علي أحمد باكثير

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٨:١٦، ١٤ أكتوبر ٢٠١٢ بواسطة Attea mostafa (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
علي أحمد باكثير ... مراحل حياته وتطوره الفكري والفني

بقلم: د. محمد أبو بكر حميد

تمهيد

تفتحت عينا ابن جزيرة العرب البار الأستاذ علي أحمد باكثير رحمه الله (1328-1389هـ 1910 - 1969) على واقع مرير تعيشه أمته العربية والإسلامية التي مزقها الاستعمار شرَّ ممزق بعدة مؤامرات متتالية، كان آخرها القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية في المخطط الاستعماري الذي سمي باتفاقية (سايكس-بيكو) سنة 1916 الذي قضى بتقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا.

ثم سار المخطط حسبما اتفق عليه، فتورطت دولة الخلافة العثمانية المتهالكة آنذاك في دخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب ألمانيا، وتورط الشريف حسين حاكم الحجاز آنذاك في تصديق وعود الإنجليز بالاستقلال بحكم البلاد العربية وانفصالها عن دولة الخلافة.

كان الشريف آنذاك يطمع في الخلافة لنفسه، فأعلن ما سمي بالثورة العربية الكبرى، فتخلص العرب بذلك مما كان بعضهم يسميه الاستعمار التركي ليقعوا في استعمار الإنجليز والفرنسيين، ولم ينالوا الاستقلال الموعود فأصبحوا كالذي يستجير من الرمضاء بالنار.

وكان وعد بلفور" الشهير قد صدر سراً سنة 1917م ثم عرف أمره، وبدا الأمر جلياً، وهو الوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين، وأن ذلك لن يتحقق إلا بتنفيذ اتفاقية (سايكس- بيكو) واحتلال البلاد العربية كلها، وهو الحلم الذي تحقق للاستعمار بنهاية الحرب العالمية الأولى، وأعقبه تحقيق الحلم الثاني للصهيونية، وهو قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948 بنهاية الحرب العالمية الثانية.

ترجمة موجزة عن الشاعر على أحمد باكثير (1)

فتح علي أحمد باكثير عينيه على نور الحياة في بلد بعيد عن أرض العروبة، ولكنه قريب كل القرب من الإسلام، حيث ولد في إندونيسيا في سورابايا من أبوين عربيين سنة 1910 وأرسل إلى حضرموت وهو صغير لينشأ في وطن آبائه على عادة اليمنيين في المهاجر ليتلقى ثقافته العربية في مدينة (سيئون) بحضرموت والتي تعد الآن من أكبر محافظات الجمهورية اليمنية.. في بلد الآباء واِلأجداد حفظ الكثير من القرآن الكريم، وتلقى أصول العربية على بعض الشيوخ وقرأ الكثير من الشعر، وتأثر به.

خاض باكثير تجربة الزواج في (حضرموت) مرتين، وكان زواجه الأول مبكرا جدا وقصير الأجل، قليل الأثر، ولهذا لم يتحدث عنه باكثير على الإطلاق، أما زواجه الثاني فهو زواجه الحقيقي حيث عده زواجه الأول، وقد تم عن وعي وحب لفتاة اسمها (نور) لكن هذا النور انطفأ بالموت السريع لحياة زوجية قصيرة، وأسدل ستاره سنة 1932م.

وكانت ثمرة هذا الزواج طفلة تدعى (خديجة) ماتت أيضا غرقا في بركة ماء بعد وصول والدها إلى مصر بشهور سنة 1934م، وقد جاوزت الثالثة من عمرها.

غادر باكثير (حضرموت) بعد وفاة زوجه، وتوجه صوب (عدن) ليبعد عن نفسه الإحساس بالغربة، وليعالج جراحات قلبه إلا أنه لم يستطع أن يعالج ما هو فيه من وحشة وانكسار في القلب، وبعد أن طوف في الحبشة والصومال أحس (بأن أحزانه لن تهدأ وأن جروحه لن تشفى إلا حين يغرق نفسه إغراقا في هذا الجو الروحي الذي يزدحم في مكة، ويتآلف في المدينة، ويزدهر في الطائف، ويهوم في كل الجزيرة العربية.

وفي عام 1934م رحل باكثير إلى مصر والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية في جامعة فؤاد سابقا ونال الليسانس فيها سنة 1939 ثم دخل معهد التربية للمعلمين وتخرج فيه سنة 1940م وفي السنة نفسها عين مدرسا في مدرسة الرشاد بالمنصورة، واستمر يشتغل بالتدريس حوالي أربعة عشر عاما قضى منها سبعة بالمنصورة وسبعة بالقاهرة ثم نقل إلى مصلحة الفنون قسم الرقابة على المصنفات الفنية في وزارة الثقافة، وكان عضوا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في مصر.

وحينما صدر قانون التفرغ كان باكثير أول أديب نال منحة التفرغ لكتابة ملحمة مسرحية عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، وكان قبل ذلك قد تزوج من سيدة مصرية.

وفي سنة 1954 سافر إلى فرنسا في بعثة دراسية، وكان عضوا في الوفد المصري الذي زار رومانيا والاتحاد السوفيتي سنة 1956 بدعوة من اتحاد كتاب البلدين المذكورين، وفي سنة 1958 مثل مصر أيضا في مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا الأول المنعقد في طاشقند.

وبعد أن قضى باكثير ردحا من الزمن موظفا في وزارة الثقافة أصبح مدير المكتب الفني للرقابة على المصنفات الفنية، واستمر في عمله هذا حتى فقدته العروبة في العاشر من تشرين الثاني سنة 1969، بعد رحلة ثرية سار فيها على الشوك ليثمر لنا الورود التي لا تفنى مع الدهور.

رحم الله باكثير فقد أعطى ولم يأخذ وظلم ولم يظلم.. مع أنه عاش أعواما نحسات لم يجب فيها أحد دعاءه ولم يكشف إنسان السوء الواقع به.

حياته قبل هجرته إلى مصر

عاد علي أحمد باكثير إلى وطنه الأصلي صبياً صغيراً فعاش في غربة أخرى بعيداً عن أمه وأبيه، ثم تحولت هذه الغربة إلى اغتراب في الوطن حين شب عن الطوق وتفتح عقله على أفكار رياح الإصلاح التي هبت على العالم الإسلامي بقيادة المصلحين الإسلاميين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من خلال قراءاته واتصاله بتلميذيهما محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، فلما حاول فتح نافذة لنسمات من هذه الرياح في وطنه، حاربه من أسماهم بالجامدين، ووضعوا في طريقه الأشواك.

وهكذا وجد أديبنا وشاعرنا نفسه منذ باكر صباه في حضرموت يطمح لخدمة أمته من خلال فكره وقلمه، ووجد أن حضرموت بل اليمن كلها لا تتسع لطموحاته، ولن تمكنه من إيصال صوته إلى كل مكان في العالم العربي والإسلامي.

وكأن القدر كان يهيئ له ظروف الرحيل، فنراه يفجع بموت زوجه التي كان يحبها حباً عظيماً فيكون ذلك سبباً في تعجيل هجرته من حضرموت، والضرب في أرض الله الواسعة، فحمل عصا التسيار وغادر حضرموت إلى عدن في 15/2/1351هـ (1932م) ولسان حاله يقول:

إذا نبا بكريم موطن، فله
وراءه في بسيط الأرض ميدان

فأقام في عدن عاماً، وزار الصومال والحبشة فأنشد وخطب وكتب والتقى بشخصيات إصلاحية عديدة، ثم شدته أشواقه الروحية إلى الحرمين الشريفين فسافر من عدن بحراً إلى جدة بادئاً رحلته للمملكة العربية السعودية التي استمرت عاماً، وقد نشرت جريدة "صوت الحجاز" خبر وصوله في عدد الاثنين 15/12/1351هـ / /1932م في الصفحة الأولى بعنوان:

"وصول شاعر حضرموت الأكبر" فحج بيت الله، ثم قصد عاهل الجزيرة الملك عبد العزيز الذي استبشر بملكه خيراً، ووجد في جمعه شتات جزيرة العرب تحقيقاً لوحدتها، وفي دعوته السلفية النقية تطهيراً لعقيدة التوحيد، وأقام صلات مع ولديه سعود وفيصل الملكين فيما بعد.

وغادر الحجاز إلى مصر بحراً عبر ميناء ينبع على الباخرة الطائف في 27/10/1352هـ (1934م) بعد عام حافل أمضاه بين أدباء المملكة العربية السعودية وترك في هذه المرحلة تراثاً أدبياً قيماً أهمه ديوان شعري بعنوان: "صبا نجد وأنفاس الحجاز" ومحاضرات ومذكرات ومراسلات مع الأدباء.

وقد أكرمت المملكة حكومةً وأدباء وفادته، وعرفت له قدره ومكانته، وهو ما شهدت به صحف ذلك العهد، وشهد به النتاج الغزير الذي أنتجه خلال الفترة التي أمضاها هناك.

واستقر باكثير في القاهرة محققاً حلمه الذي تمناه بعد أن ضاقت به الحال في حضرموت، وعبر عنه في إحدى قصائده قائلاً:

سـأرحـل مـن بـلاد ضقت فيها
فـاجـتـاز البحار لأرض (جاوا)

وأعبر (مصر) حيث العلم حيث الـ

وحـيـث الـشـعـر خـفاق لواه

تـلازمـنـي بـهـا أبـداً شعوب

إلـى حـيـث الـمـقام بها يطيب

ـحـضـارة حـيث يحترم الأديب

وحـيـث الـضاد مرعاها خصيب

ولم يستطع الذهاب إلى إندونيسيا (جاوا) "حيث المقام بها يطيب" لوجود والدته بها، ولم تقدر له العودة لرؤيتها فظل بعيداً عنها منذ فارقها صبياً صغيراً حتى وفاتها سنة 1953م.

وهكذا قدر لعلي أحمد باكثير الذي ولد في إندونيسيا وأرسل إلى وطنه حضرموت صغيراً أن يعيش حياته بين مراحل الانكسار في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.. وهو رغم حداثة سنه، إذ كان في السادسة عشرة من العمر في حضرموت سنة 1926م إلا أنه أحس بمعنى الإلغاء للخلافة الإسلامية في تركيا في ذلك العام، حيث وجدت بين أوراق صباه ما يؤكد أن هذا الحدث قد سبب له جرحاً عميق الغور في نفسه.

ولا غرو أن يتأثر أديبنا وشاعرنا بهذا الحدث فقد تشكل وعيه الفكري ووجدانه الأدبي في سن مبكرة، وبدأ بنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره.

وما بين تاريخ سقوط الخلافة في براثن الغرب سنة 1916 وسقوط فلسطين سنة 1948م في أيدي اليهود، كان معظم نتاجه الفكري والأدبي يصب في بحر الدعوة لاجتماع شمل الأمة من جديد، والتحذير من مكائد الدرب عليها، والتبشير بظهور قيادة ربانية تتجسد فيها طموحات العرب والمسلمين أجمعين، ثم كان الجرح الأخير قبيل وفاته متمثلاً في هزيمة 1967م المنكرة.

وصل علي أحمد باكثير إلى مقصده ومحطته النهائية مصر سنة 1934م ليبدأ من هناك في خدمة أمته على أوسع نطاق.. ولم يصل إلى مصر مغموراً، بل وصل إليها شاعراً معروفاً لدى أعلام الأدب والفكر فيها لما سبق أن نشر له من قصائد في أهم مجلات وصحف العصر، وما إن هبط القاهرة حتى تلقت تلك الصحف والمجلات قصائده بالترحاب، وأفردت لها الأماكن البارزة على صفحاتها الأولى، وقد بلغت أبيات أول قصيدة نشرت له بعد وصوله مصر أكثر من سبعين بيتاً، نشرت في عمود مستطيل بالصفحة الأولى من جريدة البلاغ (العدد (3457)، الأحد 15/1/1353هـ، الموافق 29/4/1934م).

وقال في مطلعها:

يـا مصر شاق البلبل التغريد
وافاك من أقصى الجزيرة شاعر

كـم صب أدمعه عليك iiصبابةً وشوامخ (الأحقاف) تدري ما iiبه

والأيك أنت وحوضك المورود

أضـنـاه دهر في هواك مديد

والـلـيـل يعلم والنجوم شهود

فـتـغـار مـنك وكلها تهديد

ثم يتحدث عن هيامه بمصر وعلماء مصر ومآثر مصر الإسلامية ويرد على دعاة الفرعونية:

وتبوأ الإسلام مصر فأصبحت
رغلاً به الغرب العداة أسود

فعلام يكفر بالعروبة معشرٌ

في مصر كل هرائهم مردود

ثم يدافع عن وجوده بمصر قائلاً :

إن تضح داري (حضرموت) فإنني

مَـنْ أصـلـهم أصلي ومَنْ دمهم

والـذائـدون عـن الرشاد ودينه

مـن كـل مـطـرد البيان بكفه

يـبـدو سـنا الإسلام من جنباته

فـي (مـصر) بين الأقربين سعيد

دمـي آبـاء بـيـنـنـا وجدود

قـبـس (لمكروب) الشكوك مبيد

إذ عـز مـن عـن حوزتيه يذود

ويـرن فـي جـنـبـاته التوحيد

وقد لفتت هذه القصيدة البديعة القوية بفكرها وفنها وجرأة صاحبها الأنظار إلى الشاب الحضرمي اليماني القادم إلى مصر.

وكان من المتوقع أن يتألق باكثير في ميدان الشعر، وينافس فيه عمالقة عصره، وهي الغاية التي كان يطمح إلى تحقيقها منذ خرج من حضرموت، غير أن التحاقه بالجامعة المصرية وانضمامه لقسم اللغة الإنجليزية، وما نتج عن ذلك من تأثره بشكسبير وإعجابه بفن المسرحية، قد جعله ينصرف عن الشعر، ويتجه للتركيز على الكتابة الدرامية التي بدأها بتأليف المسرحية الشعرية ثم تحول إلى المسرحية النثرية.

ولما كان علي أحمد باكثير منذ باكر صباه أديباً صاحب رسالة، كانت رسالته في الحياة دائماً وراء مراحل تطوره الفني. فقد وصل مصر وأعلام الشعر قد بدأت تطوى، وبخاصة بعد رحيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم،(توفي حافظ في يوليو سنة 1932م، ثم توفي شوقي في أكتوبر في السنة نفسها أثناء وجود باكثير في عدن، وصدم بموتهما صدمة كبيرة، فقد كان يعدهما قبل أن يتعرف على شكسبير مثله الأعلى في الشعر ورثاهما بقصيدتين طويلتين في ديوانه المخطوط أريج عدن).

فقد حول شكسبير مفاهيمه واكتشف أن الشعر لم يعد ذلك الفن الجماهيري الذي يتوقع أن يؤدي من خلاله رسالته، بل وجد فنوناً جديدة لم يكن يعرفها من قبل، ويأتي في مقدمتها فن المسرح الذي أصبح فن أغلب الجماهير وأكثر الفنون جميعاً تأثيراً في الناس، فاتجه للمسرح، وكتب معظم نتاجه فيه كما هو معروف.

مرحلة الانتشار 1938-1947م

كان من الممكن لباكثير أن يثير حول نفسه ضجة بإنتاجه الذي صحبه معه إلى مصر من حضرموت وعدن والحجاز، وكان من الممكن أن يتحدث عن نفسه لسنوات، فقد جاء مصر وحياته مليئة بالتجارب والأحداث على حداثة سنه فقد خاض معارك فكرية في حضرموت، وشهد خلافات قومه في إندونيسيا، واتصل في شرق أفريقيا وعدن والحجاز بشخصيات كان لها دورها في صنع التاريخ الأدبي والسياسي للمنطقة فيما بعد؛

بل كان من المتيسر له أن يقيم الدنيا ويقعدها بقصة حبه ومأساة زواجه بموت زوجه الحضرمية الشابة، فيكتب فيها الروايات والمسرحيات، ويقيم حول نفسه هالة. ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا كله، فلم يكتب عن نفسه ولا عن مأساة زوجه إلا في مسرحيته الأولى "همام أو في بلاد الأحقاف"، التي كتبها في الطائف أثناء وجوده بالمملكة العربية السعودية.

كان بإمكان باكثير في مصر أن يقيم حول شخصه ضجةً كبيرة فهو الحضرمي اليماني الذي جاء من أقصى جزيرة العرب ليلتحق بقسم اللغة الإنجليزية، ويجد نفسه نتيجة لتحدٍ بينه وبين أستاذه الإنجليزي الذي حط من قدر اللغات الأخرى وبينها اللغة العربية

وقال:

إن الإنجليزية وحدها التي تتفرد بالشعر المرسل،. فغضب الطالب باكثير غضباً إيجابياً كان ثمرته ترجمة لمسرحية "روميو وجولييت" إلى الشعر المرسل لأول مرة في اللغة العربية. وكان ذلك سنة 1936م وهو بعد في السنة الثانية.
وتطورت هذه التجربة بتأليفه مسرحية "أخناتون ونفرتيتي" سنة 1938م قبل تخرجه بقليل والتي التزم فيها بحراً واحداً هو بحر المتدارك، وبهذا العمل كان باكثير أول من استخدم الشكل الشعري التفعيلي متقدماً بسنوات عن كل الذين ادعوا أنهم سبقوه في هذا المجال.
وكان بإمكان باكثير أن يثير ضجة كبرى بهذه المسرحية التي ضرب بها "نزيل القاهرة" وهو الاسم المستعار الذي كان يوقع به قصائده في ذلك الوقت عصفورين بحجر إذ حقق بهذا العمل ريادتين.. ريادة في الشعر، وريادة في المسرح الشعري. ولم يرحب بهذه التجربة في حينها إلا الأستاذ إبراهيم المازني الذي كتب مقدمة المسرحية مشيراً إلى أن باكثير حل مشكلة الشعر في المسرح.
ووضع باكثير تجربته على الناس ومضى يؤلف وينشر غيرها تاركاً القوم من بعده يختصمون ويتجادلون لعدة سنوات بحثاً عن رائد الشعر الحر الحقيقي.
لم يقل باكثير هأنذا، ولم يدخل في معمعة القيل والقال، فنسبتها نازك الملائكة لنفسها، ونسبها لويس عوض لنفسه، وأعطاها بعض النقاد بدر شاكر السياب رغم اعتراف السياب لباكثير بالريادة في مقال له في مجلة الآداب اللبنانية العدد السادس، يونيو 1954م ص69 وهو القول الفصل.
ومع ذلك فقد أنكروا عليه هذه الريادة في حياته فصمت وإن كان يطوي تحت صمته بركاناً يغلي كما يصفه الأستاذ كمال النجمي حين يكتب:
"كان باكثير رحمه الله يضحك بسماحة يظن من لا يعرفه أنه لم يكن يبالي ما ينكرونه عليه من حقه وما يكتبونه عنه من نقد يدرجه في جملة الجامدين أو السلفيين.. ولكن باكثير الحساس كان يختزن في صدره كمده وحزنه لما يجد من نكران وجحود حتى قتله الحزن والكمد رحمه الله".

ويقول النجمي إنه سأل مرة مداعباً باكثير:

"أنت تدعو إلى تبجيل السلف الصالح، وأراك تعقهم كما يفعل غرماؤك التفعيليون الجدد.. فماذا وراء ذلك؟فأجاب باكثير: أنا أحاول زيادة تراث الخليل بن أحمد، ولو سطراً واحداً وهم يحاولون هدم الخليل.. فهم أهل العقوق ولست منهم". (مجلة الحوادث اللبنانية، عدد 1164 في 23/2/1979م)
وهكذا لم يعترف لباكثير بهذه الريادة إلا بعد وفاته، حيث كتبت العديد من الدراسات والأبحاث التي أعادت الحق لصاحبه ولكن على طريقتنا دائماً في تقدير العظماء بعد وفاتهم وبعد أن يكون المظلوم قد انتظر حتى آخر رمق في حياته كي يعيد إليه حقه. (1)

وقد تصدر الناقد المعروف د.عز الدين إسماعيل قضية إنصاف باكثير بعد وفاته حين كتب دراسة طويلة جادة عن مسرح باكثير الشعري حيث قال:

".. إن هذه التجربة تجربة باكثير في أخناتون ونفرتيتي في مجال الشعر المسرحي قد تسربت فيما بعد إلى ميدان شعر القصيدة تسربت إليه بكل أبعادها الشكلية والمعنوية. فحركة الشعر الجديدة التي بدأت منذ أواخر الأربعينيات في العراق والتي امتدت فيما بعد إلى سائر الأقطار العربية وما زالت حتى اليوم تنمو وتتطور لم تحدث في شكل القصيدة في البداية إلا ما أحدثه باكثير"!. (مجلة المسرح المصرية، العددان 70- 71 في 1970م)

اقتحم علي أحمد باكثير ميدان الحياة الأدبية في مصر بجرأة وثقة وجسارة وأصبح كما يقول محمود تيمور:

"إنه ذلك الشاب المثقف الذي وفد من حضرموت إلى مصر ليغتصب جوائز المسابقات الأدبية اغتصاباً، لأنه لم يكن يترك مسابقة إلا ويدخلها فتفوز مسرحياته بالجائزة" (المرجع السابق ص22).

ويروي صاحب صحيفة الشورى المجاهد الفلسطيني الأستاذ محمد علي الطاهر في سياق حديثه عن ذكرياته مع باكثير هذه الواقعة فيقول:

"وقد بلغ من نبوغه المثالي أن وزارة الشؤون الاجتماعية طلبت سنة 1947م ست روايات في مواضيع معينة وأقامت مسابقة مصحوبة بمكافأة باهظة فتلقت الوزارة خمسمائة رواية. ولما فحصت اللجنة المختصة ذلك الجبل من الروايات اختارت ستاً، ولما ظهرت غلافات الأسماء ظهر أن الأستاذ علي أحمد باكثير قد فاز بروايتين من الروايات الست، وهو فوز باهر لا مثيل له، فداعبته إحدى الصحف طالبة من الحكومة منع الأستاذ باكثير من دخول المسابقات" (كتاب في ظلام السجن، مكتبة الخانجي القاهرة 1952م ص75).

وقد نالت أولى مسرحياته في مصر "أخناتون ونفرتيتي" 1940م جائزة المباراة الأدبية للفرقة القومية كما نالت روايته الأولى "سلامة القس" جائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية مناصفة مع نجيب محفوظ عن رواية "رادوبيس" فحصل كل منهما على أربعين جنيهاً.

ومضى باكثير بعدها يكتب بعزيمةٍ لا تعرف الكلل تاركاً أعماله تفرض نفسها على الجوائز الأدبية.. فينال سنة 1945 جائزة وزارة المعارف، عن روايته الشهيرة "وا إسلاماه" التي قررت على المدارس فيما بعد في عدد من البلاد العربية.

وتحصل أكثر مسرحياته حظاً في العروض المسرحية "سر الحاكم بأمر الله" قبل عرضها على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1943، وينال الجائزة نفسها في السنة التالية 1944م عن مسرحية "السلسلة والغفران".

وعن مسرحية "أبو دلامة مضحك الخليفة" يحصل على جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً سنة 1950م حتى قيل وقتها غبطة أو حسداً: إن جائزة وزارة الشؤون الاجتماعية أنشئت خصيصاً لباكثير!!

ففي سنة 1960 ينال جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية "دار ابن لقمان" التي صور فيها جهاد مدينة المنصورة ضد غزو لويس التاسع الذي أسره رجال المقاومة الشعبية هناك.

وفي سنة 1961 اختيرت قصته "وا إسلاماه" للإنتاج السينمائي باللغتين العربية والإنجليزية أخرجها الإيطالي ماريتون وأنتجها رمسيس نجيب.

وفي سنة 1962م منحه الرئيس جمال عبد الناصر وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، كما حصل على وسام عيد العلم ووسام الشعر في السنة نفسها.

وفي سنة 1964م حصل على أول منحة تفرغ ينالها أديب مصري كتب فيها مطولته الدرامية الإسلامية "ملحمة عمر" من تسعة عشر جزءاً فكانت خير ما ختم به حياته الأديبة العريضة.

وبعد وفاته بقليل سنة 1970م أنتج عمله الشعري أوبريت "شادية الإسلام" أخت الرسول بالرضاعة إلى فلم سينمائي.

في الوقت الذي كان فيه باكثير مشغولاً فيه في الأربعينيات من القرن الماضي بمقارعة الاستعمار والصهيونية في مسرحياته الكبيرة مثل "شيلوك الجديد" وعشرات المسرحيات القصيرة مثل "دم الشهداء"، "في سبيل إسرائيل"، "أكبر من العرش"، "ذكرى من الشرق الأقصى"،"دولة تتسول"، "في جحيم القنال"، "ليلة 15 مايو"، "في بلاد العم سام"،"الجولة الثانية"، "الهلال الخصيب"، "معجزة إسرائيل"، "دم الشهداء"..

وغيرها من المسرحيات التي نشرت في فترة ما بين 1945- 1948م، وهي فترة مخاض وولادة دولة إسرائيل.. في هذه الفترة التي كان فيها باكثير يخوض قمة كفاحه بمراس لايلين، كان الكثير من أدباء جيل باكثير لم تتضح لهم الرؤية بعد، ولم تتحدد لهم أهداف.

وقد صرح بهذا نجيب محفوظ في حديث للناقد فؤاد دوارة في كتاب "عشرة أدباء يتحدثون" قال فيه:

"عندما أعود بذاكرتي إلى هذه السنوات (الأربعينيات) أجد أن علي أحمد باكثير، وعبد الحميد السحار لم يداخلهما شك في قيمة إنتاجهما، ووجوب الاستمرار فيه، فقد كانا ممتلئين بالتفاؤل، أما (الآخرون) وأنا فكنا نعاني من أزمة نفسية غريبة جداً، طابعها التشاؤم الشديد"!! (في سلسلة كتاب الهلال، القاهرة 1966م، ص38)

وكان وراء هذا التفاؤل الريادة والسبق الذي حققه باكثير في بداية حياته الأدبية في مصر كما يشهد به محمود تيمور:

"إن باكثير قد رسم لنفسه هدفه الأدبي قبل أن يرتفع صوت عن الأهداف، وهدفه الأكبر فيما يكتب الدفاع عن قضايا أمته" (كتاب طلائع المسرح العربي دار مصر للطباعة القاهرة ص35).

وتوالت أعمال باكثير بعد هذه المسرحية، حين استقرت به الحياة في مصر. فقد كتب قبل الثورة المصرية سنة 1952م ما يقرب من عشرين مسرحية تعاملت معظمها مع القضايا السياسية، إما بالمعالجة الرمزية أو الواقعية للتاريخ والأسطورة أو الحياة السياسية المعاصرة ولم يكتب إلا مسرحيتين اجتماعيتين، وهما "الدكتور حازم" 1954م "والدنيا فوضى" 1951م.

ويظل العامل السياسي عنصراً أساسياً في معظم أعمال باكثير، التي تكون نواتها الأساسية فكرة إسلامية وتتخذ أطرها الخارجية من الأساطير أو التاريخ. ففي أولى مسرحياته في مصر وهي "اخناتون ونفرتيتي" 1940م يصور باكثير كيف ينهار بناء المحبة والعدل والسلام عندما لا تحميه القوة. وفي "الفرعون الموعود" 1944م يرمز باكثير للأوضاع السياسية الفاسدة في مصر.

وقد شغلت فلسطين باكثير كما لم تشغله أي قضية مثلها. وأحس بالخطر القادم قبل أن يتفجر فكتب سنة 1945م مسرحيته الشهيرة "شايلوك الجديد" التي استعار شكلها الخارجي من مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" وصب فيها مضموناً جديداً.

ففي هذه المسرحية استقرأ باكثير الواقع في فلسطين، وصور تعاون الصهيونية والاستعمار الإنجليزي معاً في التمهيد لقيام الكيان اليهودي، وتوقع باكثير قيام دولة إسرائيل قبل قيامها الفعلي بثلاث سنوات.

وفي سنة 1946م أصدر باكثير مسرحية "عودة الفردوس" ليصور فيها كفاح إندونيسيا المسلمة وطن مولده ضد الاستعمار الهولندي، وحتى أسطورة أوديب الإغريقية التي كان من المتوقع أن تكون صياغتها الجديدة، أبعد ما تكون عن القضايا السياسية فقد ربطتها صياغة باكثير بقضية فلسطين وصدرت سنة 1949م بعنوان:"مأساة أوديب".

مرحلة الازدهار 1948 -1958م

بدأت مرحلة الازدهار في حياة باكثير الفنية بمسرحية "سر الحاكم بأمر الله" مثلتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في أول أكتوبر 1948م، أخرجها زكي طليمات ومثلها فريق من أساتذة التمثيل العربي حيث قام يوسف وهبي بدور الحاكم ومعه حسين رياض، وأمينة رزق وسراج منير وفاخر فاخر وفردوس حسن.وقد أعيد تمثيلها مرة ثانية حين افتتحت بها فرقة "المسرح المصري الحديث" موسمها المسرحي لسنة 53-1954م.

ثم مثلت مرة ثالثة حين قدمها "المسرح القومي" في موسم 45 -1955م ثم أعاد عرضها للمرة الرابعة في موسم 55- 1956م. وفي 18 مارس سنة 1971م بعد وفاة باكثير بسنتين وبعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً على عرضها الأول أعاد "المسرح القومي" عرضها من جديد فأخرجها فتوح نشاطي وهو في السبعين وقام بدور الحاكم فيها يوسف وهبي وهو في الخامسة والسبعين. ولقيت المسرحية نجاحاً كبيراً أعادت للمسرح القومي فتوته وأصالته التي فقدها في الستينيات، فانتعشت ذكرى باكثير بين الناس.

ولكن لم تخل مرحلة الازدهار من تنغيص، فقد تعرض لأنانية نجوم عصره التي حاولت إبعاد نجمه عن التألق في سماء الفن ربما دون قصد فكما اصطدم في أول عمل له على الشاشة بنجم السيدة أم كلثوم التي أدت دور البطولة والغناء في فيلم روايته الشهيرة "سلامة القس" سنة 1944م في مرحلة الانتشار، اصطدم في أول عمل له على المسرح، في بداية مرحلة الازدهار، بنجم يوسف وهبي وغيره من النجوم الذين قاموا بدور البطولة في مسرحيته الشهيرة "سر الحاكم بأمر الله". ففي بداية الإعلانات عن المسرحية أهملوا ذكر اسم المؤلف وجعلوا الإعلان يلمع بأسماء الممثلين فقط،

يقول الأستاذ عباس خضر:

"عندما مثلت له مسرحية "سر الحاكم بأمر الله" (كان) يوسف وهبي كعادته يطغى على كل شيء فيما يقدم. فالإعلانات في الصحف وعلى الجدران يملأها اسمه بحروف كبيرة وهناك في زاوية أو ركن من بعض الإعلانات يكتب اسم المؤلف "علي أحمد باكثير" بحروف صغيرة وكأنه لص سرق مسرحية أجنبية وينبغي التستر عليه. غاظني ذلك فقلت: إن يوسف وهبي يأكل لحم باكثير ويرمي عظامه مثل الغول في حكايات الشاطر حسن وست الحسن والجمال".(مجلة الثقافة المصرية، عدد 52، 1978م).

وهناك من يقول:

إنه كان في نيتهم أساساً حذف اسم المؤلف من الإعلانات ولولا أن تحذيراً وصلهم من بعض أصدقاء باكثير لما ذكروا اسمه، ويروي كاتب مجهول ذيل مقاله بكلمة "متأسف" بعنوان:" يسرقون الأستاذ باكثير ويتمتعون بالثناء الموجه إليه".

استهله كاتبه بقوله:

" لا يزال الأستاذ علي أحمد باكثير الشاعر المشهور والروائي العصري الفذ يتحف المسرح بين حين وآخر بروايات عربية مصرية حديثة مبتكرة ستخلد مع الدهر جيلاً بعد جيل بعد أن ملأ الدنيا العربية بقصائده القومية الإنسانية الممتعة". (نشر في جريدة المقطم عدد 29 أكتوبر 1951م)

ثم أخذ الكاتب يروي كيف أن باكثير لم يحضر العرض الأول لمسرحية "سر الحاكم بأمر الله" لأن القوم الذين طغت عليهم نرجسيتهم، نسوا أن يبعثوا للكاتب الكبير دعوة لحضور مسرحيته فلم يأبه لذلك وأمضى ليلته كعادته يخط سطور مسرحية جديدة وهو جالس في قهوة متاتيا بجوار دار الأوبرا يسمع ضجيج الجماهير لروايته العظيمة.

ورغم كل ذلك يبقى العمل في النهاية لمؤلفه وعرف الناس باكثير وأحبه جمهور المسرح من خلال عشرات العروض المسرحية التي قدمتها له الفرق التمثيلية في مصر على مدى أكثر من عشرين عاماً من حياته الأدبية.

مسمار جحا

وفي سنة 1951م، أثناء الغليان ضد الاستعمار والحكم الفاسد فجر باكثير على المسرح قنبلة جديدة متمثلة في مسرحيته الشهيرة "مسمار جحا" وقد جعل باكثير من قصة المسمار المعروفة رمزاً لأساليب الاستعمار في البقاء في البلاد العربية المستعمرة، الأمر الذي جعل جريدة المقطم تكتب قائلة:".. فباسم هذا المسمار بقي هذا الاحتلال البريطاني في مصر إلى اليوم وصار البريطانيون يدعون من الحقوق ما لا يملكون ويصرون على التمتع بامتيازات ليست متاحة حتى للمصريين أنفسهم" (عدد 5/11/ 1951م).

وعندما تقدم باكثير بهذه المسرحية للعرض أشفق عليه القائمون على المسرح وقتها، وكتب المخرج المسرحي الكبير زكي طليمات مقدمة لطبعتها الأولى يقول:

إنه طلب من باكثير تخفيف لغتها التي لن يرتاح لها الإنجليز وإنه اقترح عليه تسميتها "جحا وابنه" إبعاداً لشبهة الرمز ولكن باكثير أصر أن يتحمل تبعات عمله. وتبنى زكي طليمات موقف باكثير وأخرج المسرحية، وعرضت على مسرح الأوبرا الملكية في نوفمبر 1951م في حفل كبير كتبت خبره كل الصحف.
وقام بدور جحا فيها الممثل القدير سعيد أبو بكر، ومعه نعيمة وصفي وسميحة أيوب وعبد الرحيم الزرقاني وعدلي كاسب والممثل الناشئ عبد المنعم إبراهيم، الذي بدأ نجمه في البروز منذ ذلك العرض.
وأحدثت المسرحية صدى كبيراً في الأوساط الثقافية والسياسية وتناولتها كل الصحف وقرظها النقاد، وأقيمت حولها الندوات، واعتبرت حفلاتها تظاهرة وطنية ضد الاستعمار، في قلب وطن يحتله الاستعمار الأمر الذي جعل إحدى جرائد ذلك العهد تكتب في عرضها للمسرحية تقول:
"استطاع مؤلف مسرحية "مسمار جحا" وهو الأستاذ علي أحمد باكثير، أن ينهج نهجاً جديداً في التأليف المسرحي المصري.. استطاع أن يحقق المذهب الرمزي بأجمل وأكمل معانيه في هذه المسرحية.. التي افتتحت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها وكانت ضربة معلم في حينها وفي وقتها" (جريدة الأساس، عدد 22/10/1951م).

ثم أخرج الأستاذ زكي طليمات هذه المسرحية مرة ثانية فعرضها المسرح القومي في موسم 55/1956م كما عرضها مرة ثالثة في موسم 56/1957م.

وقاد النجاح الجماهيري لهذه المسرحية إلى التفكير في تحويلها إلى فيلم سينمائي تم إخراجه وتمثيله وأعلنت عنه الصحف والمجلات مثل:

مجلة الكواكب في عدد 27 فبراير 1952م صفحة كاملة وتم تصويره باستديوهات مصر، وهو من إنتاج شركة الأفلام المتحدة، ووضع السناريو الخاص به أنور وجدي والإخراج إبراهيم عمارة.
وقد قام بتمثيل الأدوار الأولى في الفيلم: عباس فارس في دور (جحا)، وزكي رستم في دور (الحاكم)، وكمال الشناوي في دور (حماد) وإسماعيل يس في دور (ابن جحا) والسيدة ماري منيب في دور (زوجة جحا)، أما دور (بنت جحا) فقد أسند إلى المطربة شهرزاد.

سر شهرزاد

وبعد ثورة 23 يوليو 1952 استمر نجم باكثير في الصعود وبدا وكأنه سيصبح أكثر تألقاً في عصر بشر به، وكرس الكثير من أعماله في سبيله. ولكن هذا التألق كان إلى حين. كانت مسرحية "سر شهرزاد" أول مسرحية تعرض لباكثير بعد الثورة. وكان نجاحها يؤكد ثبات قدم الرجل في فنه.

ففي 15 نوفمبر 1953 افتتحت الفرقة المسرحية موسمها المسرحي لسنة 53/1954م على مسرح الأوبرا بمسرحية باكثير "سر شهرزاد"، وقد تأجل عرض هذه المسرحية التي كتبها باكثير في أواخر سنة 1951م ما بعد قيام الثورة المصرية لكن المسرحية نشرت في كتاب قبل الثورة بشهور، واستقبلت استقبالاً حسناً من النقاد خاصة وأنها عبرت عن تفاقم حالة الفساد في حكم شهريار وأظهرت الحاجة الملحة إلى الثورة والتغيير.

وقد أخرج المسرحية الأستاذ فتوح نشاطي وقام بدور شهريار الممثل القدير أحمد علام ومثلت أمينة رزق دور شهرزاد وقام ببقية الأدوار كل من:

فردوس حسن، نجمة إبراهيم، وفؤاد شفيق وبرلنتي عبد الحميد ومحمد الطوخي وسامية رشدي وغيرهم، ولقيت المسرحية نجاحاً جماهيرياً كبيراً إذ عرضت في ثماني عشرة حفلة. لقد برأ باكثير الزوجة من الخيانة في مسرحية "سر شهرزاد" فعدتها تقارير بعض النقاد إنصافاً للمرأة العربية المسلمة مما لصق بها من خرافات عبر العصور،

وكتبت مجلة الصباح تقول ضمن تقرير طويل:

"وتعد المسرحية في نفس الوقت إنصافاً للمرأة وانتصاراً عادلاً لها، إذ نقلت هذه الأسطورة الخالدة من إطارها القاتم الذي يفيض تشاؤماً بالمرأة واتهاماً لها بالخيانة والانسياق مع الشهوة، إلى إطار مشرق جميل، تتبوأ فيه المكانة الرفيعة التي تليق بها باعتبارها المصلح الأول للمجتمع الذي تعيش فيه. وهكذا تجمع المسرحية بين الواقعية في علاجها الفني وبين المثالية في هدفها النبيل" (عدد رقم 1407 في 17/11/1953م).

أبو دلامة مضحك الخليفة

وبعد ذلك عرضت لباكثير مسرحية فكاهية أخرى، لم تخل من الرموز، وهي "أبو دلامة مضحك الخليفة"، وهي أيضاً من المسرحيات التي كتبها قبل الثورة، فقد نشرت سنة 1951م وتم عرضها بعد الثورة على مسرح الأوبرا سنة 1954م، واستمر عرضها متتابعاً من 3 إلى 15 نوفمبر، وقد أخرجها فتوح نشاطي، وقام بدور أبي دلامة الممثل القدير حسين رياض، فلما مرض قام بالدور في بقية العروض الممثل فاخر فاخر الذي لا يقل جدارة عن السابق وقد شارك في تمثيلها غيرهما من ممثلي فرقة المسرح القومي عهد فرقة المسرح القومي بروائع باكثير وكانت هذه المسرحية آخر. وقد عرضت هذه المسرحية في الكويت في سنة 1963م وقام بإخراجها زكي طليمات.

وفي المواسم التالية أعيد عرض اثنتين من مسرحياته التي لقيت نجاحاً جماهيرياً كبيراً قبل الثورة. فقد أعيد عرض مسرحية "سر الحاكم بأمر الله" التي ظلت على ثلاث سنوات متتالية تفتتح بها المواسم المسرحية (53- 1954)، (54- 1955) (55- 1956م)، على خشبة المسرح القومي. كما أعيد عرض المسرحية "مسمار جحا" على المسرح القومي على مدى عامين متتاليين في الموسم المسرحي (55/1956م)، (56/1957م).

وكان عرض "مسمار جحا" في موسم 56/1957 آخر مسرحية تعرض لباكثير على المسرح القومي، الذي بدأ منذ ذلك العام يدير لباكثير وغيره من الرواد ظهره منذ تعيين الشيوعي المعروف الأستاذ أحمد حمروش مديراً عاماً للمسرح القومي في أكتوبر 1956م، وآخرين ممن ليس لهم تاريخ باكثير الفني والفكري وليس لهم رصيده من الكفاح قبل الثورة.

ومع ذلك فلم يكن ذلك آخر عهد باكثير بخشبة المسرح على كل حال. فقد أتيح لمسرحيته السياسية "شعب الله المختار" الظهور في يناير سنة 1958م ولكن على مسرح آخر.. على مسرح حديقة الأزبكية مثلتها فرقة المسرح الشعبي المصري من إخراج الأستاذ كرم مطاوع.

وبعرض هذه المسرحية يسدل الستار على مسرحيات باكثير الكبرى ذات القضايا السياسية وتنتهي مرحلة الازدهار الحقيقي لمسرح باكثير ولكنه ظل في المرحلة الثانية يكتب للمسرح وينشر مسرحياته، دونما أمل في عرضها في حياته على الأقل. ومع ذلك، فقد عرضت له مسرحيات في المرحلة الثانية ولكنها كانت مسرحيات ذات اهتمامات جانبية تتعلق بالقضايا الاجتماعية.

مرحلة الحصار (1958- 1969م)

كان الموسم المسرحي 56/1957م آخر موسم يعرض فيه المسرح القومي مسرحية من مسرحيات باكثير الكبرى، وهي مسرحية "مسمار جحا" التي ظلت تعرض على مدى ثلاثة مواسم مسرحية بنجاح منقطع النظير، وبإسدال الستار على آخر عرض للمسرحية في ذلك الموسم أسدل الستار على أعمال باكثير في "المسرح القومي" لأسباب فكرية عقائدية. ومن حسن حظ باكثير أن يوقف المسرح القومي عرض أعماله بعد واحدة من أكثر مسرحياته نجاحاً وأكثرها وطنية.

وهكذا حجبت مسرحيات باكثير عن الجماهير وهو في عنفوان ازدهاره وقمة مجده، ومع ذلك فقد كتب باكثير في مرحلة الحصار هذه من سنة 1958م حتى وفاته سنة 1969م عدداً كبيراً من المسرحيات، منها اثنتا عشرة مسرحية نشرت في حياته من بينها عمله الدرامي الضخم "ملحمة عمر" في تسعة عشر جزءاً.

وهي كالآتي:

"الزعيم الأوحد"، "أوزوريس"، "دار ابن لقمان"، "هاروت وماروت"، "قطط وفيران"، "الدنيا فوضى"، "جلفدان هانم"، "الفلاح الفصيح"، "الدودة والثعبان"،"حبل الغسيل"، "شادية الإسلام"، "ملحمة عمر".

أما الأعمال المسرحية التي تركها مخطوطه فهي:

"التوراة الضائعة"، "أغلى من الحب"، "حرب البسوس"، حزام العفة"، "أحلام نابليون"، "مأساة زينب"، "قضية أهل الربع"، "الوطن الأكبر"، "الثائر الأحمر"، "عرايس وعرسان"، "شلبية"، "فاوست الجديد"، "عاشق من حضرموت".

وقد تقدم باكثير بمعظم هذه المسرحيات للمسرح القومي ومسارح أخرى فأهملت ولم تعرض وهو ما تثبته إيصالات استلام نصوص هذه المسرحيات من تلك المسارح وخاصة المسرح القومي وجميعها موجودة لدينا تدين أصحابها.

والمفارقة المضحكة المبكية في آن واحد أن تمثل قبل الثورة، وفي عهد الاستعمار، واحدة من أكثر مسرحيات باكثير ثورية وعداءً للاستعمار وهي مسرحية "مسمار جحا" وأن ترفض بعد الثورة وبعد طرد الاستعمار مسرحية لا تقل عنها وطنية وعداءً للاستعمار الجاثم على أرض أخرى في الوطن العربي. فقد عثرت على مسودة رسالة بخط باكثير بعث بها إلى وزير أو مسؤول كبير يشكو "الرقابة" التي اعترضت على مسرحية "إمبراطورية في الزاد"!!

أما ثاني مسرحية توأد لباكثير في هذه المرحلة فكانت مسرحية "الزعيم الأوحد" فقد كتبها في صيف سنة 1959م. وهي واحدة من أكثر مسرحيات باكثير وطنية وقومية لأنها كانت ضد دكتاتورية عبد الكريم قاسم الذي تحالف مع الشيوعيين والشعوبيين في العراق، وقد توقع فيها باكثير نهاية عبد الكريم قاسم قبل وقوعها.

وفي سنة 1960 يحصل باكثير على جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية "دار ابن لقمان" حيث كان البطل الحقيقي في هذا العمل الدرامي هم أبناء مصر يقاومون الغزو الصليبي ويأسرون الملك لويس التاسع ملك فرنسا ويسجنونه في دار ابن لقمان الشهيرة بالمنصورة.

ورغم ما في هذه المسرحية من معان عميقة وتجسيد لقوة الشعب وتعبير صادق عن روح مخلصة وبرغم فوزها بجائزة كبيرة فإن المسرح القومي تجاهل عرضها!! ويحترق قلب باكثير سنة 1962م عندما ينال جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عن مسرحية "هاروت وماروت" التي لم يعرضها المسرح القومي أيضاً!!

وباستثناء مسرحية "حبل الغسيل" التي كشف فيها باكثير عن سيطرة اليسار على شؤون الفن والمسرح في مصر، فإنه لم تعرض لباكثير مسرحية من مسرحياته التي تمثل اتجاهه الفكري الرئيسي.

فلم يشاهده جمهوره المسرحي حتى وفاته إلا في مسرحيتين اجتماعيتين ليس على خشبة المسرح القومي بالطبع الأولى مسرحية "قطط وفيران" مثلتها فرقة المسرح الحديث على "مسرح الهوسابير" أخرجها حسن إسماعيل واشترك في تمثيلها حسين الشربيني وحسن شفيق وعقيله راتب وزهرة العلا وأحمد شكري. والثانية مسرحية "جلفدان هانم" مثلتها فرقة المسرح الكوميدي، من إخراج عبد المنعم مدبولي تمثيل محمد عوض ونعيمة وصفي.

فقد عرضت مسرحية "قطط وفيران" في موسمين مسرحيين (62-1963م)، (64-1965م) في أكثر من ثلاثين حفلة. أما مسرحية "جلفدان هانم" فلم تعد لباكثير ذكريات مجده المسرحي فحسب، بل وحققت مجداً ونجاحاً لفرقة المسرح الكوميدي ولمخرجها وممثليها، ولا ينسى الممثل محمد عوض أن بروز نجمه وتألقه بدأ بدوره في هذه المسرحية، وقد عرضت مسرحية "جلفدان هانم" على مدى موسمين مسرحيين متتاليين (62-1963م)، (63-1964م)، قدمت فيهما ما يقرب من سبعين عرضاً جماهيرياً ناجحاً في الموسم الأول حققت 27 حفلة، وفي الموسم الثاني 39 حفلة!

وعلى إثر الضجة الكبيرة التي أحدثتها "جلفدان هانم" ظن الجيل الجديد.. جيل الثورة الذي لم يعرف شيئاً عن باكثير أيام مجده أن هذه أول مسرحية تعرض له. وقد أشار الأستاذ أنيس منصور بمرارة إلى هذه الحقيقة في مقال كتبه بعنوان: هذه المسرحية الشريرة أعجبتني".

يقول:

"لم يعرف الناس باكثير مع الأسف إلا أنه مؤلف "جلفدان هانم" والفضل يرجع للتليفزيون والصحافة.. وفي هذه المسرحية حوار جميل ومناقشات محبوكة، ومواقف ساخرة، رغم أن باكثير ليس مشهوراً بالسخرية ولا يشجع عليها"

ثم يعلن أنيس منصور عن اكتشافه لباكثير الساخر فيقول بأسلوب كاريكاتيري:

"الذي يرى باكثير يندهش كيف أنه حاضر النكتة، بارع في خلق المواقف والتخلص من أزماتها. وكيف أنه يجعلك تضحك وأنت مقفل الشفتين، وأن عباراته كالفساتين الضيقة "المحزقة" التي تضغط على الموقف وعلى الجسم فتكشف كل مفاتنه" (جريدة الأخبار، 26/2/1963م، القاهرة).

واستجابة للنجاح الجماهيري الكبير الذي حققته مسرحية "جلفدان هانم" التي أعادت لباكثير شبابه المسرحي أشار وزير الثقافة والإرشاد القومي وقتها د.ثروت عكاشة بإنتاجها سينمائياً فاتفقت مؤسسة الإنتاج السينمائي مع باكثير عليها، وظهرت الإعلانات عن ذلك في الصحف، وأجيزت القصة لحساب المؤسسة، ولم يركض باكثير كما يفعل غيره إلى المؤسسة لتوقيع العقد بل سكن مطمئناً إلى أن جهة رسمية لا يمكن أن تخل بتعهدها وعد الإعلانات الكبيرة التي نشرت عن الفيلم أكثر من كلمة شرف، ثم هدأ كل شيء ومرت فترة صمت سأل بعدها باكثير، ويا للذهول عندما جاءه الجواب بأن المؤسسة قد عدلت عن إنتاجها!!

وكانت مسرحية "حبل الغسيل" آخر ما عرض لباكثير على خشبة المسرح وذلك في الموسم المسرحي 65/1966م مثلتها فرقة المسرح الحديث، إخراج فوزي درويش وشارك في تمثيلها فاروق حكيم، روحية خالد، زوزو حمدي الحكيم، لطفي عبد الحميد، علي الغندور، محمد العناني، هالة الشواربي.

ووضع فيها باكثير آخر كلماته بصراحة عن ما يحدث حوله للمسرح المصري، وكشف النقاب عن لعبة اليسار الانتهازي الذي سخر المؤسسات الثقافية لأغراض شخصية، فانهال القوم على هذه المسرحية بأقلامهم شتماً وتشنيعاً من كل المنابر الصحفية التي كانت بأيديهم، ولم يستمر عرض المسرحية أكثر من ست ليالٍ فقط!!

وفي هذه الفترة شدد على باكثير الحصار واستحكمت حلقاته ووجد نفسه ليس محاصراً فقط في المسرح، بل من قبل كل دوائر النشر وأجهزة الثقافة والإعلام والصحف والمجلات التي سقط معظمها في أيدي التيار اليساري.

وقد كتب صديقه د.عبده بدوي يقول:

"وفي هذه الفترة لم نعرف لباكثير مكتباً أو وظيفة، فقد تم تجميده تماماً، وأسهمت أسماء لامعة في عالم اليسار في إحكام الحصار حوله وحجب الضوء عنه.. وهكذا تظل قضية إبعاد باكثير عن الوظيفة التي تليق به وعن المسرح وعن كافة دوائر الضوء عاراً معلقاً على الحياة الأدبية" (مجلة الهلال المصرية، عدد نوفمبر 1977م).

هاجس الرحيل.. ومفاجأة الموت

وبدأ باكثير يفكر جدياً في الهجرة من مصر حين لم يجد مسرحاً يعرض مسرحياته ولا ناشراً لكتبه ولا مجلةً أو صحيفة تنشر له أو عنه ولا حتى مصيفاً يصطاف فيه. ويروي صديقه الدكتور عبده بدوى أن باكثير كان يقول له دائما "سأهاجر إلى بلادي، لأن أكون راعي الغنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة.. أنا مت حين أبعدت عن المسرح ولكني لم أدفن بعد" (عبده بدوي، المرجع السابق).

ولم يهدأ خاطره إلا بعد أن زار وطنه الذي استقل في نوفمبر 1967م. وفي مايو 1968م طار باكثير إلى عدن ومنها إلى حضرموت بعد غياب دام خمسة وثلاثين عاماً وأمضى هناك شهراً في الوطن الذي استقل في 30 نوفمبر 1967 واستعاد ذكريات صباه مع من بقي من رفاق الصبا، ولكنه عاد غاضباً مما رآه في عدن من تصرفات الجناح اليساري في الجبهة القومية الذي بدأت تفوح منه روائح ماركسية قوية وبدأ يبسط نفوذه كعادة الشيوعيين على الصحافة ووسائل الإعلام تمهيداً للاستيلاء على السلطة كاملة.

وعندما وصل باكثير إلى الكويت في طريق عودته للقاهرة استضافته إذاعة الكويت فسأله المذيع عن رأيه في الصحافة في الجنوب العربي المستقل فأجابه باكثير بألم:

"لقد وجدت هناك اتجاهاً لا أرضى عنه يسيطر على الصحافة وأخشى على البلاد منه".
فسأله المذيع: وهل حذرت منه؟!
فأجاب باكثير بصوت عال: "نعم وفي كل مكان". (حوار مع إذاعة الكويت يونيو 1968م)

عاد باكثير حزيناً إلى القاهرة وهو يخشى على وطنه من السقوط في براثن الشيوعية. وبالفعل تحقق ما خاف منه باكثير وتوقعه فقد استولى الشيوعيون على السلطة في عدن في 22 يونيو 1969م أي قبل وفاة باكثير بخمسة أشهر، وزاد هذا الحدث من توتره وانفعاله وأنهك قلبه المتعب فأصيب بأول نوبةٍ قلبية في حياته فلم يكن هيناً عليه أن يرى وطنه النائي الذي يعده ملاذه الأخير يسقط في أيدي الذين يحاربونه في القاهرة ويريدون نفيه فيها أو منها.

وفاته

بدأ باكثير يفكر في الخروج من مصر لكنه لا يلبث أن يتراجع. وقد تلقى عروضاً من مؤسسات ثقافية في الكويت ولبنان وبدأ يضع احتمالات الإقامة النهائية في لندن ليكتب بحرية دون أن يكسر قلبه أحد خاصة أنه قد تلقى عرضاً من جامعة لندن سنة 1962م للتدريس فيها بقسم الدراسات الشرقية والأفريقية الذي كان يرأسه المستشرق روبرت سارجنت، الذي كتب عدة كتب عن حضرموت وأمضى فيها سنوات.وقد حصلت على ثلاثة من الخطابات المتبادلة بينه وبين سارجنت بالإنجليزية.

الرسالة الأولى من سارجنت بتاريخ 15 مايو 1962م والتي يعرب فيها عن سعادته بلقاء باكثير في القاهرة، ويعرض عليه وظيفة أستاذ محاضر بجامعة لندن، والتي تقتضي حضوره إلى لندن في أكتوبر 1962م

ويقول سارجنت كأنه يريد تشجيعه على اتخاذ قرار سريع:

"وإن لم تستطع أن تحضر فإني لن أكون قادراً على إيجاد مثل هذه الفرصة قبل ثلاث سنوات أو أكثر، فهل تستطيع المجيء في أكتوبر 1962م؟".

ويعرض عليه مرتباً مغرياً قياساً براتبه في مصر وعدداً معقولاً من ساعات التدريس وإجازة خمسة أشهر في السنة يستطيع أن يتفرغ فيها للبحث والكتابة ويؤكد سارجنت في نهاية الرسالة مدى حاجته الشخصية للاستعانة بباكثير وعلمه وخبراته في أبحاثه وفي تدريس الطلاب الأجانب طرق البحث في الأدب العربي المعاصر.

وأكد خصوصية حاجته لباكثير حين كتب يقول: "أنا بحاجة ماسة إلى حضرمي حضرمي الأصل على الأقل للتدريس هنا، وسيكون ذلك موضع سعادتي لأسباب عدة..".

وقد رد عليه باكثير برسالة بتاريخ 5 يوليو 1962م يعتذر فيها لأنه ارتبط بمنحة تفرغ من الدولة لمدة سنتين ليكتب "ملحمة عمر" وقال بأسف:"الحقيقة إن قضاء عدة سنوات في لندن كانت حلماً طالما تمنيت أن يتحقق منذ أمد طويل" وتمنى أن تكون هناك فرصة أخرى للعام الدراسي 63/ 1964م.

ورد عليه سارجنت بتاريخ 5 يوليو 1962 يخاطبه في أولها بلقب "الشيخ علي" ويذيلها على العنوان بلقب "الدكتور علي"! وعبر فيها عن أسفه لعدم وجود فرصة في القريب، وإنه سيخطره بأول فرصة تلوح وسأله إن كان قد وصله كتابه الأخير "سادة حضرموت".

ثم لاحت الفرصة مرة أخرى سنة 1969م عندما تمكن باكثير من زيارة لندن التي وصلها من تركيا في أول يونيو أي قبل وفاته بخمسة أشهر وهناك التقى سارجنت وقال له: إن جامعة لندن ستحتاجه ابتداءً من العام الدراسي 69/1970م كما تلقى عرضاً من: إذاعة لندن للتعاون مع برامجها الأدبية والثقافية.

كتب الأستاذ شوقي السكري بعد وفاة باكثير عن قصة لقائه به في لندن إذ يقول:

"وما كاد باكثير يمضي خمسة أشهر في القاهرة بعد عودته من لندن يقلب الأمور ويعد العدة للرحيل عن مصر عندما يتذكر الحال الذي وصلته فيها ثم يقرر البقاء فيها عندما يتذكر أن مصر فتحت له ذراعيها وحققت له أحلامه وأوصلت رسالته وصوته إلى كل مكان، فكان يردد لبعض أصحابه قوله: والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة" (مجلة الأديب اللبنانية، عدد مارس 1970م)

وفي العاشر من نوفمبر 1969م، وبينما هو في حيرته تلك جاءه الموت نوبة قلبية على غير ميعاد لتقضي على حيرته فكان ذلك اختاره الله له لينقله إلى عالم أفضل وأعظم وأجل من لندن والقاهرة، عالم الخلد والشهادة.

وقد أثار موت باكثير في النفوس شجوناً كثيرة وأحيا قضايا كادت تموت فظهرت على السطح. وكتبت عشرات الأقلام تأسى على موت باكثير مظلوماً من الأعداء ومخذولاً من الأصدقاء وأثار بعض المظلومين قضيته ليذكروا الضمير الأدبي بأنفسهم.

وقد شهد له أصدقاؤه، والذين عاشوا معه عن قرب أنه ظل محافظاً طوال حياته على طبيعته البسيطة الوديعة التي جاء بها من أقصى جزيرة العرب، ولم يسمح لأضواء الشهرة وبهرجة المهرجانات والندوات أن تفسدها.

ولعل الحديث الذي سجله مع تلفزيون الكويت في أبريل سنة 1969م يشهد بتواضعه فترى أنه لا يعرف نفخ الأوداج عند التربع على الكراسي أمام الأضواء، ولا يعرف التشدق بالأمجاد، أو التحذلق والتظاهر والادعاء؛

بل هو كما يقول يحيى حقي:

"كان برهان طبعه تدخينه الغليون فهو يعينه على إطباق الفم، على الصبر والعكوف على النفس والاستغراق في عالمه الخاص.. كان يحب السكون لا اللهوجة، والتؤدة لا التسرع، والصوت الخفيض لا الجهير. تواضعه الجم يخفي أنفةً شديدة وعزة نفس مصونة من الانحناء، ومن الدنايا..
إن كان بين معارفي رجل طيب، فقد كان هو هو مبرأ من اللؤم والخسة والصغائر وتدبير المقالب من وراء الظهور، لا يتلوث لسانه بغيبة إنسان، وكانت عيناه باب قلبه المفتوح تسلك منهما نظراتك إليه بلا مواربة أو خداع.
ما رأيت أحداً مثله يعرف كيف يصدقك القول دون أن يجرحك، وكان يلتزم الصدق دائماً، طيبة لم يزلزلها أو يكربها أن يحسبها بعض الأذكياء مشتبهة بالسذاجة لا عن ترفع منها بل لأنها قانعة بذاتها" (جريدة التعاون 16/11/1969م القاهرة).

كان يحيى حقي رئيساً لباكثير في العمل بوزارة الثقافة لمدة عشر سنوات، وهي كلمة لم يكتب يحيى حقي مثلها في حق أي أديب من معاصريه. وهذا ما جعل أبناء جيل باكثير يجمعون تقريباً على أنه كان أقلهم كلاماً، وأكثرهم إنتاجاً قياساً إلى سني عمره وهو أهم ما قيل عنه بعد وفاته.

ولعل سبب مأساة باكثير في سنواته الأخيرة "وضوح الرؤية" عنده دون أكثر أدباء جيله، فقد ناقض هذا بوضوح وصراحة بعد وفاة باكثير الأستاذ فاروق خورشيد في مقال بعنوان:"باكثير المفترى عليه" أشار فيه إلى عصر باكثير بقوله:

"لست أعتقد أن هناك كثيرين من أدباء عصر باكثير قد اتضحت لديهم الرؤية مثل اتضاحها بالنسبة له..، ولست أعتقد أيضاً أن كثيرين من أدباء جيله قد حظوا بهذا السلام الفكري النابع من الإيمان الواضح بأشياء محددة مثلما حظي هو وربما كان هذا الوضوح في "الفكر" وذلك الوضوح في الموقف، هو الذي سبب الموقف السلبي لكثيرين من النقاد الواعين الذين عاصروه في الاهتمام بما يكتب وما يبدع..
ربما كان تطلع هؤلاء النقاد الدائم إلى مظاهر القلق والحيرة والضياع في الإنتاج الأدبي لمعاصريهم ومعاصريه، واحتفالهم بكل ما يعكس هذه المظاهر التي يعانون منها ويلمسونها، وهو السبب في الانصراف المؤلم عن متابعة إنتاج باكثير بالنقد والدراسة والتحليل". (جريدة الأخبار، 14/11/ 1969م القاهرة).

عن هذه الحقيقة عبر محمد عبد الحليم عبد الله بصراحة ووضوح غداة وفاة باكثير فقال:

"كان باكثير عربياً دخل مصر الكريمة لكنه لم يشعر بأواصر الصداقة التي عقدها بين نفسه وبين المشهورين من كتاب جيلنا عفا الله عنهم لم يشعر أنها قادرة على أن تعطيه كل ما يريد لذلك كنا نرى حياته في العشر السنوات الأخيرة يظللها رضا المغلوب أو تناوشها ثورة المحموم غير المنتظمة.. رأيته كثيراً وهو (يخربش الهواء) وسمعته يتحدث عن العودة إلى موطن مولده، سمعته يقول كلاماً وهو مقطب الجبين ثم يقهقه" (مجلة الهلال المصرية، عدد يناير 1970م).

هكذا حقق باكثير وجوداً متميزاً في كل إبداع بعد وصوله مصر. وبعيداً عن العروض المسرحية والسينمائية لأعماله، فإن القيمة الحقيقية لإنتاج باكثير تتمثل في مجموعة "الريادات" التي سبق بها، وفي "الفكر" الذي عبر عنه في قوالب فنية جديدة.

ففي الشعر سيبقى علي أحمد باكثير رائداً للشعر الحر وفي الرواية سيبقى هو صاحب الطرح الفني الذي يستشرف المستقبل من خلال الماضي، فهو رائد الرواية التاريخية الإسلامية بلا منازع، ولو لم يكتب إلا روايتي "واإسلاماه" التي صور فيها لوحة رائعة من صور الجهاد والانبعاث في حياة أمتنا و"الثائر الأحمر" التي حذر فيها من المد الشيوعي الذي تحقق في عالمنا العربي فيما بعد، وصور فيها قصة الصراع بين الشيوعية والرأسمالية والعدالة الإسلامية من خلال تجربة الحركة القرمطية المعروفة في التاريخ الإسلامي، وشخصية حمدان قرمط الشهيرة.

لو لم يكتب باكثير إلا هاتين الروايتين لكفتاه خلوداً في سجل الرواية العربية التاريخية فنياً وفكرياً. وفي الوقت نفسه نجد باكثير يقف عملاقاً في مجال التأليف المسرحي الذي خصص له جل إنتاجه فهو الثاني بعد توفيق الحكيم من حيث غزارة الإنتاج، لكنه يبقى الأول من حيث تصدر القضايا التي ترتبط بهموم الأمة وتشغل الناس.

فباكثير بإجماع النقاد من محبيه ومبغضيه –رائد الكوميديا السياسية الهادفة في المسرح العربي، وهو القلم الذي ارتبط مسرحه بالقضايا الوطنية والقومية والإسلامية، فقد جعلت منه أعماله الثائرة في الأربعينيات من القرن الماضي العدو الأول دون كل أدباء جيله للاستعمار والصهيونية قبل أن يخرج الاستعمار من الأوطان العربية وقبل أن تقيم الصهيونية دولتها في فلسطين.

رحم الله علي أحمد باكثير وأنزله منازل الصديقين والشهداء والأبرار لقاء ما قدمه لأمته التي أفنى حياته في سبيلها.

المراجع

  1. الكاتب هو الدكتور محمود جواد المشهداني
  2. بل كتب عبدالله الطنطاوي دراسة ضافية في العدد التاسع من مجلة الآداب سنة 1969 قبيل وفاة باكثير أثبت الريادة له في شعر التفعيلة. (أدباء الشام).

ألبوم صور

الأستاذ على احمد باكثير
 

على-أحمد-باكثير-شابا-01

على-أحمد-باكثير-شابا

على-أحمد-باكثير-05

على-أحمد-باكثير-04

على-أحمد-باكثير-03

على-أحمد-باكثير-02

على-أحمد-باكثير-01

على-أحمد-باكثير

على-أحمد-باكثير-ونجيب-محفوظ

على-أحمد-باكثير-وعبدالناصر

على-أحمد-باكثير-شابا-03

على-أحمد-باكثير-شابا-02