الخروج من التيه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٧:٤٢، ٣١ يوليو ٢٠١٠ بواسطة Helmy (نقاش | مساهمات)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الخروج من التيه


للدكتور/ حمدى فتوح والى

الدكتور حمدي فتوح والي

أمور كثيرة طرأت على حياة أمتنا الإسلامية فأفقدتها حريتها وأوقعتها مابين التضليل والتجهيل وغيبتها طويلا عن إيقاع الحياة. وأفاقت بعد طول غياب فإذا الخلافة قد سقطت، والشريعة قد تعطلت، والمناهج قد تغيرت، والمرأة قد تبرجت، ومشاعر الناس قد تبدلت، فغلظت بعد رقة، وتكدرت بعد صفو واضطربت بعد هدوء واطمئنان.

ونظر العقلاء من الأمة إلى مقاليد الحكم فوجدوها قد آلت إلى يد أشربت الذل، وأدمنت القيد، وتهيأت لتقديس الوافد الغربي الأثيم، وأصبحت الأمة تحكم بغير شريعتها وتساس بغير إرادتها، وتوجه لغير وجهتها، وتنقاد لغبة ذابحها الذي أوصلها بطول مكر ودقيق كيد إلى هذه الحال.

لقد أصبحنا لأول مرة أمام ظاهرة خطف الأمم، فإذا كان الناس قد عرفوا في هذا الزمان خطف أشخاص أو خطف سفن أو خطف طائرات فإن الذي يقع اليوم خطف لأمة الإسلام، فعندما تفقد الأمة إرادتها بتزييف الانتخابات فيأتي على رأسها دعي ليس أهلا لشئ مما جاء له، وتجتمع مقاليد الأمة كلها في يده، ومن حول هذه اليد طائفة منتفعة به بينما الصانع الذي يوجه اليد من الخارج يقظ حقود. فمن يحكم الأمة على الحقيقة في هذه الحال؟!.

إن الأنظمة الفردية المستبدة المسعورة التي تتحكم في مصير الأمة بالحديد والنار أنظمة صنعها الغرب على عينه ليضمن عن طريقها تكميم الأفواه وتركيع الجباه، ثم يفعل بها بعد ذلك ما يريد. ومن هنا تأتي دعوتي إلى ضرورة إيقاظ الأمة وإعادة النظر في طرائق التربية ووسائل الإيقاظ بدءاً من المنزل والمسجد والمدرسة وانتهاءً بالبرلمان ومجالس التشريع وآلية الحكم.

والبداية تأتي بأن نذكّر الناس جميعا بأن الله هو خلقهم أسوياء متساويين في الحقوق والواجبات، وكفل لهم جميعا ما يكفيهم من ضرورات العيش وأسباب الحياة، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( سورة هود، الآية: 6 )

وهذا الفهم إذا توافر لإنسان فلابد أن يمنحه الأمان على رزقه فلا ينافق أو يتملق أو يخاف، وعلى أجله فلا يجبن أو يتأخر عن أداء ما ينبغي أن يؤدى من نصرة العقيدة وأداء الحق، إنه لا بد أن يفقه جيداً أمر رسولنا رسول الله  : "اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس؛ فإن الأمور تجري بمقادير"( رواه الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر. ).

وعندما يستقر في ضمير الإنسان شعوره بأن أجله ورزقه في يد الله وحده؛ فإنه يطمئن ويتحرر من عقدتي الدونية والفوقية، ويتمتع بنفس متوازنة سوية.

ومن المؤسف أن الإنسان الذي خُلق سويا في أحسن تقويم نراه إذا شب وكبر يصيبه التشويه والانحراف بسبب ما يتسلط عليه من أمور تفسد فطرته وتلوث طبيعته. قال رسول الله : "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"( رواه الشيخان عن أبي هريرة. ).

ولما كان الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، ثم يبدأ في اكتساب معارفه وميوله وعاداته وعقائده من خلال ما يرد إليه من أبويه وأهله وبيئته لذا كان الأبوان مسئولين عن طبيعة هذا لاتكوين وكيفيته، وكانت الطريقة التي يتبعانها في تربية النشئ وتنميته هي المسئول الأول عن كل ما يصيب الطفل من سلبية وأنانية وخوف ورعب وما يسيطر عليه من شعور بالدونية والهوان.

ويشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه


إن كثيرا من الآباء والأمهات لا يسمحون للطفل بأية مساحة من الحرية أو استقلال الشخصية في إبداء الرأي أو التعبير عن الذات، ويقلقهم كثيرا أن يروا منه إحساسا بذاته أو شعورا بكرامته، واستنكافا ن الهزء به، أو السخرية منه، أو النيل من كرامته، وكلما رأت الأم طفلها يبدي استياءً من قهرها له وتسلطها عليه عدت ذلك تمردا عليها واستهزاءً بها وإهانة لها، فتزداد له إهانة وتضاعف له الألم ولا تصبر على سماع كلمة اعتراض منه أو إبداء أدنى شعور بالإباء أو التعبير عن ألمه للحوق الأذى والإهانة به. وهكذا لا يجد الطفل أمامه أدنى مساحة إلا أن ينهزم ذليلا مهينا بائسا كسيرا، ويظل هذا السلوك يمارس عليه حتى ييأس من محاولة إبداء أي شعور بالإحساس بالإهانة، ويظل كذلك حتى يألف هذه الحال ويتحول الخنوع والرضوخ والانهزام في حياته إلى سلوك عادي لا يأنف منه ولا يتحرج من إظهاره، بل قد يصل الأمر به إلى اعتبار كل سلوك سوي عزيز كريم هو الشائن الغريب، فهل يدرك الآباء والأمهات أنهم يصنعون للأمة –عن طريق التربية- الكرام الأعزاء أو العبيد الأذلاء.

وأنهم بفعلهم هذا يقدمون لأعداء الأمة أعظم خدمة عندما يخرجون جيلا خانعا خائفا جبانا، وهكذا تتوارث الأمة -نتيجة الفهم الخاطئ لطرق التربية وكيفية التعامل مع الغير- أساليب القهر وتتبنى ثقافة الاستبداد والخنوع، فتتخرج أجيال لا تعرف لها حقا في إبداء الرأي أو إباء الضيم أو الحرص على ممارسة حقها الطبيعي في حياة كريمة عزيزة.

وكما يحدث من الآباء والأمهات في البيوت، يمارس السلوك نفسه مع التلميذ في المدرسة؛ فالمعلمة التي تلقته من أبويه وحلت في حياته محلهما، وكان المفترض فيها الوعي بطريقة السلوك ومراحل النمو، نجدها قد نشأت هي الأخرى على سلطة الاستبداد وثقافة الفردية والتسلط. وإذا كان الأبوان يمارسان هذا الدور مع استصحاب غريزة الأبوة وحنان الأمومة، بما يخفف من أثره قليلا أو كثيرا فإن المعلمة تمارس الدور مع كثير من الغلظة والجفاء والقسوة. ناسية أن الطفل جاء إليها بعد إلف طويل للحركة والنشاط واللغب في بيته، فإذا حاولت مصادرة هذه المساحة في حياته مرة واحدة مستعينة على ذلك بسلطتها وغلظتها وقسوتها فسوف تصنع بين يديها كيانا بائسا منكسرا حزينا، وسيظل يكره اليوم الذي ألقي به بين يدي هذه السجانة، ويكره الظروف التي ألقته في هذا السجن المحكم.

لكنه مع الزمن عندما لا يجد أملا في بديل آخر عن هذه الحال فسيألفها ويتعايش معها، مدركا أنه لا حظ له في الحركة، ولا نصيب له في الحرية، وليست له أدنى مساحة في إبداء الرأي أو الاعتراض، وإنما هو كيان منهزم خائف. ومن مجموع هؤلاء المنهزمين البؤساء تتكون مدارسنا الابتدائية التي تسلم حصادها إلى الإ عدادية ثم إلى الثانوية. وكلما كان الولد أكثر استكانة واستسلاما كان أقرب إلى المثالية والأدب والاحترام في نظر المسئولين، وهكذا يكرّس الاستسلام والخنوع مرة أخرى عن طريق الأخصائي الاجتماعي الذي خلط بين السلبية والخضوع والاستسلام والخوف وبين الأدب وحسن الخلق وسلامة السلوك. وإذا بأبنائنا يلاحظون أن من كان مطواعا خائفا مستكينا هو النموذج الأمثل والشاب المكرم من أساتذته ومجتمعه.

فمتى يدرك الآباء والأمهات، ومتى يدرك المعلمون والمعلمات أن أبنائنا هم وطننا ومستقبلنا وعزتنا وأنهم نصف الحاضر وكل المستقبل؟!.

إن من بين الأطفال في سن الحضانة والمراحل الدنيا من الصفوف الابتدائية نماذج هم مشروع عباقرة، وعلماء ومخترعين، لو وجدوا من يحسن فهمهم، ويقدر مواهبهم، ويستثمر طاقاتهم ويوجهها التوجيه الأمثل.

إن الطفل الكثير الحركة، الزائد النشاط، السابق لعمره وأوانه، طفل موهوب عبقري زكي.

لكنه يمتنع عن إبداء تلك العبقرية لعدم وجود من يثريها، أو يدعو إلى إدراكها واكتشافها.

إن على أجهزة التربية والتعليم مسئولية النزول إلى الواقع وإعادة النظر في منظومة التربية، ومناهج الدراسة، وتحرير العقل في مراحل تكوينه وإبداعه الأولي من قيود الحفظ والتلقين، وإطلاق طاقاته العملية والإبداعية والابتكارية كل في الميدان الذي يحبه، وفي التخصص الذي يهواه.

إنني أحلم باليوم الذي يهيئ للطالب فرصة الدراسة تبعا للذي يحبه ويحسنه من مهارات وميول، غير مقيّد بنصف درجة صعدت أو نزلت، ليتحول على أساسها مستقبله ويتغير بها مسار حياته.

إنني أعجب أشد العجب لأمة تهدر عبقريات بنيها لتحولها إلى مجالات خدمات واستهلاك نائية بها عن مجالات التنظير والابتكار والإبداع.

إن قطف زبد العقول والقلوب وتحويلها جميعا إلى أطباء ليس بالأمر الحكيم، فالطبيب مهما برع لن يمتد أثره إلى أكثر من جسد المريض، أما مجالات التنظير والإبداع واستشراف المستقبل ووضع الخطط ورسم الملامح لمجتمع سليم نظيف كريم، فهذا مما لا يقع في دائرة الأطباء والمهندسين، وإنما هو شأن المفكرين والسياسيين والعلماء. فإذا كان نصيب هذه الكليات التي تخرّج هؤلاء هم الضعاف المهازيل، فهذا يعني أننا حكمنا بالتخبط والعجز والجهل على مستقبل أمتنا ممثلا في المتصدين لهذا المقام الرفيع، وتجارب الأمم الأخرى دليل على شذوذ الطرق المتبعة في بلادنا، وبعدها عن الواقع، فالأصل في دراسة أي علم هو الميل إليه والشعور بالتميز فيه وليس الإجبار والقصر تجريع الطالب ما لا يحب وما لا يتوافق مع ميوله وقدراته، ثم الحكم عليه بأن يتخصص في ذلك وأن يبني حياته على ذلك. لا شك في أن عطاء هذا الطالب لن يكون بنفس عطاء من تهيأ لهذا التخصص منذ الصغر ومال إليه بطبعه واشتاق أن يرى نفسه كبيرا فيه بقية حياته.

إن الدول التي قطعت شوطا في حسن التخطيط، وعقلانية الإدارة، واحترام ميول الناس ورغباتهم، يهيئون الطالب لتخصصه منذ مراحل التعليم الأولي دون إجبار مادي أو معنوي، ولهذا فقد استوت أمام أعينهم جميع الكليات ودخل كل طالب كليته عن قناعة وحب، ولو خيّر بينها وبين غيرها ما اختار غير كليته، ولذا لم يقع التنافس المحموم على كلية بعينها كالذي يقع على كليتي الطب والصيدلة في بلادنا.

إن نظام التعليم لدينا يحتاج إلى تغيير في المضمون والشكل يساير ما طرأ على حياة الناس من تطور وينسجم مع ما تملكه الأمة من قيم وينهض لمواجهة ما تعانيه من تحديات، وهذا يتطلب عقلية تؤمن بالتغيير لا الترقيع، وتنطلق من ثوابت لا من ردود أفعال، وتراعي في نهضتها عقيدة الأمة ومبادئها التي ينبغي أن يأتي التعليم ليدعمها ويقويها ويحافظ على لونها وصبغتها وليس القفز فوقها أو الطعن فيها أو النيل منها ورفع غيرها عليه وإلا كان ذلك خيانة من أعظم الخيانات.

لابد أن يأخذ واضع السياسة التعليمية في اعتباره معرفة الثابت والمتغير في منظومة القيم، فالثابت هو مجموعة القيم الأصيلة التي جاءت بها الأديان السماوية، واعتنقها الناس عقدية، ومارسوا شعائرها عبادة، واستقاموا على نهجها أخلاقا وسلوكا وبها تتمايز الأمة عن باقي الأمم، فليس شرطا أبدا لكي تنهض الأمم أن تتبنى أفكار غيرها لكي تنتج ما أنتجوا أو تصل إلى ما وصلوا إليه، وإنما ينبغي أن تستفيد منه طرائق التفكير ووسائل تيسير المعلومة وتوصيلها، أما المعلومة نفسها فإن كانت من الكم المشترك بين البشر من علوم الكون والحياة كالطب والفلك والأدوية والكيماويات وعلوم الفضاء والبحار والمعلومات الحديثة فلا بأس بأخذها والاجتهاد في ذلك، وأما إذا كانت المعلومة تناقض قيمة أصيلة من قيم مجتمعنا وأخلاقنا فهنا ينبغي أن يدق جرس الخطر وأن يظهر الخط الأحمر وأن يقال لناقل الكفر، لا. ففرق بين أن نشرب من النهر وأن نغرق فيه، ولنتذكر دائما أن الأسد يتغذى على الخراف لا ليصير خروفا، وإنما ليقوى فيه كيان الأسدية، فلنمد العقل بما شئنا من غذاء معرفي وعلمي شريطة أن يكون الغذاء تقوية لكياننا وليس إفسادا لعقولنا وتشويها لأفكارنا.

إن أمم الأرض جميعا تأنف من الاندماج في غيرها واتنازل عن هويتها وعقيدته لتنتسب إلى دلة أخرى أو عقيدة مخالفة مهما كان هذا الآخر قويا أو غنيا أو عظيما، ولم أر شيئا من المخلوقات رضي أن يتنازل عن جنسه أو ينتسب إلى سواه حتى في عالم الحيوانات أو الطيور.

ومما يحكى من باب التندر أن الغراب أعجبته مشية الحمامة فجعل يقلد مشيتها فلم يستطع فأراد العودة إلى مشيته فنسيها، فأصبح مشيه قفزا كما نراه الآن، وهو مثل يضرب لمن ترك أصوله ليقلد الآخرين فعجز عن تقليدهم ولم يستطع الرجوع إلى أصله، فصار كالغراب لم يلحق بغيره ولم يحتفظ بأصله. وهو ما نرى عليه أمتنا اليوم، فقد تركت أصولها الإسلامية وذهبت تقلد الغرب في حضارته وطريقة حياته فعجزت عن تقليده، وأرادت العودة إلى أصولها اليوم فوجدت من يضيعون لها معالمها ويشككون في ثوابتها ويحولون بينها وبين عقيدتها، وبقي الدور اليوم على عقلاء الأمة وحكمائها كي يساعدوا الأمة في الخروج من مأزقها الحضاري والتصدي للسفهاء من بنيها حتى يسلم لنا ديننا وعقيدتنا ويسري في كياننا تيار الإيمان فنعود بحق ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ).