من قتل حسن البنا
القصاص
قامت ثورة 23 يوليو 1952.وقبض على المقدم محمد الجزار يوم 25 من يوليو. قبل اعتزال فاروق العرض وخروجه من مصر.
نشرت "صحيفة الأخبار" أن أحد كبار المعتقلين أدلى باعترافات هامة فى قضية البنا فلما سأل السائق محمد محفوظ, العميد محمود عبد المجيد عن صحة الأمر قال الرجل فى ياس: اللى يحكم بيه ربنا:اللى مكتوب له شئ حايشوفه!
وأضاف:ما تعملش شوشرة. اسكت!وفى 29 من يوليو 1952 بعد خروج الملك بثلاثة أيام أرسلت قيادة الجيش إشارة باستدعاء العقيد محمود عبد المجيد مدير جرجا إلى القاهرة فقبض عليه داخل مكتبه فى ديوان المديرية المحافظة بقرار من البكباشى زكريا محيي الدين مدير المخابرات وقتئذ. وقال إن ذلك بأمر قائد الثورة.وألقى القبض على المخبرين الأربعة المتهمين باغتيال البنا.
وكانت هذه العجلة فى أشد أيام الثورة خطورة دليلا على أنها قضية الجيش وهدف من أهداف الثورة!قال لى زكريا محيي الدين رئيس وزراء مصر الأسبق إنه لم يصدر قرار القبض على محمد الجزار فقد سافر يوم 24 من يوليو إلى الإسكندرية وبقى بها حتى طرد الملك السابق على الباخرة المحروسة فعاد إلى القاهرة يوم 27 من يوليو.
وكان مقررا أن تصر الثورة على طرد فاروق يوم 25 من يوليو ولكنه أى زكريا محيي الدين طلب تأجيل التنفيذ 24 ساعة فإن القوات المسلحة التى وصلت من القاهرة لحصار قصر رأس لاتين كانت مرهقة.
وقال إن الثورة كانت قد أعدت قائمة بأسماء كبار ضباط الجيش والسياسيين ورجال الشرطة الذين سيقبض عليهم لتأمين الثورة وكان بين ضباط الجيش الثائرين من يتعاطف مع الإخوان كما كان الإخوان متعاطفين مع الثورة ولابد أن أحد قد اقترح الاهتمام بقضية اغتيال البنا والقبض على الجزار فصدر الأمر بذلك فقد كانت تضاف أسماء باستمرار.وقال زكريا محيي الدين إنه بعد عودته للقاهرة لم يصدر قرارا باعتقال محمود عبد المجيد.
وقال زكريا محيي الدين إنمه يعتقد أن القرارين لم يصدروا قرارا باعتقال محمود عبد المجيد . وقال زكريا محيي الدين إنه يعتقد أن القرارين صدرا من جمال عبد الناصر فإنه الذى كان يملك القرار فى ذلك الوقت ويصدره من كوبرى القبة حيث توجد القيادة.
قال أنور السادات:
- " كان أول إجراء اتخذته الثورة إزالة آثار الماضى البغيض ومحاسبة المسئولين عنه بالحق والعدل إعادة التحقيق فى قضية البنا".
جرى التحقيق مع المتهمين فى السجن الحربى وتولاه نائبا الأحكام الضابطان السيد جاد إبراهيم وإبراهيم سامى جاد الحق فردد محمد محفوظ سائق سيارة محمود عبد المجيد يوم 30 من يوليو 1952 أقواله الأولى.
ولكن قيادة الجيش تلقت بلاغات متعاقبة بأسماء القتلة . وفى 6 من أغسطس انهار محمد محفوظ وكان فى الثانية والأربعين واعترف بتفاصيل الجريمة. وأكد اعترافه بعد ذلك مرة أخرى أمام نائب الأحكام.ثم كرر الاعتراف أمام النيابة.
وعاد يردد الاعراف ست مرات أخرى أمام المستشار حسن داود الذى حقق القضية فى دار القضاء العالى وفى مواجهة المتهمين الآخرين. وقال محمد محفوظ إنه مظلوم ينفذ أوامر رئيسه وكان يظن أنه بذلك يفلت من العقاب وأنه يسمع كشاهد لا كمتهم.
ونفى محمد الجزار أنه ضغط على الليثى لتغيير رقم السيارة.وقال:لا يوجد عداء شخصى بينى وبين أية هيئة. الحكومة هى التى توجه رجال الشرطة بما فيهم القسم السياسى.
وقال إنه علم بتدبير الجرمية بالإشتراك بين لسراى مع عبد الرحمن عمار وأن عمار أحضر محمود عبد المجيد من جرجا. وهو بدوره أحضر المخبرين. وروى كل التفاصيل عن وجود ضابط الشرطة قرب المكان لاستلام المتهمين فى حالة ضبطهم ولكنه قال إن كل معلوماته عرفها بعد وقوع الحادث ولم يتقدم بها لأن أحدا لم يكن يستطع أن يفعل ذلك.. عام 1949!
واعترف بأن عبد الرحمن عمار كلف المقدم توفيق السعيد من القسم السياسى أيضا بمنع الليثى من تأدية الشهادة وأن توفيق السعيد اقترح عليه القيام بهذه المأمورية لأن هذه المسالة تهم السراى الملكية فاعتذر.واعترف بأنه قابل الليثى. وزعم أنه نصحه بذكر الحقيقة كاملة!
أحسّ الجزار بأن اعترافه يدينه فاحتطف موسى حلاقة وحاول قطع شرايين رقبته قاصدا الانتحار فى السجن الحربى. وطلب الادلاء بأقوال أخرى بعد ثمانية أيام فعدل عن اعترافه السابق قال: كنت فى حالة غير طبيعية .. أهذى ولا أعرف بماذا أجبت.. وما قلته يصلح مادة للتحقيق والبحث!! ووقعت على الأوراق دون قرأتها وكل ما قلته مجموعة إشاعات مما كان يتردد فى دوائر الشرطة وليست لدى معلومات يقينية إطلاقا.
وقال: وضعونى وحدى.. دون غيرى من امتهمين . فى زنزانة منفردة!وأكد أن الليثى كان يعمل مرشدا لديه.ولكن لم يقم دليل واحد على ذلك التأكيد . وقال الليثى إنه عرف الجزار بمناسبة القبض عليه فى قضية اغتيال أحمد ماهر واتهامه بالقاء القنابل على " أخبار اليوم"
وظلب الجزار أن يلتقى باللواء محمد نجيب قائد الثورة.ظل محمود عبد المجيد ينكر صلته بالجريمة ولكن وجدت ورقة بخط يده فى وزارة الداخلية تبين أنه كتبها لمحمد وصفى عندما كان يدبر لقتل ضابط جيش اسمه عبد القادر طه. وهو من خصوم الملك.
فى هذه الورقة كتب محمود عبد المجيد اسماء " القتلة" الذين عمل على نقلهم إلى وزارة الداخلية وهم البكباشى حسين كامل واليوزباشى عبده أرومانيوس والأمباشى أحمد حسين والجاويش محمد سعيد والأمباشى حسين محمد سعيد.
وكان يريد أن يستعين بهم محمد وصفى لقتل الضابط عبد القادر طه وتعرف عبد الكريم منصور فى عرض قانونى على الأمباشى أحمد حسين ووكيل الباشجاويش محمد سعيد إسماعيل وقال إنهما أطلقا الرصاص على المرشد العام.
رأت إدارة الجيش أن التهمة ثابتة قبل المتهمين فأرغمتهم على ارتداء ملابس السجن الزرقاء قبل الحكم عليهم!وأحالت قيادة الجيش القضية يوم 17 من أغسطس أى بعد أقل من شهر على قيام الثورة إلى النيابة العمومية للتولى التحقيق فيها.
وبعد شهر فى 29 من أغسطس 1952 جرى البحث عن مصطفى من الأوصاف التى أدلى بها السائق محمد محفوظ وتبين أنه مصطفى أبو غريب الذى كان يعمل قبل ذلك بالمباحث وأنه يتجر بالمخدرات ويتخذ من عمله بالمباحث ستارا يحميه من القانون فقام ضابط من المباحث العامة بالقاهرة بالسفر إلى سوهاج واستطاع القبض عليه فى طما وكان قد مضى على الجريمة ثلاث سنوات ونصفسنة.
نشرت صحيفة " الجمهور المصرى" صور جميع المتهمين يوم 20 من سبتمبر فارتفع توزيعها إلى 75 ألف نسخة!وطلب النائب العام إلى وزير العدل ندب أحد مستشارى محكمة استئناف القاهرة للتحقيق.
ويسمع محمد وصفى قائد حرس الوزارات الذى أصبح برتبة عميد بأنباء التحقيقات فيسرع إلى دار السفارة البريطانية يطلب اللجوء السياسى.
وقال للمسئولين بالسفارة:
- إعطونى إحدى السيارات الدبلوماسية إلى معسكرات القوات البريطانية فى فايد ومنها أستقل إحدى الطائرات السلاح الجوى الملكى البريطانى إلى قبرص أو عدن.
قال الماجور سانسوم ضابط أمن السفارة للسفير:
- انقذوا حياة هذا الرجل الذى ساعدنا كثيرا.
وفى مذكراته قال سانسوم إن السفارة أبرقت إلى وزارة الخارجية التى رفضت وقالت:
- لا نريد أن نبدأ تعاملنا مع النظام الجديد بخطوة خاطئة . ولا يوجد ما يدعونا للمخاطرة بانقاذ رجل شرطة.وهكذا تركت السفارة البريطانية محمد وصفى لمصيره فتوجه إلى مكتبه يجمع اوراقه الخاصة فى "جوال" لم يعثر عليه أبدا وقيل إنه نقله إلى أحد منازله الثلاثة فى القاهرة والإسكندرية.
وانتحر وصفى فى منزله بالقاهرة بتناول كمية من الحبوب المنومة مؤثرا الموت على مواجهة الموقف بعد أن علم أن ضابط الجيش عبد العزيز صادق كلف بالتفتيش عليه.
وتنشر صحيفة " المصرى" تحت عنوان فى صدر الصفحة الأولى يوم 20 من سبتمبر نبأ الانتحار. قالت " المصرى" إن محمد وصفى علم قبل موته بساعات قليلة أن التحقيقات الدائرة فى قضية مصرع البنا تناولته ولعلاقته أيضا باغتيال الضابط عبد القادر طه".
ندبت محكمة القاهرة المستشار حسن داود فأعاد التحقيق كله فى أول أكتوبر 1952 فى السجن الحربى بقشلاقات الجيش فى العباسية بمدينة القاهرة وكان هذا هو التحقيق السادس فى القضية.
التحقيق الأول بدأه عبد العزيز حلمى رئيس النيابة يعاونه وكيلان هما محمد زكى عصمت ومحمود حسن عمرو وكيلا النيابة عقب الجريمة مباشرة فى عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي.والتحقيق الثانى تولاه النائب العام محمد عزمى فى وزارة حسين سرى كما جرى تحقيق آخر أثناء حكم النحاس.
وبعد الثورة جرى التحقيق الرابع بواسطة الجيش عن طريق نائبى الأحكام.وتولت النابة التحقيق الخامس وانتهت منه فى الثامنة من مساء يوم 18 من ديسمبر عام 1952.. أى فى نفس الساعة – تقريبا0 التى قتل فيها المرشد العام. ولكن بعد ثلاث سنوات وعشرة شهور وخمسة أيام و23 ساعة وخمسين دقيقة من اغتيال الشيخ!
أحال فؤاد سرى رئيس النيابة إلى محكمة الجنايات تسعة من المتهمين باغتيال الشيخ البنا منهم ثمانية من رجال الشرطة وواحد من الفلاحين.
بين رجال الشرطة عميد هو محمود عبد المجيد مدير المباحث الجنائية ومقدمان هما محمد محمد الجزار وحسين كامل واليوزباشى عبده أرمانيوس والباشجاويش محمد محفوظ ووكيل الباشجاويش محمد سعيد إسماعيل واثنان من الأومباشية: أحمد حسين جاد وحسين محمدين رضوان.
والفلاح مصطفى محمد أبو الليل يوسف غريب. من طما بمحافظة سوهاج.
وجهت لانيابة إلى الإمباشى أحمد حسين جاد والفلاح مصطفى أبو الليل تهمة قتل الشيخ البنا عمدا مع سبق الإصرار والترصد والشروع فى قتل عبد الكريم محمد أحمد منصور لامحامى مع سبق الإصرار والترصد أيضا.
ووجهت إلى باقى المتهمين من ضباط الشرطة والجنود – عدا الجزار – تهمة التحريض والإتفاق والمساعدة فى الأعمال المجهزة والمسهلة والمتممة لارتكاب الجريمة فذهبوا يشدون أزر المتهمين ويردون عنهما من يتصدى لهما أو يحاول ضبطهما أو يحول بينهما وبين إتمام الجريمة ويسر لهما السائق سبيل الفرار ونسب إلى لمقدم الجزار تهمة معاونة الجناة على الفرار وإخفاء أدلة الجريمة وتقديم معلومات يعلم بعدم صحتها.
استاء الإخوان لأن قرار الاتهام لم يشمل إبراهيم عبد الهادى ضمن الجناة كما استبعد القرار أيضا عبد الرحمن عمار.
عرضت القضية على غرفة الاتهام فى 28 من يناير 1953 برئاسة مرسى فرحاترئيس محكمة استئناف مصر وعضوية المستشارين محمد على جمال الدين وعبد الرحمن جنينة وممثل النيابة أحمد فؤاد سرى رئيس النيابة العسكرية.
ندبت الغرفة فى 11 من فبراير عضو اليمين المستشار محمد على جمال الدين لاستكمال التحقيق فقام بذلك ثم عرضت القضية مرة أخرى فى 11 من مارس.
فطن محمد محفوظ إلى أن اعترافاته العديدة لا تعفيه من العقاب بل تدينه فعدل عنها جميعا وقال إنه عذب ليعترف.
وطلب محفوظ رد المستشار المحقق على جمال الدين فاعتذر عن الاشتراك فى الهيئة التىتفصل فى طلب الرد. ندب بدلا منه المستشار محمد كامل البهنساوى.
قال المتهم إن المستشار محمد على جمال الدين انطوت نفسه على موالاة شديدة وعطف جامح على أفراد أسرة البنا المدعويين بالحق المدنى يقابلها عداء ظاهر للمتهمين الأمر الذى يرجح معه عدم استطاعته الحكم بغير ميل.
وبنى طلب الرد أيضا على أن لمستشار صهر لسعيد رمضان وكيل وزارة العدل السابق وهو على صلة وثيقة بالإخوان.
نفى محمد على جمال الدين أن لصهره علاقة بالإخوان قال هناك تشابه فقط بين اسمه واسم سعيد رمضان عضو الجماعة.
نظرت طلبالرد هيئة برئاسة المستشار غبراهيم حلمى فقررت رفض الطلب وتغريم المتهم خمسين جنيها. حاول المتهمون المرافعة أمام غرفة الاتهام ولكنها رفضت ذلك فى 31 من مارس.
قالت إنها هيئة تحقيق وليست هيئة محاكمة وتعقد جلساتها فى غير علانية وليس للخصوم المرافعة أمامها. واصلت الغرفة نظر القضية وقررت تقديمها إلى محكمة الجنايات مع الإفراج عن جميع المتهمين عدا أربعة وهم:
العميد محمود عبد المجيد.
الامباشى أحمد حسين جاد.
الفلاح مصطفى أبو الليل.
سائق السيارة محمد محفوظ. ورفضت الغرفة طلب ادخال إبراهيم عبد الهادى. وعبد الرحمن عمار كتهمين وأحالت القضية محكمة الجنايات برئاسة المستشار كامل أحمد ثابت.
وكان مقررا أن تنظر القضية أمام محكمة الثورة العسكرية للتعجيل بمحاكمة المتهمين ولكن الخلافات بدأت بين الإخوان ومجلس الثورة فرأى المجلس أن من الأفضل نظر القضية أمام القضاء العادى لتؤجل ويعطى الدفاع الفرصة للهجوم على الجماعة طبقا لأصول وقواعد وإجراءات المحاكمات أمام محاكم الجنايات !
ورأى مجلس الثورة أن محاكمة لاقتلة أمام الثورة يؤكد الرابطة بين مجلس الثورة والإخوان فى حين أراد المجلس أن يمهد للإنفصال والقطيعة النهائية مع الجماعية!
بدأت محاكمة المتهمين التسعة فى 10 من نوفمبر عام 1953 واستمر نظر القضية فى 11 جلسة.
كرر السائق محمد محفوظ ما قاله أمام غرفة الاتهام من أن ضابط الشرطة طه زغلول أركان حرب الأمن ورجل البوليس كان يأخذه غلى غرفة فى السجن الحربى يضربه ويعذبه ليعترف وهدده بالإعتداء على زوجته وبناته.
نفى ممثل لانيابة ذلك قائلا:
ولماذا لم يعذ باقى المتهمين ليعترفوا أضاو إنهم جميعا فى السجن الحربة وفى دار القضاء العالى وهنا امام المحكمة انكروا تتهمة القتل أو الاشتراك أو التحريض.
استمعت المحكمة إلى 11 من شهود الإثبات أيدوا اعترفات السائق ودور الجميع فى الجريمة.
وفى جلسة من نوفمبر 1953 طلب عبد القادر عودة رد رئيس محكمة الجنايات لأن المحكمة تجامل المتهمين. قال عبد القادر عودة:
لم أر محكمة بهذا الشكل . ورئيس المحكمة فى حرج لا يستطيع أن يحكم فى هذه القضية بغير ميل: وقد بدت منه أمامنا بعض الظواهر ولو شاء الرئيس أن تنحى.. وإذا لم يتنح فستتخذ الإجراءات لرد المحكمة.
وانسحب عبد الباسط البنا – شقيق الشيخ البنا – من قاعة الجلسة احتجاجا وأبرق إلى مجلس قيادة الثورة يقول:
"انسجينا من قضية شقيقنا البنا , محتجين رسميا على ما دار فيها من مهازل. غن قضية الشهيد سياسية وشعبية من الدرجة الأولى, سببها العهخد البائد, من ملكه المخلوع إلى بوليسه السياسى. وإن تجريدها من هذه الصفة. وقبرها أمدا طويلا وإخفاء معالمها يتضليل لبوليس السياسى . وما كان للجناة من سيطرة وإرهاب يجعل نظرها أمام محاكم الجنايات عقيما فضلا عن هذه الدائرة بالذات التى دل ماضيها ومسلكها بوضوح على عدم تمشيها مع العهد الجديد.
احفظوا هذا الدم العزيز عليكم , وعلى الشعب وعلى العالم الإسلامى بنظرها أمام محكمة الثورة...
ومنحها حقها التاريخى فى سجل الثورة المجيدة".ونشرت صحيفة " الدعوة " التى تصدرها الجماعة مقالا عنوانه " دين فى عنق الرجال " جاء فيه
" يجب أن يصدر الشعب حكمه على القتلة وإلا فسينهض جيل بأسره يطالب بهذا الدم وتحقيق الانتصار. والأمر اليوم بين يدى المسئولين إن شاءوا ظفروا بهذا الفخر". وتضمن المقال إهانة لرجال القضاء الذين ينظرون القضية!
طلب محاموا الإخوان رد المحكمة نظر طلب الرد أمام مرسى فرحات رئيس محكمة الاستئناف فرده المحامون أيضا لأنه كان رئيسا لغرفة الاتهام.
طعن المدعون بالحق المدنى فى هذا الحكم – أى حكم رفض طلب الرد – أمام محكمة النقض التى قضت بعدم الاختصاص.
لاحق سوء الحظ, الذى لازم المرشد العام فى سنوات حياته الأخيرة الشيخ البنا ميتا فحال دون توقيع القصاص المناسب على قتلته.
اختلف جمال عبد الناصر مع الإخوان فقرر مجلس الثورة فى 12 من يناير 1954 أن الإخوان حزب سياسى مما يجعل جماعتهم منحلة تلقائيا.
وأذيع قرار الحل فى ساعة متا×رة من مساء 14 من يناير واتهم البيان الإخوان بالإصرار على معاداة ثورة 23 يوليو, محاولة التسلل إلى صفوف الجيش والشرطة واعتقل المئات من أعضاء الجماعة بما فيهم المرشد العام الجديد الشيخ حسن الهضيبى وخمسة من أعضاء مكتب الإرشاد.
وفى ظل هذا المناخ العدائى للإخوان لمسلمين استأنف محكمة الجنايات نظر القضية!
اعتذر عبد القادر عودة عن كلماته امام المحكمة فى جلسة حضرها عمر عمر نقيب المحامين الذى أكد تقدير كل المحامين للمحكمة ولقضاء مصر. وتقبل كامل أحمد ثابت الاعتذار ولكنه وجد حرجا فى نظر الدعوى فتنحى فى 22 من مارس 1954. وبذلك ضاع شهر وستة عشر يوما فى طلب لارد ونظره.
أحيلت القضية إلى دائرة عبد الغنى يحيى ولكنها كانت مختصة بالقضايا المدنية فلم تنظر القضية. وأخيرا نظرت القضية دائرة الجنايات برئاسة المستشار محمود عبد الرازق وعضوية المستشارين محمد شفيع الصيرفى ومحمد متولى عتلم. وكانت أول قضية تنظرها ثلاث دوائر.
عقدت المحكمة خلال شهرين 24 جلسة عدلت النيابة خلالها وصف.
التهمة بالنسبة للجزار واتهمته بانه شريك فى جريمة القتل وليس مجرد مساعد للمتهمين على الهرب. وطالب المدعون بالحق المدنى بإدخال الملك السابق فى الدعوى بوصفه محرضا وفاعلا أصليا.
كانت أدلة الاثبات اعترافات محمد محفوظ التى عدل عنها.
ولم يكن بالقضية شاهد رؤية واحد .. أى شاهد واحد رأى المتهمين أثناء ارتكاب الجريمة. وكان الليثى
– العمود الفقرى فى القضية – ولكنه لم ير شيئا وعرف رقم السيارة من شاهد اختفى او تلاشى ولذلك تركز هجوم الدفاع على الليثى !
قالوا إنه مرشد الشرطة , اختلق القضية خوفا من أن يقتله الإخوان فهو الذى حمل الدعوة إلى الشيخ البنا وكان مع الناغى يعرفان – وحدهما – موعد حضور المرشد العام إلى مقر جمعية الشبان المسلمين.
وجاءت السيدة منيرة عامر مطلقة صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين مرتين لتدلى بشهادتها.
وكانت تعرف الصلة بين مطلقها ومحمد الليثي فايدت أنه كان مرشدا للبوليس السياسى. وقالت: الليثى لا يوثق به.
حدث فى أحد أيام المحاكمة أن اقتربت زوجة محمد محفوظ من القفص الذى يوجد فيه وهمست فى أذنه بكلمات فانتفض الرجل يصيح قائلا:
ده حرام... ده إرههاب .. بيهددونى بخطف أولادى. ابعدوا عنى كفاية اللى عملتوه فىّ ... أنا بأبلغ القيادة – أى مجلس الثورة – عن التهديد ده. وكانت هذه الكلمات أشبه باعتراف جديد يدين محفوظ وكل المتهمين فى القفص!
وجرت محاولة لتضليل العدالة .. بعث على حسنين الذى حكم عليه بالأشغال المؤبدة فى قضية اغتيال الضابط عبد القادر طه إل المحكمة يقول إنه يريد الادلاء بشهادة حاسمة فاستدعته المحكمة.
جاء بملابس السجن. ولم تطلب إليه المحكمة أداء اليمين لأنها – طبقا للقانون – لا تثق بيمينه.
قال إن كل المتهمين فى القفص أبرياء وأن القتلة من أعضاء الحرس الحديدى الذى أسسه الملك السابق لقتل خصومه , وذكر بعض الأسماء. ووضح من اقواله أنه أراد الخروج من السجن ساعات او أن بعض التهمين دفعوا له مالا ... لمحاولة انقاذهم.
بلغ عدد محاضر الجلسات 1100 صفحة وأوراق القضية أكثر من 500 صفحة.وبلغ شهود الاثبات 23 واستدعت المحكمة عشرة آخرين مثل النيابة على نور الدين – الذى أصبح نائبا عاما فيما بعد
– فقال إن لدولة كرست جهودها للقضاء على رجل أعزل من السلاح.. ودبرت الجريمة بواسطة الحكومة ونفذت بواسطة رجال الأمن.
فعادت الحكومة بمصر إلى عصور البربرية وعاد السيف لمناقشة أى فكرة لا تروق للحاكم. وقال إنها جريمة اغتيال بشعة, كانن لها أسوأ الوقع فى نفوس المواطنين سواء من يؤيد دعوة الشيخ , أو لا يؤيدها
ترافع فى الدعوى 21 محاميا منهم ستة من المدعين بالحق المدنى ومستشار عن إدارة قضايا الحكومة قال : إنها ليست مسئولة عن الجريمة!
طلبت أرملة الشيخ البنات عويا قدره ثلاثون ألفا من الجنيهات أما والده فاكتفى بتعويض مؤقت قدره قرش صاغ واحد.
قالوا إن الشيخ البنا استشهد وعمره 42 سنة وهو رجل لا مورد له عن الاطلاق إلا جهده وعرق جبينه. وكان يصدر "مجلة الشهاب" وهى مصدر رزقه الوحيد. وعمل مدرسا ثم استقال . وركز كل جهوده فى سبيل الفكرة وحاولت الجماعة أن تعطيه مرتبا أو تبنى له بيتا فرفض. وأنفق من جيبه فى سبيل الفكرة التى اعتنقها.
ولم يترك بعد موته – شيئا على الإطلاق!
وقالوا محاموا السرة إن البنا رجلا زاهدا ولكن أولاده يجب أن يعيشوا فى مستوى حسن وهم فى حاجة إلى مورد ومعين.
وطلب الأستاذ عبد الكريم منصور تعويضا قدره ثلاثون ألف جنيه .
قضت المحكمة 26 يوم فى المداولة وكتابة الحيثيات ثم اصدرت حكمها فى 2 من أغسطس 1954 ذلك بعد خمس سنوات وخمسة اشهر و21 يوما و14 ساعة و15 دقيقة من وقت وقوع الجريمة. قضت المحكمة ؛
أولا: بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة المؤبدة وكل من الباشجاويش محمد محفوظ محمد والأمير الاى محمود عبد لمجيد بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة والزامهم بطريق التضامن والتكافل مع الحكومة المسئولة عن الحقوق المدنية.
(أ) بأن يدفعوا عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض للسيدة لطيفة حسين زوجة المرحوم الشيخ البنا وأولاده القصر منها وهم : وفاء وأحمد سيف الإسلام وسناء ورجاء وهالة واستشهاد المشمولين بولاية جدهم الشيخ عبد الرحمن البنا.
(ب) وبأن يدفعوا للشيخ عبد الرحمن البنا والسيدة أم السعد إبراهيم صقر والدى القتيل " قرش صاغ واحد" على سبيل التعويض المؤقت.
(ت) وبأن يدفعوا للأستاذ عبد الكريم محمد أحمد منصور مبلغ الفى جنيه على سبيل لاتعويشض.
ثانيا: بمعاقبة البكبكاشى محمد محمد الجزار بالحبس مع الشغل لمدة سنة ورفض الدعاوى المدنية قبله
ثالثا: براءة كل من مصطفى محمد أبو الليل واليوزباشى عبده أرمانيوس والبكباشى حسين كامل والجاويش محمد سعيد إسماعيل والومباشى حسين محمدين رضوان مع رفض الدعاوى المدنية الموجهة إليهم.
كان الحكم مفاجأة للعميد محمود عبد المجيد الذى أسند رأسه على يديه وعلت وجهه صفرة شديدة وظل فى مكانه بالقفص إلى أن قاده الحراس إلى السجن.
أما أحمد حسين جاد فظل يبتسم ابتسامة عريضة بعد سماع الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة وكأنه لا يدرى ما يدور حوله.
وانفجر مصطفى أبو الليل – الذى حكم عليه ببراءته – باكيا وأخرج منديله من جيبه ليجفف به دموعه. ... وكان يقول إنه يبكى على العميد محمود عبد المجيد الذى عمل معه فترة طويلة!
بعد صدور الحكم أمر جمال عبد الناصر بالإفراج الصحى عن محمود عبد المجيد فى 29 من يونيه 1955 أى بعد عام تقريبا من صدور الحكم.
وطعن محمد الجزار فى الحكم بطريق النقض ,لكن محكمة النقض قبلت الحكم شكلا ورفضته موضوعا.
وقررت الحكومة رد اعتباره بعد أن صدر حكم لصالحه من محكمة جنايات القاهرة فى 25 من نوفمبر عام 1057, وقد اشتغل بعد ذلك بالمحاماة ثم بشركة الشرق للتأمين.والتقى المخبران أحمد حسين جاد ومحمد محفوظ فى السجن بأعضاء جماعة الإخوان الذين اعتقلهم جمال عبد الناصر أو صدرت ضدهم أحكام من المحاكم التى شكلتها الثورة.
وأفرج صحيا عن سائقمحمود عبد المجيد الرقيب محفوظ عام 1960 . وافرج صحيا عن الرقيب أحمد حسين جاد فى 4 من سبتمبر عام 1967 دون أن يمضى مدة العقوبة كلها.
وافتتح عبده أرمانيوس محلا لتجارة الموبيليا بعد أن أمضى عاما فى الحبس الاحتياطى قبل نظر القضية... واختفى نص الحكم وحيثياته حتى التى كتبها رئيس المحكمة بخط يده!
وظل الإخوان طوال السنين يتساءلون: اين القصاص؟
كانت قرينة الشيخ البنا حاملا عند وفاته فوضعت بنتا أراد والده أن يسميها" دماء" ولكن مكتب السجل المدنى رفض هذا الأسم فاختار لها اسما آخر :"استشهاد".
تخرجت استشهاد محامية.ووفاء وسناء درستا التعليم النسوى ولم تعملا ورجاء مهندسة كهرباء. وهالة طبيبة وقد اختيرت عضوا فى هيئة التدريس بكلية البنات بجامعة الأزهر.
وهذا يدل على أن المرشد العام كان يؤمن بتعليم المرأة وأوصى بذلك
أما أحمد سيف الإسلام فكان محاميا وقد اشترى بقيمة التعويش بيتا وحاكمه جمال عبد الناصر واعتقله.
وتزوجت كبرى بنات الشيخ – وفاء – من سعيد رمضان أحد قادة الإخوان لاشابقين وعاشت معه فى سويسرا.
وكان فاروق بعد اعتزاله العرش وخروجه من مصر فى 26 من يوليو 1952 يعيش منفيا فى غيطاليا بلا اتباع لا أحد يحفل به أو ينافقه أو يتملقه . لا أحد يخطب وده إلا لماله.
اختفى الذين يطليون الأوسمة والألقاب والمناصب, ومن يحاول الاتصال به من المريين يلقى العنت كل العنت فى مصر من نظام الحكم الثورى الجديد.
كان فاروق أشبه بالبنا عن اغتياله.
كان الإثنان فى أيمهما الأخيرة وحيدين تغير المناخ فأصبحا فى شبه عزلة منعت الحكومة الاتصال بالبنا أما فاروق فانفض من حوله المنافقون والرعايا.
وجاءت ليلة فاروق الأخيرة.
كان يتناول عشاءه فى ملهى بمدينة روما عندما سقط فى غيبوبة ونقل إلى المستشفى فى سيارة اسعاف حيث توفى فى الثانية و8 دقائق من صباح 18من مارس عا 1965 بعد 35 يوما من احتفاله بعيد ميلاده الخامس والأربعين.
وإذا حسبنا فروق التوقيت بين القاهرة نجده قد مات تقريبا فى نفس ساعة اغتيال البنا.
ونقل فاروق إلى المشرحة فى روما – كما حدث للبنا – لمعرفة سبب الوفاة وتحنيط الجثة.
وشعيت الجنازة من الشمرحة إلى قاعة الموتى فى مقبرة " فيرانو" الخاصة بالروم الكاثوليك.
سارت وراء لانعش الملكة فريدة مطلقة فاروق وبناته الثلاثة: فريال وفوزية وفادية ومغنية الأوبرا الإيطالية إيرما صديقة فاروق خلال السنوات العشر الأخيرة التى عاشها فى المنفى بعد رحيله عن مصر!
وشيع الجثمان أيضا ابن فاروق – الملك السابق أحمد فؤاد – وكان فى الثالثة عشرة من عمره ... وهى سن تقارب عمر أحمد سيف الإسلام ... ابن الشيخ البنا الذى كان فى الرابعة عشر عند اغتيال أبيه!وبقى جثمان فاروق 12 يوما فى روما فى القسم الخاص بغير المسيحيين فى المقبرة ينتظر موافقة رئيس جمهورية مصر جمال عبد الناصر على السماح بدفن الملك السابق فى مصرتنفيذا لوصيته.
وافق عبد الناصر ولكن بشروط قاسية: ألا يشيع كملك وألا يدفن فى مقابر الإمام الشافعى.
نقل جثمان الملك فى طائرة كوميت .... تابعة لشرطة مصر للطيران وتأجل سفر الطائرة عمدا فى مطار أثينا لتصل إلى مطار القاهرة بعد منتصف الليل 31 من مارس فاستقبلته شقيقات فاروق وهن يرتدين السواد. وتأخر وصول الجثمان إلى المقابر نتيجة إجراءات الأمن . فلم تشيع الجنازة إلا فى التاسعة صباحا وسط حراسة البوليس وتحذير الناس من الاقتراب.
كانت جنازة فاروق فى نفس موعد جنازة البنا ومشابهة لها... تماما!
دفن صاحب الجلالة – كما أصر رئيس الجمهورية مصر – فى صمت وبلا احتفال ولم يدخل المقبرة ساعة الدفن من رجال الدولة إلا جندى شرطة برتبة جاويش!
وشعيت الجنازة... النساء وحدهن!وتولى الرئيس أنور السادات رئاسة جمهورية مصر فتقدمت الأميرة فوزية شقيقة فاروق تطلب التصريح بإعادة دفن أخيها فاروق فى مسجد الإمام الرفاعى بجوار أبيه.
وافق أنور السادات . ولكنه أيضا وضع شروط نفسها.. ينقل الجثمان فى سيارة الموتى السوداء وأن يعاد الدفن سرا, بلا موكب وتحت الحراسة الشديدة وفى الصباح بين الصلوات حتى لا يتجمع المصلون
وصل ما تبقى من هيكل الجثمان فى كفنه , إلى مسجد الإمام الرفاعى فى التاسعة صباحا من باب الأضرحة. قال عمال المسجد بالصلاة عليه.
وتولى الدفن الشيخ محمد حسن الذى يطلق على نفسه " حانوتى الملوك والأمراء"!
ولم يحضر عملية الدفن سوى الأميرة فوزية شقيقة فاروق . ولم يوضع شاهد على القبر إلا بعد دفن فاروق بأسبوع حتى لا يعرف الناس شيئا عند الدفن.
لقد دفن صاحب الجلالة مرتين وكانت الثانية بعد عشرسنوات من الأولى بنفس الأسلوب وفى نفس الساعة التى دفن فيها الإمام الشهيد .. البنا.