وحى رمضان .. سر الخلود

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
وحى رمضان سر الخلود

بقلم: الشهيد حسن البنا

( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنْظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [الحجر: 6-9].

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) [فصلت: 41-44].

( وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) [الكهف: 27].

سبعون وثلثمائة وألف سنة كاملة مضت تباعًا بعضها فى إثر بعض، والقرآن هو القرآن، تتلقاه الدنيا خلفًا عن سلف، ويتوارثه الناس جيلا بعد جيل، وهو كما هو فى سوره وآياته وألفاظه وكلماته، تتغير الأجيال ولا يتغير، وتتبدل الأزمان والأعصار ولا يتبدل، وتتعاقب الحوادث؛ فتفنى أمم وتحيا أمم، والكتاب الكريم قائم على أصوله، مستو على سوقه، لا يحول ولا يزول، محفوظ فى الصدور لاصق بها، مسطور فى الصحائف محفوظ فيها، يقرؤه مَن فى أقصى المشرق كما يتلوه مَن فى أقصى المغرب.

تخطئ المطبعة أحيانًا فتضع نقطة فى غير موضعها، أو تظهر إحدى حركات الضبط على غير حرفها؛ فتقوم لذلك الدنيا وتقعد، ولا تهدأ ثائرة الثائرين حتى ينمو الأمر إلى نصابه، ويرد الحق إلى كتابه.

ويفكر المفكرون أن يكتب برسم غير الذى تلقاه الناس به، من حيث القواعد الإملائية والمصطلحات الفنية فى علم الرسم، ولا أكثر من هذا فيأبى الله ذلك والمؤمنون.

ولو قد حدث هذا لما كان من التبديل والتغيير فى قليل ولا كثير، ولما أصاب ذلك معنى الحفظ فى صغير أو كبير، وقد سئل مالك وهو مالك فى ذلك، فأفتى بجوازه فى صحف الولدان تيسيرًا لهم، وأما فى المصحف الإمام فلا. ومع هذا فإن ربك الذى نزل الذكر وتكفل بحفظه، حماه حتى فى هذه الناحية الشكلية التى لا تؤثر فى لفظ، ولا تغير من معنى، وظل القرآن هو القرآن باسمه ورسمه، تخرجه المطابع، ويظهر فى المصاحف على الكتبة الأولى كما رسمه عثمان والكاتبون معه، رضى الله عنهم ورضوا عنه، ولا مبدل لكلمات الله.

ولقد حاول بعضهم أن يترجم إلى اللغات الأخرى بعض مقاصده ومعانيه ليعبد طريق الاتصال به للضالين عنه والمنصرفين إلى سواه من الأمم التى ليس لها من العربية نصيب؛ فاستقام لهم الطريق فى ذلك ما اقتصروا على الآيات المفردة يخترونها والمقاصد العامة يعرضون لها.

أما أن يكون عن هذه الترجمة كتاب يتلقاه الناس مترجمًا على أنه القرآن فى جلاله وروعته، وقدسيته ومهابته؛ فذلك ما لا سبيل لأحد إليه، ولا قدرة له عليه، وآية الله فى ذلك بادية ظاهرة؛ فلقد أنزل هذا القرآن عربيًا، ولن يكون إلا كذلك، ولن تستطيع الأجيال المتعاقبة أن ترفع هذا المعنى من نفوس الناس بعد أن أقره فيها وأملاه عليها العليم الخبير إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 3-4].

ألا وإن من أسرار الخلود وآياته ومعانيه فى كتاب الله الفطرة والحق، وهما خالدان باقيان ما بقيت هذه الإنسانية (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون: 71]، وكل ما قرره القرآن الكريم وجاء به متفق مع مقتضيات الفطرة الإنسانية السليمة مطابق تمام المطابقة للحق الصريح الواضح (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79].

أيها الصائمون القائمون من المسلمين، إن القرآن لفظ ودعوة ودولة، ولست أخشى على شىء منها الضياع والفناء؛ فإن معنى الحفظ الإلهى محيط بها جميعًا؛ فألفاظ القرآن باقية، ودعوته وأحكامه خالدة، ودولته أبدًا قائمة ،ولن يخلى الله الأرض من قام لله فيها بحجته، ولا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من ناوأهم، يقاتلون حتى تقوم الساعة، كما بشر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ولكنى أخشى على أنفسنا نحن على هذه الأمم المسلمة والدول المسلمة والجماعات المسلمة أن ترضى من إسلامها ونسبتها إلى القرآن بهذه المعانى الجغرافية، أو هذه المظاهر الرسمية غير الحقيقة، وتنصرف عن دعوته ودولته إلى خليط من هذه المبادئ الفاسدة والآراء الضالة الفاشلة، والدعوات الهزيلة الضئيلة التى تغزو القلوب والعقول بسلطان المادة وزخرف الدنيا وغلبة الشهوات؛ فلا يبتغى من وراء ذلك إلا الذلة فى الدنيا والهوان فى الآخرة، ويستبدل الله بهم قومًا غيرهم، ثم لا يكونون أمثالهم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].

ولقد حاول خصوم القرآن منذ نزل إلى الآن أن يحاربوه بكل الوسائل، وأن يردوا عنه أهله بمختلف الأساليب، وهم على ذلك دائبون لا يملون وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا [البقرة: 217]، وليست كلمات الساسة الأوروبيين والفلاسفة الغربيين فى مهاجمة القرآن والتبرم به واعتباره الحاجز الوحيد دون بسط سلطانهم على المؤمنين من أهله بعيدة عن الخواطر والأذهان، ولكن الله -تبارك وتعالى- أمهلهم ولم يهملهم، وأخذهم بالقوارع والفواجع وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللهِ [الرعد: 31]، وبين يدى العالم الإسلامى الآن فرص لو أحسن الانتفاع بها والاستفادة منها بالتحرر من قيود التقاليد والعودة إلى الكتاب المجيد دعوة ودولة؛ لكان فى ذلك الخير كل الخير، ليس لأبناء الإسلام وحدهم، ولكن لهذه البشرية الضالة التائهة فى صحراء المادية الموحشة المقفرة التى لا ظل فيها ولا رى ولا نبات؛ فهل هم فاعلون؟.

المصدر

جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 79 – صـ3 – 7رمضان 1365هـ / 4 أغسطس 1946م.