة النيابة أن الوزير، بتصرفه هذا،

قد مكن شركة لطفي منصور من الحصول على مبلغ 28820.937 من أموال الدولة دون وجه حق هو محصل الفرق بين نسبة الخصم التي وافق عليها الوزير وهي 12% ونسبة الخصم المقررة في حالة الشحن على مسئولية البائع وهي 6% الأمر الذي يكون جناية منطبقة على المادة 113 من قانون العقوبات،

فضلاً عن تحمل الخزانة بدلاً من المشتري لمبلغ 60000 دولار قيمة مصروفات تخزين وتبختر وإعادة وزن وتأمين وعجز.

ومرة أخرى حالت الحصانة الوزارية دون مساءلة الوزير، ويبدو أن صلة محمود لطفي منصور بالوزير قد أتاحت له أن يجول ويصول في سوق القطن الداخلية بغير رقيب أو محاسب، فقد سجلت التحقيقات رقم 3/1965 حصر أموال عامة أن وزير الاقتصاد قد عينه عضوًا منتدبًا لشركة خوري للحليج،

وتصدير الأقطان المشار إليها في الوقائع السابقة بعد أن أممت شركات تصدير الأقطان تأميمًا كاملاً بالقانون رقم 38/1963 ثم عينه الوزير رئيسًا بالنيابة لمجلس إدارة الشركة بعد سفر رئيسها روبير خوري واستقالته،

ولم يلتزم المذكور في سوق القطن الداخلية لموسم 63-1964 بالأسعار التي حددتها لجنة القطن بل تجاوزها بجرأة، ومجاملة لكثيرين من العملاء وتعددت صور المجاملة الأخرى للعملاء على حساب أموال الشعب، فكان منها عدم محاسبة العميل على مصاريف حليج معدل تضافي الأقطان بالكامل، أو عدم محاسبته عليها أصلاً ومنها عدم محاسبة العميل على فوائد مسحوباته النقدية،

ومنها المبالغة في تقدير الرتب لمصلحة العميل أو محاسبته على رتبة تزيد على الرتبة التي وردها بالفعل وسجلت في بطاقة حسابه ومنها عدم محاسبة العميل على أجر مشال الأقطان حتى الوصول إلى المحلج، على الرغم من أن جميع العقود حررت على أساس فرانكو محلج، ومعناه تحمل العميل لهذه المصروفات ومنها محاسبة العميل على عمولات لم يتم الاتفاق عليها،

أو على عمولات خاصة بأقطان عملاء آخرين، ومنها إضافة 8/1 ماركة زيادة على ما جرى عليه العرف من إضافة 2/1 ماركة على رتب الأقطان الزهر عند استخراج السعر المحدد لها من جدول أسعار لجنة القطن المصرية، ومنها اعطاء العميل ثمن فروقات وزن دون وجود علم وزن مثبت لهذه الفروقات، إلى غير ذلك من المخالفات التي حققت للدولة خسارة قاربت المليون من الجنيهات،

وبالتحديد مبلغ 953625 جنيه، فهل كان من المتصور أن يفعل السيد محمود لطفي منصور ما فعله ألا وهو مطمئن إلى صلته بالوزير وأن تبلغ الخسارة هذا القدر من الجسامة في موسم واحد، وأن تكون بهذا الشمول دون أن يصل علمها إلى وزير الاقتصاد وأجهزته في الوزارة؟ اللهم إن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم.

أعمال النقل البحري ووزير المواصلات

ولننتقل الآن إلى وقائع أخرى سجلتها التحقيقات رقم 240/1964 حصر نيابة الشئون المالية، وهي تحصل في أن رئيس مجلس إدارة الشركة العربية المتحدة لأعمال النقل البحري (مارترانس)، وهو عديل وزير المواصلات إذ ذاك،

أجرى مناقصة لعمليات نقل البترول إلى جمهورية مصر العربية في النصف الأول من عام 1965 وكان من بين الشركات التي تقدمت إلى المناقصة في الميعاد شركتان أحدهما شركة "نس" والثانية شركة "جولاندريس" وكان عطاء الشركة الأولى يقل عن عطاء الشركة الثانية بمبلغ 80000جنيه،

ومع ذلك فقد أبرم عديل الوزير في 21 من أكتوبر 1964 الصفقة مع الشركة الثانية بغير مبرر معقول، وكان من المتوقع أن تمر هذه الصفقة دون حساب رغم أن رائحتها انتشرت وزكمت الأنوف.

لولا أن مجلس إدارة الشركة العربية قد حل بعد إبرام الصفقة بيومين أي في يوم 23 من أكتوبر، وتولت هيئة قناة السويس الإشراف عليها، وألحت الواقعة على المسئولين الجدد فلم يجدوا بدا من التبليغ بها. وكان من الطريف حقًّا أنه ما أن ووجه ممثل شركة جولاندريس بما يحوط الصفقة من شكوك وهدد بإلغائها بناء على وجود أخطاء شكلية تبرر هذا الإلغاء من الناحية القانونية،

ما أو ووجهه ممثل الشركة بذلك حتى قبل – بعد التشاور مع المسئولين في شركته- التنازل عن فارق الثمانين ألفا من الجنيهات في مقابل الاحتفاظ بالصفقة – وهو تنازل لا تخفى دلالته وينطق بأن هذا المبلغ كان يمثل على الأقل في جانب كبير منه – عمولة دفعت لمدير الشركة العربية.

بيد أن هذا المنطق وحده لم يكن يكفي لتوجيه الاتهام إلى هذا المدير على أساس قيام جريمة الرشوة فاكتفيت – على مضض- بأضعف الإيمان وقدمته إلى المحاكمة، باعتبار الواقعة جنحة منطبقة على المواد 111 و 116 مكررا ب، 119 من قانون العقوبات وبوصف أنه تسبب بخطئه الجسيم في إلحاق ضرر جسيم بالمال العام.

على أن الأمر الخطير حقًّا هو ما جاء في التحقيق على ألسنة المستشار القانوني لهيئة قناة السويس، ومدير شركة سنجراسيدس وخوري للنقل البحري، ورئيس شركة يونفرسال للملاحة البحرية وما قاله أولهم نقلاً عن مدير شركة نس وغيرهم من أن مجموعة تضم وزير المواصلات سابق الذكر وعديله ومدير مؤسسة النقل حينذاك وغيرهم اعتادوا أن يحضروا إلى لندن في كل عام،

وفي الوقت الذي تعرض فيه صفقات النقل البحري وتكون وشيكة الانتهاء وذلك بغرض الاتصال بالشركات التي تدخل في المناقصة، وأنه أثناء الإجراءات الخاصة بالصفقة الأخيرة كان الوزير وعديله مع زوجتيهما في لندن،

وأقامت لهم شركة جولاندريس مآدبة عشاء في فندق سافوي وأن المبالغة في عرض هذه الشركة كانت تمثل جانبًا من عمولة مفروض أن تدفع إلى هؤلاء السادة،

وأن هذه العمولة تجاوزت مبلغ 90000جنيه استرليني، وأن مندوبي الشركات كانوا يعلمون أن هذه الصفقة سوف تبرم حتمًا مع شركة جولاندريس، أيا كانت العروض الأخرى، وأنه كان من العبث منافستها فيها، وأن ممثلي بعض الشركات نصحوا بعدم التقدم إلى المناقصة لهذا السبب.

كما قرروا أنه في صفقة أخرى أبرمت مع شركة ستاندرز في نهاية 1963 دفعت الشركة لأفراد المجموعة عمولة مقدارها 60000 جنيه استرليني حولت إلى حساباتهم في أحد بنوك سويسرا، وغطيت في صورة أجور شحن إضافية، وأن الأقاويل في هذا الشأن كانت تتردد بإلحاح في بورصة لندن.

وعلى الرغم من صدور هذه الأقوال من أشخاص مسئولين لهم وزنهم فإنه كان من العسير اعتبارها أدلة قضائية، فضلاً عن الحصانة الوزارية التي يتمتع بها وزير المواصلات،

لكنني لم أجد بدا من تسجيل هذه الوقائع في تقرير رفعته في 27من فبراير 1965 إلى رئيس الجمهورية ولست أدري ماذا كان من أثر هذا التقرير وكل ما أعلمه أن الوزير ظل محتفظًا بمنصبه لفترة طويلة بعد ذلك التاريخ.

محافظ القاهرة الحاكم بأمره

وها هي أخرى سجلتها التحقيقات رقم 212/1967 حصر نيابة عابدين وتدل على مدى استهانة حكامنا في ذلك الوقت بأحاكم القانون وبكرامة المواطنين وحرياتهم، فقد شكل المهندس عبدالخالق الشناوي وزير الري لجنة برئاسة مدير ورش قناطر الدلتا وعضوية كل من مدير الميزانية والحسابات بمصلحة الميكانيكا والكهرباء، وكيل إدارة المخازن بالوزارة،

وأحد مهندسيها للإشراف على تسلم حفارات لوزارة الري، من مخزن شركة مصر للتأمين، ونقلها إلى تفتيش قناطر الدلتا، واقتضت عملية النقل باستعمال جرارات ضخمة ورافعة ذات حمولة كبيرة.

وحدث بعد ظهر يوم 6 من أغسطس 1967 وأثناء العمل في نقل الحفارات بميدان الجمهورية في مواجهة مبنى محافظة القاهرة أن حضر عدد من رجال الشرطة واقتادوا عنوة ثلاثة من قائدي الجرارات إلى داخل مبنى المحافظة،

ولما حاول مدير الميزانية أن يعترض رجال الشرطة مستوضحًا السبب، هددوه بالضرب إن هو اعترض طريقهم، وأفهموه أنهم إنما يفعلون ذلك بأمر المحافظ شخصيًّا، ثم دفعوا قائدي الجرارات إلى غرفة السكرتير المقابلة لمكتب المحافظ السيد محمد سعد الدين زايد،

وأمر السكرتير أحد رجال الشرطة بأن يضرب قائدي الجرارات وأن يكون عنيفًا في ضربهم، بحجة أنهم كانوا يطلقون جهاز التنبيه بصوت عالٍ أزعج السيد المحافظ، ولم يجد إنكارهم نفعًا. وأخذ رجال الشرطة يكيل لهم الضربات بقسوة، حتى سقط واحد منهم فاقد الوعي،

أصيب هو وزميلاه في مواضع مختلفة من أجسامهم، بإصابات سجلتها التقارير الطبية وعاد المصابون الثلاثة وهم في حالة إعياء تام إلى الميدان، وبعد قليل أقبل رائد شرطة ومعه أحد مهندسي المحافظة وقطع هذا المهندس خراطيم أجهزة التنبيه في السيارة.

وأبلغ قائدو الجرارات مدير الميزانية بما وقع لهم، فأبلغ بدوره وزير الري بالواقعة، ولما اتصل هذا الأخير بالمحافظ شاكيًا وعاتبًا ومبديا أن ما حصل لابد وأن يكون قد تم بغير عمله وطالبًا أن يعتذر رجال الشرطة للعمال تفاديًا للعواقب، وخاصة بعد تجمهر عمال الوزارة وهم في حالة ثورة عنيفة من جراء ما وقع من اعتداء مهين على زملائهم،

ولما أبدى الوزير ذلك للمحافظ كان رده العجيب: أنه على استعداد لأن يحضر إلى مبنى وزارة الري بنفسه،

وأن يقتاد العمال مرة أخرى إلى مبني المحافظة وزاد على ذلك أن الضرب هو وسيلته في حل المشاكل، وأنه يحتفظ في مكتبه "بفلقة" لهذا الغرض.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل بلغ من تحدي المحافظ أن أمر رجال الشرطة في اليوم التالي بضبط مدير الميزانية عند مروره بسيارته في موقع العمل،

فلما اعترضوا طريقه وهم يستقلون إحدى سيارات المحافظة، وحاولوا إيقاف سيارته وضبطه أدرك أنه سيحل به ما حل بقائدي الجرارات في اليوم السابق، فأخذ يسرع بسيارته في خطوط متعرجة ليتمكن من الهرب، وسيارة المحافظة تطارده، حتى تمكن أخيرًا من الوصول إلى مبنى وزارة الري والاحتماء به.

ولم يجد وزير الري بدا من إبلاغ النيابة بالواقعة كتابة، كما اتصل بي تليفونيًّا فأمرت وكيل نيابة عابدين بتحقيق الواقعة فورًا،

وسجلت التحقيقات صحة الوقائع السابقة بتفاصيلها، ولم يكن عجبًا أن يعترف المحافظ بها في التحقيق وأن يعترف بأنه هو الذي أمر بضرب قائدي الجرارات وبإبطال مفعول أجهزة التنبيه واحتج بأنهم أطلقوها على صورة أزعجته، بل كان العجب والباعث على الدهشة والأسى أن يبلغ بالمحافظ الاستهتار إلى حد أن يطلب من المحقق في إصرار أن يسجل في التحقيق ما سبق أن قرره لوزير الري متحديًا، من أن الضرب هو وسيلته في حل المشاكل، وأنه أعد لهذا الغرض "فلقة" يحتفظ بها في مكتبه.

فيا له من شعار عجيب يتخذه محافظ القاهرة عاصمة مصر قبلة الدول العربية والإسلامية والأفريقية وحاملة مشعل الحضارة والحرية، ويا لها من عقلية تافهة وشجاعة مرذولة لواحد من أبرز حكامنا في ذلك الوقت، ولقد بلغ من حيرتي أن ساءلت نفسي عما إذا كان السيد المحافظ ينفرد بهذه العقلية أو أنه يعطي في واقع الأمر صورة لعقلية بعض حكام هذا العهد

– إن الرد على هذا التساؤل يمكن استخلاصه من السكوت على تصرف المحافظ عندما أرفقت مذكرة نيابة عابدين التي تتضمن الوقائع السابقة، مع أدلتها، بما فيها أقوال المحافظ – بخطاب مني إلى وزير العدل في 15 من أغسطس 1967 هذا نصه:

السيد وزير العدل

نرسل إلى سيادتكم المذكرة المحررة بوقائع المحضر رقم 212/1967 حصر تحقيق نيابة عابدين، ويبين من هذه الوقائع أنه وإن كان الشرطي...

والسكرتير...

والمهندس...

والرائد...

مسئولين قانونًا عما وقع من جرائم استعمال القسوة والتحريض عليها والاتلاف على النحو الوارد تفصيلاً بالمذكرة إلا إننا نرى أن المسئول الأول عن ذلك كله هو السيد محافظ القاهرة،

وأنه هو الذي أصدر، بإقراره الأوامر التي أدت إلى ارتكاب هذه الجرائم، وقد بلغ الأمر بالسيد المحافظ أن أمر بضرب ثلاثة من المواطنين في غرفة سكرتيره المقابلة لمكتبه، وأنه لما عاتبه في ذلك السيد وزير الري تحداه بأن هذه وسيلته في حل المشاكل وهدده بمعاودة ضرب المواطنين الثلاثة مرة أخرى، بل صارحه بأن لديه "فلقة" أعدها لهذا الغرض.

ولما كانت الصورة التي بدا عليها السيد المحافظ هي أشبه الأشياء بصورة حاكم أجنبي يتفاخر بأن وسيلته في حكم المواطنين هي "الفلقة والعصا" وهي صورة غير مقبولة فيها إهدار لكرامة المواطننين واستهتار بالغ بأحكام القانون وبالأخص في محافظة كان من المتعين أن تكون هي المرآة في سلامة الحكم واحترام الحرايت والتزام أحكام القانون.

لذلك رأيت أن أرسل الأوراق إلى سيادتكم لعرض الأمر على الجهات المسئولة للنظر فيما وقع من السيد المحافظ.

هذا هو نص الخطاب..

وكان تقديري – الذي تبين للأسف أنه تقدير خاطئ – أنه لا يمكن بحال أن يترك مخلوق هذا رأيه وهذه عقليته على رأس المحافظة الأولى، ولكن الذي حصل أنه عندما عرض خطابي على رئيس الجمهورية عهد إلى أحد نوابه ببحث الموضوع فعقد جلسة جمع فيها بين المحافظ ووزير الري،

وقد علمت فيما بعد من الوزير أنه عندما ووجه المحافظ بما وقع منه انقلب حملاً وديعًا وانخرط في البكاء فطيب نائب الرئيس خاطره وذكره بأنه واحد منهم وأنه لا يتصور من أجل ذلك أن يلحقه أي أذى، وكل ما طلبه منه أن يعتذر لوزير الري ففعل،

وكان من غير المفهوم حقًّا أن يظل المحافظ في منصبه يسلط جوره على العباد من أهالي القاهرة لمدة ثلاث سنوات أخرى كوفئ بعدها بتعيينه وزيرًا في شهر إبريل سنة 1970، أما وزير الري فقد كوفئ بإخراجه من الوزارة في أول تعديل تال.. وكان ربك بالمرصاد وكان المحافظ واحد ممن آل أمرهم إلى السجن في حركة التصحيح.

ولعله من المناسب أن أذكر أن هذا المخلوق العجيب هو ذاته الذي لم يخجل من أن يصرح في التلفزيون وهو محافظ القاهرة بأن القانون في إجازة.

وهو ذاته الذي بدأ بشخصيته المتناقضتين عندما اعتدى متعاظمًا سنة 1962 وهو محافظ لأسيوط على بعض قضاة المحكمة لمجرد أنهم لم يهبوا واقفني إجلالاً له عندما مر بهم في فناء المحطة، ثم بدا بعد ذلك ضئيلاً عندما استدعاه الأستاذ فتحي الشرقاوي وزير العدل وقتئذ إلى مكتبه ودخله مرتجفًا، ولم يجد الوزير عناء في أن يكلفه بالاعتذار إلى القضاة في دار المحكمة ففعل..!

صورة لمراكز النفوذ

وقعت نكبة يونيه 1967 وتحدث رئيس الجمهورية عن مراكز النفوذ ووجوب القضاء عليها، وقطع السبيل على قيام مراكز نفوذ جديدة حتى لا تنحرف مثل ما انحرفت سابقاتها، كما تكلم عن القوانين الاستثنائية ووجوب إلغائها، ورفع الظلم وإتاحة حرية الرأي وغيرها من الحريات لجميع أفراد الشعب، وتفاءل المواطنون واستبشروا خيرًا، مؤملين أن يأتي اليسر بعد العسر،

وأن يكون درس النكبة قد صهر النفوس فخرجت من البوتقة نقية وضاءة تسعى إلى إصلاح ما فسد من شئون الحكم، ولكن سرعان ما جاءت الأعمال مخيبة لتلك الآمال. فمراكز النفوذ السابقة التي زالت بفعل النكبة وبمحاولة رئيس الجمهورية أن يلقي عليها وحدها عبء المسئولية،

هذه المراكز لم تلبث أن حلت محلها مراكز نفوذ جديدة تخرجت على نفس مبادئ المدرسة القديمة فضلاً عن بقاء جانب من أصحاب مراكز النفوذ القديمة وعلى رأسهم السادة علي صبري الذي أصبح أمينًا عامًا للاتحاد الاشتراكي، وسامي شرف، وشعراوي جمعة.. وظلت هذه المراكز تمثل السيطرة والتحكم الظالم ومساندة الانحرافات.

وقد سجلت تحقيقات الجناية رقم 5/1967 أموال عامة عليا (رقم 9476/67 جنايات عابدين) كيف كان موظف في الدرجة السادسة يتصرف كطاغية مستبد في هيئة من أهم الهيئات الإسلامية التي تسهم إلى حد كبير في تكوين سمعة بلادنا في الخارج، وبالأخص في البلاد الإسلامية،

وهذه الهيئة هي المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وكيف كان هذا الموظف يسيطر على الوزراء الذين يعمل تحت رئاستهم شكلاً ويتحدى من يجرؤ على كشف تصرفاته والتصدي لها، وكان يفعل ذلك لمجرد أنه واحد من أصفياء السيد سامي شرف – وإليك البيان:

تقدم مراقب شعبة الجهاز المركزي للمحاسبات المختصة بوزارة الأوقاف بتقرير إلى رئيس الجهاز جاء فيه أن مبالغ كثيرة صرفت من وزارة الأوقاف للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ليصرف منها على مدينة ناصر للبعوث الإسلامية،

ومضى على صرفها زمن طويل دون تسوية وأنه طلب مستندات صرف هذه المبالغ للاطلاع عليها فلم تقدم إليه ولما أصر على طلبها فوجئ بنقله إلى محافظة أسيوط.

ولا أدري مدى إدراك هذا المراقب للخطر الذي عرض نفسه له بمهاجمة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومهاجمته بالتبعية لذلك الذي كان يتحكم في شئونه وأغلب ظني أنه توهم أن رئيس الجهاز قادر على أن يحميه من هذا الخطر، ولم يتصور المسكين أن رئيس الجهاز عاجز عن أن يحميه من نفوذ ذلك الموظف الضئيل في درجته المالية، العملاق في نفوذه الفعلي..

ولم يجد رئيس الجهاز بدا من تشكيل لجنة قامت بفحص عينات من مستندات الصرف وانتهت في تقريرها إلى ترجيح وقوع تزويرات واختلاسات قدرتها مبدئيًا بما يزيد على خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات، وكان في إمكان رئيس الجهاز أن يتخذ اجراء حاسمًا بتبليغ النيابة العامة فورًا، ويطلب إبعاد أو وقف المسئولين وعلى رأسهم ذلك الموظف، لكنه آثر أن يتخذ إجراء روتينيًّا بإحالة تقرير اللجنة على وزير الأوقاف دون تعليق أو طلب محدد.

فأبلغ هذا الأخير النيابة العامة بهذا التقرير واتصل بي شخصيًّا مبديًا اهتمامه بالموضوع. ولما بدا تحقيق النيابة حاول الوزير أن يطمئن الشهود وأن يحميهم من طغيان ذلك الحاكم المستبد – وعلى الرغم من أن الوزير لم يكن يستطيع كشخص مسئول أن يغفل هذا التقرير،

وعلى الرغم من أنه قام بأضعف الإيمان بإتخاذ الاجراءات السابقة فقد هاجمه أنصار الموظف المذكور مهاجمة عنيفة، وأذكر أن اثنين من وزراء الأوقاف السابقين حدثاني في شأن تصرف زميلهما الوزير الحالي ووصفاه بأنه تصرف ينطوي على تعنت..

ولما كنت أنفي هذا التعنت وأبدي لهما أن واجب الوزير كان يقتضيه أن يبلغ النيابةا لعامة بتقرير وصل إليه من جهة مسئولة، فضلاً عن أن التحقيق في مراحله الأولى دل على صحة الوقائع المبلغ بهما، لما كنت أبدي لهما ذلك كان ردهما العجيب أن الوزير سيلقى جزاء تعنته،

ولم أكن من الغفلة بحيث لا أفهم أن هذا التهديد كان موجهًا إلي، كما كان موجهًا إلى وزير الأوقاف، ولقد كان الوزيران السابقان جادين في قولهما وظهر أثر التهديد سريعًا،

إذا أعفى الوزير من منصبه بعد بضعة أشهر. ولقد أسفر تحقيق الجناية السابقة عن تقديم أحد عشر متهمًا من موظفي وزارة الأوقاف والأزهر والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية أمام محكمة أمن الدولة العليا بتهم الاختلاس والتزوير ووصل مجموع المبالغ المختلسة إلى نحو خمسة وعشرين ألفًا من الجنيهات.

أما الموظف صاحب النفوذ فإن وزن الأدلة وزنًا قضائيًّا مجردًا مع تكييف الوقائع تكييفًا قانونيًّا سليمًا لم يكونا يسمحان بتقديمه إلى المحاكمة الجنائية، لكنني سلجت مسئوليته في مذكرة مفصلة بعثت بها في 27 من نوفمبر 1967 إلى مدير النيابة الإدارية طالبًا تقديمه إلى المحاكمة التأديبية.

ويبدو أن هذه المذكرة كان مصيرها مصيرغيرها إلى سلة المهملات، وكانت النتيجة أن أبقى المذكور في منصبه حتى كتابة هذه السطور. وليس أدل على استهتاره مما ورد في هذه المذكرة لذا رأيت أن أنقل في هذه الذكريات بعض عباراتها حتى تعطي صورة صحيحة عن تصرفاته.

وهذا هو ما جاء في المذكرة بعد المقدمة:

"ثبت أن السيد... قد أسهم إسهامًا أصيلاً في خلق جو لحمته العبث بالقانون والمخالفة الصريحة لنصوصه، وسداه الاستهتار بالمال العام والخروج به عن مصارفه إلى الهوى والغرض، مما أضاع على الدولة ألوف الجنيهات، ويسر للمتهمين سبل الغواية والعبث فتردوا فيما انتهوا إليه وآية ذلك:

أولاً: تقدم وهو في الدرجة السادسة من سلم العاملين بالدولة إلى وزير الأوقاف بمذكرتين مؤرختين في 20/8 و 20/12/1964 لتفويضه في إجراء التعيينات ومنح الأجور الإضافية والمكافآت بأنواعها،

بالنسبة إلى موظفي المجلس الأعلى ومدينة ناصر للبعوث الإسلامية، وهو أمر من اختصاص الوزير ولا يجوز التفويض فيه إلا لوكيل الوزارة أو الوكيل المساعد وفقًا لنص القانون رقم 390/1956 المعدل بالقانون رقم 127/1957،

وقد وافق السيد وزير الأوقاف على هاتين المذكرتين. وإذ تم له أمر التفويض على النحو المخالف للقانون أخذ يغترف من أموال الدولة ويغدقها على مرؤوسيه، على شكل أجور إضافية ومكافآت تشجيعية، ضاربًا بالقوانين والقرارات المنظمة لتلك الأجور والمكافآت عرض الحائط فيمنحهم أكثر من أجر إضافي في الشهر الواحد،

وتعدى الأمر إلى أن منح بعضهم ثلاثة أجور إضافية في الشهر الواحد، مما ترتب عليه أنهم تقاضوا أكثر من ضعف رواتهم في صورة أجور إضافية كما أمر بصرف مكافآت تشجيعية تزيد عن الحد المقرر قانونًا للكثيرين منهم، ورغم عدم توافر شرائط المنح التي حددتها القوانين، ومثال ذلك:

1-أن أمر بمنح القائمين على أمر معسكر أبي بكر الصديق الصيفي عام 1965 مبلغ 4200جنيه كمكافأة تشجيعية ومنح القائمين على أمر ذات المعسكر عام 1966 مبلغ 3920 جنيهًا رغم أنهم كانوا يصرفون أجورًا إضافية.

2-منح أحد موظفي وزارة الأوقاف مكافأة تشجيعية قدرها خمسون جنيهًا لمجرد أنه أجاز صرف مبلغ من ريع الأوقاف للمجلس.

3-منح موظفين من موظفي المجلس الأعلى مكافأة قدرها خمسون جنيهًا لكل نظير جهده في استخراج جوازي سفرهما وثلاثة جوازات أخرى لثلاثة من موظفي المجلس لمناسبة سفر الجميع كوفد إلى الخارج كما أمر باستمرار صرف الأجور الإضافية التي كانت تصرف لبعضهم خلال مدة وجودهم في الخارج.

وقد أدت هذه الأوامر الشاذة إلى صرف مبلغ 17168.050 للموظفين كأجور إضافية ومكافآت تشجيعية دون وجه حق.

ثانيًا: لم يكتف بالأجور الإضافية والمكافآت التشجيعية التي منحها على خلاف القانون، بل وافق على استخراج اشتراكات أتوبيس لعدد كبير من العاملين وأقرض بعضهم سلفًا نقدية لم تسدد،

ووافق على صرف ثمن نظارات شمس من النوع الفاخر لبعضهم، بل ثمن الواحدة منها ثلاثة عشر جنيهًا، ولم يكتف بعض الموظفين بنظارة واحدة من هذا النوع. كما وافق على صرف منحة الخمسة عشر يومًا للبعض ممن لا تتوافر فيهم شروط منحها.

ثالثًا: خالف القرار الجمهوري رقم 2231/1965 الصادر بشأن تنظيم البدلات والأجور والمكافآت، إذ وافق على صرف مبلغ 125 جنيهًا لأحد كبار المشايخ نظير حضوره جلسات مجلس إدارة مدينة البعوث الإسلامية على الرغم من أن منصبه كما يخوله تقاضى بدل تمثيل يزيد على خمسمائية جنيه سنويًّا.

رابعًا: وحتى يضمن انعدام الرقابة على مخالفاته الجسام للقانون، طلب ندب ممثلي الجهاز المركزي للمحاسبات المخصصين لمراجعة حسابات المجلس الأعلى ومدينة البعوث، طلب ندبهم للعمل على تنظيم شئون المدينة من الناحية المالية والإدارية،

في غير أوقات العمل الرسمية، لقاء أجر إضافي، مع وضوح مكافأة هذا الندب وطبيعة وظيفتهما الرقابية على التصرفات المالية الخاصة بالمجلس والمدينة. وقد تم له ما أراد.

خامسًا: تقدم في 15/2/1966 بمذكرة إلى وزير الأوقاف طلب فيها الموافقة على استمرار صرف الأجور الإضافية التي كانت تمنح للموظفين المنتدبين من المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ووزارة الأوقاف للعمل بالمدينة في غير أوقات العمل الرسمية وذلك من الاعتمادات المخصصة للصرف على شئون المدينة،

بالإضافة إلى ما يمنح لبعضهم من أجور إضافية نظير عملهم بالمجلس. كل ذلك رغم رفع إشراف المجلس على المدينة وانقطاع صلة هؤلاء الموظفين بالمدينة كلية اعتبار من يناير 1966 وقد وافق الوزير على هذه المذكرة واستمر صرف تلك الأجور من اعتمادات المدينة حتى نهاية إبريل 1967 بغير وجه حق.

سادسًا: على الرغم من تبعيته لوزير الأوقاف الحالي، فقد تحداه تحديًا سافرًا بأن امتنع عن تنفيذ قراره الخاص وقف بعض موظفي الوزارة المنتدبين للعمل بالمجلس إثر اكتشاف لجنة الجهاز المركزي للمحاسبات للجرائم والمخالفات التي اقترفوها، وذلك بأن طلب من هؤلاء الموظفين الاستمرار في عملهم وأمر بصرف ما يعادل نصف رواتبهم الموقوف صرفها من خزانة المجلس بحكم وقفهم عن العمل. وفضلاً عما تقدم حول جاهدًا

– وقد كبر على نفسه رفع إشراف المجلس الأعلى على مدينة البعوث أن يعرقل أعمال الإدارة الجديدة بشتى الطرق والأساليب، بغية إظهارها بمظهر العاجز عن السيطرة على تسيير دفة الأمور، وليجبر المسئولين على إعادة إشراف المجلس على المدينة، فكتب للجمعية التعاونية الاستهلاكية ومؤسسة المضارب والمطاحن، لمنع توريد كميات الأغذية والخبز اللازمة لها، ولم تستجب هاتان الجهتان إليه لما استشعرناه من خطورة هذا الطلب وأثره على الصالح العام..".

ومن كل ما سلف يبين أن السيد المذكور قد أخل بواجبات وظيفته، وسعى إلى اقتناص سلطة لا يخولها له القانون، وبعد أن حقق له وزير الأوقاف السابق ما ابتغاه أساء استعمال هذه السلطة إساءة بالغة، ولم يقف أمره عند هذا الحد بل تعداه إلى انتهاك القوانين وإلى السفه غير المحدود في التصرف في الاعتمادات التي ائتمن عليها مما أصاب المال بضرر بالغ. وانتهت المذكرة بطلب إحالته إلى المحاكمة التأديبية.

فهل رأيت الفارق بين الوزير الحصيف الذي يشتري منصبه بالخضوع إلى مرؤوسيه المنحرف، وبين الوزير الذي يحاول أن يؤدي واجبه في أبسط صورة فيطاح به سريعًا؟

وبعد جلسة تحقيق سئل فيها وزير الأوقاف السابق وأقر فيها بأنه أجاز تصرفات الموظف المذكور، مر على مكتبي فعاتبته في رفق على موقفه هذا وسألته كيف قبل لنفسه أن يقر تلك الانحرافات وأن يحمل فوق كاهله عبء تصرفات هذا الموظف، فأجاب في هدوء عجيب وبمنطق أعجب،

أن حاجات المعيشة تلح على الناس إلحاحًا شديدًا، وأن رواتب الموظفين لم تعد تكفيهم، وأن ما أسميه أنا انحرافًا لم يكن إلا وسيلة لرفع رواتب الموظفين.

هذا هو رده وهو ينم عن عقلية يصعب التفاهم مع صاحبها، فهل مكافحة الغلاء تكون بالإغداق على نفر من ذوي الحظوة دون باقي أفراد الشعب؟ هل يكون سد حاجات المعيشة بشراء نظارات الشمس الفاخرة التي يبلغ ثمن الواحدة منها ثلاثة عشرة جنيهًا،

أو بمنح ثلاثة أجور إضافية في شهر واحد؟ وهل يدخل الموظف الكبير صاحب بدل التمثيل في زمرة المحتاجين؟ وله من وسائل مكافحة الغلاء ندب الموظفين المكلفين بالرقابة الحسابية إلى الجهة المكلفين بمحاسبتها والإغداق عليهم لإخراس ألسنتهم وتحطيم أقلامهم؟

سبق أن قررت أن تحقيق الجناية رقم 5/1967 أموال عامة عليا انتهى إلى تقديم أحد عشر موظفًا إلى محكمة أمن الدولة العليا بتهم التزوير والاختلاس.

ومن الطريف في هذا الخصوص أن أسجل واقعة وردت في أقوال المتهم الرئيسي، فقد قرر أنه إنما لجأ إلى الاختلاس أسوة بكبار المسئولين الذين اغترفوا من أموال الأوقاف عشرات الألوف من الجنيهات، وذكر على سبيل المثال أسماء بعضهم. ولما حاولت النيابة التحقيق من صحة الوقائع وجدت أمامها سدًا منيعًا، ولم تستطع أن تستدل على مواضعها من الأوراق،

ولم يستطع المتهم أن يرشد عن هذه المواضع، ولم يجد أحد المسئولين بغير تحديد على استعلام النيابة، أن كثيرًا من أموال الأوقاف الخيرية كانت تسلم من وزارة الأوقاف إلى كبار المسئولين لصرفها في شئون سياسية تحمل طابع السرية ولا يمكن الإفصاح عنها.


فهل هذه هي المصارف المشروعة لأموال الأوقاف الخيرية، وأي بالوعة كانت تتسرب منها هذه الأموال بتعليلات مصطنعة ولأشخاص لا يجرؤ أحد على مساءلتهم فضلاً عن وضع سدود من أوهام السياسة العليا التي تحول دون التحقق من صحة هذه المصارف.

مؤامرة مزعومة من وكلاء النيابة ضد نظام الحكم

كانت تحقيقات النيابة رقم 5/1967 أموال عامة عليا وما كشفته من انحرافات في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية مع طلب محاكمة ذلك الموظف تأديبيًّا وتقديم نفر من أعوانه إلى محكمة أمن الدولة العليا، كان ذلك كله –بقدر علمي – هو أول سبب من أسباب الصدام بيني وبين السيد سامي شرف مدير مكتب رئيس الجمهورية وجاء الصدام الثاني في صورة أوضح وعلى نحو مباشر عندما أبلغ هذا المدير كتابة ضد أربعة من وكلاء النيابة العامة بأنهم عقدوا اجتماعات بغرض التآمر على نظام الحكم،

وكان سنده في هذا الاتهام شهادة بعض المخبرين السريين الذين ادعوا أنهم حضروا الاجتماعات واستمعوا إلى ما دار فيها من حديث، وأعطيت البلاغ الخطير ما يستحقه من اهتمام وندبت المحامي العام مدير إدارة التفتيش القضائي بالنيابة العامة لتحقيقه،

فإذا بهذا التحقيق يسفر عن أن كل الأدلة المقدمة هي مجرد أقوال متهاترة أقرب إلى الهل منها إلى الجد، وليس هنا مجال عرض هذه الأقوال ومناقشتها تفصيلاً، وإنما يكفي أن أقول أن هؤلاء المخبرين السريين عينوا لبدء اجتماعات المتآمرين المزعومين يومًا بالذات حددوا تاريخه،

وثبت أن واحدًا من وكلاء النيابة المقول بأنه حضر معهم تلك الاجتماعات كان قد سافر قبل هذا التاريخ بنحو شهر إلى باريس في منحة دراسية، ولم يكن بالبداهة قد عاد حتى اليوم المذكور، وكانت هذه الواقعة هي القاصمة لظهر ذلك البلاغ، فلم أجد بدا من حفظه.

وقامت ثورة عارمة وطلب مني المستشار عصام حسونة وزير العدل إذ ذاك مذكرة بالواقعة فبعثت إليه بصورة من أسباب حفظ البلاغ ولم يجد بدا – كأي إنسان منصف- من أن يقرها ويسلم بصحة التصرف.

لكني دهشت عندما قابلت بعد ذلك، ولمناسبة أخرى السيد شعراوي جمعة وزير الداخلية وأحد أصحاب مراكز النفوذ الجديدة وفاجأني بأسلوب هجومي قائلاً إنني اتهمت مدير مكتب رئيس الجمهورية بالتبليغ الكاذب.

ولم أفهم بادئ الأمر ما يعنيه وأبديت لمحدثي دهشتي لهذا القول ولما أخبرني أنه يعني موضوع البلاغ سابق الذكر ودلالة حفظه –في رأيه- على كذب المبلغ عجبت أشد العجب وأبديت له استنكاري لهذا الأسلوب من الحديث والتجريح،

وأفهمته أن قرار الحفظ وأسبابه لا تحمل المعنى الذي ذهب إليه، وأن هذه الأسباب انصبت على كذب المخبرين وأن المبلغ قد يكون – شأنه شأن المبلغ ضدهم- ضحية هو الآخر لكذبهم وأنهم إنما غرروا به ليظهروا بمظهر من يدافع عن نظام الحكم ولينتقموا فضلاً عن ذلك من المبلغ ضدهم – على ما ثبت من التحقيق – بسبب مشادة كانت قد وقعت بينهم وبين هؤلاء المخبرين لأمر لا صلة له بنظام الحكم أو بالتآمر عليه.

الاتحاد الاشتراكي ورجال الشرطة

يبدو أن كلا من السادة الذين كونوا مراكز النفوذ الجديدة كان يعتبر نفسه دكتاتورًا صغيرًا لا معقب على ما يراه أو يقوله، ويرى أن أي معارضة لهذا القول أو هذا الرأي تعتبر كبيرة الكبائر.

فقد اتصل بي في منزلي تليفونيًّا بعد ظهر يوم 26 من يونيو 1968 الأستاذ محمد أبو نصير وزير العدل الذي عين في الوزارة المشكلة بعد كارثة يونيو 1967،

وكان ممن يتصدرون أعضاء الإتحاد الاشتراكي العربي، وأخبرني بأن السيد شعراوي جمعة وزير الداخلية أبلغه بوقوع اعتداء خطير من مدير أمن الجيزة اللواء شريف العبد على أحد رجال الإتحاد الاشتراكي، وأنه يطلب تقريرًا عاجلاً بما حصل ليبت على الفور في أمر هذا المدير.

وأدركت على الفور أن الإتحاد الاشتراكي ثائر على المدير وأن وزيري العدل والداخلية يطالبان برأسه إرضاءً له، ويطمعان في أن أحرر تقريرًا يسعفهما فيما يريدان اتخاذه من إجراء

– ووعدت وزير العدل بفحص الموضوع وإرسال التقرير إليه بالنتيجة فألح في إصرار عجيب على إرسال التقرير إليه في منزله، وفي اليوم ذاته، وأجبته بأنني أرجو أن تمكني الظروف من ذلك.

وخشيت أن يكون مدير الأمن ضحية وأن يقع عليه ظلم إن لم أبادر إلى حسم هذا الموضوع، فانتقلت إلى مكتبي وطلبت من النيابة المحضر الخاص وطالعته، ثم استدعيت مدير الأمن فحضر بادي الاضطراب وقد أدرك ما يبيت له،

واستجوبته بنفسي، فصح ما توقعته وتبينت أنه لا شائبة على مسلكه أو مسلك رجال الشرطة، وأن الواقعة، تحصل في أن رئيس نقطة كرداسة، وهو نقيب،

كما يمر حوالي الساعة الخامسة من مساء اليوم السابق 25 من يونيو 1968 بمقر اللجنة الانتخابية بالوحدة المجمعة ببلدة كرداسة مركز إمبابة، فطلب منه رئيس اللجنة المحافظة على النظام وإخراج شخص من غير الناخبين اقتحم مقر اللجنة وأخذ يدعو بداخلها لمرشح الإتحاد الاشتراكي،

ولما كان ذلك مخالفًا للقانون فقد أمر الضابط هذا الشخص بمغادرة مقر اللجنة وأبى فدفعه الضابط بيده لإخراجه، لكنه لطم الضابط على وجهه وأمسك بملابسه، فسلمه الضابط إلى أحد جنود الشرطة، وعندئذ تعدى المرشح وأحد أنصاره على الجندي، وأصاباه وخلصا منه ذلك الشخص.

وقد قطع التحقيق بحصول هذه الوقائع على النحو السابق، وتبين من التقرير الطبي أن الضابط وجندي الشرطة أصيبا إصابات رضية، ولما أبلغ مدير الأمن بالواقعة أمر بالتحقيق وكلف أحد مفتشي الشرطة بالانتقال إلى مقر اللجنة للمحافظة على النظام ولم يجد ما يدعوه هو للانتقال،

لأن الحالة كانت قد هدأت فضلاً عن أن مجريات الانتخاب في باقي أنحاء المحافظة كانت تقتضي إشرافه عليها من مكتبه.

ولم يكن في التحقيق ما يشير من قريب أو من بعيد إلى أن مدير الأمن اعتدى على المرشح أو أحد أعوانه أو تصرف على نحو يخالف واجباته، فضلاً عن أنه لم ينتقل أصلاً إلى مكان الواقعة حتى يسند إليه اعتداء قد وقع منه فيها،

ولم يسند إليه أنه اعتدى على أحد في مكتبه أو في أي مكان آخر، وكل ما هنالك أنه أبى أن يجيب المرشح إلى ما طلبه من مجازاة الضابط ونقله، وكان محقًا في رفضه هذا طالما كان واضحًا أن الضابط لم يكن معتديًا بل كان ضحية اعتداء..


ولقد سلجت كل ذلك في تقرير بعثت به إلى وزير العدل بمنزله في مساء اليوم ذاته كوعدي له – وكان عجيبًا حقًّا أن تبلغ به الجرأة إلى درجة أن يحدثني تليفونيًّا بعد قراءة التقرير مبديا أن ما جاء فيه لم يكن هو المطلوب.

وكانت إجابتي التي أثارته أنني إنما سجلت الواقع كما أظهره التحقيق، وأنني لا يمكن أن أفهم أو أجيب طلبًا أو يوحي إلي بطلب يتنافى مع ذكر الحقيقة، وإني لا أدري بعد ذلك كيف يطمئن رجال الشرطة إلى القيام بواجبهم إذا كان كبير من كبارهم يهدد في وظيفته لمجرد أنه أنصف ضابطًا صغيرصا سكت ورضي بالاعتداء عليه، ولم يرض المعتدي بل عمل على الإطاحة بالاثنين..

الضابط الصغير ومدير الأمن، ووجد عونًا له في صفه من وزيري أحدهما مسئول عن حماية رجال الشرطة، والثاني مسئول عن تحقيق العدالة.

وقد علمت بعد ذلك أنه لم ينقذ مدير الأمن من بين براثن الوزيرين ورجال الإتحاد الاشتراكي سوى استعطافه لهم والالتجاء إلى زملائهم وأنصارهم مستعينًا بما جاء في تقريري الذي انتهى إلى عدم وجود شائبة في تصرفه.

وترسبت هذه الواقعة مع غيرها مما سبق ذكره ومما سيأتي في نفس الوزيرين وجعلتهما يضيقان بوجودي في منصب النائب العام.

سلطات الأمن تحمي المهربين

وقبل ذلك وفي أكتوبر 1967 حصلت واقعة كانت هي الأخرى سببًا من أسباب الصدام بيني وبين وزير الداخلية ذاته، وهي واقعة تدل على مدى انحرافه أو في القليل مدى حرصه على حماية المنحرفين، وقد سجلت هذه الواقعة التحقيقات رقم 106/1967 حصر نيابة الشئون المالية بالأسكندرية،

وذلك أنه وصل إلى علم قائد مخابرات سواحل ميناء الأسكندرية أن تاجرًا لبنانيًّا سوف يصل إلى الميناء يوم 22 من أكتوبر سنة 1967 على ظهر الباخرة "سنتيا" ومعه ثلاثون سبيكة من الذهب، سيعمل على تهريبها إلى داخل المدينة.

ووصلت السفينة وصعد إليها قائد مخابرات السواحل وعدد من رجاله وتحققوا بمطالعة أوراقها من أن التاجر المذكور قد أقبل عليها وأنه كان يشغل الكابينة رقم 58، وهي من كبائن الدرجة الأولى، فراقبوا الكابينة إلى أن رأوا التاجر يدخلها ثم يخرج منها،

وبعد بضع دقائق شاهدوا الرائد حسن محمد حسن من قوة قسم جوازات الميناء يصعد إلى الباخرة ويدخل الكابينة المذكورة فارتابوا في أمره، وأمر القائد بعض رجاله بأن يواصلوا مراقبة الكابينة والرائد الذي دخلها،

وأسرع هو إلى الميناء ليتصل برؤسائه في شأن ضابط الجوازات، وبعد ذلك خرج هذا الضابط من الكابينة، ولما أحس بأنه تحت الرقابة بدا عليه الاضطراب واتجه إلى دورة المياه وبعد فترة وجيزة خرج منها وتحفظ رجال مخابرات السواحل على الدورة التي دخلها،

حتى عاد قائدهم وأخبروه بما حصل وبحث في الدورة فوجد فيها صدارًا خيطت به حبوب خفية تحتوي على ثلاثين سبيكة ذهبية عيار 24 سعر 960 مليمًا للجرام تزن كل سبيكة ثلاثين كيلو جراما وبذا بلغت قيمة السبائك المضبوطة 28800 ثمانية وعشروين ألفا وثمانمائة جنيها،

وأبلغت النيابة العامة وبعد التحقيق حررت النيابة مذكرة أثبتت فيها الوقائع السابقة وما ورد في شأنها من شهادات الشهود والقرائن والأدلة المادية واستخلصت الحقائق الآتية:


أولاً: أن الواقع أثبت صحة ما أبلغ به قائد مخابرات السواحل من حضور التاجر اللبناني على الباخرة سنتيا ومعه بالتحديد ثلاثون سبيكة من الذهب.

ثانيًا: أن التاجر المذكور كان يشغل الكابينة رقم 58 وأنه لم يدخلها بعد وصول الباخرة ومنذ مراقبتها سوى هذا التاجر وضابط الجوازات.

ثالثًا: أن الضابط المذكور هو الذي دخل وحده دورة المياه، وأنه بعد خروجه منها لم يدخلها أحد حتى وجد فيها الصدار المحتوي على الثلاثين سبيكة.

رابعًا: أن الضابط المذكور كان بادي الاضطراب عقب خروجه من الكابينة وتبينه أنه تحت المراقبة من رجال مخابرات السواحل، وأن دخوله بعد ذلك دورة المياه التي وجد فيها السبائك دليل على أنه قصد التخلص منها.

خامسًا: أقر هذا الضابط في معاينة النيابة بأنه دخل دورة المياه في المكان والزمان الذي ضبط فيها الصدار.

سادسًا: تبين بالتجربة أن الصدار يلائم جسم الضابط عند ارتدائه.

سابعًا: ثبت عدم قيام سبب مشروع لصعود الضابط إلى الباخرة، فقد زعم أنه كان مكلفًا بمراجعة كشوف البحارة قبل سفر الباخرة، بيد أنه تبين من الاطلاع على دفاتر قسم الجوازات أن هذه المهمة كلف بها ضباط سجلت أسماؤهم ولم يكن الضابط المتهم واحدًا منهم.

فضلاً عما شهد به رائد من مخابرات السواحل من أنه عند سؤال الضابط المتهم عن سبب صعوده الباخرة زعم أنه إنما أراد إحضار دواء منها، الأمر الذي يدل على كذب دفاعه.

ولم يكن هناك بعد ثبوت الواقعة بد من تقديم التاجر اللبناني ورائد الجوازات إلى المحاكمة الجنائية عملا بالقانونين رقم 9/1959 و 66/1963 بوصف أنهما استوردا سبائك ذهبية دون ترخيص وشرعا في تهريبها إلى داخل البلاد بوسيلة غير مشروعة ودون أداء الرسوم الجمركية المستحقة عليها.

على أن الإسهام في جريمة التهريب لم يكن مقصورًا في واقع الأمر على التاجر اللبناني ورائد قسم الجوازات بل بدا من التحقيق أن بعض رجال مكتب المباحث العامة بميناء الأسكندرية أسهموا في العملية، إذ قرر بعض الشهود أنهم رأوا عريفًا من قوة المباحث العامة يصعد إلى الباخرة ومعه شخص لا يعرفونه، وفهموا أنه ضابط من قوة هذه المباحث،

وأن هذا الضابط قابل التاجر اللبناني وانتحى به جانبًا ثم غادر السفينة قبل صعود ضابط الجوازات إليها.

وحاولت النيابة عبثًا الوصول إلى معرفة شخصية ضابط المباحث العامة المذكور لكن أحد من الشهود لم يستطع أو لم يشأ الإرشاد عنه، وتستر عليه عريف المباحث العامة ورئيس مكتبها بميناء الأسكندرية وزعما أن أولهما إنما كان يصحب إلى الباخرة بأمر من الثاني مرشدًا سريًّا في مهمة سرية ليس من المصلحة الكشف عنها.

وهي وسيلة معروفة كثيرًا ما يلجإ إليها بعض رجال الشرطة عندما يريدون إخفاء الحقيقة لغرض في نفوسهم.


ولو صحت هذه الواقعة لكان مفهومًا أن رجال المباحث العامة ورجال الجوازات قد أسهموا في عملية التهريب، لكن الأمر في تقديري لم يكن يقف عند حد مساهمة ضابط أو ضابطين في العملية، فقد دلت الأحداث التالية على أن الأمر كان أخطر من ذلك وأن التهريب كان متفقًا عليه مع مستويات أعلى، يؤيد ذلك أن ضابط الجوازات كان شقيقًا لمدير إدارة التفتيش بوزارة الداخلية،

وأن مدير المباحث العامة في وزارة الداخلية كان ثائرًا على ما سجل في التحقيق من مقابلة أحد ضباط المباحث العامة للتاجر على ظهر الباخرة، وأن كبار موظفي هذه الوزارة،

وعلى رأسهم الوزير، قد حدثوني في شأن اتهام ضابط الجوازات زاعمين أنه بريء مما أسند إليه، وقد وصل إلى علمي أن ضغط الجهات العليا صاحبة المصلحة في التهريب استمر بعد تركي منصبي،

وخضع لهذا الضغط النائب العام الجديد، فلما قضى بإدانة المتهمين اتبدائيًّا واستئنافيًّا وطعن المحكوم عليهما بالنقض كان من العجيب أن تنضم نيابة النقض إليهما في طلب نقض الحكم فلما قضت محكمة النقض على الرغم من ذلك برفض الطعن،

لم يسع النائب العام ازاء الضغط الواقع عليه ألا يسحب ملف الدعوى ويدفنه في مكتبه دون أن تتخذ اجراءات تنفيذ الحكم، مما أدى في الواقع إلى اهدار تنفيذ حكم نهائي استنفذت بالنسبة له طرق الطعن العادية وغير العادية.

فما هي دلالة ذلك كله، بل وما هي دلالة فصل القاضي الذي حكم بالإدانة في الحركة التي أسموها زيفًا حركة الإصلاح القضائي والتي صدرت في 30 من أغسطس 1969،

وشملتني كما شملت هذا القاضي وغيره من القضاة الذين لم يكن في أحكامهم العدالة أو خلقهم العالي أو اعتزازهم بكرامتهم ما يرضي أصحاب مراكز النفوذ، على ما سيأتي بيانه فيما بعد.

ولما كان الفضل يذكر لذويه، فإنه يجب التنويه بأنه في ظل حركة التصحيح أمر وزير الداخلية الجديد باحترام الحكم وتنفيذ العقوبة ضد الضابط المحكوم عليه.

حادث انتحار المشير عبدالحكيم عامر

والآن لنعد إلى الوراء للكلام عن حادث أثار فضول الرأي العام، لا في مصر فحسب، بل وفي الخارج كذلك، ولا أظن أن هذه الذكريات تكون متكاملة دون تسجيل ملامح هذا الحادث وما لابسه من ظروف وما أثاره من شكوك. لنعد إلى الساعة 6.35

من مساء يوم الخميس 14 من سبتمبر 1967 حين أثبتت وفاة المشير عبدالحكيم عامر في سجل استراحة تقع في مكان منعزل على شاطئ ترعة المريوطية.

ومن وقت أن بدأ التحقيق إلى ما بعد انتهائه بزمن طويل وحتى كتابة هذه الذكريات والتساؤل يلاحقني في كل مجلس يضمني مع آخرين ويأتي فيه ذكر الحادث – هل انتحر المشير عامر حقًّا؟ وكثيرًا ما كان التساؤل يرد في لهجة استنكارية مفعمة بالشك، بل كان البعض يؤكد أنه قتل رميا بالرصاص على الرغم من الماديات التي قطعت بأن جسده كان خاليا من أي آثار للمقاومة أو العنف أو الإصابات الظاهرة أو الباطنة،

وعلى الرغم من أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيميائية وظروف الحال أكدت أنه مات منتحرًا بتناول مادة سامة هي مادة الأكونيتين.

ولقد أدركت من اللحظة الأولى مدى ما سيثيره الحادث، وفي الظروف التي وقع فيها، من شكوك فحرصت على أن يكون التحقيق مجردًا من أي رأي مسبق، ونبهت على من عاونني من أعضاء النيابة أن يلتزموا في اجرائه أقصى ما يطالب به المحقق النزيه من الحيدة وعدم التأثر بفكرة معينة وإفساح المجال لإثبات أي أقوال تبدى مهما تكن خطورتها، لتكون بعد ذلك محلا للفحص والاستنباط واستخلاص النتائج الصحيحة منها.

وانطلاقًا من هذه الاعتبارات رأيت أن أتولي بنفسي أدق مراحل التحقيق وهي: من ناحية تأييد فكرة الانتحار – سؤال الفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة، والمرحوم الفريق عبدالمنعم رياض رئيس هيئة أركان الحرب، وغيرهما من الضباط والأطباء

– من الناحية المضادة سؤال أفراد أسرة المشير عامر الذين اتهموا السلطات الحاكمة بقتله – وقد رأيت أن أسأل أفراد الأسرة في منزلهم حتى يكون التحقيق بعيدًا عن أي مظهر من مظاهر السلطان أو أي مظنة من مظان الإرهاب، وطلبت لنفس الاعتبارات من ضباط المباحث العامة وغيرهم من رجال الشرطة الذين صاحبوني في الطريق أن يبقوا بعيدًا عن المنزل مسافة تزيد على المائة متر،

وتوجهت في سيارتي مع رئيس نيابة الجيزة وسكرتير التحقيق دون غيرنا إلى المنزل، وطرقنا بابه ففتح لنا وأدخلنا غرفة مكتب في الطابق الأرضي، وكان أول من حضر إلينا زوجا بنتي المشير وهما السيد محمد سيد أمين عزب، الرائد الطيار حسين عبد الناصر حسين وأردت البدء بسؤال أرملة المشير، لكنهما اعتذرا نيابة عنها بسوء حالتها النفسية فقدرت هذا الظرف ولم أصر على طلبها، ثم طلبت ابنتيه السيدتين نجيبة وآمال فحضرتا وهما في حالة انفعال شديدة وواجهتاني في تحد واضح بأنه من العبث سؤالهما، وأنهما لا تطمئنان إلى التحقيق وهما موقنتان – على حد تعبيرهما - من أن المحقق يجريه والمدفع مصوب إلى ظهره، وزعمتا أنني لن أجرؤ على إثبات ما تريدان ابداءه من أقوال، وتمالكت أعصابي وتجاوزت عن قولهما البعيد عن اللياقة وقدرت ما أثاره حادث وفاة والدهما في نفسيهما من أسى، كما قدرت أنهما بحكم نشأتهما في ظل القوة والسلطة التي كان يمارسها والدهما لم تعودا تؤمنان بغير القوة، ولا تتصوران أن المحقق النزيه لا يمكن أن يخضع إلا لحكم ضميره.

وأخذت أهدئ من ثورتهما وأتحداهما من جانبي بأن التجربة سوف تثبت عكس ما تظنانه وأنهما حرتان في ابداء ما تشاءان من أقوال وما عليهما إلا الامتناع عن الاسترسال في الإجابة إن لم أسجل كل كلمة تقولانها. وبدا أخيرًا أنهما اقتنعتا فسألتهما وسألت زوجيهما وسجلت وهم لا يكادون يصدقون

– كل أقوالهم بما تضمنته من اتهامات صريحة للسلطات على النحو الذي سيأتي ذكره فيما بعد

– ولما كان كل منهم بعد تسجيل أقواله يبدي استعداده للتوقيع عليها، وكنت أصر، مبالغة في طمأنته، على ألا يوقع إلا بعد أن يطالع ما أثبت على لسانه.

ولما انتهى التحقيق لم يسع السيدتين إلا الاعتذار على سلوكهما، وكانت سعادتي لا تقدر إذ ثبت في نفسيهما معنى ساميًا من معاني العدالة، وقد أدركت بعد ذلك أن ابنتي المشير كان لهما بعض العذر وأن عقلية بعض وزرائنا وحكامنا من العسكريين لم تكن تختلف كثيرًا عن عقلية السيدتين، فعلى الرغم مما انتهى إليه التحقيق وقرار الحفظ من الرد على اتهامات أفراد أسرة المشير والتقرير بأن الحادث وقع انتحارًا

– فإن السلطات لم يرضها سلوكي في التحقيق ولا ما أثبته فيه وفي القرار عن هذه الاتهامات، واعتبرت أن مجرد إثباتها شيئًا من التعرض برئيس الجمهورية وبالقائد العام للقوات المسلحة وبمن اشتركوا في نقل وحراسة المشير حتى وفاته،

وكأنهم كانوا يبغون مني أن أسلك في التحقيق المسلك الذي كانت تخشاه ابنتا المشير، فيالها من عقلية لا تفهم أن مصلحة العدالة ومصلحة الحقيقة، بل مصلحة السلطات ذاتها،

كانت توجب تسجيل وجهتي النظر في الحادث ومناقشتهما واستخلاص الحقيقة بعد ذلك من كل العناصر التي سجلها التحقيق، وهل كان من مصلحة السلطات ذاتها، فضلاً عن مصحلة العدالة أن يسجل في التحقيق على خلاف الواقع المعروف، أن أفراد أسرة المشير قرروا أن الحادث وقع انتحارًا، وهلا كان ذلك يفقد الثقة في التحقيق ويفتح الباب واسعًا لاطلاق الأقاويل المغرضة والاشاعات الكاذبة.

لقد انتهيت من اعداد قرار الحفظ وعرضته على وزير العدل واتفقنا على تسليمه لمندوبي الصحف في مساء يوم 10 من أكتوبر 1967 وأخطرت إدارات الصحف بهذا الموعد وبأنني سوف أستقبل مندوبيها في مكتبي لأسلمهم صور القرار وأجيب على ما يستوضحونه في شأنه.

وفوجئت وأنا في المنزل وقبل ذهابي إلى المكتب بوزير العدل المستشار عصام حسونة يحدثني تليفونيًّا ويقول، لدهشتي الشديدة أن السيد محمد فائق وزير الإرشاد لا يوافق على نشر القرار بصيغته وأنه يطلب تعديله باستبعاد ما جاء من اتهامات على لسان أفراد أسرة المشير وطلب مني وزير العدل أن أبدي رأيي فيما طلبه وزير الإرشاد.

فأجبته بأن القرار متكامل وأنه يرسم صورة دقيقة لما جاء في التحقيق وأن ضميري القضائي لا يسمح لي بتغيير ما جاء فيه من حقائق أو بتقطيع أوصالها بإثبات بعضها واغفال البعض الآخر – أما عن نشر القرار فقد قررت لوزير العدل أنه كان في الدرجة الأولى مسئولية وزارة الإرشاد إلا أنه يعنيني أيضًا كنائب عام يحرص على سمعة العدالة، وكمواطن يهمه وقوف الرأي العام على الحقيقة بأكملها – وانتهيت من حديثي إلى أن وزير الإرشاد له شأنه مع الصحف وأنه يملك بحكم إشرافه أن يتحمل منع نشر القرار أصلاً أو عدم نشره كاملاً، وأن عليه أن يتحمل مسئولية ذلك لكنني من جانبي لا أملك إلا تسليم القرار بأكمله أو عدم تسليمه أصلاً.

وبعد قليل اتصل بي وزير العدل مرة أخرى وأفهمني أن الأمر أصبح في غاية الحرج بعد أن أخطرت إدارات الصحف بموعد تسليم صور القرار، وقال لي إن اجتماعًا يعقد وقت الحديث ويضم وزير الإرشاد وبعض زملائه من الوزراء وعددًا من رؤساء تحرير الصحف وأنهم يتداولون في الأمر ورجاني وزير العدل أن أتوجه إلى مكتبي وأن أنتظر منه مكالمة أخرى في شأن ما ينتهي إليه الرأي في هذا الاجتماع.

وتوجهت إلى مكتبي وبدأ مندوبو الصحف يتوافدون على دار النيابة ورجوتهم الانتظار خارج مكتبي بحجة إتمام إعداد التقرير، وطال الأمر واشتد الحرج، وطلبت وزير العدل لأفهمه أني أصبحت في موقف لا يطاق وأن مندوبي الصحف مجتمعون خارج مكتبي ويلحون في تسليم صور القرار وأنني لن أجد مخرجًا من هذا الحرج إلا بتركهم والانصراف إلى منزلي فاستمهلني الوزير وبعد قليل أخبرني تليفونيًّا أن الحكومة لم تجد بدًا من نشر القرار كاملاً بصيغته التي انتهيت إليها.

أي جهد ضائع في مسألة تصورتها بديهية وظنها بعض حكامنا مشكلة المشاكل.

إن هذه الذكريات لا تتسع لنشر قرار الحفظ بأكمله، فضلاً عن أنه لا حاجة إلى ذلك ما دامت الصحف قد نشرت بالفعل الجانب الأكبر منه في صباح يوم 11 من أكتوبر 1967 لكني سأسجل في هذه الذكريات ما استخلصه القرار عن كيفية تسلسل الوقائع ثم ما سجله من واقع التحقيقات وأغفلت الصحف نشره من أقوال أفراد أسرة المشير بتوجيه من وزارة الإرشاد وكذا ما جاء في التحقيق والقرار من وقائع أخرى حساسة يتعين الإشارة إليها لوجه الحقيقة والتاريخ.

وقد استعرض القرار مراحل التحقيق من إجراء المعاينة ثم سؤال الشهود الذين عاصروا الوقائع التي توالت من بعد ظهر يوم الأربعاء 13 من سبتمبر 1967 في بيت المشير بالجيزة حتى وفاته في استراحة المريوطية قبيل غروب شمس يوم الخميس 14 من سبتمبر ومنهم الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض،

ثم سؤال أطباء مستشفى القوات المسلحة بالمعادي وعلى رأسهم قائده اللواء طبيب محمد عبدالحميد مرتجي ثم سؤال من أحاطوا بالمشير في ساعاته الأخيرة قبل وفاته باستراحة المريوطية في الساعة 6.35 من مساء يوم 14، ثم سؤال أفراد أسرة المشير، يلي ذلك التقرير الطبي الشرعي.

وأخيرًا سؤال السيد صلاح محمد نصر المدير السابق للمخابرات العامة وغيره من رجال المخابرات عن مصدر المادة السامة المستعملة في الانتحار، استعرض القرار ذلك كله ثم أورد بيانًا لتسلس الوقائع على النحو الآتي:

بما أنه يستخلص من جميع ما تقدم أنه في أعقاب النكسة التي أصابت البلاد وإعفاء المشير عبدالحكيم عامر من منصبه ثم كشف المؤامرة المسند إليه والتي استهدفت إجبار القيادة العامة على إجابة مطالب معينة وانتزاع السلطة،

استدعي المشير من منزله في يوم 25 من أغسطس 1967 إلى منزل رئيس الجمهورية حيث أفهم أن النية اتجهت إلى تحديد محل إقامته، فحاول الانتحار بمادة سامة وأسعف بالعلاج وأعيد إلى منزله.

وقد أيقن أن حريته قد تتعرض في وقت ما لمزيد من القيود فظلت فكرة الانتحار مسيطرة عليه وهيأ نفسه لتنفيذها إذا ما وصل الأمر إلى تقييد حريته بدرجة تفوق قوة تحمله.

فلما كان يوم الأربعاء 13 من سبتمبر 1967 أصدر رئيس الجمهورية أمرًا بنقل المشير من منزله إلى استراحة أعدت بالمريوطية في منطقة الهرم، ليقيم فيها منفردًا تحت الحراسة تمهيدًا للتحقيق معه في شأن ما أسند إليه.

وقد نقل وزير الحربية هذا الأمر إلى الفريق الأول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة لتنفيذه فقام ومعه الفريق عبدالمنعم رياض رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة والعميد سعد زغلول عبدالكريم قائد الشرطة العسكرية وعدد من الضباط والجنود، ووصلوا إلى منزل المشير الساعة الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم، وانضم إليهم قائد الحرس المحلي العميد محمد سعيد الماحي وقابل العميدان سعد، الماحي المشير في غرفة الاستقبال وأخطراه بأمر رئيس الجمهورية فأبى تنفيذه ودخل الفريق رياض بتكليف من القائد العام ليحاول بنفسه إقناع المشير بالإذعان للأمر لكنه أصر على الرفض، وغافل الحاضرين وتناول بقصد الانتحار مادة الأكونيتين السامة ممزوجة بقطعة من الأفيون وورقة من السلوفان للتخفيف من آلام التسمم،

وعندئذ شوهد يلوك في فمه مادة أدرك الفريق رياض والسيدة نجيبة كريمة المشير على الفور أنها مادة سامة وأنه تناولها بقصد الانتحار وصرخة السيدة نجيبة طالبة الإسراع بإسعافه،

ورأى الفريق رياض نقله من المنزل على وجه السرعة إلى المستشفى لهذا الغرض، وهدد باستعمال القوة إن لم يذعن المشير للأمر فخرج بين رجال الحرس وأفراد الأسرة، وركب سيارة ومعه الفريق عبدالمنعم رياض وبعض الضباط ومن بينهم الرائد محمد عصمت محمد مصطفى من الشرطة العسكرية وسار الجميع في طريقهم إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي وكان المشير وهو في السيارة لا يزال يلوك تلك المادة،

وقبل بعد إلحاح شديد من الفريق رياض إخراجها ولفظ من فمه في يد الرائد عصمت ثلاث ورقات بكل منها أثر لمادة الأفيون ولما وصلوا إلى المستشفى سلمها الرائد عصمت للتحليل، ثم تجمع عدد من أطباء المستشفى وعلى رأسهم قائده اللواء طبيب محمد عبدالحميد مرتجي لإسعاف المشير وألحوا عليه في عمل غسيل معدة، لكنه أبى وتمكن الأطباء بعد ذلك من إعطائه شرابًا مقيئًا وتقيأ بالفعل وتم التحفظ على هذا القيء لتحليله.

وظل المشير في المستشفى إلى أن أصر القائد العام على نقله إلى استراحة المريوطية، وخرج من المستشفى معه وصحبهما رئيس هيئة أركان الحرب وساروا في طريقهم إلى الاستراحة وعند وصولهم أثبت في سجلها أن المشير قد وصل إليها في الساعة الخامسة والنصف مساء،

وطلب المشير من الفريق أول فوزي إبلاغ رئيس الجمهورية اعتراضه على تقييد حريته على هذا النحو مبديًا أنه يعتبر عدم الرد على اعتراضه في ذات الليلة رفضًا له آثاره الخطيرة،

ثم ترك المشير في الاستراحة تحت رعاية النقيب طبيب مصطفى بيومي حسنين الذي ظل يتردد عليه طوال الليل، ولاحظ أنه كان يشكو من سعال وقيء فأعطاه عقاقير مهدئة، وفي منتصف الليل ناوله الطبيب قرصين منومين سقط أحدهما ولم يتمكن من ابتلاع الثاني بسبب استمرار حالة القيء،

ثم أعطاه الطبيب بعض عقاقير منها عقار الكورتيجين ب6 وفي الساعة العاشرة صباحًا تسليم الرائد طبيب إبراهيم علي البطاطا نوبته في الرعاية الطبية،

ولاحظ توالي القيء في الساعة العاشرة والنصف، الحادية عشر صباحًا ثم في الساعة الواحدة والساعة الثالثة مساءً مع حالة هبوط لم يتمكن بسببها من تناول حتى مجرد غذاء خفيف أو عصير، فاضطر الطبيب إلى تغذيته عن طريق الحقن في الوريد بمحلول الجلوكوز.

ولما كانت الساعة الخامسة مساءً دخل الطبيب غرفة المشير فوجده نائمًا، وبعد السادسة بقليل شعر خادم الاستراحة بالمشير يدخل دورة المياه ويتقيأ فلحق به،

وبعد أن عاد إلى فراشه سمع الخادم صوت حشرجة فاستند بالدكتور البطاطا الذي أسرع إلى المشير، وحاول عبثًا إسعافه لكنه لفظ أنفاسه بعد قليل. وأثبت وفاته بسجل الاستراحة في الساعة 6.35 مساءً.

وما أن أخطرت النيابة قبيل منتصف الليل بوفاة المشير حتى انتقلت وعاينت مكان الوفاة وفحصت الجثة فحصًا ظاهريًّا بالاشتراك مع وكيل وزارة العدل لشئون الطب الشرعي ووكيل عام المصلحة،

ووجد أسفل جدار البطن من الناحية اليسرى قطعة مستطيلة من ورق لاصق يخفي شريطًا معدنيًّا يحتوي على ثلاث فجوات بكل منها مسحوق من مادة ثبت من التقرير الطبي الشرعي والتحليل أنها مادة الأكونيتين السامة، وأن المشير توفي بسبب تناول هذه المادة ممزوجة بالأفيون منذ محاولة نقله من منزله في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الأربعاء 13 من سبتمبر.

وجاء في القرار بعد ذلك "أن أقوال الشهود وردت في شبه إجماع على أن تصرفات المشير وأقواله

– بالتصريح أحيانًا وبالتلميح أحيانًا أخرى – كانت تنبئ عن أن فكرة الانتحار كان تراوده وبالأخص عندما يهدد بتقييد حريته فحاول الانتحار يوم 25من أغسطس عندما طلب إلى مقابلة رئيس الجمهورية وفهم أن النيبة قد اتجهت إلى اعتقاله،

وظلت هذه الفكرة مسيطرة عليه حتى إذا ما تيقن في يوم الأربعاء 13 من سبتمبر أن الأمر قد صدر باعتقاله منفردًا في غير منزله أقدم على ما استقر عليه عزمه بقصد الحيلولة دون اعتقاله وما يتصل بذلك من تحقيق فيما أسند إليه من تهم بالغة الخطورة".

وساق القرار بعد ذلك ما ورد في أقوال الشهود من رجال القوات المسلحة، وعلى رأسهم القائد العام ورئيس هيئة أركان الحرب وأقوال الأطباء الذين تولوا إسعافه والذين تولوا رعايته الطبية في المستشفى،

ومحصلها أن المشير ضاق بالاجراءات التي اتخذت ضده من تقييد حريته واعتقاله بعيدًا عن أفراد أسرته وأنه انتوى من أجل ذلك التخلص من حياته وأنه سبقت هذه المحاولة محاولة أخرى يوم 25 من أغسطس،

وأنه كان يكرر النظر في ساعته كمن يترقب حدوث أمر بعد فترة ويقول أن الأمر لن يستغرق أكثر من دقائق كما كان يقاوم المحاولات التي تبذل لإسعافه ويبدي استياءه مما يقال عن زوال الخطر على حياته، طلب إبلاغ احتجاجه إلى رئيس الجمهورية وصرح بعزمه على التخلص من حياته إن لم تصله إجابة على هذا الاحتجاج،

وأنه كان كثير التحدث عن مادة السيانور وأثرها – هذا إلى ما شهد به صهره الرائد طيار حسين عبدالناصر من أنه سبق أن حاول الانتحار يوم 25 من أغسطس حين فهم أن النية قد اتجهت إلى تقييد حريته.

وجاء في القرار بعد ذلك "أن التقرير الطبي الشرعي قطع بما أورده من شواهد علمية وواقعية بامتزاج سم الأكونيتين الذي وجد قدر غير قليل منه مخبأ على جسد المشير بقطعة الأفيون التي ثبت بشهادة ابنته السيدة نجيبة وعدد من الضباط أنه غافل حراسه ودسها في فمه ثم أخذ يلوكها إلى أن لفظها من فمه بناء على أمر الفريق رياض .

– وأنه ثبت من هذا التقرير كذلك أن الشريط اللاصق المخفي لمادة الأكونيتين السامة والمخبأ في وضع دقيق من جسم المشير قد تكرر نزعه وتثبيته حتى فقد معظم خواصه اللاصقة، بما يصلح تفسيرًا لمحاولة الانتحار أكثر من مرة

– وأن ابنة المشير ذاتها إذ رأته يلوك تلك المادة في فمه لم تفتها دلالة ذلك وصرخت طالبة الإسراع بنقله إلى المستشفى انقاذًا لحياته من السم الذي تناوله.

وأوضح التقرير الطبي الشرعي أن استمرار أعراض القيء يومي 13و14 على ما قرر الأطباء يحتمل معه أن تكون وفاة المشير قد حدثت نتيجة تسمم من مادة الأكونيتين التي تناولها في منزله ممزوجة بالأفيون يوم 13، وهي مادة ثبت علميًّا أن أثرها قد يكون فوريًّا وقد يتراخى إلى أكثر من 18 ساعة وأن هناك احتمالاً آخر في أن يكون المشير قد استبطأ مفعوم السم فتعجل النهاية وأخذ قدرًا آخر منه عندما دخل الأخير تفسير لحالة الانهيار المفاجئ التي أصيب بها وانتهت بوفاته

– وربط التقرير الطبي بين ما أثبته فحص أوراق السلوفان التي لفظها المشير في السيارة من احتوائها على أجزاء من أوراق مفضضة لامعة بها آثار مضغ وبين ما هو ثابت من وجود مسحوق الأكونيتين معبأ في جزء من شريط معدني مفضض لامع ومخبأ على جسم المشير بورق لاصق،

مستخلصًا من هذا الارتباط أن المشير تناول في منزله قدرًا من مادة الأكونيتين الموضوعة في الشريط المعدني المفضض، مع احتمال أن يكون هذا القدر هو الذي تسبب وحده في حدوث الوفاة واحتمال أن يكون قد ساعد عليها وعجل بها قدر آخر منها تناوله قبيل وفاته في الاستراحة.

وفيما يختص بمصدر المادة السامة جاء في القرار أنه "تبين من أقوال الشعود من رجال إدارة المخابرات العامة،

ومن فحص سجلات هذه الإدارة أن السيد صلاح محمد نصر المدير السابق لها قد تسلم في العاشر من إبريل 1967 ستمائة ملليجرام من مادة الأكونيتين السامة معبأة بمقادير متساوية في ست فجوات من المعدة أصلاً لوضع حبات الريتالين في الأوراق المعدنية الخاصة،

ولم ينف صلاح نصر واقعة طلبه مادة سامة وقرر أنه إنما طلب في تاريخ لا يذكره، مادة سيانور أوسيانيد البوتاسيوم وأنه تسلم مادة سامة لم يتحقق من نوعها وجهل مصيرها بقوله إنه وضعها في مكتبه وظلت فيه بحالتها إلى أن مرض يوم 13 من يوليو وانتقل من مكتبه في يوم 23 منه إلى احدى الاستراحات حتى أعفي من منصبه في يوم 26 منه دون أن يدري شيئًا عن مصير المادة التي تركها في مكتبه – وقد ضبط الباقي من هذه المادة،

وتبين أنه يزن 3.9672 جرامًا وثبت من التحليل أنه من مادة الأكونيتين التي ظن السيد صلاح نصر أنها مادة سيانور أوسيانيد البوتاسيوم وقد ضبطت بإدارة المخابرات مع تلك المادة ورقات معدنية من المعدة لوضع حبات الريتالين وثبت من التقرير الطبي الشرعي والصور الشمسية أن احدى هذه الورقات تكمل الورقة المضبوطة على جثمان المشير وبها مادة الأكونيتين، وبذا تحقق أن المشير حصل على المادة السامة التي انتحر بها من إدارة المخابرات".

ولنعد الآن إلى الشكوك التي أثارها أفراد أسرة المشير والتي ثارت السلطات الحاكمة لإثباتها في التحقيق والإشارة إليها في القرار فقد قررت السيدة نجيبة عبدالحكيم عامر صراحة أنها تنفي فكرة الانتحار وتعتقد "مائة في المائة أنه أعطي المادة السامة بقصد قتله" وأن والدها لم يغادر غرفة الاستقبال منذ حضور رجال القوة إلى منزله،

ولم تكن لديه فرصة لإخفاء المادة السامة على جسمه بالشريط اللاصق، وأنه لو كان هو الذي فعل لما كان هناك محل لأن يعيد لصقها بعد أن تناول قدرًا منها بقصد الانتحار، ولو أنه انتوى الانتحار حقًّا لكانت الفرص متاحة له في منزله وبين ذويه،

وأضافت الشاهدة أنه كان من المتعين على رجال القوة تفتيشه ليبعدوا عن متناول يديه ما يصح أن يكون أداة للانتحار، وأن من يقيدون حرية شخص ويضعونه تحت حراستهم يكونون مسئولين عن حياته،

وأنه مما ريب أنهم لم يبلغوا بالوفاة إلا في السادسة من صباح اليوم التالي – وقررت السيدة آمال عبدالحكيم عامر أن والدها كان مؤمنًا بالله مستعدًا للتحمل والكفاح وهي صفات تتنافى مع قصد الانتحار،

وأن وجوده في منزله أو في الاستراحة مقيدًا لحريته ينفي إمكان حصوله على المادة السامة وأنه لو قصد الانتحار لكانت الفرصة متاحة له وهو في منزله،

وأنه مما يتنافى مع المنطق أن يعيد إخفاء المادة السامة بلصقها على جسمه بعد أن أدت الغرض منها بتناولها، كما أنه من غير المقبول عقلاً أن تظل هذه المادة ملتصقة على جسمه وهو معتا الاستحمام يوميًّا، وأضافت أن من يتولون حراسته هم المسئولون عن وفاته بالسم أيًّا كانت طريقة تناوله،

وأضاف السيد محمد أمين عزب زوج السيدة نجيبة إلى ذلك أنه كان من الواجب اتخاذ الاجراءات الكفيلة بمنع المشير من الانتحار ما دام قد صرح باعتزامه ذلك.


وبعد أن أشار القرار إلى هذه الأقوال رد عليها بقوله "إن هذه الشبهات فوق أنها مردودة بما سبقت الإشارة إليه من أدلة قاطعة بوقوع الحادث انتحارًا فإنها لا تعدو أن تكون ظنونًا ليس من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة التي تصورتها ابنتا المشير.

إذ الواضح أن أقوالهما صدرت عن عاطفة الأبوة من جهة، وبفعل الصدمة التي تعرضتا لها بوفاة والدهما في ظروف أليمة من جهة أخرى، فحرصتا على أن تصفاه بالإيمان والشجاعة وأن تنفيا عنه التهرب من المسئولية،

كما أنه من الطبيعي بالنسبة لم تلح عليه فكرة الانتحار من مدة سابقة ويتوقع في كل حين التعرض لمزيد من اجراءات تقييد حريته- كشأن المشير- أن يهيئ نفسه لتنفيذ فكرة عندما يتحقق موجبها، وذلك بإخفاء مادة سامة تكون في متناول يده في غفلة من أقرب المقربين إليه،

وليس أقطع في مطابقة ذلك للواقع مما صارح به المشير صهره الرائد طيار حسين عبدالناصر من محاولته السابقة للانتحار في يوم 25 من أغسطس عندما استدعى إلى خارج منزله وعلم باتجاه النية إلى اعتقاله، وهو ذات المسلك الذي سلكه لأسباب وفي ظروف مماثلة في يوم 13 من سبتمبر،

وهوما يفسر ما دل عليه فحص الشريط اللاصق المخفي للمادة السامة على جسده من استقراره في موضعه زمنًا تكرر خلاله نزعه وإعادة تثبيته.

وبعد فإنه لا غرابة في حرص المشير على الاحتفاظ بباقي المادة السامة بعد تناول قدر منها ما دامت فكرة الانتحار مسيطرة عليه وذلك لمعاودة استخدام هذه المادة إن لم تؤت المحاولة ثمرتها المرجوة لإسعافه بالعلاج أو لغير ذلك من الأسباب وأخيرًا فإنه مما يدحض ما أثارته كريمتا المشير من شبهات،

وينطق بصحة ما دلت عليه ظروف الحال وتسلسل الوقائع وتصرفات المشير وأقواله، وماديات الحادث والفحص الطبي الشرعي الشامل وتقارير التحليل من وقوع الحادث انتحارًا ما أقرت به السيدة نجيبة ذاتها من أنها كانت أول من اتجه اعتقاده إلى أن المادة التي رأتها في فم والدها قبل مبارحته المنزل كانت مادة سامة مما اقتضاها أن تهيب بالآخرين لسرعة إسعافه.

وهذا هو ما جاء في التقرير ردًّا على اتهامات أسرة المشير.

ولا جدال إذن في أن المشير مات منتحرًا ولا جدال في أن ابنتيه كانتا على غير حق في تصوير الحادث على أنه قتل عمد، لكنهما كانتا من جهة أخرى ولا ريب، على حق فيما أسندتاه إلى السلطات من إهمال وإجراءات أثارت ريبتهما،

وفيما قررتاه من أن السلطات التي تتولى تقييد حرية شخص تكون مسئولة عن وفاته حتى ولو مات منتحرًا، فمن غير المفهوم أن يحاول المشير الانتحار يوم 25 من أغسطس وتدل ظروف الحال وأقواله وتصرفاته يوم 13 من سبتمبر على أنه أعاد هذه المحاولة بالطريقة نفسها، من غير المفهوم بعد ذلك كله ألا تكون حراسته دقيقة على نحو يمنع تكرار المحاولة، وألا يفتش جسمه حتى ينتزع منه ذلك السم الذي وجد بعد وفاته ملتصقًا به،

ومن غير المفهوم أيضًا أن يصمم الفريق أول فوزي على اقتياد المشير من مستشفى القوات المسلحة إلى استراحة المريوطية على الرغم من استمرار القيء ورفضه إجراء غسيل معدة، وعلى الرغم من اعتراض قائد المستشفى الدكتور مرتجي على نقله على ما قرره في التحقيق.

وكان ذلك كله عجيبًا وكانت إجابة القائد العام أعجب، عندما استوضحته في التحقيق هذه الأمور فقرر فيما يختص بعدم تفتيش شخص المشير "أنني لم يخطر في بالي أن أفتشه للبحث عن مادة سامة واكتفيت بتعمد الالتصاق بجسمه من الخارج للتحقق من أنه لم يكن يحمل سلاحًا ناريًّا أو جسمًا صلبًا" كان الأمر انتحار بالرصاص أو السكين لا أمر انتحار بالسم

– وقرر فيما يختص بالحراسة التي تمنعه من الانتحار أن الهدف من الحراسة لم يكن منعه من الانتحار "بل تحديد الإقامة الفردية في مكان خلاف منزله".

وقرر فيما يختص بإصراره على نقل المشير من المستشفى إلى الاستراحة أنه بحسب تقديره "خرج من المستشفى طبيعيًّا وعلى قدميه".

أليست هذه إجابة عجيبة، وهلا يفسر قول القائد العام أن الغرض من الحراسة لم يكن منع المشير من الانتحار، هلا يفسر هذا القول بأنه لم يكن لدى السلطات مانع من انتحاره إن لم يفسر بأنها ترحب بهذا الانتحار.

وثم اجراء آخر آثار ريبة ذوي المشير وريبة الرأي العام فإن الوفاة كما أثبتت في سجل استراحة المريوطية حدثت في الساعة 6.35 من مساء يوم 14سبتمبر ولم تبلغ النيابة إلا في الساعة 10.45 مساءً ونقلت الجثة بعد تشريحها إلى أسطال ودفنت فيها بغير حضور أحد من ذويه الذين لم يخطروا بالوفاة إلا في الساعة السادس من صباح اليوم التالي.

على أن هناك نقطة أخيرة لا يكتمل التعليق دون الإشارة إليها وهي ما جاء في التقرير الطبي الشرعي وسلفت الإشارة إليه من قيام احتمال في أن يكون المشير قد تناول قبيل وفاته وفي استراحة المريوطية قدرًا آخر من مادة الأكونيتين عجل بوفاته، إن هذا الاحتمال يفتح الباب لاحتمال آخر لا يصل إلى حد الاستراحة،

وهو أن يكون أحد خدم الاستراحة قد دس له في الشراب قدرًا من الأكونيتين عجل بوفاته، ولكنه على أي حال مجرد احتمال أو افتراض لا دليل عليه فضلاً عن أنه يتنافى تمامًا مع تسلسل الحوادث مع الأدلة والقرائن التي سبق سردها،

والتي تدل على أن الحادث قد وقع انتحارًا، الأمر الذي يرجح أنه حتى مع افتراض أن القدر الذي تناوله المشير مع المادة السامة في بيته لم يكن هو المسئول وحده عن وفاته، إنه عجل بهذه الوفاة قدر آخر تناوله قبيل وفاته، حتى مع افتراض ذلك فإن ظروف الحال كما سبق تدل على أن المشير هو الذي تناول بنفسه وبمحض إرادته هذا القدر الأخير.

مظاهرات يناير 1968

ولنسر بعد ذلك مع الأيام حتى نصل إلى شهر يناير 1968 حين صدر حكم المجلس العسكري ضد رجال الطيران وعلى رأسهم قائد السلاح السابق الفريق صدقي محمود وأدرك الشعب بوعيه واحساسه المرهف أن المحاكمة لم يقصد بها في واقع الأمر سوى امتصاص غضب الجماهير والإلقاء بمسئولية الكارثة بأكملها على عدد محدود من ضباط الطيران وإبعادها عن المسئولين الحقيقيين الذين زجوا بالبلاد في حرب لم يعدوها إعدادًا جديًّا، كما أدرك أنه إن صحت مسئولية رجال الطيران وكان اتهامهم جديًّا لاقتضى ذلك الاطاحة بالرؤوس وعدم الاكتفاء بعقوبة الأشغال الشاقة.

وقد سجلت تحقيقات المحضر رقم 167/1968 إداري حلوان أنه وصل إلى علم السلطات أن عمال مصانع الطائرات بحلوان اعتزموا الخروج يوم 21 من نوفمبر 1968 في مظاهرة للاحتجاج على تلك الأحكام،

فعقد اجتماع في اليوم السابق ضم مع آخرين السيد عبداللطيف مليجي بلطية عضو مجلس الأمة والمسئول السياسي لمنطقة جنوب القاهرة بالإتحاد الاشتراكي، السيد عبدالمجيد فريد أمين الاتحاد بمحافظة القاهرة، وتداول المجتمعون في الأمر وانتهوا إلى تكليف السيدين محمد حلمي أمين المكتب التنفيذي لقسم حلوان ومحمد وهدان عضو المكتب بالحضور في صباح يوم 21 إلى مقر المكتب التنفيذي

والعمل على منع خروج المظاهرة إن أمكن أو في القليل السيطرة عليها لامتصاص غضب المتظاهرين وتوجيههم وجهة غير عدائية للحكومة وفي صباح ذلك اليوم تجمع عمال مصنع 36 وانضم إليهم عمال المصنعين 135، 360 وأخذوا يرددون نداءات تعبر عن عدم الرضا بالأحكام الصادرة فيما سمي قضية الطيران، وأصر المجتمعون على الخروج في مظاهرة،

وعلم بذلك أمين وعضو المكتب التنفيذي وبأن وجهة المظاهرة سوف تكون مجلس الأمة ومنزل رئيس الجمهورية، فاتصلا وغيرهم من رجال الإتحاد الاشتراكي بزعماء المظاهرة، وحاولوا إقناعهم بالتوجه إلى مكتب الإتحاد الاشتراكي بحلوان لإعلان ما يريدون من قرارات وأثناء المظاهرة وعند وصولها إلى قسم الشرطة تصدى لها مأمور القسم – بناء على أوامر من رؤسائه

– مع بعض الجنود بالعصي وبعض رجال المطافئ بخراطيم المياه، وأخذ المتظاهرون يلقون بالطوب والأحجار وأطلقت أعيرة نارية وأصيب عدد من الفريقين وقبض على بعض المتظاهرين.

واندلعت المظاهرات أيام 25 و 26 و 27 من فبراير في دوائر أقسام الوايلي ومصر الجديدة والظاهر وباب الشعرية والأزبكية وقصر النيل عابدين والسيدة والجيزة،

واشترك فيها آلاف من طلبة جامعتي القاهرة وعين شمس والمدارس الثانوية وآلاف من العمال وغيرهم، وكانت حصيلتها قتل الترزي محمد مصطفى فؤاد يوسف والعامل سيد أحمد عبدالحميد دياب وإصابة 77 من الأهالي منهم 12 بإصابات نارية من رصاص 24 بإصابة نارية من رش،

41 بإصابات رضية من عصي، كما أصيب 146 من رجال الشرطة بإصابات رضية وأتلف عدد من السيارات وبعض المباني، وسجلت تحقيقات المحضر رقم 6/1968 حصر تحقيق والتحقيقات المنضمة إليه أنه ترددت في المظاهرات هتافات تعبيرًا عن السخط العام، كان منها على سبيل المثال:

"وديتوا فين فلوسنا لما اليهود تدوسنا"، "هيكل هيكل يا كداب بطل كب يا نصاب"، "البلد دي بلدنا وإللي ماتوا إولادنا"، "لا انتهازية ولا رجعية يا جمال الشعب ساخط على الأحكام"، "تسقط دولة المخابرات"،

"تسقط دولة العسكريين" وكان طلبة كلية هندسة جامعة القاهرة يحملون لافتات كتب عليها عبارات منها "يجب انهاء تحكم المباحث والمخابرات"، "تسقط دولة المباحث"، "القضية ليست قضية الطيران بل قضية الحريات"،

"تسقط صحافة هيكل الكاذبة"، "لا حياة مع الإرهاب ولا علم بلا حرية"، "أطلقوا الحريات – أفرجوا عنا – حرية الكلمة من أجل الشعب – يسقط الظلم"، "نحن معتصمون حتى تجاب مطالبنا".

أما هذه المطالب فقد وزع بها منشور جاء فيه "أن الحرية تؤخذ ولا تعطى وأن المقاومة السلبية هي الطريق الوحيد لستمع أصواتنا ولإجبار السلطة على احترام الحريات" وحدد المنشور الطلبات على النحو الآتي: "الإفراج عن جميع الطلبة المعتقلين – حرية الرأي والصحافة

– مجلس نيابي حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة – إبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات – إصدار قانون الحريات والعمل به – توضيح حقيقة المسئولين في قضية الطيران – التحقيق في انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة".

وقبض رجال الشرطة على 635 شخصًا من الطلبة والعمال في مدينة القاهرة.

أما في مدينة الأسكندرية فقد عقد ظهر يوم 24 من فبراير بمبنى كلية الصيدلة مؤتمر حضره قرابة خمسمائة طالب، وتحدث المجتمعون في موضوع الأحكام الصادرة في قضية الطيران وعدم تناسبها مع جسامة الضرر الذي حل بالقوات الجوية وبالبلاد،

وتطرق الحديث إلى تساؤل الحاضرين عما جرى ولا زال يجري في البلاد من فساد وإهمال وكبت للحريات مع قيام قوانين استثنائية وعدم مصارحة الرأي العام بالحقائق.

ولم يقدم أحد إجابة شافية عن هذه التساؤلات وقرر الحاضرون الاتصال بمدير الجامعة فحضر إلى مبنى الكلية حوالي الساعة الثانية مساء ومعه السادة:

عبدالحليم الأعسر وفؤاد البشبيشي وسعد الوكيل أعضاء المكتب التنفيذ للاتحاد الاشتراكي بمحافظة الأسكندرية وبهاء الدين الجبيلي أمين الشباب بها، واسترسل الطلبة في مناقشاتهم وتساؤلاتهم على النحو الذي جرى من قبل،

ووجهوا إلى مدير الجامعة ومن صاحبوه عديدًا من الأسئلة لم يستطيعوا الإجابة عنها، واستمهلوا الطلبة إلى حين الاتصال بمستويات أعلا –

وقرابة الساعة الثامنة مساءً فض المؤتمر بعد أن اتخذ التوصيات الآتية:

أولاً: أن نتيجة محاكمة المسئولين عن كارثة الطيران تعطي انطباعًا بأن المتهمين المقدمين إلى المحاكمة لم يكونوا هم المسئولين الحقيقيين عما حدث فمن هم هؤلاء المسئولون الحيقيون، وأين هو العقاب الرادع الذي يتناسب مع ما حدث.

ثانيًا: اعطاء صلاحية لتنظيم سياسي فعال يكون الرادع للانحرافات ولمراكز السلطة وإعادة النظر في تنظيمات الشباب تنظيمًا وتكوينًا.

ثالثًا: بالنسبة لأحداث حلوان، المطالبة بمعرفة المسئول الذي أصدر الأمر بإطلاق الرصاص على المواطنين الذين خرجوا يطالبون بحقهم وحريتهم ويستنكرون نتائج محاكمة هزلية وتوقيع أقصى عقوبة على هذا المسئول.

رابعًا: ضمان حرية الصحافة وحرية النقد البناء وابداء كل رأي حر حتى تصل للشعب الأخبار الصحيحة عما يحدث في البلد وعدم تكرار نشر الأخبار المضللة التي لا تؤدي إلا إلى الشك في كل شيء.

خامسًا: لما كانت الثقة بين القاعدة الشعبية والمسئول السياسي هي الضمان لنجاح أي عمل سياسي، ولما كانت هذه الثقة معدومة بين جماهير الأسكندرية وبين الليثي عبد الناصر، فإن أعضاء المؤتمر يطلبون تنحيته وتغيير القيادات السياسية التي فقدت الجماهير ثقتها فيها.

سادسًا: بالنسبة للتفرغ السياسي فإن حصول المتفرغ على مقابل مادي للعمل السياسي خلق فئات من المرتزقة يكون ولاءهم لمن عينهم لا للمبدأ.

سابعًا: يصر المؤتمر على أن تخرج توصياته من الجامعة رأسًا إلى رئاسة الجمهورية دون وساطة أي مسئول سياسي.

ثامنًا: بالنسبة لتدخل المباحث العامة في حرية الجماهير، يتساءل أعضاء المؤتمر كيف ينتج الفرد وهو مراقب، وكيف يعبر الفرد عن آرائه وهو مراقب وخاصة بالنسبة لطلبة الجامعات وأعضاء منظمة الشباب، كما يتساءل المؤتمر عن سبب أسئلة المباحث العامة عن بعض أساتذة الكلية.

تاسعًا: اتفق أعضاء المؤتمر على أن يعقدوا مؤتمرًا آخر لمتابعة هذه التوصيات ووافق مدير الجامعة على حضور المؤتمر القادم وحدد له الساعة السادسة من مساء السبت الموافق 2 مارس 1968.

وسئل في التحقيق الذي جرى في هذا الشأن كل من الدكتور محمد رشاد إبراهيم صالح ووكيل كلية الصيدلة، الدكتور عبدالرحيم محمد أحمد غزال الأستاذ بالكلية، الدكتور حسين أحمد محمد الشبيني الأستاذ المساعد، والمعيدين محمد إسماعيل حامد، عبدالعظيم مصطفى حبيب فأكدوا جميعًا أن فكرة عقد المؤتمر نشأت تلقائية بين طلبة الكلية، وأن التوصيات التي صدرت عنه تمثل بدقة حصيلة المناقشات التي دارت فيه وتعبر تعبيرًا صحيحًا عن آراء الطلبة.

وأكد ذلك أيضًا المقدم حسن عبدالفتاح البشبيشي رئيس حرس الجامعة.

وفي مساء اليوم ذاته – 24 من فبراير – سار طلبة المدينة الجامعية بمظاهرة التعبير عن استيائهم من أحكام قضية الطيران.

وصدر القرار بإغلاق الجامعات

وفي يوم 26 من فبراير قام طلبة الجامعة بمظاهرات في أنحاء مختلفة من مدينة الأسكندرية ثم تجمعوا أمام مبنى إدارة الجامعة بالشاطبي – كذا قامت مظاهرة في المدينة الجامعية، وقد ررد المتظاهرون الهتافات الآتية:

"شعراوي يا سفاح، لم كلابك يا شعراوي – صوت الطلبة صوت الشعب – يا ليثي قول لأخوك اعدمهم يريحوك – شعراوي يا جبان راحوا فين شهداء حلوان الإعدام للخونة، قفلتم الجامعة ليه هم الطلبة عملوا آيه

– تسقط التنظيمات السياسية – تسقط دولة المخابرات

– تسقط دولة المكاتب – نطالب بسيادة القانون".

واصطدم رجال الشرطة بالطلبة المتظاهرين وأصيب خمسة من الطلبة، قائد سيارة، 12 من رجال الشرطة بإصابات رضية.

وقبض رجال الشرطة على 57 شخصًا من بينهم 12 طالبًا.

وأعد بعض طلبة كليتي الصيدلة والهندسة، منشورًا في يوم 26 من فبراير لكنهم عدلوا على توزيعه وأحرقوه في اليوم التالي

– وجاء في المنشور

– أخذًا من إقرار أحد محرريه

– ما يأتي: "أيها الأخ المصري.

لقد اجتازت البلاد فترة عصيبة من الفساد وتلا ذلك حكم لا يقوم إلا على المصلحة الفردية وها أنت يا أخي على دراية تامة بالأحداث التي تمر بها البلاد، وإن كنت يا أخي ترضى بأن يكون مصير كل حر جدران المعتقلات فلن ترفع مصر رأسها بعد اليوم

– إننا نحن طلبة الجامعات نطلب منك أن ترفع صوتك بجانبنا إذا كنت أحد الذين تضمهم جدران المعتقلات لأنني أطالب:

1-بإعدام كل من أصدر الأمر بإطلاق النار على شهداء حلوان.

2-بإعدام كل من أصدر الأمر باعتقال الطلبة.

3-أن تترك الحكومة الفلاحين والعمال يأكلون لقمة العيش بقدر ما يعطون للأرض والعمل من عرقهم.

4-أن يكون هناك رجل في سلك الصحافة يكتب بالأمانة التي لا يستحقها أي فرد موجود الآن.

5-أن يعاد التنظيم السياسي لإخلائه من المرتزقة وحل الاتحاد الاشتراكي كجهاز فاشل.

6-أن يطلق سراح المعتقلين.

انتهى المنشور..

وقد جاء في التحقيقات وتحريات الشرطة أن يدًا أجنبية لم تكن وراء هذه الاجتماعات أو المظاهرات أو المنشورات.

وأنت إذا جمعت ما جاء في هذه المنشورات والمظاهرات والقرارات والتوصيات لوجدت أنها كانت تعبر تعبيرًا صادقًا عما كان يعمل في صدور المواطنين جميعًا وما ننادى به اليوم حكومة وشعبًا، فقد لمست بصدق وإخلاص في عبارات بريئة كل العيوب التي أدت إلى النكسة، من فساد وانحراف، وحكم عسكري بوليسي يتولاه رجال المخابرات والمباحث العامة،

ومن كبت للحريات ومصادرة للرأي وزج بالأبرياء في المعتقلات، وقوانين استثنائية ظالمة تتنافى مع الحريات وبيانات رسمية كاذبة وصحافة مضللة، وسوء حال الفلاحين والعمال،

وفساد الإتحاد الاشتراكي كتنظيم سياسي وسيطرة النفعيين وحصولهم على الرواتب الطائلة بحجة التفرغ، وانعدام الثقة بين الجماهير والحكام، ومحاكمات صورية لا يثق بها أحد بل أجريت لتغطية المسئولين الحقيقيين، وحياة نيابية صورية هي أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، وغير ذلك.

وتوالى صدور المنشورات بعبارات تحمل المعاني السابقة الذكر – وعلى سبيل المثال ضبط في يوم 29 من فبراير (المحضر قم 164/1968 حصر أمن الدولة) منشور حرره طلبة المعاهد العليا حقوق "البيان الأول"

خاطب جماهير الشعب بقوله إن القائمين على الحكم فيهم كثير من الصوليين والانتهازيين وأن الأنظمة السياسية في الدولة فسدت وأنه يجب على الجماهير رفع الأصوات الثائرة لبناء جهاز سياسي ديمقراطي قوي، والمطالبة بالحرية والجدية في التطبيق الاشتراكي وتطهير الثورة من النفعيين.

وضبط في 9 من مارس منشور آخر (المحضر رقم 178/1968 حصر أمن الدولة) حرره طلبة جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر، يطالب بتنحية وزير الداخلية والوزراء العسكريين وإسقاط عضوية المنحرفين من أعضاء مجلس الأمة وإطلاق الحريات وإعادة التحقيق في أسباب النكسة وحوادث حلوان، مع اجراء محاكمات علنية – وغير ذلك كثير لا محل لذكره ما دام يردد نفس المعاني السابقة.

وقد قامت مظاهرات أخرى في بلاد الوجهين البحري والقبلي تحمل الطابع نفسه وتردد مثل الهتافات السابقة.

ومن طريق ما يذكر في هذا الموضع أن الرئيس جمال عبدالناصر تساءل في احدى جلسات مجلس الوزراء على الروح التي سادت هذه المظاهرات وعن الهتافات التي رددت فيها،

فسارع السيد شعراوي جمعة وزير الداخلية إلى القول أن المظاهرات كانت تسودها الروح الموالية للحكومة، وأن الهتافات كانت تسبح بحمد رئيس الجمهورية ووزرائه ونظام الحكم – ولم يتمالك الأستاذ عصام حسونة وزير العدل نفسه ازاء هذا التبجح فتساءل إلى متى يغرر الوزراء برئيس الجمهورية ويخدعونه عن الواقع، وقال إن المصلحة تقتضي مصارحته بحقيقة ما حصل، وتلا من مذكرة كنت قد حررتها بناء على طلبه نماذج من الهتافات التي رددت

– وبدا الامتقاع على وجه وزير الداخلية، ولا أدري أي انطباع تركته هذه العبارات في نفس الرئيس، ولكن ما حصل بعد ذلك هو اعفاء وزير العدل من منصبه في أول تعديل وزاري وحلول الأستاذ محمد أبو نصير محله.

وأعود بعد هذا الاستطراد

– إلى حديث المظاهرات فقد أصدرت أمري إلى النيابات المختلفة بالإفراج عن جميع المقبوض عليهم فيها،

سواء ما حدث منها في القاهرة أو الأسكندرية أو الأقاليم

– وليس هنا في الذكريات موضع الدفاع المفصل عن هذا التصرف،

وأكتفي بالقول إن قرار الإفراج كان محتومًا إذا نظر إليه من الوجهة القضائية البحتة، فقد تبين من التحقيق أن المقبوض عليهم كانوا يجمعون من الطرقات والمتاجر بل ومن المنازل لمجرد الإيهام بأن عددًا من المتظاهرين قد أمكن ضبطهم،

وفوجئ أعضاء النيابة بأكداس من الطلبة والعمال وغيرهم من المواطنين يقدمون إليهم كمتهمين دون أن يدري أحد من رجال الشرطة بإقرارهم في التحقيق

– شيئًا عن أوقات أو أمكنة أو ظروف ضبطهم، بل لم يستطع أي من رجال الشرطة الشهادة بأن المتهمين أو بعضهم ضبط أثناء التظاهر أو الهتاف أو التعدي أو في أي ظرف يقوم دليلاً على مسئوليته عما وقع

– ولم يكن يسع النيابة ازاء هذا التجهيل إلا الأخذ بدفاع المتهمين القائم على أنهم لم يسهموا في المظاهرات وأنهم ضبطوا في منازلهم أو أثناء سيرهم في الطرقات أو وجودهم في بعض المتاجر والأماكن العامة

– هذا إلى أن الكثرة من المقبوض عليهم كانوا من الطلبة صغار السن، كما أن ظروف التظاهر والدوافع إليه من التنفيس عن الألم الذي حز في النفوس من جراء النكبة مع عدم ظهور أية بادرة جديدة لإصلاح أسلوب الحكم الذي أدى إليها، كل هذه كانت مبررات كافية للإفراج حتى بفرض ثبوت التهم المسندة إلى المقبول عليهم.

وقد واجهت كالعادة بسبب قرار الإفراج هذه حملة عنيفة شنتها علي السلطات وعلى رأسها وزير الداخلية، واتهمني بأنني أشجع التظاهر والفوضى وتحدى الوزير قرار الإفراج إذ أمر بزج عدد كبير من الطلبة المفرج عنهم في المعتقلات ولم يتورع بعد ذلك عن أن ينتحل لنفسه وللحكومة فخر الإفراج وأن يصر بذلك أمام أعضاء مجلس الأمة وأن يقول

– وكان صادقًا في هذا الخصوص – أن قرار الإفراج قد عمل على تهدئة النفوس الثائرة، والظاهر أن وزير الداخلية – وقد أدرك بعد أيام قليلة من ثورته أن قرار الإفراج كان حكيمًا حتى من الوجهة السياسية – قد هدأ من ثورته علي وفاخر بقرار الإفراج ونسبه إلى نفسه وإلى حكومته.

على أن الأمر العجيب حقًّا أن تفاخر وزير الداخلية بقرار الإفراج لم يمنعه من ابقاء عدد من الطلبة المفرج عنهم في المعتقلات والسجون،

ولم أكن أدري شيئًا عن ذلك إلى أن حدثني الدكتور حلمي مراد مدير جامعة عين شمس آنذاك تليفونيًّا متسائلاً عن السبب في بقاء بعض أبنائه من الطلبة مقبوضًا عليهم وأكدت له أن أحدًا لم يقبض عليه بأمر النيابة العامة في أي من حوادث التظاهر سواء في القاهرة أو الأسكندرية أو الأقاليم وسواء من الطلبة أو العمال أو غيرهم وأبدى مدير الجامعة دهشته لهذه الإجابة وسألني عما إذا كان من الممكن تسجيلها كتابة،

وبعث إلي بخطاب في هذا الشأن أجبت عنه بالمعنى السابق. وانكشف أمر وزير الداخلية وتبين للكافة أن الطلبة قد أودعوا المعتقلات بأوامر اعتقال صدرت بناء على طلب الوزير لا بأوامر حبس من النيابة العامة.

وكانت ثورة وحلقة أخرى من حلقات الصدام بيني وبين وزير الداخلية.

معتقلون بغير أوامر اعتقال

على أن اهداء الحريات لم يقف عند تحدي أوامر الإفراج الصادرة من النيابة العامة بأوامر اعتقال مضادة، بل وصل الأمر إلى اعتقال المواطنين بغير أوامر اعتقال، ووصلت الفوضى إلى ابقاء البعض في المعتقلات شهورًا طويلة بعد صدور قرارات جمهورية بالافراج عنهم.

وكان ذلك سببًا جديدًا لصدام أعنف بيني وبين وزير الداخلية. وكان صدامًا مباشرًا وموجهًا في حديث عاصف جرى بيننا في مقابلة تمت في مكتب الأستاذ محمد أبو نصير وزير العدل الذي كان قد حل أخيرًا بالوزارة.

وإليك ما حصل:

في شهري يناير وفبراير 1968 وفي الوقت الذي انطلقت فيه المنشورات والمظاهرات تطالب بحرية الرأي والإفراج عن المعتقلين وسيادة القانون والغاء القوانين الاستثنائية، انهالت على النيابة العامة البلاغات عن وقائع تعذيب حدثت في السجون والمعتقلات، وكان بعض هذه البلاغات مقدمًا من المسجونين والمعتقلين وبعضها مقدم من ذويهم.

وجاء في جانب منها أن بعض الأشخاص قد قيدت حريتهم دون أوامر اعتقال أو أحكام أو أوامر قضائية، وكلفت النيابات المختصة بتفتيش السجون والليمانات التي تقع في دوائر اختصاصها والاستماع إلى شكاوى المسجونين وتحقيق ما يبلغون به من وقائع تعذيب،

وكذا ما يقال من وجود بعض أشخاص في السجون على خلاف القانون، ونما إلى بعض المسئولين في وزارة الداخلية ما أمرت باتخاذه من اجراءات ودرءًا لمسئوليتهم حرر اللواء صلاح مجاهد مدير مصلحة الأمن العام مذكرة رفعها في 5 من مارس 1968 إلى السيد أمين هويدي وزير الدولة المشرف على المخابرات العامة جاء فيها أن عددًا من المواطنين كان قد صدر قرار جمهوري في أغسطس 1967 بالإفراج عنهم إلا أنه رؤي ارجاء تنفيذه، وأن عددًا آخر أودعوا المعتقلات دون أن تصدر قرارات جمهورية باعتقالهم،

ولا أدري أي سر كان وراء ارسال هذه المذكرة إلى وزير الدولة من خلف ظهر وزير الداخلية السيد شعراوي جمعة من أحد مرؤوسيه إلا أن يكون في ذلك مظهرًا من مظاهر تصارع القوى، وقد أحال وزير الدولة المذكرة إلى وزير العدل إذ ذاك الأستاذ عصام حسونة فحولها بدوره إلى قبل اجراء التعديل الوزاري ووجدت المذكرة على مكتبي في الوقت الذي كان قد حل فيه بوزارة العدل الأستاذ محمد أبو نصير.

وعلى الفور ندبت أحد رؤساء نيابة الاستئناف لتحقيق الواقعة فحدد يومًا لسؤال مدير مصلحة الأمن العام، كما وجهت في 28 من مارس 1968 خطابًا إلى وزير الداخلية أشرت فيه إلى ما تضمنته مذكرة مدير مصلحة الأمن العام وأنهيته بأنه "لما كانت وقائع حبس من لم يصدر أمر باعتقالهم ومن لم ينفذ أمر انهاء اعتقالهم تكون الجرائم المنصوص عليها في المادتين 280 و 282 فقرة 3 من قانون العقوبات، وكان الاستمرار في ابقاء هؤلاء الأشخاص في المعتقلات لا يستند إلى أساس من القانون، فنرجوا أن تصدروا أمركم بالإفراج عنهم فورًا وأخبارنا – وقد أمرت بتحقيق هذه الوقائع".

وأرسلت الخطاب مع أحد السعادة إلى مكتب وزير الداخلية واتصلت به تليفونيًّا وأخطرته بأن خطابًا في طريقه إليه ورجوته أن يطالعه بنفسه فور وصوله لأهميته ولم يمض قليل حتى اتصل بي الوزير معاتبًا في الظاهر، مهددًا في الواقع. وكاد الحديث التليفوني أن يصل إلى حد المشادة فعرضت عليه، تصفية للموضوع، أن نلتقي للتحدث مواجهة في أمر لا تجدي في مناقشته المحادثة التليفونية وعرضت أن يكون اللقاء صباح اليوم التالي في مكتب وزير العدل وأخطرت هذا الوزير بذلك، وتم اللقاء في الموعد والمكان المتفق عليهما وكان لقاء عاصفًا.

وكنت قد روضت نفسي على أن أضع أعصابي في ثلاجة، لكن وزير الداخلية – يسانده وزير العدل الجديد – بدأ حديثه مهاجمًا في صورة تساؤل عما إذا كان النائب العام يملك قانونًا الإفراج عن المعتقلين بأوامر من رئيس الجمهورية، وأدركت أن الوزيرين لا يريدان أن يفهما حقيقة الموضوع ورددت الهجوم بالقول أني أدرك تمامًا مدى سلطاني وأن وزير الداخلية هو الذي تجاوز سلطاته وأن رئيس الجمهورية هو وحده الذي يملك سلطة الاعتقال والإفراج عن المعتقلين وأن وزير الداخلية لا يملك شيئًا منها. فلما استضوحني صلة هذا القول بما جاء في الخطاب أفهمته معناه،

وسألته إذا كان هو الذي أمر بوضع أشخاص في المعتقل دون أن يصدر أمر جمهوري بانهاء اعتقالهم، ولم يجد الوزير جوابًا، وواصلت حديثي قائلاً إن سلطة رئيس الجمهورية في إصدار أوامر الاعتقال هي سلطة استثنائية، وأنه لا يسوغ لوزير الداخلية أن ينتحل لنفسه هذه السلطة –وأن الوزير كما يبدو – لا يعرف شيئًا عن وجود هؤلاء المواطنين في المعتقلات بغير حق أو سند قانوني.

وأخيرًا أسفعت العبارة الوزير فقال إنني أتمسك بأمر شكلي، وأن رئيس الجمهورية يصدر أوامر الاعتقال بناء على طلبه هو وطلب سلطات الأمن التابعة له، فأجبته بأن في هذا القول مكمن الخطر، وأنه يجب تحري الدقة التامة في اقتراح اصدار أوامر الاعتقال،

وأنه يتعين ألا ينظر إلى الأمر بهذه البساطة لأنه يتعلق بصميم حريات المواطنين، وأن اطلاق الأمر بغير قيود قد ترتب عليه في كثير من الحالات أن يترك رئيس الجمهورية الأمر إلى وزير الداخلية، وأن يتركه هذا إلى مدير مصلحة الأمن العام أو مدير المباحث العامة، وهكذا يتدرج الأمر تنازليًا حتى أنه قد يصل في النهاية إلى مخبر شرطة يكون تقريره هو القول الفصل في اعتقال المواطن،

وقلت مستطردًا أنه لا أدل على الفوضى من وجود أشخاص في المعتقلات لا يدري وزير الداخلية شيئًا عنهم، ولا يعرف من الذي أمر باعتقالهم أو بابقائهم في المعتقلات، كما قلت إنني أمرت باجراء التحقيق لتحديد المسئول مباشرة عن ذلك، وإن كان المفهوم ابتداءً أن وزير الداخلية مسئول بطريق غير مباشر، إن لم يكن هو الذي أمر شخصيًّا بالاعتقال.

وبدا وزير العدل ذاهلاً لهذا الحديث، وسألني وزير الداخلية عن الحل الذي اقترحه، فأجبته بأن لا حل سوى الإفراج ومؤاخذة من يثبت التحقيق مسئوليته عن وجود هؤلاء المواطنين في المعتقلات.

وبعد انصراف وزير الداخلية أبدي لي وزير العدل استنكاره للهجة التي خاطبت بها زميله، ورأيه في أن طريقتي في معالجة المشاكل لن تنتهي إلى خير،

وأنني لا أدري شيئًا عن مدى سلطان هذا الذي حدثته بتلك اللهجة فأجبته بأني أقدر تمامًا مسئوليتي عن أقوالي وتصرفاتي كما أقدر معقباتها وأنه إن أصابني سوء بسبب قيامي بواجبي وما أشعر أنه حق فإنه يكون أمر لا حيلة لي فيه.

وبعد أن عاد وزير الداخلية إلى مكتبه لم يجد ملاذًا إلا في الأخذ بفتوى مستشاري السوء، وبدلاً من أن يفرج عن هؤلاء المواطنين أخذته العزة بالإثم فبعث بخطاب مع اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة، مفاده أن الأشخاص المشار إليهم في مذكرة مدير مصلحة الأمن كان قد صدر أمر شفوي من رئيس الجمهورية باعتقالهم،

وبذا تحمل وزير الداخلية وزير التمادي في الخطأ ولم يتحرج عن تورط رئيس الجمهورية في تغطية الخطأ الذي وقع منه أو من مرؤوسيه مستغلاً أسوأ استغلال نص المادة الثالثة من قانون الطوارئ رقم 162/1968 والتي تجيز إصدار قرارات الاعتقال بأوامر شفوية من رئيس الجمهورية.

حوادث التعذيب

سبق أن قررت أن البلاغات انهالت على النيابة العامة متضمنة وقائع تعذيب حدثت في السجون والمعتقلات وبدا أن هذا السيل من البلاغات كان تنفيسًا عن هموم وآلام طالما كتمتها الصدور،

واستجابة لما أعلنته الدولة من وجوب المحافظة على الحريات والتزام أحكام القانون وبالنظر إلى كثرة هذه البلاغات فقد خصصت عددًا من رؤساء وأعضاء النيابة لتحقيقها بإرشاد الأستاذ فخري عبدالنبي المحامي العام وتحت إشرافي المباشر وأعطيت لتحقيقات التعذيب أرقامًا مسلسلة قيدت بها تحت رمز (ع. ت) أي عرائض تعذيب ونبهت بندب أطباء مصلحة الطب الشرعي للكشف عن من يقولون بوجود إصابات في أجسامهم نتيجة للتعذيب،

وكانت الحصيلة أكداسًا من البلاغات وأوراق التحقيق والتقارير الطبية على نحو يثير الأسى ويسجل أن البلاد كانت تحكم حكمًا ظالمًا استبداديًّا.

وكان هدفي من اجراء هذه التحقيقات أمرين أولهما مساءلة كل من تثبت ضده تهمة التعذيب والثاني إعادة النظر فيما يكون قد صدر من أحكام بنيت على أقوال صدرت نتيجة تعذيب.

ولكنني للأسف وقفت في النهاية عاجزًا عن السير في اجراءات التحقيق والمحاكمة، وكان السد الذي وقف في سبيل الهدف الأول هو قانون الأحكام العسكرية رقم 25/1966 وما قضى به من جعل الاختصاص للنيابة والقضاء العسكريين في كافة الجرائم التي ترتكب من العسكريين بسبب تأدية أعمال وظائفهم أو حتى في الجرائم الخارجة عن نطاق أعمال وظائفهم إذا انفردوا بالاتهام فيها دون أشخاص مدنيين! ولو تحقيق الهدف الثاني،

بدأت مع أعواني في دراسة القضايا والأحكام التي يحتمل أن يكون لها صلة بوقائع التعذيب، ولكن سرعان ما صدر قرار في 4 يوليون 1968 بنقلي إلى منصب رئيس محكمة استئناف القاهرة وانتهت بذلك تلك المحاولة وكل ما نجحت فيه أنني رسمت من واقع التحقيقات والتقارير الطبية الشرعية صورة تكاد تكون كاملة لما كان يجري في السجون والمعتقلات من معاملة تتنافى لا مع أبسط قواعد العدالة.. بل كذلك مع أدنى مراتب الرحمة والإنسانية.

وبيان ذلك أنه تبين من أقوال المدعين بالتعذيب أنهم يسندون وقائعه إلى رجال الشرطة العسكرية وغيرهم من العسكريين، الأمر الذي يخرج هذه الجرائم من اختصاص النيابة العامة والقضاء العادي، وكنت من أجل ذلك وبعد أن يتبين أن الاتهام موجه إلى عسكريين دون غيرهم أحيل الأوراق على مضض إلى النيابة العسكرية لاختصاصها، كنت أدرك أن هذه الإحالة مؤادها دفن أوراق التحقيق، ولكنه أمر لم يكن لي حيلة فيه.

ومع ذلك فقد حرصت اثباتًا للحقيقة وللتاريخ – على أن أبقي أصول أوراق التحقيق والتقارير الطبية محفوظة في النيابة العامة على أن أبعث بصور منها إلى النيابة العسكرية. ولقانون الأحكام العسكرية وظروف اصداره قصة أخرى سوف أسردها فيما بعد.

وقد أثار تحقيقي لوقائع التعذيب عاصفة على الرغم من أنني لم أكن متجنيًّا فيه وأنه كان من المستحيل التخلي عن واجبي،

وتجاهل مئات البلاغات التي اتصل بها علمي وانطوت على وقائع خطيرة، وعلى الرغم من أنني التزمت حدود اختصاصي وأنني لم أكن أسترسل في التحقيق بمجرد أن يتبين من تحديد المتهمين أن الاختصاص معقود للنيابة العسكرية، وكنت أفعل ذلك احترامًا لقانون هو قانون على أي حال،

رغم إيماني ببعده عن العدالة وسبق اعتراضي على اصداره على ما سيأتي فيما بعد. لقد أثار هذا التحقيق ثائرة بعض السلطات الحاكمة واعتبرته نوعًا من التشهير بها.

وبدأت ألمس هذه الثورة بشكل واضح عندما طلبت للتحقيق الأستاذ مصطفى أمين الصحفي المحكوم عليه في قضية تخابر لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

ذلك أن الأستاذ مصطفى أمين وجد أخيرًا، وبعد نحو ثلاث سنوات، الشجاعة لأن يشكو ما وقع عليه من تعذيب وخشي ألا يصل صوته إلى النيابة العامة، فهداه تفكيره لأن يصور واقعة عن اتصال مزعوم بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات المصرية وحرر للنيابة بلاغًا بهذا المعنى قال فيه إنه استقى معلوماته في هذا الشأن من الجاسوس الألماني لوتز الموجود معه في السجن.

وندبت أحد رؤساء النيابة الذي انتقل لتحقيق الواقعة في السجن فذكر الأستاذ مصطفى أمين فيما يذكره في التحقيق أن تعذيبًا وقع عليه لمناسبة اتهامه في قضية التخابر سابقة الذكر.

ولما أراد رئيس النيابة المحقق الاسترسال معه في تحقيق وقائع التعذيب أبدى أنه لا يطمئن إلى ابداء هذه المعلومات إلا في دار النيابة العامة،

وعرض رئيس النيابة الأمر علي فكلفته أن يواصل هو تحقيق بلاغ لوتز وندبت وكيل نيابة آخر لتحقيق وقائع التعذيب. وطلب المحقق الأستاذ مصطفى للحضور في أيام 20 و 25 مارس، 3 إبريل 1968 ولم تلب سلطات الأمن الطلب وشكا إلى وكيل النيابة ذلك فاتصلت بنائب مدير المخابرات العامة وحدثته في هذا الشأن فاعتذر بأن احضار الأستاذ مصطفى يتطلب لدواعي الأمن اجراءات خاصة، ووعد بالعمل على تنفيذ أمر النيابة. وفيما نحن في انتظار ذلك استدعاني الأستاذ محمد أبو نصير وزير العدل وصارحني بأن الحكومة لا ترتاح إلى العمل معي،

وحدثني في شأن رغبتها في نقلي رئيسًا لمحكمة استئناف القاهرة، فانقطعت عن العمل إلى أن صدر الأمر الجمهوري بنقلي في 4 من يوليو 1968 وكان هذا النقل خطوة في طريق التخلص مني نهائيًّا في آخر أغسطس 1969.

إن هذه الذكريات لا تتسع بداهة لتسجيل جميع وقائع التعذيب، ولكن قد يكون من المفيد تسجيل بعض نماذج لتعطي – على سبيل المثال – صورة صحيحة لما كان يقع من أشخاص أعماهم غرور السلطة فتجردوا من كل معاني الإنسانية والعدالة والرحمة وكانوا أقسى على مواطنيهم من المستعمر الأجنبي، وإليك هذه النماذج.

جاء في التحقيقات رقم 38 و 90 و 117/1968ع. ت أن رجال الشرطة العسكرية اعتقلوا الموطن محمد نظمي أحمد سلطان في صباح يوم 11 من فبراير 1967 بتهمة رشوة، واقتادوه إلى مبنى الشرطة العسكرية ثم إلى السجن الحربي وظلوا يعذبونه أيامًا متوالية،

وكان يتولى القيام بالتعذيب الرائدان رياض إبراهيم وأحمد موافي والمساعد سعيد بدوي وبعض جنود الشرطة العسكرية، وكانت وسائل التعذيب تتدرج من الضرب بالأيدي والركل بالأقدام، إلى الضرب بالسوط المجدول والوضع في ماء مثلج، والتعليق بخطاف في وضع مقلوب، وكان التعذيب يحصل في بعض الحالات في حضور اللواء حمزة البسيوني قائد السجن العسكري

– وعلى الرغم من مضي زمن طويل على هذا التعذيب حتى عرض المبلغ على الطبيب الشرعي في 28 من إبريل 1968 على أثر التبليغ، فقد ثبت من تقريره وجود ضخامة صلبة بمقدم الضلع الثامن الأيسر من صدره، تخلفت عن كسر قديم حدث نتيجة الضرب بجسم صلب راض من مدة طويلة قد تصل إلى أشهر عديدة.

وجاء في التحقيقات رقم 60 و 93/1968ع. ت أن أربعة من المواطنين هم محمود فهمي محمد دياب، إبراهيم حسنين بخيت، جرجس إبراهيم سعد، أحمد محمد الروبي، اعتقلهم رجال المباحث الجنائية العسكرية (فرع من الشرطة العسكرية) في 10 من يناير 1965 بتهم اختلاس، واقتادوهم إلى مبنى الشرطة العسكرية وضربوهم بالسوط وخلعوا ملابسهم وتوعدوهم بالاعتداء على أعراضهم وكان المعتدون هم الرائد رياض إبراهيم والمساعد سعيد بدوي وجنود من الشرطة العسكرية،

وعند فحصهم بمعرفة الطبيب الشرعي في 25 من فبراير 1968 كانت آثار التعذيب قد زالت من أجسامهم جميعًا عدا محمود فهمي محمد دياب الذي وجدت آثار التئام لجروح في ساعديه وساقيه حدثت من مدة طويلة. وجاء في التحقيقات رقم 200/1968 ت.ع إن رجال الشرطة العسكرية اعتقلوا المواطن عثمان حسين العوضي في 17 من نوفمبر 1966 واقتادوه إلى السجن الحربي وعلقوه في فلقة، وضربوه بالسوط وغمروه بالماء في غرفة الكلاب، وكانت لا تزال توجد بعض إصابات في وجهه وفخذه عند فحصه في 7 من إبريل 1968 وكان من قاموا بتعذيبه ضباط وجنود من الشرطة العسكرية هم رياض إبراهيم ورشاد عبداللطيف ومحمد رجب وكان الغرض من التعذيب اكراهه على الشهادة ضد بعض من سموا بالإقطاعيين.

وجاء في التحقيق رقم 9/1968 ع. ت أن المواطنين أحمد عبدالفتاح نعيم، أحمد حسن العزب قد عذبا لنفس الغرض السابق بالسجن العسكري في 27 من نوفمبر 1966 بمعرفة ستة من رجال المباحث الجنائية العسكرية هم رياض إبراهيم ومحمد رجب ومحمد موافي وصفوت ورشاد عبداللطيف وعلي عبدالله وكان التعذيب بالتعليق في فلقة والضرب بالأيدي والسوط والغمر بالماء في غرفة الكلاب،وترك التعذيب آثارًا ظلت ظاهرة في أجسامهم حين فحصهم في 28 من فبراير 1968.

وجاء في التحقيق رقم 40/1968 ع. ت محمد أحمد الشمامي، حافظ حافظ داود قد عذبا في السجن الحربي يوم 19 من يونيو 1966 بالوضع في فلقة والضرب بالسوط واطلاق الكلاب عليهم، وقد قام بالتعذيب ستة من رجال المباحث الجنائية العسكرية هم رياض إبراهيم، محمد موافي، محمد رجب، أحمد عبدالحميد، سامبو، الروبي، وكان الغرض منه حملهم على ابداء أقوال غير صحيحة في تهمة رشوة، وظهرت بعض آثار التعذيب في أجسامهم عند فحصهم في 25 من فبراير و 3 من مارس 1968.

وجاء في التحقيقات رقم 18 و 37/1968 ع. ت أن محمد أبو العينين عمارة، عبدالرازق محمد أبو العينين عمارة، عذبا في 5 من مايو 1966 بالسجن الحربي ليدليا بأقوال غير صحيحة ضد بعض الاقطاعيين، وقام بالتعذيب المساعد صفوت، والجاويش رشاد عبداللطيف وبعض جنود الشرطة العسكرية، وظهرت بعض آثار التعذيب في أيديهم وأقدامهم عند فحصهم في 4 من مارس 1968.

وجاء في التحقيقات رقم 124 ، 130، 131، 132، 133، 135/1968ع.ت أ، كلا من عبدالله السيد الفقي، بسيوني بسيوني الفقي وأحمد عبدالحميد رزق ودسوقي درويش وعبدالعزيز قطب وعوف نجم وأنور مرسي ويحيى السيد الفقي وزكريا السيد الفقي وعبدالظاهر السيد الفقي قد عذبوا يوم 3 من مايو 1966 والأيام التالية في الطريق،

وفي مبنى الشرطة العسكرية والسجن الحربي وكانت وسائل التعذيب الضرب بالأيدي والسوط، والركل بالأقدام والتجويع والإهانة، واطلاق أسماء النساء عليهم واطلاق الكلاب عليهم والتهديد باعتقال الزوجات.

وكانت جريرة الكثرة منهم مجرد انتمائهم إلى أسرة الفقي، بل إن أولهم كان محاميًا مقيمًا بالقاهرة، وظهرت آثار هذا التعذيب واضحة في أجسامهم عند فحصهم في شهري فبراير ومارس 1968، وقام بالتعذيب عدد من ضباط الشرطة العسكرية هم الرائد رياض إبراهيم،

المساعد رجب، المساعد صفوت والعريف رشاد عبداللطيف والجنود حلمي، سامبو، محمد خاطر، محمد عبدالله وحصلت بعض وقائعه أمام اللواء حمزة البسيوني قائد السجن العسكري على الرغم من أنه كان زميل دراسة في كلية الحقوق للأستاذ عبدالله السيد الفقي المحامي وعلى الرغم من أن هذا الأخير ذكره بهذه الزمالة مستعطفًا وطالبًا الرحمة.

ولعل أبشع أنواع التعذيب ما سجلته التحقيقات رقم 3 و 4 و5 و7 و41 و20 و24 و27 و28 و34 و36 و39 و45 و46 و47 و48 و54 و48 و66 و67 و68 و86 و92 و96 و98 و102 و106 و108 و111 و122/68 ع.ت فقد جاء في هذه التحقيقات أن التعذيب وقع على كل من وجهت إليه تهمة أو مجرد شبهة وعلى كل من قيل أن لديه معلومات يخفيها في قضية الجناية رقم 22/1967 أمن دولة عليا، المعروفة بقضية كمشيش، والخاصة بقتل صلاح الدين محمد حسين.

فقد قرر كل من صلاح الدين أحمد الفقي، ومحمود إبراهيم خاطر، السيد عبدالوهاب عبدالهادي، محمود عزت شرف الدين غازي، عبدالعزيز عبدالرحمن دره، محمود محمد عيسى، السيد عبدالله الفقي، يوسف حسين نشأت، محمد عبدالرازق العربي، علي عبدالستار عبدالله، رمضان أحمد عبدالله، السيد محمد عمارة، محمود أحمد الأصفر، محمد عرفة عمارة، عبدالقادر حافظ الوكيل، يوسف عبدالحميد عمران،

أن عددًا من ضباط وجنود الشرطة والمباحث العسكرية هم المقدم رياض إبراهيم والرائد محمد موافي والمساعد محمد رجب والمساعد صفوت والمساعد سعيد بدوي والعريف رشاد عبداللطيف والجنود محمد خاطر وعلي عبدالله وحلمي وحسن زغلول وسمير وسراج وسامبو، وكان على رأسهم اللواء حمزة البسيوني قائد السجن العسكري قد تبادلوا تعذيبهم،

ذلك أنه على أثر انتهاء النيابة العامة من تحقيق واقعة قتل صلاح الدين محمد حسين، وتقريرها بالإفراج عن المتهمين لعدم توافر الأدلة قبلهم، اعتقلهم رجال المباحث والشرطة العسكرية في بلدة كمشيش وانهالوا عليهم ضربًا وركلاً في الطريق أمام مواطنيهم إذلالاً لهم، ثم اقتادوهم إلى مبنى الشرطة العسكرية ومنه إلى السجن العسكري،

وواصلوا تعذيبهم بالتعليق في فلقة والضرب بقبضة اليد وبالسوط وبقطع الحديد والركل بالأقدام واطلاق الكلاب عليهم لعقرهم ونزع أظافر اليد والوضع في زنزانات مغمورة بالمياه، كل ذلك بقصد حمل المتهمين على الادلاء باعترافات وحمل الشهود على الادلاء بشهادات ضد هؤلاء المتهمين، وسجلت التقارير الطبية آثار التعذيب.

ولقد كنت أنا الذي أمرت بالإفراج عن المتهمين بعد انتهاء التحقيق الذي أشرفت عليه بنفسي في كمشيش وفي شبين الكوم، وكان اعتقالهم بعد ذلك بمعرفة رجال الشرطة العسكرية تحديًا لقرار الإفراج، وقد وقفت عاجزًا أمام صدور أوامر جمهورية باعتقالهم،

ولم يجرؤ أحد من هؤلاء المعتقلين على التقدم بأي شكوى عن التعذيب إلا بعد النكسة وبعد أن ترددت على ألسنة المسئولين الأقوال بوجوب اطلاق الحريات ومحاكمة المنحرفين.

وقد صدق المساكين هذه المزاعم، وجاءت البلاغات تترى إلى النيابة تحمل أبشع صورة وقائع التعذيب. وحققت هذه البلاغات كما سبق القول وأثار هذا القول ثائرة السلطات، ووقفت مرة ثانية عاجزًا عن مواصلة التحقيق بعد أن انحصر الاتهام في رجال الشرطة والمباحث الجنائية العسكرية،

واحترامًا لقانون هو قانون في شكله على أي حال، وإن كان أبعد الأشياء عن روح القوانين وعن التنظيم السليمة.

على أن أخطر ما جاء في هذه التحقيقات الأخيرة ما قرره بعض المبلغين من أن أربعة ممن عذبوا بواسطة رجال الشرطة العسكرية قد توفوا بعد خروجهم من السجن متأثرين بما حل بهم من اصابات نتيجة التعذيب.

وهؤلاء الأربعة عبدالحميد شبل وعبدالحميد تعلب وسالم الرزقاني وعبدالغني أبورواش.

وأستطيع القول استخلاصًا مما تقدم أن كثيرًا من الأقوال قد انتزعت وأن كثيرًا من الاتهامات قد ألقيت جزافًا تحت تأثير الإرهاب سواء وصل إلى درجة التعذيب المادي أو وقف عند حد القاء الرعب في النفوس. ومن هذا القبيل تقرير قدمه إلى المخابرات العامة

–للأسف الشديد - أستاذ قانون جامعي مرموق كان قد اتهم بجريمة مالية ويبدو أن رجال المخابرات قد اتخذوا من هذا الاتهام وسيلة للضغط عليه ولإثبات وقائع ضد بعض من قام في نفوسهم أنهم من أعداء النظام فقدم الأستاذ تقريرًا أسند فيه إلى عشرات من كبار المحامين وغيرهم أنهم كانوا يبدون في قاعات المحامين وفي المقاهي والمنتديات أقوالاً تعرض بنظام الحكم وأذكر من هؤلاء الأستاذ مصطفى البرادعي، محمد شوكت التوني، محمد عبدالله، محمد زهير جرانة، مصطفى القللي، نور الدين رجائي،

مصطفى رجائي، علي عبدالعظيم، عيسى العيوطي، عبدالرؤوف علي، عبدالوهاب حسني، أحمد عبدالفتاح الشلقاني.

وأبلغت بهذا التقرير فتبينت أن ما أسند فيه إلى هؤلاء السادة لا يخرج عن كونه نقدًا وتعبيرًا عن رأي لا يصل إلى حد الجريمة وأبلغت برأيي هذا مدير المخابرات العامة وأفهمته أنه ليس من الملائم ولا مما يتفق مع القانون وأصول التحقيق أن أشرع في تحقيق بلاغ لا يتضمن في ذاته جريمة أو شبهة جريمة.

وتقبل مدير المخابرات الرأي على مضض لكنه اتخذ من التقرير تكئة لاعتقال عدد من السادة الذين تناولهم التقرير بعد استجوابهم في المخابرات ونفيهم للوقائع وبعد مواجهتهم بالأستاذ المبلغ وإصراره على ما جاء في تقريره. وقد استمر الاعتقال مددًا وصلت بالنسبة للبعض منهم إلى عدة سنوات.

قضية كمشيش

ولعل قارئ هذه الذكريات يهمه أن يعرف شيئًا عن حقيقة ما سمي بقضية كشميش وعن ملابساتها، وليس هنا محل لذكر وقائعها تفصيلاً إذا إن هذه الوقائع قد سجلت في الحكم الصادر فيها من محكمة الجنايات مدينًا بعض المتهمين ومبرئًا البعض الآخر والذي نشر في جنيه.

وإنما يهمني أن أضع بعض لمسات تلقي ضوءًا على القضية وتظهر حقيقتها.

ذلك أن المشير عبدالحكيم عامر اتصل بي تليفونيًّا في منزلي ليلة الحادث وأبلغني بوقوعه، مبديًا اهتمامه به، وذكر من أسباب اهتمامه أن القتيل صلاح الدين محمد حسين كان صديقًا شخصيًّا لأحد أصهاره،

وأن قاتليه هم إقطاعيون من عائلة الفقي، وأدركت على الفور الدافع الحقيقي للاهتمام بالحادث، ورأيت من مصلحة العدالة أن أنتقل بنفسي لأشرف على التحقيق واتصلت بمدير مصلحة الأمن العام إذ ذلك اللواء محمود الركابي،

وانتقلت معه إلى مكان الواقعة وأشرفت على التحقيقي وتبينت أن القتل وقع لدوافع شخصية بحته وأنه لا صلة له بالاقطاع، ولم يوصل التحقيق إلى أدلة جدية فلم يكن في وسعي سوى الإفراج عن المشتبه فيهم وجمعت أوراق التحقيق وغادرت البلدة مع المحققين من رجال النيابة العامة، في انتظار تحريات يقوم بها رجال الشرطة وتوصل إلى أدلة جدية يمكن تحقيقها.

ولم أبلغ بعد ذلك بشيء وعلمت أنه صدرت أوامر جمهورية باعتقال من أفرجت النيابة عنهم وغيرهم من المتهمين والشهود، كما علمت أن الشرطة العسكرية تجري تحقيقًا بوسائلها الخاصة، باعتبار أن الرأي متجه إلى اجراء محاكمة عسكرية، لا شأن للنيابة أو للقضاء العادي بها.

ووصل إلى علمي بعد ذلك أن الموضوع أثير في مجلس الوزراء وأن الدكتور محمد حلمي مراد تبنى الرأي القائل بالمحاكمة العادية وتبنى الأستاذ محمد أبو نصير الرأي القائل بالمحاكمة العسكرية،

وبعد لأي رأى رئيس الجمهورية الأخذ بالرأي الأول، فأعيدت الأوراق إلى النيابة العامة وبدأت تحقيقًا جديدًا، لكن يبدو أن جو الذعر والإرهاب الذي أحاط بالمتهمين والشهود منعهم من ذكر الحقيقة كاملة، فأبديت اعترفات وأقوال ظهر فيما بعد أنها غير صحيحة،

ولم يجرؤ واحد منهم على أن يتقوه بكلمة عن التعذيب إلى أن أثير الأمر أمام المحكمة وفي تحقيقات النيابة عن وقائع التعذيب على النحو سالف البيان.

ومن طرائف القضية أن أحد المتهمين دلل على كذب اعترافه بوجوده في المعتقل في تاريخ الواقعة ورفعت المحكمة الجلسة للنظر في هذا الدفاع، وأسرع إلى عضو النيابة المترافع،

فأفهمته بأن مسلك النيابة يجب أن يكون مسلك الخصم الشريف وأن ينضم للدفاع في طلب تحقيق تلك الواقعة، واتصلت بالسيد شعراوي جمعة وزير الداخلية إذ ذاك وأفهمته بوجوب التحقيق من صحة الواقعة، ولم يجد مفرًّا من الاستجابة إلى الطلب وتبين أن المعترف كان موجودًا في السجن حقيقة.

هذه هي القضية التي اتخذت وسيلة لتشكيل ما سمي بلجنة الاقطاع وبرئاسة المشير عبدالحكيم عامر لتطيح بما رؤي الإطاحة به سواء بالاعتقال أو بالحراسة.

اصدار قانون الأحكام العسكرية

ويصح بعد ذلك أن أشير إلى الظروف التي صدر فيها قانون الأحكام العسكرية رقم 25/1966 بتاريخ 23 مايو 1966 فقد وصل إلى علمي أن مشروع قانون للأحكام العسكرية قد أرسل إلى مجلس الأمة لنظره على وجه السرعة واستطعت أن أحصل على صورة من المشروع، فهالني ما جاء به من تحيف على سلطة القضاء صاحب الاختصاص الأصيل،

وعلى حق المواطنين في محاكمة عادلة تؤمنها ضمانات هذا القضاء وما جاء في المشروع من تفرقة بين المواطنين بحسب ما إذا كانوا من العسكريين أو المدنيين.

واعفاء للعسكريين من الخضوع لأحكان هذا القضاء وحتى في الجرائم التي يرتكبونها في غير مجال عملهم.

وإخضاع المدنيين للقضاء العسكري في بعض الحالات على ما سأذكره تفصيلاً عند الكلام على القوانين الاستثنائية،

هالني ذلك كله وهالني أن تعود البلاد إلى اقرار نوع من الامتيازات القضائية بعد أن عانت البلاد ما عانت حتى استطاعت الغاء الامتيازات الأجنبية والدينية والغاء المحاكم المختلطة والشرعية والمالية، فتوحد القضاء بالنسبة للمقيمين على أرض الوطن سواء كانوا مواطنين أو أجانب وسواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

هالني ذلك فأسرعت إلى الأستاذ عصام حسونة وزير العدل أبلغه وأشد ما كانت دهشته عندما علم بالأمر وكانت دهشتي أشد لعرض مثل هذا المشروع على مجلس الأمة دون علم وزير العدل،

ولقد بدا لي من حديث الوزير ومن تصرفه أنه كان صادقًا في قوله بجهل المشروع وبدأنا على الفور اتصالات بمجلس الأمة وحصلنا على وعد بارجاء نظر المشروع حتى تتمكن وزارة العدل من ابداء رأيها فيه، ولكن الظروف كانت أقوى منا ومن الواعد. ومر المشروع في جلستي كان رئيس المجلس غائبًا فيهما هما جلستا 3 و4مايو 1966.

قلت إن الظروف كانت أقوى منا فقد كان المشير عبدالحكيم عامر هو صاحب المشروع ووضع كل ثقله وراء اقراره وأرسل للواء سيد سيد جاد مدير القضاء العسكري إلى المجلس ليمثل الحكومة وبان من مطالعة المضبطة أن المشروع مر في سهولة لا تتفق مع خطورة المبادئ التي يتضمنها ولم يصادف سوى اعتراضات شكلية خاصة بالصياغة وببعض مسائل فرعية لا أهمية لها ولم يعترض عليه بصفة جدية سوى العضو عبدالرؤوف فهمي الذي طلب بسببها خطورة المشروع إتاحة فرصة كافية لدراسته كما طلب العضو محمد أحمد عبدالشافي إعادته إلى اللجنة لاعادة فحصه.

أما أهم ما يعيب المشروع وهو افتئاته على سطلة القضاء العادي وحرمان المواطن من قاضيه الطبيعي فإن أحدًا لم يتناوله اللهم إلا عندما تساءل العضو كمال الدين مصطفى بدر عند مناقشة المادة السادسة عما إذا كان مفهومها خضوع المواطن المدني للقضاء العسكري إن كان متهمًا بجناية من جنايات أمن الدولة وقد تبرع العضو ضياء الدين داود بالرد قائلاً أنه يخضع فعلاً إن صدر قرار جمهوري باحالة القضية إلى القضاء العسكري وكان من المنطقي أن يتريث الأعضاء ولو قليلاً في اقرار المبدأ الخطير ولكن الأمر انتهى بعد التساؤل والرد إلى اقرار المادة وما تنطوي عليه من هذا المبدأ الخطير.

قوانين الحريات

ولنعد مرة أخرى إلى شهر يناير 1968 وبعد صدور الحكم في قضية الطيران وخروج المظاهرات تطالب بالحرية وسيادة القانون والغاء القوانين الاستثنائية.

فقد التقى رأيي ورأي المستشار عصام حسونة وزير العدل على طرق الحديد وهو ساخن وعلى أن واجب الوزارة الأول في تلك الظروف هو المبادرة إلى اقتراح الغاء أو تعديل القوانين الاستثنائية التي تحد من حريات المواطنين أو تهدمها بمعنى أصح وتستغل نصوصها أسوأ استغلال من السلطات العسكرية والبوليسية،

فأصدر الوزير قراره رقم 99/1968 بتشكيل لجنة برئاسيت وعضوية كل من المستشار لطفي علي وكيل الوزارة والمستشار سعد الدين عطوة مدير عام إدارة التشريع والأستاذ سعيد الهراسي رئيس المحكمة وعضو المكتب الفني لوزير العدل والأستاذ محمد كمال عبدالعزيز رئيس المحكمة ووكيل إدارة الشريع وذلك "للنظر في بعض القوانين الاستثنائية والخاصة التي تمس الحريات وضمانات الأفراد للتعرف على ما بها من عيوب واقتراح الأسس الكفيلة بتجنب هذه العيوب بما يحقق صيانة الحريات وتوفير الضمانات"

وكان الاتفاق بيننا على أن ننهي مهمتنا في سرعة وسكون قبل أن يفتر حماس الرأي العام وقبل أن تقام في سبيلها العراقيل، فبدأنا المهمة على الفور وعقدنا جلسات متوالية سريعة، وانتهينا إلى اعداد تقرير رفعناه إلى وزير العدل في 20 يناير 1968 نصه كالآتي:

تقرير مرفوع إلى وزير العدل

من اللجنة المشكلة بموجب قرار وزير العدل رقم 99/68

للنظر في بعض القوانين الاستثنائية والخاصة

تدل متابعة التطور الحضاري على أن الشعوب لم تجد وسيلة لتأمين مكاسبها غير إعلان مبدأ الشرعية الذي يعني في جوهره سيادة القانون على الحاكمين والمحكومين على حد سواء،

كما يعني الالتزام بالأصول القانونية العامة باعتبارها قيدًا على السلطات لكفالة حريات الأفراد وحرماتهم، ومن هنا كانت قواعد الاجراءات الجنائية بوجه خاص انعكاسًا لمدى حظ الأمة من الحضارة بمقدار التزامها لمبدأ الشرعية.

وإذا كان هذا هو موضع مبدأ الشرعية وسيادة القانون في حياة الشعوب. فقد استقر في ضميرها ضرورة توفير الضمانات الكفيلة بحمايته من العبث أو الانتقاص، ووجدت ضالتها في ضمانة أساسية هي قيام سلطة قضائية مستقلة، يتكفل الدستور ذاته ببيان وظيفتها واقرار ضماناتها،

تنفرد وحدها بالتعرض للحريات والحرمات وتتولى رقابة شرعية ما تضعه باقي هيئات وأجهزة الدولة من قواعد قانونية أو تتخذه من اجراءات.

وبالنظر إلى أهمية مبدأ الشرعية وضماناته فقد حرصت عليه كافة الدول الحديثة على مختلفة نظمها وفلسفاتها الاجتماعية، فتبنته الدول التي تأخذ الإشتراكية سبيلاً إلى التغيير،

إذ إن الإشتراكية لا تعني إلا تغيير مضمون القاعدة القانونية تحريرًا للذات الإنسانية وتزويدًا لسواد الأفراد بما يمكنهم من الدفاع عن الشرعية وسيادة القانون،

بحسب أنهما الضمان النهائي الأكيد لمكاسبهم، ولا يغير من موضع الشرعية وسيادة القانون أن تأخذ البلاد في إرادة التغيير بالأسلوب الثوري فليس في خضوع السلطة الثورية للقانون ما ينقص من قدرها أو يهدد أمنها في الاجراءات التعسفية ولو أفرغت في قانون،

وإنما تكون حمايتها الحقة في وعي الجماهير التي تجد فيها ذاتها حين تجد مبادئها المعلنة واقعًا في حياتها اليومية.

إن القانون يتحتم أن يتحرر من اعتباره أداة في يد السلطة الحاكمة، كباقي أدوات القاهر، وأن يكون على ما أعلنه الميثاق خادمًا للحرية وليس سيفًا مسلطًا عليها ولا يكون ذلك إلا بأن تضع أجهزة الثورة المنتصرة إيمانها في سيادة القانون.

ولقد آن الأوان ليتبدد وهم خطير، يصطنع التعارض بين القانون والثورة، في حين أن الثورة لا تستهدف سوى إحلال نظام قانوني تقدمي محل نظام قانوني متخلف.

على أن النظرة الواقعية لسيادة القانون الحريصة على فاعليتها لا يجوز أن تغفل ما تقتضيه أحيانًا الظروف الاستثنائية أو الطبيعية الخاصة لبعض أنشطة الدولة من سلطات استثنائية،

ومن هنا عرف الفقه القانوني نظرية الضرورة التي تجيز منح الإدارة في هاتين الحالتين قسطًا استثنائيًّا من السلطة، وتوجب أن يتوافر فيه من الضمانات ما يكفل عدم الخروج على المبادئ الأساسية للتشريع العام. إلا إن هذا المعنى قد غاب عن بعض القوانين الاستثنائية،

فجار بعض أحكامها على الحريات والضمانات الأصلية التي تكفلها التشريعات الأساسية، كما غاب عن بعض القوانين الخاصة فافتاتت على الأصول العامة لاختصاص القضاء العام، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:

أولاً: القانون رقم 119/1964: صدر هذا القانون قبل إعلان الدستور بأيام، في شأن بعض اجراءات أمن الدولة، وقد تبنى – في ظل الظروف العادية ودون أن يقع ما يقتضي إعلان حالة الطوارئ

- الأحكام الاستثنائية التي لم تعرفها البلاد إلا في ظل تلك الحالة. وجاءت أحكامه مخالفة للقواعد العامة على النحو التالي:

1-تجيز المادة الأولى منه للإدارة اعتقال المواطن بارادتها وحدها، في معزل عن أية رقابة قضائية، ولمدة غير محددة، ودون أي تنظيم يكفل لها المراجعة أو حتى التذكرة،

ولو لم يقع من الشخص ما يريب، وذلك لمجرد كون الإدارة نفسها سبق لها اعتقاله، ولو لغير سبب، أو حتى نتيجة خطأ، أو لمجرد وقف الإدارة مباشرة حقوقه السياسية،

حتى لو كانت قد سمحت له بممارستها من بعد أو لمجرد تطبيق القوانين الإشتراكية عليه، وهو تعبير يتسع لكثير من القوانين التي لا يحمل تطبيقها مظنة أي تهمة أو مخالفة، ولمجرد سبق صدور حكم عليه من محاكم أمن الدولة، ولو كانت محكمة جزئية،

ولو كان حكمًا بالغرامة في جريمة عدم الإعلان عن الأسعار مثلاً. وواضح ما ينطوي عليه هذا الحكم من اغفال الحفاظ على الحريات والحرمات والحقوق الفردية التي تحميها الأصول العادية للإجراءات الجنائية.

2-خولت المادة الثانية النيابة العامة سلطات استثنائية، تمارسها بعيدًا عن رقابة القضاء العادي في جنايات الأبواب الأول والثاني مكرر من الكتاب الثاني من قانون العقوبات (الجرائم المضرة بأمن الحكومة من جهة الخارج ومن جهة الداخل وجرائم المفرقعات) أيًّا كان شخص مرتكبها،

بل وفي كافة جنايات قانون العقوبات وما يرتبط بها من جرائم إذا وقعت من أحد ممن عددتهم المادة الأولى (وهم من سبق اعتقالهم أو فرض الحراسة على أموالهم أو الحكم عليهم من محاكم أمن الدولة العليا أو الجزئية أو حرمانهم من مباشرة الحقوق السياسية) ونزعت اختصاص القضاء العادي بنظر هذه الجرائم،

وهي أخطر ما في قانون العقوبات، ونقلته إلى محاكم تشكل على غرار التشكيل المقرر بقانون الطوارئ بالنسبة إلى جرائم معينة، بما يتيح قيام قضاء استثنائي في الظروف العادية يقتصر تشكيل المحاكم فيه على العسكريين، وهو ما ينطوي على الغاء جزئي للوظيفة الطبيعية، للمحاكم العادية.

3-جاءت المادة الثالثة بحكم عام غير مخصص بفئات معينة أو حالات معينة، يجيز للإدارة فرض الحراسة الإدارية على أموال وممتلكات الأشخاص الذين يأتون أعمالاً بقصد إيقاف العمل بالمنشآت أو الإضرار بمصالح العمال أو تتعارض مع المصالح القومية. وقد أدت مرونة هذه المعايير، مع استقلال جهة الإدارة بالتقدير بعيدًا عن أية رقابة قضائية، إلى استغلال الحراسة في غير ما وضعت من أجله.

4-تحصن المادة الرابعة من هذا القانون جميع القرارات الصادرة أعمالاً له من أي طعن على خلاف الأصل العام المقرر في شأن القرارات الإدارية، بما يخل بحق المواطن في طلب النصفة وفي أن يجد لكل خصومة قاضيًا.

5-امتد القانون رقم 50/1965 بأحكام القانون رقم 119/1964 إلى كل شخص سبق ضبطه أو التحفظ عليه في الفترة ما بين أول مايو 1965 وآخر سبتمبر 1965 مع النص على عدم جواز الطعن بأي وجه من الوجوه في الأوامر أو القرارات التي أصدرتها السلطات قبل العمل به أو في القرارات الصادرة نفاذًا له.

وإن ما استحدثه هذا القانون من تصحيح اجراءات الضبط والتحفظ السابقة على صدوره، يعتبر مخالفًا للأصول القانونية العامة، التي لا تجيز تقييد الحرية إلا وفق قانون قائم لدى اتخاذ هذه الاجراءات.

ثانيًا: القانون رقم 162/1958: صدر هذا القانون في شأن اعلان حالة الطوارئ وإذا كان من المقبول بصفة عامة أن تخول الإدارة سلطات استثنائية في ظل الظروف التي تقضتي اعلان هذه الحالة، إلا أن بعض أحكام هذا القانون جاءت معيبة لمجاوزتها الحدود التي تقتضيها الظروف الاستثنائية

– من ذلك أنها أطلقت سلطة اعتقال أي مواطن لمدة غير محدود ولغير سبب محدد ودون أي اجراء يكفل سماع دفاعه أو يمكن الإدارة ذاتها من المراجعة أو التذكرة (م3).

ومن جهة ثانية خولت جهات التحقيق في الجرائم التي تختص بها بموجب هذا القانون سلطات استثنائية واسعة، تصل في بعض الحالات إلى حرمان المقبوض عليه من التظلم في أمر حبسه (م6).

ثم إنها تبيح تشكيل المحاكم على نحو يقتصر على العنصر العسكري، كما تسمح باعفاء هذه المحاكم من كافة الاجراءات الجنائية، سواء نص عليها في القانون العام أو القانون العسكري أو قانون الطوارئ (م8) مع أن الاختصاص المعقود لها قد يمتد إلى كافة جرائم القانون العام.

وواضح من ذلك مدى الاختلاط والتداخل بين أحكام هذا القانون والقانون رقم 119/1964 فضلاً عن التدخل بينها وبين القانون رقم 25/1966 الخاص بالأحكام العسكرية.

ثالثًا: القانون رقم 25/1966: ليس من شك أن وظيفة القوات المسلحة بموجب تفردها بنظام قانوني خاص يكفل ضبط الأمن والنظام بداخلها.

على أن اللازم أن يحد هذا النظام بالغاية منه، لأن كل مجاوزة لتلك الغاية تشكل افتئاتا على النظام القانوني العام واخلالاً بمبدأ سيادة القانون.

وقد صدر القانون رقم 25/1966 في شأن الجرائم العسكرية وافتتحت مذكرته الإيضاحية بأن القصد منه أن يحل محل أحكام القانون الصادر في 1893 التي "لا تتمشى مع الأسس العامة للتشريعات في الجمهورية..

بالإضافة إلى وجوب تحقيق التناسق الكامل بين كافة التشريعات في الدولة..

ولا تخفى الفائدة الجمعة التي تعود على القانون العسكري باتحاده مع المبادئ العامة للتشريعات في الدولة..".

وعلى الرغم مما ساقته المذكرة الإيضاحية لتأكيد هذه المعاني إلا أن بعض أحكام القانون جاءت، خلافًا لذلك، معيبة وبالأخص في المواضع التالية:

أ-تسرية القانون على غير العسكريين: إن خضوع كافة المواطنين للقضاء العادي من الأصول الأساسية للنظام القضائي، لذلك فقد اختص الدستور السلطة القضائية بضمانات رئيسية أهمها الاستقلال وقدم القابلة للعزل، ويعد خروجًا على هذه الأصول أن يمتد اختصاص القضاء العسكري إلى المدنيين وهو ما فعله القانون رقم 25/1966 على النحو التالي:

1-أخضعت المادة الرابعة من القانون لأحكامه كل مدني يعمل في وزارة الحربية أو في خدمة القوات المسلحة على أي وجه، ودون تحديد طبيعة الجريمة أو بظروفها، وهو ما يجعل غير العسكريين خاضعين للقضاء العسكري عن كافة الجرائم التي تقع منهم،

ولو لم تتعلق بالنشاط العسكري أو حتى بمجال ارتباطهم به، كما لو ارتكب موظف مدين بوزارة الحربية جريمة سرقة عادية أو اصابة خطأ في الحي الذي يقطنه.

2-نصت المادة الخامسة من القانون على سريان أحكامه على الجرائم المنصوص عليها في قوانين الخدمة العسكرية والمدنية، وواضح انطباق هذه المادة بصفة أساسية على المدنيين،

ولو م تكن الجريمة ذات طبيعة عسكرية، كالحال في استخدام شخص دون تقديم شهادة دالة على أدائه الخدمة العسكرية أو عدم اعادة العامل للعمل بعد أدائه لها (م67).

3-نصت المادة الخامسة من القانون أيضًا على سريان أحكامه على الجرائم التي تقع في الأماكن التي يشغلها العسكريون لصالح القوات المسلحة أينما وجدت، وهو ما يتسع لأية جريمة أيا كانت جسامتها أو نوعها أو أطرافها،

ما دام قد تصادف وقوعها في مكان يشغله العسكريون، دون أية رابطة تبرر هذا الاختصاص، كالشأن في جريمة سب تقع بين مدنيين باحدى الثكنات أو المستشفيات العسكرية.

4-جعلت المادة السادسة جميع الجرائم الخاصة بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي من اختصاص القضاء العسكري، متى صدر قرار جمهوري بذلك.

وفضلا عما في حكم هذه المادة من افتئات على اختصاص القضاء العام واخلال بالضمانات الأساسية للمواطنين في جرائم تعرضهم لأخطر العقوبات، فإنه قد يساء استعماله باستخدامه بعيدًا عن الغرض الذي يستهدفه،

وهو حماية المصالح العسكرية، وفوق ذلك الظروف فإن الاستثنائية التي تبرر هذا الحكم، كالحرب أو التهديد بوقوعها، تستلزم اعلان حالة الطوارئ التي يبيح القانون الخاص بها الاستعانة بخبرة العنصر العسكري في تشكيل المحاكم المختصة بنظر هذه الجرائم مما يغني عن ذلك الحكم.

ب-تسرية القانون على الجرائم غير العسكرية: أفردت المادة السابعة القضاء العسكري بنظر كافة الجرائم التي تقع من أو ضد الخاضعين لأحكامه أيًّا ما كان نوعها أو مدى جسامتها، متى وقعت بسبب تأدية أعمال وظائفهم، كما أفردته بنظر كافة الجرائم التي تقع منهم، ولو كانت غير مرتبطة بعملهم، إذا لم يكن في الجريمة مساهم من غيرهم.

ولا يخفى ما في حكم هذه المادة من إخلال بالأصول العامة التي لا تجيز الاستثناء من الاختصاص القضائي العام لصالح فئة معينة، إلا في حدود ما تقضيه طبيعة عمل هذه الفئة،

ولا ضرورة تدعو إلى هذا الاستثناء إذ في أحكام القانون العام ما يحفظ الاعتبارات الخاصة بالمتصلة بالعاملين في كافة أجهزة الدولة، كما أنه لا يستق مع اتجاه الدولة العام الذي بدأ الكفاح في سبيل الغاء التشريع المختلط ثم القضاء المختلط فما جاءت الثورة توجت هذا الكفاح بتوحيد جهات القضاء في جميع المنازعات المتعلقة بالنفس والمال.

ج-تفرد القضاء العسكري بتقدير ما يدخل في اختصاصه – خولت المادة 48 من القانون السلطات القضائية العسكرية وحدها تقرير ما إذا كان الجرم داخلاً في اختصاصها أم لا،

وذلك على خلاف القاعدة المقررة من أن يوكل الفصل في تنازع الاختصاص عند تعدد جهات القضاء إلى محكمة تنازع الاختصاص التي تكفل قانون السلطة القضائية رقم 43/1965 بتنظيمها في المادة 17 منه.

وإلى جانب ذلك فإن قانون الأحكام العسكرية حتى بالنسبة للعسكريين والجرائم العسكرية قد جاوز الأصول القانونية،

يجعله تشكيل المحاكم تبعًا لشخص المتهم دون اعتبار لنوع الجريمة وجسامتها، كما أنه لم يحرص على الضمانات اللازمة في الحبس الاحتياطي، وأخصها إيجاب توقيت مدته وتخويل حق تجديده لغير الجهة التي أمرت به، وتمكين المتهم من ابداء دفاعه عند كل تجديد.

رابعًا: القانون رقم 84/1953: أضفى هذا القانون صفة رجال الضبط القضائي على الضباط القائمين بأعمال البوليس الحربي بالنسبة إلى الأعمال التي يكلفون بها من القيادة العامة للقوات المسلحة. وواضح أن هذا الحكم يتسع لجرائم القانون العام لو وقعت من المدنيين،

الأمر الذي يخرج عن الاختصاص الطبيعي لأجهزة القوات المسلحة ويتعارض مع الأحكام العامة للاجراءات الجنائية، وكذلك لا تدعو إليه الحاجة بالنسبة إلى الجرائم العسكرية التي تقع من العسكريين، إذ تكفل بذلك قانون الأحكام العسكرية رقم 25/1966 في المادة الثانية عشرة منه.

خامسًا: القوانين المنظمة للسجون والمعتقلات: نص الدستور في المادة 27 منه على أنه لا يجوز القبض على أحد أو حبسه إلا وفق أحكام القانون، وقد التزم قانون الاجراءات الجنائية هذا الحكم بتقريره قاعدتين أساسيتين، تناولت أولاها المادة 40 التي تنصل على أنه لا يجوز القبض على إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة بذلك قانونًا، وتناولت القاعدة الثانية المادة 41 منه،

التي تنص على أنه لا يجوز حبس أي إنسان إلا في السجون المخصصة لذلك، ثم حرص في المادتين 42 و 43 على إعلان الضمانات الأساسية لكل من تقيد حريته، فأخضع أماكن ايداعه للإشراف القضائي، كما قرر حق كل مسجون في طلب ابلاغ شكواه للنيابة العامة، وخول كل من يعلم بوجود محبوس بصفة غير قانونية أو في محل غير مخصص للحبس أن يخطر أحد أعضاء النيابة العامة، الذي عليه أن ينتقل فورًا إلى هذا المحل ويقوم باجراء التحقيق والافراج عن المحبوس

– وأكد ذلك وزاد عليه مشروع قانون الاجراءات الجنائية الذي حرص على النص على عدم جواز اتصال رجال السلطة بالمحبوسين بالذات أو بالواسطة، وقد نظم القانون رقم 396/1956 السجون التي تخضع لأحكامه، وحدد الأداة التي تنشأ بها وأكد الإشراف القضائي عليها وبذلك حفظ القانون العام على السجين كرامته الإنسانية وسد سبيل العبث بالضمانات التي قررها.

وقد نص القانون رقم 50/1965 على حق الإدارة في حجز من تعتقلهم في مكان أمين دون أن تحدد ماهية هذا المكان أو كيفية إنشائه أو النظم التي تسري فيه.

وإذا كان موضوع هذه القوانين لا يتسع لغير تقرير الحق الموضوعي في القبض والحجز، فلقد كان الواجب إعمالاً لنص الدستور وتنسيقًا مع قانون الاجراءات الجنائية وقانون السجون، أن يصدر قانون ينظم الأماكن التي يودع فيها من يجوز حجزهم طبقًا للقوانين الاستثنائية السالفة وأداة إنشاء هذه الأماكن والجهة القائمة عليها وسلطاتها وواجباتها وعلى الأخص حقوق نزلائها وتقرير الاشراف القضائي عليها،

إلا إن هذا القانون لم يصدر فيبقى المعتقلون محرومين من الضمانات القمررة لمن ثبت جرمهم وأدينوا بأشد العقوبات، وظلت الأماكن التي يودعون فيها مجهلة بعيدة عن أية رقابة أو إشراف قضائي أو حتى أي تنظيم، غير ما تمليه إرادة السلطة القائمة على مكان الاعتقال، وهو ما أتاح السبيل في بعض الظروف إلى انحراف القائمين على هذه الأماكن باكراه المودعين بها على الاقرار بما يملي عليهم، وأدى إلى احساس المعتقل بالضياع واهدار الآدمية وأغرى بالعدوان على الكرامة الإنسانية، الأمر الذي يتنافى تمامًا مع مبادئ الثورة،

التي قامت أول ما قامت لانهاء المظالم وتأكيد الذات الإنسانية باعلان الإشتراكية، وهي في جوهرها أمان وتأمين وعدل.

وبعد فإنه يتعين في ضوء ما سلف جميعه اعادة النظر في القوانين والاجراءات الاستثنائية الخاصة السلفة على الأسس الآتية:

1-اعادة النظر في القانونين رقم 19/1964، 50/1965 على ضوء الاعتبارات السابقة لالغاء ما بهما من أحكام تتعلق بالحريات الشخصية وضمانات الأفراد، إذ لا محل لتخويل الإدارة السلطات الاستثنائية الواردة في هذين القانونين في الظروف العادية. أما في الظروف الاستثنائية فقد تكفل بذلك قانون الطوارئ.

ومع ذلك فإنه إذا كان لا مناص رغم ما تقدم من تخويل الإدارة سلطة الاعتقال في غير اعلان حالة الطوارئ، فلا بد من وضوع أحكام جديدة تشرط الاعتقال بمبررات تقتضيه، وأن يكون الاعتقال لمدة موقوته، وأن يخضع لإشراف السلطات القضائية بتنظيم طريق التظلم إليها.

2-تعديل القانون رقم 162/1958 الخاص باعلان حالة الطوارئ في ضوء الملاحظات التي أبديت عليه، بحيث يكون الأمر بالاعتقال لمدة موقوتة قابلة للتجديد، حتى تتيح للإدارة المراجعة والتذكر،

مع إباحة التظلم منه أمام جهة ينظمها القانون على نحو يوفق بين الاعتبارات الاستثنائية والضمانات اللازمة، وأن يكون الحبس الاحتياطي في جميع الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون قابلاً للتظلم أمام المحكمة المختصة من محاكم أمن الدولة، وأن لا يتاح في أية حالة تشكيل المحاكم التي تنشأ بموجب هذا القانون من العنصر العسكري وحده،

إذ لا موجب للاخلال بتنظيم القانون العام للمحاكم إلا حيث يقتضي الأمر الاستعانة بخبرة العنصر العسكري، وهوما يكفي فيه اشراك هذا العنصر دون تفرده.

3-اعادة النظر في قانون الأحكام العسكرية رقم 25/1966 بحيث يمتنع سريانه على المدنيين ويقتصر مجال أعماله على العسكريين وحدهم في نوعين محددين من الجرائم، أولهما الجرائم العسكرية البحت وثانيهما الجرائم التي تقع من العسكريين دون مساهم آخر من غيرهم،

ضد أمن أو سلامة أو مصالح القوات المسلحة، وبحيث يرجع عند التنازع في الاختصاص بين المحاكم المنشأة وفقًا له ومحاكم القانون العام إلى محكمة تنازع الاختصاص، وذلك مع تحقيق الضمانات الأساسية للخاضعين لأحكامه وبخاصة فيما يتعلق بالحبس الاحتياطي وتشكيل المحاكم.

4-الغاء القانون رقم 84/1953 الخاص بتخويل رجال الشرطة العسكرية سلطة رجال الضبط القضائي وذلك لما تقدم في شأنه.

5-تعديل قانون السجون، ليسري على كافة الأماكن والمنشآت التي يجوز فيها تقييد حرية المواطنين أيا ما كانت أسماؤها وأيًّا ما كان سبب تقييد الحرية، حتى تخضع جميعًا لما هو مقرر في هذا القانون من ضمانات، أهمها تحديد الأداة التي يجوز بها إنشاؤها،

واخضاعها جميعًا للإشراف القضائي المباشر وتحديد سلطات القائمين عليها، على نحو يحول دون الانحراف والاعتساف وبديهي أن يستثنى من أحكام هذا القانون السجون العسكرية وحدها، على أن تكون مخصصة للعسكريين وحدهم المتهمين أو المحكوم عليهم في الجرائم العسكرية من سلطات القضاء العسكري ونقترح لذلك النظر من جديد في تلك القوانين واعادة صياغتها على الأسس السابقة.

هذا هو نص التقرير الذي رفعناه إلى وزير العدل في 20 يناير 1968، وكنا في انتظار إشارة الضوء الأخضر لاخراج المبادئ التي تضمنها التقرير في صورة مشروعات بقوانين، ولكننا تلقينا بدلاً من الإشارة المأمولة إشارة حمراء،

فقد أبديت لوزير العدل رغبة من مجلس الأمة في عقد اجتماعات مشتركة، تضم أعضاء لجنتنا وأعضاء مشكلة من أعضاء مجلس الأمة وسميت لجنة الحريات، وتكون مهمة اللجنة المشتركة بحث موضوع القوانين الاستثنائية والخاصة وتعديلها بما يتفق مع مبادئ الحرية، وتولاني احساس بأن الغرض الحقيقي من الاجتماعات المشتركة هو الحد من المبادئ والآراء ا لتي تضمنها تقريرنا والاستعاضة عنها بمسح مشوه يمنح اسمًا لا يتفق في شيء مع حقيقة تكوينه

– ولقد صح ما توقعته ففي أول اجتماع مشترك وبعد أن عرض وكيل الوزارة مضمون المبادئ التي انتهينا إليها في التقرير، قرأنا وجومًا على وجوه أعضاء لجنة الحريات بمجلس الأمة، ولم ينضم إلينا منهم في الرأي سوى المستشار محمد عطية إسماعيل النائب العام السابق،

وتولى عضوًا آخر هو الأستاذ ضياء الدين داود الحملة المضادة ومهد لها بالحديث المعاد الذي مجته الأسماع عن المكاسب الإشتراكية ووجوب الحفاظ عليها وعن مرحلة الانتقال التي تمر بها البلاد والتي تبرر الأخذ ببعض القواعد الاستثنائية، وهممت بالرد فإذا بوزير العدل الذي كانت أجلس ملاصقًا له يضغط على يدي ويهمس في أذني طالبًا مني السكوت، وأن أترك له هو مهمة الرد.

وتساءل وزير العدل إلى متى تظل فترة الانتقال قائمة، وإلى متي يتعين حمايتها بقوانين استثنائية، وازداد الوجوم، واتفقنا على ارجاء الاجتماع إلى جلسة أخرى، بحجة اتاحة الفرصة لأعضاء المجلس لدراسة المبادئ التي تضمنها تقريرنا.

وطلبت من وزير العدل اعفائي من حضور الجلسات التالية لعدم جدواها في نظري ولأننا ضمنا التقرير رأينا واضحًا مفصلاً.

وعلمت فيما بعد أن المناقشات كانت تدور في الاجتماعات التالية في حلقة مفرغة وأن الأمر انتهى إلى تشكيل لجنة من الوزراء محمد أبو نصير، شعراوي جمعة، حلمي السعيد تولت وضع مشروع انتهى إلى اصدار قوانين هزيلة لم يقصد بها في نظري سوى امتصاص غضب الرأي العام،

وكان موقف عضو اللجنة الذي تصدى للرد علينا كفيلاً بحمله إلى منصب الوزارة إذ عين وزيرًا للشئون الاجتماعية ثم عضوا في اللجنة التنفيذية العليا، قمة التنظيم السياسي للإتحاد الاشتراكي، كما كان موقف وزير العدل من أساب الاطاحة به في أول تعديل وزاري.

وكانت الفئران التي تمخض عنها الجبل هي القوانين رقم 5 و 57 و 58 و 59 و60/1968 فلنر الآن بماذا جاءت هذه القوانين.

أما القانون رقم 5/1968 فقد جاء بتعديلين تافهين لقانون الأحكام العسكرية رقم 25/1966 الأول هو اخراج الجرائم المنصوص عليها في قوانين الخدمة العسكرية والوطنية من اختصاص القضاء العسكري،

والثاني توقيت الحبس الاحتياطي الصادر بأمر النيابة العسكرية بخمسة عشر يومًا قابلة للتجديد مددًا لا يزيد مجموعها على خمسة وأربعين يومًا يعرض بعدها أمر المتهم على المحكمة العسكرية العليا لتقرير مد حبسه أو الافراج عنه.

وفيما عدا ذلك فإن التعديل لم يعالج العيوب الرئيسية لقانون الأحكام العسكرية فظل ساريًا على غير العسكريين وعلى الجرائم غير العسكرية، وظل القضاء العسكري منفردًا بالفصل في تنازع الاختصاص بينه وبين القضاء العادي، إلى غير ذلك مما سبق الكلام عليه في تقرير 20 من يناير 1968.

ولعل القانونين رقم 57 و 58/1968 هما اللذان استجابا نوعًا ما إلى ما جاء في تقريرنا، إذ ألغى ثانيهما القانون رقم 84/1953 الخاص بتخويل ضباط البوليس الحربي سلطة رجال الضبط القضائي وأضاف أولهما إلى القانون رقم 396/1956 في شأن تنظيم السجون مادة جديدة تحتم أن

"يودع كل من يحجز أو يعتقل أو يتحفظ عليه أو تسلب حريته على أي وجه في أحد السجون المبينة في القانون أو أحد الأماكن التي يتصدر بتحديدها قرار من وزير الداخلية، وتسري عليها جميع الأحكام الواردة في هذا القانون،

على أن يكون حق الدخول فيها للنائب العام أو من ينيبه من رجال النيابة العامة بدرجة رئيس نيابة على الأقل" ونص في مادة أخرى على أن "يعامل كل من تسلب حريته بغير حكم قضائي المعاملة المقررة للمحبوسين احتياطيًّا".

وإذا كان من حسنات هذا التعديل أنه ألحق المعتقلين من حيث المعاملة بالمحبوسين احتياطيًّا، وأوجب أن يودعوا السجون المنظمة بحكم القانون، بحيث تسري عليهم الأحكام الواردة في قانون السجون، إلا إن التعديل ترك ثغرات خبيثة،

إذا أجاز لوزير الداخلية أن يصدر قرارًا بتخصيص أحد الأماكن أيًّا ما كان وأينما كان لايداع المعتقلين، وهو ما يتيح لجهة الإدارة انشاء معتقلات في أمكنة نائية كالواحات مثلاً،

بحيث تكون بحكم الواقع بعيدة عن أية رقابة قضائية كما أنه قصر سلطة تفتيش المعتقلات على النائب العام، بحيث لا يجوز لوكيل النيابة تفتيشها أصلاً ولا يجوز ذلك لرئيس النيابة ولا للمحامي العام،

إلا بإذن من النائب العام، كما لا يجوز ذلك أصلاً لرؤساء ووكلاء محكمة النقض ومحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، وهم جميعًا ممن يملكون سلطة تفتيش السجون طبقًا للقانون رقم 396/1956.

أما القانونين رقم 59 و 60/1968 المعدلان للقانون رقم 119/1964 في شأن بعض التدابير الخاصة بأمن الدولة، القانون رقم 162/1968 بشأن حالة الطوارئ فإنه فيما عدا تعديلات لفظية لا تقدم ولا تؤخر فقد أتى كل منهما بحكم جديد مؤاده منح المعتقل أو الموضوع تحت الحراسة حق التظلم"

إلى محكمة أمن دولة عليا تشكل وفقًّا لأحكام هذا القانون على أن لا يكون قرار المحكمة بالافراج أو بالغاء أم فرض الحراسة نافذًا إلا بعد التصديق عليه من رئيس الجمهورية.

وطبقًا لهذا التعديل يصح نظر التظلم أمام محكمة أمن دولة عليا مشكلة تشكيلاً عسكريًّا بحتصا، كما أن قرار المحكمة أيًّا ما كان تشكيلها لا ينفذ إلا عد التصديق عليه من رئيس الجمهورية،

وهو حكم عجيب حقًّا فإن رئيس الجمهورية مصدر أمر الاعتقال، أو أمر فرض الحراسة، يظل هو وحده المرجع الأخير في الابقاء على الأمر أو الغائه.

وقد قيل في الدفاع عن هذا الوضع أن أوامر الاعتقال وفرض الحراسة ليست أخطر من الجرائم التي تصدر فيها الأحكام من محاكم أمن الدولة، والتي يتعين قبل نفاذها التصديق عليها من رئيس الجمهورية، وهو دفاع فيه كثير من المغالطة ذلك أن واقع الأمر أن الذي يتولى الاتهام وإقامة الدعوى الجنائية في جرائم أمن الدولة هي النيابة العامة، وبذا تكون الخصومة التي يحكم ويعلق نفاذ الحكم فيها على تصديق رئيس الجمهورية هي في الواقع خصومة قائمة بين النيابة العامة والمتهم،

أما التظلم من قرار الاعتقال أو فرض الحراسة فهو يمثل خصومة بين رئيس الجمهورية ومن صدر ضده الأمر، فلا يكون من المنطقي بحال أن يكون رئيس الجمهورية هو الخصم والحكم عند التظلم من هذا الأمر.

وعلى أن هذا التعديل لم يعالج أيًّا من العيوب الأخرى التي تضمنها تقرير 20يناير 1968، فلا زال من الجائز في نطاق القانونين الجديدين أن يصدر أمر بالاعتقال ضد شخص ما، لمجرد أنه كان معتقلاً أو محددة إقامته في 26 يوليو 1961، أو اعتقل أو حددت اقامته من هذا التاريخ حتى تاريخ العمل بالقانون الجديد،

أو ضد شخص لمجرد أنه طبقت عليه قواعد تحديد الملكية الواردة في قوانين الاصلاح الزراعي أو لأنه سبق الحكم عليه في جناية ماسة بأمن الدولة،

أو سبق الحكم عليه من احدى محاكم الثورة أو المحاكم أو المجالس العسكرية – ولم يتناول التعديل بشيء من سلطات النيابة الاستثنائية في التحقيق ولا تشكيل محاكم أمن الدولة ولا الفئات التي يجوز وضعها تحت الحراسة إلى غير ذلك من المآخذ التي تضمنها تقرير 20 يناير 1968.

هذه هي النتيجة التي انتهى إليها ما أسموه بقوانين الحريات، وهي نتيجة تدعو حقًّا إلى أشد الأسى وتدل على أن حكومتنا لم تكن قد استوعبت بعد درس النكسة وأن نظرة حكامنا لم تكن قد اتسعت بعد لادراك أن النصر إنما يتحقق على يعد شعب من الأحرار لا شعب من العبيد.

الأستاذ محمد أبو نصير وأعوانه والتمهيد للمذبحة

في النصف الثاني من شهر مارس 1968 نكب القضاء بوزير منحرف، لا يفهم سياسية الحكم إلا على أنها الدس والنميمة واشاعة الفرقة، وهي وسائل إن قيل تجاوزًا أنها كانت فيها مضى تصلح للوزارات الأخرى فإنها أبعد ما تكون من الصلاحية لتسيير الأمور في وزارة العدل، ذلك أن المهمة الأولى لوزير العدل هي تثبيت دعائم استقلال القضاء،

واشاعة روح الطمأنينة بين القضاة، والبعد بهم عن مزالق السياسة ووسائلها التي قد تتنافى مع قواعد الأخلاق، لكن وزير العدل الجديد الأستاذ محمد أبو نصير جاء بسلوك يتنافى تمامًا مع هذه الاعتبارات، ولقد كنت أظن أول الأمر أن ما بدر منه من تصرفات إنما كان أمرًا عارضًا، لكني أيقنت بعد قليل إنه إنما جاء بسياسة مرسومة، الهدف منها هدم القضاء واحتوائه سياسيًّا.

وكانت باكورة أعماله حديثًا صحفيًّا صرح فيه بأنه يرى ادخال القضاة في تنظيمات الإتحاد الاشتراكي. وقد لاقى هذا التصريح من القضاة ثورة عامة لم يجد الوزير ازاءها، وبناء على مشورة من زملائه الوزراء، مندوحة من تكذيبه، ثم توالت الأنباء بعد ذلك عن اتصال الوزير ببعض القضاة ممن توسم فيهم الاستجابة إلى سلوكه واطلاقهم بين زملائهم ليجمعوا المعلومات عنهم أو بعبارة أصح، لينقلوا إليه ما يقوله زملاؤهم عن تقديرهم لسلوكه.

وكانت للوزير طريقة عجيبة في فهم وتكييف المعلومات التي تصل إليه، فما أن يبلغه خبر عن قاض ينقد سلوكه "سلوك الوزير" حتى يفسر هذا النقد لا بأنه نقد،

بل حملة موجهة ضد الحكومة، وانتهى به الأمر إلى أن أدخل في روع السلطات العليا وفي روع الرئيس جمال عبدالناصر أن القضاة إنما يتزعمون ثورة مضادة، والحق أن الوزير كان بارعًا وأستاذًا في الدس للقضاه على هذه الصورة، كما كان بارعًا في التقاط الصلة المنحرفة من بين جموع القضاه واستخدامها في عملية الدس – ولقد قيل من قديم أن الطوير على أشكالها تقع.

وكان أول اتصال لي بالوزير في هذا الشأن عندما أمرت بنقل وكيل نيابة آداب القاهرة إلى نيابة شمال القاهرة، لأجنبه وأجنب النيابة العامة سوء السمعة بعد أن ترددت الأقاويل عن اتصاله ببيوت لعب الميسر والدعارة، وبعدما تبين من أن بيتًا معينًا منها، فتش دون جدوى أكثر من مرة، بعد الحصول على إذن بذلك من وكيل النيابة، ولم يؤد التفتيش إلى ضبط الجريمة،

إلا في مرة أخيرة تصادف فيها غياب هذا الوكيل وصدور الإذن من وكيل نيابة آخر، فقد قدرت من جهة عدم توافر الدليل المقنع على انحراف وكيل النيابة المذكور وقدرت من جهة أخرى أنه من الخطر تركه يعمل في نيابة الآداب.

وتوفيقًا بين هذين الاعتبارين، اعتبار المصلحة العامة واحتمال براءة وكيل النيابة، رأيت أن أنقله نقلاً لا يضيره ولا ينطوي على معنى الجزاء، فنقلته إلى النيابة الكلية التي يتبعها، وأحلت محله زميلاً متزوجًا مشهودًا له بالاستقامة.

والتقط الوزير الواقعة واستغل معها واقعة أخرى، هي أن وكيل النيابة كان متزوجًا بنت وكيل الوزارة وطلقها، فزعم الوزير أن تصرفي كان بتحريض من وكيل الوزارة كان الخلاف قد بدأ بينه وبين الوزير، ومع أنه لم يكن لوكيل الوزارة شأن بأمر النقل أو علم به أصلاً، ومع أن الطلاق وقع من مدة طويلة، وأجريت بعده أكثر من حركة بين وكلاء النيابة دون أن أنقل الوكيل المذكور من نيابته.

وحدثني الوزير في شأن اعادته إلى نيابة الآداب فأفهمته أنني لا يمكنني أن أتحمل مسئولية عودته إلى العمل في هذه النيابة وفي تلك الظروف،

وقلت له أن من يعلم بالاثم ويسكت عليه يكون مشاركًا فيه، وأني قدرت احتمال عدم صحة الأقاويل والقرائن فنقلت وكيل النيابة نقلاً لا يضيره في شيء، وأن حرص هذا الوكيل على العودة إلى العمل في نيابة الآداب بالذات، إنما يزيد من الشك في أمره،

وتمسكت بموقفي، وسكت الويزر على مضض وجند وكيل النيابة مع من جندهم في عصابة المنحرفين الذين استخدمهم في عمليات الدس والوقيعة، وتكررت الصور المماثلة وبان بوضوح أن الوزير يقرب إليه أسوأ العناصر من رجال القضاء، وقد سألني مرة عن رأيي في أحد رؤساء النيابة فأجبته بأن كفايته محدودة وأن سلوكه وتصرفاته تنم عن عدم أمانته فأبدى لي أن رأيه يتفق مع رأيي في شأنه، ولشد ما كانت دهشتي عندما قال لي الوزير بعد ذلك بأيام قليلة أنه تبين أننا أخطأنا فيما كوناه من رأي عن رئيس النيابة المذكور، وأنه تحقق بتحرياته أنه من خيرة رجال القضاء، فأبديت للوزير عجبي لما يقوله مناقضًا لرأيه السابق، فأجاب ساخرًا بأن العودة إلى الحق فضيلة وقد تحققت بعد ذلك أن الوزير استغل نقطة الضعف في رئيس النيابة وجنده عميلاً له وعينًا على زملائه.

ولقد كاد رأسي أن ينفجر بعد ذلك، أثناء جدالي مع الوزير في شأن صلاحية بعض رجال القضاء، وأيقنت تمامًا أن الوزير يرى الصلاحية في المنحرف ويحمل على أصلح الصالحين من رجال القضاء.

ونجح الوزير في خلق معركة بين الكثرة الصالحة من رجال القضاء وبين القلة المنحرفة، وبدا القضاة يسمعون كلامًا من هذه القلة عن وجوب التعاون مع الحكومة والاندماج في منظمات الإتحاد الاشتراكي، وعن فصل النيابة العامة عن القضاء باعتبارها جهة إدارية.

ورأى القضاة دفعًا لهذا الشر أن يثيروا الأمر لمناسبة انعقاد جمعيتهم العمومية في 28من مارس 1968 لتجديد انتخاب ثلث الأعضاء، فأصدرت الجمعية بيانًا، تحدث عن وجوب سيادة القانون ليأمن جميع المواطنين على حرياتهم وحرماتهم، وعن وجوب استقلال السلطة القضائية،

والبعد بالقضاة عن كافة التنظيمات السياسية، حتى يتأكد لهم النقاء والتجرد والحيدة، وعن وجوب تخصص القضاة وتفرغهم، وأن التجربة أثبتت فشل نظام القضاة غير المتخصصين كما تحدث البيان عن النيابة العامة وأنها جزء لا يتجزأ من القضاء، ويسري على رجالها ما يسري على رجاله،

وانتهى البيان إلى تسجيل رأي القضاة في ثمانية بنود تحصل في استنكار التوسع الصهيوني، وجوب تعبئة الشعب تعبئة كاملة للعمل على إزالة آثار العدوان،

الإيمان بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، تأكيد مبدأ الشرعية وسيادة القانون باعتبارهما من عوامل صلاحية الجبهة الداخلية وتأكيد أن القضاء سلطة مستقلة ورسالة سامية بين القاضي وخالقه،

أن النيابة العامة شعبة أصيلة في السلطة القضائية وأن فصلها عنه يمس استقلال القضاء ووجوب بعد القضاة عن المشاركة في أية تنظيمات سياسية في الإتحاد الاشتراكي على كافة مستوياته، أن تخصص القضاة أصل من أصول التنظيم القضائي السليم.

وجاء هذا البيان ردًّا على ما قيل عن وجوب اشتراك القضاة في تنظيمات الإتحاد الاشتراكي، وفصل النيابةا لعامة عنه باعتبارها شعبة إدارية، وما قيل عما يسمى زورًا بالقضاء الشعبي، وهو قضاء أثبتت تجربة محاكم الاخطاط أنه يفتح الباب للعناصر المنحرفة المرتشية، بحيث يصبح سوط عذاب على الشعب الذي يزعم الانتماء إليه.

وأثار البيان ضجة ولاقى ترحيبًا في الداخل والخارج، ويبدو أن بعض السفارات الأجنبية استغلته، فطبعت منه صورًا ووزعتها على نطاق واسع، الأمر الذي أثار حفيظة السلطات، فاعتبرت البيان تحديًا لها، على الرغم مما جاء فيه من وجوب المحافظة على صلابة الجبهة الداخلية ومحاربة العدوان الصهيوني وتعبئة الشعب للجهاد،

إلى غير ذلك مما يدل على مشاركة القضاة للحكومة في الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، وعلى الرغم من أن البيان وقع في نهايته (من القضاة إلى رئيس الجمهورية اعتزازًا منهم بتقديره لرسالتهم).

وازدادت الفجوة عندما بدأ السيد علي صبري يحرر في جريدة الجمهورية مقالات تندد القضاة، وتطلب اشراكهم في تنظيمات الإتحاد الاشتراكي، وتسخر من القاعدة التي اتفقت عليها الشرائع الدنيوية والسماوية والخاصة بدرء الحدود بالشبهات وتفسير الشك لصالح المتهم،

وزاد الطين بلة أنه طلب تعيين ثمانية من شبان الإتحاد الاشتراكي في وظائف معاوني النيابة على خلاف قواعد الأسبقية في ترتيب التخرج، فلما اعترضت على ذلك كمبدأ،

فضلاً عن احتجاجي بعدم وجود وظائف خالية، علم على ادراج وظائف جديدة لهم في الميزانية واستصدر قرارًا جمهوريًّا بتعيينهم مع أن أداة تعيينهم أصلاً هي قرار وزاري من وزير العدل بناءً على اقتراح النائب العام.

وازدادت الأزمة حدة، وكان موعد انتخابات نادى القضاة قد اقترب، وبلغ من أمر الوزير أن احتضن بعضًا من رجال القضاء بأسماهم مرشحي الحكومة، وكانت النتيجة هزمية كاملة لهم، وانتصارًا على طول الخط للعناصر الصالحة.

وفي غمرة هذه الأحداث، وعلى الرغم من أنني رأيت كدأبي من قديم البعد عن المعركة الانتخابية، فقد رأى حكامنا أن الأوان قد آن للتخلص مني، ويبدو أنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى حجة تبرر احالتي إلى المعاش، فقرروا نقلي إلى منصب آخر،

وأسعفتهم الظروف باحالة رئيس محكمة استئناف القاهرة الأستاذ فؤاد سري إلى التقاعد بحكم السن ولم أجد محلاً للاعتراض على اسناد هذا المنصب الكريم إلي ولا أدري ما الذي جعل الوزير يخشى مفاتحتي في الموضوع ويوسط في عرض المنصب على المستشار عادل يونس رئيس محكمة النقض، فاتصلت بالوزير وقابلته وعاتبته على أنه لجأ إلى الوساطة، وصارحته بأنني لا أمانع في قبول هذا المنصب.

وبقدر ما سعدت لنقلي إلى منصب قضائي كريم بعيد عن العواصف، بقدر ما أسفت لقطع السبيل في اتمام رسالتي كنائب عام.

وقد كشفت الحوادث بعد ذلك أنه كان يهم المحكمة في ذلك الوقت أن يتولى منصب النائب العام من يذعن اذعانًا كاملاً لتوجيهاتها، وكان هناك قول بمؤامرة مزعومة، قصد بحبك فصولها الاطاحة بواحد من خصومها، على سبيل ما سيأتي،

تبين لي فيما بعد النية كانت متجهة إلى عدم التبليغ بها إلا بعد أن يتسلم المستشار علي نور الدين النائب العام الجديد أعمال منصبه، وهو ما حصل بالفعل.

وكان الظن عندي أنه لن يكون هناك مجال للصدام بيني وبين الحكومة ولكن خاب ظني وجاءت المتاعب من وزير العدل، وكان ميدانها عملي في مجلس القضاء الأعلى بحسباني عضوًا فيه،

فما أن وضعت الوزارة مشروع الحركة القضائية حتى انهالت التظلمات علي وعلى أعضاء مجلس القضاء الأعلى تصرخ من النقل الانتقامي كما أسند المشروع بعض المناصب الهامة إلى أعوان الوزير من المنحرفين، وكان أبرز ما جاء به المشروع في هذا الخصوص نقل بعض أعضاء مجلس إدارة نادى القضاة في القاهرة والأسكندرية وندب المستشار محمد الصادق مهدي لمنصب وكيل الوزارة.

ولم يجد أعضاء مجلس القضاء الأعلى صعوبة في الاتفاق على الغاء النقل الانتقامي لأعضاء مجلس الإدارة وغيرهم ممن ساندوهم في الانتخابات ولكن كنت وحدي في الاعتراض على اسناد منصب وكيل الوزارة إلى المستشار محمد الصادق مهدي وكانت حجة من وافقوا على الترشيح أن هذه الموافقة سوف تكون عاملاً من عوامل التهدئة،

وأنه ليس من الملائم مصادرة الوزير في كل طلباته، وأن منصب وكيل الوزارة بالذات يخص الوزير قبل غيره، وكانت حجتي أن منصب وكيل الوزارة يخص القضاة قبل أن يخص الوزير، وانتهى الأمر بالموافقة على الترشيح.

وكانت هذه الموافقة في تقديري بداية الاستسلام الذي شجع الوزير، وجعله يطغى على سلطة المجلس، كما ضربت أسوأ المثل لرجال القضاء،

إذ كان معروفًا في الأوساط القضائية أن سمعة الوكيل الجديد لم تكن فوق مستوى الشبهات وقد تأكدت هذه السمعة فيما بعد، حين عرض أمره على مجلس تأديب القضاة في الدعوى التأديبية رقم 7/1971 فقرر فصله في أسباب مفصلة،

جاء فيها أن المستشار محمد الصادق مهدي والمستشار علي نور الدين وغيرهم عقدوا مع آخرين عدة اجتماعات بعضها في منزل الأستاذ محمد أبو نصير وبعضها في منزل المستشار علي نور الدين ورؤي في هذه الاجتماعات تكوين مجموعات أصدقاء على أن يتم ذلك في سرية وحذر،

كما رؤي ايقاف العمل بالمادة 69 من قانون السلطة القضائية الخاصة بحصانة القضاة من العزل، كما رؤي بتر العناصر المضادة والاطاحة بقمم الرجعية في القضاء وسجلت أسماء من سموا بالعناصر المضادة من مستشاري النقض والاستئناف وغيرهم من رجال القضاء كما أشارت الوثائق إلى انتماء هذه الجماعة إلى مجموعة سامي شرف وشعراوي جمعة.

هذا هو وكيل الوزارة الذي اصطفاه الأستاذ محمد أبو نصير والذي عمل بعد ذلك على ترقيته في غير دوره إلى منصب رئيس محكمة استئناف، متخطيًا زملاءه من أفاضل رجال القضاء، وذلك حتى يكون المثل واضحًا والعبرة أشد وليكون لذلك أثره الفعال في افساد القضاة عندما يوقنون بأن القاضي الصالح يفصل وأن القاضي الفاسد يسبق دوره في الترقي.

أعود بعد هذا الاستطراد فأقول أن موقفي من ترشيح وكيل الوزارة ومعارضتي لهذا الترشيح قد ساء الوزير أيما اساءة وأحس بأنني واقف له بالمرصاد، وزاد الطين اعتراضي على طلبه ندب بعض مستشاري محكمة استئناف القاهرة لأعمال قضائية وقانونية بمقابل مادي لعدم استناد هذا الطلب على قاعدة واضحة، وقيامه على المجاملة البحتة في منح ميزة مالية،

ونجحت في استصدار قرار من الجمعية العمومية برفض الندب فثارت ثائرة الوزير، ولما قابلته بعد ذلك في حفل عام فاتحني في الموضوع عاتبًا، فأفهمته أنني لم يخطر في بالي أن أعترض لمجرد الاعتراض أو لمصادرته في رأيه،

وأن كل ما قصدته التزام قاعدة عادلة جرت عليها التقاليد منذ كنت وكيلاً للوزارة في سنة 1962، وهي التزام الأقدمية في الندب الذي ينطوي على ميزة مالية مع استبعاد من سبق ندبهم في السنوات القليلة الماضية، وذلك حتى لا يكون الندب وسيلة للتأثير على القضاة،

وتظاهر الوزير بأنه وافقني على رأيي وبعث إلي بمدير الإدارة المختصة، واتفقنا على ترشيح أسماء معينة، التزامًا للقواعد السابقة.

وهكذا فإنه في الوقت الذي رحبت فيه بمنصب رئيس محكمة استئناف القاهرة بعدًا عن المتاعب، اضطرني الوزير بسلوكه وانحرافه، إلى مواجهة متاعب جديدة.

ثم بدت نية الوزير واضحة في اجراء حركة قضائية، ليس لها قواعد تستند إليها سوى الانتقام والمجاملة ومناصرة المنحرفين واضطهاد الصالحين، وبدأ رجال القضاء يلحأون إلى عارضين ظلاماتهم، وأحسن الوزير بذلك فأراد أن يتخلص مني كعضو في مجلس القضاء الأعلى،

واستعان على ذلك بواحد من حوارييه المستشار حسن البدوي، الذي كان قد رشحه لرئاسة مجلس إدارة فرع نادي القضاة بالأسكندرية وخذله زملاؤه،

وكان عضوًا في مجلس القضاء الأعلى باعتباره رئيسًا لمحكمة استئناف الأسكندرية، فلما خلا منصب نائب رئيس محكمة النقض ورشحت الجمعية العمومية للمحكمة لهذا المنصب المستشار محمد صبري باعتباره أقدم مستشار فيها وعرض الترشيح على مجلس القضاء الأعلى فوجئت باعتراض رئيس محكمة الاستئناف المذكور على الترشيح،

وانبرى يرشحني أنا لهذا المنصب بحجة أنه مساو لمنصب رئيس محكمة استئناف القاهرة، وقال في تبرير رأيه أنه يفتح الطريق له هو ليعين رئيسًا لهذه المحكمة، وإن كان يغلق الباب تمامًا في وجه مستشار محكمة النقض، الذي كانت هذه آخر فرصة له ليعين نائبًا لرئيس المحكمة قبل بلوغه سن التقاعد.

وفوجئت إذ رأيت أن أغلبية أعضاء المجلس ترحب بالاقتراح على نحو أدركت معه أنه أبدى بناء على خطة مدبرة، بعد أن أصبحت الأغلبية في جانب الوزير وبعد أن حل في المجلس النائب العام الجديد ورئيس محكمة القاهرة الابتدائية الذي جاءها بترشيح الوزير،

وبعد أن استطاع الوزير أن يضم إلى جانبه رئيس محكمة استئناف الأسكندرية ملوحًا بمنصب رئيس محكمة استئناف القاهرة تعويضًا له عن عدم نجاحه في الانتخابات لرئاسة مجلس إدارة فرع نادي القضاة بالأسكندرية بسبب سيره في ركاب الوزير وتكتل القضاة ضده من أجل ذلك. فوجئت إذ رأيت هذا الاتجاه لكن القانوني أسمعني، وأبديت أن منصب نائب رئيس محكمة النقض منصب كريم لا محل للاعتراض عليه في ذاته – وهذه حقيقة- وأن اعتراضي إنما يقوم على ظروف ووسيلة العرض،

وأنه لم يكن من اللائق أن أفاجأ بهذا العرض وأن أبسط التقاليد القضائية توجب عرض هذا النقل ابتداءً على صاحب الشأن، وأنه لم يكن من اللائق كذلك أن يكون دوافع ذلك الترشيح مصلحة شخصية لمن أبداه مع اهدار مصلحة أخرى طبيعية لزميل كبير آخر،

وواجهت أعضاء المجلس بأنهم لا يملكون الترشيح ابتداءً، وأن من يملك الترشيح لمنصب نائب رئيس محكمة النقض هو جمعيتها العمومة دون غيرها، وأن مهمة مجلس القضاء الأعلى في هذا الخصوص بالذات مقصورة على اقرار صلاحية أو عدم صلاحية المستشار الذي ترشحه الجمعية العمومية، وأن المطلوب من أعضاء المجلس هو ابداء الرأي في هذه المسألة، وأن عليهم، أن رأوا عدم صلاحية المرشح، إعادة الأمر إلى الجمعية لترشيح مستشارًا غيره.

وقد ألجمتهم هذه الحجة المستندة إلى قانون السلطة القضائية فراجعوا القانون على عجل ولم يجدوا بعد هذه المراجعة بدًّا من الموافقة على تعيين من رشحته الجمعية العمومية، وبقيت رئيسًا لمحكة استئناف القاهرة.

فشلت المؤامرة إذن.. وبدأ الوزير يحيك مؤامرة أخرى انتهت بكارثة، أو سمها مذبحة أغسطس 1969، إذ أوقف العمل بقانون السلطة القضائية وبحصانة القضاة كبيرهم وصغيرهم،

وأطاح الوزير بكل من واجهه بأخطائه، وكل من وقف في سبيله ففصل جميع أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة وكل من بدا أنه تزعم الحملة أو أسهم فيها لتأييد انتخابهم وكل من تناول بالنقد والتجريح تصرفات الوزير، وانتهزت الكلاب المسعورة الفرصة،

وتسللت من الثغرة التي فتحت في حصانة القضاة، وتدفق سيل من طلبات الفصل فكان للنائب العام شأن مع من لم يذعن لأوامره أو من يعلم أنه لا زال يكن لي بعض الود من رجال النيابة العامة،

وكان لوزير الداخلية ورجال المباحث العامة شأن مع بعض من تصوروا أنهم لا يرضون عن نظام الحكم بسبب تطبيق قوانين تحديد الملكية عليهم أو على أحد أفراد أسرهم أو لغير ذلك من الأسباب، وكان لوكيل الوزارة شأن مع من اتهموه بالانحراف

– على أن أسوأ ما في هذه الكارثة كان فصل رئيسي دائرتي أمن الدولة اللتين قضت احداهما برئاسة المستشار محمد فؤاد الرشيدي ببراءة الأستاذ محمود عبداللطيف عبدالجواد المحامي من تهمة التآمر على قلب نظام الحكم في قضية الجناية رقم 113/1968 أمن دولة عليا، وقضت الثانية برئاسة المستشار سعيد كامل بشارة ببراءة الأستاذ محمد أمين سوكة من تهمة التخابر مع دولة أجنبية،

فضلاً عن فصل القاضي عادل عيد الذي قضى بإدانة ضابط الشرطة مهرب السبائك الذهبية في قضية الجنحة رقم 106/1967 حصر تحقيق نيابة الشئون المالية بالأسكندرية وشبيه بذلك فصل الأستاذ علي عبدالرحيم أمام رئيس نيابة بني سويف لأن ضميره أبى عليه أن يتغاضى عن قضية تعذيب اتهم فيها أحد مأموري المراكز ولم يرض وزير الداخلية وبالتالي النائب العام عن السير في تحقيق الاتهام على نحو جدي.

وأعود فأذكر أن الجناية رقم 113/1968 أمن دولة عليا هي القضية التي بدأت إدارة المخابرات تحقيقها ولم تخطر النيابة العامة إلا بعد تولي المستشار علي نور الدين منصب النائب العام.

وجرفني التيار مع من جرفهم، ولما أعوزتهم الحجة – حتى الظاهرة – لتبرير فصلي اتخذوا من حالتي قاعدة ابتكروها، وقالوا إن المصلحة تقضي بانهاء خدمة من يبلغون سن المعاش في المدة بين أول أكتوبر وآخر ديسمبر، وهم من يقرر قانون السلطة القضائية تنظيمًا للعمل خلال العام القضائي مد خدمتهم إلى نهاية العام القضائي التالي في 30 من يونيو، وبذا كانت الرغبة في التخلص مني هي التي ألحقت الأذى بثلاثة من رجال القضاء العالي.

ولمناسبة قضية التآمر رقم 113/1968 أمن دولة عليا، لا يفوتني أن أذكر واقعة طريفة تعطي فكرة عن الأستاذ محمد أبو نصير وزير العدل وعن وسيلته في الدس والمغالطة، فقد التقيت به أثناء نظر هذه الدعوى في حفل رسمي وانتحى بي جانبًا وسألني مستنكرًا عما إذا كان القانون أو المنطق يجيز ندب المتهم في جناية خبيرًا فيها.

فلما أبديت دهشتي واستنكاري لمثل هذا التصرف، إن كان قد حصل فعلاً، قال لي إن هذا هو ما فعلته دائرة أمن الدولة التي يرأسها المستشار محمد فؤاد الرشيدي فأكدت له بغير تردد أن ما وصل إلى علمه في هذا الشأن لا يمكن أن يكون صحيحًا، وأنني لا أتصور للحظة واحدة أن هذه الدائرة التي يرأسها واحد من خيرة المستشارين يمكن أن تقع في مثل هذا الخطأ، وأن تتخذ اجراء يتنافى وأبسط المبادئ القانونية.

لكن الوزير أكد لي صحة ما وصل إلى عمله فلم أجد بدًّا من استيضاح رئيس الدائرة الواقعة، فتبين أن أحد المتهمين، وله خبرة في فن فحص الخطوط، طلب من المحكمة أن تأذن له بتقديم مذكرة يناقش فيها تقريرًا قدم ضده وجاء فيه أنه حرر بخطه بعض الأوراق المقدمة كدليل على اتهامه، فأذنت له المحكمة بذلك، ولم تكن لتستطيع غير ذلك وإلا كانت مهدرة لحقه في الدفاع.

والعجيب أن الوزير كما علمت فيما بعد – كان يطلق هذه الأكذوبة أينما حل.

ولم يكن الوزير في سبيل الدرس لرجال القضاء يلجأ إلى تحريف الوقائع فحسب، بل إنه كان يقلبها قلبًا، وعلى سبيل المثال فقد اتهم أحد القضاة بأنه ارتكب فعلاً فاضحًا في نادي أسيوط الرياضي مع سيدتين روسيتين متزوجتين من أستاذين مصريين في الجامعة وقد أحيل القاضي إلى مجلس تأديب القضاة، وبعد تحقيق دقيق اطمأن أعضاء المجلس إلى صحة التهمة وقرروا عزل القاضي.

كان كل ذلك أمرًا طبيعيًّا لكن الأمر العجيب حقًّا أن وزير العدل اتخذ من هذه الواقعة وسيلة للتشهير بأعضاء مجلس القضاء الأعلى الذين يشكلون مجلس التأديب،

وتمهيدًا للمذبحة التي كان يدبرها، إذ ألقى في روع المسئولين أن المجلس برأ القاضي من هذه التهمة بما أساء إلى سمعة القضاة لدى الجهات الأجنبية، حتى أنه بلغني أن السيد زكريا محيي الدين نائب رئيس الجمهورية استنكر أمام بعض جلسائه قرار البراءة المزعوم فحدثني أحد هؤلاء الجلساء في الموضوع،

وأفهمته أن القرار صدر بعكس ما يزعمه الوزير، ونقل ذلك إلى لاسيد النائب فأبدى شديد دهشته وقال إنه لم يكن يتصور أن المغالطة وقلب الوقائع بهذا القدر يمكن أن تصدر من وزير مسئول.

وقد كوفئ رئيس محكمة استئناف الأسكندرية على موقفه بتعيينه رئيسًا لمحكمة النقض على خلاف التقاليد والسوابق، التي تقضي باختيار رئيس المحكمة من بين مستشاريها،

وعلى أساس أن من لم تؤهله كفايته لشغل منصب مستشار بمحكمة النقض لا يصلح من باب أولى لشغل منصب رئيسها، وكان تعيين المستشار المذكور بالذات رئيسًا لمحكمة النقض هو الآخر كارثة في تقديري لعدة أسباب، منها أن التعيين كان مكافأة للمعين على موقفه من زملائه وسيره في ركاب الوزير ومنها أنه جاء خرقًا للتقاليد والسوابق الثابتة على نحو ما سبق بيانه،

ومنها شخصية المعين التي تتسم بالخفة والتسرع، ولا أدل على هذا التسرع من اتخاذه اجراء خطيرًا في قضية الجنائية رقم 318/1963 أمن دولة عليا المعروفة بقضية الاستيراد عندما كان يعمل محاميًا عامًا أول، ذلك أن أحد المحكوم عليهم فيها بالأشغال الشاقة المؤبدة قدم طلبًا بالافراج عنه افراجًا صحيًّا مستندًا إلى تقرير طبي صادر من كبير الأطباء الشرعيين ومدير إدارة الشئون الطبية بمصلحة السجون،

وجاء فيه أن المحكوم عليه مصاب بارتفاع في ضغط الدم وتضخم في الأورطي وتصلب في الشرايين وارتفاع في نسبة السكر في الدم، وبناء على هذا التقرير أمر المحامي العام بالافراج عن المحكوم عليه، واتخذ هذا الاجراء الخطير بالنسبة لمحكوم عليه بعقوبة خطيرة وفي قضية كان لها دويها وأثرها في الرأي العام، وأفصحت وقائعها عن أن وسيلة المتهمين فيها لتحقيق أغراضهم كانت الرشوة بمبالغ طائلة،

كل ذلك وعلى الرغم من أن الافراج الصحي لا يجوز موضوعًا إلا إذا كان المرض يهدد حياة المسجون بالخطر، وهو ما لم يقله التقرير الطبي، ولا يصح صدور القرار به شكلاً، إلا من النائب العام وحده، فلا يملك المحامي العام الأول اصداره إلا غذا كان قائمًا بعمل النائب العام في غيابه،

وهو شرط لم يكن قائمًا، إذ إنني كنت أقوم برحلة تفتيشية في نيابات الأقاليم لمدة بضعة أيام، وكنت على اتصال تليفوني دائم بمكتبي لابداء الرأي في المسائل الهامة العاجلة، ولم أكن متغيبًا عن عملي، حتى ينتحل السيد المحامي العام لنفسه سلطات النائب العام، على أن الأمر المريب حقًّا أنه لم يحدثني في الموضوع، لا تليفونيًّا أثناء وجودي خارج القاهرة، ولا مباشرة بعد عودتي،

ولم أعلم بالأمر إلا عندما أخطرني به السيد عبدالعظيم فهمي وزير الداخلية حينذاك، وعلى الرغم مما ساورني من ريب قوية في أن يكون القرار صادر عن سوء نية، وهي ريب مبعثها خطورة القضية وخطورة العقوبة وانتهاز المحامي العام فرصة غيابي عن القاهرة لاصداره، ومع أنه لا يملك ذلك ومع أن التقرير الطبي لا يدل من قريب أو من بعيد عن أن المرض يهدد حياة المسجون بالخطر، فضلاً عن أن المحامي العام تجنب التحدث معي في الموضوع أصلاً، على الرغم من كل ذلك فإنني لم آخذ إلا بالقدر المتيقن، وحملت تصرفه على محمل الجهل والتسرع،

ووجهت إليه تنبيهًا في هذا الشأن بتاريخ 21 من ديسمبر 1965 وأخطرت به وزير العدل في 25 منه وجاء في هذا التنبيه "أنه حرر في 7 من نوفمبر 1965 وإعمالاً لحكم المادة 36 من القانون رقم 396/1956 في شأن تنظيم السجون تقرير طبي يتضمن أن كبير الأطباء الشرعيين ومدير إدارة الشئون الطبية بمصلحة السجون قاما بفحص المسجون وتبينًا أنه مصاب بارتفاع في ضغط الدم وتضخم في الأورطي وتصلب في الشرايين وارتفاع في نسبة السكر في الدم،

وأشر مدير مصلحة السجون على التقرير باعتماد الافراج لأسباب صحية، وكتب بذلك إلى النائب العام وعرض الأمر على المحامي العام الأول فوافق في التاريخ ذاته على الافراج عن المسجون عملاً بالمادة سابقة الذكر. ولما كانت موافقة مدير عام السجون والنائب العام التي اشترطتها المادة 36 المذكورة للافراج الصحي، لم يقصد بها أن تكون موافقة شكلية بل قصد بها الرقابة الفعلية على الأسباب التي تقررها اللجنة الطبية،

وليقدر ما إذا كانت الأعراض المرضية تهدد حياة المسجون بالخطر وتبرر بالتالي الافراج عنه صحيًّا ولما كانت اللجنة لم تسجل في تقريرها أن هذه الأعراض تهدد حياة المسجون بالخطر وكانت في ظاهرها من النوع الذي يمكن معالجته في مستشفى السجن،

فقد كان الأمر في نظرنا يقتضي قبل التسرع باعتماد الافراج الصحي مراجعة من السيدين مدير مصلحة السجون والمحامي العام الأول للجنة الطبية، لايضاح ما إذا كانت الأعراض التي سجلتها في تقريرها من النوع الذي لا يمكن معالجته في مستشفى السجن ويهدد حياة المسجون للخطر.

ويؤيد هذا النظر أنه عندما أعيد فحص السمجون في 3/12/1965 بعد تنفيذ الافراج الصحي بمعرفة مدير الإدارة الطبية للسجون بالنيابة والمفتش الفني بمكتب كبير الأطباء الشرعيين، انتهيا في تقريرهما إلى أن الصدر والبطن خاليان من الأعراض المرضية وأن الجهاز العصبي والبولي سليمان وأن البول خال من السكر وأن حالة المسجون لا تتفق وشروط الافراج الصحي،

وهو التقرير الذي أمرنا بناء عليه إعادة المسجون إلى السجن، هذا إلى أن المادة 36 من القانون سابق الذكر تخص النائب العام وحده بالموافقة على أمر الافراج ولا يملك المحامي العام الأول اصدار هذا الأمر إلا في حالة غياب النائب العام أو خلو منصبه عملاً بالمادة 28 من القانون رقم 43/1965 بشأن السلطة القضائية.

وقد نبهنا شفويًّا على السيد المحامي العام بمضمون ما تقدم وبوجوب عرض جميع حالات الافراج الصحي علينا شخصيًّا.

هذا هو نص التبيه وهذا هو من رأت مراكز النفوذ وضعه في منصب قاضي القضاة حتى تكتمل الصورة التي توختها للجهاز القضائي بعد أن شغلت بمن يمثلون مناصبه الرئيسية أقبح تمثيل في رئاسة محكمة النقض والنيابة العامة ووكالة الوزارة فيالها من نكسة قال البعض أنها لا تقل خطورة عن نكسة يونيو 1967.

آمال لم تتحقق

كنت قد انتهيت من تسجيل الذكريات السابقة، ورأيت أن أرجئ كتابة الخاتمة لأصوغها فيما بعد على ضوء ما يستجد في المستقبل من أحداث.

ومرت الأيام وتوفي الرئيس جمال عبدالناصر، وخلفه الرئيس محمد أنور السادات ووقع الاختيار على الدكتور محمود فوزي رئيسًا للوزارة، وأعلن أنه سيجري تغييرًا أساسيًّا في مناصب الوزراء، وتعلق الناس بالأمل وباتوا في انتظار الوجوه الجديدة ليلمحوا على سيماها علامات الاصلاح المرتقب لكن الأمور على ما يبدو لم تكن قد استقرت بعد،

وعلى الرغم من توافر النيبة الطيبة، فإن مراكز القوى القديمة ظلت مسيطرة، وكان لنفوذ أصحابها أثر واضح في اختيار الوزراء الجدد، وظهر ذلك جليًّا في اختيار المستشار حسن البدوي وزيرًا للعدل.

لقد سلخت ثلثي عمري في القضاء فأصبح قطعة من كياني، وكان من أعز أماني أن يظل محتفظًا بحديته ونزاهته واستقلاله، ولقد حز في نفسي ما كنت أسمعه عن تسلل موجات الانحراف إليه بعد اللطمات التي وجهت إليه وبعد أن ضربت للقضاة أسوأ المثل بالتنكيل بمن يراعون الله والذمة في أحكامهم وكنت على استعداد لأن أكون أول المصفقين لوزير العدل الجديد لو بدا منه ما يدل على أنه يعمل على صد موجات الانحراف وإعادة القضاء إلى سابق مجده،

لكن شيئًا من ذلك لم يحصل، وقد كنت هنالك فرصة ذهبية لاصلاح الأمور عندما كرم السيد الرئيس رجال القضاء السابقين الذين اتسموا بالشجاعة وقضوا ببراءته في ظل الاحتلال البريطاني، كانت فرصة ذهبية ومناسبة طيبة لاستكمال تكريم القضاء باعادة من فصلوا منه ظلمًا. لكن يبدو كما قلت أن الأمور لم تكن قد صفيت بعد مع مراكز القوى.

حركة التصحيح وبدء الاصلاح

ومرت أيام أخرى وفي 15 من مايو 1971 أعلن رئيس الجمهورية في بيان أعلنه على الشعب أن مؤامرة كانت تحاك ضده لاسقاطه والاستيلاء على الحكم.

وتكتل المتآمرون في اللجنة التنفيذية العليا واللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكي، واتخذوا من المعارضة في قيام اتحاد الجمهورية العربية وسيلة وبدأت مراكز القوى وعناصر الفساد التي تتزعم أجهزة الحكم والإتحاد الاشتراكي في الاجتماعات والتكتلات والاتصالات التليفونية التي أمكن تسجيل بعضها، وكان الهدف اظهار الرئيس السادات بمظهر الخارج على الاجماع،

المفرط في حقوق بلاده، وإثارة الاضطرابات، واصطناع الحوادث، ثم الاستيلاء على الإذاعة، والقبض على الرئيس وتجريحه علنًا تمهيدًا للاطاحة به، ولحسن حظ البلاد استطاع الرئيس السادات أن يسبق المتآمرين، وأن يطيح هو بهم وأن يقضي على فتنة كان من المحتمل أن يكون خطرها على البلاد أشد من الخطر الخارجي.

وليس من شأن هذه الذكريات أن تتناول بالتحليل الأحداث السياسية، وإني وإن كنت قد أشرت في هذه العجالة إلى واقعة التآمر المذكورة فإنما فعلت لأسجل أن هذه الواقعة أثبتت صحة نظرتي، وأنني كنت على حق فيما وقع بيني وبين عناصر الانحراف من صدام،

فقد تبين أنه كان على رأس المتآمرين كثير من أصحاب مراكز النفوذ المنحرفين، ممن أشرت إليهم في هذه الذكريات، وعلى الأخص السيد علي صبري نائب رئيس الجمهورية وأمين عام الإتحاد الاشتراكي المتهم في قضية الاستيراد والسيد شعراوي جمعة وزير الداخلية والسيد سامي شرف مدير مكتب رئيس الجمهورية الذي كان قد أصبح وزيرًا للدولة والسيد سعد زايد محافظ القاهرة الذي كان قد عين وزيرًا للإسكان والسيد محمد فايق وزير الإعلام الذي كان قد عارض أشد المعارضة في نشر تقريري عن انتحار المشير عبدالحكيم عامر،

والفريق محمد فوزي وزير الحربية الذي أدى اهماله في حراسة المشير إلى تيسير انتحاره، والسيد عبدالمحسن أبو النور وزير الاصلاح الزراعي بطل قضية الشركة العقارية.

وكان من الطبيعي أن يطاح كذلك بالنائب العام عميل ومحسوب تلك العصابة.

وبدأت الصحف تردد في عبارات صريحة ما كنت قد سجلته في هذه الذكريات وما كان يردده الجميع من أن بلدنا كان محكومًا بطغمة من الجهلة الذين لا تحكم تصرفاتهم العامة سوى مصالحهم الخاصة، والذين لا يؤمنون إلا بالقوة وأن خطرهم كان ناجمًا عن قوة بطشهم وفراغ عقولهم وغياب ضمائرهم بما يجعلهم يستهينون بأقدار الناس وحرياتهم، فاتخذوا من شعارات الثورة والإشتراكية والدفاع عنهما ذرائع للتنكيل بأعدائهم واسكات أصوات الحرية شأنهم في ذلك شأن الصهيونيين الذين يتخذون من شعار معاداة السامية وسيلة للتنكيل بخصومهم.

فانزوى الشرفاء الأحرار وطفا إلى السطح المنحرفون والوصوليون الطفيليون، وأشارت صحيفة الأخبار صراحة إلى أن هذه العصابة هي التي فصلت الشرفاء والأخيار من رجال القضاء.

وكان من العجيب بعد ذلك كله ألا تصل بلادنا إلى ما وصلت إليه من احتلال إسرائيلي ومن فساد داخلي ومن تخلف حتى عن دول عربية وأفريقية كنا في الطليعة بالنسبة لها.

ودارت الدائرة وتبين أن النائب العام علي نور الدين ووكيل وزارة العدل محمد الصادق مهدي الذي رقي بعد ذلك على جثث زملائه رئيسًا لمحكمة الاستئناف تبين أنهما مع آخرين ممن غرر بهم وجندهم الأستاذ محمد أبو نصير كانوا أعضاء في جهاز سري يتبع الإتحاد الاشتراكي ويدين بالولاء للسيد شعراوي جمعة وللسيد سامي شرف منذ كان مديرًا لمكتب رئيس الجمهورية ثم وزيرًا للدولة،

وكانوا يقومون بمهمة مراقبة زملائهم على النحو الذي سبق بيانه والذي سجله الحكم الصادر من مجلس تأديب القضاة في الدعوى التأديبية رقم 7/1971 والذي قضى بعزل المستشار محمد الصادق مهدي. فأي فساد وأي انحلال نجحت هذه الطغمة في الحاقه بالقضاء المصري الذي كان يتمتع في أسوأ أوقات الاحتلال الأجنبي بسمعة عالمية عالية.

وأخيرًا في 15 من ديسمبر 1971 اتخذ رئيس الجمهورية القرار الذي طال انتظاره بجواز اعادة رجال القضاء المفصولين – ولاقى القرار فرحة عامة بين رجال القضاء وتقديرًا من مختلف طوائف الشعب، ورفع قدر رئيس الجمهورية في نظر الكافة.

وهو قرار يستحق الثناء، وإن كنت أرى أن تصحيح الأوضاع على الوجه الأكمل كان يقتضي التقرير ببطلان القانون رقم 83/1969 بشأن اعادة تشكيل الهيئات القضائية والقرار الجمهوري رقم 1903/1969 الصادر تنفيذًا له باعادة تعيين رجال القضاء بعد استبعاد من أريد استبعادهم،

كان يتعين ذلك على أساس مخالفة القانون والقرار للقواعد الدستورية الخاصة بحصانة القضاء واستقلاله أما الوقوف عند جواز اعادة المفصولين فكان يعني بداهة جواز عدم اعادة البعض الآخر بما يستتبعه هذا المعنى من اسباغ الشرعية على القانون رقم 83 والقرار الجمهورية 1903/1969.

ولم يكن من الطبيعي أن يصدر قرار الاعادة في عهد الوزير حسن البدوي الذي كان من أنصار عزل القضاة، واستفاد بالفعل من هذا العزل، وكان من المحتوم أن يستدبل به وزير جديد ووقع الاختيار بالفعل على واحد من خيرة رجال القضاء السابقين ليكون وزيرًا للعدل وهو المستشار محمد سلامة وانتظر الجميع تنفيذ قرار رئيس الجمهورية،

بيد أن التنفيذ جاء ممسوخًا مكرسًا لشرعية فصل رجال القضاء هادمًا لحصانتهم، ذلك أن هذا التنفيذ كان مشروطًا ببحث حالة القضاءة المفصولين بواسطة الأجهزة البوليسية، فوضعت المباحث العامة – التي سميت أخيرًا بمباحث أمن الدولة تقارير كانت هي الفيصل في تقرير اعادة البعض وعدم اعادة البعض الآخر وانتهى الأمر باعادة الكثرة من القضاة المفصولين والاصرار على عدم اعادة من قيل أنهم تزعموا حركة نادي القضاة وعملوا على اصدار بيان 28 من مارس 1968،

ومنهم المستشار ممتاز نصار الذي كان رئيسًا للنادي وزميل له كان قبل ذلك وكيلاً لوزارة العدل هو الأستاذ لطفي علي الذي قيل إنه كان من المتزعمين لتلك الحركة، وقاض كل سكرتير للنادي هو الأستاذ يحيى الرفاعي كذا لم يعد إلى القضاء عدد من خيرة رجال القضاء بسبب ما قيل من انتمائهم فيما مضى إلى جماعة الإخوانالمسلمين، ومنهم الأستاذ كمال عبدالعزيز أحد أعضاء اللجنة التي وضعت التقرير عن بعض القوانين الاستثنائية والخاصة.

على أن الأمر العجيب حقًّا أن الاستبعاد شمل المستشار قطب فراج الذي كان مستشارًا بمحكمة النقض وكانت أقدميته ترشحه – فيما لو أعيد- لرئاسة المحكمة في خلال بضعة أشهر بعد احالة رئيسها إلى التقاعد وكان معارًا لرئاسة محكمة استئناف الكويت وكان يعمل بها بعيدًا عن كل تيارات النادي وبيان 28 مارس وقت صدور قرار الفصل.

ولم أجد بدًا من أن أفاتح الوزير في الموضوع فدافع عن موقفه بأنه وضع مع السلطات الأخرى قاعدة تنطبق على المستشار المذكور، مقتضاها عدم اعادة من يبلغ سن التقاعد في خلال ثلاث سنوات.

حقًّا لقد نفذت القاعدة بالنسبة إلى غيره لكنني عجزت عن فهم الحكمة منها.

والله يعلم إن كانت قد وضعت كقاعدة موضوعية بريئة أم أنها رسمت خصيصًا لتنطبق على هذا المستشار ولأسباب غير مفهومة، ويبدو أن جهد وزير العدل وقف عند هذا الحد ولم يستطع اقناع حكامنا بأن اصلاح الخطأ كان يقتضي التقرير في شكل واضح ببطلان قرار عزل القضاة لعدم دستوريته.

ودافع أنصار الوزير الجديد عن موقفه بنظرية الحلول الجزئية وبأن ما لا يدرك كله لا يترك جله وبأنه لم يكن من المصلحة الوقوف في سبيل الكثرة مراعاة لحق القلة.

لكنني أرى أن المسألة مسألة مبدأ وأن القاضي إما أن يكون محصنًا أو غير محصن، وأن تكريس جواز فصل القضاة واهدار مبدأ عدم قابليتهم للعزل هو أمر من أخطر الأمور على كيان القضاء وسمعته واستقلاله.

على أن الأمر المثير للدهشة أن الاجراء غير الشرعي بالفصل تم في منتهى اليسر وأن الاجراء الصحيح باعادة المفصولين لقي كل هذا العناء بل الأمر الأكثر للدهشة أن القضاة المنحرفين الذين ثبت انتماؤهم إلى النظام الطليعي السري في الإتحاد الاشتراكي والذين كانوا يحررون التقارير السرية عن زملائهم..

هؤلاء القضاة المنحرفين الذين كان يتعين بترهم من جسم القضاء بغير تردد وبذات الوسائل المشروعة التي يرسمها قانون السلطة القضائية،

هؤلاء القضاة حصل تردد غير مفهوم في اتخاذ هذا الاجراء ضدهم وانتهى الأمر من بين عشرات الحالات إلى احالة أربعة منهم فقط إلى المحاكمة التأديبية وكانت المحصلة فصل واحد منهم هو المستشار محمد الصادق مهدي وتوجيه اللوم إلى ثان وتبرئة ثالث، وكان رابعهم قد اختصر الطريق بتقديم استقالته، وتركت الكثرة منهم تتربع على منصة القضاء بما فيه المحكمة الدستورية العليا.

لقد كان الاصلاح الحقيقي يتقضي في رأيي احالة القضاة من أعضاء التنظيم السري جميعهم إلى لجنة الصلاحية لا إلى المحاكمة التأديبية، فليس أقطع في عدم صلاحية القاضي من اشتغاله بالسياسة وتجسسه على زملائه وتحرير التقارير السرية عنهم، ولست أدري كيف يأمن القاضي النزيه إلى العمل أو المداولة مع زميل يعلم أنه قد يكون عينًا عليه لصالح الإدارة أو أية جهة أخرى.

إن أزمة بلدنا هي أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، وما لم نروض أنفسنا على التمسك بالمبادئ والقواعد الخلقية فلن يكون لحالنا صلاح. هذا هو رأيي وأنني لعلى يقين من أن الأيام المقبلة سوف تؤكد صحته. فاللهم لطفك بقضائنا وبمصير بلادنا.

الأمور تسير في الاتجاه السليم

وأخيرًا وبعد الانتهاء من كتابة ما تقدم بدا أن الأمور تسير في الاتجاه السليم وكان فضل البداءة إلى محكمة النقض في حكمها الصادر في الطعن رقم 21/39 ق والمرفوع من القاضي يحيى الرفاعي فقد سجل هذا الحكم عدم شرعية وعدم دستورية القانون رقم 83 والقرار الجمهورية رقم 1603/1969 وكانت الحكومة ممثلة في وزير العدل الجديد الأستاذ فخري عبدالنبي ولمجلس الشعب فضل تكريس هذا المبدأ فصدر القانون رقم 73/1973 في شأن اعادة أعضاء الهيئات القضائية المفصولين فأعادهم جميعًا إلى وظائفهم وسجل أحيقتهم في الترقية إلى الدرجات التي كانوا سيبلغونها،

بل أكثر من ذلك، أحقية من بلغوا منهم سن التقاعد في تسوية معاشاتهم على أساس الدرجة التي كانوا يستحقون الترقية إليها، وكل ذلك بافتراض استمرار هؤلاء القضاة في عملهم.

إن لرئيس الجمهورية ولمجلس الشعب الذي تبنى مشروع القانون أن يفخرا بهذا الاصلاح الجذري، وخاصة إذا نظر إليه كمؤشر على أن الأمور في بلادنا أخذت تسير كما سبق أن قلت في الاتجاه السليم.

وبقيت مسألة أخيرة لا يكتمل الاصلاح في نظري إلا بمواجهتها وهي وجوب احالة المنحرفين من القضاة أعضاء النظام السري إلى المحاكمة التأديبية أو إلى لجنة الصلاحية ولا يسوغ التمسك في هذا المجال بالمثل القائل "عفا الله عما سلف"

فلا عفو في الانحراف وأن ترك هؤلاء المنحرفين في مناصبهم بعد ثبوت عدم صلاحيتهم هو أمر بالغ الخطورة ولا يصح السكوت عليه، خاصة إذا وضع في الميزان أن جانبًا منهم لا زال يعمل في القضاء العالي وفي المحكمة الدستورية العليا بالذات، والراجح لدي أنهم يشكلون جرثومة أو جراثيم قد تنخر في عظام القضاء المصري على المدى الذي لا يعلمه إلا الله.

وإني أود ألا أختم هذه المذكرات إلا بعد الإشارة إلى رؤوس مسائل أرجو أن تطرح للبحث، منها تحصين منصب النائب العام لخطورته بجعله مستشارًا منتدبًا من محكمة النقض أو احدى محاكم الاستئناف على أن يكون ترشيحه من الجميعة العمومية لمحكمته بناءً على طلب وزير العدل وبشرط اقرار مجلس القضاء لهذا الترشيح، وعلى أن يكون الندب لمدة محددة قابلة للتجديد،

ومنها اعطاء نوع من الحصانة لأعضاء النيابة العامة بجعلهم غير قابلين للعزل إلا عن طريق مجلس التأديب أو لجنة الصلاحية. ومنها أن تترك شئون القضاة وأعضاء النيابة العامة لهيئة من رؤسائهم وحدهم إذ إنه من غير المنطقي أن يترك مصير القاضي غير القابل للعزل لأشخاص مهما علت درجاتهم يكونون هم أنفسهم قابلين للعزل.

في هذا الكتاب

مقدمة.............................................................. 5

قضية الاستيراد والتصدير ورئيس الوزراء........................ 9

صدام آخر مع وزير التموين...................................... 15

بحث فيما إذا كانت النيابة تملك اتهام الوزير...................... 21

انحرافات أخرى لوزير التموين................................... 23

مؤامرة سانتالوتشيا................................................ 28

اقتراحات للاصلاح................................................ 30

أمثلة على الفوضى................................................ 36

قضية الأستاذ مصطفى أمين....................................... 40

أمل يخيب في صناعة السيارات................................... 42

الشركة العقارية المصرية ووزير الاصلاح الزراعي.............. 47

أمثلة فريدة من انحرافات القطاع العام............................. 55

انحرافات في وزارة الاقتصاد..................................... 66

أعمال النقل البحري ووزير المواصلات.......................... 81

محافظ القاهرة الحاكم بأمره....................................... 84

صور لمراكز النفوذ.............................................. 89

مؤامرة مزعومة من وكلاء نيابة ضد نظام الحكم................. 97

الاتحاد الاشتراكي ورجال الشرطة................................ 99

سلطات الأمن تحمي المهربين..................................... 102

حادث انتحار المشير عبدالحكيم عامر............................. 106

مظاهرات يناير 1968............................................ 121

معتقلون بغير أوامر اعتقال........................................ 131

حوادث التعذيب................................................... 135

قضية كمشيش..................................................... 145

اصدار قانون الأحكام العسكرية.................................. 147

قوانين الحريات................................................. 149

الأستاذ محمد أبو نصير وأعوانه والتمهيد للمذبحة............... 166

آمال لم تتحقق.................................................... 182

حركة التصحيح وبدء الاصلاح................................... 183

الأمور تسير في الاتجاه السليم.................................... 189