ليس دفاعًا عن الشهيد سيد قطب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٢:٣٥، ١٢ أبريل ٢٠١٦ بواسطة Sherifmounir (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ليس دفاعًا عن الشهيد سيد قطب

بقلم: د. محمد عبد الرحمن

هذه السطور ليست دفاعًا عن الشهيد سيد قطب- نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا-، وإنما توضيح وتأكيد حقائق نعلمها جيدًا يجب أن نذكرها ولا نسكت عنها.

الدكتور محمد عبدالرحمن.jpg

إننا نتساءل: لماذا هذه الهجمة الشديدة على الشهيد وكتاباته؟ وهي تهدأ لفترة ثم لا تلبث أن تنشط وينضم لها كل حين بعض الكتاب أو الأفراد ممن يتحركون في مجال الدعوة الإسلامية، وهم لم يظهروا نصف هذا الغضب على المشروع الصهيوني والمؤامرات والقيم الغربية التي تستهدف أمتنا.

ولمصلحة مَن يتم ذلك؟ ولماذا تلتقي هذه المواقف مع مواقف أعداء الإسلام من صهاينة وأمريكان؟ ولماذا في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى إيقاظ الأمة وحشدها لمقاومة ومواجهة العدوان عليها؟ ويا ليت الحملة كانت تستهدف النقد الموضوعي، وأن تطرح النقاط والمواضيع التي تكلَّم فيها الشهيد، وتعرض التصور الصحيح المستند للأدلة الشرعية في تلك الأمور، لكنها استخدمت الأسلوب الإعلامي، وإطلاق الأحكام وإلصاق الصفات بكتابات الشهيد دون تمحيص علمي.

ينبغي على مَن يحكم على كتابات الشهيد سيد قطب أن يستخدم الأسلوب العلمي المحايد، وأن يتجرد من أي انحياز نفسي يكون متأثرًا بموقفه من التيار الذي ينتمي إليه، أو متحاملاً على شخصه وذاته، أو شاعرًا بالغيرة منه.

إن أي كاتب إذا أردنا أن نحكم على آرائه أو نستوضحها لا يكتفي بمجرد قراءتنا وفهمنا لبعض ما كتب وإنما يكون هذا من خلال أسلوب علمي محدد يحقق مبدأ "التثبت والتبين". 1. إما أن يكون بمناقشته فيما كتب واستيضاح ما يقصد. 2. وإذا كان غير موجود، فننظر إلى سلوكه وآرائه العملية، لنفهم في ضوئها مقاصده ومعتقداته. 3. وكذلك أن ننظر في كلماته كلها ولا نجتزأ منها سطورًا. 4. وإذا كان الكاتب قد سطَّر آراء ثم رجع عنها بعد ذلك وأعلن عدم رضائه، فلا ينبغي أن نحاسبه عليها بعد ذلك، مثلما فعل الشهيد عندما أعلن عن عدم رضائه عن كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وأن به بعض الأخطاء وسيحاول إعادة كتابته، وكان هذا الكتاب في بداية توجهه الإسلامي وقبل التزامه بجماعة الإخوان المسلمين. 5. كذلك علينا ألا نحاسبه فيما فهمه بعض الناس عندما طالعوا كتاباته وإنما ماذا كان يقصد وما هو فهمه؟

إن الشهيد سيد قطب- رحمه الله- من مواليد (9/10/ 1906م) أي يسبق مولد الإمام الشهيد حسن البنا بأيام قليلة (أقل من شهر)، وكان رحمه الله أديبًا بليغًا، وناقدًا أدبيًّا متميزًا شهد له بذلك مَن عاصروه، وقد تميَّز في عصرٍ كثُر فيه الفطاحل من الأدباء والشعراء.

وقد التزم بجماعة الإخوان المسلمين أواخر عام 1951 واستشهد يوم الإثنين 29/8/1966 قبل بزوغ الفجر (صدر الحكم عليه 21/8/1966م)، ونفذ بعد أسبوع أي قارب على الخمسةَ عشر عامًا داخل صفوف الإخوان، قضى منها داخل السجون أكثر من أحد عشر عامًا وتولى بعد عام 1951 مسئولية قسم نشر الدعوة، وهو أحد أهم أقسام الجماعة التي تتعامل مع المجتمع.

فهل كان الشهيد يكفر الناس حكامًا ومحكومين؟ وهل كان يصف هذه المجتمعات بالجاهلية، أي بالكفر والخروج عن الدين؟ وهل كان ينتهج منهج العنف والانعزال؟ إننا إذا طبقنا المنهج العلمي في الدراسة والتقييم لوصلنا إلى نتيجة قطعية بالنفي لهذه الاتهامات.

لقد كان الخطأ في حقيقته عند هؤلاء الذين أرادوا أن يفهموا فهمًا معينًا ويحملوا باقي كلامه على هذا الفهم رغم أن حياته العملية وأقواله وكتاباته ومَن عاشوا بالقرب منه تقطع بابتعاده عن هذه المفاهيم.

أو نجد البعض يقفون عند بعض الألفاظ ذات الدلالة الأدبية ويجردونها عن سياقها ولا ينظرون إلى أن الكاتب كان أديبًا ولا يقصد المعنى الذي ذهبوا إليه مطلقًا.

ولا يعنينا هنا أن فلانًا من العلماء أو المشاهير أصدر هذه الأحكام والصفات على ما كتبه الشهيد، فالبحث العلمي يقوم على الأدلة والبراهين وعلى القواعد العلمية للتثبت والحكم، وبالنسبة لما سطَّره الشهيد من كتاباتٍ فإن طبيعته الأدبية وبلاغته كانت ملازمة له.

وهو نفسه عندما كتب الظلال، قال في مقدمته أنه لا يكتب تفسيرًا للقرآن، فهذا له قواعده وأسلوبه، ولكن خواطر ومعانٍ يستشعرها عند معايشته وتلاوته لآيات الذكر الحكيم.

ومن المعروف عن الشهيد أنه كان رجّاعًا، إذا راجعه أحد وناقشه، وكان يعرض ما يكتب قبل طباعته على الكثير من إخوانه ويستمع إلى نصائحهم.

ولكي نفهم ما كتب، نرى أنه لم يخرج عما كتبه من كان قبله من علماء الإسلام في الأمة، فهذه كتابات ابن القيم وابن تيمية وغيرها كان فيها لفظ الجاهلية والحملة الشديدة عمن انحرفوا عن أحكام الإسلام.

كان مقصده بكلمات الجاهلية: القيم والمفاهيم، وليس الأشخاص أو الناس في المجتمع، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر- رضي الله عنه- عندما أخطأ مرةً "إنك امرؤٌ فيك جاهلية".

وما ذكره هو من لفظ الحاكمية وضحه في أماكن أخرى، حيث يقصد بها تأكيد المرجعية لشرع الله وضرورة تطبيقه، وما ذكره عن انتساب الناس للإسلام بحكم شهادة الميلاد هو كلام عام ذكره غيره من العلماء الذين سبقوه ولم يتهمهم أحد بادعاء التكفير.

كان رحمه الله يستخدم الكلمات البليغة الأدبية لتوضيح رأيه وللدفاع عن الإسلام، ولم يكن بصدد إصدار أحكام، فهذه لها أصول ولها أهلها من علماء الشريعة، ولم يدع هو ذلك في يومٍ من الأيام. وحول حديثه عن الجهاد، لم يخرج عن قول علماء الأمة عن شرح نوعي الجهاد: "جهاد الدفع" و"جهاد الطلب" أي الغزو في سبيل الله ولم يدع أنه سيتكلم عن الأحكام الفقهية والشروط الشرعية المتعقلة بذلك وإنما كان يتحدث عن المبدأ والمفهوم.

المناخ والمرحلة التي واجهها الشهيد كان رحمه الله في مرحلةٍ من تاريخ الأمة تواجه فيها ضغوطًا كبيرةً وهجومًا حادًّا شديدًا حول القيم الإسلامية- وخاصةً في مجال المرأة- مع غيابٍ لتطبيق الشريعة الإسلامية، وزحف للقيم الغربية على المجتمعات الإسلامية، مما أثَّر على التصورات والمفاهيم، وكانت قيم الإسلام في المجتمع تتعرض وقتها للسخرية والاستهزاء من وسائل الإعلام ومن بعض التيارات المختلفة.

فكان يرد على كل ذلك وهو يركز على البناء النفسي لكي يحدث التوازن فيه، ويرسخ فيه الثبات على هذه القيم الإسلامية مهما كان الواقع من حوله، ولهذا كان حديثه القوي عن الاستعلاء والعزلة الشعورية وعن جاهلية القيم والمفاهيم المنحرفة عن منهج الله، ولم يقصد أن يتكلم عن قضية التكفير وأحكامها الشرعية.

كان كما وصفه المستشار طارق البشري، كالمدفعية الثقيلة التي ترد على تلك الهجمة من خندق الدفاع والثبات.

كان رحمه الله يواجه محاولة تمييع القيم والمفاهيم الإسلامية واستدراج الناس إلى مسميات مضمونها فارغ من قيم الإسلام أو حتى تعارضه فكان يريد أن ينبَّه الأمة لكي تفطن إلى ذلك ولا تنخدع ولا تضفي الشرعية الإسلامية على مثل تلك الأطروحات.

توضيح بعض كلماته وآرائه نشير هنا إلى نماذج من بعض آرائه وكتاباته التي إذا وضعناها بجوار الكتابات الأخرى يتضح لنا حقيقة ما يقصد: أ) ففي كتاب "معالم" الذي اشتهر بأن فيه تلك الرؤية التكفيرية الانعزالية نجده في آخر صفحات الكتاب يتكلم عن الجاهلية والتعامل معها: "ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها ولا في شيء من تقاليدها مهما يشتد ضغطها علينا، إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية.

إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة ضغط ساحق عنيف.. لا بد أن نثبت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانيًا، ولا بد أن نرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرقة للحياة الإسلامية التي نريدها.

ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل، كلا.. إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة والاستعلاء بالإيمان في تواضع.. " (كتاب معالم في الطريق صـ 176)

ب) ومن أقواله التي نقلت عنه: "إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي وهو التحاكم إلى شريعة الله" (من كتاب أعلام الحركة الإسلامية لعبد الله العقيل صـ 652 ).

جـ) كان الشهيد يرفض فرض الإسلام من أعلى على الناس، أو يستخدم العنف والقوة داخل المجتمع، وإنما السبيل للالتزام بالإسلام وإقامة الحكم الإسلامي، هو إيقاظ القلوب وتفهيم الناس وبناء القناعات الصحيحة لديهم.

فيقول رحمه الله.. "ولا بد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة، وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية مَن يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة.. وعدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به.." (جريدة المسلمون، من مقالة بعنوان لماذا أعدموني؟ ذكرت كلمات وكتابات له).

د) وها هو الشهيد يصف المجموعة التي تولى تربيتها عام 65، عندما تم اعتقاله تمهيدًا لإعدامه: "لقد اتفقنا على مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم وفرض النظام الإسلامي من أعلى؛ لأن المطالبة بإقامة النظام الإسلامي وتحكيم شريعة الإسلام ليست هي نقطة البدء، وإنما هي نقل المجتمعات ذاتها إلى المفهومات الإسلامية الصحيحة، وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كله، فعلى الأقل تشمل عناصر وقطاعات تملك التوجيه والتأثير في اتجاه المجتمع كله إلى الرغبة والعمل في إقامة النظام الإسلامي". (كتاب شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر- المستشار سالم البهنساوى صـ 237، وكتاب العبقري العملاق سيد قطب صـ83 للأستاذ إبراهيم منير).

هـ) وعندما سُئل في التحقيق- وكانت إجاباته من منطلق أنها شهادة للتاريخ؛ حيث كان متأكدًا أنه سيصدر عليه الحكم بالإعدام، سأله المحقق: هل ترى أن هناك فرقًا بين المسلم المنتمى لجماعة الإخوان وغير المنتمى لتلك الجماعة؟ كانت إجابته المدونة في الأوراق: "الذي يميز الإخوان أن لهم برنامجًا محددًا في تحقيق الإسلام فيكونون مقدمين في نظري على مَن ليس لهم برنامج محدد.." ثم سأله المحقق: س: فلم التمييز بين أفراد هذه الجماعة وبين المسلمين قاطبةً وهم جميعًا أصحاب عقيدة وأهداف وبرنامج؟ أجاب: التمييز- في رأيي- ليس تمييز شخص على شخص، ولكن فقط باعتبار أن الجماعة ذات برنامج، وأن كل فردٍ مرتبط بهذا البرنامج لتحقيق الإسلام عمليًّا، وهذا هو وجه التمييز في رأيي".

فلم يكن رحمه الله حتى آخر يوم في حياته يعتقد أو يظن أن المسلمين أصبحوا داخلين في نطاق الكفر بل يثبت لهم الإسلام.

وأيضًا يتضح أن الشهيد لم يذهب مطلقًا في رؤيته أن ينتقي مجموعة من الأفراد ينعزل بهم عن المجتمع بحجة أنه جاهلي ليقوم بتربيتهم ثم القفز بهم على السلطة، فها هو يقرر بوضوح أن الطريق هو تربية أفراد المجتمع وتفهيمهم وإقناعهم القيم والتصورات الإسلامية وكيفية الالتزام الصحيح بها، وأن يشمل ذلك جيلاً بأكمله، فإن لم يكن المجتمع كله فعلى الأقل نسبة كبيرة فيه تصبح هي الغالبية وتملك التأثير فيه.

وقد كانت رؤيته لمجموعة الشباب في 65، أنهم خطوة على الطريق ضمن البداية التي يجب أن تستمر وتتسع لتشمل جيلاً بأكمله.

س) وفي تعريفه الجاهلية، وكما ذكر بالمعالم: "المجتمع الجاهلي: هو المجتمع الذي لا يُطبق فيه الإسلام ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه وسلوكه ونظامه وشرائعه.. "في ظلال القرآن جـ 2 صـ37.

وفي موضع آخر يحدد قصده منها: "إنها تعلن العلمانية كمنهج في التشريع، وحتى الحياة كلها، وبعضها وضع القوانين من عند نفسه تخالف شرع الله، وقال عنها: هذا شرع الله" إ. هـ.

فهو هنا يشير إلى حكم عام وليس حكمًا على أشخاص أو مجتمع معين، كما أنه يقصد بكلامه من يقول للناس أن هذا شرع الله، وهو متأكد أنه ليس كذلك بل من عند نفسه. وما ذهب إليه الشهيد هنا، يتطابق مع ما قرره علماء المسلمين.

ص) ويظهر بوضوح أن أقوال الشهيد سيد قطب، عن الجاهلية، وعن الكفر لا تعني الأفراد، بل تتعلق بجاهلية السلوك والمناهج والقيم والتصورات، وبكفر التشريعات والأحكام المناقضة للإسلام. بل إنه في المسألة إثبات الإسلام يرى أن النطق باللسان بالشهادتين كافٍ لذلك.

يقول في الظلال في تفسير آية ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ (النساء: الآية94): "يكتفى الإسلام هنا النطق بكلمة اللسان، فلا دليلَ يناقضها. "إ. هـ أي أنه يقول بإسلام مَن نطق بالشهادتين دون انتظار لامتحانه.

كما أنه في حديثه أحيانًا يتكلم عن جاهلية العقائد، وفي موضعٍ آخر عن جاهلية السلوك، وهناك فرق كبير بينهما.

ومن أقواله: "أنه فيما يختص بالفرد يكون الاحتكام إلى عقيدته وخلقه، وفيما يختص بالأمة الاحتكام إلى نظام حياتها كلها" إ. هـ. والشهيد يقر ويعترف بإسلامية الأفراد في داخل مجتمعاتنا، أما الأنظمة التي توجه حياة الناس والعادات والسلوكيات والمفاهيم والأخلاق في المجتمع، فهي محل كلامه، وهي التي وردت النصوص الشرعية بوصفها بالجاهلية وبالنفاق وبنفي الإيمان الكامل أحيانًا عنها. "كتاب العبقري العملاق سيد قطب صـ 78 للأستاذ إبراهيم منير".

ع) كان يرفض فكرة تجزئة القبول بالاحتكام للإسلام في جزئية، ورفضهم الاحتكام إليه في أجزاء أخرى من قضايا المجتمع، وهناك فرق فقهى واضح بين رفض مبدأ القبول بالاحتكام إليه وبين الضعف في التنفيذ مع وجود القبول والرضى.

كان رحمه الله ينادى بالرؤية الشمولية، ومن أقواله في ذلك: "والذين يصرخون اليوم طالبين منع المرأة من الانتخاب باسم الإسلام أو منعها من العمل باسم الاسلام، أو إطالة أكمامها وذيلها باسم الإسلام، ليسمحوا لي مع تقديري لبواعثهم النبيلة أن أقول لهم: إنهم يحيلون الإسلام هزأةً وسخريةً؛ لأنهم يحصرون المشكلة كلها في مثل هذه الجزئيات.

إن طاقتهم كلها يجب أن تنصرف إلى تطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية بأن يسيطر على نظام المجتمع وقوانين الدولة، وللتربية الإسلامية بأن تسيطر على المدرسة والبيت والحياة، يجب أن يأخذوا الإسلام جملةً وأن يدعوه يؤدي عمله في الحياة جملةً، فهذا هو الأليق لكرامة الإسلام، وكرامة دعاة الإسلام" (راجع كتاب العبقري العملاق صـ 67، للأستاذ إبراهيم منير).

ل) لقد كان الشهيد يواجه مؤامرات شديدة للقضاء على التصور والفهم الإسلامي الصحيح، فكان عليه أن يواجه ذلك وأن يكشف زيغه مهما تستر في شعارات: ".. ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك: ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد، وإنما يرفعون عليها راية الإسلام، كي لا تصطدم الفطرة كما صدمتها تجربة أتاتورك ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية. "إ. هـ. الظلال جـ2 صـ211 عن الآية 49 من سورة الأنعام.

فهو هنا يتحدث عن نموذج به الإلحاد والانحراف الكامل عن الإسلام ويزعمون فيه أن هذا هو الإسلام، لهذا لا بد أن نفهم عباراته القوية من خلال هذه الرؤية التي أشار إليه ولا نعمم هذا على كل صور الخلل والضعف أو نستنتج مفهومًا لم يقصده أو يذهب إليه.

م) ومن كلماته التي وردت في مقالاته وكتبه وهو يتحدث عن الخضوع للاستعمار، وغفلة الحكام والسياسيين: ".. ولكن من الحق ألا نصم الشعوب العربية بهذه الوصمة، إن هذه الشعوب لأذكى وأشد حميةً من أن ترضى لنفسها بالهوان، ولكنها تلك الحفنة من ساسة الجيل الماضي في مصر وبعض البلاد العربية تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدورة الأعصاب لا تقدر على الكفاح، ولا تدع الشعوب تكافح؛ لأن أنانيتها الآثرة تمسكها عن الانسحاب من الميدان وتركه للقادرين". (صـ155 من كتاب العبقرى العملاق).

ويقول أيضًا: ".. لو كان مقدرًا لهذا العالم الإسلامي أن يمون لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء، وفي إبَّان فتوة الاستعمار وقوته، ولكنه لم يمت بل انتفض حيًّا كالمارد الجبار، يحطم أغلاله وينقض أثقاله ويتحدى الاستعمار الذي شاخ.. " إ. هـ. (في ظلال القرآن جـ2 صـ940).

ويقول: ".. وإن يوم الخلاص لقريب وإن الفجر ليبعث خيوطه، وإن النور يتشقق به الأفق، ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه، ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه" إ. هـ (في ظلال القرآن جـ2 صـ940) فهل هذا كلام مَن يكفر الشعوب أم من يحرص عليها ويضع أمله فيها، ويعرف مواطن الضعف والقوة.

ن) ومن كلماته عندما تحدث عن الزكاة في واقع الأمة: "وقد بهتت صورة الزكاة في حسِّنا وحسِّ الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقًا في عالم الواقع ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية" إ. هـ (الظلال سورة البقرة الآية 177)

فالأستاذ سيد وصف الأمة اليوم بالأمة الإسلامية رغم أنه يراها أمة تعيسة ولم تطبق أحكام الإسلام في واقعها، فلم ينف عنها إسلامها.

ط) أشاع البعض لسوء فهمه أن الشهيد يدعو إلى مقاطعة واعتزال المساجد الحكومية لأنها مساجد جاهلية.. وهذا خطأ والذي يرجع لكتاباته يجد حديثًا لا يؤدي لهذا فهو في تفسيره للآيات التي تحدثت عن نبي الله موسى (عليه السلام) وما لاقاه بني إسرائيل من تعذيب ومطاردة لجأوا فيها إلى اتخاذ بيوتهم قبلةً، فيقول في وصف هذه الحالة: ".. وقد يجد المسلمون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي وقد عمَّت الفتنة وتجبّر الطاغوت وفسد الناس، وانتنت البيئة، وهنا يرشدهم الله إلى أمور، منها اعتزال معابد الجاهلية "إ. هـ.

فلم يقل رحمه الله أن المساجد الموجودة حاليًّا بالمجتمع هي معابد جاهلية، وأن المسلمين يواجهون فتنةً ومطاردةً مثل التي واجهها بني إسرائيل على يد فرعون، فلماذا يلجأ البعض إلى الاستنتاج الخاطئ وإلى التعميم الذي ليس عليه دليل إلا تفسيرًا واحدًا أن هذا هو رأيهم وقناعتهم الداخلية، وأي عبارات بعد ذلك ستكون الشماعة التي يتسترون وراءها، سواء قالها الشهيد أم قالها غيره.

ظ) كتب في مقال له بجريدة الإخوان المسلمين عن الدعوة والأمة الإسلامية عام 1953م: "..لقد صحت الأمة الإسلامية بعد طول سبات، ولو كانت إلى فناء وموت ما استيقظت من سبات، ولقد صحت بعد نوم طويل، فليس من سنة الحياة أن تنام من جديد، لقد صحت لتحيا وصحت لتنمو وصحت لتنتفض عنها الأوشاب والأخلاط، وإذا كانت الأمة الإسلامية ما تزال تتعثر، وما تزال تكبو وما تزال تضطرب فتلك هي اختلاجة الحياة الجديدة، لا سكرات الموت ولا صراعات الداء. تلك هي علائم الصحو واليقظة بعد نوم طويل وهمود، والمستقبل لها، والدلائل كلها تشير إلى هذا المستقبل". إ. هـ (صـ 58 من كتاب العبقري العملاق).

شهادات مَن عاشوا معه والتقوا به (الشهادات التي وردت كانت من هؤلاء الأساتذة الكرام الذين عايشوه ولم تكن فردية بل تواترت عبر العديد من الأفراد، ولكن نذكر فقط أسماء من سمعنا منهم مباشرة): أ) لقد حدثت مناقشات وأسئلة له من كثير من إخوانه عندما أشاع البعض أنه يكفر المجتمع ويصفه بالجاهلية.

حدث هذا ممن كانوا معه في قفص المحكمة أثناء التحقيقات، وفيمن التقى به داخل مستشفى السجن، بل إن قيادة الإخوان كلفت الأستاذ عمر التلمساني عندما كان سيلتقى به لسؤاله المباشر عن ذلك وعاد وهو يحمل إجابة واضحة منه، بنفي الشهيد أنه يكفر أحدًا أو يقصد بجاهلية المجتمع تكفير الناس (شهادة أ. جمعة أمين).

ب) إن كتاباته قبل طباعتها كان يقرأها كبار الإخوان ومنهم الأستاذ الهضيبي وأقروا ما فيها ولم يجدوا فيها ما فهمه البعض واتهمه به (شهادة أ. جمعة أمين ود. محمود عزت).

جـ) لقد تواترت عشرات الشهادات ممن عاصروه وسألوه مباشرةً، فأكد رأيه الواضح وأنه لا يكفر أحدًا، بل وصف مَن فهموا ذلك- أي ما فهموه من تكفير المجتمعات- أنهم لم يفهموا وأساءوا الاستخدام فقال: لقد حُملت كتبي وآرائي على حمارٍ أعرج.." (شهادة د. محمد بديع، ود. محمود عزت).

هـ) شهادة الداعية زينب الغزالي، عندما سألته مباشرةً عام 1964م عندما زارها في منزلها عن إشاعة أنه يكفر الناس لأنهم لم يفهموا الإسلام، فاستغرب هذا القول، وبيَّن أن فهمهم هذا خاطئ لما كتبه، وأنه سيوضح هذا ويرد عليه في الجزء الثاني من "المعالم". (حوار مجلة المجتمع الكويتية 1982م، صـ 85 كتاب العبقري العملاق).

والأستاذ الهضيبي كان رأيه في مسألة التكفير واضحًا حاسمًا وقد فصل الإخوان الذين انتهجوا هذا الفكر ورفض بقاءهم في الجماعة ولم يتهاون في ذلك قط.

فهذا دليلٌ واضحٌ أن الشهيد كان موقفه واضحًا من مسألة التكفير، وأن مَن اعتنقوا ذلك بحجة ما فهموه من آراء، هم الذين أساءوا الفهم، وأن أصل الفكرة كانت عندهم مسبقًا وكان ذلك في ظروفٍ يتعرضون فيها للسجن والتعذيب.

و) وكان فضيلة الأستاذ الهضيبي يعتز دائمًا بسيد قطب، وكان يذكر أنه شهيد الإخوان (شهادة أ. مهدي عاكف وأ. جمعة أمين). فقد قرأ غيرهم من آلاف الإخوان.. هذه الكتابات ولم يفهموا منها هذا الفهم، في حين أن عدد الآخرين الذين أشاعوا ذلك على أصابع اليد من الإخوان.. وبالمثل نذكر، وما ذنب الإمام علي وابنيه الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة (رضي الله عنهم) في نشأة المذاهب المنحرفة والتي نسبت نفسها إليهم بعد ذلك).

ش) أرسل بعض الإخوان في سجن طره الأخ عبد الرءوف أبو الوفا عندما تناقل بعض الأفراد موضوع التكفير، يخبره بذلك ويستوضحه، فانزعج الأستاذ سيد لهذا الكلام ورد عليه: ".. إننا لم نكفر الناس، وهذا نقل مشوه، إنما نحن نقول إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح والبعد عن الحياة الإسلامية إلى حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية، وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية، فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس" إ. هـ. (من كتاب لماذا أعدموني؟ وهو عبارة عن تجميع لإفادات الأستاذ سيد عند التحقيق معه قبل الحكم بإعدامه، ومعها بعض الشهادات من إخوانه).

ص) وعندما نقل الأستاذ عبد العزيز عطية والأستاذ عمر التلمساني إلى مستشفى طره، وهما من أعضاء مكتب الإرشاد وقتها، التقيا بالشهيد للاستفسار عما يشيعه البعض عنه، فنفى ذلك وشرح لهما ما يقصده فاستراحا لذلك وأقراه عليه وأبلغا الإخوان بذلك. (صـ79 من كتاب العبقري العملاق للأستاذ إبراهيم منير).

ض) شهادة أ. عمر التلمساني في كتابه ذكريات لا مذكرات: ".. وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يومٍ من الأيام أن يكفِّر مسلمًا"، ".. إن كثرة ترداده "للمتجتمع الجاهلي" لم يقصد بها تكفير المجتمع، ولكن تشديد النكير على الظلمة والطغاة والمستغلين والمشككين، وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية..". "والذين يعرفون الشهيد سيد قطب ودماثة خلقه وجمّ أدبه، وتواضعه ورقة مشاعره، يعرفون أنه لا يكفر أحدًا.." ".. هذا موجز مقتضب للمبادئ التي قام عليها كتاب معالم في الطريق وقد كان لي شرف الاطلاع عليه قبل طبعه ونحن في مستشفى ليمان طرة" إ. هـ (وراجع أيضًا كتاب العبقري العملاق).

ط) شهادة الأستاذ سيد نزيلي (من قيادات الإخوان في 65): "أنه- يقصد الشهيد سيد قطب- لم يتهم عامة المسلمين بالكفر، وكان يصلي خلف الإمام العادي، وكان يأكل ذبائح المسلمين، ويؤثر عنه في سجنه أن سُئل: "هل أنت تُكفِّر عامة المسلمين؟" فقال: كيف أكفر عامة المسلمين وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وحب الدين متغلغل في وجدانهم وقلوبهم.."، ثم نادى على سجينٍ من أرباب الإجرام والمعروفين بالشراسة وسوء الخلق، وقال له: يا فلان إذا قابلك رجل ولعن دينك ماذا يكون موقفك؟ فقال هذا السجين: أقتله، فاستشهد سيد قطب بذلك في أن للإسلام قدسيةً واحترامًا في نفوس حتى الذين يُخيل إلينا أنهم أبعد ما يكونون عن الإسلام بأعمالهم.." أ. هـ.

ويقول أيضًا الأستاذ سيد نزيلي: ".. نحن الجيل الذي تربَّى على فكر سيد قطب لم نلحظ هذه الدعاوى التي تتهمه بالتكفير، وهو لم يطلب منا ذلك في الكتابات التي كان يرسل بها إلينا ويربينا عليها نحن جيل 65، نحن كنا نعيش بإسلامنا بين أهلينا ومجتمعنا ولم يخطر على بالنا أننا متميزون بأي شيء عن غيرنا من المسلمين".

ويقول: "وسيد قطب لم تكن كتاباته لانعزال هذه الفئة، بل كان يطلب من الشباب أن يندمجوا مع المجتمع حتى يغيروا هذا المجتمع". إ. هـ. ".. وقد انتهيت بعد لقائي بإخواني واستجلاء حقائق الأمور إلى: أننا لم نكفر مسلمًا ولم نعلم من الأستاذ سيد قطب أنه يأمرنا بالتكفير أو الانعزال عن المجتمع أو المفاصلة الشعورية التي يفهمها البعض خطأ بمعنى الانعزال". إ.هـ ( صـ78، 88، 89 من كتاب البعقري العملاق).

ظ) شهادة العالم الجليل الشيخ محمد عبد الله الخطيب، حيث ذكر أنه زار الأستاذ سيدًا في الفترة القصيرة التي خرج فيها من السجن عام 1964م، وأنه زاره في بيته يوم جمعة، فوجده عائدًا من صلاة الجمعة مصليًا وراء إمام المسجد، وحكى لي أحد الإخوان أنه رأى الأستاذ سيدًا يصلى خلف أحد المسجونين الجنائيين في فترة محبسه". اهـ.

فهل يعقل أن الأستاذ يحكم بالكفر على عموم الأفراد والمجتمعات ثم يصلى وراءهم؟ (صـ 94 من كتاب العبقري العملاق).

ك) شهادة الأستاذ إبراهيم منير، والأستاذ أحمد كنزي (من شعبة عابدين بالقاهرة)؛ حيث إنهما وهما في السجن عام 1963م وصل إليهم من بعض الإخوان أن الأستاذ سيد يقوم بوضع كتاب عليه اتفاق من الجماعة هو (معالم في الطريق) وأن على الإخوان جميعًا خارج السجون قراءته.. وعندما اشتد المرض على الشهيد سيد قطب تم نقله إلى مستشفى قصر العيني، فتحايلنا على زيارته كل يوم جمعة- أسبوعيًّا تقريبًا- لنسمع منه ونستفسر، ولم نسمع منه على الإطلاق أنه يعنى بالجاهلية تكفير الناس، ولم نسمع منه قولاً بكفر الحكام، ولم نسمع منه أن العزلة الشعورية عن الناس تعني مقاطعتهم والعيش في الكهوف والجبال وتجنب العمل في وظائف المجتمع، ولكنه كان يركز على إحياء معانى الإيمان في قلوب الأمة، ويعنى بالجاهلية جاهلية السلوك وليست جاهلية الاعتقاد.. وهذه شهادة بما علمت ألقى بها الله عز وجل: أنى لم أسمع منه خلاف ما قلت. اهـ. (صـ7 كتاب العبقري العملاق للأستاذ إبراهيم منير)

ويقول أيضًا الأستاذ إبراهيم منير: "صرح الشهيد أكثر من مرة وفي أكثر من موضع أن من رغب في معرفة.. إننا دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم". (صـ 81 العبقري العملاق).

ع) بل إن شقيقه الأستاذ محمد قطب يؤكد أنه سمعه أكثر من مرة يقول: ".. نحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس، فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم". (صـ80 كتاب العبقري العملاق)

ل) أشاعوا عنه أنه يدعو إلى المرحلية في الأخذ بالأحكام الشرعية، وأننا في المرحلة المكية، فنأخذ حكمها الشرعي من حيث وجوب الهجرة وعدم إلزامية الأحكام التي وردت بعد ذلك.. إلخ وهذا لم يذهب إليه الشهيد من قريب أو بعيد، فهو لم يكن يتكلم عن المرحلية في الأحكام الشرعية، وعندما سُئل: هل نحن في المجتمع المكي أم المجتمع المدني؟ أجاب: "نحن في سنة كذا وقد كمل الإسلام ولن ينقص. اهـ.

وأما حديثه عن المرحلية فكان متعلقًا بالحركة الجهادية ووسائل الدعوة. (من شهادة أ. صبرى عرفة أحد قيادات 65)

سلوكه العملي مع المجتمع قد تواترت عشرات الشهادات من الإخوان الذين عايشوه ومن غيرهم بشأن سلوكه العملي مع المجتمع الذي ادعى البعض أنه يكفره.. كان الشهيد يعيش مع الناس بصدر رحب وسماحة فائقة ومودة وحب يشع من كلماته وقلبه.

في السجن كان هذا أسلوبه، حيث مع ضغوطه وطول سنواته يسقط أي قناع أو تمثيل.

تؤكد الشهادات على أسلوبه مع المساجين الجنائيين وكيف كانوا يلجئون إليه في حل مشاكلهم، حتى إن مأمور السجن الذي كان فيه كان يلجأ إليه في ذلك أو يحيلهم عليه. (شهادة أ. طلعت الشناوي) وحتى مع سجَّانيه الذين آذوه كان رقيقًا مهذبًا معهم، فهذا يطلب منه المساعدة المالية، وذاك يسأله النصيحة.

وحتى مع الذين اقتادوه لتنفيذ حكم الإعدام لم يؤثر عنه كلمة نابية لأحد منهم، أو معاملة فظة، أو مقاطعة واستعلاء عليهم، بل قابلهم بابتسامة هادئة ونفس مطمئنة.

كان رحمه الله يصلي الصلوات والجمعة في مسجد السجن خلف الشيخ الأزهري المعين من قبل الحكومة، ولا يجد غضاضة في ذلك، وكان الشيخ يدعو للحاكم بالبقاء (شهادة د. محمد بديع– راجع كتاب العبقري العملاق للأستاذ إبراهيم منير). فكيف يستقيم هذا مع ادعاء أنه يكفر؟ يحكي أحد الإخوان أنه زاره في بيته عام 1964م، فوجد عنده زوج وزوجة، وكانت الزوجة تلبس لباسًا عاديًّا ليس مطابقًا للحجاب، وكان يصلح بينهما ويساعد في حل مشكلتهما حتى لا يحدث طلاق. وعندما سأله أحد الإخوان عن فتاة يتزوجها لم يقل له لا تتزوج من هذا المجتمع الجاهلي.

وعندما تكلم معه بعض الإخوان عن التوتر الطائفي في صعيد مصر (والشهيد من مواليد إحدى قرى محافظة أسيوط) بين المسلمين والمسيحيين كان رحمه الله رافضًا لهذا التوتر، داعيًا ومؤكدًا لوجوب حسن العلاقة معهم، رافضًا لأي إيذاء لهم. (من شهادة د. محمد بديع).

ولم يقتصر وفاء مشاعر الشهيد ورقتها على صلته بالبشر، بل تعداه إلى علاقته بكل ما حوله حتى الحيوانات، فلقد ألف نزلاء ليمان طره قطًّا أعور تتقزز الأبدان لرؤيته، كان يأوي بالقرب من الأستاذ سيد قطب، يخصص له قسمًا من طعامه، وكان يقول: "ليس من الوفاء أن نجافيه ونضيعه في هَرَمه بعد طول صحبته لنا". (صـ55 العبقري العملاق).

فهذه الشهادات واضحة تمامًا في تأكيد رفضه للانعزال أو الإحساس بالكبر واحتقار الآخرين مهما كان فسادهم.

صموده وثباته على دعوته ومما تميز به رحمه الله الثبات الشديد على دعوته، والوفاء ببيعته، فقد تعرض لصنوف التعذيب والضغط ومحاولات الاستدراج والإغواء فرفض كل ذلك.

لقد عُرض عليه أكثر من مرة وهو في السجن أن يكتب ورقة اعتذار لجمال عبد الناصر ليتم الإفراج عنه، فرفض ذلك، واستخدموا أخته للضغط عليه بعد صدور حكم الإعدام لكي يفعل ذلك مقابل حياته، فرفض، بل وعند تنفيذ الحكم عُرض عليه ذلك فأبى، واعتبر رحمه الله أن تضحيته بنفسه هذه أصغر وأقل مما يجب عليه تجاه دعوته.

عُرض عليه في عام 1964م بعد الإفراج الصحي- نتيجة وساطة الرئيس العراقي عبد السلام عارف- أن يعمل في العراق مستشارًا لوزارة التربية، فرفض مفضلاً البقاء في مصر حاملاً للدعوة وهو يعرف ما سيناله أو ما سيتعرض له.

ذهبوا إليه لكي يكتب مقالات في إحدى الصحف الرسمية مقابل المال، وبحجة الرد على الشيوعيين، فرفض أن يستخدم من قبلهم لتحقيق أهداف لهم. (راجع كتاب العبقري العملاق للأستاذ إبراهيم منير) وبعد قيام الثورة عام 1952م حاولوا استمالته تارة بالإغراء وتارة بالتهديد لينحاز إليهم ضد قيادة الإخوان، فرفض ذلك بوضوح، ضاربًا المثل في الثبات والالتزام بالدعوة، رغم أن بعض الإخوان ممن كانوا أسبق منه استدرجوا وسقطوا في هذه الزحلوقة.

كان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادرًا معه على النهوض، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التي تنظر في قضيته، وقد كشف عن صدره وظهره أمام المحكمة فظهر آثار الضرب الشديد بالسياط، ونزفت رئتيه الكثير من الدماء، وربطوه في كرسي لمدة 4 أيام دون طعام ودون السماح له بالنوم حتى يكون في المحكمة فاقدًا للتركيز، وقتلوا ابن أخته نفيسة قطب- وهو رفعت بكر- أمامه وهم يعذبونه. (راجع كتاب العبقري العملاق صـ 44).

رغم مرضه الشديد في السجن وما حدث له من تعذيب حتى أوشك على الموت كان الشهيد يقول لإخوانه: "إذا حورب الدين فليس لأحد رخصة، وإذا حوربت الشريعة فلا يجوز لأحد أن يترخص، ثم العلماء أيضًا لا يجوز لهم أن يترخصوا بحال من الأحوال". (صـ 30 كتاب العبقري العملاق).

رجاه بعض إخوانه في السجن ألا يطبع كتاب المعالم حفاظًا على حياته حيث سيتربص به الشيوعيون، فرفض بإباء قائلاً: لا بد أن يتم البلاغ وقد سأله إخوانه: لماذا كنت صريحًا كل الصراحة في المحكمة التي تملك عنقك؟ فقال: لأن التورية لا تجوز في العقيدة، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ الرخص". (صـ5 كتاب العبقري العملاق).

عندما كان في زيارة للأردن عام 1953 طلب أن يتصل بالقاهرة وذلك لشوقه لسماع صوت الوالد المرشد، كما قال هو.

وقبل إعدامه بيوم أوصى أخته حميدة قطب في الزيارة: "إن رأيت الوالد المرشد فبلغيه عني السلام وقولي له: لقد تحمل سيد أقصى ما يستطيع حتى لا يصل فضيلتك أدنى سوء". اهـ. حيث كان الجلادون يشتدون في تعذيبه ليتكلم بأى شيء يدين الأستاذ الهضيبى. (صـ 55 من كتاب العبقري العملاق). عرض عليه مجلس قيادة الثورة منصب وزير المعارف، ولكنه اعتذر، ورجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة فاعتذر..

ساوموه على أقل من مجرد الاعتذار، ولو بالمداهنة، بكتابة ولو برقية تهنئة لعبد الناصر في أية مناسبة من المناسبات الكثيرة، فرفض في إباء وشمم. (ص 33 من كتاب العبقري العملاق). بعد خروجه من السجن طالبته الضرائب بمبلغ أربعين ألف جنيه كضرائب مستحقة نظير كتبه، ثم بعدها ذهب إليه أحد كبار رجال المباحث وعرض عليه العمل كوكيل وزارة مع إعفائه من الضرائب المستحقة عليه، فاعتذر له عن عدم قبول ذلك.

وعرضوا عليه إنشاء مجلة إسلامية يتولى رئاسة تحريرها تابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي كان يرأسها في حينها أنور السادات، وكانوا يقصدون جره للعمل ومشاركته فيه والعمل تحت رايتهم، فرفض كل ذلك لأنه كان يعرف مقصدهم ويقرأ ما وراء السطور. (راجع كتاب العبقري العملاق، صـ33).

عندما علمت أخواته البنات بأن فضيلة المرشد كلفه بقيادة مجموعة الشباب عام 1964م، أشفقوا عليه من الاعتقال مجددًا وهو في مثل حالته الصحية، فرجاه بعضهن أن يعتذر للأستاذ المرشد، فكان رده حاسمًا لهن: "لم أكن لأراجع الأستاذ المرشد في تكليف كلفنى إياه..". (صـ36 من كتاب العبقري العملاق).

وعندما أرسلوا أخته لتطالبه بالاعتذار نظير منع تنفيذ حكم الإعدام، كان رده عليها وعلى غيرها: عن أي شيء أعتذر؟ عن العمل مع الله؟ وقال للضابط الذى رجاه ذلك أيضًا: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفًا يقر به حكم طاغية". " لماذا استرحم؟ إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل". ( صـ41 العبقري العملاق).

انتمى الأستاذ سيد لدعوة الإخوان المسلمين سنة 1951م، وكان يعبر عن هذا بأعمق تعبير قائلاً: "ولدت سنة 1951م". ( صـ14 كتاب العبقري العملاق).

نقرأ كلماته في محاضر التحقيق في 1965، فنجد النفسية القوية، والهدوء الواثق، وكيف يحوّل صفحات التحقيق إلى توضيح لدعوته وتوجيه للأمة ولمن يعملون للإسلام، ويواجه الحكم عليه بابتسامة هادئة وبشهادة في سبيل الله تمنى أن ينالها.

كان الشهيد رحمه الله شديد الالتزام بمنهج الإخوان، منبهرًا بالإمام الشهيد، رغم أنه لم يلتق به، وكتب فيه مقالة عن عبقرية البناء، وكان شديد الاعتزاز والاحترام لقيادة الإخوان متمثلة في مرشدهم الأستاذ الهضيبى يخاطبه ويذكره دائمًا بالأستاذ الوالد.

وقد استأذنه في توليه قيادة وتربية مجموعة الشباب عام 1965م، وغياب هذه المعلومة عن بعض الإخوان- وقد أكدها فضيلة الأستاذ الهضيبي نفسه وغيره من الثقات من الإخوان- جعلت هذا البعض يظن غير ذلك.

وقبل أن يساق الشهيد لتنفيذ حكم الإعدام فيه- وقد فهم ذلك- طرق باب أحد الزنازين وأبلغ الأخ فيها أن يبلغ الأستاذ الوالد أنه على العهد باق، وأنه يجدد بيعته، وأنه لم يكفر أحدًا، وكان هذا الأخ هو الأستاذ مأمون الهضيبي. (راجع كتاب العبقري العملاق- وشهادة أ. جمعة أمين).

كان يقول لإخوانه داخل السجن: لقد اختط الإمام الشهيد حسن البنا نهرًا واسعًا وطريقًا واضحة للحركة والدعوة الإسلامية، وعلى كل من يأتى بعده أن يصُبَّ في ذلك النهر وأن يدعمه، لا أن يشتق أو يختط له مسارًا آخر. (شهادة أ. طلعت الشناوي- وقد التقى بالشهيد وحاوره داخل السجن).

رؤيته بالنسبة للإصلاح الجزئي على المستوى الفردي كان رحمه الله يقوم بذلك من حل للمشاكل وإعانة للآخرين في المجتمع بل ويشجع على ذلك.

أما بالنسبة للجماعة فكان يرى ألا تشغل نفسها بتقديم برامج الإصلاح للمجتمع وتفاصيلها في رؤية الإسلام أو ننشغل بالرد على من يسأل عن رأي الإسلام وكيف يحل هذه المشاكل؛ لأنهم من وجهة نظره يسألون ليس للتطبيق وإنما للمجادلة، وحتى لا تُضَيِّع الجماعة وقتها؛ لأن الأولوية عندها في تفهيم الناس وتربيتهم على أصل العقيدة؛ ولأن المجتمع غير جاهز لتطبيق ما سيعرض عليه، وكان هذا الفهم عنده متأثرًا بأن أغلب الجماعة داخل السجن لسنوات طويلة، ولا منفذ لديها بالمجتمع الذي تحاول فيه الدولة إقصاؤهم عنه.

وتعتبر هذه النقطة الفرعية في كلمات الشهيد هي التي اختلف فيها مع منهج الإمام البنا، ولو تغيرت الظروف التي أحاطت به أو راجعه أحد فيها لذهب إلى غير ذلك؛ حيث أن دعوة الإخوان تجمع بين رؤية الإصلاح الكلي الشامل وبين منهجية الإصلاح الجزئي، وأنه رغم أن الحكومة لا تستجيب لمطالب الإصلاح وبرامجه المقدمة من الجماعة؛ إلا أنها ستواصل ذلك توضيحًا للإسلام وإبلاغًا للدعوة وإقامة للحجة وتفاعلاً مع الأحداث والمواقف.

وأما بشأن ترقيع المجتمع الجاهلي بما فيه من أفكار وقيم جاهلية منحرفة عن قيم الإسلام، فهذا كان الشهيد سيد قطب يرفضه بوضوح، وكان يقصد بهذا أن نأتي إلى القيم المنحرفة عن الإسلام فنضيف إليها جزئية من قيم الإسلام، ثم نقبل بها بعد هذا الترقيع كحلٍّ وسط؛ لكي نَلْتَقِي معها في منتصف الطريق، وما ذهب إليه الشهيد بهذا المعنى هو من بديهيات الإسلام.

وما حدث من لبس عند البعض في هذا الشأن كان بخصوص كلمة "المجتمع" وعدم التبيُّن في أنه هل يقصد بها الناس وأحوالهم أم القيم والأفكار والمبادئ؟ ولم يمنع الشهيد الاستفادة الفعلية من شتى العلوم والحكمة من أية جهة؛ ما دامت ستوظَّف لصالح الأمة وتصطبغ بصبغتها الإسلامية وتكون داعمةً لها.

شهادات لبعض العلماء (وهي نماذج كعينة فقط) 1) من أقوال الأستاذ حسن الهضيبي عن الشهيد سيد قطب عندما انضم إلى الإخوان: "إن سيد قطب هو الأمل المرتجى لهذه الدعوة إن شاء الله". (صـ149 كتاب العبقري العملاق).

2) شهادة عبد الله بن جبرين عن حسن البنا وسيد قطب (في 26/2/1417هـ): "إن سيد قطب وحسن البنا من علماء المسلمين ومن أهل الدعوة، وقد نفع الله بهما، وهدى بدعوتهما خلقًا كثيرًا، ولهما جهود لا تنكر؛ ولأجل ذلك شفع الشيخ عبد العزيز بن باز في سيد قطب عندما قُرّر عليه القتل، وتلطف في الشفاعة، فلم يَقْبَلْ شفاعته الرئيس جمال عليه من الله ما يستحقه.. ولما قُتل كلٌّ منهما أطلق على كل واحد أنه شهيد؛ لأنه قُتل ظلمًا. وشهد بذلك الخاص والعام، ونُشر ذلك في الصحف والكتب بدون إنكار، ثم تلقى العلماء كتبهما ونفع الله فيها". (صـ 115 كتاب العبقري العملاق).

3) ردَّ فضيلة العالم المحقق بكر أبو زيد على الاتهامات (أو الافتراءات) التي ساقها الشيخ ربيع بن هادي المدخلي بادعائه أن الأستاذ سيد قطب يذهب إلى فكرة وحدة الوجود، وينادي بخلق القرآن، ويرى أن للبشر حقًّا في التشريع مع الله، وهي اتهامات لا أصل لها.

ففب الظلال في تفسير سورة البقرة آية 116، 117، يقول الأستاذ سيد: "ومن هنا تنتفي من التفكير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود". اهـ. وفي كتابه مقومات التصور الإسلامي ردًّا شافيًا على القائلين بوحدة الوجود.

ويقول فضيلة العالم بكر أبو زيد في شهادته عندما طالع كتب الأستاذ سيد: "فوجدت في كتبه خيرًا كثيرًا، وإيمانًا مشرقًا، وحقًّا أبلجَ، وتشريحًا فاضحًا لمخططات الأعداء للإسلام". اهـ.

4) نذكر هنا ما قاله الشيخ الألباني في حق الأستاذ سيد قطب: "إن كتابات قطب عليها نور وعلم، ويكفي أنه قتله أعداء الإسلام". اهـ. أما بعد: هل الدفاع عن العلماء المجاهدين وإنزالهم منازلهم أمر منكر خارج عن الدين أو هو من هدي الإسلام وأدبه؟

وأين هي مظاهر التقديس المزعومة؟ لو سألت أحدًا من الإخوان: أين قبر الإمام الشهيد أو الشهيد سيد قطب؟ لما أجابك غالبيتهم، وكم منهم يزوروه؟ لما وجدت إجابة من أحد، وأين هذه العصمة ونحن نقول: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأين هذه الموالد والطقوس التي يقيمونها في ذكراهم أو حتى الهتاف بأسمائهم مثلما يفعل غيرهم؟

أما إذا دافع الإخوان عن علماء الإسلام وشهدائهم، وإذا ذكّروا الناس بمواقف الدعوة والتضحية وبكلمات الخير والنور، أيكون ذلك تقديسًا منهم أم إنه التحامل والافتراء؟

وقد يسأل البعض: هل نحن بحاجة إلى مثل كتابات الشهيد سيد قطب في هذه المرحلة الآن؟ الإجابة القاطعة تكون بنعم؛ حيث ما زالت الأمة تواجه حملة شرسة ضد قيم الإسلام، وتواجه محاولات من قوى عالمية للسيطرة عليها واحتوائها، وفي ظل عولمة الإعلام ووصوله بكل الأفكار والشبهات إلى الجميع تقريبًا يصبح التحصين ضدها والقوة في الدفاع عن قيم وأحكام الإسلام والتميز بها أمرًا لازمًا، وهو ما تقدمه كتابات الشهيد وغيره من العلماء المجاهدين، وبالتالي يجب الاستفادة من كتابات الشهيد في ظل الضوابط التي أشرنا إليها.

بشأن توليه القيادة وتوجيه مجموعة 65 هل كان قيامه رحمه الله بالإشراف على تربية وتنظيم وتوجيه شباب الدعوة في 1965م يعتبر خطأً حركيًّا وخارجًا عن سياسة الجماعة، أو سبب ضرر لها وانتكاسة؟

إن من يقول هذا الكلام لم يفهم دعوة الإخوان، ولم يعرف قواعد الإسلام ومبادئه، فمقياس الخطأ والصواب أو الضرر والفائدة لا يكون بالهوى الشخصي، وإنما بالرجوع لأحكام الشرع ومبادئ الدعوة إلى الله.

إن العمل والدعوة للإسلام في مناخ مناوئ له فريضة لازمة، وسيكون له تضحيات كالقابض على الجمر، وإن هذا هو واجب الدعاة وورثة الأنبياء مهما لاقوا من أذى.

فما قام به الشهيد ومن معه من شباب هو أداءٌ لواجب الدعوة وللأهداف التي آمنوا بها وبايعوا عليها.

إن قبوله قيادة الشباب في هذه الفترة وهو حديث الخروج من السجن يعاني من سوء الحالة الصحية وضيق المورد المالي، وذلك كي يربيهم على الإسلام، ويبعد بهم عن طريق العنف والانتقام، وقد أفادوا جميعًا بذلك، كان هذا يمثل قمة الثبات والتضحية وكسرًا لحاجز الخوف.

كما أن حركتهم هذه، وإن لم تشمل جميع الإخوان، حيث كانت في بدايتها؛ إلا أنها كانت في إطار المؤسسية، وتحت علم قيادة الجماعة وموافقتها، وما شهادة بعض أفراد الجماعة بعكس ذلك، إما لعدم علمه أو لخلطه في الأمر بين منع القيادة أية تجمعات للشباب تنتهج منهج العنف أو تسعى لرفع السلاح، وبين تأييدها للقيام بالتربية وحمل الدعوة.

كما أن قيام هذه الفئة المؤمنة وإقدامها على الحركة بالدعوة والتجميع والتربية وأمامهم مناخ السجون والاعتقالات والتعذيب من نظام طاغٍ لا يعرف قانونًا؛ كان في ذاته يشكل انتصارًا معنويًّا للإيمان والعقيدة التي ارتفعت وتسامت فوق كل ذلك، وتجاوزت الخوف مما سيحدث لها من بطش.

كما أن هذه الحركة المباركة لشباب 65 كانت ردًّا عمليًّا على بطش النظام، وأنه لم يستطع أن يُخضع الجماعة أو يُرعب أبناءها أو يوقف مسار دعوتها، وكانت صوتًا معارضًا قويًّا لهذا النظام في حين سكت الجميع وخضعوا له مما أحرق كبد النظام غيظًا، فكان بحق مفخرة في تاريخ دعوة الإخوان المسلمين، ونذكر عندما ذهب أحد الإخوان للأستاذ الهضيبي وقتها يشتكي من حركة هؤلاء الشباب بالدعوة والتجمع قال له: أو ليس قعودك عن الدعوة والعمل لها إضرارًا لها؟ (من شهادة الدكتور محمد بديع)

خاتمة: نعيد الإشارة إلى أن دعوة الإخوان ومنهجها وكذلك الشهيد سيد قطب وعطاءه وفكره، ليست بحاجة إلى رد أو دفاع، ولكنها تذكرة ووقفة مع معاني الحق، ونحن لا نرفع أحدًا إلى مرتبة القداسة، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وميزان الأمر هو أحكام الشرع وقواعده.

لم يقصد الأستاذ سيد قطب بكتاباته أن يقدم مشروعًا مستقلاً أو موازيًا، وإنما كان ملتزمًا بالمشروع الإسلامي والمنهج الدعوي الذي أرسى معالمه الإمام البنا، فقد ركز بأسلوبه على بعض المحاور خاصة في مجال تميز القيم والمفاهيم الإسلامية في مواجهة القيم الغربية؛ مما كان يناسب الظروف الضاغطة التي أحاطت بالدعوة في تلك الفترة وما زالت، فكان كما قال يصب بجهده وفكره في دعم هذا المشروع.

لم يكن الشهيد صاحب رؤية خاصة به أو تيار فكري مخالف لمنهج الإمام الشهيد العملي والفكري، بل كان ملتزمًا حريصًا على ذلك الانتماء وتلك البيعة، وبالتالي فإن نسبة مجموعة من الأفكار والأطروحات تدور حول التكفير والانعزال والتشدد والعنف إليه أمر مخالف للحقيقة مجانب للصواب، واعتداء على فكر الشهيد رحمه الله والذي لم يكن ليرضى به حيًّا أو ميتًا، وإن ظهور لفظ "القطبيين" كان ضمن الحملة ضد التيار الإسلامي لتشويه صورته، ووراءه دوافع أمنية تحاول أن تزرع الخلل في صفوف الدعوة.

لقد شَهِدَتْ كتابت الشهيد انتشارًا واسعًا وتأثر بها كثير من أفراد التيار الإسلامي وحركاته وحركات المقاومة ضد الاستعمار.

لهذا كان أعداء الإسلام حريصين أن يحدثوا الهزيمة النفسية وترسيخ قيمهم الغربية داخل الشخصية المسلمة؛ ليتمكنوا من السيطرة عليها من داخلها، ثم السيطرة على أرض الواقع وميدان المعركة.

لقد وجدوا أن كتابات الشهيد تتميز بالرفض الشديد لهذه القيم التي يحملها المشروع الغربي والمفاصلة الكاملة معها، كما أن محاولتهم للقضاء على الإسلام المقاوم الذي يتصدى لهيمنتهم شملت أن يضربوا جذور هذا الفكر وأن يضربوا معنى الجهاد، ويغيروا مدلوله لتضعف المقاومة وتخضع الشعوب لسلطانهم وسيطرتهم، إننا جميعًا يوم القيامة سنقف بين يدى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ لتظهر الحقائق ويحاسب كلُّ فرد على موقفه وكلماته وعمله. والله يهدي إلى سواء السبيل

المصدر