الفرق بين المراجعتين لصفحة: «مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
(أنشأ الصفحة ب''''<center><font color="blue"><font size=5>مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية 1933-1941</font></font></center>''' '''دك...')
 
لا ملخص تعديل
سطر ١٠٠: سطر ١٠٠:
كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتيارات الفكرية التي ظهرت في المجتمع المصري عقب صدور تصريح 28 [[فبراير]] [[1922]] ذات أثر كبير في تغيير صورة ذلك المجتمع.  
كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتيارات الفكرية التي ظهرت في المجتمع المصري عقب صدور تصريح 28 [[فبراير]] [[1922]] ذات أثر كبير في تغيير صورة ذلك المجتمع.  


لقد تحدد وضع [[مصر]] السياسي بعد صدور التصريح الذي وضع العلاقة بين [[مصر]] وانجلترا في إطار معين فاعترف التصريح ب[[مصر]] دولة مستقلة ذات سيادة وإن كان ذلك من ناحية الشكل فقط ومنحها حق إقامة حياة برلمانية مرت بمراحل مختلفة من الصراع على السلطة بين [[الأحزاب]] القائمة، فتعرضت خلالها الجماهير لأشكال من الضغوط مرة على يد الملكية الأوتوقراطية ومرة أخرى على يد حكومات الأقلية التي عرفت " بوزارات الانقلاب" هذا فضلا عما كانت تمارسه انجلترا مستغلة الظروف الموضوعية إلى أبعد حد، وما شاركت به من جهد في الاعتداء على [[الدستور]] والحياة البرلمانية.
لقد تحدد وضع [[مصر]] السياسي بعد صدور التصريح الذي وضع العلاقة بين [[مصر]] وانجلترا في إطار معين فاعترف التصريح ب[[مصر]] دولة مستقلة ذات سيادة وإن كان ذلك من ناحية الشكل فقط ومنحها حق إقامة حياة برلمانية مرت بمراحل مختلفة من الصراع على السلطة بين [[الأحزاب]] القائمة؛


فتعرضت خلالها الجماهير لأشكال من الضغوط مرة على يد الملكية الأوتوقراطية ومرة أخرى على يد حكومات الأقلية التي عرفت '''" بوزارات الانقلاب"''' هذا فضلا عما كانت تمارسه انجلترا مستغلة الظروف الموضوعية إلى أبعد حد، وما شاركت به من جهد في الاعتداء على [[الدستور]] والحياة البرلمانية.


عرضت تلك الضغوط وذلك الصراع التجربة الدستورية برمتها لهزات عنيفة كانت تطيح بها وهى ما زالت في مهدها، فقد كان [[الدستور]] أحد الأماني التي حققها الشعب المصري بعد كفاحه الطويل، فلم يكن من السهل عليه أن يفرط فيما حققه بجهاده، فساد الصراع بينه وبين من يريدون سلب مكاسبه التي حصل عليها فدخل بذلك مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني.  
عرضت تلك الضغوط وذلك الصراع التجربة الدستورية برمتها لهزات عنيفة كانت تطيح بها وهى ما زالت في مهدها، فقد كان [[الدستور]] أحد الأماني التي حققها الشعب المصري بعد كفاحه الطويل، فلم يكن من السهل عليه أن يفرط فيما حققه بجهاده، فساد الصراع بينه وبين من يريدون سلب مكاسبه التي حصل عليها فدخل بذلك مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني.  


فإلى جانب طلب الاستقلال للبلاد، كان مطلب الحفاظ على الحياة النيابية سليمة مع احترام [[الدستور]] لا يقل أهمية عنه بل ربما تقدم عليه.  
فإلى جانب طلب الاستقلال للبلاد، كان مطلب الحفاظ على الحياة النيابية سليمة مع احترام [[الدستور]] لا يقل أهمية عنه بل ربما تقدم عليه.  


ومن خلال ذلك الصراع الذي ساد بين [[الأحزاب]] المصرية القائمة في ذلك الوقت على السلطة، فإن الجماهير قد تعرضت لمزيد من الضغط والاضطهاد، فأحدث ذلك شرخا كبيرا في وحدة الأمة التي برزت في ثورة [[1919]]، فأدى ذلك إلى ظهور أنظمة سياسية جديدة ترفض أسلوب المفاوضات التي ارتضاها المصريون كأساس يمكن عن طريقه تحديد علاقة [[مصر]] بانجلترا، ولكنها كانت تؤمن باستخدام القوة كأساس يمكن عن طريقه إخراج [[الإنجليز]] من [[مصر]]؛
ومن خلال ذلك الصراع الذي ساد بين [[الأحزاب]] المصرية القائمة في ذلك الوقت على السلطة، فإن الجماهير قد تعرضت لمزيد من الضغط والاضطهاد، فأحدث ذلك شرخا كبيرا في وحدة الأمة التي برزت في ثورة [[1919]]، فأدى ذلك إلى ظهور أنظمة سياسية جديدة ترفض أسلوب المفاوضات التي ارتضاها المصريون كأساس يمكن عن طريقه تحديد علاقة [[مصر]] بانجلترا، ولكنها كانت تؤمن باستخدام القوة كأساس يمكن عن طريقه إخراج [[الإنجليز]] من [[مصر]]؛


وكانت [[مصر الفتاة]] من بين تلك الأنظمة وكما أحدث تصريح [[فبراير]] تغييرا في شكل المجتمع المصري من الناحية السياسية ، فكان ولابد لكي يتحقق الاستقرار السياسي للبلاد، أن يصاحبه تغيير في الأوضاع الاقتصادية لها، ولكن في خلال تلك الفترة التي تلت صدور التصريح، فإن العالم قد تعرض لأزمة اقتصادية طاحنة شديدة الوقع والأثر عليه وهو ما زال يعالج الآثار الاقتصادية الضارة التي ترتبت على [[الحرب العالمية الأولي]]؛
وكانت [[مصر الفتاة]] من بين تلك الأنظمة وكما أحدث تصريح [[فبراير]] تغييرا في شكل المجتمع المصري من الناحية السياسية ، فكان ولابد لكي يتحقق الاستقرار السياسي للبلاد، أن يصاحبه تغيير في الأوضاع الاقتصادية لها، ولكن في خلال تلك الفترة التي تلت صدور التصريح، فإن العالم قد تعرض لأزمة اقتصادية طاحنة شديدة الوقع والأثر عليه وهو ما زال يعالج الآثار الاقتصادية الضارة التي ترتبت على [[الحرب العالمية الأولي]]؛


فلم يكد يخرج من تلك الآثار حتى فاجأته تلك الأزمة عند نهاية العشرينات من ذلك القرن، ولما كانت [[مصر]] جزءا حيويا وهاما من العالم فكان ولابد وأن يظهر للأزمة صداها المسموع فيها، فقد تأثر بها المجتمع المصري تأثرا كبيرا، وعانت منها الطبقات الكادحة من الشعب من الفلاحين والعمال، ولم يقتصر أثرها عليهما بل تعرضت الطبقات الأخرى لأزمات غير محدودة من جرائها، ومنهم الملاك والتجار من مصريين وأجانب.  
فلم يكد يخرج من تلك الآثار حتى فاجأته تلك الأزمة عند نهاية العشرينات من ذلك القرن، ولما كانت [[مصر]] جزءا حيويا وهاما من العالم فكان ولابد وأن يظهر للأزمة صداها المسموع فيها، فقد تأثر بها المجتمع المصري تأثرا كبيرا، وعانت منها الطبقات الكادحة من الشعب من الفلاحين والعمال، ولم يقتصر أثرها عليهما بل تعرضت الطبقات الأخرى لأزمات غير محدودة من جرائها، ومنهم الملاك والتجار من مصريين وأجانب.  


وإلى جانب الأوضاع السياسية والاقتصادية، فقد برزت إلى السطح في تلك الفترة المشكلة الاجتماعية وبشكل ملح، خاصة بعد أن استقرت الأوضاع السياسية بتحديد العلاقة بين [[مصر]] وانجلترا إلى حد ما، ولكن [[الأحزاب]] السياسية القائمة في ذلك الوقت جاءت برامجها خلوا من المشكلة الاجتماعية ، فقد أصبحت تلك المشكلة مطروحة دون أن تلقى عناية من القوى السياسية المختلفة. وبالإضافة إلى تلك الجوانب الثلاثة فقد برزت تيارات فكرية مختلفة تناولت شخصية [[مصر]] تحول أبرازها على ما عداها.  
وإلى جانب الأوضاع السياسية والاقتصادية، فقد برزت إلى السطح في تلك الفترة المشكلة الاجتماعية وبشكل ملح، خاصة بعد أن استقرت الأوضاع السياسية بتحديد العلاقة بين [[مصر]] وانجلترا إلى حد ما، ولكن [[الأحزاب]] السياسية القائمة في ذلك الوقت جاءت برامجها خلوا من المشكلة الاجتماعية ، فقد أصبحت تلك المشكلة مطروحة دون أن تلقى عناية من القوى السياسية المختلفة. وبالإضافة إلى تلك الجوانب الثلاثة فقد برزت تيارات فكرية مختلفة تناولت شخصية [[مصر]] تحول أبرازها على ما عداها.  


وفى ضوء الواقع السياسي الذي أوضح مدى اهتزاز الحياة السياسية بفعل الحياة الحزبية القائمة وتطاحن [[الأحزاب]] فيما بينها والصراع على السلطة، ووجود فراغ سياسي، فلم يكن هناك تنظيمات سياسية تستهوى الشباب وتستوعب حركتهم بعيدا عن تلك الإطارات الحزبية التي كانت قائمة.  
وفى ضوء الواقع السياسي الذي أوضح مدى اهتزاز الحياة السياسية بفعل الحياة الحزبية القائمة وتطاحن [[الأحزاب]] فيما بينها والصراع على السلطة، ووجود فراغ سياسي، فلم يكن هناك تنظيمات سياسية تستهوى الشباب وتستوعب حركتهم بعيدا عن تلك الإطارات الحزبية التي كانت قائمة.  


هذا فضلا عن أن أسلوب المفاوضات المصرية البريطانية لم يكن ليرضى الشباب ولم يقنعهم كإطار يمكن عن طريقه تحديد علاقة [[مصر]] بانجلترا، فإذا أضفنا إلى ذلك دور انجلترا في الانقلابات الدستورية التي تعرضت لها البلاد والتي أخرت تقدمها وتطورها السياسي، أمكننا تفسير ظهور حركة [[مصر الفتاة]] في ذلك الوقت.  
هذا فضلا عن أن أسلوب المفاوضات المصرية البريطانية لم يكن ليرضى الشباب ولم يقنعهم كإطار يمكن عن طريقه تحديد علاقة [[مصر]] بانجلترا، فإذا أضفنا إلى ذلك دور انجلترا في الانقلابات الدستورية التي تعرضت لها البلاد والتي أخرت تقدمها وتطورها السياسي، أمكننا تفسير ظهور حركة [[مصر الفتاة]] في ذلك الوقت.  


في ظل الظروف ، أو الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري برزت [[مصر الفتاة]] كاحتجاج صارخ على الحياة السياسية والاجتماعية في [[مصر]]. وهذه الظروف هي المفتاح الحقيقي لفهم حركتها وتقييمها في التاريخ المصري الحديث خلال فترة البحث.  
في ظل الظروف ، أو الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري برزت [[مصر الفتاة]] كاحتجاج صارخ على الحياة السياسية والاجتماعية في [[مصر]]. وهذه الظروف هي المفتاح الحقيقي لفهم حركتها وتقييمها في التاريخ المصري الحديث خلال فترة البحث.  


منح تصريح 28 [[فبراير]] [[1922]] [[مصر]] استقلالا شكليا، ولكن في نفس الوقت منحت البلاد حق إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف على [[السياسة]] والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية.  
منح تصريح 28 [[فبراير]] [[1922]] [[مصر]] استقلالا شكليا، ولكن في نفس الوقت منحت البلاد حق إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف على [[السياسة]] والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية.  


وعلى الرغم مما أوجده صدور التصريح من ردود فعل داخل المجتمع المصري، حيث أعلنت القوى السياسية والشعبية استياءها منه إلا من قلة من الشعب رحبت بصدوره . ف[[مصر]] بعد صدوره لم يتعد كونها محمية، فانجلترا ما تزال تضطلع بمهمة الدفاع عنها، كما بقى وضعها بإزاء الدول الأجنبية على ما كان عليه قبل التصريح.


وعلى الرغم مما أوجده صدور التصريح من ردود فعل داخل المجتمع المصري، حيث أعلنت القوى السياسية والشعبية استياءها منه إلا من قلة من الشعب رحبت بصدوره . ف[[مصر]] بعد صدوره لم يتعد كونها محمية، فانجلترا ما تزال تضطلع بمهمة الدفاع عنها، كما بقى وضعها بإزاء الدول الأجنبية على ما كان عليه قبل التصريح.
وعلى العموم فقد وافقت انجلترا على إصدار التصريح لأنها توقعت أنه يهدئ من ثائرة المصريين الذين أسرفوا في استعمال أسلوب الاغتيالات.
 
 
وعلى العموم فقد وافقت انجلترا على إصدار التصريح لأنها توقعت أنه يهدئ من ثائرة المصريين الذين أسرفوا في استعمال أسلوب الاغتيالات.
 
 
وفى حقيقة الأمر ومهما كان رأى القوى السياسية والشعبية في التصريح فقد كان مكسبا ل[[مصر]] إذ أنهى الحماية بعد أن اعترفت بها الدول، فهو يعد خطوة للأمام في تاريخ العلاقات بين [[مصر]] وانجلترا هذا فضلا عن أنه قد كفل للمصريين تولى شئونهم بأنفسهم.  


وفى حقيقة الأمر ومهما كان رأى القوى السياسية والشعبية في التصريح فقد كان مكسبا ل[[مصر]] إذ أنهى الحماية بعد أن اعترفت بها الدول، فهو يعد خطوة للأمام في تاريخ العلاقات بين [[مصر]] وانجلترا هذا فضلا عن أنه قد كفل للمصريين تولى شئونهم بأنفسهم.


وفى أعقاب صدور التصريح تولى [[عبد الخالق ثروت]] الوزارة وعهد إليه السلطان فؤاد اتخاذ الترتيبات اللازمة لوضع دستور للبلاد، وفى 15 [[مارس]] [[1922]] أعلن السلطان فؤاد استقلال البلاد واتخذ لقب ملك [[مصر]]، وفى 3 [[أبريل]] الفت الوزارة لجنة لوضع [[الدستور]] عرفت بلجنة الثلاثين.  
وفى أعقاب صدور التصريح تولى [[عبد الخالق ثروت]] الوزارة وعهد إليه السلطان فؤاد اتخاذ الترتيبات اللازمة لوضع دستور للبلاد، وفى 15 [[مارس]] [[1922]] أعلن السلطان فؤاد استقلال البلاد واتخذ لقب ملك [[مصر]]، وفى 3 [[أبريل]] الفت الوزارة لجنة لوضع [[الدستور]] عرفت بلجنة الثلاثين.  


وقد انقسمت [[الأحزاب]] السياسية القائمة بإزائها، فالوفد وعلى رأسه [[سعد زغلول]] يرى أن وضع [[الدستور]] لابد وأن يجيء على يد جمعية منتخبة لا معينة، حتى لا يكون منحة يسهل التلاعب بها، وقد رفض الوفد أن يشترك في عضويتها، وأطلق عليها سعد '''" لجنة الأشقياء "''' كما رفض [[الحزب الوطني]] أيضا الاشتراك فيها.


وقد انقسمت [[الأحزاب]] السياسية القائمة بإزائها، فالوفد وعلى رأسه [[سعد زغلول]] يرى أن وضع [[الدستور]] لابد وأن يجيء على يد جمعية منتخبة لا معينة، حتى لا يكون منحة يسهل التلاعب بها، وقد رفض الوفد أن يشترك في عضويتها، وأطلق عليها سعد" لجنة الأشقياء " كما رفض [[[[الحزب الوطني]]]] أيضا الاشتراك فيها.
وفى ذلك الوقت بدأ التفكير في تأليف '''" [[حزب الأحرار الدستوريين]]"''' وذلك راجع إلى أن الملك فؤاد قد أثار عدة عقبات أمام لجنة وضع [[الدستور]] وأمام الوزارة من أجل مزيد من السلطات له، فدفع ذلك ثروت إلى جمع أنصار الوزارة للوقوف صفا واحدا في وجه محاولات الملك، ولما كان هؤلاء هم الذين وضعوا [[الدستور]] وقاموا بصياغته، فقد كان طبيعيا أن يعملوا على حمايته، وعند تأليف الحزب تقرر أن ينضم إليه جميع أعضاء لجنة [[الدستور]]، وعدد آخر من ذوى النفوذ وكان كثيرون منهم أعضاء في '''" الحزب الديمقراطي" أو في " جمعية [[مصر]] المستقلة"''' .  
 
وفى ذلك الوقت بدأ التفكير في تأليف " [[حزب الأحرار الدستوريين]]" وذلك راجع إلى أن الملك فؤاد قد أثار عدة عقبات أمام لجنة وضع [[الدستور]] وأمام الوزارة من أجل مزيد من السلطات له، فدفع ذلك ثروت إلى جمع أنصار الوزارة للوقوف صفا واحدا في وجه محاولات الملك، ولما كان هؤلاء هم الذين وضعوا [[الدستور]] وقاموا بصياغته، فقد كان طبيعيا أن يعملوا على حمايته، وعند تأليف الحزب تقرر أن ينضم إليه جميع أعضاء لجنة [[الدستور]]، وعدد آخر من ذوى النفوذ وكان كثيرون منهم أعضاء في " الحزب الديمقراطي" أو في " جمعية [[مصر]] المستقلة" .  
 
وهكذا جمع الحزب عددا من كبار المصريين أكثرهم من أعضاء حزب الأمة القديم، أو من أبنائهم وذويهم منضما إليهم فريق من المثقفين المتحررين.
 
 
قوبل تأليف [[حزب الأحرار الدستوريين]] بالهجوم والاستنكار من الطبقات الشعبية، فقد هاجمته الصحف المصرية حتى قبل أن يعلن عن تأليفه، واتهمته بأنه سيفرط في حقوق الوطن.
 


وعلى الرغم من أن مبادئ الحزب تنصر على استكمال الاستقلال وتأييد النظام الدستوري، فإن الجماهير لم تكن لترضى  عنه، فهو يعيد إلى أذهانها حزب الأمة القديم.  
وهكذا جمع الحزب عددا من كبار المصريين أكثرهم من أعضاء حزب الأمة القديم، أو من أبنائهم وذويهم منضما إليهم فريق من المثقفين المتحررين. قوبل تأليف [[حزب الأحرار الدستوريين]] بالهجوم والاستنكار من الطبقات الشعبية، فقد هاجمته الصحف المصرية حتى قبل أن يعلن عن تأليفه، واتهمته بأنه سيفرط في حقوق الوطن.  
 
 
ولكن على العموم فيمكن القول بأنه كان حزب موازنة وتلطيف في [[السياسة]] المصرية . وقد ضم إلى عضويته أيضا بعض المنفصلين عن الوفد ومعظمهم من المخالفين لسعد، ولذلك منذ تأليفه طابع العداء لسعد والوفد.  


وعلى الرغم من أن مبادئ الحزب تنصر على استكمال الاستقلال وتأييد النظام الدستوري، فإن الجماهير لم تكن لترضى  عنه، فهو يعيد إلى أذهانها حزب الأمة القديم. ولكن على العموم فيمكن القول بأنه كان حزب موازنة وتلطيف في [[السياسة]] المصرية . وقد ضم إلى عضويته أيضا بعض المنفصلين عن الوفد ومعظمهم من المخالفين لسعد، ولذلك منذ تأليفه طابع العداء لسعد والوفد.


وعلى الرغم من أن الحزب قد أعلن قيامه للدفاع عن [[الدستور]] ، فقد تعرض مشروع [[الدستور]] للمسخ والتشويه والبتر على يد وزارات القصر، فقد حاولت وزارة توفيق نسيم التي أعقبت وزارة ثروت العمل على زيادة سلطات الملك.  
وعلى الرغم من أن الحزب قد أعلن قيامه للدفاع عن [[الدستور]] ، فقد تعرض مشروع [[الدستور]] للمسخ والتشويه والبتر على يد وزارات القصر، فقد حاولت وزارة توفيق نسيم التي أعقبت وزارة ثروت العمل على زيادة سلطات الملك.  


وفى عهد وزارة يحيى إبراهيم التي جاءت بعدها، ارتفعت الأصوات محتجة على أي بتر وأي تعديل لمشروع [[الدستور]]، وكان أقوى هذه الاحتجاجات الخطاب الذي أرسله عبد العزيز فهمي إلى يحيى إبراهيم طالبه فيه بإصدار [[الدستور]] كما وضعته اللجنة؛
وفى عهد وزارة يحيى إبراهيم التي جاءت بعدها، ارتفعت الأصوات محتجة على أي بتر وأي تعديل لمشروع [[الدستور]]، وكان أقوى هذه الاحتجاجات الخطاب الذي أرسله عبد العزيز فهمي إلى يحيى إبراهيم طالبه فيه بإصدار [[الدستور]] كما وضعته اللجنة؛


فصدر [[الدستور]] بعد أن حذف منه بعض النصوص الخاصة ب[[السودان]]، وأعقب ذلك إجراء الانتخابات في 12 [[يناير]] [[1924]] والتي أسفرت عن أغلبية مطلقة للوفد، فكان بديهيا أن يعرض الملك على سعد تأليف الوزارة، فقبلها في نفس اليوم 28 [[يناير]] [[1924]].  
فصدر [[الدستور]] بعد أن حذف منه بعض النصوص الخاصة ب[[السودان]]، وأعقب ذلك إجراء الانتخابات في 12 [[يناير]] [[1924]] والتي أسفرت عن أغلبية مطلقة للوفد، فكان بديهيا أن يعرض الملك على سعد تأليف الوزارة، فقبلها في نفس اليوم 28 [[يناير]] [[1924]].  


حصل الوفد على الأغلبية المطلقة التي أتاحت له أن يقبل مسئولية الحكم كحق من حقوق الشعب الأصيلة، والوسيلة المباشرة لاستكمال استقلال [[مصر]] والعناية بشئون البلاد الداخلية، فتألفت وزارة [[سعد زغلول]]، وقد اعتبر البعض أن قبوله الوزارة يعد اعترافا بتصريح 28 [[فبراير]]؛


حصل الوفد على الأغلبية المطلقة التي أتاحت له أن يقبل مسئولية الحكم كحق من حقوق الشعب الأصيلة، والوسيلة المباشرة لاستكمال استقلال [[مصر]] والعناية بشئون البلاد الداخلية، فتألفت وزارة [[سعد زغلول]]، وقد اعتبر البعض أن قبوله الوزارة يعد اعترافا بتصريح 28 [[فبراير]]، أما البعض الآخر فقد اعتبره تعبيرا عن إرادة الأمة، أما سعد نفسه فقد أعلن منذ البداية أنه سيواصل التنصل من تصريح [[فبراير]]، فأكد في مجلس النواب أن [[السودان]] جزء من [[مصر]] يستحيل فصله، فأعلنت الحكومة البريطانية من جانبها عن إصرارها على عدم التخلي عن [[السودان]].
أما البعض الآخر فقد اعتبره تعبيرا عن إرادة الأمة، أما سعد نفسه فقد أعلن منذ البداية أنه سيواصل التنصل من تصريح [[فبراير]]، فأكد في مجلس النواب أن [[السودان]] جزء من [[مصر]] يستحيل فصله، فأعلنت الحكومة البريطانية من جانبها عن إصرارها على عدم التخلي عن [[السودان]].  
 
 
وفى ذلك الوقت تولت وزارة العمال الحكم في إنجلترا، وبدا من السهل بدء المفاوضات الرسمية بين سعد ومكدونالد وزير خارجيتها ولكن سير المفاوضات قد أكد لسعد أنها فاشلة فقد تمسك كل من الطرفين بموقفه ، فلم تمض أيام على بدايتها حتى قطعها سعد وعاد إلى [[القاهرة]] ليؤكد من جديد عزمه على عدم التخلي عن أي حق من "الحقوق المقدسة" ل[[مصر]] في واد النيل.  


وفى ذلك الوقت تولت وزارة العمال الحكم في إنجلترا، وبدا من السهل بدء المفاوضات الرسمية بين سعد ومكدونالد وزير خارجيتها ولكن سير المفاوضات قد أكد لسعد أنها فاشلة فقد تمسك كل من الطرفين بموقفه، فلم تمض أيام على بدايتها حتى قطعها سعد وعاد إلى [[القاهرة]] ليؤكد من جديد عزمه على عدم التخلي عن أي حق من '''"الحقوق المقدسة"''' ل[[مصر]] في واد النيل.


وبعد أن فشلت المفاوضات اشتد سعد في معاملة الاحتلال وظاهره مجلس النواب في موقفه، فقد انتهز فرصة مناقشة الميزانية، فصوت على قرار بإلغاء مساهمة [[مصر]] في نفقات جيش الاحتلال البريطاني مع المطالبة بالجلاء عن الأراضي المصرية، وعلى قرار آخر بتعديل مرتبات المستشارين [[الإنجليز]].  
وبعد أن فشلت المفاوضات اشتد سعد في معاملة الاحتلال وظاهره مجلس النواب في موقفه، فقد انتهز فرصة مناقشة الميزانية، فصوت على قرار بإلغاء مساهمة [[مصر]] في نفقات جيش الاحتلال البريطاني مع المطالبة بالجلاء عن الأراضي المصرية، وعلى قرار آخر بتعديل مرتبات المستشارين [[الإنجليز]].  


 
كما ظهرت على حين غرة متاعب أخرى لتزيد من حدة التوتر بين المندوب السامي البريطاني والإدارة المصرية. ومن المحتمل أن تكون حكومة لندن قد فكرت منذ ذلك الوقت في إبعاد سعد عن الحكم.
كما ظهرت على حين غرة متاعب أخرى لتزيد من حدة التوتر بين المندوب السامي البريطاني والإدارة المصرية. ومن المحتمل أن تكون حكومة لندن قد فكرت منذ ذلك الوقت في إبعاد سعد عن الحكم.  
 


فقد أدركت الحكومة البريطانية أن استمراره في الحكم مع ما يتمتع بع وحزبه من أغلبية مطلقة في البرلمان سيكون مثار متاعب لبريطانيا ورجالها في [[مصر]].
فقد أدركت الحكومة البريطانية أن استمراره في الحكم مع ما يتمتع بع وحزبه من أغلبية مطلقة في البرلمان سيكون مثار متاعب لبريطانيا ورجالها في [[مصر]].


كان فشل المفاوضات وما اتخذ من إجراءات اعتبرتها السلطات البريطانية معادية لها ما ينبئ عن قرب سقوط الوزارة. هذا فضلا عن أن المعارضة قد نشطت ، فأضرب [[الأزهر]]يون وعين القصر حسن نشأت وكيلا للديوان الملكي دون علم الوزارة ودون إقرارها لهذا التعيين، فتقدم سعد باستقالته قائلا أنه لا يستطيع أن يعمل في الظلام.  
كان فشل المفاوضات وما اتخذ من إجراءات اعتبرتها السلطات البريطانية معادية لها ما ينبئ عن قرب سقوط الوزارة. هذا فضلا عن أن المعارضة قد نشطت ، فأضرب [[الأزهر]]يون وعين القصر حسن نشأت وكيلا للديوان الملكي دون علم الوزارة ودون إقرارها لهذا التعيين، فتقدم سعد باستقالته قائلا أنه لا يستطيع أن يعمل في الظلام.  


 
وقد اجتمع مجلسا البرلمان وجددا الثقة بسعد، ومن ثم بذلك محاولات وجهود كبيرة كي يعدل سعد عن استقالته، ولكنه أصر عليها إلا إذا أجيبت مطالب الوزارة التي اضطر الملك فؤاد أن يسلم بها وأن يقبل الاقتصار على حدود دوره كحاكم دستوري للبلاد ليست لآرائه من فاعلية إلا إذا صادقت عليها الوزارة، فأعلن سعد أنه باق في السلطة '''" بفضل الله وإرادة الأمة"''' وعدل عن استقالته .  
وقد اجتمع مجلسا البرلمان وجددا الثقة بسعد، ومن ثم بذلك محاولات وجهود كبيرة كي يعدل سعد عن استقالته، ولكنه أصر عليها إلا إذا أجيبت مطالب الوزارة التي اضطر الملك فؤاد أن يسلم بها وأن يقبل الاقتصار على حدود دوره كحاكم دستوري للبلاد ليست لآرائه من فاعلية إلا إذا صادقت عليها الوزارة، فأعلن سعد أنه باق في السلطة" بفضل الله وإرادة الأمة" وعدل عن استقالته .  
 


وبعد هذا الكسب المحقق الذي أحرزته وزارة سعد ضد أوتوقراطية الملك فؤاد فقد تعرضت لحادث أفقدها ما كسبت بل يزيد عليه، فكان مقتل السيرلى ستاك سردار الجيش المصري وحاكم عام [[السودان]] في 19 [[نوفمبر]] عام [[1924]] هو المحك الذي جعل المندوب السامي يتشدد في موقفه من وزارة سعد، وكأنما قد وافته الفرصة تماما للإطاحة بتلك الوزارة، فكانت تصرفاته عقب الحادث توضح ذلك.  
وبعد هذا الكسب المحقق الذي أحرزته وزارة سعد ضد أوتوقراطية الملك فؤاد فقد تعرضت لحادث أفقدها ما كسبت بل يزيد عليه، فكان مقتل السيرلى ستاك سردار الجيش المصري وحاكم عام [[السودان]] في 19 [[نوفمبر]] عام [[1924]] هو المحك الذي جعل المندوب السامي يتشدد في موقفه من وزارة سعد، وكأنما قد وافته الفرصة تماما للإطاحة بتلك الوزارة، فكانت تصرفاته عقب الحادث توضح ذلك.  


 
وهكذا التقى الطرفان والقصر و[[الإنجليز]] للعمل ضد سعد ووزارته فقدم استقالته في 24 [[نوفمبر]] [[1924]]. وقد احتج البرلمان على التصرفات الإنجليزية المنافية للاستقلال البلاد وأبلغ الاحتجاج إلى برلمانات العالم ومجلي عصبة الأمم.
وهكذا التقى الطرفان والقصر و[[الإنجليز]] للعمل ضد سعد ووزارته فقدم استقالته في 24 [[نوفمبر]] [[1924]]. وقد احتج البرلمان على التصرفات الإنجليزية المنافية للاستقلال البلاد وأبلغ الاحتجاج إلى برلمانات العالم ومجلي عصبة الأمم.  
 


وباستقالة وزارة سعد تبدأ الجولة الأولى من الصراع بين الوطنيين و[[الإنجليز]] من ناحية وبينهم وبين القصر من ناحية أخرى. كما تبدأ أيضا محاولات الاعتداء على [[الدستور]] الذي منح للبلاد وهو ما زال في المهد.  
وباستقالة وزارة سعد تبدأ الجولة الأولى من الصراع بين الوطنيين و[[الإنجليز]] من ناحية وبينهم وبين القصر من ناحية أخرى. كما تبدأ أيضا محاولات الاعتداء على [[الدستور]] الذي منح للبلاد وهو ما زال في المهد.  


كل ذلك استدعى وقوف السياسيين صفا واحدا لمقاومة الخطر الداهم الذي يهدد البلاد، ولكن وزارة زيور التي جاءت في أعقاب وزارة سعد عملت على ترضية انجلترا والاستجابة لكل مطالبها التي تقدمت بها بعد حادث مقتل السردار وقد عبر زيور عن تلك [[السياسة]] بأنها محاولة لإعادة صفو العلاقات مع الحكومة البريطانية، وإسرافا منها في الوصول إلى تلك الغاية وإرضاء لنزعة الملك فؤاد الأوتوقراطية ، فقد طالب بحل مجلس النواب، وصدر المرسوم الملكي بالحل، وهكذا تخلص الملك فؤاد من البرلمان الوفدي كما تخلص من الوزارة الوفدية من قبل.  
كل ذلك استدعى وقوف السياسيين صفا واحدا لمقاومة الخطر الداهم الذي يهدد البلاد، ولكن وزارة زيور التي جاءت في أعقاب وزارة سعد عملت على ترضية انجلترا والاستجابة لكل مطالبها التي تقدمت بها بعد حادث مقتل السردار وقد عبر زيور عن تلك [[السياسة]] بأنها محاولة لإعادة صفو العلاقات مع الحكومة البريطانية، وإسرافا منها في الوصول إلى تلك الغاية وإرضاء لنزعة الملك فؤاد الأوتوقراطية ، فقد طالب بحل مجلس النواب، وصدر المرسوم الملكي بالحل، وهكذا تخلص الملك فؤاد من البرلمان الوفدي كما تخلص من الوزارة الوفدية من قبل.  


وبعد أن تحقق للملك فؤاد ما أراد ، سعى إلى خلق أحزاب سياسية جديدة تسند حكمه الاستبدادي، فبعد أن اصطدم بالوفد حاول أن يضم الأحرار الدستوريين إلى صفه، وقد نجح في ذلك بعض الشيء، وحين لم يسيطر عليهم سعى إلى تأليف حزب جديد هو " حزب الاتحاد" فعهد إلى حسن نشأت بتأليفه، وقد اشتهر لدى الدوائر الشعبية على أنه " حزب الملك" وأطلق عليه [[سعد زغلول]] " حزب الشيطان"  
وبعد أن تحقق للملك فؤاد ما أراد ، سعى إلى خلق أحزاب سياسية جديدة تسند حكمه الاستبدادي، فبعد أن اصطدم بالوفد حاول أن يضم الأحرار الدستوريين إلى صفه، وقد نجح في ذلك بعض الشيء، وحين لم يسيطر عليهم سعى إلى تأليف حزب جديد هو " حزب الاتحاد" فعهد إلى حسن نشأت بتأليفه، وقد اشتهر لدى الدوائر الشعبية على أنه " حزب الملك" وأطلق عليه [[سعد زغلول]] " حزب الشيطان"  
سطر ٢٠٩: سطر ١٧٥:
إلا أن الحزب لم يكن يضم بين أعضائه أحدا من البارزين. وقد كان القصد من إنشائه هو دعم سلطة الملك، وأن يحكم بمراسيم بدلا من الحكومات البرلمانية.
إلا أن الحزب لم يكن يضم بين أعضائه أحدا من البارزين. وقد كان القصد من إنشائه هو دعم سلطة الملك، وأن يحكم بمراسيم بدلا من الحكومات البرلمانية.
   
   
وعلى ما يبدو من الظروف التي نشأ فيها الحزب وأشخاص أعضائه وموقف قوى الشعب منه أن الحزب قد ولد ميتا، وأن دل تأليفه على شيء فإنما يدل على مدى النزعات الأوتوقراطية التي كانت توجه القصر بعد الاستقلال .
وعلى ما يبدو من الظروف التي نشأ فيها الحزب وأشخاص أعضائه وموقف قوى الشعب منه أن الحزب قد ولد ميتا، وأن دل تأليفه على شيء فإنما يدل على مدى النزعات الأوتوقراطية التي كانت توجه القصر بعد الاستقلال .


وفى ظل تلك الظروف أجرت وزارة زيور الانتخابات فأسفرت عن أغلبية للوفد لم يكن يريدها زيور واجتمع البرلمان يوم 23 [[مارس]] [[1925]]، فتقدم زيور إلى الملك في نفس اليوم طالبا حل مجلس النواب مرة أخرى، موضحا أنه بمجرد انعقاد المجلس الجديد ظهرت فيه روح عدائية حيث اختار لرئاسته [[سعد زغلول]]، وبما أن هذا التصرف من جانب المجلس يجعل مهمة زيور صعبة على حد قوله فتقدم باستقالة وزارته.  
وفى ظل تلك الظروف أجرت وزارة زيور الانتخابات فأسفرت عن أغلبية للوفد لم يكن يريدها زيور واجتمع البرلمان يوم 23 [[مارس]] [[1925]]، فتقدم زيور إلى الملك في نفس اليوم طالبا حل مجلس النواب مرة أخرى، موضحا أنه بمجرد انعقاد المجلس الجديد ظهرت فيه روح عدائية حيث اختار لرئاسته [[سعد زغلول]]، وبما أن هذا التصرف من جانب المجلس يجعل مهمة زيور صعبة على حد قوله فتقدم باستقالة وزارته.  

مراجعة ١٠:٣٧، ١٨ سبتمبر ٢٠١٢

مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية 1933-1941

دكتور على شلبي

كلية الآداب جامعة المنصورة

الطبعة الأولى 1402 – 1982م

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

ظهرت حركة مصر الفتاة في المجتمع المصري في الثلاثينات من القرن العشرين، وكان ظهورها معاصرا لتيارات فكرية معينة وفدت من أوربا بعد أن انتشرت بها في تلك الفترة وما سبقها، وكان لها صداها المسموع في مصر ، فتألفت جمعية مصر الفتاة برئاسة أحمد حسين في خريف عام 1933 محاولة بهذا التيار الفكري وباستخدام أساليبه التي اتخذها في مجال تطبيق أفكاره.

وفى حقيقة الأمر ، فإن هذه التيارات الفكرية التي انتشرت في أوربا واعتمدت على عنصر الشباب بحماسته المتدفقة وسرعته في التأثير والإيمان المطلق بفكرها الذي أرادت أن تنشره، وهى أفكار جديدة كانت غير مألوفة ولا مستخدمة في ذلك الوقت، فقد لجأت بعض الدول الأوربية للأخذ بهذه الأفكار حتى يتاح لها استعادة وضعها السابق وتجديد شباب دولها عن طريق الشباب وحماسته؛

وربما كان الإخفاق والهزيمة القاسية التي منيت بها ألمانيا في الحرب العالمية الأولي دافعا لها للتغني بمبدأ سيادة العصر الجرماني، وهى دعوة عنصرية عرقية لعلها مرتبطة بناحية نفسية طبيعية تصاب بها أية كيانات عندما تتعرض لهزة عنيفة، وليس هناك أقوى من رد فعل الحرب وظروفها على المجتمعات المختلفة.

هيأت ظروف الحرب التي تعرضت لها تلك الدول الفرصة لظهور أنظمة سياسية تنادى بضرورة بعث مجد روما في إيطاليا وسيادة العنصر الجرماني في ألمانيا، وقد استطاعت تلك النظم الأوربية في فترة وجيزة أن تحقق نجاحا منقطع النظير في الوصول إلى تحقيق الغايات التي كرست نفسها من أجلها، فتمثل ذلك في النجاح الذي حققه موسولينى في إيطاليا بعد استيلائه على السلطة في عام 1922 حيث نهض بإيطاليا نهضة اندهش لها الشرق والغرب معا في ذلك الوقت .

كذلك استطاع هتلر أن يقفز إلى السلطة في عام 1933 وأن يعيد لألمانيا جزءا من هيبتها بعد أن مزقت الحرب العالمية الأولي أوصالها، فكان ذلك النجاح الذي شهدته هاتان الدولتان في ظل أنظمة حكم ديكتاتورية تقوم على الفرد كما تقوم على طبيعة عسكرية استخدمت قوتها في الوصول إلى الحكم وتغيير شكل المجتمع ، كانت مثار إعجاب من معظم دول العالم، إلى الحد الذي رأت فيها بعض الدول والشعوب نماذج تحتذي.

انتشرت موجة الإعجاب بم حققته تلك الأنظمة السياسية في معظم دول العالم، وكان له صداها المسموع في مصر، فظهرت بها تجمعات سياسية أعجبت بتلك الأنظمة وبما حققته من منجزات لدولها، فكان منها جمعية مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين والحزب الديمقراطي وحتى حزب الوفد الحزب الشعبي الجماهيري الذي يؤمن بالديمقراطية إيمانا مطلقا، تعرض في فترة من الفترات للأخذ بأساليب تطبيق تلك الأفكار فلم يستطع أن يقاوم موجة الإعجاب بتلك الأنظمة الأوربية.

وعلى الرغم من أهمية دراسة حركة مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية كحركة سياسية ذات اتجاهات إصلاحية ترمى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين فئات وعناصر الشعب المختلفة، إلا أنه كان دون ذلك عدة محاذير تمنع من دراستها والتعرض لها؛

فمنها أن معظم قادة تلك الحركة وأعضاؤها ما زال معظمهم على قيد الحياة، ومنها أن معظم وثائق تلك الفترة ما زالت في بطون الأرشيفات المصرية المختلفة والتي لم يكشف النقاب عنها حتى الآن، وهى تشكل المادة الأصلية لدراسة هذه الأحزاب والجماعات السياسية، ومنها أن دراسة هذه الموضوعات المعاصرة دونه صعوبات كثيرة، ومتعددة.

وفى نفس الوقت الذي كانت تلك المحاذير تمنع دراسة الموضوع فقد كان بعضها عاملا مشجعا في نفس الوقت لدراسته، فإن زعماء الحركة وقادتها الأحياء يضيفون أبعادا جديدة وتفسيرات معينة للأحداث المختلفة التي مرت بها الحركة، كما أن التقاء المؤرخ بالشخصيات التي يؤرخ لها والتي شاركت في الحياة السياسية يضيف أبعادا جديدة أيضا إلى تصوره للموضوع ولشخصية القائمين بالحركة التي يعالجها دراسته؛

فالوثائق والمؤلفات ومختلف المصادر تعطى مادة جامدة على المؤرخ أن يحاول تحليلها وتفسريها، أما مناقشة الموضوعات مع من شاركوا في أحداثها ربما أعطت صورة أوضح لتفسيرها وتحليلها، ومن هذا المنطلق كان بقاء معظم قادة وأعضاء الحركة أحياء عاملا مشجعا على دراستها.

أما لماذا تم اختيار ذلك الموضوع وتحديده بالفترة الزمنية المذكورة؟ فإن ذلك راجع إلى أن الحركة الوطنية المصرية قد حظيت ببعض الدراسات العلمية التي قام بها بعض المؤرخين والمهتمين بتاريخ مصر، وعلى الأخص الدراسة التي قام بها الدكتور عبد العظيم رمضان في رسالتيه للماجستير والدكتوراه والتي تعرض فيهما لدراسة حركة مصر الفتاة كرافد من روافد الحركة الوطنية وقد اعتبره رافدا معاديا للخط الوطني الذي سلكته الجماهير؛

كذلك قام أحد المؤرخين الأمريكيين بدراسة بعنوان " حزب مصر الفتاة والقومية المصرية في الفترة من 1933- 1945" لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة " متشجان" بالولايات المتحدة الأمريكية عالج فيه الحركة معتمدا أساس على الدوريات المختلفة وبعض الكتابات عنها وأن لم يرجع إلى المصادر الأصلية التي كان متاحا الاطلاع عليها فيما يختص بالموضوع سواء كانت الوثائق العربية أو الوثائق البريطانية؛

ولكنه لم يفعل واقتصر على أرشيف الخارجية الألمانية الذي صور ونقل إلى أرشيف الولايات المتحدة الأمريكية ، وفى اعتقادي أنه لا يضم من الوثائق عن تاريخ مصر إلا القليل ، فإذا كان الموضوع مصر الفتاة فهو أقل القليل، ولكن على العموم جاءت دراسته إضافة جديدة لتاريخ مصر وكان له فضل الريادة في هذا المجال.

وإزاء ما أورده الدكتور عبد العظيم رمضان واعتبر فيه مصر الفتاة حركة معادية للخط الوطني ودراسة "جان كوفسكى" لحركتها مع عدم استناد وبيان مختلف جوانبه في ضوء المادة الأصلية المتاحة من الوثائق العربية والأجنبية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن دراسة مصر الفتاة كحركة ظهرت في المجتمع المصري رأى فيها البعض تعبيرا عن تيار فكرى وفد من أوربا واعتنقه أفرادها وحاولوا نشره وتطبيق أفكاره في مصر؛

كان ذلك في حد ذاته هو الدافع الأساسي لي للقيام بتلك الدراسة وبيان مدى صحة ذلك وهل كانت مصر الفتاة في حقيقة أمرها تعبيرا عن ذلك التيار الفاشي الذي حقق نجاحا ملحوظا في أوربا في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين؟ ولعل فصول هذا البحث تجيب على هذا السؤال.

أما عن تحديد الموضوع بالفترة الزمنية فيما بين سنتي 1933، 1941، فالتاريخ الأول هو التاريخ الذي أنشأ فيه أحمد حسين جمعية مصر الفتاة كتطور طبيعي " لمشروع القرش" فأعلن قيامها في 21 أكتوبر 1933، فهي بداية لمصر الفتاة كحركة سياسية إصلاحية في المجتمع المصري.

أما التاريخ الثاني فهو التاريخ الذي أجهضت فيه الحركة تماما في فترة الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه التحديد بعد أن أسفرت الحركة عن عدائها السافر وكشفت النقاب عن وجهها الصحيح ضد الإنجليز، وقد تمثل ذلك في تأييدها لحركة رشيد عالي الكيلانى في العراق في مايو 1941

فكان ذلك في حد ذاته مبررا كي تشتد السلطات الإنجليزية في مصر في معاملتها وإصدار الأوامر باعتقال رئيسها ومعظم أعضائها وبذلك تجمد نشاطها تماما فلا حزب ولا أعضاء ولا جريدة، ولا نشاط من أي نوع لهذه الحركة خلال الفترة الباقية من الحرب تقريبا حتى استعادت نشاطها من جديد في خريف عام 1944. ولعل التاريخ الذي اتخذناه نهاية لمرحلة الدراسة يعد نهاية للحركة ولتطورها في مرحلة معينة.

أما عن دراسة هذه الحركة كأحد الكيانات السياسية التي شاركت بدور فعال في الحركة الوطنية المصرية في تاريخ مصر المعاصر، تعد دراستها بل دراسة التاريخ المعاصر على وجه العموم دراسة شاقة تتطلب المزيد من الجهد والجرأة في التصدي لموضوعات ما زالت حية في أذهان الجماهير بل ربما شاركوا في أحداثها بنصيب، فمن هنا تأتى صعوبة دراسة هذه الموضوعات المعاصرة.

هذا فضلا عن أن معظم وثائق هذه الفترة المعاصرة ما زالت لم يكشف النقاب عنها بعد. وعلى الرغم من تلك الصعوبات فقد أمكن التوصل إلى عديد من المصادر والوثائق التي تلقى أضواء ساطعة على حركة مصر الفتاة وبيان الجوانب المختلفة في حركتها وكفاحها خلال فترة البحث وما بعدها.

وقد اعتمد هذا البحث على المصادر الآتية وهى:

وثائق دار القضاء العالي المحفوظة بالمتحف القضائي ومنها قضية الاعتداء على النحاس باشا من جانب عز الدين عبد القادر عضو مجلس جهاد مصر الفتاة في 28 نوفمبر 1937، وترجع أهمية هذه القضية في معالجة الموضوع لأنها ضمت مختلف الأوراق والتقارير التي قدمت عن حركة مصر الفتاة منذ نشأتها عام 1933 وحتى وقوع الحادث في عام 1937، كما أنها ضمت محاضر التحقيق والتفتيش وقرار الإحالة المقدم من النيابة العمومية والمرافعة والحكم في القضية ومجموعة كبيرة من أوراق مصر الفتاة الخاصة وتتكون من ثلاث محافظ كبيرة هي الأحراز في القضية.
كما كانت مجموعة وثائق عابدين المحفوظة بدار الوثائق القومية ذات أهمية قصوى لهذا البحث، فقد ضمت تقارير الأمن العام عن جمعية وحزب مصر الفتاة في الفترة من 1933-1942 ، وكذلك بعض التقارير السياسية إلى جانب تقارير البوليس المخصوص بالسرايات الملكية في الفترة من 1933-1941، هذا فضلا عن مجموعة وثائق عن الانقلابات الدستورية في مصر في الفترة من 1924-1935.
كما استطعت الحصول على وثائق الخارجية البريطانية وتضم مجموعة تقارير المندوب السامي أو السفير البريطاني إلى وزارة الخارجية البريطانية خلال الفترة وهى تقدم الكثير لهذا البحث كما هو وارد في صفحاته المختلفة.
كما اعتمد هذا البحث على وثائق الهيئة العامة للإصلاح الزراعي، سجلات الخاضعين لقوانين الإصلاح الزراعي، هذا إلى جانب بعض الوثائق المنشورة عن حركة مصر الفتاة طوال الفترة، كما قدمت مضابط مجلس النواب بعض المادة الأصلية والمراجع المختلفة التي تناولت الموضوع خلال فترة البحث وعلى الأخص البحث الذي قدمه الباحث الأمريكي " جان كوفسكى" لجامعة متشجان للحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث عام 1967 فقد استطعت الحصول على نسخة مصورة منه، هذا بالإضافة إلى معظم دوريات تلك الفترة من صحف ومجلات مختلفة.
وعند محاولة وضع خطة العمل في البحث ومنهجه راودتني فكرة تقسيم الموضوع إلى مراحل زمنية ارتبطت بتطورات في حياة حركة مصر الفتاة، ولكن تبين لي أن هذا المنهج في التقسيم سيفقدها وحدة الموضوع الواحد، وأخيرا استقر الرأي على تقسيم البحث تقسيما موضوعيا، وعلى الرغم مما يعانيه الباحث من صعوبات في الكتابة ملتزما بهذا التقسيم الموضوعي وذلك لتداخل الحوادث والموضوعات بين كل موضوع والموضوع الآخر إلا أنها تعد طريقة أمثل لمعالجة مثل هذا الموضوع.
وقد قسمت بحصى على الطريقة المذكورة إلى مقدمة وعشر فصول وخاتمة، فكان الفصل الأول منها بعنوان " الظروف التاريخية لنشأة مصر الفتاة" تناولت فيه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتيارات الفكرية التي سادت في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922 وحتى إعلان قيام جمعية مصر الفتاة في عام 1933؛
أما الفصل الثاني بعنوان " مقدمات مصر الفتاة" تناولت فيه نشأة أحمد حسين رئيس الجمعية ونشاطه السياسة والاجتماعي والاقتصادي قبل إعلانها، كما تناول الفصل الثالث " تطور مصر الفتاة" وهو يتناول مراحل التطور التي مرت بها الحركة من جمعية مصر الفتاة إلى حزب مصر الفتاة في عام 1937 إلى الحزب الوطني الإسلامى عام 1940 وفيه عرضت للظروف التاريخية التي سبقت ولحقت التطور.
أما الفصل الرابع فقد تناول " الهيكل التنظيمي لمصر الفتاة" وقد قسمته إلى أربعة أقسام رئيسية تناولت المستوى المركزي والمستوى الاقليمى والتشكيلات شبه العسكرية وأخيرا الموارد المالية لمصر الفتاة طوال فترة البحث.
ولكي يستكمل الهيكل التنظيمي صورته فقد كان الفصل الخامس عن " صحافة مصر الفتاة" وفيه تناولت الصحف والمجلات التي استخدمتها مصر الفتاة طوال فترة البحث واعتبرتها جزءا متمما للهيكل التنظيمي فقد كانت إحدى أدوات مصر الفتاة التي استخدمتها في تنفيذ برنامجها وتقل تعليماتها إلى أعضائها.
أما الفصل السادس فقد تناول " الفكر النظري لمصر الفتاة" وقد تبلورت أفكارها في أربعة أفكار رئيسية هي فكرة القومية المصرية وفكرة العروبة وفكرة الجامعة الإسلامية إلى جانب فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية، كما تناول الفصل السابع " التركيب الاجتماعي لقيادة حركة مصر الفتاة" والتي جاء تركيبها مطابقا لواقع المجتمع المصري الاجتماعي وأن غلب عليها عنصر الشباب .

أما الفصول من الثامن إلى العاشر فقد تناولت موقف القوى السياسية في مصر من مصر الفتاة والعلاقات بينهما طوال فترة البحث. فكان الفصل الثامن بعنوان " مصر الفتاة والقصر" وقد تناولت فيه علاقة مصر الفتاة بالقصر ووزاراته المختلفة وبيان إلى أي مدى ربطت مصر الفتاة نفسها بالقصر وبدوائره.

أما الفصل التاسع فكان بعنوان " مصر الفتاة والأحزاب " وقد تناولت فيه علاقتها بمختلف الأحزاب المصرية القائمة في تلك الفترة، وكيف أن مصر الفتاة قد ربطت نفسها بأحزاب الأقلية بعد أن فشلت في الحصول على اعتراف الوفد بها وبشرعية قيامها بدورها في السياسة المصرية، وكان الفصل العاشر والأخير بعنوان " مصر الفتاة والمسألة الوطنية" عرضت فيه لموقف مصر من الأجانب عامة والإنجليز المحتلين للبلاد خاصة وبيان العلاقات بينهما؛
كما تعرضت لبيان علاقة مصر الفتاة بكل من إيطاليا وألمانيا، وكذلك علاقتها بالدول العربية ومدى اهتمامها بقضايا تلك الدول إيمانا منها بتكوين الحلف العربي الذي كان الحلقة الثانية في سلسلة أفكارها.
ولا يسعني في النهاية إلا أن أتقدم بموفور الشكر لكل من قدم لي مساعدة في إخراج هذا البحث، وأخص بالشكر السادة الزملاء بدار الوثائق القومية ومركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، والسيد أمين المتحف القضائي بدار القضاء العالي، والزملاء الدكتور عاصم الدسوقي والدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن والدكتور على بركات فقد ساعدوني كثيرا وكانت مكتباتهم عونا لي، كما أشكر الصديق الأستاذ زهير الشايب لما قدمه لي من مساعدة في ترجمة بعض الوئاثق باللغة الفرنسية .

كما أشكر الأستاذ أحمد حسين والأستاذ فتحي رضوان والدكتور نور طراف وجميع من أتيح لي مقابلتهم من قادة مصر الفتاة، فقد منحوني الكثير من العون وأتاحوا لي الكثير من وقتهم وجهدهم.

كما أتقدم بشكري إلى استاذى الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى لما بذله من اهتمام في متابعة مراحل هذا البحث، كما أقدم شكري خالصا إلى الدكتور صلاح العقاد والدكتور جمال زكريا قاسم لما تجشماه من عناء في فحص هذا البحث ومناقشته.

أما أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عزت عبد الكريم مؤسس سمنار التاريخ الحديث بجامعة عين شمس والذي اسعدنى الحظ بإشرافه على هذا البحث، فقد منحنى سيادته كثيرا من الوقت والجهد، وكان لتوجهاته السديدة أكبر الأثر في إخراج هذا البحث على هذه الصورة، رحمه الله رحمة واسعة وجعل مثواه الجنة بين الصديقين والشهداء جزاء ما قدمه لوطنه ولأبنائه الباحثين والمؤرخين.

وإني لأرجو أن أكون قد وفقت في إضافة لبنة متواضعة إلى تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وأن يكون التوفيق حليفي في إلقاء الضوء على حركة مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية في فترة البحث، توضيحا لتاريخ مصر المعاصر وخدمة لأجيالنا الشابة ومصرنا الحبيبة.

والله ولى التوفيق . مدينة الصحفيين في 4 أكتوبر [1981]].دكتور على شلبي

الفصل الأول:الظروف التاريخية لنشأة مصر الفتاة

  1. الأوضاع السياسية.
  2. الأوضاع الاقتصادية.
  3. الأوضاع الاجتماعية.
  4. التيارات الفكرية.

كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتيارات الفكرية التي ظهرت في المجتمع المصري عقب صدور تصريح 28 فبراير 1922 ذات أثر كبير في تغيير صورة ذلك المجتمع.

لقد تحدد وضع مصر السياسي بعد صدور التصريح الذي وضع العلاقة بين مصر وانجلترا في إطار معين فاعترف التصريح بمصر دولة مستقلة ذات سيادة وإن كان ذلك من ناحية الشكل فقط ومنحها حق إقامة حياة برلمانية مرت بمراحل مختلفة من الصراع على السلطة بين الأحزاب القائمة؛

فتعرضت خلالها الجماهير لأشكال من الضغوط مرة على يد الملكية الأوتوقراطية ومرة أخرى على يد حكومات الأقلية التي عرفت " بوزارات الانقلاب" هذا فضلا عما كانت تمارسه انجلترا مستغلة الظروف الموضوعية إلى أبعد حد، وما شاركت به من جهد في الاعتداء على الدستور والحياة البرلمانية.

عرضت تلك الضغوط وذلك الصراع التجربة الدستورية برمتها لهزات عنيفة كانت تطيح بها وهى ما زالت في مهدها، فقد كان الدستور أحد الأماني التي حققها الشعب المصري بعد كفاحه الطويل، فلم يكن من السهل عليه أن يفرط فيما حققه بجهاده، فساد الصراع بينه وبين من يريدون سلب مكاسبه التي حصل عليها فدخل بذلك مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني.

فإلى جانب طلب الاستقلال للبلاد، كان مطلب الحفاظ على الحياة النيابية سليمة مع احترام الدستور لا يقل أهمية عنه بل ربما تقدم عليه.

ومن خلال ذلك الصراع الذي ساد بين الأحزاب المصرية القائمة في ذلك الوقت على السلطة، فإن الجماهير قد تعرضت لمزيد من الضغط والاضطهاد، فأحدث ذلك شرخا كبيرا في وحدة الأمة التي برزت في ثورة 1919، فأدى ذلك إلى ظهور أنظمة سياسية جديدة ترفض أسلوب المفاوضات التي ارتضاها المصريون كأساس يمكن عن طريقه تحديد علاقة مصر بانجلترا، ولكنها كانت تؤمن باستخدام القوة كأساس يمكن عن طريقه إخراج الإنجليز من مصر؛

وكانت مصر الفتاة من بين تلك الأنظمة وكما أحدث تصريح فبراير تغييرا في شكل المجتمع المصري من الناحية السياسية ، فكان ولابد لكي يتحقق الاستقرار السياسي للبلاد، أن يصاحبه تغيير في الأوضاع الاقتصادية لها، ولكن في خلال تلك الفترة التي تلت صدور التصريح، فإن العالم قد تعرض لأزمة اقتصادية طاحنة شديدة الوقع والأثر عليه وهو ما زال يعالج الآثار الاقتصادية الضارة التي ترتبت على الحرب العالمية الأولي؛

فلم يكد يخرج من تلك الآثار حتى فاجأته تلك الأزمة عند نهاية العشرينات من ذلك القرن، ولما كانت مصر جزءا حيويا وهاما من العالم فكان ولابد وأن يظهر للأزمة صداها المسموع فيها، فقد تأثر بها المجتمع المصري تأثرا كبيرا، وعانت منها الطبقات الكادحة من الشعب من الفلاحين والعمال، ولم يقتصر أثرها عليهما بل تعرضت الطبقات الأخرى لأزمات غير محدودة من جرائها، ومنهم الملاك والتجار من مصريين وأجانب.

وإلى جانب الأوضاع السياسية والاقتصادية، فقد برزت إلى السطح في تلك الفترة المشكلة الاجتماعية وبشكل ملح، خاصة بعد أن استقرت الأوضاع السياسية بتحديد العلاقة بين مصر وانجلترا إلى حد ما، ولكن الأحزاب السياسية القائمة في ذلك الوقت جاءت برامجها خلوا من المشكلة الاجتماعية ، فقد أصبحت تلك المشكلة مطروحة دون أن تلقى عناية من القوى السياسية المختلفة. وبالإضافة إلى تلك الجوانب الثلاثة فقد برزت تيارات فكرية مختلفة تناولت شخصية مصر تحول أبرازها على ما عداها.

وفى ضوء الواقع السياسي الذي أوضح مدى اهتزاز الحياة السياسية بفعل الحياة الحزبية القائمة وتطاحن الأحزاب فيما بينها والصراع على السلطة، ووجود فراغ سياسي، فلم يكن هناك تنظيمات سياسية تستهوى الشباب وتستوعب حركتهم بعيدا عن تلك الإطارات الحزبية التي كانت قائمة.

هذا فضلا عن أن أسلوب المفاوضات المصرية البريطانية لم يكن ليرضى الشباب ولم يقنعهم كإطار يمكن عن طريقه تحديد علاقة مصر بانجلترا، فإذا أضفنا إلى ذلك دور انجلترا في الانقلابات الدستورية التي تعرضت لها البلاد والتي أخرت تقدمها وتطورها السياسي، أمكننا تفسير ظهور حركة مصر الفتاة في ذلك الوقت.

في ظل الظروف ، أو الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري برزت مصر الفتاة كاحتجاج صارخ على الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. وهذه الظروف هي المفتاح الحقيقي لفهم حركتها وتقييمها في التاريخ المصري الحديث خلال فترة البحث.

منح تصريح 28 فبراير 1922 مصر استقلالا شكليا، ولكن في نفس الوقت منحت البلاد حق إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية.

وعلى الرغم مما أوجده صدور التصريح من ردود فعل داخل المجتمع المصري، حيث أعلنت القوى السياسية والشعبية استياءها منه إلا من قلة من الشعب رحبت بصدوره . فمصر بعد صدوره لم يتعد كونها محمية، فانجلترا ما تزال تضطلع بمهمة الدفاع عنها، كما بقى وضعها بإزاء الدول الأجنبية على ما كان عليه قبل التصريح.

وعلى العموم فقد وافقت انجلترا على إصدار التصريح لأنها توقعت أنه يهدئ من ثائرة المصريين الذين أسرفوا في استعمال أسلوب الاغتيالات.

وفى حقيقة الأمر ومهما كان رأى القوى السياسية والشعبية في التصريح فقد كان مكسبا لمصر إذ أنهى الحماية بعد أن اعترفت بها الدول، فهو يعد خطوة للأمام في تاريخ العلاقات بين مصر وانجلترا هذا فضلا عن أنه قد كفل للمصريين تولى شئونهم بأنفسهم.

وفى أعقاب صدور التصريح تولى عبد الخالق ثروت الوزارة وعهد إليه السلطان فؤاد اتخاذ الترتيبات اللازمة لوضع دستور للبلاد، وفى 15 مارس 1922 أعلن السلطان فؤاد استقلال البلاد واتخذ لقب ملك مصر، وفى 3 أبريل الفت الوزارة لجنة لوضع الدستور عرفت بلجنة الثلاثين.

وقد انقسمت الأحزاب السياسية القائمة بإزائها، فالوفد وعلى رأسه سعد زغلول يرى أن وضع الدستور لابد وأن يجيء على يد جمعية منتخبة لا معينة، حتى لا يكون منحة يسهل التلاعب بها، وقد رفض الوفد أن يشترك في عضويتها، وأطلق عليها سعد " لجنة الأشقياء " كما رفض الحزب الوطني أيضا الاشتراك فيها.

وفى ذلك الوقت بدأ التفكير في تأليف " حزب الأحرار الدستوريين" وذلك راجع إلى أن الملك فؤاد قد أثار عدة عقبات أمام لجنة وضع الدستور وأمام الوزارة من أجل مزيد من السلطات له، فدفع ذلك ثروت إلى جمع أنصار الوزارة للوقوف صفا واحدا في وجه محاولات الملك، ولما كان هؤلاء هم الذين وضعوا الدستور وقاموا بصياغته، فقد كان طبيعيا أن يعملوا على حمايته، وعند تأليف الحزب تقرر أن ينضم إليه جميع أعضاء لجنة الدستور، وعدد آخر من ذوى النفوذ وكان كثيرون منهم أعضاء في " الحزب الديمقراطي" أو في " جمعية مصر المستقلة" .

وهكذا جمع الحزب عددا من كبار المصريين أكثرهم من أعضاء حزب الأمة القديم، أو من أبنائهم وذويهم منضما إليهم فريق من المثقفين المتحررين. قوبل تأليف حزب الأحرار الدستوريين بالهجوم والاستنكار من الطبقات الشعبية، فقد هاجمته الصحف المصرية حتى قبل أن يعلن عن تأليفه، واتهمته بأنه سيفرط في حقوق الوطن.

وعلى الرغم من أن مبادئ الحزب تنصر على استكمال الاستقلال وتأييد النظام الدستوري، فإن الجماهير لم تكن لترضى عنه، فهو يعيد إلى أذهانها حزب الأمة القديم. ولكن على العموم فيمكن القول بأنه كان حزب موازنة وتلطيف في السياسة المصرية . وقد ضم إلى عضويته أيضا بعض المنفصلين عن الوفد ومعظمهم من المخالفين لسعد، ولذلك منذ تأليفه طابع العداء لسعد والوفد.

وعلى الرغم من أن الحزب قد أعلن قيامه للدفاع عن الدستور ، فقد تعرض مشروع الدستور للمسخ والتشويه والبتر على يد وزارات القصر، فقد حاولت وزارة توفيق نسيم التي أعقبت وزارة ثروت العمل على زيادة سلطات الملك.

وفى عهد وزارة يحيى إبراهيم التي جاءت بعدها، ارتفعت الأصوات محتجة على أي بتر وأي تعديل لمشروع الدستور، وكان أقوى هذه الاحتجاجات الخطاب الذي أرسله عبد العزيز فهمي إلى يحيى إبراهيم طالبه فيه بإصدار الدستور كما وضعته اللجنة؛

فصدر الدستور بعد أن حذف منه بعض النصوص الخاصة بالسودان، وأعقب ذلك إجراء الانتخابات في 12 يناير 1924 والتي أسفرت عن أغلبية مطلقة للوفد، فكان بديهيا أن يعرض الملك على سعد تأليف الوزارة، فقبلها في نفس اليوم 28 يناير 1924.

حصل الوفد على الأغلبية المطلقة التي أتاحت له أن يقبل مسئولية الحكم كحق من حقوق الشعب الأصيلة، والوسيلة المباشرة لاستكمال استقلال مصر والعناية بشئون البلاد الداخلية، فتألفت وزارة سعد زغلول، وقد اعتبر البعض أن قبوله الوزارة يعد اعترافا بتصريح 28 فبراير؛

أما البعض الآخر فقد اعتبره تعبيرا عن إرادة الأمة، أما سعد نفسه فقد أعلن منذ البداية أنه سيواصل التنصل من تصريح فبراير، فأكد في مجلس النواب أن السودان جزء من مصر يستحيل فصله، فأعلنت الحكومة البريطانية من جانبها عن إصرارها على عدم التخلي عن السودان.

وفى ذلك الوقت تولت وزارة العمال الحكم في إنجلترا، وبدا من السهل بدء المفاوضات الرسمية بين سعد ومكدونالد وزير خارجيتها ولكن سير المفاوضات قد أكد لسعد أنها فاشلة فقد تمسك كل من الطرفين بموقفه، فلم تمض أيام على بدايتها حتى قطعها سعد وعاد إلى القاهرة ليؤكد من جديد عزمه على عدم التخلي عن أي حق من "الحقوق المقدسة" لمصر في واد النيل.

وبعد أن فشلت المفاوضات اشتد سعد في معاملة الاحتلال وظاهره مجلس النواب في موقفه، فقد انتهز فرصة مناقشة الميزانية، فصوت على قرار بإلغاء مساهمة مصر في نفقات جيش الاحتلال البريطاني مع المطالبة بالجلاء عن الأراضي المصرية، وعلى قرار آخر بتعديل مرتبات المستشارين الإنجليز.

كما ظهرت على حين غرة متاعب أخرى لتزيد من حدة التوتر بين المندوب السامي البريطاني والإدارة المصرية. ومن المحتمل أن تكون حكومة لندن قد فكرت منذ ذلك الوقت في إبعاد سعد عن الحكم.

فقد أدركت الحكومة البريطانية أن استمراره في الحكم مع ما يتمتع بع وحزبه من أغلبية مطلقة في البرلمان سيكون مثار متاعب لبريطانيا ورجالها في مصر.

كان فشل المفاوضات وما اتخذ من إجراءات اعتبرتها السلطات البريطانية معادية لها ما ينبئ عن قرب سقوط الوزارة. هذا فضلا عن أن المعارضة قد نشطت ، فأضرب الأزهريون وعين القصر حسن نشأت وكيلا للديوان الملكي دون علم الوزارة ودون إقرارها لهذا التعيين، فتقدم سعد باستقالته قائلا أنه لا يستطيع أن يعمل في الظلام.

وقد اجتمع مجلسا البرلمان وجددا الثقة بسعد، ومن ثم بذلك محاولات وجهود كبيرة كي يعدل سعد عن استقالته، ولكنه أصر عليها إلا إذا أجيبت مطالب الوزارة التي اضطر الملك فؤاد أن يسلم بها وأن يقبل الاقتصار على حدود دوره كحاكم دستوري للبلاد ليست لآرائه من فاعلية إلا إذا صادقت عليها الوزارة، فأعلن سعد أنه باق في السلطة " بفضل الله وإرادة الأمة" وعدل عن استقالته .

وبعد هذا الكسب المحقق الذي أحرزته وزارة سعد ضد أوتوقراطية الملك فؤاد فقد تعرضت لحادث أفقدها ما كسبت بل يزيد عليه، فكان مقتل السيرلى ستاك سردار الجيش المصري وحاكم عام السودان في 19 نوفمبر عام 1924 هو المحك الذي جعل المندوب السامي يتشدد في موقفه من وزارة سعد، وكأنما قد وافته الفرصة تماما للإطاحة بتلك الوزارة، فكانت تصرفاته عقب الحادث توضح ذلك.

وهكذا التقى الطرفان والقصر والإنجليز للعمل ضد سعد ووزارته فقدم استقالته في 24 نوفمبر 1924. وقد احتج البرلمان على التصرفات الإنجليزية المنافية للاستقلال البلاد وأبلغ الاحتجاج إلى برلمانات العالم ومجلي عصبة الأمم.

وباستقالة وزارة سعد تبدأ الجولة الأولى من الصراع بين الوطنيين والإنجليز من ناحية وبينهم وبين القصر من ناحية أخرى. كما تبدأ أيضا محاولات الاعتداء على الدستور الذي منح للبلاد وهو ما زال في المهد.

كل ذلك استدعى وقوف السياسيين صفا واحدا لمقاومة الخطر الداهم الذي يهدد البلاد، ولكن وزارة زيور التي جاءت في أعقاب وزارة سعد عملت على ترضية انجلترا والاستجابة لكل مطالبها التي تقدمت بها بعد حادث مقتل السردار وقد عبر زيور عن تلك السياسة بأنها محاولة لإعادة صفو العلاقات مع الحكومة البريطانية، وإسرافا منها في الوصول إلى تلك الغاية وإرضاء لنزعة الملك فؤاد الأوتوقراطية ، فقد طالب بحل مجلس النواب، وصدر المرسوم الملكي بالحل، وهكذا تخلص الملك فؤاد من البرلمان الوفدي كما تخلص من الوزارة الوفدية من قبل.

وبعد أن تحقق للملك فؤاد ما أراد ، سعى إلى خلق أحزاب سياسية جديدة تسند حكمه الاستبدادي، فبعد أن اصطدم بالوفد حاول أن يضم الأحرار الدستوريين إلى صفه، وقد نجح في ذلك بعض الشيء، وحين لم يسيطر عليهم سعى إلى تأليف حزب جديد هو " حزب الاتحاد" فعهد إلى حسن نشأت بتأليفه، وقد اشتهر لدى الدوائر الشعبية على أنه " حزب الملك" وأطلق عليه سعد زغلول " حزب الشيطان" وقد تهيأت لهذا الحزب كل أسباب النجاح فقد خصصت له اعتمادات مالية ضخمة، هذا فضلا عن صحيفتي "الاتحاد" و" الليبرتية" لتعبرا عنه وكلسان حال له.

إلا أن الحزب لم يكن يضم بين أعضائه أحدا من البارزين. وقد كان القصد من إنشائه هو دعم سلطة الملك، وأن يحكم بمراسيم بدلا من الحكومات البرلمانية.

وعلى ما يبدو من الظروف التي نشأ فيها الحزب وأشخاص أعضائه وموقف قوى الشعب منه أن الحزب قد ولد ميتا، وأن دل تأليفه على شيء فإنما يدل على مدى النزعات الأوتوقراطية التي كانت توجه القصر بعد الاستقلال .

وفى ظل تلك الظروف أجرت وزارة زيور الانتخابات فأسفرت عن أغلبية للوفد لم يكن يريدها زيور واجتمع البرلمان يوم 23 مارس 1925، فتقدم زيور إلى الملك في نفس اليوم طالبا حل مجلس النواب مرة أخرى، موضحا أنه بمجرد انعقاد المجلس الجديد ظهرت فيه روح عدائية حيث اختار لرئاسته سعد زغلول، وبما أن هذا التصرف من جانب المجلس يجعل مهمة زيور صعبة على حد قوله فتقدم باستقالة وزارته.

وعندما عرضت الاستقالة على الملك فؤاد رفض قبولها، وإنما صدر المرسوم بحل المجلس في نفس اليوم.


كان زيور أقل صلاحية مما يتطلب القيام بالدور الذي فرض عليه، فلم ينجح في أن يحول دون حدوث الانقسامات بين أعضاء وزارته من الأحرار والاتحاديين ، ذلك أن آراء ومفاهيم كلا الحزبين كانت متباينة إلى حد كبير، فالاتحاديون يرون في الصراع ضد الوفد تدعيم للحكم الفردي الذي يسعى إله القصر.


والأحرار الدستوريون لم يكن إغفال العمل بالدستور بالنسبة لهم سوى إجراء وقتي، فتململوا من ائتلاف أدركوا أنه أكثر إضرارا بمصالح حزبهم وبمصالح مصر.

وكانت أزمة كتاب على عبد الرازق " [[الإسلام وأصول الحكم]]" أحد السباب التي عجلت بنهاية هذا الائتلاف وخروج الدستوريين منه. وكان أن فرض الملك فؤاد على البلاد وزارة قصر حقيقية ، فعين في المناصب التي خلت رجالا معروفين بالولاء له، فأصبحت الوزارة أداة في يد الملك.

كان ذلك بادرة وحدة بين الأحزاب ضد الحكومة والقصر، فاجتمع بالنادي السعدي في نهاية عام 1925 ممثلون عن الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني، واتخذوا قرارات منها مواجهة حكومة زيور والتصدي لها.

وقد ظل الائتلاف قائما حتى عقدوا مؤتمرا وطنيا في فبراير 1926 قرروا فيه دخول الانتخابات من جديد حتى تظهر إرادة الأمة بعد أن سبق لهم الإعلان عن مقاطعتها.

أجرت وزارة زيور الانتخابات فأسفرت عن ثالث فوزمدو للوفد في مايو عام 1926. فتقدم زيور باستقالته في 7 يونيه 1926، وكان على الملك فؤاد أن يقبلها بالهزيمة في أول محاولاته لإحياء أوتوقراطية جده محمد على.


وباستقالة زيور تنتهي الجولة الأولى التي أراد فيها الملك فؤاد أن يستبد بالحكم بفشل ذريع وذلك نتيجة اتحاد القوى الوطنية في مناهضة الملك هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الحكومة البريطانية قد أصبحت أكثر اقتناعا بأن زيور رغم نواياه الطيبة تجاه بريطانيا لم يكن بالرجل الذي يستطيع المفاوضات معها. وقد أقنعها ذلك بأن استئناف المفاوضات رهين بعودة الحياة النيابية ، وبذلك التقت سياسة الأحزاب المؤتلفة مع سياسة حكومة لندن.


ظل الائتلاف بين الأحزاب قائما فكان ذلك طابع الوزارات التي جاءت في أعقاب وزارة زيور، فوزارات عدلي وعبد الخالق ثروت ومصطفي النحاس كانت تعبيرا عن هذا الاتجاه في تلك الفترة لمواجهة اوتوقراطية القصر.


وقد سنحت الفرصة لتلك الوزارات أن تسعى لمفاوضات جديدة، فقد جرت مفاوضات بين ثروت وتشمبرلن وأسفرت عن مشروع معاهدة في صيف عام 1927، ولكنه لا يتفق في أساسه ونصوصه مع استقلال البلاد فرفض.

وفى أثناء إجراء تلك المفاوضات توفى سعد زغلول ، إلا أن الائتلاف ظل قائما، وخلفه مصطفي النحاس في زعامة الوفد وتولى الوزارة خلفا لثروت، وفى عهد وزارته حدثت أزمات بينها وبين السلطات البريطانية، فبدأ الائتلاف يتعثر في ذلك الوقت وبدا في الأفق أن محاولة جديدة تجرى بين القصر والأحرار الدستوريين للاعتداء مرة أخرى على الدستور.


كان القصر يرى أن الدستور يحول دون تدخله في الحكم أو انفراده به وهو ما كان يسعى إليه منذ بدء التجربة الدستورية في مصر فقد كان يترقب الفرصة لتعطيله.

أما الأحرار الدستوريون فكان هدفهم الوزارة والمناصب، فإن لم يصلوا إليها عن طريق الدستور فليصلوا إليها عن طريق تعطيله. فقد اتفق على أن يستقيل الوزراء الدستوريون واحدا بعد الآخر، وبذلك يتصدع بناء وزارة النحاس من ناحية شكلها الائتلافي فيقيلها الملك.

إلا أن الذي أحرج مركز الوزارة بدرجة كبيرة كان استقالة أحمد خشبة وزير الحقانية الوفدي. هذا فضلا عن الحملة الصحفية التي شنتها الصحافة المعارضة للوفد حول وثائق قضية الأمير أحمد من سيف الدين.

وبذلك حبكت المؤامرة لإقالة الوزارة فأقالها الملك فؤاد في 25 يونيه 1928 . وإن كانت من أكثر الوزارات الائتلافية السابقة حرصا على حقوق البلاد وصيانة دستورها.


وبإقالة وزارة النحاس تظهر بوادر الانقلاب الثاني على الدستور، والذي يمثل الجولة الثانية من الصراع بين الملك والوطنيين. الملك يحاول أن يؤكد الأوتوقراطية والوطنيون حريصون على أن يكون دور الملك في الحكم ى يتعد كونه ملك دستوريا يملك ولا يحكم .


بدأ الانقلاب الثاني على الدستور بأن اسند الملك إلى محمد محمود تأليف الوزارة فألفها في 27 يونيه 1928، وقد كان ذلك مكافأة له ولحزبه على الدور الذي قام به في صدع الائتلاف وإقالة وزارة النحاس.


وبذلك جنى الأحرار الدستوريون ثمار غرسهم. وقد ضمت وزارته كلا من الأحرار الدستوريين والاتحاديين . وهكذا عاد هذان الحزبان للتآمر على الدستور كما فعلا في عام 1925. فطالبت الوزارة بتأجيل انعقاد البرلمان لمدة شهر ثم أعقبت ذلك بطلب حل البرلمان بمجلسيه وتعطيل الحياة النيابية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.


وقد انقسمت الصحافة البريطانية بإزاء هذا الانقلاب إلى فريقين. فالفريق الأول ينعى على النحاس تصرفاته إزاء بريطانيا، ورفض مشروع ثروت تشمبرلن ويثنى على اختيار محمد محمود لرئاسة الوزارة.


أما الفريق الآخر فقد أخذ جانب الدفاع عن النحاس بقوله" إن إقالة النحاس باشا وتعيين محمد محمود باشا وحل البرلمان المزمع كلها حركات مدبرة في حملة منظمة لسياسة كلف اللورد لويد بتنفيذها ..


وهى سياسة ترمى إلى إحباط الحركة الوطنية" هذا وإن كانت الحكومة البريطانية قد صرحت على لسان وزير خارجيتها أنه لا دخل لها بما حدث في مصر، وإن كان الوزير نفسه قد أدلى فيما بعد بتصريحات تنم عن إقرار حكومته لهذا الانقلاب.


قوبل الانقلاب على الدستور للمرة الثانية بالسخط والاستنكار ، فهو حرمان للأمة من حقوقها التي كسبتها بعد نضال مرير. فنشط الوفد لبث الدعوة بين أنصاره لتجديد الثقة بزعيمه، وفى نفس الوقت للتنديد بأعمال وزارة محمد محمود.


فلم تكد تحل البرلمان حتى وقفت الأمة مواقف تنم عن تمسكها بدستورها كحق من حقوقها، فوجه الوفد نداء في 22 يوليو عام 1928 دعا فيه الأمة إلى النضال من أجل دستورها، كما أصدر الحزب الوطني بيانا احتج فيه على تعطيل الدستور.


كذلك أصدر النواب والشيوخ قراراتهما من منزل مراد الشريعي بعدم الثقة بالوزارة وبطلان حل المجلسين على أن يجتمعا في يوم السبت الثالث من شهر نوفمبر عام 1928.


تولت وزارة محمد محمود الحكم وهى على ثقة تامة أنها غير ممثلة للأمة ولا هي وليدة إرادتها، وفى سبيل ذلك لجأت إلى إهدار الحريات وإلى سياسة الاضطهاد لتثبيت مركزها.

وقد عبر أنصارها عن هذه السياسة " باليد الحديدية" فأسفرت في الاضطهاد بألوانه المختلفة، فهب الشعب يكافح من أجل الدستور ومن أجل حريته، وأخذت الوفود تتقدم بعرائضها إلى الملك طالبة إعادة الحياة النيابية، كما جاءت إلى القصر الملكي لتقديمها فاعتدى البوليس عليها، وقد تعرض بعض النواب والشيوخ للاعتداء.

كما هب طلبة المدارس محتجين مضربين متظاهرين، فأصدر محمد محمود قانون حفظ النظام في معاهد التعليم، وهو يهدف بذلك إلى عزل الطلبة عن السياسة وهم في مقدمة القوى الوطنية البارزة إذ ذاك.


تولت وزارة العمال الحكم في إنجلترا عقب انتخابات مايو 1929، وقد أعربت عن رغبتها في التفاوض بشأن المسألة المصرية، فأسفرت المفاوضات عن مشروع معاهدة عاد به محمد محمود إلى مصر، وعندما أعلنت نصوصه علق الوفد النظر فيها على إعادة الحياة النيابية كي تقول الأمة كلمتها فيه تحت قبة البرلمان، ولكن محمد محمود بذل جهودا ضخمة كي يحظى بالصديق على مشروع معاهدته، فلجأ إلى أسلوب الترويج له في الداخل، فتألف لذلك الغرض جماعات وعقدت اجتماعات وبذلت محاولات للتقرب من جماهير الشعب خاصة الفلاحين والعمال بطرح مشروعات ضخمة للإصلاحات الاجتماعية ، وبذل الكثير من الوعود المغرية لهم، ورغم ذلك فقد كانت الانجازات ضئيلة وتكدست المشروعات وانتهى الأمر بها إلى زوايا النسيان.


وعلى الرغم من موقف الوفد من المشروع، إلا أنه قد لقي قبولا من جانب بعض القوى، فقد اعتبر الحزب الوطني أنه يفضل المشروعات التي تقدمته كما صرح بذلك حافظ رمضان، كما وافق عليه حزب الاتحاد إلى جانب بعض الأفراد من ذوى الحيثية الذين أعربوا عن رضائهم عنه ووصفوه بأنه حسن في جملته، كذلك سارع في قبول المشروع غالبية المستقلين في الرأي الذين ألفوا جماعة أطلقوا عليها" جماعة الشباب الحر أنصار المعاهدة"


وعلى الرغم من ذلك فلم يستطع الأحرار الدستوريون استمالة المعارضة الوفدية، كما أن الحكومة البريطانية قد عبرت عن رغبتها في أن يصدق برلمان منتخب على مشروع معاهدة جديدة، هذا فضلا عن أن العلاقة بين محمد محمود والملك فؤاد لم تكن طيبة على طول الخط.

كل ذلك جعل مركز الوزارة يتحرج أكثر فتقدم محمد محمود باستقالته في 2 أكتوبر 1929 قبل إتمام السنوات الثلاث التي حددها لوزارته مسجلا بذلك فشلا ذريعا في تجربة الاعتداء على الدستور.

كما قدم عظمة للملك فؤاد كي يعدل للمرة الثانية عن إقامة نظام فردى يعمل لصالحه، فأسند إلى عدلي يكن تأليف وزارة انتقالية تجرى الانتخابات تمهيدا لعودة الحياة النيابية من جديد وقد أسفرت الانتخابات عن فوز كبير للوفد فحصل على 212 مقعدا من مجموع المقاعد البالغ عددها 235 مقعدا. فعهد الملك إلى النحاس بتأليف الوزارة.


منح مجلسا البرلمان وزارة النحاس تفويضا في 6 فبراير عام 1930 بالدخول في مفاوضات مع الحكومة البريطانية لتسوية المسألة المصرية، وقد بدأها النحاس وهندرسون، إلا أن هذه المفاوضات قطعت بين الطرفين بسبب عدم الاتفاق على المادة الخاصة بالسودان، فاستغل الأحرار الدستوريون ذلك الوضع وطالبوا الملك بإقالة الوزارة واستئناف تجربة محمد محمود من جديد وكان القصر يرى أن الظروف بعد فشل المفاوضات سانحة لبدء الانقلاب الثالث على الدستور، فوضع العراقيل في وجه وزارة النحاس، واشتدت لأزمة بينهما فقدم النحاس استقالته في 17 يونيه 1930، فأسند الملك إلى إسماعيل صدقي بطل الانقلاب الدستوري الثالث تأليف الوزارة.


اتبع إسماعيل صدقي منهج سابقيه في الاعتداء على الدستور، فأجل انعقاد البرلمان شهرا، ثم استصدر مرسوما بفض الدورة البرلمانية في 12 يوليو 1930، وفى 22 أكتوبر صدر الأمر الملكي بإلغاء دستور 1923 وبحل مجلسي النواب والشيوخ ووضع صدقي دستور 1930 ليكون أكثر طواعية له وللقصر، فدستور 1923 كان العدو الأول للقصر، فمنذ تطبيقه والملك فؤاد دائب السعي في محاولة الاعتداء عليه، لأن العمل به يتيح للأغلبية البرلمانية الممثلة في حزب الوفد أن تتولى الحكم فتتصدى للنزعة الأوتوقراطية للملك فؤاد.

وقد استطاع في المرتين السابقتين أن يعمل على تعطيله، أما هذه المرة فقد اعتمد على شخصية صدقي التي تعد أكثر جرأة ومقدرة عن سابقيه فقضى تماما على دستور 1923 واستبدل به دستورا جديدا بعد أن ألحق به قانونا جديدا للانتخاب.

قوبل إلغاء دستور 1923 بالاحتجاج الشديد من كل القوى السياسية داخل مصر، فقد احتج الوفد والحزب الوطني، وقرر الأحرار الدستوريون أنهم لا يؤيدون الوزارة في إصدار الدستور الجديد، وإزاء هذا الموقف من جانب القوى السياسية- وقبل أن تجرى وزارة صدقي الانتخابات وفقا للدستور وقانون الانتخاب الجديد، فقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك هي تأليف " حزب الشعب" في نوفمبر 1930 فقد قرر صدقي تأليف حزب يستند إليه في فرض النظام الذي وضعه على مصر، وقد استطاع أن يضم إليه بعض أعضاء مجلس إدارة الأحرار الدستوريين، هذا فضلا عن عدد من الاتحاديين إلى جانب بعض الباشاوات، كما أرغم بعض العمد والمشايخ على عضويته قسرا، على أن يساهم رجال الإدارة بأقصى جهودهم في ضم أعضاء وأنصار الحزب الجديد. كما صدرت الأوامر بتأليف لجان له في كل مركز من المراكز.

هذا وقد تولى إسماعيل صدقي رياسته بنفسه وأصدر "جريدة الشعب" كلسان حال له. وقد كشف قانون الحزب عن صبغته فمن بين مواده مادة تنص على تأييد النظام الدستوري والمحافظة على سلطة الأمة وحقوق العرش.

ولعل هذا الحزب يعيد إلى ألأذهان تجربة نشأت في تأليف حزب الاتحاد عام 1925. وقد أوجده صدقي ليكون سنده في الحياة الدستورية الصورية التي يريد إقامتها.

أعلن حزبا الوفد والأحرار الدستوريين مقاطعة الانتخابات، وهما يهدفان من وراء ذلك إلى سحب القاعدة الشعبية من تحت النظام الجديد حتى لا يستقر أبدا، هذا فضلا عن عدم تمثيله للشعب فيصبح غير قادر على الاتفاق مع الحكومة البريطانية بشأن المسألة المصرية، وقد وقعا لذلك ميثاقا عرف" بالميثاق القومي" في 31 مارس 1931 وأسمياه " عهد الله والوطن" أما الحزب الوطني فقد انقسمت لجنته الإدارية على نفسها حول الانتخابات بين مؤيد ومعارض لدخولها، ولكنها في النهاية قررت خوض غمارها على الرغم من موقفه السابق من الدستور.


وعلى الرغم مما تعرضت له الجماهير الشعبية من عنت على يد حكومة صدقي ، فقد استطاع أعضاء الوفد الطواف بالأقاليم لتوعية الجماهير لمقاطعة انتخابات صدقي، فكان الشعب يستقبلهم استقبالا حافلا رغم رصاص البوليس، كما قامت المظاهرات المعادية لصدقي في كل مكان، في بلبيس وبور سعيد والإسماعيلية والسويس وزادت حدتها في مدينة الإسكندرية حتى بلغ عدد القتلى عشرين قتيلا هذا فضلا عن خمسمائة جريح، فأصر الشعب على مقاطعة الانتخابات التي فرضها صدقي وقدم كثير من العمد والمشايخ استقالاتهم احتجاجا؛

كما شاركت الطبقات العاملة في احتجاجها على ما قامت به وزارة صدقي، فأضرب عمال عنابر بولاق والورش الأميرية عن الاشتراك في الانتخابات وتظاهروا احتجاجا فقوبلت مظاهراتهم بمنتهى القسوة والعنف.

وهكذا أراد صدقي أن يقيم حكما يستند على أسلوب الاضطهاد والبطش، بعد أن أعلنت الأمة استنكارها لما قام به من خطوات على طريق سلب حريتها التي كسبتها بعد كفاح طويل وذلك بإلغائه دستورها الذي كفل لها هذه الحرية.

استمرت وزارة صدقي في اضطهادها للوطنيين وتضييق الخناق عليهم، فوقعت بالبلاد حوادث دموية ومتعددة، ولكن الاتجاه المضاد لتيار الحركة الوطنية الذي يمثله صدقي وغيره كان لا يستطيع الصمود طويلا أمام كفاح الوطنيين المتواصل، هذا فضلا عن أن تجربة حكم الشعوب قهرا لم تصمد لاختبار الزمن.

فقد كان حكم صدقي يحمل بين طياته نقاط ضعفه التي عجلت هي وعدم شعبيته باندحاره، فقد بدأت تظهر فضائح مالية مست بعض الوزراء المشتركين في الحكم، ثم حدث ما هو أخطر من ذلك إذا لم يتردد صدقي نفسه في أن يصطدم بتزايد سلطات الملك، كما أن الأزمة الاقتصادية كانت ما تزال قائمة وتعان منها البلاد، فقدم صدقي استقالته في 21 سبتمبر 1933 بعد حكم شبه ديكتاتوري استمر أكثر من سنوات ثلاث، فكان ذلك بمثابة إدانة ضمنية النظام 1930 وجهها إليه صدقي نفسه.

وهكذا يسجل الانقلاب الثالث الذي أطاح بدستور 1923 فشلا أيضا وتنتهي الجولة الثالثة ضده فيواصل الوطنيون كفاحهم لاستعادته وتشيد الأمة في كفاحها من أجله ولكنه لا يعود إليها إلا على أثر " ثورة" قام بها الشباب في خريف عام 1935.

وهكذا فإن الأوضاع السياسية التي مرت بها البلاد في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922 كانت تعانى اهتزازا حادا، فقد كان تطبيق التجربة الدستورية في البلاد مثار خلافات ومنازعات حادة بين الأحزاب القائمة في ذلك الوقت.

وقد ظهرت تلك الخلافات جلية أثناء إجراء الانتخابات التي تهدف الأحزاب من وراء الفوز فيها بأغلبية للوصول إلى الحكم، وبذلك اشتد الصراع بينها للوصول إليه، فشغلهم ذلك ببعضهم ولعله قد استنفد جزء من طاقتهم التي يوجهونها ضد المحتل الأجنبي، وكان من نتيجة ذلك الصراع أيضا أن كثرت المهاترات الحزبية، كما ألقيت الاتهامات على أشخاص المعارضين.

هذا فضلا عن أسلوب الترغيب والترهيب الذي استخدم عند تأليف أحزاب سياسية جديدة لا تستند إلى أي سند شعبي، بهدف مساندة أنظمة حكم استبدادية تعمل على زيادة سلطات العرش بالاعتداء على الحياة الدستورية التي جاءت نتيجة لتصريح فبراير.

كما كان الصراع بين القصر والوطنيين أحد مظاهر ذلك الاهتزاز السياسي ، فالقصر يعمل جاهدا على نقل مقاليد الأمور إلى ساحته، ولكنه أنى له ذلك إلا بالاعتداء على الدستور، والوطنيون حريصون كل الحرص للحفاظ على مكاسبهم التي كفلها لهم الدستور، فإذا أضفنا إلى ذلك دور انجلترا في الانقلابات التي تعرض لها الدستور، فهي إن لم تكن وراء حدوثها فلا أقل من أنها قد أحسنت استغلالها إلى أبعد الحدود لصالحها.

ولعل كل ذلك يوضح مدى الاهتزاز الذي كانت تعانى منه الحياة السياسية المصرية في أعقاب تصريح فبراير، فقد أحدث ذلك الاهتزاز فراغا سياسيا كبيرا، فإن حركة الأحزاب السياسية القائمة لم تكن لتستوعب حركة الشباب فتعبر عن آمالهم وأمانيهم ووجهة نظرهم في حل المسألة المصرية، فكان ذلك مبررا كافيا كي تظهر تجمعات سياسية تعتمد في المقام الأول على عنصر الشباب الذي رفض وبإصرار الأسلوب الذي ارتضته الأحزاب القائمة لحل المسألة المصرية وهو أسلوب المفاوضات وإنما آمن باستخدام القوة لحلها وإكراه المستعمر على الجلاء عن البلاد.

وقد كانت جمعية مصر الفتاة التي ظهرت في خريف عام 1933 أحد تلك التجمعات منا سنرى. وهكذا فإذا كانت تلك هي صورة الحياة السياسية في مصر في تلك الفترة فمن الأهمية بمكان أن نتعرف على الوضع الاقتصادي فيها أيضا.

كان للاعتراف باستقلال البلاد كما جاء في تصريح فبراير 1922 نتائج هامة، إذا أخذ المسئولون عن السياسة المصرية يدركون بوضوح أن هذا الكسب السياسي لا ثبات له إلا إذا صحبه نوع من الاستقلال الاقتصادي، فسرت هذه الروح بين أفراد الشعب، وأصبح تشجيع الصناعة المحلية والمصنوعات المصرية من الأهداف والأماني الوطنية.

كانت هذه الروح شعبية ورسمية، فعلى النطاق الشعبي، فإنه منذ عام 1920 دعا محمد طلعت حرب إلى تأسيس شركة أنشأت بنك مصر، وهو أول مؤسسة مصرفية مصرية، أنشأته متواضعا برأسمال المؤسسات المصرفية الأجنبية الكثيرة الموجودة في البلاد.

وقد اشترط في عقد تأسيس البنك أن يكون حملة الأسهم من المصريين، فكفل له ذلك الصبغة القومية، وأخذ البنك يؤدى رسالته وينمو مع الأيام فأنشأ فروعا له في معظم مدن القطر الهامة، وتضاعف رأسماله واتسعت معاملاته على مر السنين.


أصبح البنك النواة الاقتصادية والمالية لنهضة الصناعات الوطنية فقد أنشأ عدة شركات مساهمة مصرية، كان البنك أداة تمويل وتوجيه لها، وحققت تلك الشركات نجاحا ملحوظا، فأدى نجاحها إلى تشجيع المصريين على استثمار أموالهم في الصناعة والتجارة.

فأسس المصريون شركات صناعية وتجارية حققت قدرا من النجاح، بعد أن كانت الأرض وحدها مجالا لاستثمار أموالهم وخاصة عندما ارتفعت أسعار القطن ارتفاعا أدى إلى استثمار رءوس الأموال في الزراعة، أما على الصعيد الرسمي، فكانت الحكومة تساير الرغبة القومية في تشجيع الصناعة، فأنشأت مصلحة التجارة والصناعة عام 1922، وقررت مبدأ التسليف الصناعي الحكومة.

إلا أن الأزمة الاقتصادية اجتاحت العالم، فكان لها أثرها الواضح في مصر مما جعل المصريين حكومة وشعبا يتخذون من التدابير المختلفة ما يخفف من وطأة تلك الأزمة، في محاولة من جانبهم أن يتلمسوا طريقا للخروج بالبلاد من تلك الأزمة الطاحنة، والتي تحمل العبء الأكبر من أثارها الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين.

لم تكد الدول الاستعمارية تنتهي من فترة التجديد والتعمير بعد الحرب العالمية الأولي في عام 1927، حتى تلك الدول في أزمة جديدة وصلت إلى الذروة في السنوات م بين 1929- 1933.

ففي شهر أكتوبر 1929 حدث الانهيار المالي الكبير في أسعار الأوراق المالية في بورصة نيويورك، مؤذنا بحدوث أزمة اقتصادية، لم تلبث أن اجتاحت العالم أجمع، وقد كانت من الشدة والعنف بدرجة لم يعرف لها العالم مثيلا من قبل، فلقد هبطت الدخول هبوطا كبيرا، كما هبط مستوى العمالة، وهبطت الأسعار وساد البؤس والفاقة سائر المجتمعات الصناعية والزراعية على السواء.

وكان لهذه الأزمة صداها المسموع في مصر، ولكن مظاهرها اختلفت في الدول الزراعية عنها في الدول الصناعية، فالأزمة تظهر في الدول الصناعية في شكل هبوط واضح في الدخول والإنتاج وتفاقم البطالة، وفى المجتمعات الزراعية في شكل صعوبة في تصريف الحاصلات الزراعية وانخفاض كبير في أسعارها.

ففي مصر انخفض سعر القطن انخفاضا كبيرا، فبيع محصول عام 1929 بسعر 20 جنيها إسترلينيا للقنطار مقابل 26 جنيها في العام السابق. وبيع محصول 1930 بسعر 12 جنيها ، ومحصول 1931 بسعر عشرة جنيهات للقنطار. وعلى الرغم من انخفاض الأسعار، فقد كان الطلب على المحصول ضعيفا فلم تستطع مصر تسويق محصولها منه، فزاد ذلك من حدة الأزمة، فأخذت بالات القطن تتكدس عاما بعد عام حتى بلغ المجموع في عام 1931 أكثر من أربعة ملايين قنطار وقد ترتب على ذلك انخفاض في مستويات المعيشة وسوء حال السواد الأعظم من سكان البلاد فظهرت في البلاد موجة رسمية وشعبية للتخفيف من وطأة الأزمة.

فعلى النطاق الرسمي- بعد أن اشتدت الأزمة في نوفمبر 1929، وانخفاض أسعار القطن انخفاضا كبيرا، وتحت ضغط وإلحاح المنتجين قررت الحكومة التدخل في سوق القطن مشترية فبلغت مشتريات الحكومة من القطن ثلاثة ملايين قنطارا، وهى أكبر صفة عقدتها الحكومة؛

ولم تكن مصر وحدها هي التي اتبعت تلك السياسة، بل إن الولايات المتحدة اتبعت هي الأخرى نفس السياسة، وكان من نتيجة هذا التدخل من جانب الحكومة أن ارتفع سعر القطن في مصر عنه في دول العالم المنتجة له، مما أدى إلى إعاقة بيع المحصول كله لامتناع الغزالين عن الشراء، وتوقعوا أن الحكومة المصرية لن تستطيع الاستمرار في سياسة رفع الأسعار ، ونتيجة لذلك هبطت قيمة الصادرات بحوالي عشرين مليونا من الجنيهات، وفى وقت بقيت فيه الواردات عند نفس المستوى السابق، مما أدى إلى ظهور عجز كبير في الميزان التجاري.

وقد أثبتت الدراسات التي قام بها الاقتصاديون أن سياسة التدخل الحكومي في السوق مشترية غير مجدية، ولكنها تلحق بالاقتصاد الأهلي ضررا بليغا، فالقطن المصري يخضع للأسعار العالمية للأقطان، وخاصة سعر القطن الأمريكي وليس التحكم في الأسعار مما يعد مسألة داخلية.

وقد اتبعت وزارة النحاس الثانية 1930 هذه السياسة للتخفيف عن السواد الأعظم من جماهير الشعب وهم الفلاحون منتجو القطن، هذا فضلا عن كبار ملاك الأراضي الزراعية الذين أثرت الأزمة عليهم إلى أبعد حد.

وفى هذا المجال أيضا، قامت وزارة إسماعيل صدقي بعدة دراسات قام بها وكيل وزارة المالية، بهدف وضع سياسة مستديمة لعلاج الأزمة الاقتصادية، فأعد مذكرة في هذا الشأن، اقترح فيها العدول عن سياسة التدخل وترك الأسعار حرة، فاتبعت حكومة صدقي هذه السياسة الجديدة في سبتمبر 1930 ، فأدى ذلك إلى اطراد انخفاض أسعار القطن، فلجأت الحكومة إلى خفض نفقات إنتاج القطن ، فزادت المبالغ التي تقرضها للزراع بفائدة معتدلة فأنشأت بنك التسليف الزراعي لهذا الغرض، وكذلك مدت أجل استحقاق الأموال التي قدمتها للزراع، وشجعت إنشاء جمعيات تعاونية جديدة.

وساعد عدم وجود نقابات للعمال الزراعيين على انخفاض أجورهم، وعلى الرغم من هذه الجهود التي بذلتها الحكومة ظلت الحالة تسوء في البلاد بسبب استمرار هبوط الأسعار، ونقض غلة الفدان، وفرض الحكومة الأمريكية الرسوم العالية على واردات الأقطان طويلة التيلة. هذا بالإضافة إلى زيادة محصول القطن الأمريكي في الموسم الزراعي 1930/1931 . ولم تنج مصر من حدوث كارثة محققة إلا بخروج انجلترا عن قاعدة الذهب.


كان لخروج انجلترا عن قاعدة الذهب أثره الواضح في مصر، فقد كان الجنيه المصري مرتبطا بالجنيه الإنجليزي فهو يتبعه في تقلباته، ومن ثم كانت مصر تسير على نظام الصرف بالاسترلينى وبينما كانت أسعار القطن مستمرة في الانخفاض ، غذ بانجلترا تخرج عن قاعدة الذهب، ونتيجة لذلك تدهورت قيمة الجنيه الاسترلينى بمقدار 30%

وتبع ذلك انخفاض في قيمة الجنيه المصري، فساعد هذا على تخفيف وقع الأزمة بعض الشيء، فارتفعت أسعار القطن المصري بحوالي 20% من سعره، كما أفاد هذا التخفيض في تخفيف العبء الحقيقي للدين الخارجي، فقد أصرت الحكومة على سداد الأقساط والفوائد بالاسترلينى إذ أنها عقدت تلك القروض بالعملة الأجنبية. إلا أن هذه الإجراءات السريعة التي لجأت إليها الجهات الرسمية لم يكن لها أثر كبير في تخفيف حدة الأزمة، مما جعل الحكومة تعيد النظر في سياسة مصر الاقتصادية برمتها.

ففي مجال الزراعة: حاولت الحكومة أن توجد نوعا من التوازن في الإنتاج الزراعي ، يرمى إلى إضعاف سيطرة القطن على الاقتصاد المصري، فاشتدت العناية بزراعة الحبوب والخضر والفاكهة حتى يحدث التوازن المنشود.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بذلك جهود كبيرة لتحسين الإنتاج الزراعي، وهو ما يسمى بالتوسع الرأسي في الإنتاج، أي إعطاء مزيد من الإنتاج من نفس مساحة الأرض المستغلة. كذلك عنيت الحكومة بمكافحة الآفات.

ووجه اهتمام خاص لتنفيذ بعض مشروعات الري ذات المنفعة العامة، ففي 1933 تمت التعلية الثانية لخزان أسوان لتوفير المياه اللازمة للزراعة بعد زمن الفيضان، واهتمت الحكومة أيضا بمشروعات الصرف إلا أنها كانت دون حاجة الأراضي.

أما في مجال الصناعة: فقد أوجدت الأزمة الاقتصادية نوعا من القلق الاقتصادي داخل مصر، إذا أوضحت المتاعب التي تتعرض لها البلاد نتيجة الاعتماد على القطن، إلى توطيد العزم على ضرورة تنويع أوجه النشاط الاقتصادي بإدخال التصنيع، كما أن نمو السكان وسرعة تزايدهم أدت إلى فائض كبير في العمال الزراعيين، فليس هناك من سبيل للتخفيف من حدة المشكلة السكانية إلا بتحويل جزء منهم إلى عمال صناعيين، حيث مستوى الأجور أعلى منها في مجال الزراعة.

وقد اتخذت الحكومة بعض الإجراءات في هذا المجال لتدعيم الصناعة الناشئة، فما أن انتهى أجل المعاهدات التجارية التي غلت أيدي مصر ردحا طويلا من الزمن إلا وسارعت إلى تغيير السياسة الجمركية، فعرضت في 17 فبراير 1930 تعريفة جمركية جديدة تعتبر بحق نقطة تحول في تاريخ مصر الحديث، فقد كان الهدف منها حماية الصناعة المصرية من المنافسة الأجنبية. وفى حقيقة الأمر فإنه يمكن اعتبار تاريخ فرض هذه التعريفة الجديدة، هو بدء قيام الصناعة الحديثة ذات الإنتاج الكبير في مصر.

وكذلك فقد استقدمت الحكومة المصرية الخبراء الأجانب لدراسة أوضاع الصناعة في مصر، ومنحت السلف بفائدة معتدلة، وأصدرت أوامرها إلى المصالح الحكومية بتفضيل المنتجات المصرية حتى لو زادت أثمانها عن مثيلاتها الأجنبية بنسبة 10% .

هذا وإن كانت هذه الإجراءات قد هيأت للصناعة نوعا من الاستقرار، فإن خروج البلاد عن قاعدة الذهب وما كان له من أثر في رفع أسعار القطن. جعل الطلب يتزايد على بعض السلع فحقق ذلك رواجا مؤقتا لبعض السلع.

وبرغم كل هذا فقد ظلت الصناعة المصرية دون ما كان يرجى لها من تطور، فلا زالت تلقى منافسة قوية من الصناعة الأجنبية. وفى الحقيقة فإن نهضة الصناعة المصرية أخذت واضحة للعيان منذ التعديل الجمركي في عام 1930، ولكنها كأي نهضة كانت في حاجة إلى الوقت الكافي لنجاحها وثباتها.


وفى مجال التجارة: فقد ازدادت الحاجة إلى المتاجر نتيجة للنمو السكاني في مصر وتعدد مطالب السكان وتنوعها. ونمت المنشآت التي تقوم بخدمة التجارة الداخلية، ولقد كان للأزمة الاقتصادية آثار واضحة على تجارة مصر الخارجية، فهبطت الصادرات والواردات هبوط مفاجئا، حتى بدت بوادر التحسن في عام 1933.

فاطردت الزيادة في الصادرات والواردات لأن الأحوال الاقتصادية في مصر أخذت تستقر تدريجيا بعد هذا التاريخ. هذا بالإضافة إلى أن الحكومة قامت بإجراء بعض التعديلات على النظام الضريبي، إلا أن يدها لم تكن حرة تماما في هذا المجال لقيام الامتيازات الأجنبية، وتركز رءوس الأموال في يد الأجانب المتمتعين بمظلة الامتيازات الأجنبية.

كذلك سعت الحكومة للتخلص من تبعية النقد المصري للنقد الإنجليزي الذي جعل الاقتصاد المصري يتأثر تأثرا مباشرا بالتقلبات التي تصيب الحياة الاقتصادية في انجلترا، ففكرت مصر في التخلص من هذه التبعية في مجال النظام النقدي.

وعلى الرغم مما قامت به الدولة في مجال الزراعة والصناعة والتجارة للتخفيف من حدة الأزمة فقد برزت في خلال الأزمة الاقتصادية قضية هامة برزت على سطح الأحداث الجارية في مصر وهى قضية الثروة العقارية المصرية، فقد أصبح ثلثها تقريبا مهددا بانتقال ملكيته إلى البنوك العقارية والأفراد من الأجانب.

فقد عقد الكثير من ملاك الأراضي قروضا مع البنوك العقارية لآجال طويلة، وذلك عقب الحرب العالمية الأولي. وعندما حلت الأزمة الاقتصادية بالبلاد واشتدت وطأتها نتيجة للكارثة القطنية في عام 1931 ، فقد عجز المدينون من الملاك عن سداد الأقساط والفوائد المستحقة عليهم، فلجأ الدائنون إلى السير في إجراءات بيع الأراضي الضامنة لديونهم، بنزع ملكيتها لصالحهم، فكثرت القضايا أمام المحاكم المختلطة بصفة خاصة، وانتشر بيع الأراضي إجباريا ففزع الملاك مستنجدين بالحكومة.

تقدم الاقتصاديون بأبحاثهم يقترحون الحلول للخلاص من تلك الأزمة التي تهدد الثروة القومية للبلاد، فأفسحت الصحف أنهرها لتلك الأبحاث ولمناقشة الأزمة العقارية والعمل على تلافيها وقد أدت الإجراءات التي قام بها الدائنون الأجانب إلى انخفاض سعر الأرض ، فبيعت الأراضي بأقل من قيمتها بكثير، فأصبح ذلك خطرا يهدد الكيان الاجتماعي، فقررت الحكومة أن تستجيب لنداء الملاك، فتدخلت لحل هذه المشكلة، فأنشأت البنك العقاري الزراعي المصري، وكذلك أنشأت بنك التسليف الزراعي كما سبق أن ذكرنا في صيف عام 1931 فتعاون البنكان على حل مشكلة الديون العقارية بوقف البيوع الجبرية، فتدخلت الدولة لدى الدائنين في عام 1931 ودفعت الأقساط المتأخرة نيابة عن المدينين واعتمدت لذلك القرض مليونا من الجنيهات. وهكذا أنقذت هذا الجزء الكبير من ثروة البلاد العقارية من الضياع.

ومهما كان من أمر ، فعلى الرغم من هذه التدابير التي اتخذتها حكومة إسماعيل صدقي للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، ووقعها على الشعب المصري، فقد عانت منها البلاد الكثير، ووقع العبء الأكبر على العمال والفلاحين وساءت أحوال معيشتهم فانضمت جموعهم إلى حركة المقاومة ضد حكومة إسماعيل صدقي.

وقد قابلتهم حكومة صدقي بالحديد والنار فتحولت المعركة إلى " شبه حرب أهلية" على حد تعبير صدقي نفسه. وهكذا وبرغم الجهود المبذولة من جانب حكومة صدقي وعلى ما يتمتع به صدقي نفسه من عقلية اقتصادية ممتازة، فقد عجزت كل تلك الجهود عن أن تجعل الأزمة تنفرج تماما.

وعندما تولى عبد الفتاح يحيى تأليف الوزارة عقب استقالة صدقي، فكر أن أكثر ما يشغل وزارته هو معالجة الأزمة الاقتصادية، ومع ها فإن ما قامت به وزارته في هذا الشأن لم يتعد إصدار القانون الذي أقره البرلمان بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية لعام 1932 بمقدار ثلاثة أعشار قيمتها، وكذلك فقد خصصت مبلغ مليوني جنيه لسداد بعض المستحقات على المزارعين .

وكان من نتيجة عجز هذه الوزارة عن معالجة الأزمة كما عجزت سابقتها. أن حاول حزب الأحرار الدستوريين التقرب من حزب الوفد لوضع سياسة اقتصادية مشتركة ينفذانها لمعالجة أسباب الأزمة من ناحية، وكمحاولة للإطاحة بوزارة عبد الفتاح يحيى من ناحية أخرى.

أرسل الأحرار الدستوريين مذكرة إلى حزب الوفد حول المعنى السابق، فكان رد الوفد المصري على مذكرتهم" يشارك الوفد المصري حزب الأحرار الدستوريين شعوره فيما وصلت إليه حالة الأزمة الاقتصادية في البلاد من سوء عجزت عن معالجته بطبيعة الحال الحكومات التى تولت إدارة شئونها بدون إرادة الأمة وبمشيئة الغاصبين... وكان بود الوفد المصري.. أن يقابل فكرة الأحرار في الوقت الحاضر بالارتياح لولا أن ترديد هذه الفكرة ينشأ بعد محادثات ذاع خبرها في طول البلاد وعرضها بين صدقي باشا وحزبهم للتعاون اقتصاديا لمحاربة الوزارة الحاضرة" ويتعجب النحاس فيقول:" كيف ينسى الأحرار ما جناه صدقي على البلاد فيمدون يدهم إليه" وقد رفض الوفد هذه الفكرة قائلا: " كما أن الوفد لا يحب أن يقع في سياسة خاطئة يمليها صدقي باشا ويرعاها خدمة لأغراضه الشخصية".


وكان رد الفعل واضحا لدى القوى الاجتماعية في مصر، فقد قام بعض الوطنيين من الشباب بنشر أفكار شابة للنهوض بالصناعة الوطنية وحمايتها من منافسة الصناعة الأجنبية لها، فارتفعت صيحات مخلصة في هذا الشأن ، وتألفت لهذا الغرض جمعيات وطرحت أفكار اقتصادية جديدة، كان الهدف منها تحرير الاقتصاد المصري من ربقة الاستعمار؛

ومن ذلك جمعية " المصري للمصري" التي أسسها سلامة موسى عام 1930، وقد اشترط قانون الجمعية على الأعضاء ألا يشتروا سلعة أجنبية ما دام هناك ما يقابلها من السلع المصرية ، وأن يقاطعوا المصنوعات الإنجليزية، وأن يتجروا مع التجار المصريين دون الأجانب حتى يمكن أن يتحقق استقلالنا ونجعل مصر ملتقى المصريين" وقد لقيت حركة مقطعة البضائع الأجنبية حماسة كبيرة بيت أفراد الشعب بحسهم القومي، وقد تألفت لهذه الجمعية لجان في مختلف كليات الجامعة.

وقد نظمت الجمعية حملة بالصحف أدت إلى نشر الوعي الاقتصادي بين أفراد الشعب، فأقبلوا على تشجيع المصنوعات الوطنية، ولكن عندما تعرضت الجمعية لإسماعيل صدقي بالهجوم، فقد أمر بغلق أكثر من عشر مجلات من المجلات التي كانت تقوم بنشر أفكارها. وبذلك انتهت هذه الحركة- التي تعبر عن تيار شعبي – تحت وطأة الضغط الذي مارسته حكومة صدقي لإسكات أصوات المعارضين لها.

كانت الأوضاع الاقتصادية التي سادت المجتمع المصر خلال الفترة، ذات أثر فعال على النواحي السياسية والاجتماعية، فقد انخفضت أسعار الحاصلات الزراعية وخاصة القطن عماد الاقتصاد المصري.

هذا فضلا عن الصعوبة في تصريفها، وعلى الرغم من الجهود الضخمة التي بذلت من جانب وزارة إسماعيل صدقي للتخفيف من وقع الأزمة على الشعب المصري، فقد زادت حالة الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين سواء، ولعل هذا يدعونا إلى دراسة الأوضاع الاجتماعية التي سادت المجتمع المصري في أعقاب تصريح 28 فبراير 1922 الذي منح البلاد الاستقلال الشكلي فهل كان لهذا الاستقلال أثر على الأوضاع الاجتماعية؟

ترتب على الأوضاع الاقتصادية- التي سبق أن ذكرناها- للمجتمع المصري خلال فترة البحث نتائج اجتماعية فيما يتعلق بالوضع الطبقي الاجتماعي بصفة عامة، فقد تركزت ثروات البلاد في يد القلة من كبار الملاك وغيرهم ، هذا فضلا عن أن تلك القلة من أصحاب الثروات هم المسيطرون على الحياة الاقتصادية المصرية، فهم الذين يمثلون كبار ملاك الأراضي الزراعية، وفى نفس الوقت فهم أصحاب المصانع والشركات الصناعية أو على الأقل حملة أسهمها، كما أنهم محتكرو التجارة الداخلية والخارجية فهم بذلك يمارسون سيطرة كاملة على الاقتصاد المصري، مما كان من نتائجه سوء توزيع الدخل القومي وانخفاض أجور العمال الزراعيين والصناعيين مما أدى إلى انخفاض مستوى معيشتهم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأحزاب السياسية قد أغفلت حقيقة وضع الطبقات الاجتماعية الكادحة، فقد خلت برامجها جمعيا من النص على معالجة هذه المسألة، فقد كانت الأحزاب السياسية تعبر عن أفكار ومصالح البرجوازية المصرية التي تولت قيادة تلك الأحزاب، وحتى حزب الوفد، الحزب الشعبي من بين الأحزاب المصرية، لم تحظ المشكلة الاجتماعية باهتمامه؛

وقد كانت الأحزاب السياسية جميعا تتفق في إغفالها لتلك المشكلة، كما تتفق أيضا في أن تحد انتشار الأفكار الاجتماعية بصفة عامة، فهي تعتبر انتشار تلك الأفكار بين العمال بمثابة البركان الذي سينفجر في يوم من الأيام فيطيح بها، وبأنظمتها القائمة، فحاربت تلك الأفكار حربا شعواء ، فتعرض معتنقوها للاضطهاد والسجن والتشريد، وكان رد الفعل لذلك أن انتشرت تلك الأفكار سرا، فلما كان تأسيس حزب سياسي لهم يعبر عن تلك الأفكار باسم" الحزب الاشتراكي المصري" وما حدث داخله من انقسامات وما تعرض له من أزمات ثم تألف " الحزب الاشتراكي المصري" من بين أعضائه، إلا أن البرجوازية المصرية قد وقفت حائلا دون نمو الأفكار الاجتماعية في مصر إلى جانب عوامل أخرى.

شهدت الشهور التي أعقبت الحرب العالمية الأولي حركة عالمية نشطة، ولكن الموج السياسي الذي بدأ مع حركة الوفد لم يلبث أن جرف هذه الحركة لصالح القضية الوطنية، فقد أدرك العمال أن الرأسمالية الأجنبية المستغلة التي يعملون في ظلها إنما تستمد شراستها وعنفها من وجود الاحتلال البريطاني، ولهذا انخرطوا في تأييد الثورة والاشتراك فيها دون أن تحفظ ودون أي شروط.

وقد ربح العمال بأن ينخرطوا في صفوف الجماهير المؤيدة لحزب الوفد الذي تولى قيادة الثورة التي اشتركوا فيها، فحزب الوفد كان همه الدائم أن يظل الممثل الوحيد للأمة، في مواجهة خصومه السياسيين، وفى مواجهة المحتل فإنه لم يستطع إهمال آمال وتطلعات الطبقة العاملة التي ظلت تمنحه تأييدها وبالتالي الأصوات الانتخابية، وحيث كان العمال متفرقين في أرجاء مصر كافة، وحيث كان عددهم لا يزال قليلا إلى حد لا يستطيعون معه أن يخرجوا من بينهم واحدا لينوب عنهم في البرلمان، لذلك فإنهم ما كان ينبغا لهم أن يكونوا آخر من يمنح تأييده للحزب الكبير الذي التفوا حوله بحماس منذ عام 1919، وكان التأييد بالنسبة لهم هو الوسيلة الوحيدة لإسماع صوتهم داخل مجلسي البرلمان وللعمل على تحقيق مطالبهم الأساسية.

وعلى الرغم من أن حزب الوفد كان ميالا إلى الاستجابة للمطالب الشعبية، إلا أنه بحكم تكوينه كان بعيدا عن تبنى الأفكار الاجتماعية، فلم يكن سعد زغلول يرى بنفسه حاجة إلى التغلغل في أعماق المشاكل الاجتماعية ليستقى منها برنامجا اجتماعيا يحفظ حرارة الجماهير من التسرب، فقد أدرك سعد زغلول أن المصريين ليسوا بحاجة لأكثر من برنامج سياسي قوى وعلى الرغم من هذا فعندما تولى سعد زغلول رياسة الوزارة عام 1924؛

اعتقد العمال أنهم سينالون من أول حكومة شعبية للبلاد الاعتراف بوجودهم كقوة في الوطن، واعتقدوا أن الحكومة التي تولت السلطة نتيجة تضحيات العمال والفلاحين والجماهير الشعبية في الثورة ستستجيب لمطالب العمال العادلة، فاتجهوا إلى تنظيم صفوفهم، وتألفت عدة اتحادات نقابية، وتقدم العمال بمطالبهم إلى وزارة سعد بشأن الأجور وعدد ساعات العمل، فلما رفضت الحكومة مطالبهم، نظموا خلال شهري فبراري ومارس سنة 1924 إضرابا عاما في الإسكندرية والقاهرة، واحتلوا خلاله بعض المصانع وحاولوا طرد أصحابها منها ، تدخلت الحكومة فقمعت الإضرابات واعتقلت عددا كبيرا من زعماء العمال واتهمتهم بالشيوعية.

بدأ الوفد حملة لإبعاد القادة اليساريين عن مراكز القيادة في النقابات محاولة منه لاحتواء حركة العمال وقد انهمك رؤساء لجان الوفد في المدن والأقاليم في العمل على نجاح تلك الحملة فكانت المرحلة الأولى التي اتبعها الوفد هي مرحلة إغلاق الباب في وجه اليساريين لقيادة الحركة العمالية؛

ومن ثم تمثلت المرحلة الثانية في فتح الباب للبرجوازية كي تقود الحركة، فلم يكن من باب الصدفة تدخل الحكومة في قمع إضراب العمال والقبض على زعمائهم في 3 مارس 1924.

ثم تتضح خطة الوفد أكثر فيعلن عن تأسيس (النقابة العامة للعمال) التي تحولت فيما بعد إلى اتحاد عام للعمال، وقد تولى قيادة تلك الحركة عبد الرحمن فهمي بتكليف من سعد زغلول. وفى 18 أبريل صدرت مجلة وفدية باسم " العمال" وفى 12 يونيو تصدر مجلة عمالية أخرى باسم" اتحاد العمال".

هكذا خيل للوفد أن الأوضاع قد تهيأت له لكي يتولى قيادة الحركة العمالية، فلا شك وأن إسهام الوفد في عملية تكوين الاتحاد قد جذب إليه كثيرا من القوى، وقد تركزت الجهود داخل الاتحاد لإغلاق الباب في وجه اليسار.

ولكن إغلاق الباب في وجه اليسار كان خطوة أخرى تستهدف بث الفكر البرجوازي في صفوف العمال، وقد بذل عبد الرحم فهمي كل ما ليده من جهد، في محاولة إفراغ هذا التجمع العمالي من أي محتوى ثوري وطلائه بطلاء معتدل غاية الاعتدال.

وهنا أدرك العمال أن الوفد لم يتح لهم اتخاذ أية خطوة جادة للحصول على مطالبهم العادلة، فانفضوا من حوله سريعا كما تجمعوا من قبل، وباعتقال عبد الرحمن فهمي عقب حادث مقتل السردار ، وما أن جاء زيور إلى الحكم حتى انهار هذا الاتحاد مسجلا الفشل الأول لمحاولة البرجوازية قيادة النضال الطبقي للعمال.

وهكذا كان موقف حكومة سعد من قضايا العمال الاجتماعية، فالوفد هو ممثل البرجوازية المصرية لم يكن ليتبنى قضايا العمال هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأفكار الاجتماعية لم تكن لتنمو داخل المجتمع المصري، في وقت استغرق فيه النضال الوطني جهود الجماهير، فلم تجد تلك الأفكار رواجا في الريف المصري حيث توجد الغالبية الجماهيرية الكبرى.

وما ذلك إلا لطبيعة البيئة الريفية بما فيها من جهل وتأخر ومعتقدات تواكلية تسود نفوس الفلاحين، وقد استغل خصوم تلك الأفكار أقوى سلطان على النفوس ، وهو الدين، في محاربتها لأنه مجتمع زراعي ولأن الدين الإسلامى يحمى الملكية الفردية. كما كان وجود الاستعمار البريطاني عاملا قويا في مقاومة الأفكار الاجتماعية في مصر وفى تشديد المقاومة الحكومية ضدها.

إن القضايا الاجتماعية التي كانت مطروحة داخل المجتمع المصري من جانب الطبقات الكادحة للمطالبة بحقوقهم لم تحظ بعناية القوى السياسية القائمة في تلك الفترة، فالأحزاب السياسية رغم ما تعتنقه من إيديولوجيات تخالف هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فربما شغلها الاهتمام بالمسألة الوطنية ومحاولة إحراز تقدم فيها عن الاهتمام بالقضية الاجتماعية.

والقصر بطبيعة تكوينه لم يكن ذا صلة من أي نوع بقضايا الشعب الاجتماعي، والاستعمار كقوة سياسية تفوق القوتين سالفتى الذكر، لم يكن يرى من نفسه سوى مدافعا عن الاحتكارات والاستثمارات الأجنبية في البلاد، فقد كان عاملا قويا في مقاومة الأفكار الاجتماعية التي ترمى إلى ترقية الطبقات الكادحة من أبناء المجتمع المصري العمال والفلاحين، وبذلك تأخرت القضية الاجتماعية عن سواها من القضايا وننتقل بعد هذا لدراسة التيارات الفكرية التي كانت سائدة في تلك الفترة.

شهد المجتمع المصري تيارات فكرية مختلفة خلال الفترة ، ففي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت تيارات منها التيار الإسلامى والتيار الليبرالي وتيار الفكرة العربية، وتيار الرابطة الشرقية وإن كان امتدادا للتيار الإسلامى وتيار القومية المصرية وأخيرا تيار الفكر الاشتراكي.

ومن المفيد أن نعرض لتلك التيارات في خلال الفترة التي شهدت نشأتها وتطورها في أعقاب الحرب العالمية الأولي حتى ظهور إرهاصات جمعية مصر الفتاة كتعبير عملي عن تيار فكرى برز في المجتمع المصري.

كان التيار الإسلامى يرى ربط الحركة الوطنية المصرية بحركة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها الأفغاني والتي وجدت في سلطان تركيا عبد الحميد لثاني عضدا لها خاصة وأنه حاول أن يحيى الخلافة الإسلامية في شخصه.

وفى ذلك الوقت كانت قد ظهرت في مصر حركة دفاع عن الإسلام، ارتبطت بردود الفعل التي أثارها الاحتلال البريطاني وزحف المؤثرات الغربية.

وقد تمثل ذلك الاتجاه بوضوح في مصطفى كامل والحزب الوطني، الذي كان يرى ارتباط مصر بالدولة العثمانية على اعتبار أنها أقوى الدول الإسلامية في ذلك الوقت.

وقد تأثر مصطفى كامل بالفكر السياسي لدى الأفغاني فقد رأى في الإسلام الجذوة التي يجب أن تحرك وتدعم القومية المصرية التي أخذت تصطبغ بالأيديولوجيات الغربية، ولهذا فقد نقد مصطفى كامل الاتجاهات العربية في المشرق العربي التي كانت تدعو إلى الانفصال عن تركيا.

وكان تيار الفكرة العربية يعنى توحيد البلاد العربية ولم شتاتها يرجع إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولكن اتجاه مصطفى كامل والحزب الوطني جعل الفكرة العربية لا تظهر إلى حيز الوجود لارتباك مصر بتركيا وحركة الجامعة الإسلامية، ولكن ذلك لم ينع وجود العروبة في قيام روابط ثقافية واقتصادية وسياسية في شعور المصريين وضمائرهم .

وهكذا فقد عرقل التيار الإسلامى المرتبط بحرك الجامعة الإسلامية ظهور تيار الفكرة العربية في مصر حتى إعلان قيام جمعية مصر الفتاة، فقد كانت أول تنظيم سياسي مصري يتضمن برنامجه الدعوة إلى الوحدة العربي.

وقد ارتبط بالتيار الإسلامى تيار آخر هو التيار الشرقي- خاصة وأنهما يتخذان من العقيدة الإسلامية أساسا لقياد الوحدة الإسلامية الشرقية وفى حقيقة الأمر فإن مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولي، كانت تهتم بأحداث سوريا وفلسطين والريف وبرقة، إلا أن هذا الاهتمام كان من قبيل التضامن الديني، ومما يدل على ذلك أن بعض المصريين رأوا في أواخر العشرينات احتمال اتحاد البلدان الشرقية من اليابان إلى المحيط الأطلنطي ، وهو الاتجاه الذي عبرت عنه مجلة " الرابطة الشرقية" ورغم أن عددا كبيرا من المصريين قد أبدوا حماسة لأن تلعب بلادهم دورا شرقيا إسلاميا إلا أن هذا التيار ظل غامضا ومختلطا لفترة طويلة.

أما التيار الليبرالي، فقد جاء إلى مصر نتيجة لتأثرها بثقافة وحضارة الغرب ن فعلى الرغم من أن المثقفين المصريين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانوا لا يزالون في مجموعهم معادين للغرب الذي اعتبروه خطرا على مقوماتهم التقليدية ، فإنهم رحبوا بالحضارة الغربية وأعجبوا بالغرب إعجابا شديدا، وأحبوا في أوربا ليبراليتها ونظمها الديمقراطية وروحها الإنسانية وتساوى الناس فيها، وآمنوا بضرورة اتخاذ المجتمع الأوربي مثلا يحتذي إلى درجة أن حاول بعضهم ربط مصر بأوربا – ومن ثم ما ذهبوا إليه من أن مصر كانت تمثل جزءا من حضارة البحر المتوسط التي شملت أوربا والشرق الأدنى، وقد عبر عن هذا الرأي قبيل الحرب العالمية الأولي كل من لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين.

وفى ذلك الوقت بدأ الذين تلقوا تعليما أوربيا ينادون بتطبيق العلم والثقافة الأوربية الحديثة على مجتمعهم بهدف إصلاحه ومن هنا جاء اعتناقهم للمفهوم الأوربي العلماني الخاص بالدولة القومية، لهذا نجدهم يأخذون عن أوربا التنظيمات الحزبية السياسية الحديثة.

وباختصار فإن ظهور الوطنية المحلية وولائهم دون اعتبار للعقيدة أصبح أساس للعمل السياسي، بدلا من الولاء الإسلامى الواسع. ولما كان الأساس الثقافي الذي قام عليه هذا الاتجاه الليبرالي العلماني أوربيا، فمن الطبيعي أن يكون زعماء هذا التطور السياسي أقل عداء لانجلترا.

وقد تم قبول أسس الحضارة الغربية وسر تفوقها، فإن وجود الجماعة القومية التي تحكم نفسها بنفسها على ضوء مصالحها، وفصل الدين عن السياسة ونظام الحكم الديمقراطي، وقوة الفضائل السياسية، وقد عبر عن هذه الآراء في أوائل القرن العشرين كل من أحمد فتحي زغلول وأحمد لطفي السيد، وفى خلال العشرينات والثلاثينات أحمد أمين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازني وطه حسين، وحاولوا أن يجعلوا لمصر شخصية ثقافية متميزة خاصة بها فزودوها بأفكار قومية تستند إلى أمجاد الحضارتين الفرعونية والعربية. وكان هدفها الحفاظ على ولاء الفرد ضمن الحدود الإقليمية للدولة الإقليمية.

كان حزب الأمة يلتف حول" الجريدة" التي كان أحمد لطفي السيد يشرف على تحريرها، والتي كان ظهورها بداية التبلور الكامل لفكرة القومية المصرية.

وقد اشترك مع " اللواء " في طلب الاستقلال، إلا أن اللواء كانت تدعو إليه مشوبا بروح الجامعة الإسلامية والارتباط بتركيا، أما " الجريدة" فقد رأت ألا سبيل لذلك إلا بجهود المصريين وحدهم، ومن هنا محاولتها لإنماء الشخصية المصرية بقدر المستطاع، والنظر إلى الأمور السياسية من زاوية مصر وحدها، هذا إلى أخذها بمبادئ الليبرالية في مختلف النواحي منتهية إلى المطالبة بالدستور فهي تعده ضمانا ضد قيام الاستبداد الفردي وللطفي السيد وجماعة الجريدة الفضل الأول في تحويل الحركة الوطنية المصرية نحو الوجهة الديمقراطية ذات الطابع العلمي المدروس .

ذابت كل تلك التيارات الفكرية في أثناء ثورة 1919 ، حيث وقفت الأمة في مواجهة المستعمر، ولكن في أعقاب تلك الثورة، فإن الوحدة السياسية التي تمتعت بها البلاد قد تفتت بعد أن تبدد المد الثوري الذي أشاعته الثورة. فأخذت تظهر تكتلات سياسية تعد امتدادا لتلك التي كانت قائمة قبيل الحرب الأولى مع الاختلاف في التفاصيل.

حقيقة أن سعد زغلول قد استطاع أن يجمع الشعب تحت زعامته أثناء الثورة، ولكن كان من الصعب عليه أن يستمر في زعامة كل الفئات التي تصدت للعمل السياسي.

فقد تحولت الفئات التي كانت تلتف حول حزب الأمة والجريدة إلى جانب عدلي يكن والأحرار الدستوريين الذين يعترفون بتصريح فبراير باعتباره خطوة نحو الاستقلال، وهذا الحزب يتبع قاعدة الاعتدال مع الإنجليز لحل المسألة المصرية، ففشل الحزب منذ البداية فلجأ أحيانا إلى القصر وأحيانا إلى الإنجليز.

حقيقة أن سعد زغلول حاول أن يثبت دعائم الحياة الدستورية، إلا أن القصر استطاع أن يستعيد بمرور الزمن الأرض التي فقدها وأن يسخر الدستور والساسة لخدمة مصالحه، وكان من نتيجة ذلك الصدام بين الوفد والقصر، وبالإضافة إلى الأحقاد الكامنة والمنافسة داخل الحزب.

أن ضعف الوفد بمرور الزمن بخروج أعضائه المهيمنين وانضمامهم إلى الأحزاب الأخرى أو تأليفهم أحزابا جديدة. على أن زحف المؤثرات الغربية على الحياة النيابية المصرية بعد دستور 1923 ، هو المسئول عن اختلافها بعض الشيء عما كانت عليه قبيل عام 1914.

على أنه من المفيد أن تشير إلى النظام الليبرالي الذي طبق في مصر في أعقاب دستور 1923 كان نظاما سياسيا لا يتصل بماضي البلاد أو حاضرها. ففشل ذلك النظام لأسباب عديدة.

ومهما تكن أسباب فشل التجربة الليبرالية في مصر، فقد ظهر لذلك رد فعل إسلامي قوى ظهر واضحا حين نشر كتابا" في الشعر الجاهلي" لطه حسين" و" الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق لما تضمناه من آراء أثارت رد الفعل القوى، وكما مهد ذلك للهجوم على المؤثرات الغربية على اعتبار أن هذين الكتابين بفعل تأثيرها على المجتمع المصري وفى ذلك الوقت قام صراع بين التقليدين والعصرين، وكان لآراء الأفغاني ومحمد عبده والتي قام بشرحها وتفسيرها رشيد رضا الأثر الأكبر في نشأة الاتجاه إلى الدفاع عن الإسلام؛

وتفسيره الدين الإسلامى تفسيرا قوميا متطرفا في الحياة السياسية المصرية وفى التكوين الثقافي والروحي للشباب، ومن ثم ظهور عدد كبير من الجمعيات الدينية في أواخر العشرينات جعلت هدفها الدفاع عن الدين والقومية في نفس الوقت، وكانت النتيجة لهذا المد الديني ظهور تشكيلات دينية سياسية كالإخوان المسلمين ومصر الفتاة فيما بعد.

كانت حركة الإخوان المسلمين حركة سياسية دينية نشأت كرد فعل للفشل السياسي والاجتماعي للنظام الليبرالي، وقد ظهرت في أواخر العشرينات بزعامة حسن البنا، وهى لا ترى الأخذ بالأساليب الحديثة للتنظيم السياسي، فهي تدعو إلى إصلاح ديني سلفي، وإن طالبت في نفس الوقت باستقلال مصر التام، على أن وطنيتها ظلت إسلامية أكثر منها مصرية أو عربية، فكانت غايتها القصوى إعادة بناء المجتمع في نطاق جامعة إسلامية عصرية تلعب دورها في تحقيق سلام العالم.

وقد قدم الإخوان أنفسهم لاعتبارهم بديلا لحكم الساسة العلمانيين، وكان نجاحهم في اجتذاب الطبقات الدنيا ثم لجوؤها إلى العنف فيما بعد دليلا على فشل النظام الليبرالي الوطني في المجال الاجتماعي.

وقد كان البنا يهدف بحركته إلى القضاء على عادات الغرب الفكرية التي تغلغلت بالتدريج في المجتمع الإسلامى، كما كان يسعى إلى استئصال شأفة أشكال العادات الاجتماعية المستقاة من الغرب، وكان يعادى القومية التي رأى أنها زحفت من الغرب واعتبر الإسلام ذا رسالة عالمية.

كان الاتجاه العام في مصر غير مستعد للاندماج في الفكر الغربة، فقد تضمن ذلك الاتجاه توجيه الهجوم إلى النظم والقيم الغربية. مما أدى إلى اهتزاز هيبة القيادة السياسية للطبقة الحاكمة في ظل النظام الدستوري ، وظهور حركات راديكالية جديدة منها مصر الفتاة وتنظيمات أخرى كانت تدعو إلى العودة إلى الإسلام باعتباره يفي بحاجات مصر الأساسية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويقيلها من عثرتها، وفى نفس الوقت كانت الفاشية قد أحرزت انتصارات باهرة في كل من إيطاليا وألمانيا، مما كان له صداه المسموع في مصر.

وقد بذل موسولينى جهده في تأسيس المدارس الايطالية في عدد من المدن المصرية بهدف تلقين الطلاب مصريين وإيطاليين أمجاد الفاشست. وكان من نتيجة ذلك نمو الاتجاهات الفاشية لدى مصر الفتاة والحزب الوطني وحزب الوفد، وكان تنظيم أحمد حسين يمثل النزعات الوطنية المتطرفة ممزوجة بالتعصب الديني وكره الأجانب.

ولعل ذلك يدعونا إلى دراسة بدايات ظهور ذلك التيار الفكري الذي ينادى باستخدام القوة لإعادة مجد مصر مستلهما أفكاره من منابع فاشية حققت نجاحا في إعادة مجد روما، فكان لابد وأن يتنادى هذا التيار بإعادة مجد مصر متتبعا خطوات موسولينى في هذا الصدد.

كان نمو الوطنية المصرية بشعاراتها ورموزها وأسانيدها التاريخية قد أدى إلى حجب الميول العربية، وعلى الرغم من وجود الاتجاه الإسلامى ممثلا في حركة الجامعة الإسلامية، فإن مكافحة الاحتلال القائم قد نما الشعور الوطني المصري، كما برز الاتجاه الفرعوني وبخاصة لدى الأقباط المصريين الذين اعتبر بعض زعمائهم ومفكريهم أنفسهم الورثة الشرعيين لمصر الفرعونية.

وهذه النزعة الفرعونية قد اشتد ساعدها في أعقاب ثورة 1919 وبروز المفهوم العلماني للشخصية القومية، ثم اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922.

فقد خيل للمراقبين أن هذا الاكتشاف وما أثاره من أحاسيس قد أفسح المجال" لبعث مجد مصر" خاصة وأنه جاء في أعقاب انتفاضة الشعب المصري. كما انتشرت الأسماء الفرعونية داخل المجتمع المصري، وأصبح العالم كله يرتج بمجد مصر الفرعوني، فصدرت الكتب بشتى اللغات عن حضارة مصر الفرعونية، واصطبغ طابع الحياة الفنية بطابع فرعوني فامتلأت المسارح بالروايات التي تتغنى بمجد مصر الفرعوني. وقد عبرت مصر الفتاة عن هذا الاتجاه بوضوح فيما بعد كما سنرى.

كما شهد المجتمع المصري في تلك الفترة ظهور تيار الفكر الاشتراكي، فقد عرفت مصر الفكر الاشتراكي باعتباره جزءا من الفكر الأوربي الزى يتغلغل في حياتها الثقافية منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وقد جاء دخوله إليها على يد العناصر الأوربية الأصل وظل قاصرا عليها، لأن المستوى المادي والفكري للعامل المصري لم يكن قد نضج بالصورة التي تؤهله لتقبل المبادئ الإشتراكية، ولأن المثقفين المصريين كانوا ينتمون إلى أبناء وملاك الأراضي والبرجوازيين الذين لم يبدوا اهتماما بالمشاكل الاجتماعية.

على أن نشوب الثورة الإشتراكية في روسيا في عام 1917 وقيام الدولية الثانية في عام 1919 كان له أثره في نمو الاتجاهات الإشتراكية في مصر.

وعلى حين رأى بعض المثقفين التقدميين من المصريين ضرورة السعي إلى نشر الفكر الاشتراكي، قرر بعضهم الآخر أن ظروف مصر الاجتماعية والاقتصادية غير ملائمة لهذه المحاولة.

على أن ذلك لم يحل دون تأليف الخلايا الشيوعية في القاهرة والإسكندرية حيث قام الدعاة الشيوعيون ببث الدعوة بين العمال الفنيين من الأجانب وبين المثقفين المصريين الذين درسوا في جامعات أوربا.

وقد جرت محاولة لبلورة ذلك الاتجاه الاشتراكي في شكل منظم يرعاه وينميه، فكان أن تألف " الحزب الديمقراطي" بعد الحرب العالمية الأولي.

وفى عام 1920 جرت محاولة أكثر تقدما لبلورة ذلك الاتجاه وتحديد ملامحه، فقد تصدى جوزيف روزنتال اليهودي المصري المنتمى إلى أصل إيطالي لتأليف أول حزب اشتراكي بمدينة الإسكندرية، وقد اعتمد في بنائه على العناصر الأجنبية التي تتواجد في الإسكندرية بأعداد كبيرة؛

وقد نشر بيان الحزب التأسيسي موقعا عليه كل من سلامة موسى وعلى العناني ومحمد عبد الله ومحمود العرابي وقوبل تأليف الحزب الاشتراكي المصري بالهجوم العنيف من جانب مختلف الطبقات، من منطلق ديني وخشية من انتشار تلك المبادئ التي ينشرها فتهدد الملكية الفردية وقد استنكر البعض ظهور ذلك مبررا استنكاره بأن قضية التحرر الوطني تأتى في المقام الأول قبل قضية التحرر الاجتماعي التي هي أثر من آثار ذلك التيار.

تعرض ذلك التيار لهزات عنيفة منها أن الحزب الاشتراكي الذي يعد تعبيرا عنه قد انقسم على نفسه فخرج منه المثقفون المصريون، كما تعرض للانقسام مرة أخرى بطرد روزنتال مؤسسه منه في 21 ديسمبر 1922، ومن ثم تحول الحزب من بعد ذلك إلى " الحزب الشيوعي المصري" وأصبح فرعا للدولة الثالثة.

ومن ثم أخذ هذا التيار يسجل نموا مطردا، وأصبح فرعا للدولية الثالثة. ومن ثم أخذ هذا التيار يسجل نموا مطردا، فاصطبغ نشاط الحزب بالشيوعية ، وما أن اشتد ساعده حتى كانت الأوضاع في مصر تسجل تغيرا في وضعها السياسي بصدور الدستور وتولى الشعب الحكم، فمارس الحزب نشاطه بحرية إلى حد ما، ومن خلال ممارسته لنشاطه وبتوجهات منه فقد احتل العمال المصانع، فلم تجد وزارة سعد مناصا من الوقوف في وجه تلك الحركة بكل قوتها ومحاربتها، فألقت القبض على كل زعماء الحزب وقدمتهم للمحاكمة في عام 1924 مما أدى إلى ضعف ذلك التيار.

كان تيار الفكر الاشتراكي يحمل أسباب ضعفه، فقد مزقت الخلافات الأيديولوجية كيان الحزب الذي يمثله هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الظروف التي أحاطت بنشأة التيار كانت عقبة في سبيل انتشاره في مصر على اعتبار أنها دولة زراعية، والأفكار الإشتراكية لا تروج في البلدان الزراعية ولأن الدين الإسلامى يحمى الملكية الفردية وينافى المبادئ الشيوعية، ومن ناحية ثالثة فإن الوجود البريطاني في مصر كان عاملا قويا في مقاومة ذلك التيار الفكري وتشديد المقاومة ضد معتنقيه ومحاولة نشر أفكاره.

عرضنا للتيارات الفكرية التي سادت للمجتمع المصري وتتبعناها منذ نشأتها تقريبا وحتى منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، ولعل وجود كل تلك التيارات على تنوعها على سطح الحياة في مصر كان ذا أثر واضح على نشاطها السياسي والاجتماعي، فقد كان عدم تحقيق مصر لاستقلالها التام ما جعلها تموج بعديد من التيارات الفكرية التي تحاول وضع الحلول العملية لاستكمال الاستقلال وتحديد شخصية مصر. وقد اختلفت وجهات النظر وتباينت الوسائل التي رسمها كل تيار من هذه التيارات للوصول إلى تلك الغاية.

كانت تلك هي الظروف التاريخية التي نشأت في أحضانها جمعية مصر الفتاة التي أعلن أحمد حسين رئيسها عن قيامها في 21 أكتوبر 1933 . ومن الطريف أن نذكر هنا أن ظهور اسم مصر الفتاة في تاريخ مصر الحديث لم يكن على يد أحمد حسين وجمعية مصر الفتاة؛

بل أن هذا الاسم قد ظهر لأول مرة في تاريخ مصر على ضوء ما لدينا من معلومات عام 1879 على يد مجموعة من الشبان المثقفين في مدينة الإسكندرية انتظموا في جمعية سرية أطلقوا عليها" جمعية مصر الفتاة" وقد ضمت تلك الجمعية كل من محمد أمين (نائب الرئيس الذي لم تشر إليه المصادر المختلفة) ومحمود واصف (سكرتيرا) وعبد الله النديم وأدين إسحاق وسليم النقاش (أعضاء) .

كما اتخذت لها صحيفة تعبر عنها باسم" مصر الفتاة" في أواخر عام 1879 وبعد أن استمرت تلك الصحيفة في الصدور بعام تولى أديب إسحاق رئاسة تحريرها وشاركه النديم في ذلك.

أما عن صحيفة " مصر الفتاة" فلم يرد ذكرها إلا في كتاب الدكتور عبد اللطيف حمزة، أما بقية المصادر الأخرى بالإضافة إلى ما أسفر عنه البحث فيمكن ترجيح هذا الرأي وهو أن جمال الدين الأفغاني قد ساعد أديب إسحاق في الحصول على امتياز إصدار جريدة " مصر " عام 1877 والتي اشتهرت بمقالاتها في التعريف بالوطنية والدعوة إلى الحرية، وهى الجريدة الأولى التي وردت فيها كلمة" مصر الفتاة" ومن المرجح أن تكون جريدة " مصر" هي التي كانت تعبر عن أفكار تلك الجمعية داخل صفحاتها، خاصة وأن أديب إسحاق صاحب امتيازها كان أحد أعضاء هذه الجمعية. أما هذه الجمعية فقد توقف نشاطها في عام 1880 وذلك بانضمام معظم أعضائها إلى الحزب الوطني.

وفى عام 1908 يبرز اسم مصر الفتاة إلى الوجود مرة أخرى كإحدى صحف الحزب الوطني فيصدر العدد الأول منها في أول ديسمبر من نفس العام.

وقد مرت تلك الصحيفة بأطوار مختلفة فقد انتقلت ملكيتها إلى يد اجنبى لتتمتع بغطاء الحماية وتنجو من المصادرة لنهجها نهجا متطرفا في معالجة القضايا إلى أن عطلت نهائيا في أبريل عام 1911 .

وقد أهمل استخدام اسم مصر الفتاة بعد استخدامه على مستوى الحزب الوطني وخاصة في قول مصطفى كامل" أريد أن أوقظ في مصر الهرمة مصر الفتاة" حتى استخدم مرة أخرى فيما بعد على لسان أحمد حسين في عام 1929 .

ثم عاد فاستخدمه بعد ذلك اسما لتنظيمه السياسي الذي أقامه في 21 أكتوبر 1933 كما سبق القول باسم " جمعية مصر الفتاة" .

عرضنا للظروف التاريخية لنشأة جمعية مصر الفتاة ولأول مرة استخدم فيها الاسم، وعلينا أن نعرض لنشاط أحمد حسين رئيس الجمعية ولنشاطه السياسي والاقتصادي الذي سبق إعلان قيام الجمعية والتي تعد بحق مقدمات مصر الفتاة.