مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٠٨، ١٩ سبتمبر ٢٠١٢ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الفصل الثامن :مصر الفتاة والقصر

العلاقة بالقصر ووزاراته وهى:

  1. وزارة عبد الفتاح يحيى 1933-1934.
  2. وزارة توفيق نسيم 1934-1935.
  3. وزارتي على ماهر 1936، 1939-1940.
  4. وزارة حسن صبري 1940.
  5. وزارة حسين سرى 19401042.

تمثلت القوى السياسية المؤثرة في مصر، في قوى سياسية ثلاث هي القصر والأحزاب والإنجليز، وسوف نقتصر في هذا الفصل على دراسة علاقة مصر الفتاة بالقصر، أما العلاقة بالأحزاب وبالإنجليز فيتكون موضوع الفصلين التاليين.

وفيما يتعلق بدراسة القصر كقوة سياسية مؤثرة، فسوف تشمل الدراسة قوى أخرى تعد امتداد لقوته، ولعل في ذلك القول بعض الدراسة ، ولكننا سوف نعتبر الوزارات المصرية التي تولت الحكم لتعبر عن القصر ومصالحه في مواجهة مصالح الجماهير الشعبية، سوف نعتبرها امتدادا لقوته، وعلى ذلك فستجيء معالجة هذا الفصل لتشمل القصر والوزارات المختلفة التي يمكن أننطلق على كل منها "وزارة قصر".

ظهرت جمعية مصر الفتاة في ظل أوضاع سياسية تتسم بالتشاحن والصراع بين قوى سياسية مختلفة، فمنذ أن طبقت التجربة الدستورية في البلاد والتي توزعت فيها القوى السياسية إلى قوى سياسية كبرى

ثلاث هي القصر والأحزاب والإنجليز المحتلين للبلاد. منذ ذلك والصراع قائم بين تلك القوى للاستئثار بالسلطة دون القوى الأخرى.

وكان ظهور جمعية مصر الفتاة في ذلك الوقت مثار تساؤل واستفهام من جانب تلك القوى أهي قوة سياسية جديدة وما لونها واتجاهها ، أم هي رافد لإحدى القوى القائمة لمساندتها في مواجهة القوى الأخرى، أم هي حركة معادية لهم جميعا.

ظلت تلك القوى في حيرة من أمر هذه الجمعية الناشئة، فلما ظهر برنامجها وضم شعارها اسم الملك، اطمأن القصر من ناحيتها وأمن جانبها واعتبرها حركة مساندة له تؤيده في مواجهة القوى الأخرى.

ولما كانت شديدة الهجوم على الأجانب عامة وامتيازاتهم الأجنبية وعلى الإنجليز خاصة، فقد اعتبرها الإنجليز حركة معادية لهم على طول الخط، واعتقدوا أنها ربما كانت امتدادا لتيار معادى لهم من دول أوربا وخاصة ايطاليا وألمانيا فكان عداؤهم لها واضحا منذ البداية.

أما الأحزاب المصرية القائمة فقد انقسمت حيالها إلى قسمين ، فحزب الوفد نظر نظرة ريبة وشك خاصة وأن الحركة جعلت لملك جزءا من شعارها والوفد يعادى القصر والملك؛

أما القسم الثاني فكان أحزاب الأقلية وعلى رأسها الأحرار الدستوريين رأت في تلك الجمعية حكة سياسية متطرفة من الشباب يمكن استخدامها للنيل من الوفد الحزب الشعبي المسيطر على مقاليد الأمور في البلاد سواء كان في الحكم أن خارجه، فقد رأت فيها حركة تساندها وتدعم موقفها في مواجهة هذا الحزب الشعبي لهذا لم تر بأسا فيها وفى القائمين عليها . ولنبدأ بتحديد علاقتها بالقصر.

تألفت جمعية مصر الفتاة في عهد وزارة عبد الفتاح يحيى- وهى إحدى وزارات القصر امتداد لعهد انقلاب صدقي ولما كانت الجمعية ترى أنها موالية للقصر وللنظام الملكي وترى من وجهة نظرها أن احتلال الإنجليز لمصر قد نفذ ثغرة الخلافات بين الملك والشعب فقد أرادت الحركة منذ البداية أن تطمئن الملك وتجلب رضاءه من ناحيتها فجعلت شعارها " الله. الوطن . الملك" وقد فسر البرنامج هذا الشعار فكان " يجب أن نعبد الله وأن نعلى كلمته ، يجب أن نقدس الوطن ونفنى في سبيل مجده، يجب أن نعظم الملك وأن نلتف حول عرشه" .

ولتطبيق ما جاء في هذا الشعار، وتطبيقا لسياسة أحمد حسين كما يذكر ذلك هو في مصانعة القصر رفع نسخة من البرنامج إلى الملك ليكون أول من يطلع عليه ولكن في ذلك الوقت لم يكن هناك رد فعل لتقديم البرنامج إلى القصر،

فقد قال زكى الابراشى لأحمد حسين بعد سنوات أن الملك فؤاد اطلع على البرنامج وأنه قدره حق التقدير

"وقد استدعيت فجأة في أحد الأيام بعد أن احتدت الحوادث لمقابلة محمود فهمي القيسي باشا وزير الداخلية في وزارة عبد الفتاح يحيى- فأراني نسخة البرنامج التي كنت قد رفعتها للسراي، وأعلمني أنها حولت إليه من القصر، وأنه في الخدمة"

ولعل ذلك يفسر مدى اهتمام القصر بالحركة وإن كان ذلك قد تأخر قليلا ومن المؤكد أن وزارة الداخلية كان لديها تعليمات من القصر بضرورة مساعدة تلك الحركة وعلى الأخص تقديم مساعدات مالية لها وربما كانت المقابلة لهذا الغرض.

ولعله من المناسب هنا أن نذكر أن الابراشى وإن كان قد ذكر لأحمد حسين واقعة اطلاع الملك على البرنامج وتقديره له، فلماذا لا يكون الابراشى قد حصل على توجيه من الملك في نفس الوقت بعمل اتصالات بهذه الجمعية ومساعدتها حتى تظل على ولائها للقصر، خاصة وأنه قد تردد أخبار في حينها عن قيام علاقة بين الابراشى وأحمد حسين.

ويؤكد ذلك بعض أعضاء مصر الفتاة البارزين والذين لعبوا دورا هاما ومؤثرا في تاريخها. فإذا علمنا أن الابراشى كان من الذين يسعون لضم بعض القوى لمساندة القصر، فربما وضح الأمر حول هذه العلاقة.

وسواء كان رد الفعل لتقديم البرنامج للقصر ناتجا عن الاتصال بوزير الداخلية أو العلاقة بين أحمد حسين وزكى الابراشى فإن علاقة مصر الفتاة بالقصر تعد مؤكدة إلى حد كبير وأنها تلقت إعانات مالية كبيرة منه عن طريق الابراشى، ومن المصاريف السرية لوزارة الداخلية عن طريق وزيرها.

استطاع القصر أن يضم جمعية مصر الفتاة إلى جانب القوى الموالية له فاستمرت بينهما طيبة إلى حد كبير في البداية بدليل أن الجمعية كانت تهرع إلى ساحة الملك في مختلف المناسبات، كما أنها بدأت ترفع إليه العرائض ومنها عريضة تطلب فيها منه العمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية وقد اعتبرت مصر الفتاة نفسها جمعية مؤيدة من القصر تتجه إليه دون غيره من القوى في المقام الأول بمطالبها وخطواتها التي ترى أن تقوم بها في كفاحها الوطني وإذا كانت تلك هي صورة العلاقات مع القصر في البداية، فإنه من المهم أن نلقى نظرة على موقف وزارة عبد الفتاح يحيى منها.

وكانت خطة مصر الفتاة في علاقتها بالوزارات المصرية المختلفة تهادنها فترة عند توليها الحكم ثم لا تلبث أن تهاجمها إذا أدركت أنها لا تحقق ما تنادى وتعمل على تحقيق جزء من برنامجها، ومن ناحية أخرى فإن مصر الفتاة كانت ترى منذ البداية أنها حركة إصلاحية تهتم بالاقتصاد والتعليم ومختلف النواحي؛

ولكن بعض قادتها صرح بأن كفاح مصر الفتاة إن لم يكن موجها ضد الإنجليز أس هذا الفساد الذين يحاولون العمل لإصلاحه فلا قيمة لكفاحها، ومنذ ذلك الحين ومصر الفتاة تشن هجوما عنيفا على الأجانب عامة كما تمثل ذلك في مهاجمة الامتيازات وعلى الإنجليز خاصة باعتبارهم المحتلين لتلك البلاد وسبب تخلفها ومصدر فساد شئونها ، فكان هجومهم هذا مصدرا لحدوث صدامات بينهم وبين تلك الوزارات سواء كان هجوما على الوزارات أم على الأجانب والإنجليز.

نشرت مجلة مصر الفتاة "الصرخة" عددا من أعدادها بمناسبة عيد الجهاد الوطني في 13 نوفمبر 1933 اتسم ذلك العدد بالعنف والتطرف، فكان أحد المقالات التي حواها بعنوان " يا شباب 1933 كن شباب 1919" وقد رأت فيه الحكومة القائمة دعوة للثورة، فاستصدرت أمرا من النيابة بالقبض على كل من أحمد حسين وفتحي رضوان وحافظ محمود باعتباره رئيس تحرير المجلة وظلوا بالحبس لمدة ثلاثة وعشرين يوما.

وكان هذا أول صدام بين الوزارة ومصر الفتاة، توالى بعده القبض على أعضاء وقادة جمعية مصر الفتاة وإيداعهم السجن، ومصادرة مجلتهم لاتباعها خطة العنف والتطرف في معالجة الأمور.

ولكن مصر الفتاة اشتدت في العنف في مهاجمة وزير الحربية والبحرية فيما يختص بالجيش فكان ذلك موضوعا أثار الوزارة ضد مصر الفتاة وكان له مباشرة على تصرفاتها، لأهمية ذلك الموضوع سوف نعرض لتفاصيله.

انطلاقا من فكر مصر الفتاة المبكر في ضرورة بث النظام والطاعة بين صفوف الجماهير فقد اهتمت بالجيش على اعتبار أنه المدرسة الوطنية الوحيدة التي تحقق بغيتها في بث النظام والطاعة والخلق القويم.

فتقدم نفر من أعضائها إلى وزير الحربية- صليب بك سامي- بطلب انضمام إلى الجيش المصري على أن تكون مدة الخدمة به سنة واحدة بدلا من خمس سنوات وأن يطبق نظام التجنيد على كل الشباب من أبناء مصر وأن يلغى نظام البدل النقدي الذي حول الجيش والانضمام إليه عنوانا على الفقر والفاقة.

وفى نفس الوقت كتب أحمد حسين مقالا على شكل خطاب وجهه إلى وزير الحربية هاجم فيه الجيش القائم ووصفه بأنه جيش من المرضى والضعفاء والجهلاء يخضع لرئاسة اسفنكس (باشا) مفتش الجيش المصري.

وقد هدد أحمد حسين في نهاية المقال بأنه إذا رفض طلبهم في الانضمام إلى الجيش فسينضمون إلى الجيش العراقي، ويهاجم وزير الحربية ويصفه بأنه ما هو إلا موظف في وزارة الحربية البريطانية.

رأت وزارة الحربية في هذا المال مساسا بشخص الوزير فاعتقلت الحكومة أحمد حسين كاتب المقال وأحمد الشيمى رئيس تحرير المجلة الذي وافق على النشر وأودعتهما سجن الاستئناف.

وقد توالى هجوم مصر الفتاة على الجيش والوزير وطالبته بأن يعمل على تسليح الجيش، ورغم هذا فقد ظلت القضية المتهم فيها أحمد حسين والشيمى منظورة أمام القضاء حتى أصدرت محكمة الجنايات حكمها بعد أن أبدى أحمد حسين دفاعا طويلا أمامها، وشارك في الدفاع عنهما كل من عبد الرحمن الرافعي و فكرى أباظة ويقضى الحكم بغرامة 25 جنيها لكل منهما وقد رفض أحمد حسين دفع الغرامة ولكم مصلحة الجمعية اقتضت خروجه من السجن فدفعها بعد حبس دام أسبوعين.

ولما لم تجب مصر الفتاة إلى طلبها في الانضمام إلى الجيش المصري تقدم رئيسها أحمد حسين بطلب التطوع في الجيش العراقي بخطاب أرسله إلى المفوضية العراقية في مصر،ولكن المفوضية ردت عليه بأن الخدمة في الجيش العراقي مقصورة على العراقيين.

اشتدت مصر الفتاة بعد دخول قادته السجن مرتين في الهجوم على الوزارة وعلى الإنجليز، فانتقدت سياسة الملاينة والملاطفة التي يتبعها رئيس الوزراء تجاه الإنجليز موجهة إليه نقدا شديدا وتسأله الحساب عما قدمه لشعبه، مطالبة إياه وزملاؤه الوزراء بأن يتقصوا طريق كل من موسولينى وهتلر وما قدماه لشعبهما.

وعلى أثر هذا الهجوم بدأت وزارة الداخلية تتخذ الخطوات الفعالة للحد من نشاط تلك الجمعية وتعقب أفرادها، فوزعت إدارة الأمن العام كتابا دوريا على المديريات تطلب منها فيه العمل على عدم نجاح هذه الحركة.

كان ذلك الكتاب تفويضا لمديريات الأمن المختلفة كي تمارس نشاطها بحرية أكثر في تشديد قبضتها على أعضاء مصر الفتاة أو من يشتبه فيه على أنه عضو بالجمعية المذكورة، فقامت باتخاذ إجراءات قاسية ضدهم وأصبحوا عرضة للاضطهاد والظلم وقد بلغ الاضطهاد والمطاردة مداها حتى بلغ الأمر بأحد أعضاء الجمعية أن يطالب سكرتيرها العام بأن تكون الجمعية سرية تعمل على نشر مبادئها سرا وضرب أمثلة بجمعية " الكاربونارى" فى ايطاليا وجمعية " الاتحاد والترقي" في تركيا.

وقد استمرت العلاقات متوترة بين الجمعية والحكومة على ما هي عليه بل ازدادت اتساعا حتى بلغ عدد من دخل السجن من أعضائها خلال العام الأول لها خمسين عضوا هذا فضلا عن تعرض الكثير منهم ومن الأعضاء الآخرين إلى تفتيش منازلهم. وبعد نهاية ذلك العام بقليل استقالت وزارة عبد الفتاح يحيى وتولت وزارة توفيق نسيم فبدأت مرحلة جديدة من العلاقات بينها وبين مصر الفتاة.

استقبلت مصر الفتاة وزارة توفيق نسيم استقبالا حسنا كخطتها الدائمة خاصة وأنها أدركت أن الحكومة تنوى إطلاق الحريات للمواطنين. فكان من الأجدر بمصر الفتاة أن ترحب بها لما عانته من اضطهاد في عهد الوزارة السابقة، ولما قامت به تلك الوزارة من استصدار أمرملكى في 30 نوفمبر 1934 بإلغاء العمل بدستور 1930 وحل المجلسين.

وقد قرب ذلك العمل الوزارة من الشعب وخاصة وأنه في بداية توليها الحكم، فأدرك الشعب أن الوزارة تعمل على عودة دستور 1923 وإطلاق الحريات. ثم بدأت تظهر الخلافات بين الجانبين فلم يكد يمضى شهر على تولى الوزارة الحكم حتى بدأت الصدامات بينهما، فمصر الفتاة تشكو من تتبع القلم السياسي بوزارة الداخلية لنشاطها واضطهاد أعضائها بتقديمه تقارير ملفقة إلى الداخلية خاصة بالجمعية واعتبارها جمعية خطرة على الأمن وأنها فوضوية ومهيجة.

فبدأت مصر الفتاة تشن هجوما على الحكومة متهمة إياها بالتفريط في حقوق الأمة وخضوعها للانجليز ثم تعود فتمدحها لأنها سمحت بإقامة حفلة افتتاح دارها الجديدة، وأثنى أحمد حسين على الوزارة وصرح بأن الجمعية تؤيد الوزارة طالما أيدت الحريات.

ظلت العلاقات طيبة بين مصر الفتاة ووزارة توفيق نسيم، وذلك لإطلاقها الحريات فلما تلكأت الوزارة في العمل على تحقيق مصالح البلاد القومية، وتهاونت في إعادة دستور البلاد دستور 1923 المعطل اشتدت مصر الفتاة في الهجوم على الوزارة وطالبتها على الأقل بإزالة القيود المفروضة على الصحافة وأن تترك لها الحرية بعد أن عطلت البرلمانات.

وقد حاول أحمد حسين أن يلتقي برئيس الوزراء عدة مرات ولكنه لم يسمح له بذلك وربما كان لهذا الموقف أثره في تشدد أحمد حسين في هجومه على وزارته فوصفها بأنه وزارة مترددة ضعيفة، يتحكم فيها الإنجليز وتعمل بوحي من إرادتها وكأن قصر الدوبارة قد أصبح المرجع الأول لها والأخير كما ذكر أحمد حسين ولعل هذا الهجوم على الوزارة كان مبررا لها في أن تسلك مسلك سالفتها في معاملة أعضاء مصر الفتاة.

اتبعت الوزارة كرد فعل للهجوم عليها أسلوبا عنيفا ضد جمعية مصر الفتاة وكرد فعل من جانب مصر الفتاة لمصادرة الوزارة للاجتماعات وتطبيق القوانين الاستثنائية وعدم الاهتمام بإعادة الدستور، اشتدت في مخاصمتها لها إلى الحد الذي جعلها تطالبها بالاستقالة وقد استمرت مصر الفتاة في حملتها التي شنتها على الوزارة ووصفتها بأنها عقبة كأداء في سبيل الأمة؛

وانتقلت من الهجوم على الوفد لسكوته عليها بأن في السياسة البريطانية وإبقاء على صلته بالوزارة النسيمية التي وعدته بأن تخلى له الطريق إلى كراسي الحكم. وانتقلت للهجوم على الإنجليز وعلى نواياهم في "عقد معاهدة تجارية" مع مصر وكيف أن الوزارة تنفذ مشيئتهم وتحقق رغباتهم.

ارتفع معدل التوتر بين الطرفين وقد كان محك ذلك مطالبة مصر الفتاة الوزارة بإعادة الدستور "دستور 1923" باعتبار أنه مطلب الأمة جميعا، وعلى حد تعبير جمعية مصر الفتاة في هذا الشأن " أعيدوا الدستور وحذار من التسويف، فإن غضب الأمة وسخطها مخيف لا يبقى ولا يذر، أما ما يريده الإنجليز ثمنا لهذا الدستور فإن مصر بأسرها ترفض أن تمنح الإنجليز مزايا جديدة على حساب الفلاح المصري وعلى حساب الاقتصاد والمالية المصرية، أعيدوا الدستور فهو حقر لنا سواء رضيت انجلترا أو لم ترض".

توجه نسيم باشا بكتاب إلى الملك في 17 أبريل 1935 يقترح فيه إعادة دستور 1923 بعد تنقيحه كما ينص على ذلك الدستور، وإذا رأى جلالته أي شيء فيه يمكن تنقيحه للصالح العام، أو يوضع دستور تقره جمعية تأسيسية وطنية تمثل البلاد تمثيلا صحيحا يختار أعضاؤها من مختلف الهيئات والطبقات. ووافق الملك على إعادة دستور 1923.

وقد اعتبرت مصر الفتاة ذلك الكتاب مسوغا للوزارة كي تعيد إلى الأمة دستورها ولما كانت وزارة نسيم تنفيذ مشيئة الإنجليز، فقد اقتنعت بالتبليغ الشفوي الذي أبلغه لها المندوب السامي البريطاني بأن بريطانيا تعارض في عودة الدستور في ذلك الوقت، ولكنها ترى وضع دستور جديد تقوم به لجنة حكومية على أن تمثل بها الأحزاب السياسية.

وقد استسلمت وزارة نسيم لهذا التبليغ، ولكن مصر الفتاة يبدو أنها كانت لا تقدر حقيقة موقف وزارة نسيم حق التقدير فاشتدت في الهجوم عليها، وطالبت توفيق نسيم أما أن يعيد الدستور وأما أن يستقيل ويخلى مكانه لوزارة تكون قادرة على تنفيذ إرادة الملك في عودة الحياة النيابية.

اشتدت الأزمة حول إعادة الدستور بين وزارة نسيم والحكومة البريطانية وقد زاد الأزمة تصريح صمويل هور وزير خارجيتها بأن حكومته لا ترى إعادة دستور 1923 لعدم صلاحيته للعمل، ولا دستور 1930 لأنه لا ينطبق على رغبات الأمة.

وفى أثناء ذلك قامت المظاهرات احتجاجا على ذلك التصريح، ولكنا نرى لمصر الفتاة موقفا سابقا على ذلك التصريح فقد قامت بإعداد المنشورات التي تهاجم فيها الوزارة وقبولها التبليغ البريطاني وعدم إعادة الدستور، وطالبت بإعلان عدم الثقة بها لجميع ما يصدر عنها من تصرفات؛

وطالبت أيضا بالتوجه إلى جلالة الملك بالرجاء في إسقاط هذه الوزارة وتولية وزارة أخرى تكون أقدر منها على تلبية إرادة جلالته السامية في رد الدستور والزود عن حقوق البلاد واستقلالها، وتنظيم مظاهرة قانونية بإذن السلطات يوم 12 أكتوبر 1935 يعبر فيها الرأي العام عن إرادته في إعادة الدستور. تلك كانت بعض قرارات مجلس جهاد جمعية مصر الفتاة فيما يختص بموقفها من الوزارة ومن عودة الدستور.

هرع أحمد حسين إلى القصر الملكي فرفع رسالة إلى الملك تطبيقا لقرارات مجلس الجهاد، فطالبه بإقالة الوزارة وتشكيل وزارة تكون أكثر قدرة منها فقال:

"إن مصر بأسرها باتت تئن من تلك الوزارة.. إن مصر بأسرها تتطلع إليكم لإنقاذها من هذه الوزارة.. وإني باسم ألوف من الشباب المصري باسم جنود مصر الفتاة المجاهدين أرفع هذه العريضة إلى سدتكم العالية متلمسا إقالة هذه الوزارة وتشكيل وزارة أكثر قدرة منها على تحقيق رغائب جلالتكم وإرادة الأمة، وزارة تكون أكثر حرصا على استقلال مصر وحقوق مصر، وزارة تعرف كيف تحمل الإنجليز على احترامنا، وزارة ترد للأمة حريتها وتجمع صفوفها وتعلن دستورها وتحقق استقلالها".

لم يكد أحمد حسين يهرع إلى الملك بطلب إقالة الوزارة حتى كان تصريح صمويل بعده بأيام قلائل، قد تعقد داخليا وخارجيا، فقد اشتدت المظاهرات حتى بلغت قمتها في عيد الجهاد الوطني مما أفضى إلى "ثورة" 1935 ، فاشتدت مظاهرات الطلبة حدة وهى التي كانت موجهة في المقام الأول ضد الإنجليز، وإن كان البعض يرى أن المظاهرات كان لها هدف داخلي بأن تضغط على الوفد حتى يوافق على وجهة نظر الطلبة في تكوين وزارة ائتلافية دون قيد أو شرط.

وكنتيجة لذلك الموقف الداخلي والخارجي تقاربت الأحزاب السياسية وتألفت منهم "الجبهة الوطنية" التي طالبت الحكومة البريطانية بالعودة إلى المفاوضات لعقد معاهدة تحدد علاقة مصر بانجلترا.

وفى خلال كل هذه التطورات حول الأزمة لإعادة الدستور لم تلق مصر الفتاة بسلاحها لمهادنة وزارة نسيم ولكنها كلما تأخرت عودة الدستور اشتدت في مخاصمتها، وكرد فعل من جانب الوزارة أخذت تصادر اجتماعات الجمعية وتضيق الخناق وكان ذلك مثار قضايا بين الطرفين ، فمصر الفتاة تقاضى رئيس الوزراء لمنعه اجتماعا لها بعد التصريح به.

والوزارة تقدم العديد من أعضاء الجمعية إلى المحاكمة عليهم بغرامات مالية متفاوتة. وعلى هذا فقد كانت العلاقات بين وزارة توفيق نسيم ومصر الفتاة علاقة مواقف مختلفة وأخطاء ارتكبتها وزارة نسيم ولم تقبلها مصر الفتاة وسألتها الحساب واحتدت معها فيه، فكانت الصدامات بينهما، ووزارة كوزارة نسيم لا حول لها ولا قوة أمام بطش الإنجليز

وخاصة وأنها وزارة تفتقد لسند شعبي، فهي وزارة مهلهلة تحكم بإرادة قوى سياسية متعارضة إذ أنها خاضعة للانجليز تماما وتنفذ إرادتهم وسياستهم، ولما كانت هي الوزارة الوحيدة التي رضي عنها الوفد وساندها فقد كانت حريصة على أن تعمل على إرضائه وأن تمهد له الطريق، وفى النهاية فهي في آخر الأمر إحدى وزارات القصر خاصة وأن توفيق نسيم كان رجل القصر ورئيس الديوان الملكي من قبل فلابد وأن تعمل بوحي منه وتنفذ سياسته، والتوفيق بين تلك الأطراف الثلاثة المتنافرة معادلة صعبة لا تقوى وزارة كوزارة نسيم على حلها.

ولعل ذلك يدعونا إلى أن نبين علاقة مصر الفتاة بالقصر وكيف كان موقفه من كلا الطرفين، خاصة وأن على ماهر باشا صديق مصر الفتاة تولى رئاسة الديوان الملكي في عهد تلك الوزارة.

أما عن موقف القصر من تصرفات وزارتي عبد الفتاح يحيى وتوفيق نسيم حيال جمعية مصر الفتاة ، فإنه يجدر بنا أن نشير إلى أن الملك فؤاد قد سقط فريسة مرض خطير استمر طوال عام 1934 وحتى وفاته عام 1936 ونشأ عن ذلك أن أصبح الابراشى باشا ناظر الخاصة الملكية هو الحاكم الحقيقي للبلاد، مما أثار الاستياء والتذمر في جميع الأوساط وقد انعكس ذلك على الإنجليز أيضا ، فكان أحد مطالبهم من وزارة عبد الفتاح يحيى التي لم تستجب لها طرد الابراشى (باشا) من القصر.

ولعل ظروف الملك طوال العام جعلت أمور القصر غير مستقرة ، فلم يتخذ ما يخفف الضغط على مصر الفتاة، ومن ناحية أخرى لعل الابراشى لم يجد ما يدعوه إلى التعامل مع مصر الفتاة، بطريقة مكشوفة فكان يساعدها في الخفاء ونزيد على ذلك تفسيرا ثالثا وهو تركها تتعرض لما تعرضت له بدافع من التمويه حي لا تظهر بأنها مؤيدة من القصر فيكون ذلك مبررا للانجليز فيتشددوا في تضييق الخناق عليها وخنقها وهى ما زالت في المهد.

ومهما يكن المر فإن علاقة مصر الفتاة في تلك الفترة كان يشوبها شيء من الفتور وتمت في إطار من السرية وخاصة وبعد أن فقدت ركيزتها فيه بخروج الابراشى (باشا) ورغم هذا فإن أحد تقارير المندوب السامي البريطاني إلى الخارجية البريطانية يشير إلى أن القصر كان يرعى جمعية مصر الفتاة ويدافع عنها؛

ويتضح ذلك عندما صادرت الحكومة عددا من أعداد المجلة "الصرخة" كان يحتوى على عنف وتطرف في مهاجمة السياسة البريطانية ووسائل الاستعمار، ومما جعل السلطات البريطانية تعتقد اعتقادا راسخا بأن الجمعية تتلقى التأييد من القصر، أن الموظف الذي صادر هذا العدد من المجلة قد أنب رسميا عن طريق مراد (باشا) محسن وكيل الديوان الملكي، فالقصر لا يؤيد الجمعية التي تناصب بريطانيا والأجانب العداء فحسب بل أنه اعترض على مصادرة عدد من مجلتها يضم مقالة عنيفة ومتطرفة تهاجم بريطانيا.

وقد حاولت مصر الفتاة أيضا أن تظل على علاقة بالقصر وبدوائره فقد أرسل أحمد حسين رئيس الجمعية فتحي رضوان سكرتيرها العام إلى قصر عابدين بعد طرد الابراشى (باشا) ناظر الخاصة الملكية من القصر(1935)، يحمل معه مجموعة كاملة من مجلة "الصرخة" لكي يوضح لدوائر القصر أن المجلة تؤيده، ولكي يبين لهم أيضا أن شعار الجمعية هو (الله. الوطن. الملك) ولقد قابل فتحي رضوان عبد الوهاب طلعت لهذا الغرض.

وعندما عاد من زيارته للقصر بدا عليه أنه راض تماما عن هذه المقابلة. وفى الأيام القليلة الماضية أرسل أحمد حسين أيضا عبد الرحمن العيسوي إلى عبد الوهاب طلعت ليطلب منه تبرعا لجريدة "وادي النيل" من جانب القصر، ولقد قرر العيسوي بعد عودته من لقاء عبد الوهاب طلعت أنه قال له هؤلاء الشبان ممتازون ومخلصون ولكن تنقصهم الخبرة والتجربة. ولعل ذلك في حد ذاته يوضح إلى أي مدى كانت دوائر القصر تعطف على مصر الفتاة.

لم يؤثر خروج الابراشى من القصر على التأييد الذي كانت تناله مصر الفتاة بل أن الأحداث التالية جاءت مواتية تماما، فبتعيين على ماهر في رياسة الديوان الملكي قد صار ركيزة جديدة في القصر بل ربما ألصقتها بالقصر وبدوائره بدرجة أكبر تفوق ما كانت عليه في الماضي؛

وسوف نحدد علاقة مصر الفتاة بالقصر في ضوء حركة على ماهر تجاه مصر الفتاة وهدفه من وراء التعاون معها، وهدفها من ربط عجلتها به سواء وهو في رياسة الديوان أم هو رئيسا للوزراء. ولعل هذه الفترة من العلاقات بين مصر الفتاة والقصر تحمل فئ طياتها علامات وسمات سنكشف عنها فيما يلي.

تواترت الأخبار عن قرب تولى على ماهر (باشا) رياسة الديوان الملكي خلفا لسلفه أحمد زيور (باشا) الذي استقال من منصبه لسوء الأوضاع السياسية نتيجة للأزمة السياسية التي مرت بها البلاد، فقد سعت مصر الفتاة إلى أن تقيم علاقات طيبة مع رئيس الديوان الملكي المرتقب، وقام فتحي رضوان بتلك المهمة بتفويض من أحمد حسين، فتوجه إلى على ماهر في منزله بالجيزة يوم 3 مايو 1935 حيث تعرف عليه فأكد تأييد مصر الفتاة له.

ونحن نجهل ما تم في هذه المقابلة سوى أنه منح فتحي رضوان مبلغ خمسة جنيهات قيمة اشتراكه في جريدة "وادي النيل" وفى 5 مايو صدرت الجريدة المذكورة وهى تحمل في طياتها مقالا افتتاحيا بعنوان " رئيس الديوان الملكي وماذا يستطيع أن يفعله لبلاده ومليكه" تحدث فيه عن أهمية هذا المنصب وخطورته فهو حلقة الوصل بين المؤسسات الدستورية في البلاد، ويطالب فيه رئيس الديوان المرتقب دون أن يصرح من هو أن يدرك بالضبط واجبه وأن يعرف أن مصر تتمزق وتتفتت معنوياتها لهذا الصراع بين هيئاتها فيجعلها أضعف من أن تقف أمام انجلترا القوية.

وفى نفس العدد أيضا مقال بعنوان "رئيس الديوان الملكي المتوقع" وقد أكد فيه كاتبه أنه بكل تأكيد على ماهر (باشا) الذي سوف يقبل المنصب الذي عرض عليه موضحا أن هذه المعلومات نقلا عن على ماهر باشا نفسه، وفى العدد التالي من الجريدة أيضا بتاريخ 6 مايو نشرت الجريدة مقالا عن نفس الموضوع بعنوان " على ماهر باشا ما إذا كان منصب رئيس الديوان قد عرض عليه".

وفى مقال آخر بعنوان " على ماهر باشا ورياسة الديوان الملكي، معارضة الوفد والوزارة" بتاريخ 10 مايو وفيه يوضح الكاتب أن رياسة الديوان قد عرضت على على ماهر وقد أحست الوزارة بهذا المعنى فتجهمت له، واستعانت بالمندوب السامي البريطاني لإيقاف تعيينه في ذلك المنصب، ولكن المندوب السامي كان قد أعلن موافقته على هذا التعيين مع على ماهر نفسه، والوزارة تخشى من هذا التعيين تدخل على ماهر باشا كما كان الابراشى باشا يفعل، والوفد يرى أن شغل على ماهر لهذا المنصب سيؤثر على مجريات الأمور لغير صالحه.

وفى حقيقة الأمر فإن مصر الفتاة قد سعت لإقامة علاقات صداقة بينها وبين على ماهر حتى قبل توليه منصب رئيس الديوان ، فقد تلقفت الكرة حتى قبل أن تبدأ المباراة، فهي حريصة كل الحرص أن تقيم علاقات وطيدة مع القصر ورجاله، وأن تكون شخصية الركيزة التي تتعامل معها شخصية قيادية ومؤثرة. فقد تبنت قضية تعيين على ماهر وقامت بالدعاية الواجبة له في جريدتها مؤيدة تعيينه، وبذلك تبدأ مرحلة جديدة ومتميزة في العلاقات بينها وبين القصر ورجاله.

سبقت علاقة مصر الفتاة بعلي ماهر توليه منصب رئيس الديوان فبالأحرى أن تزداد العلاقات توثقا بعد شغله ذلك المنصب، فقد كانت الاتصالات بينهما دائمة، ولم تنقطع تلك الاتصالات حتى في فترة انتقال دوائر القصر إلى الإسكندرية في فصل الصيف ، ففي نهاية عام 1935 تعرضت أنشطة مصر الفتاة للخمول وتوقفت الاجتماعات؛

فتوجه أحمد حسين إلى الإسكندرية والتقى بعلي ماهر على موعد تليفوني بينهما، وبعد عودته قرر أن الجمعية سوف تسترد نشاطها وتستأنف جهادها بإعادة عقد الاجتماعات في دار الجمعية كانت وزارة نسيم قد حرمت عقدها والطواف في البلاد المختلفة لنشر الدعوة للجمعية.

ويبدو أن أحمد حسين عرض عليه حالة الكساد التي تتعرض لها الجمعية فتعهد له على ماهر بإتاحة عقد الاجتماعات واستعادة النشاط ومن المؤكد أنه زوده بمبالغ من المال تبعث الحياة في كيان الجمعية، ومن الواضح أن على ماهر كان يرمى إلى خطة معينة من جراء اتصاله بتلك الجمعية سوف تتضح أكثر فيما بعد، وهو ما سنعرض له في حينه.

استمر معدل النمو في توثيق العلاقة بين على ماهر ومصر الفتاة في ازدياد مطرد ، حتى أن مصر الفتاة كانت تعتبره الأب الروحي لها- إذا صح ذلك التعبير- فكانت تهرع إلى القصر في مختلف المواقف السياسية، فمثلا رفعت التماسا إلى الملك بأن تلتزم مصر جانب الحياد في النزاع الحبشي الايطالي.

وهى في ذلك لا ندرى حقيقة الموقف، إذا كانت تعمل بوحي منها أو بتوجيه من على ماهر فليس هناك وضوح حول تلك النقطة وربما كانت تعبر عن اتجاه القصر وسياسته وخاصة وأن على ماهر هو المسئول عنها في ذلك الوقت وإن لم يكن في ذلك يعبر عن رأيه الشخصي في هذا الشأن.

ولا شك في أن مصر الفتاة قد تلقت المزيد من العون المالي والتشجيع على ازدياد حركتها فيما تبقى من عام 1935 إلى أن يسافر رئيسها وسكرتيرها العام إلى لندن في نهاية ذلك العام، وعند عودتهما سيجدان على ماهر يتربع على كرى الوزارة فقد تولى رياسة الوزارة وهى إحدى وزارات القصر ولعل ذلك يعطى إحساسا بأن الخط البيان للعلاقة بعلي ماهر والقصر يوالى ارتفاعه.

وقبل أن نتولى تقييم الفترة فإن الموضوع التالي يفرض نفسه علينا كي نعرض له كتقييم لنهاية مرحلة تبدأ قبل تولى على ماهر رياسة الديوان، وأعنى به محاولة مصر الفتاة إقامة علاقات مع الخديوي السابق عباس حلمي الثاني.

سبق أن ذكرت بأن العلاقات بين مصر الفتاة والقصر بعد خروج الابراشى منه شابها شيء من الفتور، فبدأت مصر الفتاة تتجه اتجاها آخر وربما كان الاتجاه المضاد تماما لاتجاه القصر وسياسته.

حاولت مصر الفتاة في تلك الفترة إقامة علاقات بينها وبين الخدين عباس حلمي الثاني في منفاه، وقد تولى الوساطة بين الطرفين عبد الخالق باشا مدكور والذي كان قد أعلن انضمامه لجمعية مصر الفتاة من قبل.

وفى تلك الفترة حاول مدكور من جانبه أن يمهد لإقامة تلك العلاقة بل ربما كان هو بطلها، فقد كان يتردد على الخديوي في جنيف وفى حيفا والقدس بفلسطين إذ كان الخديوي يتردد عليهما. وخلال تلك اللقاءات كان مدكور يحادث الخديوي عن الجمعية وبادئها وأغراضها حتى استطاع أن يحصل على تأييده لها والوعد بمساعدتها فئ المستقبل.

كانت مصر الفتاة تتوجس خيفة أن ينتشر خبر ذلك الاتصال بالخديوي فقد قصرت العلم به على كل من أحمد حسين وفتحي رضوان ومحمد على علوبة، ومع هذا فقد تسرب الخبر إلى خارج هؤلاء، فقد وجه مندوب جريدة روز اليوسف سؤالا إلى علوية باشا حول هذا الموضوع بقوله هل هناك حقيقة مهمة خاصة بمصر الفتاة يقوم بها مدكور باشا في مقابلته للخديوي، ولكن الباشا كذب ذلك الخبر ونفاه نفيا قاطعا، وأبلغ أنه مستاء جدا لتسرب خبر ذلك الموضوع، وقد علق أحمد حسين آمالا كبارا على ذلك الاتصال.

فلما عاد مدكور باشا من رحلته هرع أحمد حسين إلى لقائه كي يطمئن على موقف الخديوي منه ومن الجمعية، وفى نفس الوقت توجه وفد من الجمعية لتهنئة مدكور باشا بالعودة يضم كل من فتحي رضوان وأحمد الشيم ومحمود طاهر العربي، وقد أكد لهم مدكور أن الخديوي يعرف كل شيء عن الجمعية ووعد بأنه سيساعدها ماليا ويدعم جريدتها "وادي النيل"

وقد ذكر مدكور في حديثه لأحمد حسين أن الخديوي لا يهمه مطلقا مسألة عرش فلسطين أو سوريا ولكن هناك مفاوضات بينه وبين الإنجليز حول عرش يهمه كثيرا جدا، وأهم من فلسطين وغيرها.

ولعل في ذلك القول من جانب مدكور ظل من الحقيقة، فإن انجلترا كانت في شك من أمر الوصية التي أعدها الملك فؤاد لولاية العرش ، ومن هم الأوصياء وهل هم أشخاص ترتاح إليهم انجلترا وتأمين جانبهم، وخاصة وأن الوضع في المنطقة كان ينذر بالتوتر، فالنزاع الحبشة الايطالي يهدد انجلترا ووضعها في مصر، هذا فضلا عن أن صحة الملك فؤاد كانت متدهورة إلى الحد الذي يجعل بريطانيا قلقة على مستقبل الأوضاع في مصر، فلا مانع لدينا من قبول ذلك القول من أنها فكرت في حل تلك المسألة وإيجاد البديل فيما إذا تطورت الأوضاع في مصر على غير ما ترى.

وإن مما أكد لنا أن هذه العلاقة قامت بين مدكور والجمعية حول الاتصال بالخديوي السابق أن عز الدين عبد القادر عضو مجلس جهاد جمعية مصر الفتاة كان قد توجه إلى فلسطين بدون جواز سفر وكان على اتصال بأحمد حسين الذي كان كلفه بأن يتصل بمدكور باشا أثناء إقامته في القدس فتوجه إليه ولكن مدكور طلب أن يلقاه في حيفا بعد ذلك، فالتقى به هناك حيث مهد له فرصة لقاء الخديوي على يخته الخاص "نعمت الله"

وكما يذكر عز الدين نفسه أن لقاءه بالخديوي كان على اعتبار أنه أحد أبناء رجال الحزب الوطني البارزين والمعروفين لدى الخديوي، فهو ابن عبد القادر محمد توفيق بن عبد القادر باشا فهمي وبهذه الصفة استطاع أن يلتقي بالخديوي ويشرح له رغبته في السفر إلى الحجاز سيرا على الأقدام فقدم له بعض المساعدات المالية، وقد حضر اللقاء عبد الله البشرى سكرتير الخديوي، ويؤكد عز الدين أن هذا اللقاء كان بوحي منه شخصيا وليس بتوجيه من مصر الفتاة. ولكن يمكن القول أن المقابلة كانت بتعليمات من أحمد حسين في خطاباته إلى عز الدين وهو بفلسطين.

كانت محاولة مصر الفتاة الاتصال بالخديوي تدل دلالة واضحة على أنها تعمل على تدعيم جمعيتها بأي شكل من الأشكال، فسواء هي التي سعت لإقامة تلك العلاقة أو أن مدكور هو الذي جرها إليها لمصلحته الشخصية فمن المؤكد أنه كان أحد أنصار الخديوي والذين يهمهم أن يروجوا له أن في مصر ركائز سياسية يمكن أن تساند حكمه إذا تغيرت الأوضاع وفضلت انجلترا إعادته إلى عرشه، وجمعية كمصر الفتاة التحى توصف بالتطرف يمكن استغلالها في هذا الشأن، وهنا سؤال يفرض نفسه وهو كيف تسمح جمعية مصر الفتاة لنفسها بإقامة علاقات مع الخديوي عباس حلمي وهى تعلم تمام العلم أن مجرد ذكر اسمه في مصر يهز أركان القصر الملكي؟

من الواضح أن مصر الفتاة كانت على استعداد أن تتعاون مع الشيطان كي تصل إلى هدفها المبكر في إعادة مجد مصر على يديها كما تعلن ذلك فهي لا ترى مانعا من التعاون مع أية قوة داخلية كانت أن خارجية تقربها من هدفها، ولكن سواء استفادت مصر الفتاة ماديا عن طريق ذلك الاتصال، أو أنها لم تستفد ، فإنه بمجرد أن بدأ يظهر في الأفق تولى على ماهر رياسة الديوان على نحو مار أينا فقد أوقفت تلك المحاولات من جانبها للاتصال بالخديوي وهى تتوجس خيفة من أن يظهر للقصر ما بدر منها في هذا الموضوع.

عاد أحمد حسين من أوربا ليجد أن كبار مؤيديه يتولون الوزارة فكما كان على ماهر رئيسا للوزارة، فقد تولى علوبة باشا وزارة المعارف، وتولى حسن صبري وزارة المواصلات والتجارة والصناعة.

ويتضح ذلك من خطاب أرسله أحمد حسين وهو في جنيف إلى فتحي رضوان بعد أن نما إلى علمه تأليف الوزارة " قضى الأمر وجاءت التجربة الشديدة وكم كنت أحب أن تتأخر ..

فالوزارة الآن ذات عطف على مصر الفتاة ابتداء من رئيسها وثلاث وزراء فيها أو بالأحرى اثنين علوبة باشا وحسن صبري الذي قابلناه في لندن أخيرا" وإذا كان هذا هو إحساس رئيس مصر الفتاة تجاه الوزارة فقد كانت الوزارة أيضا قد شرعت في الاعتراف بمصر الفتاة كهيئة جديرة بالاحترام، وقد اتضح ذلك من خلال المقابلات التحى تمت بين رئيس الوزراء وأحمد حسين، وفى ظل هذه الظروف المواتية أخذ أحمد حسين يعمل على تثبيت دعائم جمعيته وتنظيم أعمالها الإدارية وماليتها بما يتفق واستقبال العهد الجديد.

استمرت العلاقات بين وزارة على ماهر ومصر الفتاة طيبة وربما كانت أولى فترات الازدهار التي مرت بها مصر الفتاة، ولكن ربما كانت العلاقة بينهما على استحياء خاصة وأن وزارة على ماهر كانت مهمتها تنحصر فى إجراء الانتخابات؛

فعلاقة رئيس الوزراء بأحمد حسين وجمعيته كانت سرية أكثر منها علنية، ولكن دار المندوب السامي كانت تعلم بها وتتعقبها وتبعث بالتقارير إلى لندن وتنظر إلى نشاطها بعين الحذر بل الاستياء، متهمة إياها بأنها تعمل على إثارة الاضطرابات ، ونشر دعاية ثورية على نطاق واسع وأنها تهدف من وراء ذلك إلى إحراز مكاسب من خلال الارتباك الموجود والمتزايد بعد وفاة الملك فؤاد.

وتهتم دار المندوب السامي بالموضوع وتحاول لفت نظر على ماهر إلى أنها تعلم تمام العلم علاقته بمصر الفتاة وأنه يعمل على حماية نشاطها والدفاع عن أحمد حسين رئيسها. ولكن على ماهر يصر على حماية نشاطها والدفاع عن أحمد حسين رئيسها.

ولكن على ماهر يصر على خطته في أن تظل العلاقات بينهما على قدر من السرية، فيوضح لدار المندوب السامي أنه ليس لديه معلومات عن نشاط أحمد حسين مع وعده بدراسة الموضوع مع حسن باشا رفعت وكسيل وزارة الداخلية بعد جنازة الملك.

ولكن دار المندوب السامي لم تنخدع بما ذكره على ماهر فيؤكد ما يلز لامبسون في تقريره إلى وزارة الخارجية البريطانية أن على ماهر على علم بكل شيء وذلك بناء على تقارير كين بويد مدير الإدارة الأوربية ولعل تقاريره من أهم التقارير التي دونت عن الأحزاب السياسية في مصر والذي أكد للمندوب السامي أن على ماهر يحاول الحصول على مبالغ من وزارة الداخلية ليعطيها لأحمد حسين . وعلى ذلك فإن العلاقة بين على ماهر وأحمد حسين كانت لا شك فيها ولا حدود لها.

كذلك كانت مصر الفتاة على علاقة بالدكتور أحمد ماهر فضلا عن على ماهر، فقد كان يعطف عليها وربما يقود نشاطها، ويوضح أحد تقارير المندوب السامي هذه العلاقة ويبدى خشية منها بقوله " طبقا لأحد التى وردت إلى حديثا من وزارة الداخلية، فإن أحمد ماهر فضلا عن شقيقه على ماهر على اتصال بجمعية مصر الفتاة.

ونظرا لأن هذا التقرير من مصدر موثوق به، فمما لا شك فيه أن القمصان الخضراء سوف تقوم بعمل خطير ذو سمة إرهابية وذلك لسابق خبرة أحمد ماهر بهذه الأعمال، واعتقد أنه سيقودها بنشاط وفعالية.

وعند وفاة الملك فؤاد عقدت جمعية مصر الفتاة اجتماعا ألقى فيه أحمد حسين كلمة رثاء في الفقيد الراحل، ثم أصدرت الجمعية عدة قرارات منها إعلان الحداد رسميا لمدة ثلاثين يوما، وارتداء شار الحداد شريطا أسود على الذراع الأيسر فوق القميص الأخضر، ومنها تسمية الفرقة المؤسسة لجمعية مصر الفتاة بفرقة فؤاد الأول وتأييد تنفيذ وصية الملك الراحل بحذافيرها.

ومصر الفتاة تنتهز الفرصة لتؤكد ولاءها للملكية وللنظام الملكي فهي ترثى وتودع الملك الراحل وتستقبل الملك الجديد، وتجدد العهد للعمل على مساندة الملكية ومعاضدة القصر فئ سياسته وخاصة وأن على ماهر قد أصبح صاحب الكلمة الأولى وصاحب اليد العليا في تلك الفترة على مسرح السياسة المصرية.

ظلت العلاقات بين مصر الفتاة وعلى ماهر تسجل ارتفاعا ملحوظا، ولكن وزارته قامت لغرض محدود وهو إجراء الانتخابات التي أسفرت عن إحراز الوفد أغلبية أتاحت له أن يؤلف الوزارة التالية، وبذلك تدخل العلاقات بين مصر الفتاة والقصر مرحلة جديدة في عهد الوزارة الوفدية خاصة وأن على ماهر لم يعد إلى تولى رياسة الديوان بل لزم بيته في تلك الفترة ، ولم يعد إلى رئاسة الديوان إلا في النصف الثاني من العام التالي؛

فكانت تلك الفترة أشبه بفترة الجمود في علاقتها بالقصر بعد ترك سندها الوحيد فيه لوظائفه الرسمية في الوزارة والقصر معا وإن لم تنقطع العلاقة بينهما، فقد أصبح منزل على ماهر ملتقى للمعارضين للوزارة الوفدية حيث يدبرون الخطط لإسقاطها. وبعودة على ماهر لتولى رياسة الديوان تدخل العلاقات بينهما في طور جديد من أطوارها.

حقيقة لم تكن تلك الفترة فترة جمود تام في علاقات مصر الفتاة بالقصر فقد حاولت توطيد علاقتها به في العهد الملكي الجديد، فكانت بين حين وآخر تحاول أن تعبر عن ولائها غير المحدود للملك الشاب والنظام الملكي، فقد بادرت بالتهنئة بعيد ميلاد الملك. ومصر الفتاة ترى من جانبها سواء كان لها ركيزة داخل القصر أو افتقدتها إلى حين أنتكون حريصة على أن تظل على ولائها المطلق للملك الشاب وأن تحاول التقرب إلى ساحته، وقد عبر رئيسها عن ذلك بأن علاقة حركته طيبة مع السراي في تلك الفترة.

ولعل الفكرة التي راودت مصر الفتاة في محاولة إقامة علاقة بالخديوي عباس حلمي الثاني قد انتهت تماما ، خاصة وأن مسألة العرش قد حسمت بتولية الملك فاروق العرش خلفا لوالده، فقد انتهى كل أمل لديها في إقامة مثل هذه العلاقة ويبدو أن بريطانيا أيضا قد لامها هذا التغيير خاصة وأنها كانت لها اليد الطولي في اختيار الأوصياء على العرش ممن تثق بهم.

ومن بين المسالك التي سلكتها مصر الفتاة على طريق التقرب من ساحة الملك الشاب أو بذلت جهودا ضخمة في مناسبة توليه سلطاته الدستورية والاحتفال بتتويجه بعد أن بلغ السن القانونية، فقد أعدت برنامجا ضخما لذلك الاحتفال وشاركت فيه بدور كبير، فكونت فرقة باسم " فرق فاروق الأول" .

وبذلت كثيرا من الجهود لجمع كل أفرادها من مجاهدي لجان الأقاليم لتشارك في حفلة التتويج، وقد سعت سعيا حثيثا كي تجمع نفقات هؤلاء من السفر والعودة والإقامة، فتلقت الكثير من الإعانات . هذا فضلا عن بعض التبرعات من أشخاص مختلفين.

وفى هذا الشأن يصدر الحزب تعليماته إلى جميع مجاهدي مصر الفتاة بأن يشاركوا جميعا في هذا الاحتفال واضعا لذلك أسبابا منها: أن " جلالة الملك هو رمز الوطن المقدس وهو الذي أقسمنا جميعا على الإخلاص لعرشه وبذل أرواحنا ودمائنا في سبيل تثبيت دعائم ملكه" .

وأن " جلالة الملك فاروق الشاب هو رمز للجيل الجديد أو بالأحرى رمز لمصر الفتاة" وهكذا تبذل مصر الفتاة الجهد في محاولة التقارب بدرجة أكبر من القصر.

خاصة في عهد الوزارة الوفدية التي عانت منها ومن قمصانها الزرقاء الكثير وتعرضت في عهدها للاضطهاد، فقد كان الاتجاه الطبيعي لها أن تلجأ إلى ساحة القصر تحتمي فيه من ضربات الوزارة الوفدية. وسوف نوضح ذلك فئ حينه عند معالجة علاقة مصر الفتاة بالأحزاب.

أعاد الملك الجديد فاروق تعيين على ماهر في منصب رئيس الديوان الملكي باعتباره صديق موثوق به لوالده الراحل، حيث كان قد شغل ذلك المنصب على عهده في عام 1935.

وكما كان لعلى ماهر دور بارز في المناداة بفاروق ملكا على مصر فقد حفظ له فاروق هذا الجميل ، وقد رحبت مصر الفتاة بهذا التعيين واعتبرته بمثابة عودة الروح لها من جديد بعد أن حاولت وزارة الوفد أن تزهقها، فانهالت عليه برقيات التهاني من أعضائها، وفى نفس الوقت أرسلت إليه عرائضها بطلب سحب الثقة من الوزارة الوفدية.

وفى نفس الوقت أيضا لجأت إليه عندما تعرضت لها عقب حادث الاعتداء على النحاس باشا مكن جانب عز الدين عبد القادر ومحاولة الوفد إحكام قبضته على مصر الفتاة وخنقها تماما وهذا ما حدث بالفعل، فلجأت إلى على ماهر لمساندتها في تلك المحنة.

ولكن على ماهر كان مشغولا بمسائل أهم وهو العمل على إسقاط وزارة الوفد وإحراج موقفها حتى أقيلت في نهاية العام، وبذلك نجت مصر الفتاة من مقصلة الوفد، وبتولية وزارة محمد محمود تبدأ العلاقات بين مصر الفتاة والقصر مرحلة جديدة وخطيرة، خاصة وأن على ماهر كان حريصا على تجميع عديد من القوى لمساندة القصر، في مواجهة الوزارة الوفدية في أواخر أيامها وكان من بينها الجماعات الدينية وطلبة الأزهر والأزهريين بزعامة الشيخ محمد مصطفى المراغى، وطلبة الجامعة وخاصة مصر الفتاة.

ولما كانت وزارة محمد محمود وزارة صديقة لمصر الفتاة على الأقل في أول الأمر وتحكم بتأييد وتوجيه من القصر، فقد أصبح لمصر الفتاة سندا قويا في كل من القصر والوزارة، وقد أراد أحمد حسين أن يستفيد من تلك الظروف المواتية؛

فلما أعلنت الوزارة عن نيتها في إجراء الانتخابات حتى تأتى ببرلمان يؤيدها، رأى أحمد حسين أن فرصته وفرصة حزبه قد حانت كي يشارك في رسم السياسة المصرية بنصيب فتقدم عاما فلما لم تجبه الوزارة إلى طلبه كان لابد وأن يلجأ إلى القصر الحليف الثاني يبسط طلبه بين يديه، وفى نفس الوقت يروج لفكرة الدم الجديد بقوله

" إن العالم كله يتجدد يامولاى ويلقى بزمامه إلى الشباب... فالشباب المصري هو كل شيء في حياة مصر وأنه ليسعدنا أن يكون من نتقدم إليه بطلباتنا شابا يعمل هلكى تكون مصر منارة للشرق وزعيمة الإسلام في ظل مليكها المحبوب.. لا بل خليفة المسلمين رغم أنف الجميع بإذن الله، فلتصدر إرادتكم السنية يا مولاي بتعديل قانون الانتخاب.

وعلى هذا يربط أحمد حسين نفسه بدوائر القصر، بل يريد أن يستأثر بعطف الملك الشاب على حركته بأن يضرب على نغمة التجديد والشباب، وأن يثير موضوع الخلافة على عهده، وخاصة وأن فاروق في ذلك الوقت كان أسير اتجاهات الشيخ المراغى ومدى تأثيره الزى وضح من تصرفات فاروق وما ظهر عليه من تدين في بداية حكمه ، ولعل اتجاه مصر الفتاة وتزايد الاتجاه الإسلامى لديها في تلك الفترة أيضا كان دافعا لها للمطالبة بتوليه الخلافة، ومن المؤكد أن هذا الاتجاه الإسلامى كان يلقى استحسانا من على ماهر رئيس الديوان وربما كان هو صاحبه.

استمرت العلاقات طيبة بين مصر الفتاة والحليفين الوزارة والقصر الذي لم يستجب لطلبها، حتى كانت الانتخابات فلم تسمح لها الوزارة بخوض معركتها، فكانت الخصومة بينهما من ناحية، وبين الوزارة وعلى ماهر رئيس الديوان الذي كان يريد أن يظهر دائما أن الوزارة تحكم بتوجيه من القصر وطبقا لسياسته من ناحية أخرى.

ولكن بعد أن أسفرت الانتخابات عن أغلبية برلمانية تتيح لمحمد محمود أن يحكم لصالح حزبه وقعت الخصومة بينهما.

وقد اختار أحمد حسين موقعه إلى جانب على ماهر خاصة وأنه لم يحصل على شيء لنفسه ولا لحزبه من الوزارة وكما أنه لا ينسى أنها هي التي أصدرت قانون حل فرق القمصان وأخرجت البندارى باشا صديقه وصديق مصر الفتاة الحميم من الوزارة عند إعادة تشكيلها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن القصر كان ذا نفوذ كبير في تلك الفترة بفضل على ماهر وشخصيته وتأثيره في السياسة المصرية.

فآثرت مصر الفتاة أن تلتصق بالقصر وبدوائره، فكان أن أثارت موضوعا لقي اهتماما من القصر ومن الملك وهو موضوع الخلافة.

ظلت مصر الفتاة توالى الضرب على نغمة إعادة الخلافة المحببة لدى فاروق على أن يتولاها الملك فاروق على مسامع القصر في مختلف المناسبات التي كانت تهرع إلى القصر فيها طالبة عونه ومساعدته، فقد ذكرت أن فاروق خليفة المسلمين رغم أنف الجميع، والآن تطالب أعضاء مصر الفتاة بعد صدور القانون الذي منع ارتداء الأقمصة الملونة بأن يجعلوا مصر فوق الجميع وأن يجعلوا ملكها خليفة للمسلمين.

وقد لقيت هذه الدعوة استحسانا من جانب القصر ودوائره، وبدلا من أن تلجأ مصر الفتاة إلى التلميح إلى هذا الموضوع ففا منتصف عام 1938 لجأت إلى التصريح والمجاهرة به وتبنيه كأنه قضية من قضاياها تدافع عنها وبإصرار عنيف لمحاولة كسبها.

ولكثرة ما أثارته جريدتها " مصر الفتاة" حول هذا الموضوع، فقد توجهت جريدة النضال بأسئلة لأحمد حسين في هذا الصدد، منها إن سألته رأيه في الخلافة الإسلامية وهل آن وقتها ؟ فأجاب بأن " الخلافة هي نشدة المسلمين جميعا، وهى معقل آمالهم والمسلمون بدون خليفة صالح كقطيع من الغنم، فلخلافة نريدها ونسعى لتحقيقها وقد حانت ساعتها".

ويستطرد أحمد حسين في شرح هذا الموضوع ويربطه بمسائل دنيوية لا دينية، فهو يرى أنه لإيجاد الخلافة وإعادتها لابد من خلق جيش مصري قوى كامل العدد والعدة ونفخ الروح العسكرية في جميع المصريين وبعث روح الجهاد بين صفوفهم، فإنه يمكن عن هذا الطريق إعادة الخلافة قوية يستظل بلوائها أربعمائة مليون مسلم، وحجته في ذلك أن الخلافة كانت مرهوبة الجانب طالما كان المسلمون أقوياء.

وعندما توجهت إليه الجريدة المذكورة بسؤال من هو أجدر المسلمين في الوقت الحاضر للخلافة الإسلامية وما هي أصلح البلاد لها؟ قرر أحمد حسين في هذا الشأن أن مصر كانت مؤثل الخلافة من قبل وهى الآن أصلحها لهذا الغرض، وكما أن فاروق هو أصلح المسلمين طرأ ليكون خليفة للمسلمين بقوله

" فمصر هي اليوم كما كانت بالأمس أصلح البلاد، وكان الله سبحانه وتعالى يهىء الظروف لميلاد الخلافة من جديد، فكان جلالة الملك فاروق الذي رفع لواء الدين وهو في هذه السن المبكرة فكم بالحري يكون مستقبله في الورع والتقوى، فالفاروق هو أصلح الملوك طرأ للخلافة ومصر قاعدتها".

لقيت تلك الدعوة استحسانا من القصر بل ومن فاروق نفسه فقد أراد فاروق- بعد أن لقي تأييدا من جانب الكثيرين لهذه الفكرة أن يرتفع بنفسه إلى مرتبة الخلافة ، وقد قوبلت هذه المطالبة بثورة عارمة من جانب المعارضين من الدول الإسلامية الأخرى مما أدى إلى فشل تلك الفكرة فشلا ذريعا في النهاية، ولكن فاروق لم يأبه بهذه المعارضة طالما كان هناك من يروجون له داخل مصر وعلى رأسهم مصر الفتاة التي أطلقت عليه لقب أمير المسلمين.

فعمل فاروق على تأصيل هذه الفكرة بأن أرسل بعثة غير رسمية إلى الخارج لنشر هذه الفكرة والدعوة لها إلا أنها قوبلت بإحجام شديد، ولكن جريدة مصر الفتا عبرت عما حدث لهذه البعثة بقولها" إن بعثة الخلافة في طريقها إلى النجاح وأن الشرق يعد نفسه لأن يندرج تحت زعامة مصر"

ولكن في حقيقة الأمر أن تلك الفكرة لم تلق اهتماما داخل مصر وخارجها من بعض الدول الإسلامية وسلبية من البعض الآخر وماتت في فترة الترويج لها قبل أن ترى النور وتحقق بعودة الخلافة، ولكن مصر الفتاة لارتباطها الوثيق بالقصر ودوائره لا تود أن تسلم بالفشل الذريع الذي منيت به فكرتها وفكرة الكثيرين في إعادة الخلافة.

وبالرغم من فشل هذه الفكرة فإن علاقة أحمد حسين بالقصر ظلت طيبة فعندما أراد السفر إلى أوربا في منتصف عام 1938، قدم إليه القصر إعانة مالية جديرة بالاعتبار عن طريق على ماهر وكامل البندارى الذي شغل منصب وكيل الديوان الملكي بعد خروجه من وزارة محمد محمود ويقر أحد تقارير السفير البريطاني إلى الخارجية البريطانية أن أحمد حسين التقى بالملك فاروق الذي أظهر عطفه الشديد عليه وتأثره به.

ولعل انضمام كامل البندارى صديق مصر الفتاة إلى القصر قد جعل علاقتها به أوثق ارتباطا، وأصبحت مصر الفتاة تدرك أن ركائزها في القصر أكثر قوة الآن.

كان دخول البندارى في خدمة القصر نتيجة أزمة ثقة حدثت بينه وبين رئيس الوزراء ورئيس حزبه محمد محمود باشا، فقد اعتبره صنيعة على ماهر داخل الوزارة فأصر على إخراجه منها عند إجراء التعديل الوزاري بعد إجراء الانتخابات؛

وقد أصر على ماهر على أن يكون البندارى من بين الأسماء المقترحة لتولى الوزارة ردا لكرامته وكرامة القصر، وقد تقدم محمد محمود في هذا الصدد بأربعة قوائم بالأسماء المقترحة لتأليف الوزارة ولم يكن من بينهم البندارى ولكن على ماهر نصح الملك بأن يستبقى هذه القوائم ويكلف محمد محمود بتقديم قائمة أخرى، فلما تقدم محمد محمود بقائمة خامسة ضمت اسم البندارى رأى على ماهر أن يكتفي بذلك ردا لكرامة القصر، فصدر مرسوم تأليف الوزارة دون أن يكون البندارى احد أعضائها وإنما سعى على ماهر لدى مولاه أن يوليه منصب وكيل الديوان الملكي، وعمل من جانبه على إقناع البندارى باشا بالقبول وصدر الأمر الملكي بتعيينه وكيلا للديوان.

انتقل كامل البندارى إلى القصر ولكنه لم ينتقل إلى معسكر على ماهر في مواجهة الوزارة ، ولقد كان البندارى أسير فكرة الدم الجديد، ولما كان على ماهر من رجال الجيل القديم فكان ذلك كافيا أن يتجه البندارى اتجاها آخر، ولم يمض شهران على تعيينه حتى كان على ماهر يرفع عقيرته بالشكوى منه فقد نما إلى علمه أن البندارى أصبح رسول فكرة الدم الجديد في القصر وداعية من دعاتها؛

ورفعت إليه تقارير تفيد أنه اجتمع ببعض الشبان البارزين في مختلف الأحزاب، وتحادث معهم في الشئون العامة، ففهموا منه أن الملك يعتزم إجراء تغيير إداري وأن يؤلف وزارة منهم نابذا العنصر القديم، كما عرف على ماهر أيضا أن البندارى نفسه قد أصبح صاحب حظوة لدى فاروق فخشي أن تؤثر أفكاره على الملك الشاب فيغير صدره عليه باعتباره من الجيل القديم. وهكذا اشتد إصرار على ماهر لإخراجه من القصر.

تسربت أخبار هذه المعركة التي تدور داخل القصر إلى الصحف والصحف البريطانية نفسها، وانتقل خبرها إلى جريدة مصر الفتاة بمقال تحت عنوان " إذا خرج البندارى باشا من القصر، فسيكون إخراجه آخر محاولة للديمقراطية للدفاع عن نفسها"

تناول هذا المقال هجوما عنيفا على الديمقراطية قائلا" إن الحياة الدستورية بوضعها الحالي لم تعد تلائم حاجات البلاد.. فتجربة البرلمان والحياة السياسية منذ أربع عشرة سنة دلت على أن الحكم عن طريقها وبوضعها هذا دون تعديل جوهري أبعد عن أن يفيد البلاد، بل على العكس قدم لها كل ضرر وأذى ، والجميع بدءوا يحسون بضرورة إجراء هذا التعديل..

ونحن نعتقد أنه إذا كان من مظاهر هذا التعديل خروج البندارى باشا من القصر فسيكون إخراجه آخر جهد تحاول به الديمقراطية ان تدافع عن نفسها" وقد جعل ذلك على ماهر أكثر إصرارا على إخراجه فحاول الضغط على الملك فاروق وتهديده، فطلب مقابلة النحاس باشا رغم الدور الذي لعبه في إقالة وزارته، فاستقبله النحاس في بيته في " سان استفانو" بالإسكندرية في صيف عام 1938، وقد أنتجت المقابلة أثرا عكسيا إذ أثارت كل من الملك والوزارة على على ماهر، فقد غضب الملك على رئيس ديوانه مما ابقي البندارى بالقصر عاما كاملا يتصرف فيه بحرية كاملة إلى جوار مولاه، وجعل علاقة مصر الفتاة به تزداد نموا.

كان سفر على ماهر إلى لندن لحضور مؤتمر " المائدة المستديرة" لبحث قضية فلسطين عام 1939 دون محمد محمود أو زير الخارجية كما تقضى بذلك التقاليد المرعية، كان ذلك فرصة كي توطد مصر الفتاة ، علاقتها بالقصر عن طريق البندارى الذي أصبح أثيرا لدى الملك وبتأثيره فقد أعلن فاروق في مساء 22 فبراير 1939 في خطابه بمناسبة العام الهجري الجديد تفرده بالسلطة فهو يحتفظ بأبرز طبائع والده، وهى بلاد تردد الإدارة الفعلية لأمور الدولة والاشتراك الفعلي مع الهيئة التنفيذية، والتمسك كل التمسك بالحقوق التي أبقاها الدستور للملك.

وخرجت جريدة مصر الفتاة لتشرح مرمى الخطبة الملكية ولتوضح أنها قد تضمنت القول الفصل في الخلاف الذي ثار منذ أعلن الدستور المصري وهو هل الملك يملك ولا يحكم أم يملك ويحكم، وقالت الجريدة أنه إذا رأت الوزارة رأيا ووجد الملك بعد أن وافق عليه البرلمان بأغلبية أنه غير صالح له أن يوقفه ولو أدى الأمر إلى التخلص من الوزارة ومن البرلمان المخطئين" إذن فقد بطل القول وانتهى الجدال ووجد النظام الدستوري محكمة استئناف أعلى منه" . ثم تناولت إشارة الملك إلى الشباب في خطبته فدللت على أنه كان يقصد شباب مصر الفتاة بالذات.

أرسل فاروق برقية إلى على ماهر بلندن يطالبه بالاستماع إلى خطابه، ويقصد أن يستمع إلى العبارة التي يقول فيها أنه مثل أبيه لا يستطيع أن يؤثر فيه أحد، ويذكر أحمد حسين في هذا الصدد عاد على ماهر إلى مصر فتلقاه الملك ليلة وصول وكانت مصارحة، وكان حديث حطم البقية الباقية من آمال على ماهر، وقال له الملك أن العبارة التي كتبها خصيصا من أجله وردا على الإشاعات التي يشيعها أقاربه وأخوته من أنعلى ماهر باشا هو كل شيء في السراي؛

خرج على ماهر من لدن مولاه ونفسه تجيش بالغضب ضد الذين دسوا له عند جلالة الملك، ولم يجد أمامه سوى البندارى باشا يمكن أن يحمله مسئولية ما حدث في غيابه، قد تصادف أن سمع الملك يثنى على البندارى باشا ثناء مستطابا حتى لقد وصفه بأنه " فذ" وأن جلالته على ثقة من أن البندارى يحبه فكان ذلك هو المحك الذي جعل على ماهر يشتد في خصومته للبندارى ويعلق أحمد حسين على أخلاق على ماهر باشا بقوله " أنه من النوع الذي إذا خاصم فجر" فأصر على إخراج البندارى من القصر وإرغام الملك على ذلك. أرادت مصر الفتاة منذ البداية أن تتجنب نشر أخبار الخلاف بين على ماهر والبندارى على أمل أن تصفى تلك الأزمة بينهما، فنفت حدوث أي خلاف بينهما مؤكدة أن ثقة على ماهر في البندارى لا حد لها وقد أرجعت علاقتها بالبندارى لطبيعة عمله وكيلا للديوان، ولكنها كانت تلجأ إلى القصر في كل حين ويتلقى على ماهر مطالبها، أما كونها على علاقة بالبندارى فليس يعنى ذلك خصومتها لعلى ماهر.

وليس هذا تبريرا مقنعا ولكن مصر الفتاة كانت تسعى إلى عدم إثارة موضوع الخلاف أو أن تأخذ جانب فريق ضد الفريق الآخر حتى تتضح معالم الأزمة وما تسفر عنه من نتائج.

في ذلك الوقت كان على ماهر يرتب المسرح لإخراج البندارى أثير الملك فاروق من القصر بعد أن أحس بأن نجمه يأفل في السراي، وكان قد صفى ما بينه وبين الحكومة البريطانية من سوء تفاهم أثناء لقائه باللورد هاليفاكس في لندن وبقى أن يصفى علاقته بالسفير البريطاني ويذكر أحمد حسين أن على ماهر هو الذي سعى للتقرب من السفير فلم يكد يصل على مصر حتى أخذ ينفى أي خاطر لديه في المساس بالسفير، وأخذ يؤدب له المآدب ويذيع أن العلاقات بينه وبين السفير قد صارت على ما يرام وأن سوء التفاهم العارض بينهما قد زال.

وسواء كان على ماهر هو الذي سعى للتقارب من السفير أو أن الأخير الذي سعى فإن التقارب قد حدث خاصة وأن الخارجية البريطانية قد أحاطته علما بما دار في لقاء على ماهر باللورد هاليفاكس ، ومنه علم السفير أن على ماهر لمح إلى قرب توليه الحكم فكان لابد من التقارب بينهما، وقد أزالت هذه المقابلة الشكوك من أذهان البريطانيين حول شخصية على ماهر باشا .

بعد أن وضح موقف الإنجليز من على ماهر تقدم إلى الملك يطلب إخراج البندارى باشا من القصر، فلما رأى رغبة الملك في استقباله ، تقدم باستقالته من منصبه وهو يعلم أنه قد شل يد الملك في قبولها.

فقد تقدم بها في الوقت الذي عقد فيه المحالفة مع الإنجليز فكان معنى ذلك كما يقول أحمد حسين التحدي.. والتحدي المطلق.

ويشرح أحمد حسين ذلك فيقول" على أي الأسس والقواعد جرى التآلف والتفاهم والتحالف بين على ماهر باشا والإنجليز؟ تلك مسألة يجب أن يجلوها السيد على ماهر إذا أراد أن يدافع عن نفسه في هذه المسألة الخطيرة التي ننسبها له، وهى أنه ظاهر الإنجليز وانضم إلى جبهتهم.. إن على ماهر باستقالته في هذه الظروف وبالطريقة التي تمت بها كان يرتكب خطيئة كبرى نحو ملاه ونحو بلاده" وهكذا انتهت المعركة بانتصار حاسم لعل ماهر، فلم يجد فاروق بدا من أن يخضع لإرادة رئيس ديوانه، وأبلغ البندارى بشا يوم 5 مايو 1939 بأنه قد أعفى من واجباته في السراي، وعين البندارى وزيرا مفوضا لمصر في بروكسل .

وقد نتج عن ذلك هجوم مصر الفتاة الشنيع على على ماهر باشا وشرحها حقيقة الخلاف ومراميه بعد أن كانت لا ترى إثارته عسى أن تعود الأوضاع إلى سابق عهدها ويتم تصفية الأزمة بين على ماهر والبندارى.

كان من الطبيعي أن تتأثر مصر الفتاة بخروج البندارى من القصر، الذي كان هو سندها الوحيد فيه بعد أن ألقت بكل ثقلها وتركيز علاقاتها به، وخاصة وأنها شنت هجوما عنيفا على على ماهر باشا بسبب إخراج البندارى، وبذلك فقدت ركيزتها في القصر؛

فقد خسرت الاثنين معا وفى وقت واحد، وبذلك أيضا فقدت الأمل في قيام حكم القصر المطلق بخروج البندارى منه، وقد قضى ذلك أيضا قضاء مبرما على أية فرصة محتملة لانتصار الفاشية التي كانت تروج لها آنذاك ويتبناها كامل البندارى داخل القصر ، وكررت مصر الفتاة المحاولة فحاولت مرة أخرى إعادة العلاقات مع على ماهر بعد توليه الوزارة.

استقبلت مصر الفتاة تولى على ماهر للوزارة 1939 استقبالا حسنا في محاولة منها لإعادة العلاقات الطيبة بينهما، إذ تعلم تمام العلم أنها إحدى وزارات القصر وهى حريصة دائما على أن تظل علاقتها بالقصر طيبة، فأعلنت أنها على استعداد للتعاون مع على ماهر في كل ما فيه الخير للبلاد رغم ما كان بينهما من خصومة.

وعقب تولية على ماهر الحكم عقد حزب مصر الفتاة اجتماعا لمجلس الدارة والجهاد للنظر في الموقف السياسة وتحديد مركز الحزب إزاء الوزارة الجديدة. 

ويوضح أحمد حسين موقفه وموقف حزبه من تلك الوزارة بقوله إن ما حدث بينه وبين على ماهر باشا في الفترة الأخيرة لم تكن خلافات شخصية وإنما كانت لصالح البلاد، وهو يرى أنعلى ماهر هو الوحيد الذي يصلح لتولى الحكم في هذه الظروف.

كما قرر مجلس الإدارة بجلسته المنعقدة بتاريخ 21 أغسطس 1939، أن يرحب بالوزارة الماهرية ، ويتمنى لها التوفيق في خدمة البلاد، وإنفاذ الإصلاحات التي ترجوها الأمة في جميع مواقفها الحيوية على الأخص ما اتصل منها بالدين والدفاع الوطني وإنصاف الطبقات العاملة والفقيرة ..وقد انتدب المجلس كلا من الدكتور مصطفى الوكيل ومحمد صبيح وفتحي رضوان لتبليغ هذا القرار إلى الحكومة ، فالتقوا بعلي ماهر باشا وبمجموعة من الوزارة.

ولعل أحمد حسين لم يجرؤ على لقاء على ماهر باشا بعد الهجوم العنيف الذي شنه عليه، وكانت هذه المقابلة من جانب بعض الأعضاء لعلى ماهر محاولة لجس النبض حول إمكانية التعاون معه من جديد، ومن المرجح أن على ماهر لم يمانع في التعاون مع هذا الحزب مرة أخرى، خاصة وأن الحرب كانت على الأبواب والموقف جد رهيب فإن تناسى الخلافات الشخصية في ذلك الوقت يعد أمرا مفيدا.

داهمت مصر أنباء اندلاع الحرب في أوربا في مطلع سبتمبر 1939، وكان من جراء ذلك أن تبدلت الأوضاع داخل مصر، فأعلنت الأحكام العرفية ووضعت الرقابة على الصحف بناء على السفارة البريطانية من حكومة على ماهر الذي أعلنها في أول سبتمبر وأصبح الحاكم العسكري للبلاد.

وفى ظل هذه الأوضاع وجهت مصر الفتاة النداءات إلى الشباب وإلى الشعب المصري عامة تطلب إليهم الوحدة وتناسى الأحقاد والخلافات والحزبية، في مناقشة ولا جدال، بل صوت واحد واردة واحدة وصف واحد حول شخص الملك لندافع عن أوطاننا وعن عرشنا وديننا حتى آخر رمق. ومصر الفتاة في هذا تؤيد الملك وتدعو الجميع إلى الالتفاف حول عرشه اتقاء لحظر الحرب.

كان إعلان الأحكام العرفية ذا أثر كبير على نشاط مصر الفتاة وكل القوى السياسية الأخرى، فإن من ضرورات الوضع أن يلزم الجميع الهدوء والسكينة ومراعاة النظام والقانون فكانت تلك الفترة خلال الحرب وحتى نهاية فترة الدراسة في منتصف عام 1941 أشبه بفترة جمود إلى حد كبير في علاقة مصر الفتاة بالقصر ووزاراته المختلفة.

ظلت العلاقات بين وزارة على ماهر ومصر الفتاة علاقات طيبة طوال الوقت، وكانت مصر الفتاة، تحاول أن توضح ولاءها له في مختلف المناسبات، فلما أعلن على ماهر عن رغبته في زيارة السودان بادرت بتهنئته على هذا العمل الجليل، وشارك أحمد حسين في وداعه عند سفره، ومصر الفتاة ترى أن السودان هي المتنفس الطبيعي لحركة تزايد السكان في مصر، والأيدي العاملة المصرية، وترى أيضا أن ذلك تأكيد لأحد مبادئها وهو أن مصر والسودان معا لا ينفصلان.

كذلك ساندت مصر الفتاة موقف على ماهر من دخول مصر الحرب ومحاولته تجنيبها ويلاتها، إلا أنه قد وقعت بعض الأحداث التي أغضبت مصر الفتاة فقد تعرضت دار الحزب للتفتيش والبحث عن أسلحة.

وربما لم يكن ذلك هو اتجاه الحكومة وإنما كان مفروضا عليها من جانب السفارة البريطانية، إذ يذكر أحمد حسين أن السفارة البريطانية طلبت من على ماهر أن يعتقل أعضاء مصر الفتاة عند بداية الحرب فأهمل الطلب. فلعل إجراء التفتيش وما أشيع عن نية الحكومة حل الحزب والقبض على أعضائه كانت من جراء طلب الإنجليز.

وعندما تأزمت العلاقات بين وزارة على ماهر وبين السفارة البريطانية بعد إعلان إيطاليا الحرب في 10 يونيو 1940، وذلك لن على ماهر أصر على تجنيب مصر ويلات الحرب فقد ساندت مصر الفتاة موقفه على طول الخد، فتقدمت بعرائض وبرقيات إلى الملك لتأييد الوزارة فى موقفها الوطني، وكان نص إحدى البرقيات بعد اجتماع عقدته مصر الفتاة بالأزهر لهذا الغرض:

" حضرة صاحب الجلالة الملك الأعظم، المجتمعون اليوم بساحة الأزهر عقب صلاة الجمعة يؤيدون الوزارة في موقفها الحازم ويعلنون هن آيات سخطهم العنيف على كل محاولة يقصد منها العبث باستقلال البلاد وحريتها، ويؤكدون استعدادهم القوى للزود عن حياض الوطن تحت لواء العرش" وتوجه وفد من مصر الفتاة وعلى رأسهم مصطفى الوكيل إلى السراي وهتفوا بحياة الملك ورئيس الوزراء.

ولكن الحكومة البريطانية لم تجد بدا من أن تستخدم صيغة التهديد فوجهت إنذارا إلى الملك فاروق تعلنه عن طريق سفارتها بالقاهرة بأنه لا سبيل إلى التعاون بينها وبين وزارة على ماهر فلم يجد فاروق بدا من قبول استقالته التي تقدم بها في 27 يونيو 1940، فكانت استقالة على ماهر بمثابة انتهاء العلاقة الوطيدة بين مصر الفتاة والقصر ووزاراته المختلفة.

كان على ماهر قيمة تلك الجمعيات ذات الصبغة الإسلامية ومنها مصر الفتاة، فهي تمثل ركنا هاما في البناء السياسي، وكان يرى أن يستعين بها في وضع سياسة إسلامية كجزء من برنامجه السياسي في الحكم، ولكنه كما يبدو لم يدرس الموضوع بعناية كاملة، كما أنه لم يدرك أن رؤساء هذه الجمعيات مثل أحمد حسين وحسن البنا لهم طموحهم الخاص، وكان من غير السهل السيطرة عليهم، وربما أدرك على ماهر هذا الموضوع، ولكنه كان يود أن يعتمد عليهم كركائز تعوضه عن الإطارات الحزبية التحى ابتعد عنها، وخاصة وأنه كان يرى فيهم براعة في النفاذ إلى قلوب الجماهير وإمكانية تأليفها حوله ومساندته في مواجهة الإنجليز. ولكن كان إصرار الإنجليز على استقالة وزاراته أمرا مخيبا لآماله ولخططه.

أما مصر الفتاة فكانت ترى في علاقتها بعلي ماهر في مناصبه المختلفة وتعامل معه على انه هو الذي سيمهد لها الطريق لتصل إلى الحكم، فالطرفان يتعاملان معا وكل منهما يهدف إلى غاية من علاقته بالآخر ، فكانت ظروف الحرب وفرض الإنجليز لسياسة معينة يعتقدون أنها تحقق أمن المنطقة وسلامتها وفيه أمنهم، لم يكن هناك بد من جانبهم وبينه قد توقفت.

وقد حقق على ماهر بعض خططه ضد الوفد في عام 1937 بإسقاط وزارته ولكن خططه بشأن تجنيب مصر ويلات الحرب أوقعت بينه وبين الإنجليز وجعلتهم يتشددون في موقفهم خاصة بعد دخول إيطاليا الحرب إلى جوار ألمانيا . أما مصر الفتاة فلم يقدر لخطتها وهدفها نمن علاقته بعلي ماهر أن ترى النور وهى أن يوصلها إلى الحكم.

تولى حسن صبري الوزارة- خلفا لعلى ماهر- وهو صديق لمصر الفتاة وساهم بنصيب في مساعدتها من قبل، وكانت العلاقات بينهما طيبة في حدود ما تسمح به ظروف الحرب، وقد سعى أحمد حسين لإقامة علاقات بينه وبين حسن صبري في موقعه الجديد ، فزاره في دار رئاسة مجلس الوزراء.

ولكن الظروف الاستثنائية التي فرضتها الحرب على النشر بوضع الرقابة على الصحف جعلت تبيان علاقة مصر الفتاة بالوزارة أمرا صعبا لندرة المادة التي بين أيدينا. ولكنا نلجأ إلى الجانب الآخر وهو تقارير البوليس السياسي في تحديد تلك العلاقة وإن كانت قليلة أيضا لأن نشاط مصر الفتاة قد تجمد أيضا إلى حد كبير.

وعندما عين أحمد حسين في منصب رئيس الديوان الملكي- الذي ظل شاغرا منذ تركه على ماهر في أغسطس 1939- حاولت مصر الفتاة أن تقيم علاقات معه علها تبدأ حلقة جديدة في سلسلة علاقتها بالقصر ولكن الأوضاع القائمة لم تسمح بذلك، وقد تقدمت إليه طالبة السماح لها بعقد اجتماع عام- وكان ذلك محظورا زمن الحرب- ترد فيه على دعوة أحمد ماهر بوجوب دخول مصر الحرب إلى جانب انجلترا . ولكنها لم تتلق رده، وأكرر القول بأن الأوضاع القائمة كانت لا تسمح بإظهار تقارب من أي نوع. أما علاقة مصر الفتاة بوزارة حسن صبري فقد استمرت علاقات طيبة، وكان أحمد حسين على اتصال به، وفى نفس الوقت رفض طلب الإنجليز اعتقال أعضاء مصر الفتاة كما فعل سلفه على ماهر .

كذلك رفضته وزارة حسين سرى أيضا، حتى كان موقف مصر الفتاة المؤيد لحركة رشيد عالي الكيلانى في العراق، واشتراك الدكتور مصطفى الوكيل في أحداثها، ومساهمته بجهد كبير لإنجاحها ، عاملا من العوامل التي جعلت وزارة حسين سرى لا تستطيع التردد في الأمر باعتقال من رئيس وأعضاء مصر الفتاة جميعا على وجه التقريب، وإيداعهم المعتقلات رغم علم حسين سرى بأنها هيئة مؤيدة للعرش وتعمل لصالح القصر الذي تعد وزارته إحدى وزاراته؛

ولكنه لم يستطع أن يتردد في ذلك بعد أن كشفت عن وجهها في معاداة الإنجليز في ذلك الوقت . وقد وزع حزب مصر الفتاة منشورا يهاجم فيه الحكومة لتصرفاتها ضده وضد أعضائه وهو بعنوان " في سبيل الله والوطن والمسلمين".

بدا المنشور بتوضيح عطف مصر الفتاة على حركة العراق وخاصة بعد اشتراك مبعوث الحزب الدكتور الوكيل في أحداثها، إذ انخرط في سلك الجيش العراقي وتولى الإذاعة يوميا من محطة بغداد للإهابة بالمصريين والعرب لنصرة العراق وشد أزرها.

فلم تكد الوزارة تلمس هذا العطف من جانب مصر الفتاة حتى بدأت سلسلة من البطش والاضطهاد ضد الحزب وأعضائه ونشاطه، منها أن حاولت اعتقال أحمد حسين ومحمد صبيح في 4 مايو 1941، وبادرت بإلغاء مصر الفتاة بدون سبب، وأغلقت دار الحزب بعد أن اعتقلت كل من كان فيه وقت الإغلاق وعددهم خمسة وعشرون عضوا، وقبضت على كثير من الأعضاء وفتشت المئات من منازل الأعضاء بحثا عن أحمد حسين ومن ترى اعتقاله من أعضاء الحزب.

إلا أن معظم الأعضاء آثر الهرب ، ولكن الوزارة سخرت كل قواتها للقبض عليهم وإيداعهم المعتقلات التي استمرت طوال فترة الحرب تقريبا. ولعل ذلك كان بأوامر مشددة من السلطة العسكرية الإنجليزية خاصة وأن تطورات الموقف الحربي لم تكن في صالح الحلفاء في ذلك الوقت فكان ولابد من القبض على الجماعات المناهضة وتقييد حركتها.

وتعتبر الفترة الباقية من الحرب العالمية الثانية، فترة جمود لنشاط مصر الفتاة، فلا حزب ولا جريدة ولا حتى أعضاء فالجميع تقريبا دخلوا المعتقلات إلا من قلة ليست مؤثرة ولا ذات نشاط فعال بقيت خارج المعتقلات وبذلك تجمد نشاط الحزب إلى فترة تالية تربو على السنوات الثلاث، حتى يعود إلى مسرح السياسة المصرية مرة أخرى عند نهاية فترة الحرب العالمية الثانية تقريبا.

وهكذا أغلقت مصر الفتاة صفحة علاقتها بالقصر للظروف الموضوعية التي مرت بها، وإن كان ارتباطها بالملكية والقصر لم يحل دون تعرضها لما تعرضت له من أوضاع في وقت كانت فيه السلطة العسكرية الإنجليزية لا تتهاون مطلقا فيما يمس بريطانيا ووضعها في المنطقة، ويتضح ذلك بدرجة أكبر في موقفها من القصر نفسه ومن شخص الملك الجالس على العرش في 4 فبراير 1942. ولعل هذا يعطى تفسيرا أن القصر لم يتدخل لإنقاذ مصر الفتاة مما صارت إليه أوضاعها.

وخلاصة القول أن مصر الفتاة ظلت موالية للقصر وللنظام الملكي طوال فترة البحث وإن كان ذلك لا يختلف كثيرا عن موقف الأحزاب المصرية القائمة التي كانت ترى أن العرش فوق الأحزاب جميعا، وإن اختلفت فيما بينها بعض الشيء ولكن المتتبع لتاريخ مصر الفتاة يرى أنها انقلبت على ولائها للملكية وشخص الملك فانبرت تهاجم فاروق هجوما عنيفا على صفحات جريدتها عام 1951.

الفصل التاسع: مصر الفتاة والأحزاب

حزب الوفد. • حزب الأحرار الدستوريين. • الحزب الوطني. • الهيئة السعدية. • جماعة الإخوان المسلمين. • حزب الفلاح الاشتراكي. • بعض المستقلين عن الأحزاب.

أما عن الأحزاب السياسية القائمة في البلاد والتي كانت تمثل القوة الثانية من القوى السياسية، فقد كانت كيانات سياسته ذات اتجاهات جد مختلفة وإن التقت جميعها حول هدف واحد وهو طلب الاستقلال التام للبلاد، ويمكننا أن نحدد علاقة مصر الفتاة بها جميعا على ضوء موقف كل منهم ومن نشاطها، خاصة وأنه قد سبق أن ذكرنا أن هذه الأحزاب انقسمت حيالها إلى فريقين، أحدهما مؤيد والآخر معارض ومناهض لها ولحركتها ، ولنبدأ بالفريق الثاني ونعنى به حزب الوفد.

ترجع علاقة مصر الفتاة إلى ما قبل إنشاء جمعية مصر الفتاة تعد امتدادا لمشروع القرش، فقد عارض الوفد المشروع منذ البداية واعتبره أحد أعمال وزرة صدقي، ولكن عندما اتضح للوفد أن المشروع يهدف إلى خدمة الاقتصاد المصري لم ير ما يمنع من مساهمته فيه، فتبرع له النحاس باشا ومكرم عبيد وغيرهما من رجالات الوفد.

ولكن موقف الوفد من الجمعية عند نشأتها كان موقف المتشكك فيها، وإن حمل طابع العداء لها فيما بعد، فقد رأى فيها حركة مساندة ومؤيدة للقصر في سياسته التي ترمى إلى سلب مكاسب الشعب لصالحه، فكان ذلك كافيا كي يقف الوفد منها موقف الخصومة، كما لا يغيب عنه أنها مؤيدة بأحزاب الأقلية مثل الأحرار الدستوريين والحزب الوطني وغيرهما.

وعلى هذا فقد كان الوفد يسعى لإعاقة نشاطها خاصة وأنه كان يخشى أن تستهوى دعوتها الشباب من أنصاره فتستقطب جانبا من جماهيره من الشباب وهم عدته في كفاحه ، فرأى الوفد منذ البداية محاربتها والعمل على إحباط نشاطها فيوجه الوفد تعليمات إلى شبانه في هذا الشأن، ولقد قام زهير صبري رئيس لجان الشبان الوفديين بنقل تعليمات الوفد إلى الشبان وتقضى بمحاربة مصر الفتاة والقضاء عليها في مهدها.

أما مصر الفتاة فكانت لا ترى مناصبة الوفد العداء في تلك الفترة المبكرة من نشاطها وخاصة وأنها لا تقف على أرض صلبة تمكنها من ذلك، بل كان اتجاهها في ذلك الوقت أن تحاول الحصول على اعتراف من الوفد بها وبوجودها، فهي رغم معاداتها له إلا أنها لم تجاهر بذلك العداء، وإن كانت قد استطاعت أن تقيم علاقات مع القصر وأحزاب الأقلية في فترة مبكرة من وجودها، إلا أنها كانت لا تقنع بذلك وترى أنها لن تكتسب شرعية وجودها إلا باعتراف الوفد بها، باعتباره الحزب الذي يضم غالبية قوى الشعب، فكان نشاطها في العامين الأولين من حياتها ينصب على هذه المحاولة.

حاول كتاب مصر الفتاة مهادنة الوفد وإزالة الريب والشكوك التي تساوره ضد جمعيتهم. ويؤكدون بأنهم " وفديون" ولا يرون غضاضة في أن تقوم إلى جانب الوفد جمعية متطرفة.

وهو يرون أن الوفد أكبر الهيئات السياسية وأعظم الأحزاب المصرية وماضيه حافل بجلائل الأعمال والأمة تحبه وتجله. ولهذا السبب كان إصرار مصر الفتاة للحصول على اعتراف الوفد بها، وقد جاء فى تصريحات أحمد حسين رئيس جمعية مصر الفتاة ما يفيد قيام محاولات التقارب من جانبه " إننا لا نحمل للوفد ولزعيمه إلا كل حب واحترام وإننا نرى فيه الهيئة الوحيدة التي عملت منذ نشأتها بإيمان وإخلاص للقضية المصرية وأنه يتمثل في الوفد اليوم جهاد الأمة البريء".

ولما لم تجد هذه التصريحات لم يجد أحمد حسين بدا من أن يوجه خطابا مفتوحا إلى النحاس باشا مباشرة يطلب إليه فيه الاعتراف بجمعية مصر الفتاة ويبسط له أن الجماهير لا ترى تعارضا بين الوفد وبينها، كما طالب أحمد حسين بالتعاون مع مصر الفتاة والوفد، وأوضح أن حركته تلقى تأييدا من الوفديين وخاصة في الإسكندرية "

حتى أن الأستاذ عبد الفتاح الطويل عميد الوفدية في الإسكندرية تطوع للدفاع عنى وبعض نفر من كبار المحامين الوفديين، فرأيت من الواجب إزاء ذلك أن اتصل بدولتكم من جديد لنتفاهم تحت ضوء الحوادث الأخيرة" وفى ختام الرسالة يطالب أحمد حسين النحاس باشا أن يقول كلمته في هذه الجمعية ومبادئها.

وعلى الرغم من أن مصر الفتاة لم تتلق ردا على كل المحاولات التي بذلتها للتقارب من الوفد، إلا أنها ظلت على خطتها فئ محاولة كسب وده كي يعترف بها، فعندما أ‘لن الوفد عن عقد المؤتمر الوفدي عام 1935، أعلنت مصر الفتاة أنها رغم ما رماها به الوفديون من تهم وطعن في شرفها، فإنها تتناسى كل ذلك وتطلب إلى المؤتمرين السماح لها ولأعضائها كشباب بحضور هذا المؤتمر لتدلى بوجهة نظرها في الكفاح، وأن تعرض على المؤتمر طريقها إلى الاستقلال، وأعلنت عن استعدادها لتنفيذ ما يقرره المؤتمر بعد أن تشترك في وضع قراراته. ورغم كل هذه المحاولات فإن الوفد آثر أن يتجاهل هذه الحركة الناشئة ومصر الفتاة تصر على أن تحصل على اعترافه بها أو أن يقول كلمته فيها دون جدوى.

وطبقا لنفس الخطة التي رسمها أحمد حسين للحصول على اعتراف الوفد به وبجمعيته، فقد رفع خطابا إلى جلالة الملك فؤاد يشرح له فيه ألأوضاع التي تعانى منها البلاد، وخصوصا في فترة مرض جلالته الذي أعطى الفرصة للانجليز كي يتدخلوا تدخلا سافرا في شئون البلاد، ويرى أن وزارة عبد الفتاح يحيى لم تستطع أن تلقمهم حجرا عندما تطاولوا على حقوق العرش وعلى شخص الجالس على العرش، وفى نهاية خطابه يطالب الملك باسمه وباسم الشباب الذي يتولى رئاسته أن يعيد الوفد لتولى الحكم فهو ومن خلفه القوى الشعبية تسانده بقادر على أن يقف في وجه أطماع الإنجليز وتطاولهم وير للبلاد دستورها وحريتها. وحتى ذلك الوقت ورغم المحاولات المتكررة من جانب مصر الفتاة لاستمالة الوفد، إلا أنه لا يخرج عن خطته في تجاهل تلك الجمعية وإن كان بعض أعضائه يعطفون عليها ويؤيدون نشاطها. ولكن مصر الفتاة ترى أنهم أفراد إنما يعبرون عن أشخاصهم فقط وهى تريد الحصول على اعتراف الوفد كهيئة سياسية بها.

وعلى الرغم من خطة الوفد في تعامله مع مصر الفتاة وهى التزام الصمت والتجاهل تجاهها ، إلا أنه قد جرت بعض المحاولات من جانبه لتقويض دعائم تلك الجمعية، فقد كان الدكتور عبد الرازق السنهوري المدرس بكلية الحقوق آنذاك يتولى قيادة حركة الشبان الوفديين في الجامعة، رأى السنهوري أن يقيم علاقات بين حركة الشبان وبين جمعية مصر الفتاة؛

وقد رتب لهذا الأمر صلاح ذهني الطالب بالجامعة فاتصل بمحمد صبيح وفاوضه مبدئيا في فكرة انتساب لجن الشبان الوفديين إلى جمعية مصر الفتاة، فعرض صبيح الفكرة على أحمد حسين ولكنه لم يتخذ فيها قرارا لأنه خشي أن يكون الوفد عازما على هدم جمعيته بإدماج هؤلاء الشبان فيها .

ومصر الفتاة رغم أنها لا تود أن تهاجم الوفد إلا أنها تتعامل معه بحذر شديد ، فهي تعاديه ولا تثق في حركته تجاهها ولكنها في نفس الوقت لا تريد أن تجاهر بهذه العداء.

وعندما تتأزم الأوضاع السياسية في البلاد على عهد وزارة توفيق نسيم التي أبطلت العمل بدستور 1930 ولم تعد دستور 1923 فأصبحت البلاد بلا دستور، وما ذلك إلا لتدخل انجلترا في شئون البلاد تدخلا سافرا في عهد تلك الوزارات الضعيفة التي لا تستند إلى أي سند شعبي، في ذلك الوقت تقدمت مصر الفتاة إلى كل الأحزاب والهيئات السياسية كي تتحد وتتعاون للخلاص من تلك الأزمة، ولكي يكونوا قادرين على الوقوف في وجه أطماع الإنجليز.

كانت مصر الفتاة أول من رفع شعار الاتحاد والتعاون بين الأحزاب المختلفة لكن الأحداث الجارية لم تتح لهذا الاتحاد أن يرى النور إلا في شهر نوفمبر من نفس العام.

لم تتلق مصر الفتاة ردا على دعوتها التي دعت إليها، فهي تطالب زعماء الأمة بأن يجتمعوا لمعرفة غايات الأمة ومطالبها، ولعلها تدرك تماما أن غايات الأمة هي دعوة الوفد لتولى الحكم كي يستطيع أن يوقف تدخل انجلترا في شئون البلاد الداخلية، وبالرغم مما ترمى إليه مصر الفتاة فإن الوفد ظل على خطته في تجاهلها، وأدرك أن استمراره في تأييد وزارة توفيق نسيم كي تمهد له العودة إلى الحكم لا يجعله بحاجة إلى أن يصغى لجمعية هو شاك فيها وفى اتجاهها منذ البداية.

نفذ صبر مصر الفتاة في مهادنة الوفد، فلم يستطع أحمد حسين أن يكبح جماح نفسه أكثر من هذا بل حاول أن يخرج عن صمته ويهاجم الوفد، فخرج بمقال طويل بعنوان" الوفد بين الأمس واليوم" لماذا كنا من جنوده؟ ثم اختلفنا معه.

وفى ذلك المقال عقد مقارنة بين الوفد عندما كان " يرعب" الإنجليز وهم في أوج قوتهم، أما اليوم لقد أصبح الوفد الآن يدعو إلى صداقة الإنجليز، ويهاجم قرارات المؤتمر الوفدي التي تدعو المصريين إلى التفاهم مع الإنجليز ورعاية مصالحهم المشروعة، ثم يندد بتصرفات النحاس باشا ، وتتضح خطة أحمد حسين من هجومه هذا بقوله

" إن الخلاف بيننا وبين الوفد، أن الوفد يحاول وصم كل حركة بعيدة عنه سواء كانت مصر الفتاة أو اتحاد العمال الخاص بالنبيل عباس حليم" وينم هذا المقال عن العداء " الهادئ" للوفد ولرئيسه مع محاولة لتبسيط الخلاف وهو أن الوفد يرفض قيام أية كيانات إن لم تندرج تحت رايته، وأحمد حسين عاتب على الوفد تصرفه هذا .

وتشتد مصر الفتاة في مهاجمة الوفد إلى حد ما ، فيوجه أحمد حسين خطابا إلى النحاس باشا يحمله فيه مسئولية ما آلت إليه أوضاع البلاد على يد وزارة نسيم التي يؤيدها، ويحدد أحمد حسين في هذا الخطاب سياسته تجاه الوفد في المستقبل ويوضح أنه على الرغم من أن الوفد قد وجه له اهانات شخصية بأن اتهمه بأنه اختلس أموال مشروع القرش وقامت المظاهرات تنادى بسقوطه " حرامي القرش"

فإن أحمد حسين لم يخرج عن خطته ولم يهاجم الوفد طوال العامين الماضيين ، إلا أنه هذه المرة لديه رغبة شديدة في مهاجمة الوفد، وإن كان يبرر هجومه بأنه لمصلحة البلاد فهو يهاجم الوفد هجوما موضوعيا ويهاجمه لأنه يرى أن ما تعانيه البلاد على يد نسيم باش إنما الوفد هو المسئول عنه، بل يحمل النحاس باشا شخصيا مسئولية ما يحدث، ولكنه يخفف نغمة الهجوم فيذكر أنه لا يقصد من ورائه إلا الخير فالوطن فى خطر.

وعلى الرغم من أن أحمد حسين قد أعلن أنه سيهاجم الوفد إلا أن نغمة العداء الهادي ظلت مستمرة، فلم يكن هجوما عنيفا وربما لأن مصر الفتاة لم تكن تستند إلى سند قوى في تلك الفترة.

ويخرج الوفد عن صمته وتجاهله فيكتب العقاد- كاتب الوفد الأول في ذلك الوقت- مقالا يهاجم فيه مصر الفتاة ويعتبرها إحدى حركات زكى الإبراشي (ناظر الخاصة الملكية) ويتساءل العقاد عن المصادر التحى تمولها وأنى لها بإصدار جريدة وافتتاح مكتب لها في القاهرة، وآخر في الإسكندرية إذن العقاد في هذا يعبر عن رأى الوفد فهو من كبار كتابهن وبذلك يفصح الوفد عن تشككه في مصر الفتاة، وعلى الرغم من أن أحمد حسين وفتحي رضوان توجها لمقابلة العقاد وشرحا له كل ما يتعلق بهم وبجمعيتهم إي أنه لم يقتنع بوجهة نظرهما وعاد فهاجمهما واعتبرهما وجمعيتهما صنيعة من صنائع السراي.

وعلى هذا بدأ الوفد يجاهر بالعداء، فعندما سافر أحمد حسين وفتحي رضوان إلى أوربا في ديسمبر 1935 للدعاية للقضية الوطنية، قاطعتهما لجنة الطلبة المصريين بباريس وهم في الغالب من الطلبة الوفديين.

ولعل الوفد كان يتجاهل الجمعية طالما كان نشاطها داخل مصر أما أن ينتقل إلى المحافل الدولية فذلك ما لا يرضى عنه الوفد، والوفد طوال حياته السياسية يرفض وبإصرار أن تقوم إلى جانبه كيانات سياسية تستقطب بعض نشاطاته فئ الخارج وتدعى أنها تمثل الأمة.

استطاع الوفد أن يسترد أنفاسه التي أنهكتها مطرقة صدقي وشرع ينظم صفوف جماهيره في عهد وزارة توفيق نسيم، فتكونت " رابطة الشبان الوفديين" برئاسة زهير صبري المحامى ومن بين أعضائها كان تكوين فرق القمصان الزرقاء.

عاد أحمد حسين من أوربا ليجد أن تلك الفرق قد تم تأليفها ، وبذلك دخلت خصومته للوفد مرحلة جديدة وانتهت مرحلة العداء الهادئ التي مارسها منذ البداية، فمه أنه أظهر سروره فى البداية لأن فكرة مصر الفتاة في النظام والعسكرية قد انتصرت إلا أنه عاد بعد أيام فهاجم هذه الحركة ووصفها بأنها" حركة زائفة" وأنها قامت على تقليد حركة القمصان الخضر، فلن تلبث أن تزول.

على ن أحمد حسين عاد أيضا ليجد كبار مؤيديه قد تولوا الحكم، على ماهر رئيسا للوزراء، وعلوبة باشا وزيرا للمعارف وغيرهما " فالوزارة كلها صديقة لمصر الفتاة".

في ظل تلك الظروف المواتية لم يجد أحمد حسين مفرا من أن يشتد فى الهجوم على الوفد ، خاصة وأن كبار أصدقائه يساندونه، وقد استغل هؤلاء تجاهل الوفد وتجهمه تجاه الجمعية وعملوا على ضمها إلى صفوفهم ، فيذكر أحمد حسين بنفسه أن الوفد هو الذي أحجم عن فتح قلبه لجمعيته فهو يطالبه بأن يعلن خطة للكفاح المستميت، وليعلن الحرب على الخوف، وليدع للتضحية وينظم الصفوف لخلق القوة في نفوس الشباب، لتكن أول من ينضوي تحت لوائه ونكون لجنة من لجانه.

ولما كان الوفد لا يخرج عن خطته فئ التجاهل سنحت الفرصة أمام الأحزاب الأخرى والشخصيات السياسية كي تتصل بمصر الفتاة، ولما كانت الحركة في حاجة دائمة إلى المال ، طرقت عدة أبواب من بينها علوبة باشا ، محمد محمود باشا ، بهي الدين بركات باشا، وكان على رأسهم حماسة ورغبة في تأييد مصر الفتاة على ماهر ويليه محمد محمود ثم بهي الدين بركات.

وفى ذلك الوقت تضافرت كل تلك القوى ضد الوفد فهؤلاء الأشخاص وأحزابهم هم الأعداء الطبيعيون للوفد، أما مصر الفتاة فقد رأت فيه العدو الأول لأنه يهاجمها ويعمل على خنقها وعقبة في سبيل انتشار " النور الجديد" فاتفق الطرفان إذ اتحدت مصلحتهما في أن يعملا على صرع الوفد والتغلب عليه.

وعلى ضوء تلك النظرية التي اعتنقها أحمد حسين أخذت العلاقات تسوء بينه وبين الوفد يوما بعد آخر. 

عاد أحمد حسين من أوربا فوجد أصدقاءه في كراسي الحكم، فالتقى بهم كثيرا وأخذ نشاط جمعيته يزداد قوة واتساعا، فقد عقدت الجمعية اجتماعات ضخمة عقب عودته وقد كانت هذه الاجتماعات مثار خلافات وصدامات بين القمصان الزرقاء التي حاول مهاجمتها والعمل على فضها، وكان البوليس يتدخل لصالح مصر الفتاة.

وهنا يمكن القول أن تكوين فرق القمصان الزرقاء التي ألفها الوفد كانت محكا للاشتباكات الدائمة والعنيفة بين الطرفين، فقد اتسعت دائرة الصدام واتخذ الخلاف والصراع مظهرا عنيفا سيتطور حتى يصل إلى قمته عند نهاية عهد وزارة الوفد في عام 1937 باعتداء عز الدين عبد القادر على النحاس باشا .

اشتد الوفد في مخاصمة مصر الفتاة، وقد رأت أن تتصدى له بعد أن وجدت نفسها مؤيدة بقوى كبيرة ولعل أهمها في ذلك الوقت الوزارة وعلى رأسها على ماهر، والقصر يعطف عليها ويساندها، وقد استمرت تلك الفترة إلى أن تولت وزارة على ماهر إجراء الانتخابات في ظل الجبهة الوطنية، فأسفرت عن فوز الوفد بأغلبية كبيرة أتاحت له أن يؤلف الوزارة 1936 وهنا تدخل العلاقات مرحلة جديدة، وعلى الرغم من أن مصر الفتاة رحبت بوزارة النحاس وأطلقت عليها الوزارة الدستورية، وأنها تؤيدها كلمتا دافعت عن الدستور وعودة الحياة النيابية إلى البلاد، وخاصة وأن رئيسها أعلن برنامجا نص فيه على إتمام الاتفاق مع الإنجليز وتسوية المسائل المعلقة التي تشوب استقلال مصر ، وأنه سيضمن العدالة والحرية لجميع الأحزاب على السواء.

وهكذا استقبلت مصر الفتاة وزارة الوفد عساها تبدأ صفحة جديدة من العلاقات الطيبة ولكن واقع الأحداث التالية لم يدل على ذلك . وفى نفس الوقت الذي كان فيه الوفد يتجاهل جمعية مصر الفتاة تجاهلا تاما وبعد أن قررت أن تتصدى له، فإن محاولات كانت تجرى بينهما لتحسين العلاقات، فأحمد ماهر باشا على علاقة بمحمد صبيح الذي كان يعمل معه في جريدة" كوكب الشرق" الوفدية، وفى نفس الوقت كانت هناك اتصالات بينه وبين أحمد حسين، وقد أثنى أحمد ماهر على نشاط الجمعية وأبدى سروره لوجود جمعية متطرفة معادية للانجليز ووعد بمساعدتها وأنه سيبذل أقصى جهده للعمل على تحسين العلاقات بينها وبين الوفد.

ويذكر أحمد حسين " أنه منذ وصل النحاس باشا إلى الحكم قدرت أنه يجب أن يأخذ فرصته كاملة وقد استقبلنا حكومته استقبالا حسنا، وفكرت في مشروع اشغل به نفسي ولا يدخلني في اصطدام مباشر مع الحكومة؛

ففكرت في أن أقوم برحلة من أسوان مخترقا الصعيد سيرا على الأقدام وتطوع معي سبعة أو ثمانية مجاهدين.. وإذا بى أفاجأ بدعوة لمقابلة حسن باش رفعت وكيل الداخلية.. فنقل إلى رغبة النحاس باشا في ألا أقوم بالرحلة ، فإذا كان ولابد فعلى ألا لبس القميص الأخضر" أصر أحمد حسين على أن يقوم بالرحلة رغم المخاوف التي بثها فيه حسن رفعت بأن حياته في خطر، فتوجه إلى لقاء كين بويد( مدير الإدارة الأوربية بوزارة الداخلية) وأبلغه بما حدث بينه وبين حسن رفعت فطمأنه كين بويد وأحسن استقباله وأكد له أن لا خوف على حياته، وظل يطمئن على أحواله طوال الرحلة رغم التعليمات من وزارة الداخلية للمديرين في الوجه القبلي بتضييق الخناق على الرحلة وعدم السمح لأفرادها بارتداء القميص الأخضر واستبداله بقمصان " كاكية".

وعلى الرغم من الحصار الذي فرضه النحاس باشا- وزير الداخلية- على الرحلة إلا أن أحمد حسين ارتاح لنتائجها ، خاصة حين قدم هارون باشا سليم أبو سحلى نائب فرشوط استجوابا في البرلمان جاء فيه " هل أصدر وزير الداخلية أمرا بمنع سفر أعضاء مصر الفتاة في رحلة إلى الصعيد، ما داموا يلبسون القميص الخاص بهذه الجمعية؟ ..

وهل يعلم دولته أن رئيس الوزراء قد استعرض هو ووزير الزراعية شبانا يلبسون قمصانا زرقاء في سيدي جابر، وإنه أعلن رضاؤه عنهم وعن نظامهم؟ فإذا كان دولته يعلم ذلك فهل هناك نص في الدستور أو القانون يبيح لجماعة ما يحرمه على جماعة أخرى".

رد النحاس باشا على الاستجواب بقوله أنه ثبت لوزارة الداخلية أن جماعة مصر الفتاة تعمل لحساب دولة أجنبية، وق جرت محاولات داخل المجلس من بعض النواب لاستجلاء الموضوع وحمل النحاس باشا على إلقاء مزيد من الضوء عليه، فوقف النائب فكرى أباظة يقول أنه نظرا لأن كثيرا من الشباب متصل بهذه الجمعية فإنه يرى تأجيل الاستجواب حتى تودع الحكومة وثائق الاتهام في المجلس ليطلع عليها الأعضاء ولو في جلسة سرية؛

فإذا تبين لهم أن هذه التهمة الخطيرة ثابتة، استطاعوا أن يحولوا دون خطر هذه الجمعية على البلاد، أما إذا كانت التقارير محل نظر استطاع النواب أن يناقشوا بالحجة والمنطق.

على أن النحاس باشا رفض رفضا باتا إيداع أية وثائق في مجلس النواب، قائلا أن الوزارة متثبتة مما قدم إليها من الأدلة ، وأن هذه المسائل تتعلق بسياسة الدولة العامة وهى من أسرار الدولة ولا يمكن أن تتقدم بها ولن تتقدم، لأن أسرار الدولة فوق كل اعتبار والوزارة مسئولة أمامكم، فإما أن تعطوها ثقتكم وإما أن تسحبوا منها هذه الثقة والرأى الأخير لكم.

استمرت المحاولات من جانب فكرى أباظة والنائب عبد المجيد إبراهيم صالح- الأحرار الدستوريين لإقناع النحاس باشا إيداع الوثائق بالمجلس، أو تقديم أعضاء هذه الجمعية إلى المحاكمة، ولكنه أصر على رفضه معلقا الأمر بثقة المجلس في الحكومة، وإزاء هذا الإصرار أدرك النواب أن لا جدوى من المناقشة فوافقوا على إنهائها. وبذلك ظل الاتهام معلقا فوق رأس مصر الفتاة. وإن لم يقدم النحاس باشا الدليل عليه.

كان رد فعل ذلك الاتهام لدى مصر الفتاة عنيفا، فقد بعث فتحي رضوان سكرتير عام الجمعية ببرقية إلى النائب العام نصها" اتهم دولة رئيس الوزراء جمعية مصر الفتاة اليوم في مجلس النواب بأنها تخدم دولة أجنبية وهذه تهمة الخيانة العظمى .. نطلب التحقيق معنا لتحديد المسئولية" هذا وقد اجتمع مجلس الجهاد وقرر إيفاد ثلاثة منهم ليقدموا أنفسهم للنيابة عن الجمعية.

فاعتذر النائب العام بأن الحكومة لم تكلفه بذلك، ومن ثم انهالت برقيات التأييد على جمعية مصر الفتاة من أعضائها بعد أن لم يقدم النحاس ما يثبت اتهامهم، ورفض النائب العام التحقيق معهم، ورأت الجمعية أن ترد على اتهام رئيس الحكومة بعقد اجتماع في مسرح" برنتانيا" ولكن ذوى القمصان الزرقاء هاجموا الاجتماع وعملوا على فضه ولكن القمصان الخضر أظهروا شجاعة فى الدفاع عن أنفسهم فاضطر البوليس إلى فض الاجتماع" .

كذلك أراد أحمد حسين أن يعقد اجتماعا يدعو فيه لفيفا من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب ورجال الصحافة ليقلى فيهم خطابا يدافع فيه عن نفسه وعن حركة مصر الفتاة، وأرسل بطاقات الدعوة إلى أكثر من مائة فرد من المدعوين الذين تم اختيارهم ولكن الحكومة لم تسمح بهذا الاجتماع وصادرته، ولذلك اضطرت مصر الفتاة إلى طبع الخطبة وتوزيعها ونشرتها مجلة الصرخة فكان ذلك آخر عهدها بالانتظام فى الصدور. كان ذلك إيذانا بازدياد معدل التوتر واضطراب العلاقات بين مصر الفتاة والوفد.

ولقد كانت النتيجة المباشرة لتصريح النحاس باشا باتهام مصر الفتاة بالعمالة هو اتساع دائرة الصدام القائم بين القمصان الزرقاء والخضراء، وبدأت الاضطرابات بينهما تزداد شدة خلال شهري يوليو وأغسطس في كثير من المدن المصرية، وكان أكثر هذه الحوادث خطورة ما وقع في نهاية شهر يونيو، حيث كانت تعليمات النحاس باشا تقضى وتحرض القمصان الزرقاء بالهجوم على اجتماعات القمصان الخضر، ويتحمل الوفد مسئولية هذه الاشتباكات في بداية الأمر.

وفى هذه الفترة بدأ كل من الجانبين يعمل على تسليح نفسه بالسكاكين والعصي الغليظة والحجارة والمقاليع، وأسفرت الصدامات عن انتصار القمصان الزرقاء لكثرتهم وانتشارهم في كل مكان، وفى منتصف يوليو أعلن مجلس جهاد جمعية مصر الفتاة أنه لا يحمل ولا يمكن أية عداوة للقمصان الزرقاء ويناشدهم وضع حد لهذا العداء ولكن ذلك لم يتح لهم أن ينجوا من الاعتداء ، فأصدر أحمد حسين لأعضاء مصر الفتاة بألا يرتدوا أزياءهم الرسمية علانية في الشوارع كي يسود الهدوء البلاد.

وبالرغم من تعليمات أحمد حسين للمجاهدين من أعضاء جمعيته بألا يرتدوا الملابس الرسمية فإن ذلك لم يجعلهم يسلموا من الاعتداء أيضا، وانتشرت الحوادث في طول البلاد وعرضها، وكان أكثرها خطورة ما وقع فى دمنهور في شهر أغسطس عندما قتل أحد أصحاب القمصان الزرقاء، فقد جرت معارك دموية، وقد اتهم بقتله عبد الرحمن أبو الوفا عضو مصر الفتاة وقدم معه للمحاكمة سبعة من أعضاء الجمعية.

وكان ذلك الحادث هو الذي اقنع وزارة الوفد بفشل هذا الأسلوب في محاربة مصر الفتاة، فرأت أن تتدخل بقوة الدولة السافرة فأصدرت أوامرها بإغلاق دور مصر الفتاة في أنحاء البلاد،وكذلك زادت الحكومة في أجراءتها فمنعت جريدة الجمعية " الصرخة" عن الصدور وفى ذلك الوقت قرر صاحبها أن يقطع علاقته بمصر الفتاة تماما.

وقد امتد نشاط الوفد للتضييق على مصر الفتاة ومهاجمتها إلى خارج مصر، فكان فصل مصطفى الوكيل من البعثة دليلا جديا على مدى فساد السياسة الحزبية التي مارسها الوفد.

كان مصطفى الوكيل يدرس لدرجة الدكتوراه في بعثة دراسية بلندن على نفقة وزارة المعارف ولما جاءت وزارة الوفد وتولت الحكم، كان من تصرفاتها للتضييق على مصر الفتاة وخنقها أن فصلت مصطفى الوكيل من البعثة لا لشيء إلا لأنه ينتسب لجمعية مصر الفتاة وعلاقته برئيسها أحمد حسين ، فلما كان وفد المفاوضات في لندن لتوقيع المعاهدة، التقى مصطفى الوكيل بمكرم عبيد وسأله عن سبب فصله من البعثة؛

فطلب إليه مكرم عبيد أن يقطع علاقته بمصر الفتاة وبأحمد حسين هو على استعداد أن يعيده إليها مرة أخرى ، ولكن مصطفى الوكيل رفض، وازداد إصرار على علاقته بمصر الفتاة، واستطاع أن يتم دراسته لدرجة الدكتوراه في الرياضة البحتة من جامعة لندن في عامين بدلا من ثلاثة وهى فترة البعثة وعاد إلى مصر في نوفمبر 1937.

وهكذا يتخذ الوفد من الخصومة السياسية تكأة لكل تصرفاته المشينة والوقوف في سبيل نابغة من نوابغ الشباب المصري في تلك الفترة فيحاربه في أعز شيء لديه وهو تهدي مستقبله، ولكن ثقته بنفسه جعلته ينجز دراسته في أقل من المدة المقدرة لها.

أخذ أحمد حسين عهدا على نفسه بألا يهاجم الوفد طالما المفاوضات بينه وبين الإنجليز جارية لعقد المعاهدة، وإن كان يعتقد مقدما بأن النحاس سوف يقضى عليه بعد توقيع المعاهدة لأنه سيسلم في حقوق مصر بما لم يقبل به محمد محمود باشا وصدقي وغيرهما من الوزراء المصريين، معللا ذلك بأن المفاوضين يتساهلون مع الإنجليز لإبقائهم في الحكم وقد بنى ذلك على امتداح الصحف الإنجليزية لهم، ولكنه يذكر أن الشباب المصري لهم بالمرصاد فإذا لم ترضه المعاهدة فسيقضى على القائمين بها.

بعد أن ساد جو نسبى من الحرية بعد توقيع المعاهدة حتى تتاح الفرصة كي يصدق عليها البرلمان، وبعد أن تم التصديق رأت الحكومة أن يدها مطلقة في الحكم تفعل ما تشاء، وخاصة بعد أن اطمأنت إلى تأييد الإنجليز لها بعد أن ظفروا منها بالمعاهدة التي روجت لها الحكومة فسمتها " وثيقة الشرف والاستقلال" وكان الإنجليز أكثر لهفة على بقاء الوزارة فئ الحكم باعتبارها أقدر الحكومات على تطبيق المعاهدة.

وقد لاح في الأفق أن الحكومة تنوى البطش بمصر الفتاة، فأعلنت مصر الفتاة عن نيتها في عقد مؤتمر في نهاية عام 1936 لينظر في الموقف السياسي المترتب على إبرام المعاهدة، ولكن النحاس يصدر أمره بمنع الاجتماع فيشتد أحمد حسين في الهجوم عليه.

ويرسم لنفسه خطة مع " حلفاء" الأمس كي يعملوا جميعا على إسقاط وزارة النحاس بعد أن اشتدت في مخاصمتها لمصر الفتاة وسارت في الحكم سيرة الحكم المطلق، فارتكبت في ثلاثة أشهر ضد مصر الفتاة ما لم تتعرض له منذ نشأتها.

ولم يركن على ماهر إلى السكون والراحة بعد أن أخلى منصب الوزارة للوفد ولزعيمه ويقنع بكرسيه في مجلس الشيوخ، بل شرع يعد الخطط ويحكم التدابير لإزاحة وزارة الوفد، فقد تحول منزله إلى معسكر يعمل لتوجيه الضربات للوفديين فكان يستقبل كبار الموظفين وله فيهم بعض أصدقاء أو قل صنائع، فكانوا يمدونه بأسرار الحكومة ما جرى وما سيجرى، وكان بعض النواب من جميع الهيئات يتصلون به كذلك، وهكذا كان على ماهر باشا يعمل بالليل والنهار متعقبا الوفد.

ولما اشتد الوفد في هجومه على مصر الفتاة كان ولابد وأن تلتقي مع على ماهر في منتصف الطريق وأن تعمل إما بتوجيهاته ، أو بوحي من داخلها على صرع الوفد والاستماتة في إحراجه متعاونة مع كل القوى لإسقاط وزارته فقد ركزت جهودها في إحراجه العام التالي عام 1937 لتحقيق هذا الهدف. شرع أحمد حسين و" حلفاؤه" الطبيعيون يدبرون الخطط لإقالة وزارة النحاس فقد تحولت جمعيته إلى حزب سياسي، وخاصة أن المعارضة التقليدية للوفد كانت تسانده وتؤيده للمضي في حركته لتقويض دعائم الوزارة .

وبناء على هذه الخطة شرع أحمد حسين يشتد في هجومه على وزارة الوفد ويطالب بإسقاطها فينشئ مقالا بعنوان"برنامجنا السريع إسقاط وزارة صاحب المقام الرفيع" ولكنه يتدارك في نهاية المقال فيعلن أنه سوف يرجئ هذا الأمر حتى يتولى جلالة الملك سلطاته الدستورية؛

ولقد كان ذلك المقال سببا في اتخاذ الحكومة إجراءات ضده فألقى القبض عليه وقدم إلى المحاكمة، وأودع سجن الاستئناف ولكن حاجة الحزب إليه اقتضت دفع الكفالة- التي حكم عليه بها- وخروجه من السجن. خرج أحمد حسين ليوجه الحملة ضد الوزارة حتى يحقق هدفه وهدف حلفائه من ورائها.

وعندما قرر أحمد حسين تأجيل المطالبة بإقالة الوزارة، اهتم بمسائل أخرى كانت تحرج موقفها أمام البرلمان، فلما كان أحمد حسين ينتهج موقف الدفاع عن الإسلام بإزاء ما يتهدده من أخطار فقد اتهم- القمصان الزرقاء بالإلحاد وصف الحكومة الوفدية بأنه قبطية النزعة، خاصة وأن كل من مكرم عبيد وواصف بطرس غالى قد اسند إليهما وزارتا المالية والخارجية، ولم يكن ذلك الموقف شيئا جديدا فإن الأحرار الدستوريين وصفوا الوفد منذ عام 1929 بأنه حزب يمثل الأقباط المتعصبين.

ومن هذا المنطلق سعى أحمد حسين لإثارة هذا الموضوع فيتقدم عبد العزيز الصوفانى بسؤال في مجلس النواب عن بعض الوظائف التي تقلدها موظفون من الأقباط وكذلك يتقدم عبد الحميد بك سعيد- وكلاهما من رجال الحزب الوطني- بسؤال آخر حول نفس الموضوع لوزير المعارف ، كما أن السيدة نبوية موسى كانت تقوم بإحصاء الإعانات الحكومية التي منحت للمدارس الحرة" القبطية" منذ أن تولت وزارة الوفد الحكم وقررت أن هذه المبالغ زيادة عن المألوف . وعلى ذلك تهتم مصر الفتاة بإحراج موقف الوزارة أمام البرلمان رغم الأغلبية التي تؤيدها.

وفى نفس الوقت برزت إلى الوجود مسألة الامتيازات الأجنبية وهى المجال الآخر الذي ستنازل فيه مصر الفتاة الوفد وتعمل على مهاجمته ، ففي يناير من عام 1937 دعت حكومة الوفد الدول صاحبة الامتيازات إلى الاشتراك في مؤتمر يعقد في مدينة " مونترو" بسويسرا يوم 12 أبريل من نفس العام وذلك للمفاوضة في إلغاء هذه الامتيازات، وقد استجابت تلك الدول لهذه الدعوة.

ومنذ أن أعلنت الحكومة عن نيتها في عقد المؤتمر شرعت مصر الفتاة تعد العدة لعقد مؤتمرات في الجامعة والجامع الأزهر طالبت فيها بإلغاء الامتيازات بحرة قلم من جانب الحكومة المصرية، وأن تلغى المحاكم المختلطة بعد إنذار الدول بعام واحد. ومصر الفتاة تضع نتائج مسبقة للمؤتمر وترفض ما عدا ذلك.

وبعد أن تواترت أخبار المؤتمر في مصر وموقف الوفد المصري ومشروع الاتفاق الذي قدمه للمؤتمر ، هاجمت مصر الفتاة المشروع واشتدت في الهجوم على شخص النحاس باشا متهمة إياه بالتهاون في حقوق مصر كما ترى مصر الفتاة فقد كانت ترى أن يعلن النحاس باشا في المؤتمر أن الحكومة المصرية قد قررت ابتداء من يناير 1939أن تلغى المحاكم المختلطة.

وأعلنت رفضها البات للمطالب التي تقدمت بها الحكومة المصرية، ووجهت نداء للمصريين تشرح لهم فيه حقهم الكامل في إلغاء الامتيازات والمحاكم المختلطة، وأن كل تفريط في هذه الحقوق وإعطاء الأجانب ضمانات خاصة وتنظيم ما يسمونه بفترة الانتقال هو عدوان جديد على سيادتهم واستقلالهم وشرعت تهاجم مشروع الاتفاق بنشر الآراء المختلفة حوله، ومنه أن نشرت أن محمد محمود باشا اعتبر أن ما وصل إليه المؤتمرون لا يرضى مصريا واحدا.

وكذلك انشأ عباس العقاد- وكان قد خرج على الوفد- مقالا بعنوان " أقل النتائج في أحسن الظروف" هاجم فيه ماوصل إليه المؤتمر واعتبره أقل بكثير مما كان يمكن الحصول عليه.

ولم يكتف حزب مصر الفتاة بذلك بل اصدر بيانا طويلا حدد فيه موقفه من اتفاقيات مونترو، فأعلن في ختامه" أنه لا يرضى بإلغاء المحاكم المختلطة بديلا وأن يكون إلغاؤها ناجزا وشاملا كاملا. ولذلك فهو لا يعترف باتفاقيات موترو حتى ولو وافق عليها البرلمان.

وعلى الرغم من أن مصر الفتاة قد بذلت الكثير في الهجوم على اتفاقيات مونترو إلا أنها كانت خطوة مرحلية للخلاص من الامتيازات وما ينتج عنها وهى بلا شك خطوة إلى الأمام فقد حققت بها مصر رسميا سيادتها على الأجانب في التشريع والإدارة والقضاء.

كانت تلك الكتابات التي نشرتها مصر الفتاة قبل سفر الوفد إلى المؤتمر ومهاجمتها ما سوف يصل إليه المؤتمر مقدما مثار تحقيق ومساءلة من جانب النيابة لكل من أحمد حسين ومحمد صبيح على اعتبار أنه رئيس تحرير جريدة " الثغر" والمسئول عما ينشر فيها فقد تم القبض عليهما، وأودعا سجن الاستئناف لمدة 14 يونيه على ذمة التحقيق.

وفى ذلك الوقت كثرت القضايا التي قدم فيها أعضاء مصر الفتاة ورئيسها للمحاكمة حتى أن هذا العهد يمكن أن نسميه عهد القضايا والمحاكمات، فبلغ عدد القضايا المنظورة أما القضاء في شهر أبريل ست قضايا وقد طلب أحمد حسين ضمها جميعا أما دائرة قضائية واحدة .

وكانت في جملتها قضايا نشر صحيفة اشتداد الجانبين في معاملة الآخر، والذي أدى إلى حدوث الكثير من الصدامات التي انتشرت طول البلاد وعرضها والتي تمثلت في اعتداءات القمصان الزرقاء على قمصان مصر الفتاة.

هذا فضلا عن تعرض منازل أعضاء مصر الفتاة للتفتيش وإلقاء القبض على بعض أعضائها في عرض الطريق. ومحاولات من جانب القلم السياسي استخدام عملاء له من بين الأعضاء.

استمر الموقف هكذا بين الطرفين، فلم تكف مصر الفتاة عن تحريض الطلبة من أعضائها وأنصارها على إثارة الشغب والإضراب والإخلال بالأمن العام . كذلك رسم حزب مصر الفتاة خطة لإحراج موقف الوزارة وذلك باستئناف رحلة الصعيد وإثارة الفلاحين والعمال ضدها.

واستمر الحزب في ذلك المخطط فلما لجأت الحكومة إلى مصادرة اجتماعاتهم وجريدتهم، عقد أعضاؤه المتحمسين النية على أن يتحول حزبهم إلى جمعي سرية تحارب الحكومة وتوزع المنشورات بكل الوسائل لإثارة جميع الطبقات من العمال والطلبة والفلاحين والموظفين ضد الحكومة، ومحاولة كسبهم إلى صفه في مواجهة أعمال العنف التي تتخذها الحكومة وقمصانها الزرقاء حياله ، كما أن الحزب يرى أن حلفاءه وأصدقاءه سيؤيدونه تماما بكل الأساليب في تنفيذ خطته ضد الوزارة وأنهم سوف يمدونه بكل مساعدة ممكنة.

تعددت أساليب ذلك المخطط الذي رسمته مصر الفتاة بالتعاون مع حلفائها لإسقاط الوزارة، فإلى جانب نشر المقالات التي تحوى هجوما عنيفا على الوزارة والتنديد بها وبتصرفاتها ، فقد سعت أيضا إلى العمل على بث الفرقة بين صفوف الوفديين خاصة بعد إخراج النقراشي من الوزارة عند إعادة تأليفها بعد تولية الملك سلطاته الدستورية ، فكان ذلك الانقسام في صفوف الوفد فرصة سانحة لمصر الفتاة استغلتها أحسن استغلال لمهاجمة الوزارة الوفدية. فقد عمدت إلى إظهار ذلك الانقسام وتوسيع مداه. هذا فضلا عن إثارة الطلاب ضدها بإحداث الاضطرابات داخل المدارس والجامعة عند بدء الدراسة بها.

وتتابع مصر الفتاة تنفيذ مخططها فتتقدم بالتماس في شهر أغسطس إلى الملك بطرد الوزارة. وفى شهر سبتمبر يطرح الحزب استفتاء على صفحات جريدة " الثغر" حول الوزارة القادمة التي ستحل محل وزارة الوفد، وفى شهر أكتوبر تتوجه بنداء إلى زعماء البلاد جميعا أن يشتركوا في ائتلاف لإنقاذ البلاد.

ويكرر أحمد حسين محاولة اللجوء إلى القصر طالبا إقالة الوزارة، فليس أدل على فساد حكمها وتصرفاتها في استقالة أحد أعضائها محمود غالب باشا وزير الحقانية احتجاجا على تصرفات الحكومة في الشئون المالية.

وتحاول مصر الفتاة أن توسع نطاق المعارضة فتطلب من أعضائها في مختلف البلدان ضرورة التوجه بعرائض إلى الملك بطلب إقالة الوزارة . فتتوالى العرائض على القصر تحمل مئات التوقيعات من مختلف لجان مصر الفتاة بالأقاليم. ولم يقتصر تقديم العرائض على داخل البلاد بل لجأ أحمد حسين إلى أسلوب لآخر، فأرسل نسخا من العريضة التي أعدها ضد الوزارة إلى الجمعيات المصرية في كل من فرنسا وسويسرا وانجلترا كي يوقعها أعضاء تلك الجمعيات ويرسلوها إلى الملك، كذلك أرسل أحد علماء الأزهر نسخا منها إلى أعضاء البعثات الأزهرية في الخارج.

وعندما عين على ماهر في منصب رئيس الديوان دون علم الوزارة، كان ذلك بداية الصدام بينها وبين القصر وإن كانت قد سلمت بالأمر الواقع. وقد كان خضوعها للأمر الواقع بداية التفريط في الدستور وحق الشعب- بعد عقد المعاهدة- فكان يجب أن تقف الموقف الحازم الذي يصون للوطن حقوقه ويزود عنه سلطان القصر.

وقد أدركت مصر الفتاة أن هذا التعيين في صالحها فعلى ماهر صديقها وعلى ذلك ستكون كفتها هي الراجحة في صراعها مع الوفد وانه لن يمضى سوى أسابيع قليلة حتى يكون النحاس خارج الحكم.

وعندما تولى على ماهر رياسة الديوان الملكي في 20 أكتوبر 1937 انهالت العرائض على القصر من أعضاء مصر الفتاة بالأقاليم بطلب إقالة الوزارة ولكن قمة المخطط تتمثل في حركة الجامعة، فقد قرر طلبة مصر الفتاة بالجامعة إحداث الشغب بها، فخطب فيهم حمادة الناحل الطالب بكلية الحقوق وترددت الهتافات ضد النحاس باشا ووزارته ، فحدثت الاضطرابات والمشاجرات بينهم وبين الطلبة الوفديين. وفى اليوم التالي رأى الطلبة أن ينظموا أنفسهم ليتوجهوا إلى الملك في 24 أكتوبر، كما هتفوا بسقوط الحكومة ، واشترك معهم طلبة الأزهر ومدارس التجارة والصنايع والمدارس الثانوية واضربوا عن الدروس.

وفى 24 أكتوبر حدث الصدام بين الطلبة الوفديين وبين طلبة مصر الفتاة وأنصارهم فتدخل البوليس معتديا على حرمة الجامعة، والقي القبض على العديد منهم، وقد اتصل الطلبة بزعماء المعارضة من أمثال محمد محمود، إسماعيل صدقي وغيرهما. وقد أسفرت تلك الحركة عن استقالة لطفي السيد مدير الجامعة احتجاجا على انتهاك حرمتها.

على أن أحمد حسين في موقع أخر يوضح سبب عدم إتيان حركة الجامعة ثمرتها المرجوة وهى طرد الوزارة من الحكم، " ولم تنتج حركة الجامعة نتيجتها لما ترتب على المقابلة التي تمت بين جلالة الملك والنحاس باشا فقد خيل للناس أن الغاية بعيدة بعد تصريحات رئيس الوزارة، وبمجرد إعلان هذه التصريحات أرسلت خطاب شديد اللهجة إلى على باشا ماهر قلت له فيه أن حركة الجامعة كان يمكن أن تثمر ثمرتها لولا هذه المقابلة؛

وذكرت له أن الشباب غضب م،أجل الملك، فلم يكن منتظرا قبول اعتذار النحاس لمقابلته وشرح لي ما تم وذكر لي الخلاف بين النحاس والملك استدعاني لمقابلته وشرح لي ما تم وذكر لي الخلاف بين النحاس والملك حول تعيينه رئيسا للديوان وأوضح لي أن الملك مصر على ألا يتهاون مع النحاس باشا في أي حق من حقوقه وأن الوزارة لابد وأن تسقط قريبا" ولكن مصر الفتاة لم تعدم تكرار المحاولة فقررت إثارة الاضطرابات داخل الجامعة مرة أخرى في مناسبة عيد الجهاد في يوم 14 نوفمبر.

وفى هذا الصدد وزعت مصر الفتاة منشورا على أعضائهم تحثهم فيه على الاحتفال بعيد الشهداء احتفالا قويا يندد فيه بتصرفات الوزارة وإثارة السخط عليها، ومنها تنظيم المظاهرة لوداع الملك في الإسكندرية واستقباله في القاهرة ، على أن تنهال التلغرافات من لجان مصر الفتاة على رئيس الديوان لتهنئة الملك بالعودة والمطالبة بإقالة الوزارة.

وإلى جانب المنشورات فقد وجهت خطابات إلى الأشخاص البارزين في مصر الفتاة بنفس المعنى وتطالب بتحريك الشباب ضد الوزارة وإعلان السخط العام عليها.

وقد رأى البعض أن تتسع دائرة السخط على الوزارة بأن ترفع صور من العرائض إلى الصحف الأجنبية وإلى السفارة البريطانية ولكن ذلك الاقتراح لقي اعتراضا من أحمد حسين وفتحي رضوان لأن الوفديين يلجأون إلى السفارة البريطانية فلا مجال هنا لكي تلقى " عرائضنا اهتمامها".

كان الخلاف الذي حدث بين القصر والوزارة فرصة طيبة للمعارضين للوفد فقد التفوا حول القصر، فأخذوا يجمعون الأنصار من هنا وهناك مستغلين أخطاء الوزارة، وصار الخلاف حول العديد من الموضوعات كتعيين أحد أعضاء مجلس الشيوخ وتعيين كبار موظفي القصر، والمطالبة بحل فرق القمصان الملونة، كل تلك موضوعات تمسك بها القصر وأثارها واشتد في إثارتها ، فلم تنجح محاولات إزالة أسباب الخلاف بين الجانبين .

استمرت تلك الخلافات بين القصر والحكومة إلى أن وقع حادث كان له أكبر الأثر على مصر الفتاة وهو حادث إطلاق عز الدين عبد القادر أحد أعضاء مصر الفتاة النار على سيارة النحاس باشا في أواخر عام 1937.

ففي يوم 28 نوفمبر 1937 حاول عز الدين عبد القادر أحد أعضاء مصر الفتاة أن يقتل النحاس باشا ، فأطلق على سيارته أربع رصاصات لم تصبه ولكنها أصابت باب سيارته وقبض الحرس المرافق للنحاس باشا على الجاني، فكان ذلك الحادث بمثابة الفتيل الذي أشعل القنبلة التي انفجرت فأحالت حزب مصر الفتاة إلى حطام. استغلت الحكومة ذلك الحادث فألقت القبض على كل من له صلة بمصر الفتاة، حتى بلغ عدد المقبوض عليهم على ذمة التحقيق في ذلك الحادث 294 عضوا.

هذا فضلا عما قامت به النيابة بتفتيش دار الحزب بالقاهرة ومنازل زعمائه وأعضائه المعروفين للقلم السياسي كما أمرت بتفتيش شعب الحزب في بلاد القطر ودور الأعضاء التابعين لها.

كذلك أجرت تفتيش منزل محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين ، كما ركز البوليس على اعتقال الطلبة منتهزا الفرصة ليقبض على كل زعماءهم ويقدمهم للمحاكمة سواء كانوا متعاطفين مع الأحزاب المعارضة للوفد في قليل أو كثير.

وعلة هذا ولصرامة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة ضد مصر الفتاة وأعضائها في كل بلاد القطر، هذا فضلا عن المعاملة السيئة التي لقيها المقبوض عليهم، كل تلك أساليب وضح فيها الانتقال أكثر مما وضحت حاجة التحقيق في جريمة من الجرائم.

إذا حاولا أن نلقى نظرة على الدوافع التي أدت إلى الحادث ، فإن عز الدين عبد القادر يرويها لنا بنفسه، فهو يرى أن معاهدة عام 1936 لم تكن في صالح مصر الفتاة، وأن ذلك قد تولد لديه من خلال اجتماعات الحزب الوطني التي عقدها لنقد المعاهدة وبيان أوجه القصور فيها، كما أن الحكومة كانت تمنع اجتماعات مصر الفتاة، فأدرك أن هناك خنقا للحريات ، فقر عزمه أن يرتكب الحادث بنفسه وبدون توجيه من أحد.

اعتبر الوفد أن هذه الحوادث نتيجة تدبير محكم بين مصر الفتاة وحلفائها من المناوئين لحزب الوفد ورئيسه، فعند سؤال النحاس باشا أمام النيابة قرر أنه " كان هناك اتفاق على إحداث الشغب والثورة ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء، ومن ذلك تحضير الشغب وتدبيره في الجامعة والأزهر في الحفلات وابتدأ في الجامعة في بدء افتتاح المدارس والكليات وفى يوم أول أكتوبر 1937 واستمر التحريض عليه طوال هذا الشهر ، وكذلك يوم افتتاح البرلمان الغير عادى في يوم 23 أكتوبر، وكذلك الحال عند عودة جلالة الملك من الإسكندرية إلى مصر.

وكانت الأخبار تأتى إلى إدارة الأمن العام أولا بأول في التحريض عليها والمساعدة بالمال وأشخاص المساعدين، فمن المساعدين بالمال على باشا ماهر، محمد باشا محمود ، إسماعيل صدقي باشا ، محمد على علوبة باشا ، بهي الدين بركات بك وغيرهم مما هو مذكور في التقارير المحفوظة بوزارة الداخلية. ولعل النحاس باشا بهذه يريد أن يضيف إلى الحادث أبعادا جديدة.

لم يكتف النحاس باشا بما قاله في التحقيق، بل تقدم ببلاغ إلى النائب العام يطلب إجراء التحقيق مع الشخصيات سالفة الذكر، بعد أن ضم إليهم كلا من النبيل عباس حليم وعبد الخالق مدكور باشا .

ويذكر أيضا أن جميعهم على صلة سياسية بأحمد حسين تدل على اتفاق في الأغراض والخطط. وقد أحال النائب العام هذا البلاغ إلى رئيس نيابة مصر لفحصه فرد عليه بقوله وكانت وزارة النحاس قد سقطت " وبما أن التحقيق قد تناول جميع ما طلب رفعته وبخاصة الإعانات المالية، وحيث أننا استخلصنا من التحقيقات أنه لا علاقة بين الشخصيات المذكورة وبين ما وقع من الجرائم، لهذا نرى ما يستوجب سؤالهم".

من الواضح أن التحقيقات كانت قد أسفرت عن أن الجريمة عمل فردى من جانب عز الدين عبد القادر فجاء في قرار الإحالة ما ينص على ذلك" لم يقم أي دليل يؤيد اشتراك الأستاذ أحمد حسين في الشروع في تهمة القتل العمد وكذلك محمد صبيح لأنه كان صديق المتهم..

وبما أن ما ضبط من الرصاص والأسلحة البيضاء والبارود بدار الحزب وعند بعض أعضائه فإن التحقيق لم يكشف عن اتصالها بهذه الجريمة.. وبما أنه مما تقدم يكون ما نسب إلى أعضاء حزب مصر الفتاة والشخصيات التي ورد ذكرها في الأوراق على غير أساس، لذلك نأمر بقيد الحادثة جناية ضد عز الدين عبد القادر محمد توفيق، وتقدم القضية لحضرة قاضى الإحالة" وبقيت القضية منظورة أما القضاء حتى صدر الحكم في 28 مارس 1939 ويقضى"

من حيث أن المحكمة ترى من ظروف القضية وملابساتها التي أحاط بالمتهم فضلا عن حداثة سنه وسرعة تأثره بالحوادث رأت النزول من عقوبة الأشغال المؤبدة المقررة قانونا لجريمته إلى ألشغال الشاقة لمدة عشر سنين" وهكذا أصدر القضاء حكما قضائيا في الحادث ولكن الأمر يتطلب أن نحاول أن نصدر فيه حكما تاريخا أيضا.

إن من يتابع المخطط الذي رسمته مصر الفتاة مع حلفائها لإسقاط وزارة الوفد يرى أن ارتكاب ذلك الحادث ساعد على فشل ذلك المخطط وكشف عن ارتكاب مصر الفتاة لأعمال تصل إلى درجة قتل المعارضين لها ولحلفائها وهى بهذا سوف تفقد عطف الجماهير عليها، بل ستثيرها ضدها لتعمل على تحطيمها تماما، خاصة إذا علمنا أن الوفد مستحوذ على ثقة جماهيره وله الغالبية المطلقة وهى ليست حريصة تماما على أن تصل إلى هذه النتيجة هذا من ناحية؛

ومن ناحية أخرى فإن حلفاءها لم يكونوا من السذاجة السياسية بحيث يخططون لارتكاب حادث كهذا يؤدى إلى نتائج عكسية لما رسموه من خطط، إذ أن ذلك الحادث سوف يثير عطف جماهيرهم على الوفد ورئيسه، ومع هذا نرى أن ذلك الحادث كان أحد العوامل التحى أرجأت سقوط الوزارة حتى نهاية العام وأتاح لها فرصة البقاء في الحكم طوال هذه المدة. فالحادث في رأينا عمل فردى من جانب المتهم وربما كان له دوافع شخصية من جانبه.

اشتدت حكومة الوفد فيما بقى لها من أيام في الحكم في الإجراءات التي اتخذتها ضد مصر الفتاة وكل من تحس منه معارضة، فقد تعرض المعتقلون لأقسى أنواع المعاملة ، واشتدت النيابة في التحقيق، وعلى الرغم من ذلك فقد أفرج عن الغالبية العظمى من المتهمين في عهدها؛

ولكن تولى وزارة محمد محمود الحكم كان ذا أثر واضح على سير القضية، فقد استتبع تغيير الحكومة إجراء التغيير في الهيئات القضائية، فكان ذلك التغيير في صالح القضية وصالح مصر الفتاة ، فقد أفرج عن معظمهم في عهد تلك الوزارة وصدر قرار الإحالة أيضا في عهدها، والذي قرر فيه النائب العام بأن القضية عمل فردى بحت وليس لأي فرد أو هيئة اتصال بالحادث من قريب أو بعيد؛

ولكننا يمكن أن نذكر أن طبيعة العلاقات المتوترة بين مصر الفتاة والوفد ورئيسه طوال الفترة السابقة على الحادث، وهو ما كان يتردد صداه داخل اجتماعات مصر الفتاة التي كان يحضرها المتهم، فإن ذلك قد يكون دليلا على أن مصر الفتاة لم تكن بعيدة تماما عن التحريض على محاولة الاغتيال وإن لم تصرح بذلك.

وبخروج مصر الفتاة من تلك المحنة التي تعرضت لها سليمة على عهد وزارة محمد محمود الصديقة لها، تدخل العلاقات بينها وبين الوفد مرحلة جمود تام فإن أثر الضربة القوية التحى تلقتها مصر الفتاة في أواخر عهد وزارة الوفد، لم يكن من السهل تناسيها إذ أنها عرضتها لهزة عنيفة كادت تودي بها وبكل تنظيماتها، وجعلت أنصارها يفرون من حولها نجاة بأنفسهم لولا أن تولت الحكم وزارة صديقة أتاحت لها أن تسترد أنفاسها وتتحرك بحرية على الأقل في أول الأمر، ولكن دب الخلاف بين حلفاء الأمس حين تضاربت مصالحهم.

وعندما فقدت مصر الفتاة كل أمل في تحقيق حلمها القديم بإعادة مجد مصر على يديها وبمساعدة حلفائها وأصدقائها، رأت أنه لابد من أن تعود إلى حزب الأغلبية الشعبية تتودد إليه مرة أخرى على أن تتعاون معه في حدود الإيمان بالديمقراطية ونبذ فكرة الديكتاتورية التي كانت تسعى لنشر الإيمان بها.

عندما كانت الأوضاع السياسية تنذر بقرب وقوع الحرب العالمية الثانية، أرسل أحمد حسين برقيات إلى محمد محمود رئيس الوزراء، وإلى رئيس الديوان الملكي ، وإلى النحاس باشا يدعوهم جميعا للاتحاد في مواجهة الخطر المحدق بالبلاد متناسيا ما بين مصر الفتاة وبينهم من خصومات فكانت برقيته إلى النحاس باشا " أعلنت مصر الفتاة مهادنتها للحكومة (محمد محمود) نظرا للخطر المحدق بالوطن وهو ما يدفعني اليوم للاقتراب منك، كذلك ناسيا هذه الخصومة الحزبية التي فرقت بيننا لنتعاون سويا على إنقاذ البلاد" ولما أدركت مصر الفتاة أنه أصيبت بخيبة أمل فلم تحقق علاقتها بوزارة محمد محمود أية مكاسب، رأت أن تعود إلى التقرب من الوفد عساها تستطيع أن تبدأ معه صفحة جديدة من العلاقات الطيبة، فبعد أن قامت وزارة محمد محمود بإجراء الانتخابات التي أسفرت عن أغلبية من مؤيدي الحكومة وأنصارها، رأت مصر الفتاة أن تقلق بال الحكومة؛

خاصة وقد اشتدت في مخاصمتها لمصر الفتاة فأرسل أحمد حسين برقية للنحاس باشا نصها" يرى حزب مصر الفتاة ضرورة العودة إلى الأمة لمعرفة إرادتها ورسم سياستها في الخارج والداخل فرأيت إخطاركم" وكأن مصر الفتاة بهذه الدعوة تعلن عدم ثقتها بوزارة محمد محمود ولا بمجلس النواب الذي جاء نتيجة للانتخابات التي أجرتها وزارته، وإنما ترى العودة لمعرفة رأى الأمة وهى تعلم مقدما أن ذلك معناه أن الأمة ستعلن ثقتها بالوفد من جديد مما يرتفع به إلى كراسي الحكم.

وبقيام الحرب تدخل العلاقات بين الوفد ومصر الفتاة مرحلة جديدة، فمصر الفتاة تأخذ خطا معاديا للسياسة الإنجليزية فهي بطبيعة الحال موالية للمعسكر المعادى للانجليز فلما تقدم الوفد بمذكرته إلى السفير البريطاني ليرفعها إلى حكومته في أبريل 1940 والتي تضم المطالب المصرية التي يجب أن تصرح بها بريطانيا من الآن.

رأت مصر الفتاة في ذلك خروجا ونقضا لما جاء في المعاهدة التي وقعها، ومن ثم كان ذلك كما يذكر أحمد حسين مبررا كي تقترب منه مصر الفتاة وتؤيده، بعد أن كانت هي الوحيدة التي تناصب الإنجليز العداء، وكان الوفد يلوذ بهم ويرجع إليهم في عقد المعاهدة، فكانوا يسندون حكمه على أنه أقدر الأحزاب على تنفيذ ما جاء بالمعاهدة، أما اليوم وقد انتقض على المعاهدة والإنجليز وبدأ يهاجمها فلم تر مصر الفتاة مانعا من أن تتقرب إليه طبقا لخطتها.

أحدثت هذه المذكورة ردود فعل قوية لدى الجماهير، فقد عبرت عن مدى ثورية الوفد وهو خارج الحكم، ولعل ذلك أعاد ثقة جماهيره به، بل وجماهير الشعب المصري جميعا، ومنهم جماهير مصر الفتاة ، فقد ازداد الناس ثقة في الوفد وأنه المدافع عن البلاد والأمين على قضيتها الوطنية، فلما كان رد الخارجية البريطانية على المذكرة الذي أبلغه السفير للوفد شديد اللهجة وينم عن توجيه اللوم إلى النحاس باشا لأنه يريد التشكيك فيما للمعاهدة من صفة قطعية.

جعل ذلك الوفد أكثر إصرارا على تحقيق مطالبه فرد على رسالة الخارجية البريطانية بخطاب أيد فيه مذكرته الأولى، وإزاء هذا الموقف جرت اتصالات كثيرة بين أحمد حسين والنحاس باشا ومكرم عبيد للتهنئة بموقف الوفد وتأييده. وكان هذا الموقف آخر ما وصلت إليه العلاقة بين الطرفين خلال فترة الدراسة.

ومن المهم هنا أن نحدد أن علاقة مصر الفتاة بالوفد قد مرت بمراحل ثلاث متميزة، مرحلة التقارب والمهادنة في أول الأمر، ثم مرحلة الخصومة الشديدة، ثم العودة مرة أخرى إلى التقارب ومحاولة مسايرة الاتجاه الشعبي الديمقراطي ونبذ فكرة الديكتاتورية.

ولكن ظروف الحرب لم تتح لهذه المرحلة الأخيرة أن تثمر ثمارها، فمصر الفتاة في ظل هذا التخبط بين القصر وبين أحزاب الأقلية وبين الكثرة الجماهيرية الممثلة في حزب الوفد تارة ثالثة، والتي تعتقد تماما أن لا شرعية لوجودها إلا بالحصول على اعترافه بها وتأييده لها، أقول أن هذا التخبط كان راجعا لعدم وضوح الرؤية، وإتباع سياسة معينة دون ركوب كل موجة، فإن المبادئ والأهداف غير الواضحة جعلا حركتها عشوائية نفعية تركب كل موجة كي تصل إلى أهدافها، ولكنها لم تحدد المسار الصحيح لتلك الحركة كي ترى أمانيها النور.

أما وقد أدركت مصر الفتاة منذ البداية أنه لن تستطيع أن توثق علاقتها بحزب الوفد فقد كان من الطبيعي أن تكون حركتها موالية ومؤيدة لأحزاب الأقلية ومنهم حزب الأحرار الدستوريين،ولعل ذلك كان يتم على استحياء فئ أول الأمر ودون المجاهرة به، فلما أدركت أن لا أمل في إقامة علاقات طيبة مع الوفد لتشككه في مسلكها؛

فقد جاهرت باتجاهها وتشددت في الهجوم على الوفد، وقد كان عدم الثقة بها من جانبه دافعا لها كي ترتمي فئ أحضان المعارضة التقليدية له، تعمل بوحي من توجيهاتها للنيل من شعبيته، واستقطاب بعض جماهيره وخاصة من بين صفوف الشباب.

ولما كان حزب الأحرار يرى في نفسه أنه الحزب الثاني في البلاد، فإذا ما استطاع أن يصرع الوفد ويعمل على إبعاده عن السلطة كان هو المرشح كي يخلفه فيها، فكانت حركته تعبيرا عن ذلك الهدف، ولما كان موقف الوفد المعادى لمصر الفتاة، كان ولابد أن تأخذ الاتجاه المضاد له وهو أن تتحالف مع القصر كما ذكرنا ومع الأحزاب المناهضة له أيضا.

وفى حقيقة الأمر فإن علاقة أحمد حسين- رئيس مصر الفتاة- بالأحرار الدستوريين ترجع إلى ما قبل إنشاء جمعية مصر الفتاة بوقت طويل ، ففي عام 1929 عندما طرح محمد محمود مشروع معاهدته مع هندرسون، وحاول الحصول على تأييد الشعب له، فقد كان أحمد حسين وكيلا " جماعة الشباب الحر أنصار المعاهدة" التي ألفها برئاسة حافظ محمود للترويج لتلك المعاهدة.

وعلى الرغم من أحمد حسين يرى أن ذلك ليس دليلا على انتمائه لحزب الأحرار الدستوريين ، إلا أن ذلك ينهض دليلا على الخط السياسي الذي سيسلكه عندما يؤسس جمعية مصر الفتاة من أجل تحقيق الهدف الذي كان يطالب به محمد باشا محمود وهو إعادة مجد مصر، فيتصدى هو للدور بنفسه. وسواء كان الأحرار الدستوريين هم الذين سعوا لإقامة العلاقة مع أحمد حسين أن أنه هو الذي سعى إليها فإن العلاقة بينهما قامت منذ ذلك الوقت المبكر.

استمرت العلاقات منذ ذلك الوقت وحتى بعد إنشاء مصر الفتاة بفترة طويلة علاقات طيبة وإن كانت كما ذكرت تقوم على استحياء وبشيء من السرية، فقد كانت مصر الفتاة على اتصال دائم بالأحرار تتلقى إعاناتهم المالية.

وربما تعمل أيضا بوحي من توجيهاتهم ولما أدركت أن لا جدوى من مهادنة الوفد، كان ولابد أن تلتصق بحلفائها الطبيعيين من الأحزاب المعارضة، فكان موقفها المعادى للوفد ولوزارة توفيق نسيم بداية لخلافاتها مع الوفد والتي بلغت قمتها عندما أبرمت معاهدة " الصداقة والتحالف" بين مصر وبريطانيا اشتدت مصر الفتاة مع الحزب الوطني في التنديد بها وبيان فسادها ومدى قصورها عن تحقيق الأماني الوطنية.

وعلى العموم فإن بداية التصاق مصر الفتاة بالأحرار يرجع إلى عهد وزارة الوفد في عام 1936،فلما اشتد الوفد في مخاصمتها عندما صرح النحاس باشا في البرلمان بأنها تعمل لحساب دولة أجنبية، كان الأحرار الدستوريون هم الذين تولوا الدفاع عنها، ومنهم النائب عبد المجيد إبراهيم صالح، إذا فإن مرحلة العمل بشيء من السرية والاستحياء قد انتهت وإنما أصبحت العلاقات واضحة على أعلى مستوى وهو مستوى الدفاع وتبنى قضيتها أمام البرلمان المصري.

ومنذ ذلك الوقت ومصر الفتاة اشد تقاربا من الأحرار الدستوريين ، إذ وضح لها أنهم مستعدون للدفاع عنها وعن كيانها، فكان ولابد وأن يتحرك الحلفاء الطبيعيون ليخططوا لإقالة وزارة النحاس.

ارتأت المعارضة أن تتوانى قليلا فئ شن الحملة على وزارة الوفد حتى يتولى الملك سلطاته الدستورية، فيشددون حملتهم وينفذون مخططهم ويطالبون الملك بإسقاطها، ولكن مصر الفتاة تعرضت في أواخر عهد وزارة الوفد لمحنة قاسية في حاثة الاعتداء على النحاس باشا ، كادت هذه المحنة تطيح بحزب مصر الفتاة، فرأى الأحرار أن من واجبهم أن يتولوا شئونه ورعايته، والعمل على تلافى تلك الضربة القاضية التي وجهتها إليه وزارة الوفد، فقد تولى أحمد عبد الغفار باشا قطب الأحرار الدستوريين عقد اجتماعات حزب مصر الفتاة والإشراف على نشاطه.

ويشير تقرير آخر أن ذلك تم بناء على طلب أحمد حسين من أحمد عبد الغفار باشا أن يتولى إدارة الحزب وفتح أبوابه للأعضاء فئ ظل الحصانة البرلمانية التي يتمتع بها.

جمعت المحن التي تعرضت لها المعارضة كل إفرادها وأحزابها حول هدف واحد وهو العمل على الإطاحة بوزارة الوفد، وقد استطاعت مصر الفتاة أن تواكب هذا الاتجاه بنجاح فقد كانت مؤيدة من القصر كما سبق القول ومن الأحرار الدستوريين وغيرهم، حتى استطاعوا أن يحققوا ما أرادوا وأن يروا ثمار غرسهم بإقالة الوزارة فى نهاية عام 1937، وسواء أكان ذلك راجعا لأحكام المخطط الذي رسموه لإقالتها وانضمام القصر إليهم في ذلك المخطط والمساعدة على تنفيذه بتخطيط على ماهر، أم أن الظروف والخلافات التي نشبت بين القصر والوزارة هي التي أدت إلى إقالتها.

فإن الحلفاء أدركوا أنهم قد حققوا بغيتهم ونالوا مأربهم، وإن كانت مصر الفتاة لم تشارك في جني ثمار غرسها عند نضجه، فإن زعماؤها ما زالوا في السجون ، ولكن ذلك التغيير قد أتاح لهم فرصة طيبة إذ أفرج عن البقية الباقية منهم، وخرجوا من السجن ليجدوا وزارة صديقة لهم على الأقل في أول الأمر، ويتولى محمد محمود والأحرار الدستوريين الحكم تدخل العلاقات بينهم وبين مصر الفتاة طورا جديدا.

توجه أحمد حسين في نفس اليوم الذي أفرج عنه فيه إلى منزل محمد محمود باشا ، وقد رأى محمد محمود أن يترضاه ويستجيب لمطالبه، وخاصة وقد جني حزب الأحرار الدستوريين ثمار جهوده وجهود حزبه.

لقيه محمد محمود فكان حديث الحلفاء فطالب أحمد حسين كما يذكر هو بأن يتولى عزيز المصري منصب مفتش الجيش المصري، وأن يكون أحد أعضاء مصر الفتاة إلى جوار محمد محمود ورشح له نور الدين طراف ، الذي تولى منصب مدير مكتبه.

كما أنه طالبه بأن يقوم أحمد عبد الغفار باشا بضمانته لدى إدارة المطبوعات للحصول على رخصة جريدة، ولما استعدى للقاء محمد محمود باشا ثانية قدم له الباشا 300 جنيه قيمة التأمين النقدي للحصول على الرخصة المذكورة.

وهكذا يستجيب محمد محمود لكل مطالب أحمد حسين، ويعرض عليه أنه على أتم الاستعداد كي يوظف مصطفى الوكيل في أية وظيفة يريدها في الحكومة، ولكن مصطفى الوكيل يرفض هذا العرض ويعلن عزمه على الاستمرار في الجهاد.

رأت مصر الفتاة أن فرصتها لتحقيق أهدافها في إعادة مجد مصر على يديها قد دنت، فرأت أن تتقدم إلى تلك الوزارة الصديقة بمطالبها التي تحقق لها ما تهدف إليه ، فتقدمت بطلب تعديل قانون الانتخاب ليصبح سن النائب في مجلس النواب خمسة وعشرين عاما بدلا من ثلاثين، حتى يتاح لأعضائها التقدم إلى الانتخابات القادمة، وأن يكون لها ممثلون داخل البرلمان كخطوة أولى تقربها من هدفها الذي تسعى لتحقيقه بعد أن تتولى حكم البلاد.

فلما كانت مصر الفتاة تعمل بحرية تامة في ظل عهد تلك الوزارة الصديقة فقد عقدت اجتماعاتها بحرية كاملة وحضرها الآلاف ، وربما كانت تلك ها المرة الأولى التي يقدر عدد حاضري اجتماعاتها بالآلاف، فقد عقد أحمد حسين اجتماعا بعد الإفراج عنه في 15 يناير عام 1938، واجتماعا آخر في 24 من نفس الشهر حضره في رواية جريدة الحزب خمسة عشر ألفا واتخذت فيه قرارات تعبر عن وجهة نظر الحزب وعن أمله في تحقيق أهدافه ومنها المطالبة بحل مجلس النواب- الوفدي- وإنقاص سن النائب إلى خمسة وعشرين عاما.

وعلى الرغم من أن مصر الفتاة قد أسرفت في التفاؤل فيما يتعلق بموقف وزارة محمد باشا محمود منها، إلا أنها لم تتلق ردا على مطالبها السابقة ولم يكن هناك استجابة من جانبها لمطالبها، رأت مصر الفتاة ألا تزج بنفسها في معركة الانتخابات القادمة ، فوجه أحمد حسين نداء إلى طلبة مصر الفتاة بألا يشتركوا في هذه الانتخابات فلا فائدة من ورائها لمصر " فهي معركة لا تعنى الجيل الجديد بعد أن حيل بينه وبين الاشتراك فيها" وقد كان الإحساس بالمرارة واضحا من خلال ذلك النداء، فأحمد حسين ومصر الفتاة كانا يعلقان أملا كبيرا على مساعدة تلك الوزارة لهم، ولكن الأحرار الدستوريين كانوا يرون أن مصر الفتاة قد انتهت مهمتها وتمت ترضيتها. كان ذلك بداية لإدراك مصر الفتاة أن الوزارة في خطتها لا تراعى مطالبها ، فلما علمت مصر الفتاة أن الحكومة بصدد إصدار قانون بحل فرق القمصان الملونة، رأت مصر الفتاة أيضا إسرافا منها في التفاؤل أن تستثنى القمصان الخضر من الحل.

وهى بذلك لا تدرك حقيقة وضع وزارة محمد محمود وخضوعها للقصر آنذاك، وبالرغم من ذلك فإن مصر الفتاة لم تردد سوى نغمة اللوم الهادئ للوزارة على أمل أن تغير من سياستها تجاهها، هذا فضلا عن أن معظم أعضائها من أصدقاء مصر الفتاة وعلى الأخص محمد كامل البندارى باشا وزير الصحة والذي كان يتولى الدفاع عن أعضاء مصر الفتاة في حادثة الاعتداء على النحاس باشا.

استمرت نغمة اللوم الهادئ للوزارة ولتصرفاتها حتى اشتدت مصر الفتاة في نقدها أثناء الانتخابات إلى حد ما وخاصة بعد أن أصدر المرسوم الملكي فرق القمصان الملونة في 9 مارس 1938، رأت مصر الفتاة أن تشتد في حملتها على الوزارة، فبدأت تنعى عليها تصرفاتها فيما يختص بالنواحي الإصلاحية ، فهي تطالب بزيادة عدد الجيش أن تحل الأزمة داخله- التي حدثت بعد تعيين عزيز باشا المصري مفتشا له ثم إيقافه عن العمل- كما تطالب بإلغاء البغاء الرسمي وإصدار القانون الخاص بذلك.

كان رد الفعل لدى الحكومة لتشدد أحمد حسين في مقالاته التي ندد فيها أن بادلته نفورا بنفور بعد أن انقلب عليها، فراحت تصادر اجتماعاته وتمنع عقدها. فاشتد أحمد حسين في الهجوم وأراد أن يثير النواب الجدد ضدها. وفى نفس الوقت يهدد هؤلاء النواب إن لم يعملوا لصالح البلاد فلن يكون حظ برلمانهم أحسن حالا من البرلمانات التي سبقته.

وبدأ يطالب الحكومة بمطالب سريعة منها أن تعدل الوزارة ليخرج منها كل العناصر الضعيفة، وأن تحل أزمة الجيش وأن يلغى البغاء والحد من نشاط الحانات. إلى هذا الحد ومصر الفتاة ما زالت تؤمل خيرا من وراء تلك الوزارة، ولكن وقع حادث قلب الأوضاع بينهما رأسا على عقب،ألا وهو حادث تعديل الوزارة وخروج البندارى باشا منها.

كانت العلاقات بين محمد محمود وعلى ماهر رئيس الديوان علاقات يشوبها عد الارتياح من جانب محمد محمود لتدخل القصر المباشر في شئون الحكم، فلما انتهت الانتخابات لصالح محمد محمود وحزبه، وجد من حقه أن يحكم البلاد لصالح حزبه، ولقد كان ذلك مثار خلافات بين القصر والوزارة تمثل في التعديل الوزاى الذي أجرته وزارة محمد محمود ورأت إخراج كامل البندارى من الوزارة، كان ذلك الحادث بداية للهجوم العنيف الذي شنته مصر الفتاة على الوزارة فكتب أحمد حسين مقالا بعنوان" إبقاء لطفي السيد باشا وزيرا للدولة معناه أن الوزارة أصبحت ملجأ للشيوخ وإخراج البندارى باشا معناه أنها لن تصلح لشيء".

واشتدت أكثر فأكثر في الهجوم على الوزارة على تصرفاتها، وقد كانت اللطمة التي وجهها على ماهر للوزارة كفيلة بأن تجعلها تدرك تماما أنها رهن إشارة القصر، ترتفع بإشارة منه وتسقط بإشارة منه، وقد اختار أحمد حسين مكانه إلى جانب القصر حيث قد ضم إلى جانب صديقه القديم على ماهر صديقا حميما له هو كامل البندارى الذي عين وكيلا للديوان الملكي.

انقلب أحمد حسين على محمد محمود باشا وعلى أصدقاء الأمس من أعضاء وزارته وأخذ يشن عليهم هجمات أشد وأنكى مما كان يشنه على الوفديين، لأنها كانت هجمات الصديق الذي كان يعرف الكثير ليقوله، والذي اشترك في الكثير أيضا، فقد فضحت جريدته كيف ألف على ماهر باشا الوزارة لمحمد محمود باشا ، وكيف أن على ماهر هو الذي جعل من محمد محمود بطل الانقلاب الحاضر.

وكذلك فقد استنكر أحمد حسين محاولة محمد محمود باشا التمسك بحقوقه بعد إجراء الانتخابات التي تلاعبت فيها الوزارة- فقال" لقد سارت الأمور على الاعتراف للقصر بحقوقه، فقد قبل محمد محمود باشا وزارة ألفها له رئيس الديوان، ولم يتغير الأمر بعد الانتخابات ، فمحمد محمود باشا بعد الانتخابات هو محمد محمود باشا قبل الانتخابات" فمحمد محمود يكشف أحمد حسين كل أوراقه ضد الوزارة إلى درجة الإساءة إلى كرامة رئيسها الشخصية بعد إخراج البندارى.

وإسرافا في شدة الهجوم يتقدم أحمد حسين باقتراح أن تؤلف وزارة قومية يرأسها على ماهر وتضم كلا من السعديين والوفديين والدستوريين على أن يتولى كامل البندارى وزارة المعارف وعزيز المصري وزارة الحربية، وهو يرى أن هذه آخر وزارة تمثل الجيل القديم وسوف يتولى بعدها الجيل الجديد حكم البلاد.

وبالرغم منشدة الهجوم من جانب مصر الفتاة فإن رد الفعل لدى الوزارة لم يكن مماثلا، فقد لجأت إلى بعض الإجراءات البسيطة للتضييق على مصر الفتاة إلى حد ما .

فلما جرى تعديل الوزارة مرة أخرى في 24 يونيه 1938 بإدخال السعديين فيها رأت مصر الفتاة أن تلجأ إلى المهادنة مرة أخرى ، وإن كان ذلك في تقديري يرجع إلى علاقتها الطيبة بالسعديين، فالحزب يهادن الوزارة ويؤيدها " طالما علمت جاهدة على تنفيذ نصائح المليك" فلما كان تعديل المعاهدة على يد محمد محمود بتخفيض نفقات بناء الثكنات الإنجليزية في منطقة القناة التي نصت عليها المعاهدة، كان لا مناص أن تقدم مصر الفتاة التهاني لمحمد محمود على خطوته تلك.

وعندما توتر الموقف الدولي وأصبح ينذر بخطر الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1938 أرسل أحمد حسين برقية إلى محمد محمود يعلنه فيها بأنه على استعداد هو أعضاء حزبه لحمل السلاح دفاعا عن الوطن.

ولعل هذا يعطى تفسيرا واضحا وهو أن أحمد حسين ومصر الفتاة يتناسيان الخلافات والصدامات وقت المحن والشدائد التي تتعرض لها البلاد، وبعد أن تنقشع سحابة الأزمة يعود إلى مهاجمة الوزارة، ويتشدد أكثر في الهجوم عليها ويطالبها بالاستقالة كي لا تتحمل تبعات كل المساوئ التي تعانى منها البلاد في الوقت الحاضر.

ولما لم تستجب الوزارة لنصيحة أحمد حسين فتستقيل، فيدعو إلى الانقلاب العام الشامل باستخدام القوة التي تطيح بالنظام القائم ككل فيذكر " لابد من انقلاب يكتسح هذه الحشرات التي يسمونها وفد وأحزابا ونحاسا ومكرما وبرلمانات .. نحن لا نخشى أن يقال عنا دعاة ثورة فنحن فعلا دعاة ثورة" وإزاء هذا الموقف من جانب أحمد حسين فإن الوزارة لم تجد مناصا من أن تجرى معه النيابة تحقيقا حول عدة مقالات نشرت خلال شهري نوفمبر وديسمبر من عام 1938.

اتهمته النيابة فيها بالتحريض على قلب نظام الحكم الحاضر ومحاولة قلب نظام الدولة بالقوة والتحريض على تحطيم الحانات ومقاومة المنكرات بالقوة. وبالرغم من كثرة الاتهامات الموجهة إلى أحمد حسين إلا أن النيابة قد أطلقت سراحه في نفس الوقت.

وفى ظل تلك الأوضاع التي بلغت قمة التوتر بين مصر الفتاة ووزارة الأحرار ، رأت مصر الفتاة أن تدعو إلى عقد مؤتمر على شكل جمعية عمومية، وقد خططت له على أن يعقد في يومي 5، 6 يناير من عام 1939 وأن يحضره خمسون ألف مواطن.

وهذا في حد ذاته يدل دلالة واضحة على أن حركة مصر الفتاة كانت تمر بفترة ازدهار- في تقدير ـأحمد حسين – بالرغم من العلاقات المتوترة بينها وبين الوزارة، ولكن الوزارة هذه المرة ترى أن خطر مصر الفتاة يتزايد خاصة وأنها دعت صراحة إلى قلب نظام الحكم بالقوة، إذن فهي في نظر الوزارة تعمل على إقامة حكم ديكتاتوري يطيح بالنظام الحالي برمته، فكان أن بدأت تنهج نهجا أشد صرامة في مواجهة أساليب مصر الفتاة ضدها، فرأت وزارة الداخلية أنتصدر أمرها بمنع عقد المؤتمر.

ولعل الوزارة كانت تدرك مدى خطورة عقد اجتماع يحضره عدد كبير من المواطنين تردد فيه مصر الفتاة أفكارها التى تدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة لمعرفتها بمدى قدرة أحمد حسين على إثارة الجماهير واستثارة حماستهم فرأت أن تمنع عقده.

كان رد الفعل لدى مصر الفتاة قويا، إذ غضبت أشد الغضب لمنع الوزارة عقد مؤتمرها فرأت أن تدعو وتشتد في دعوتها لإسقاط الوزارة، فتألفت المظاهرات في بعض المدن المصرية معلنة سخطها على تصرف الوزارة.

ويسفر أحمد حسين عن وجهه في مهاجمة الوزارة" بعد أن قعدت عن الحسنة الوحيدة التي لها في هذا العهد وهى إطلاق الحريات" على حد تعبيره. وتبادله الوزارة عنفا بعنف، فتأمر بتفتيش دار الحزب وإجراء التحقيق معه فيما نسبته إليه.

\ وكان من نتيجة ذلك التحقيق أن قررت نيابة الاستئناف رفع الدعوى العمومية على أحمد حسين ومحمد صبيح رئيس تحرير جريدة " مصر الفتاة" ووجهت إليهما تهمة العمل على قلب نظام الحكم الدستوري.

وفى نفس الوقت أصدر القضاء حكمه بإدخالهما سجن الاستئناف. وفى نفس الوقت من أعضاء مصر الفتاة للقبض عليهم والتحقيق معهم حتى بلغ عدد من أودعوا السجون خلال شهر يناير وحده خمسة عشر سجينا.

اتسع مجال الصدام بين مصر الفتاة والوزارة، فقد شغلت مصر الفتاة فئ ذلك الوقت ببعض الأوضاع الخلقية والدينية، فدعت إلى تحطيم الحانات، والمطالبة بإلغاء البغاء الرسمي ولعل ذلك راجع لتزايد الاتجاه الإسلامى لديها منذ عام 1938 ، فكان ذلك سببا لوقوعها في صدامات مع الحكومة استدعت المزيد من القبض والتحقيق وإيداع السجون وكثرة القضايا المعروضة

أما القضاء والتحقيق وإيداع السجون وكثرة القضايا المعروضة أما القضاء ضد أعضائها، فقد شهد النصف الأول من عام 1939 تقديم الكثير من زعمائها وأعضائها للمحاكمة في حوادث تحطيم الحانات، ولنشر مقالات شديدة اللهجة ضد الوزارة، تدعو إلى الثورة وكذلك السب والقذف والطعن على الحكومة، حتى بلغ عدد القضايا في يونيه من نفس العام إحدى عشرة قضية وهى قضايا نشر، ولكن الأحكام التي صدرت كانت أكثر صرامة عما كانت عليه في عهد وزارة الوفد السابقة، فحكم عليهم بغرامات مالية تراوحت ما بين عشرة جنيهات إلى مائة جنيه، وقد فرضت عليهم عدة مرات مما تشكل عبئا ثقيلا استنزف مالية الحزب.

وإزاء هذا الموقف السافر من جانب الوزارة تجاه مصر الفتاة، أن كان رد الفعل لديها قويا رغم ما تعرضت له من طعنات أصدقاء الأمس فقد اجتمع مجلس إدارتها واتخذ قرارا بالمطالبة بإقالة الوزارة فورا، وعلى أن يعقبها وزارة قومية يرأسها على ماهر.

وإن كان ما قررته مصر الفتاة قد سبق أن طالبت به إلا أنها خطت هذه المرة خطوة أبعد فتقدمت بعريضة إلى الملك تلتمس فيها إقالة هذه الوزارة بعد أن عددت مساوئها وأهمها خنق الحريات.

وازداد معدل التوتر بين الجانبين حتى أن أحمد حسين أدخل السجن عدة مرات. وكذلك الكثير من أعضائها وحيل بينها وبين عقد اجتماعاتها وإغلاق دار الحزب نفسها فتوجهوا مرة أخرى إلى الملك لرفع الطغيان الواقع عليهم من قبل الوزارة.

وسجل عدد القضايا المتهم فيها زعماء مصر الفتاة وأعضائها ارتفاعا ملحوظا فبلغ ست قضايا خلال أبريل اتهم فيها كل من أحمد حسين محمد صبيح ومصطفى الوكيل.

وإزاء هذا الموقف من جانب الوزارة، رأى أحمد حسين أنه لا مفر من وقف الهجوم عليها، فيعود إلى ترديد نغمة العداء الهادئ ضد الوزارة، بل إلى اتخاذ أسلوب المهادنة معللا ذلك بتوتر الموقف الدولي مرة أخرى في أبريل من عام 1939، ففي نفس اليوم الذي أفرج عنه فيه أرسل برقية إلى محمد محمود باشا أعلنه فيها أن حزبه قرر إيقاف كل معارضة أو خصومة للوزارة مع دعوة من جانبه للتعاون معها في كل ما يصون البلاد ويرفع دعائم عرشها.

وعلى الرغم من مهادنة مصر الفتاة للوزارة فإن ذلك لم يجعلها تحيد عن خطتها في معاملتها، فقد طلبت شعبة الإسكندرية السماح له بعقد اجتماع في 21 مايو 1939، إلا أن وزارة الداخلية لم توافق على عقده، وتعلق جريدة " مصر الفتاة" على هذا الموضوع بقولها " لقد كنا نؤمن بأنه بعد إعلان الحزب مهادنته للوزارة ، وبعد أن فكت النيابة عقال المسجونين وتجلت براءة الحزب، كنا نظن أن هذه الظروف المجتمعة من شأنها أن تبرر السماح بعقد هذا الاجتماع. وهكذا لم تغير الوزارة موقفها المعادى من مصر الفتاة ، فطالبت مصر الفتاة بإسقاطها بعد أن فقد محمد محمود السيطرة على الموقف.

فلما أوعز الملك فاروق إلى محمد محمود بالاستقالة، فاستقال في ظروف تشبه الإقالة، كان ذلك دليلا على أن وزارة محمد محمود رغم ما تعرضت له من قلاقل واضطرابات وتعرضها للتعديل الدائم لم تكن إلا إطارا زائفا لحكم القصر هي وغيرها من وزارات الانقلاب، فهي ترتفع بإشارة منه وتسقط بإشارة أخرى.

وتنفست مصر الفتاة الصعداء بسقوط الوزارة إذ أنها قد تعرضت للكثير على يديها فيعرب أحمد حسين هم سروره لإسقاطها موجها بهذا النصر أن يضاعف في شجاعتكم ، فأجهزوا بدعوتكم في كل مكان، وليخرج من صمته كل من كان الاضطهاد قد أسكته، ولتنظم الصفوف من جديد" ويرى أحمد حسين أن سقوطها سقوط للجيل القديم بأكمله، وأن فرصة الجيل الجديد قد دنت.

وبتولي على ماهر رياسة الوزارة وقيام الحرب العالمية الثانية تدخل العلاقات بين مصر الفتاة والأحرار الدستورية دور التجميد، ولكن بعد أن حاولت مصر الفتاة التقارب من ألأحرار الدستوريين ، خاصة وأن ظروف الحرب قد أوقفت كل نشاط حزبي بعقد الاجتماعات أو حتى مجرد النشر في الصحف، فالأحكام العرفية معلنة، فلم يكن هناك ما يبقى على الخلافات السابقة بينهما، أو ربما كان ذلك طبقا لموقف مصر الفتاة في وقت الأزمات فهي تتناسى الخلافات والمنازعات وتنادى بالاتحاد، وفى هذا السبيل تجرى اتصالات كثيرة بين أحمد حسين وأحمد عبد الغفار باشا كذلك يشير أحد التقارير أيضا إلى لقاء تم بين محمد حسين هيكل باشا وأحمد حسين في نادي الأحرار الدستوريين .

وبعد وفاة محمد محمود وعودة عبد العزيز باشا فهمي إلى تولى رئاسة حزب الأحرار الدستوريين فإن علاقات تنشأ بينه وبين أحمد حسين . ولكن هذه اللقاءات والاتصالات لم يكن هناك مجال للإفصاح عن الهدف منها ولم تسنح ظروف الحرب بتبيان ثمارها.

وهكذا فإن علاقة مصر الفتاة بالأحرار الدستوريين قد مرت بثلاث مراحل متميزة، ففي المرحلة الأولى كانت العلاقات بينهما تتم على شيء من السرية، أما المرحلة الثانية فكانت تشكل مرحلة العمل المشترك بينهما وبتوجيه من القصر للعمل على صرع الوفد وإبعاده عن السلطة، وفى نهايتها يرى الأحرار أن مصر الفتاة لاتعدو أن تكون أداة استخدموها وانتهى دورها وكوفئت على عملها، فكان ذلك على عكس ما كانت تؤمله فيهم، أما المرحلة الثالثة فقد شهدت قمة الصراع بين الحليفين ، فقد وجهت الطعنات من كلا الجانبين، وإزاء شدة الوزارة في موقفها من مصر الفتاة رأت الأخيرة أن تتراجع وأن تهادن الوزارة إلا أن ظروف الحرب قد أتمت تلك المرحلة فتجمدت العلاقات.


وفوق هذا لابد من القول أن كل من الطرفين كان يرى في علاقته بالآخر رأيا ، فالأحرار يرون استخدام مصر الفتاة لتحقيق أغراضهم ومصر الفتاة ترى أن علاقتها بهم ربما ساعدتها في الوصول إلى هدفها المبكر بإعادة مجد مصر على يديها فلما اتضحت النوايا كان الافتراق والصدام بينهما.

أما عن علاقة مصر الفتاة بالحزب الوطني فإننا نجد أن مصر الفتاة تشعر منذ البداية أنها تعمل بوحي من مبادئ مصطفى كامل وعلى الأخص ما يتعلق منها بقوله " أريد أن أوقظ في مصر الهرمة مصر الفتاة" ولعل حركتها كانت تعبيرا عن هذا القول، حتى أن مبادئ الحزب الوطني كانت تستهوى الكثير من قادتها وتستحوذ على اهتمامهم، فعندما تأسست جمعية مصر الفتاة لقيت الترحيب الحار من جانب الحزب الوطني وتمنى لها الثبات والتوفيق في ميدان الكفاح.

وقد كان الحزب الوطني يعتبر هذه الجمعية الناشئة تعبيرا عن اتجاهه في معالجة المسألة المصرية، وكذلك أرجعت الدوائر البريطانية ظهور هذه الجمعية إلى جهود الحزب الوطني، وخصت عبد الحميد سعيد بذلك الوقت رئيس جمعية الشبان المسلمين واحد نواب الحزب الوطني. وقد ربطت تلك الدوائر أيضا بين أفكار مصر الفتاة وأفكار الحزب الوطني ورأت أنها متقاربة.

وربما كان عدم تحديد اتجاه الحركة بوضوح دافعا لأن ترى فيها معظم القوى الأخرى رأيا، فكما اعتبرها الإنجليز من صنع الحزب الوطني، فقد اعتبرها البعض الآخر من صنع القصر، ورأى ثالث يرى أنها من صنع الاثنين معا فهم يرون أن هناك علاقات وطيدة بين الحزب الوطني والقصر فئ ظل حكم الملك فؤاد- كما كان ذلك قائما من قبل بين الخديوي عباس حلمي الثاني ومصطفى كامل.

فأصحاب هذا الرأي يرون أن علاقة الحزب الوطني بالقصر علاقة طيبة وفى نفس الوقت فالحزب الوطني يمد يده لمصر الفتاة، وتعليل ذلك أن برنامج مصر الفتاة قد حوى ما يوضح اهتمامها بإقامة الحلف العربي بين مصر والدول العربية وأن تتزعم الإسلام، وهذا الاتجاه الإسلامى يلقى قبولا من الحزب الوطني وربما من القصر أيضا.

استمرت العلاقات بين الطرفين طوال الوقت طيبة إلى ابعد الحدود حتى أن جمعية مصر الفتاة كانت تبذل أقصى جهودها في مختلف المناسبات التي يهتم بها الحزب الوطني، كالاحتفال بذكرى مصطفى كامل في كل عام.

فالتقارب بينهما موجود وإلى أبعد الحدود، ورغم أن مصر الفتاة هي التي قامت بالاحتفال بالذكرى إلا أن كبار رجال الحزب الوطني هم الذين تبرعوا بنفقات الحفل. كما كان رجال الحزب الوطني يتبنون قضاياها ويعدون أنفسهم المدافعين عنها،فعندما اتهمها النحاس باشا فئ مجلس النواب بالعمل لصالح دولة أجنبية، تصدى للدفاع عنها ومحاولة التشكيك في حقيقة هذا الاتهام نواب الحزب الوطني ومنهم فكرى أباظة وعبد العزيز الصوفانى.

ولا يرى كلا الطرفين فاصلا واضحا بينهما إذ يعتبر كل منهما الآخر مكملا له، فكما نهجت مصر الفتاة نهجا عسكريا منذ البداية بإقامة تشكيلات القمصان الخضراء، فقد رأى الحزب الوطني أن يمارس التجربة أيضا، كما سبق أن ذكرنا عندما حاول أن يقيم تشكيلات شبه عسكرية مماثلة أطلق عليها اسم " جمعية البازى"

وربما كان ذلك تشبها " بحزب النازى" في ألمانيا، فاتجاه الحزب الوطني في هذا الصدد معرفو، فقد كان الحزب الوطني يسعى لبث الروح العسكرية في الشباب المصري من أعضائه.

ولابد وأن رئيسه حافظ رمضان كان يرى أن ذلك الاتجاه هو خير وسيلة لإخراج الإنجليز من مصر وتحقيق استقلالها بنشر الروح العسكرية والعمل على إيجاد القوة المادية لإخراجهم عملا بمبدأ الحزب الوطني في رفض أسلوب المفاوضات.

ولما عقدت معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا كان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة بين الطرفين، فقد شكلا جبهة متحدة لنقد المعاهدة والتعريض بها. وقد أتاحت لهم تلك الظروف العمل في ميدان واحد كجبهة واحدة، كان ذلك من جانب الطرفين للوصول إلى هدف محدد وهو إحراج وزارة الوفد والعمل على إسقاطها بعد أن تبين ما في المعاهدة التي عقدتها من نكوص عن تحقيق الأماني الوطنية للبلاد، فكان ذلك مبررا كي يشتد الطرفان في موقفهما من وزارة الوفد، وقد بلغ ذلك مداه عندما حاولت مصر الفتاة الاتصال بمختلف لجان الحزب الوطني داخل البلاد لإثارتها ضد الوزارة، هذا فضلا عن الاتصال بالطلبة من أعضاء الحزب الوطني في جامعات أوربا لمناهضة الجمعيات الموالية للحكومة هناك.

وفى الحقيقة فإن موقف الحزب الوطني من مصر الفتاة كان ينم عن التأييد المطلق لكل أعمالها على طول الخط، فإن هناك تقاربا في الأفكار المطروحة من كليهما في تلك الفترة وإن اختلفت أساليبها إلى حد ما لوضع تلك الأفكار موضع التنفيذ فمصر الفتاة كانت ترى أن الحزب الوطني مهما كان موقفه من كفاحها

فهو يمثل الجيل القديم وهى ترى أن لا خلاص لمصر مما تعانيه إلا على يد الشباب ، وتعتبر نفسها ممثلة لهذا الجيل الجديد منهم وإن كان هذا الخلاف النظري لم يمنع من محاولات التقارب بل الاتحاد بينهما في مختلف المواقف، فلما كانت ظروف الحرب الثانية وما فرضته من قيود على النشاط السياسي والحزبي، رأى الحزبان أن يوحدا جهودهما بأن تضمهما لجان واحدة في الأقاليم. ولكن ذلك المشروع لم ير النور لأن الأوضاع التي فرضتها الحرب حالت دون ذلك، وهكذا تكون العلاقات بين الطرفين قد دخلت طور الجمود المفروض عليهما.

أما عن علاقة مصر الفتاة بالهيئة السعدية التي الفت بعد إخراج كل من النقراشي وأحمد ماهر من الوفد، وقد ظل النقراشي بعد إخراجه من الوفد في سبتمبر 1937 موضع آمال من يريدون إصلاح الوفد، وتضامن أحمد ماهر مع النقراشي في موقفه وتصدى لموقف الوفد منه، فلما أقيلت وزارة النحاس، وتألفت وزارة محمد محمود ألفا مع بعض الوفديين المتضامنين معهم حزبا أسموه" الهيئة السعدية" واختاروا الدكتور أحمد ماهر رئيسا لها.

ولكن علاقة مصر الفتاة برئيس تلك الهيئة ترجع إلى ما قبل تأسيسها بكثير، فمنذ أن كان داخل صفوف الوفد وهو على علاقة طيبة بها، وبالرغم من العلاقات المتوترة بين الوفد وبين مصر الفتاة، فإن موقف أحمد ماهر منها كان موقفا مغايرا لموقف الوفد، فهو يرى أنها حركة وطنية خالصة، فهو يؤيدها ويناصرها" ما دام الباعث على القيام بهذه الحركة خالصا لوجه الوطن".

وقد كان رأى أحمد ماهر هذا يخالف تماما موقف الوفد منها، هذا فضلا عن أن محمد صبيح السكرتير العام المساعد لجمعية مصر الفتاة في ذلك الوقت، كان على اتصال وثيق بأحمد ماهر قد كان يعمل معه في جريدة " كوكب الشرق" الوفدية ولم يجد منه إلا كل عطف وتأييد لمصر الفتاة.

فإذا ما حدث الانشقاق داخل صفوف الوفد في عام 1937 بإخراج النقراشي من الوزارة ثم من الوفد، وتضامن أحمد ماهر معه، فإن مصر الفتاة أعلنت تأييدها لذلك الجناح لسابق علاقتها الطيبة بأحمد ماهر من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإنها كانت ترى أن هذا الانقسام مما يساعد على كسر شوكة الوفد ويسرع بزوال حكمه، فقد وقفت إلى جانب عناصر الطلبة المؤيدين للنقراشي في موقفه؛

وعملت على ازدياد الانقسام بين جناحي الوفد، فإذا تألفت الهيئة السعدية كان موقفها منها موقفا معتدلا خاصة وأن أحمد ماهر قد مدح كفاحها ، وهاجم فرق القمصان الزرقاء وما ألت إليه حالتها، فقد " تحولت إلى أخلاط المتعطلين الذين يجردون للاعتداء على الحريات" على حد قوله؛

وفى نفس الوقت الذي هاجم فيه أحمد ماهر تلك الفرق، فقد ذكر أن النحاس كان يحرم ظهور فرق أخرى هي فرق القمصان الخضراء، كما أنه اتهمها بأنها تعمل لحساب دولة أجنبية دون أن يقدم الدليل، سوى قوله أنه مقتنع ويرى أحمد ماهر أن تلك سابقة خطيرة يمكن أن يستخدمها أي رئيس ورجال الهيئة السعدية أكثر من ذلك، فكانت بداية حسنة لإقامة علاقات طيبة بينهما.

ظلت العلاقات طيبة بين الطرفين إلى أن كان إدخال السعديين في وزارة محمد محمود ، وقد تولى النقراشي وزارة الداخلية وفى فترة ساءت فيها العلاقات بين مصر الفتاة والوزارة إلى حد كبير على نحو ما رأينا فكانت وزارة الداخلية هي ألأداة التي سلطتها الحكومة على مصر الفتاة فتعرضت لظروف أقسى مما عانته على عهد وزرة الوفد. فلما كان ذلك هو موقف السعديين المشتركين في وزارة محمد محمود فقد ساءت العلاقات بينهما إلى حد كبير.

ولما أعلنت الحرب العالمية الثانية، وثار جدل طويل داخل المجتمع المصري عن موقف مصر من دخول الحرب إلى جانب انجلترا، فقد اتخذ السعديون موقفا مغايرا لكل الآراء التي طالبت " بتجنيب مصر ويلات الحرب " كان أحمد ماهر وحزبه ينادون بوجوب دخول مصر الحرب إلى جانب انجلترا ، فكانت هي الهيئة الوحيدة التي سمح لها بعقد اجتماعاتها التي تردد فيها هذا المطلب ، وقد استطاع بعض أعضاء مصر الفتاة أن يندسوا وسط تلك الاجتماعات ، ولما أرادوا أن يناقشوا أحمد ماهر بعض آرائه، فلما لم يسمح لهم بذلك أثاروا الشغب فى داخل تلك الاجتماعات فأخرجوا منها بالقوة ، بعد أن وقع عليهم اعتداء كان من نتيجته إصابتهم بإصابات سطحية. فلما كان ذلك الموقف من جانب السعديين تقدم أحمد حسين بالتماس إلى أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي كي يسمح له بعقد اجتماع يناقش فيه آراء أحمد ماهر في وجوب دخول مصر الحرب ويرد عليها، فإذا لم تسمح الظروف الحاضرة لعقد مثل هذا الاجتماع فقد طالب بحظر اجتماعات الدكتور ماهر؛

قائلا " أنه من غير المعقول أن يظل الدكتور أحمد ماهر دون غيره في هذه البلاد هو صاحب الحق في أن يكتب ويخطب ويجاهر بدعوة سياسية تصادر الأمة في عواطفها وخطتها التي تجمع عليها " وفى نفس الوقت أرسل أحمد حسين خطابا مماثلا إلى أحمد ماهر نفسه يطالب فيه بأن يسمح له بحضور اجتماعاته ليناقشه آرائه، فإذا استطاع أن يقنعه بوجهة نظره، فإنه سوف ينضم إلى جانبه ويؤيد آرائه.

ولكن على ما يبدو فإن مصر الفتاة لم تتلق ردا على هذين الخطابين، فاستمر الموقف من السعديين على ما هو عليه يحوى خلافا في وجهات النظر، وقد بادرت مصر الفتاة فطلبت السماح لها بعقد اجتماع يوم 21 أكتوبر ، ووجهت الدعوة إلى السعديين ولأحمد ماهر لحضور ذلك الاجتماع المقترح.

ومصر الفتاة منذ أن فكرت في عقد ذلك الاجتماع وهى تعلم مقدما أنه لن يصرح به وأن أحمد ماهر لن يحضره، فاستمرت العلاقات بينهما تحمل ذلك الخلاف في وجهات النظر إلى أن تجمد نشاط حزب مصر الفتاة تماما في منتصف عام 1941.

فإذا انتقلنا لمعالجة موقف مصر الفتاة من الجمعيات والجماعات الدينية ، فإن مصر الفتاة كانت على علاقات بها توضح موقفها منها، ولعل أهم تلك الجماعات جماعة الإخوان المسلمين التي بدا أن نشاطها في تزايد مستمر، وأن حركة العضوية بها تسجل ارتفاعا ملحوظا فقد بدأت دعوة الإخوان المسلمين دعوة دينية ترى أنه لا خلاص من الشرور التي تتعرض لها البلاد بغير العودة إلى الإسلام في منابعه الصافية الأولى؛

ولم يكن العنصر السياسي واضحا ف الدعوة فئ أول أمرها، ولذلك انضم إليها كثيرون ممن بهرتهم فصاحة حسن البنا وإلمامه الواسع بالدين، وما وهب من قدرة خطابية وما كان عليه من صبر وأناة وحسن تنظيم. ولذلك لم يجد الكثير من أعضاء مختلف الأحزاب غضاضة في الانضمام إليها أو ما يتعارض مع ولائهم لأحزابهم السياسية والآراء التي تمثلها .

ويمكن القول أنه ربما كان الاضطراب السياسي الذي كانت تعانى منه البلاد فئ ذلك الوقت دافعا للجماهير كي تنضم إلى صفوفها،وقد استطاعت أن تكون جماعة متماسكة تدين بالطاعة والتوجيه لقائد واحد، ولقد كان هناك تشابه بين دعوة مصر الفتاة والإخوان، فقد جاءا بنوع جديد من التفكير قائم على التكتل من أجل دعوة دينية أو وطنية عن طريق تأليف تشكيلات عسكرية وشبه عسكرية، أو إنشاء تنظيمات متماسكة في شبه شبكة تشمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها والتعصب لدرجة الخصومة للمخالفين .

فلما بدأ الاتجاه الإسلامى يتضح لدى مصر الفتاة، ظهر هناك اتجاه يدعو إلى ضم جهودها إلى جهود جماعة الإخوان في هذا المجال، وقد أعرب مفتى فلسطين الحاج أمين الحسيني إلى صديقه عزيز المصري بضرورة الاستفادة من حسن البنا وجهوده، فبذل عزيز المصري جهوده في محاولة توحيد جهود مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين.

ولكن تلك الجهود لم تكلل بالنجاح، فقد رفض حسن البنا هذا الاندماج ، ولكن الجماعة استطاعت أن تستقطب الكثيرين من أعضاء مصر الفتاة في عام 1939.

وعلى الرغم من محاولة ضم الجماعات والجمعيات الدينية في وحدة واحدة، فإن مستقبل الحوادث أثبت عكس ذلك فقد تصدى الإخوان المسلمون لمصر الفتاة، فبدأوا هجوما شخصيا على قادة مصر الفتاة قائلين أن أحمد حسين لا يصلى ، وفتحي رضوان يحارب الصلاة ومصطفى الوكيل ضد الدين إلى آخر هذه الاتهامات. ويبدو أن الإخوان المسلمين كانوا يرفضون وجود جماعات ذات صبغة دينية تقوم إلى جانبهم فبدأوا يشككون في مدى تمسك قادة هذه الجماعات بمبادئ الدين.

ولكن ذلك الموقف المعادى لم يدم طويلا من جانب الإخوان المسلمين فعندما قدم أحمد حسين للمحاكمة بتهمة العمل على قلب نظام الحكم عام 1938، كتب حسن البنا مقالات في مجلة " النذير" يدافع عن أحمد حسين لموقفه من الدين الإسلامى؛

وطالب النيابة بأن تجرى تحقيقا مع الإخوان لأنهم منذ ست سنوات يرددون نفس المعاني التحى ذكرها أحمد حسين في مقالاته عن الدين، واشتد الإخوان في هجومهم على تصرف الوزارة حيال أحمد حسين ، فوجهت النذير خطابا مفتوحا إلى النائب العمومي بعنوان " قلب النظام الدستوري هو ما يعمل له الإخوان المسلمون نتحداكم أن تقدمونا إلى المحاكمة" وفى هذا مظاهرة لأبعد الحدود لموقف أحمد حسين من الدستور والنظام البرلماني، فلما كانت قضايا تحطيم الحانات التي قام بها حزب مصر الفتاة، واتهم فيها أحمد حسين وغيره وقبض عليهم، تراجع حسن البنا عن خطة تأييده لأحمد حسين ولما قام به حزب مصر الفتاة في هذا الصدد بقوله" نحن لا نوافق على تحدى القانون بهذه الصورة... فكلمتنا إلى هؤلاء الشبان أن يكفوا عن هذه الوسيلة وأن يعملوا على تحقيق أغراضهم في حدود القانون"

كان ذلك الموقف المتغير من جانب الإخوان المسلمين مثار دهشة مصر الفتاة، ولكن بقاء للعلاقات الودية بين الجانبين، فقد آثر أحمد حسين ألا تتعرض مصر الفتاة للإخوان المسلمين فتهاجمهم ويطالب كلا الطرفين بالإخلاد إلى السكينة والبعد عن ترديد المهاترات بينهما وأن تسود روح المودة علاقتهما .

وقد كان أسلوب المهادنة هذا من جانب مصر الفتاة محاولة من جانبها لبدء المجتمع المصري مرحلة جديدة من مراحل التعاون مع الإخوان، فلما كان الاتجاه داخل المجتمع المصري يدعو إلى التضامن مع الفلسطينيين في قضيتهم، وخاصة بعد أن اتضح موقف انجلترا من القضية بعد انتهاء مؤتمر المائدة المستديرة في لندن الذي لم يتقدم بالقضية خطوة إلى الأمام؛

رأى أحمد حسين أن يتقدم بدعوة إلى الإخوان للتعاون معا في مقاطعة المتاجر اليهودية وقد ذكر في خطابه إلى حسن البنا" وكم يسرني أن تتعاون جهودنا في هذا السبيل وأن تؤلف منا لجنة اتصال تجمع مندوبين من الطرفين ليضعوا الخطط العملية لتنفيذ فكرة المقاطعة" ومن ثم توجه أحمد حسين أيضا بدعوة إلى الإخوان والشبان المسلمين لتوحيد الجهود لإعلان السخط على ما يحدث في فلسطين من مذابح تفتك بالأطفال والنساء، ويوجه نداءه إلى الجماعتين طالبا تأليف لجنة منهم جميعا تشرف على تحقيق هذه الأغراض بمختلف الأساليب .

وإزاء أسلوب المهادنة الذي بدأته مصر الفتاة تجاه الإخوان بعد أن تنكروا لما قامت به من تحطيم الحانات فقد كان رد الفعل من جانب الإخوان واضحا عندما أعلن حزب مصر الفتاة عن تحوله إلى الحزب الوطني الإسلامى فقد رحبت بقيامه صحافة الإخوان المسلمين واعتبرت ذلك الاتجاه من جانب مصر الفتاة اتجاها صحيحا نحو سيادة التشريع الإسلامى في ظل الوحدة العربية فالجامعة الإسلامية التي نادت بها مصر الفتاة، وأوضحت تلك الصحف أن الإخوان قد نادوا بهذه المبادئ وعملوا لها من قبل، ولكنه يسرهم أن يجدوا جهود العاملين تتجه نحوها.

ومن المؤكد أن الإخوان رأوا أن ذلك الاتجاه من جانب مصر الفتاة يعد انتصارا لمبادئهم وانتشارا لها، ولكنهم لم يدركوا حقيقة أهداف مصر الفتاة من وراء التغيير ، فقد كانوا يرون استقطاب جزء من جماهير الإخوان بعد أن حققت دعوتهم نجاح منقطع النظير حتى ضمت بعض جماهير مصر الفتاة نفسها.

ورغم تباين أهداف الطرفين فإن التعاون بينهما صار واضحا دون أن يحدث الاندماج الذي أراده عزيز المصري من قبل، فلما كانت دعوة اتحاد طلبة الجامعة إلى رؤساء الجمعيات الإسلامية ونقابات العمل لعقد اجتماع بدار الاتحاد مساء يوم الخميس 24 أبريل عام 1941 للبحث في أسلم الطرق لتوحيد كلمة الأمة في ظروف الحرب، فقد لبى كل من الطرفين الدعوة إلى جانب الكثير من الجمعيات الدينية الأخرى ، ورأوا عدم الزج بمصر في أتون الحرب الدائرة.

وربما كانت تلك آخر فرصة يتعاون فيها الطرفان إذ تجمد نشاط مصر الفتاة بعد ذلك ولكنه ستجرى محاولات أخرى للتعاون بينهما فيما بعد الحرب العالمية الثانية .

ويمكن القول بأن العلاقات بين مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين كانت علاقات يشوبها شيء من التردد من جانب الإخوان والخوف من مغبة الدخول مع حركة مصر الفتاة فئ علاقات مباشر ربما عرضتها لهزات عنيفة ، فجماعة الإخوان بتنظيمها الدقيق والمحكم وبالسرية والغموض اللذان كانا يكتنفان حركتها كانا كفيلين بألا يسمحا لجمعية مصر الفتاة التي عرفت بمجاهرتها بكل شيء وانتهاجها نهجا متطرفا بأن تتقارب منها؛

ولكن في حقيقة الأمر فإن الجماعتين يتشابهان في أنهما انحراف عن القواعد الديمقراطية السليمة، ولكن مصر الفتاة رغم أنها لم تستطع أن تحرز الكثرة العددية التي أحرزتها جماعة الإخوان فإنها في تلك الفترة كانت أكثر فاعلية منها.

وإلى جانب تلك الأحزاب والجماعات القائمة ، فقد نشأ حزب جديد في منتصف عام 1939 وهو " حزب الفلاح الاشتراكي" بزعامة أحمد كامل قطب، وقد استقبلته مصر الفتاة استقبالا حسنا، ورحبت برئيسه كذلك وأطرت جهاده منذ أن كان طالبا في كلية الحقوق يعمل " بمشروع القرى" الذي عمل على مكافحة الأمية داخل القرية المصرية وأنه آلى على نفسه أن يكرس جهوده من أجل الفلاح المصري، وإمعانا في مساندة ذلك الحزب فقد طالبت أعضاءها في كل مكان بأن يعطفوا على جهود هذا الحزب ورئيسه وأن يساهموا في كل حركة تعود على الفلاح بالخير ، معلنة أن ذلك الحزب دليل على أن الكلمة تتحول إلى الشباب.

أما عن موقف مصر الفتاة من التنظيمات الشيوعية في فترة الدراسة ، فإن المنطق يقتضينا أن نقرر أن مصر الفتاة تحمل في طياتها عداء سافرا للاتجاهات اليسارية في مصر وأن لم يكن هناك مواقف معينة توضح هذا العداء، فاليسار المصري مضروب في ذلك الوقت واعتقد أنه لم يسترد أنفاسه بعد الضربة التي وجهت إليه في عام 1925.

وعلى الرغم مما كان يعانيه اليسار المصري في الثلاثينات من تفكك واضح، إلا أنه ظهرت بعض التنظيمات ذات الصبغة الشيوعية في تلك الفترة، ففي عام 1939 ألف عصام عبد المعطى وعبده حسنين (سوداني من وادي حلفا) وهما من أعضاء حزب مصر الفتاة" كتلة الشباب المصري " وهى ذات اتجاهات يسارية، فقد كان عصام عبد المعطى وعبده دهب من اليساريين ، كما ضمت الكتلة إلى جانبهم أعضاء آخرين من مصر الفتاة مثل فهمي عقل وحسن كمال وإن لم يكونوا يساريين.

وهكذا نرى أن على الرغم أن الموقف المعادى من جانب مصر الفتاة لليسار واليساريين فقد ظهر من بين أعضائها من يؤمنون بالمبادئ اليسارية، وربما ظهر ذلك بصورة أكبر في إعقاب الحرب العالمية الثانية إذ خرج الكثير من اليساريين المصريين من بين صفوف مصر الفتاة.

وإلى جانب تلك التنظيمات سواء كانت تنظيمات سياسية معلنة مثل الأحزاب أو كانت تنظيمات شبه سرية مثل التنظيمات الشيوعية إن وجدت، فإن مصر الفتاة كانت على علاقة ببعض الشخصيات السياسية التي لا تنتمي لتلك التنظيمات السياسية، وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم جماعة المستقلين عن الأحزاب، وإن كان بعضهم له انتماء حزبي من قبل، وهم مجتمعون- على اختلاف اتجاهاتهم- يمثلون قوة سياسية أخرى تضاف إلى القوى السياسية القائمة، وقد كان من بين هؤلاء كل من عباس العقاد بعد خروجه على الوفد، فقد مال إلى صفوف مصر الفتاة ككاتب في جريدة " الضياء" عام 1936 وكانت كتابته تتركز حول الهجوم على المعاهدة.

وبهي الدين بركات وقد كان ذا عطف كبير على مصر الفتاة وعبر عن رأيها وقاد المعارضة للمعاهدة في مجلس النواب عند عرضها عليه لإقرارها. إلى أن كان الخلاف بينهما عندما تولى وزارة المعارف في عهد وزارة محمد محمود ، ومن ثم تولى رياسة مجلس النواب فتراجع عن موقفه من المعاهدة فاتهمته مصر الفتاة بالتراجع عن موقفه.

ولعل أهم تلك الشخصيات التي قامت لمصر الفتاة علاقات بها كان عزيز باشا المصري، وقد بدأت علاقته بأحمد حسين بناء على طلب عزيز المصري لقاءه، فأعرب له عن سروره لأنه يعمل مع زملائه في مكافحة الاستعمار، وطلب إليه أن يعتبره أبا لهم ومستشارا وأن بابه مفتوح لهم فئ كل وقت.

ومن ناحية أخرى فإن مصر الفتاة قد أعجبت بشخصية عزيز المصري لآرائه التي يبثها داخل مدرسة البوليس عندما كان مديرا لها، والتي تدعو إلى تحرير مصر من ربقة الاستعباد.

وإزاء هذا الإعجاب بشخصية عزيز المصري والثقة المطلقة من جانب مصر الفتاة في وطنيته، فقد طالب أحمد حسين بأن يتولى عزيز المصر منصب الجيش المصري في وزارة محمد محمود الثانية عام 1938 ، إلا أن الإنجليز أبطلوا فاعلية توليه هذا المنصب، فلما كانت وزارة على ماهر 1939 عين عزيز المصري رئيسا لأركان حرب الجيش المصري ومنح رتبة الفريق وأطلقت يده في إصلاح الجيش، وكان ذلك بداية اتصاله بالضباط الشبان. يقصد الضباط الأحرار .

كان عزيز المصري يقف للبعثة العسكرية البريطانية في مصر بالمرصاد، وكان في جولاته بين وحدات الجيش المصري يشيد أمام الضباط المصريين بالعسكرية الألمانية ويقلل من شأن العسكرية الإنجليزية والفرنسية ولا شك في أن تتأثر مجموعة الضباط الصغار الوطنيين مما أوقع هؤلاء الضباط في بلبلة شديدة حول طبيعة الصراع الذي كان يدور بين المحور والحلفاء، وجذب بعضهم إلى التعاطف مع المحور لا حبا أو حتى فهما للفاشية ولكن كراهية وشماتة في المحتلين الإنجليز، وكان هذا موقف غالبية الشعب المصري.

ومن المؤكد أن موقف عزيز المصري هذا كان يتفق تماما مع اتجاه مصر الفتاة وموقفها من الصراع القائم بين المحور والحلفاء، فقد كانت دائما إلى جانب المحور فكانت اتصالاتها به على هذا الدرب، وقد استمرت العلاقات بينهما حتى كانت فترة الحرب ومحاولات عزيز المصري الثلاثة المعروفة للهرب من مصر والانضمام إلى صفوف الألمان، وقد أخبر عزيز المصري محمد صبيح بأنه سيتصل بهم عن طريق الراديو وعن طريق رسل يحملون أمارات معينة، فعليهم أن يجتهدوا في أن يظلوا خارج المعتقلات والسجون وأن يحافظوا على أسلحتهم، فنشط محمد صبيح فئ هذا الاتجاه وفى الاتصال بزملائه ، إذ أدرك أن الساعة الحاسمة قد اقتربت ، وأن الحركة الوطنية العربية إذا كانت قد أصابتها ضربة أليمة في العراق- يقصد فشل حركة رشيد عالي الكيلانى- فمن الممكن أن تداوى هذا الجرح في مصر. ولكن محاولات عزيز المصري باءت بالفشل فكان أن تم اعتقاله واعتقال معظم أعضاء مصر الفتاة طوال الأعوام الباقية من الحرب.

كانت علاقة عزيز المصري بمصر الفتاة ترجع إلى الكراهية الشديدة من كلا الطرفين للمحتلين الإنجليز، فقد كانت علاقتهم وثيقة طوال الفترة وربما كانوا يعملون بوحي من تعليماته، هذا وقد كان الإنجليز منذ البداية يقفون لعزيزالمصرى بالمرصاد يحدون من تصرفاته إلى أن اضطروا على ماهر لإبعاده عن منصب أركان حرب الجيش المصري في وزارته عام 1939.

كان موقف الأحزاب المصرية القائمة في تلك الفترة من مصر الفتاة موقفا متباينا إلى حد كبير ، ففي الوقت الذي رحب بها بعض الأعضاء فقد هاجمها البعض الآخر، وربكا كان موقف كلا منها ينم عن ابتغاء المصلحة الشخصية ، فحتى الأحزاب التي رحبت بها كانت ترى أنه أداة يمكن استخدامها في سبيل الوصول إلى أهدافها في تولى الحكم بعد أن تتمكن من صرع الوفد والقضاء عليه، أما مصر الفتاة فكانت ترى في علاقتها مع الأحزاب المختلفة على أمل تحقيق هذا الهدف المبكر ولكن ذلك أدخلها في صدامات وخلافات مع تلك الأحزاب، فلما اتضحت النوايا كان الافتراق.

أما الجانب المعارض لمصر الفتاة ونعنى به حزب الوفد فقد ظل على موقفه منها إلى حد كبير، وإن حدث بعض التقارب في فترات متفاوتة، وعلى العموم فإنه يمكن القول بأن حركة مصر الفتاة كانت في ركاب أحزاب الأقلية تؤيدها وتساندها في مواجهة الأغلبية الشعبية بعد أن فشلت في التعاون معها والحصول على اعترافها بشرعية وجودها.

الفصل العاشر: مصر الفتاة والمسألة الوطنية

مصر الفتاة والإنجليز. • مصر الفتاة وإيطاليا. • مصر الفتاة وألمانيا. • مصر الفتاة وقضايا الدول العربية.

عندما ظهرت جمعية مصر الفتاة إلى الوجود رأى أحمد حسين رئيسها أن يتجه نشاطها اتجاها إصلاحيا في مختلف شئون الحياة بعيدا عن التعرض للاحتلال القائم.

وإنما رأى البعض الآخر أن معالجة هذه الشئون دون التعرض للاحتلال سبب الاختلال القائم في مختلف النواحي يعد عملا جانب الصواب إلى حد كبير، وإن كان برنامجها في عام 1933 قد نص على ضرورة وضع الأجانب في مركزهم الطبيعي ضيوفا على مصر وليسوا أصحابها وذلك يكون بإلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة.

كان ذلك تطبيقا لرأى أحمد حسين في معالجة الشئون الداخلية أما البرنامج فلم يتعرض للاحتلال صراحة ولا للوسائل الموصلة للخلاص منه.

وعندما لقي رأى أحمد حسين في كفاح مصر الفتاة معارضة من بعض زملائه، جعله ذلك يتحول إلى التصدي للاحتلال والتنديد به، ومن ثم شنت مصر الفتاة هجوما عنيفا على الأجانب عامة وعلى الإنجليز خاصة لأنها ترى أنهم هم سبب التأخر الواضح الذي تعانى منه البلاد، كما أنهم عقبة في سبيل الإصلاح الذي تنشده.

فكان أن تركز نشاطها في البداية في العمل على إزالة ما أسمته " الضربات العشر" التي تعيش تحت وطأة البلاد وهى " الأراضي المصرية مرهونة للأجانب، رؤوس الأموال المصرية جلها ملك الأجانب، البرلمان المصري قاصر عن التشريع للأجانب، القضاء المصري قاصر عن الحكم على الأجانب، البوليس المصري قاصر عن إيقاف المجرمين الأجانب، الحكومة المصرية قاصرة عن فرض ضريبة على الأجانب ، تجارة السموم في مصر يروجها الأجانب، وأن الشعب المصري لا يحترمه الأجانب" ورأت مصر الفتاة أن ذلك يهدم السيادة القومية، ويسد عليها طريق الإصلاح ويؤخرها عن بلوغ المجد.

تركز كفاح مصر الفتاة في البداية للخلاص من هذه الحالة بالعمل على إزالة تلك الضربات ، فكان ينم عن كراهية شديدة من جانبها للأجانب، فهل كان ذلك هو حقيقة موقفها منهم؟ حقيقة أن كفاح مصر الفتاة اتسم بالعداء الشديد للأجانب ومقاطعة كل ما هو أجنبي، فقد نصت المبادئ العشرة التي اعتبرتها مصر الفتاة دستورها، فكان أحدها ينص على لا تشتر إلا من مصري، ولا تلبس إلا ما صنع في مصر، ولا تأكل إلا طعاما مصريا ( المبدأ الثاني) كذلك احتقر كل ما هو أجنبي بكل نفسك وتعصب لقوميتك حتى الجنون. ( المبدأ السابع) وهكذا يتضح موقف مصر الفتاة من الأجانب في أول عهدها.

وتحسم مصر الفتاة هذا الموضوع فتوضح أنه تحتقر الأجانب وتحرم على الوطنيين من أبنائها التعامل معهم مباشرة أو عن طريق مصنوعاتهم.

وعندما اشتد الإنجليز في معاملة مصر الفتاة كرد فعل لموقفها من الأجانب يضع أحمد حسين النقاط على الحروف فيكتب مقالا بعنوان" هل نحن نكره الإنجليز والأجانب ونكره كل تعاون معهم" فيؤكد أنهم لا يكرهون أحدا، فهم يكرهون الإنجليز ولكنهم خصوم لسياستهم التي ترمى إلى إذلال مصر وتجريدها من حريتها واستقلالها وأمام ذلك فلا مناص لهم من الكفاح ضد هذه السياسة.

ثم يحدد أحمد حسين الموقف من الأجانب بدرجة أكبر، وخاصة بعد أن اشتهر لدى مختلف القوى كره مصر الفتاة للأجانب فقال: يجب أن يعرف الأجانب بأننا لا نرض لهم بأي امتياز في هذه البلاد يجعلهم في وضع يختلف عن المصريين .

ولعل في هذا إشارة إلى المدخل الذي دلفت منه مصر الفتاة في معاداة الأجانب وهجومها الحاد عليهم في مسألتي الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة.

بذلت مصر الفتاة جهودا كبيرة في محاربة الامتيازات الأجنبية، فقد تركز هجومها عليها وعلى الآثار التي فرضتها على المجتمع المصري . فطالبت بأتن تقوم مصر بإلغائها من جانبها.

كذلك فقد أفردت جريدتها الصفحات لنشر أبحاث عن الامتيازات وبداية تطبيقها، قائلة أنه كما سن قانون أو معاهدة لقيامها فإنه يمكن أن يلغى هذا القانون في وقت آخر.

وفى هذا المجال خطت مصر الفتاة خطوات أبعد من ذلك، فأرسل أحمد حسين خطابا إلى وزير اليونان المفوض طالبه فيه بضرورة إلغاء الامتيازات، فأبدى الوزير استعداد بلاده إذا تحركت الحكومة المصرية في هذا السبيل .

كما قامت بحملة واسعة النطاق للدعاية ضد الامتيازات وضرورة إلغائها. وتوجت جملتها هذه بالتوجه إلى الملك بعريضة طالبت فيها بالعمل على إلغاء الامتيازات والمحاكم المختلطة موضحة أنهما قد صارا عبئا ثقيلا على حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

وفى حقيقة الأمر، فإن الامتيازات الأجنبية قد تعرضت لهجوم من جانب مصر الفتاة إلى الحد الذي طالبت فيه بتنظيم مظاهرة في يوم 2 مايو 1934 وذلك لإعلان السخط عليها، ولكن الحكومة حالت دون قيام المظاهرة وصادرت عددا من مجلة " الصرخة" خصصته مصر الفتاة لهذا الغرض. وقد ظل موقفها من الامتيازات إلى أن كان موقفها من مؤتمر " مونترو" الذي نظر في مسألة الامتيازات وقرر إلغائها، كما رأينا من قبل.

اتخذت مصر الفتاة من مسألتي الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة مدخلا لتوضح منه موقفها المعادى للأجانب عامة كي تصل إلى ما تريده في مهاجمة الإنجليز المحتلين للبلاد، فدعت إلى الثورة عليهم لإخراجهم من البلاد بالقوة وأخذت تندد بهم وبتدخلهم في شئون البلاد الداخلية وتغلغلهم في كل مصالح الحكومة موضحة أن الإنجليز يحطمون استقلال البلاد؛

وأضافت أن الإنجليز يسيطرون على كل شيء " اسفنكس باشا " يتولى منصب مفتش عام الجيش المصري ، و" رسل باشا " حكمدار بوليس العاصمة ، و" كين بويد" مدير الإدارة الأوربية بوزارة الداخلية و" أبلت " حكمدار بوليس القناة ، و" بيكر" مساعد حكمدار العاصمة.

وكرد فعل من جانب الإنجليز لهذا الهجوم أن أدخل أحمد حسين وفتحي رضوان وحافظ محمود السجن لأول مرة (1933) وكنتيجة لذلك فقد اشتدت مصر الفتاة في موقفها، فكتب حافظ محمود مقالا صرح فيه بأن الإنجليز هم الأعداء الحقيقيين لمصر وعلى المصريين أن يتحدوا في مواجهتهم.

وهكذا وحدت مصر الفتاة دون أن تدرى بين جهود الإنجليز خاصة والأجانب عامة لمحاربتها والعمل على إسكات صوتها. ويتوج أحمد حسين جهوده في هذا المجال فيرسل خطابا إلى رئيس وزراء انجلترا باسم مصر الفتاة طالبه فيه بأن يستمع إلى صوت الجيل الجديد من الشباب الذي تمثله مصر الفتاة وأن يستجيب لما يطالبون به، وهو عودة السودان لمصر كاملا، وكما أنهم يريدون استقلال بلادهم كاملا أيضا، وفى حالة رفض الاستجابة لمطالبهم فإنهم سيجاهدون للوصول إلى تلك المطالب.

وعلى الرغم من التشدد الواضح من جانب مصر الفتاة في الهجوم على الإنجليز، فإنهم وإن كانوا قد أشاروا على السلطات المصرية باتخاذ بعض الإجراءات ضد زعمائها، إلا أن انجلترا وقفوا موقف عدم الاكتراث واللامبالاة لما تقوم به مصر الفتاة استهانة بشأنها.

فعندما توجهت مصر الفتاة بخطاب إلى المندوب السامي البريطاني ذكرت فيه أن كل ما تعانى منه مصر من ويلات إنما كان مرتبطا بمؤامرة محكمة للنفوذ البريطاني في مصر، وطالبت انجلترا بالنظر في مسائل الامتيازات وفصل واحة جغبوب والسودان عن مصر؛

كما أشار الخطاب إلى مهزلة الدستور والبرلمان في مصر، ورغم شدة اللهجة التي جاء بها الخطاب فإن تعليق الخارجية البريطانية على ذلك بأن مصر الفتاة لا تمثل تحديا خطيرا للوفد في ذلك الوقت. فمن باب أولى أنها لا تمثل تحديا أو خطرا عليهم في مصر.

ومن ثم سادت فكرة لدى الأجانب المقيمين بمصر عامة والإنجليز خاصة أن مصر الفتاة معادية للأجانب على طول الخط، وقد كان موقف مصر الفتاة من الحرب الايطالية الحبشية ومن معركة إعادة الحياة النيابية للبلاد في ظل دستور 1923 تعبيرا صادقا عن موقفها المعادى للانجليز.

فقد نبهت مصر الفتاة إلى خطر الحرب المتوقع نشوبها بين الإنجليز والايطاليين في أعقاب الهجوم الايطالي على الحبشة، فهاجمت وزارة نسيم لاتفاقها مع " مايلز لامبسون" للوقوف إلى جانب انجلترا في ذلك النزاع.

وقد أعلنت مصر الفتاة أن الموقف الطبيعي لمصر تجاه الحرب المنتظرة إنما هو موقف الحياد الدقيق وذلك اتقاء لويلات الحرب ونفقاتها.

وكذلك عقد مجلس جهاد جمعية مصر الفتاة اجتماعا اتخذ فيه قرارات في هذا الشأن منها" ضرورة وقوف مصر على الحياد من النزاع الحاضر بين إيطاليا والحبشة، وامتناعها عن تقديم كل ما يشتم منه المساعدة للسياسة الإنجليزية"

كذلك تقدمت مصر الفتاة برسالة إلى الملك فؤاد حول هذا المعنى فأكدت من جديد أن موقف مصر الطبيعي في ذلك الصراع هو أن تقف على الحياد، كما أوضحت الرسالة مدى عداوتها لانجلترا بقولها" وعلينا أن نقاوم أية رغبة لانجلترا في الزج بنا لخدمة مصالحها والدفاع عن خططها".

وفى الوقت الذي وقف فيه الشعور الوطني المصري مساندا قضية الأحباش اتخذ أحمد حسين موقفا معارضا فأعلن أن هؤلاء الذين يريدون الدفاع عن الحبشة أن يدافعوا عن مصر .

وقد بدت دعوته في ذلك الوقت دعوة غريبة شاذة وأن أخذ الرأي العام يهجس بأنها دعوة مدسوسة وأن للايطاليين فيها دخلا. ولعل هذا الموقف من جانب مصر الفتاة يوضح مدى عداوتها للانجليز.

وعندما لم تسارع وزارة توفيق نسيم بإعادة دستور 1923، شنت مصر الفتاة هجوما على الوزارة وطالبت بإسقاطها ، كما شنت هجوما على الإنجليز وطالبت الوزارة قائلة" أعيدوا الدستور لأنه حق لنا سواء رضيت انجلترا أو لم ترض ولا تخافوا من عدم رضائها" وفى الوقت الذي أعلنت فيه بريطانيا عن رفضها لعودة دستور 1923 أو دستور 1930 " ما دام قيد أنه غير صالح والثاني لا ينطبق على رغبات الأمة"

وفى نفس الوقت اشتدت مصر الفتاة في الهجوم على الإنجليز لموقفهم المتعنت من عودة الحياة النيابية إلى البلاد فوجهت نداء للمصريين جميعا بالكفاح من أجل عودة الدستور والحياة النيابية.

وإزاء ما أحست به مصر الفتاة من خطر يهدد استقلال البلاد، توجهت بدعوة إلى الأحزاب السياسية للاتحاد والتعاون لمواجهة ذلك الخطر ولمجابهة الإنجليز.

وبلا شك فإن تصريح صمويل هور في 9 نوفمبر 1935 كان له ردود فعل كبيرة لدى المصريين جميعا، فقد سحب الوفد تأييده لوزارة نسيم، كما هاجم السياسة البريطانية لتدخلها في شئون مصر الداخلية. أما مصر الفتاة فقد كانت تخطط لإقامة اجتماع كبير للاحتفال بعيد الجهاد 13 نوفمبر،وفى ذلك اليوم بدأ الصدام بين المتظاهرين من الطلبة وبين البوليس ولكن مصر الفتاة لا تشارك الطلبة مظاهراتهم كما يذهب أحد المؤرخين المعاصرين وإنما كان شغلها الشاغل هو حراسة مكان الاجتماع المزمع عقده.

وعندما اشتدت المظاهرات في اليوم التالي لم تشارك فيها مصر الفتاة أيضا، وقد اعترفت قيادة الجمعية بذلك معلنة أن دورها في تحريك لجماهير لا يقل أهمية عن المشاركة الفعلية.

ولكن مما يجعلنا نشك في هذه الرواية أنه في أثناء المظاهرات والصدام مع البوليس تردد الشعار المميز لمصر الفتاة وهو " مصر فوق الجميع" ولعل ذلك يشير إلى اشتراكها في المظاهرات. ويمكن القول بأن مصر الفتاة قد اشتركت في المظاهرات كأفراد وإن لم تشارك كجماعة سياسية منظمة.

ومما يدل على اشتراك مصر الفتاة في حوادث الطلبة عام 1935، أن إبراهيم شكري أحد أعضائها كان من بين المصابين برصاص البوليس، وقد نقل جنبا إلى جنب مع الشهيد محمد عبد المجيد مرسى إلى مستشفى قصر العيني حيث أجريت له عدة عمليات جراحية انقدت حياته.

وكما أصاب رصاص البوليس عددا من الطلبة الآخرين منهم محمد عبد الحكم الجراحي. وقد كتب الجراحي بدائه خطابا باللغة الإنجليزية بتاريخ 16 نوفمبر 1935 إلى رئيس وزراء انجلترا بعد إصابته ورد فيه ذكر شعار مصر الفتاة " مصر فوق الجميع" ولعله كان من بين أعضائها في ذلك الوقت ولكنه استشهد بعد إصابته بأيام قلائل.

وفى حقيقة الأمر ، فإن اشتراك مصر الفتاة في " ثورة " 1935 قد دلت عليه معظم القرائن هذا فضلا عن أن شعور المصريين جميعا والشباب خاصة كان متأثرا بموقف انجلترا من دستورهم، فلا أقل من أن تشارك مصر الفتاة ها الشعور.

ولكن واقع الأحداث التالية يؤكد أن مصر الفتاة في شخص رئيسها وسكرتيرها العام يتركان المجال في مصر وفى ظل ظروف " الثورة " القائمة ضد الإنجليز من أجل عودة الدستور والتي ازدادت اشتغالا بعد تصريح هور الثاني في 5 ديسمبر 1936 الذي أكد عناد بريطانيا وعدم موافقتها على إعادة الدستور.

وقد أدى ذلك الموقف لتأليف الجبهة الوطنية التي طالبت الملك بإعادة دستور 1923 ، وطالبت الإنجليز بالعودة إلى المفاوضات لوضع معاهدة تحدد العلاقات بين الطرفين.

في وسط تلك الظروف التي تعيشها البلاد سافر أحمد حسين وفتحي رضوان إلى أوربا بهدف الدعاية للقضية المصرية- كما أعلنا في ذلك الوقت- كما طرحا اكتتابا لتغطية نفقات الرحلة أسفر عن جمع مبلغ 200 جنيه دفع الجزء ألكبر منه على ماهر وصدقي ومحمد محمود وعلوبة.

غادر وفد مصر الفتاة المسافر إلى أوربا محطة القاهرة في يوم 4 ديسمبر وكان في وداعه علوبة وعبد القادر حمزة، وقد أعلن أحمد حسين في المحتشدين في المحطة أنه مسافر للدفاع عن القضية المصرية.

ثم سافر الوفد من الإسكندرية في يوم 5 ديسمبر على الباخرة" النيل" إلى مرسيليا ومنها إلى باريس . وفى باريس وصلت الأنباء عن تأليف الجبهة الوطنية وعودة الدستور فكان ذلك مشجعا لهما على حد تعبير أحمد حسين – فواصلا الرحلة إلى لندن. وكان يشغلهما في ذلك الوقت أن يلتقيا بزميلهما مصطفى الوكيل هناك لينضم إليهما ويشاركهما نشاطهما.

بدأ وفد مصر الفتاة نشاطه بلندن فضم إليه مصطفى الوكيل، كما اتصل ببعض المقيمين هناك ومنهم بعض المتصلين بمكتب الصحافة المصري هناك، فقد وثق الوفد علاقته بهم، وذلك لأنهم يهدفون القيام بنشر الدعاية للقضية الوطنية هناك، فكان من ذلك أن طلبوا عقد لقاءات مع بعض رؤساء تحرير الصحف، كما اتصلوا بحزب العمال، كما كانوا على اتصال وثيق بالنادي الملكي المصري هناك. كما أعد الوفد مذكرة وزعت في انجلترا ضمنها المطالب الآتية:

أولا : قيام تعاون حر وتحالف شريف بين مصر وانجلترا .

ثانيا : استقلال مصر التام وسيادتها الكاملة.

إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة.

رابعا: إلغاء إدارة الأمن العام الأوربية.

خامسا : حق مصر في تقوية دفاعها طبق حاجاتها الضرورية وجعل التجنيد إجباريا.

سادسا: الاعتراف بحقوق مصر كاملة في السودان.

وقد أعلن الوفد أن هذه هي مطالب مصر لاستكمال استقلالها وأنه إنما جاء ليطالب بها لمصلحة مصر وانجلترا.

وبالإضافة إلى ذلك النشاط فقد قام الوفد بالاتصال ببعض الشخصيات البريطانية بلندن وبالصحف وإقامة الاجتماعات العامة لشرح القضية المصرية، فيوضح أحمد حسين هذا النشاط بقوله" تلقت بالأمس رسالة من مصري اسمه محمد يحيى يحدثني عن رغبته في تعريفي لمنجتون يدعوني فيه لمقابلة في 9 يناير 1936، بعثت بعدة خطابات للصحف السياسية في طلب تحديد موعد لمقابلات؛

بعثت بخطاب لوزير الخارجية أطلب عقد مقابلة لأحدثه عن مصر، بعثت بخطاب للمستر لانسبورى والمستر دالتون أطلب تحديد مواعيد للمقابلة، انتهينا من إعداد مذكرة صغيرة عن مصر الفتاة لتقدم إلى " وليم كنت" صاحب مجلة انجلترا والشرق ، جاءني محمد يحيى اليوم ليرتب لنا اجتماعا مع طلبة جامعة لندن من الإنجليز".

ومن بين الأنشطة التي قام بها الوفد هناك أيضا، أنه عقد اجتماعا للمصريين المقيمين هناك، خطب فيه أحمد حسين خطابا ضمنه مطالب مصر – التي ذكرناها من قبل- وأبرق بها إلى الحكومة البريطانية.

كما حدثت مراسلات بين فتحي رضوان وبين مستر فنربركواى سكرتير حزب العمال المستقل الذي أوضح لفتحي رضوان أن مستقبل العلاقات بين مصر وانجلترا ربما حقق تقدما ملحوظا عندما يتولى حزب العمال الحكم في انجلترا .

كم ألقى أحمد حسين خطابا في مؤتمر الطلبة الاشتراكيين البريطانيين بجامعة " كرديف" أصدر المؤتمر في نهايته قرارات منها أن المؤتمر يؤكد تأييده المطلق لكفاح الطلاب المصريين من أجل الدستور وحقهم في الاستقلال والانضمام إلى عصبة الأمم، وأنه يبدى استنكاره الشديد للأساليب التي يتبعها بعض الإنجليز بمصر فى قمع المظاهرات ، وأن حزب العمال يؤيد بكل قوة كفاح المصريين. وقد وافق المجتمعون على هذه القرارات بالإجماع.

ومهما يكن النشاط الذي قام به وفد مصر الفتاة في لندن، فقد حقق بعض النجاح إلى حد كبير في الدعاية للقضية الوطنية وشرحها أمام بعض قطاعات الرأي العام البريطاني، ولكن أحمد حسين رأى أن ينقل نشاطه في الدعاية للقضية المصرية إلى المحافل الدولية، فيسافر من لندن إلى جنيف- ويعود فتحي رضوان إلى مصر

حيث يقوم هناك بنشاط كبير، فيتقدم في 30 يناير 1936 بمذكرة طويلة إلى السكرتير العام للعصبة وفى مناسبة انعقاد مجلسها للنظر في المشكلة الايطالية الحبشية. وقد اعد الدكتور وحيد رأفت له هذه المذكرة قبل سفره إلى أوربا، وقام بترجمتها إلى اللغة الفرنسية زكى على الذي كان مقيما بجنيف في ذلك الوقت، كما اتصل هناك بعلي الغاياتى صاحب جريدة منبر الشرق والذي عرفه بكثير من المصريين المقيمين هناك.

استهل أحمد حسين خطابه إلى سكرتير عام العصبة بقوله" لي لشرف أن أوجه لك رفق هذا مذكرة عن المسألة المصرية باسم جماعة مصر الفتاة بالقاهرة والتي تمثل الشبيبة المصرية التي بذل الكثير منها دماءهم فداء لوطنهم وسقطوا ضحية القمع البريطاني، وتتمنى كل الأمة المصرية أن تصبح في التو عضوا في عصبة الأمم، وأن تدعى عن طريقها لشغل مكانها الذي يخوله لها حقها".

وعلى العموم فإن الهدف من الرحلة قد حقق نجاحا في نشر الدعاية للقضية المصرية في أوربا، ويذكر أحد المؤرخين أن الرحلة كان لها هدف آخر وهو تأسيس لجان دائمة للطلبة المصريين للدعاية للقضية المصرية في أوربا، ولكن الرحلة لم تنجح في تحقيق هذا الهدف.

فإن واقع الأحداث لم يهيئ لها ذلك، هذا فضلا عن أن لجنة الطلبة المصريين في باريس أعلنت أنه ليس لها علاقة بوفد مصر الفتاة، وإنما هي تقوم بالدعاية للقضية المصرية تحت راية الوفد المصري، وفى جنيف أعلنت لجنة الطلبة المصريين أنه ليس لها أي اتصال بوفد مصر الفتاة أيضا.

وهكذا فقد قوبل وفد مصر الفتاة إلى أوربا بالإعراض التام عن التعامل معه من معظم الطلبة المصريين في أوربا. وعلى الرغم من ذلك فإن الرحلة لم تكن عديمة القيمة لمصر الفتاة ولكنها هيأت لها فرصة الشهرة الواسعة عن طريق الصحافة المصرية وغيرها، ونبهت الرأي العام الخارجي لأول مرة إلى الجمعية وخاصة من خلال نشاط وفدها في لندن. 

أما فتحي رضوان وهو أحد قطبي الرحلة فيذك الآن أن الهدف من الرحلة أن أحمد حسين كان يرى أن مصر الفتاة في حاجة إلى دعاية لنفسها في الداخل وأن رحلة لنا مصر الفتاة- في الخارج قد تظهرنا في ثوب الدعاة للقضية المصرية، وإننا نفعل ما لا تفعله الأحزاب الأخرى، ونسقط على أنفسنا ثوب مصطفى كامل . ولعل ما ذكره فتحي رضوان هو حقيقة الهدف من الرحلة.

عقدت جمعية مصر الفتاة عدة اجتماعات كبيرة في القاهرة بعد عودة وفدها، فعقد فتحي رضوان اجتماعا في 5 فبراير 1936 ، قرر فيه أن على مصر ألا تدخل في صدام مع انجلترا الآن ما لم تكن قادرة على تكوين جيش قوى يتولى مهمة الدفاع عنها، كما طالب بنشر الروح العسكرية بين المواطنين لإكراه بريطانيا على تحقيق أماني المصريين القومية، كما ردد أحمد حسين في الاجتماعات التحى عقدها بعد عودته نغمة العداء لبريطانيا، مؤكدا أن القوة هي الطريق الوحيد لتحقيق الاستقلال لمصر.

وإزاء هذا الموقف من جانبه طالبه على ماهر رئيس الوزراء في ذلك الوقت بأن يمسك عن الدعاية ضد انجلترا حتى لا تؤثر على المفاوضات المقبلة مع بريطانيا فوافق على طلبه ولكنه لم يلتزم بذلك تماما، فأعلن في حالة فشل المفاوضات فإن جمعية مصر الفتاة يجب أن تكون نواة لجيش يحارب الإنجليز وأن يكون ذوو القمصان الخضراء طليعة هذا الجيش.

وعندما صدرت التعليمات للصحف المصرية على مختلف اتجاهاتها بأن تمتنع عن نشر ما يعكر المفاوضات الجارية، لم تلتزم صحافة مصر الفتاة بهذه التعليمات واعتبرتها مؤامرة لكم أفواه الصحافة واشتد أحمد حسين في مهاجمة الإنجليز.

وقد أثار هذا الهجوم قلق دار المندوب السامي البريطاني، وبتعليمات من المندوب السامي اتصل" مستر سمارت" بعلي ماهر وأكد له أن المندوب السامي البريطاني يتابع باهتمام نشاط أحمد حسين، وأنه على علم بتأييده لهذا النشاط وحمايته، وأنه يحمله مسئولية هذا النشاط الثوري المتزايد.

ولكن على ماهر أنكر علمه بهذا النشاط في ذلك الوقت وأنه سيبحث الموضوع . كذلك فإنه عندما أعلن أحمد حسين عن قيامه برحلة إلى الصعيد في 28 مايو 1936 والمفاوضات لا تزال جارية فقد اعتبرت السلطات الإنجليزية في مصر أن الهدف من هذه الرحلة هو العمل على نشر دعاية ثورية مضادة لبريطانيا بين الفلاحين، هذا فضلا عن أن هذه السلطات قد أعربت أيضا عن اهتمام السلطات الايطالية في مصر بهذه الرحلة مما أثار شكوكها ومخاوفها.

ولكن حقيقة الأوضاع التي سادت أثناء قيام الرحلة تنفى هذه الشكوك من جانب السلطات البريطانية ، فقد سبق أن ذكرنا أن أحمد حسين كان على اتصال بكين بويد الذي أزال مخاوف أحمد حسين من اعتداء الوفديين عليه، فلو أن بريطانيا كانت تخشى نتائج الرحلة لوضعت العراقيل في وجهها ولكن ذلك يبدو ناتجا عن الحساسية الشديدة الناتجة عن ميول مصر الفتاة نحو الايطاليين.

كان ذلك هو الجو السائد في العلاقات بين مصر الفتاة وبين ممثلي انجلترا في مصر ، وموقف كل منهما من الآخر في الفترة السابقة لعقد معاهدة سنة 1936 التي عجل الوضع الدولي في منطقة البحر المتوسط بعقدها.

ولقد قاد المعارضة للمعاهدة الحزب الوطني ومصر الفتاة وبعض المستقلين من أمثال محمد على علوبة وبهي الدين بركات، ولقد تكون منهم جميعا نوع من الائتلاف كما ترددت بعض الشائعات في نهاية عام 1936، تردد أن علوبة والحزب الوطني ومصر الفتاة سيؤلفون حزبا جديدا بعد أن يندمجوا معا، وعلى الرغم من أن هذا الاتحاد المزعوم لم يظهر إلى الوجود إلا أنهم تعاونوا معا وبنشاط جم في نقد المعاهدة.

وسارت مصر الفتاة في ركب المعارضة تندد بالمعاهدة وتصفها بأنها معاهدة" الخزي والاحتلال" فيوجه أحمد حسين نداء إلى ذوى القمصان الخضراء بأن عليهم تمزيق المعاهدة وتخليص البلاد من ربقتها.

وفى هذا الشأن كتب العقاد سلسلة مقالات نقد فيها المعاهدة في جريدتها فقال في أحدها " إن الوصول إلى معاهدة خير من هذه المعاهدة في الوقت الحاضر قد كان فى الإمكان لولا ما أنسه الإنجليز من جانب المفاوضين المصريين من الجهل بالأحوال الدولية"

وفى حقيقة الأمر فإن معاهدة 1936 وإن كانت قد حددت وضع مصر بإزاء انجلترا ، واستردت بموجبها جزءا كبيرا من حريتها الداخلية والخارجية فقد نصت على إنهاء الاحتلال، وكان أمل المفاوض المصري أن المعاهدة تكف يد الإنجليز عن التدخل في الشئون المصرية ولكن ذلك لم يحدث.

لم تتخل مصر الفتاة في التنديد بالمعاهدة، فعندما سافر أحمد حسين إلى أوربا عام 1938 سعى سعيا حثيثا للمطالبة بتعديل المعاهدة موضحا صعوبة تنفيذها وخاصة فيما يختص بالثكنات العسكرية والبعثة العسكرية والطرق الحربية.

وتتمة لموقف أحمد حسين من المعاهدة فقد تقدم بنداء إلى الحكومة والشعب البريطاني طالب فيه بعدم بناء الثكنات للجيش البريطاني في منطقة القناة من مال مصري، والحصول على تعديل في المعاهدة في مدة خمسة أعوام مع الاحتفاظ بالمحالفة بين البلدين.

وعندما استطاع محمد محمود تعديل المعاهدة فيما يختص بنفقات بناء الثكنات العسكرية هنأته مصر الفتاة على ما وصل إليه من نجاح، وإن كانت قد أعلنت أنها تطالب بتمزيق الكثير من قيودها. وقد ظل ذلك هو موقف مصر الفتاة من المعاهدة فطالبت بتعديل في موادها حتى يتاح للطرفين تعاون حر من كل القيود.

وفى عام 1937 تدخل العلاقات بين مصر الفتاة والإنجليز مرحلة جديدة، فتصرح مصر الفتاة بموقفها وتتشدد فيه، فعندما عيد القصر على ماهر رئيسا للديوان الملكي دون علم وزارة الوفد، اتصل النحاس ومكرم عبيد بدار السفارة البريطانية وطالبا بتدخلهما لمنع هذا التعيين أو إرجائه لفترة، وقد سعى مستر" كيلى" القائم بأعمال السفارة لهذا فاتصل بالسراي واتصل يعلى ماهر وقد اعتبر أحمد حسين هذا تدخلا من جانب الإنجليز في شئون مصر الداخلية واعتداء على إرادة الجالس على عرش البلاد؛

وأرجع كل هذا إلى المعاهدة المشئومة، وقد احتج على هذا التصرف من جانب" مستر كيلى" فأرسل إليه برقية نشرت في حينها" إن ما قمتم به من سعى في مسألة رئاسة الديوان هو اعتداء على استقلال مصر ومبادئها احتج عليه بكل شدة باسم شباب مصر بأسرها بل باسم المصريين كافة، وسوف ترون أن انجلترا تخسر كثيرا من جراء هذه التصرفات والمجد لمصر".

وفى شهر مايو عام 1938 يوجه أحمد حسين خطابا إلى " مايلز لامبسون" يطالبه فيه بمنحه تسهيلات لزيارة انجلترا كصحفي على نفقته الخاصة، على أن يتاح له لقاء رئيس وزراء ووزير خارجية انجلترا.

فيقابل السفير طلبه بشيء من عدم الاهتمام ويكتب لوزارة خارجية بلاده يسترشد برأيها في هذا الشأن ، فأفادت بأنه ليس لديها مانع من منحه التسهيلات كصحفي على أن يهمل طلبه فيما يختص بلقاء رئيس الوزراء ووزير الخارجية كما حدث ذلك من قبل عندما طلب لقاء وزير الخارجية أثناء زيارته السابقة للندن.

سافر أحمد حسين إلى أوربا في صيف عام 1938 مبتدئا بانجلترا ، وهناك وجه نشاطه للاتصال بدور الصحف حيث شرح في كتاباته لها الأعباء التي فرضتها المعاهدة على مصر فيما يختص ببناء الثكنات العسكرية.

وطالب بإنفاق المال المخصص لبنائها في تسليح الجيش وزيادة عدده ليحل محل الجيش البريطاني في الدفاع عن مصر عامة وعن قناة السويس خاصة.

هذا فضلا عن بعض اللقاءات التي عقدها مع بعض النواب البريطانيين ، فالتقى مع السير مردوخ مكدونالد النائب البريطاني، كما عقد اجتماعا لأفراد الجالية المصرية بلندن، وكان نشاطه يدور حول التخلي عن مسألة بناء الثكنات والدعوة لتقوية الجيش المصري.

ومن الواضح أن أحمد حسين أعجب بانجلترا وبشعبها من خلال تلك الزيارة، فجعله ذلك أقل عداء لها وتخلى بعض الشيء عن عدائه السافر.

وسجل إعجابه هذا حين كتب لسير مايلز لامبسون فأشاد بالتحالف القائم بين مصر وبريطانيا فهو " أمر طبيعي" وإن كان هذا الإعجاب لم يمنع أحمد حسين من مطالبة انجلترا بالجلاء عن مصر بعد أن يتيسر لها جيش قوى يستطيع الدفاع عن قناة السويس وعن سلامة المواصلات الإمبراطورية معلنا أن تلك هي رغبة الطرفين.

رد سمارت- السكرتير الشرقي- باسم السفارة على أحمد حسين مشيرا إلى وصول رسالته ويبدو أن أحمد حسين أتخذ من ذلك ذريعة لمواصلة الكتابة إلى السفارة مشيدا بمستر سمارت بوصفه أحد الشخصيات العظيمة ، آملا في أن تقوم بينهما علاقات صداقة وثيقة. 

وكان أحمد حسين يدرك خطورة الموقف الدولي فأوضح في رسالته للسكرتير الشرقي رأيه في أن مصر لن تدخل الحرب إذا لم تهاجم، ونصح انجلترا بأن تعلن عزمها على الجلاء عن مصر ورد حقوقها في السودان غليها.

وبذلك حدد أحمد حسين موقفه من دخول مصر الحرب في المستقبل ووضع لذلك شروطا، منها أن تعلن انجلترا عزمها على تحقيق أماني المصريين بالجلاء عن بلادهم وإعادة السودان في حالة انتصارها، ولعل هذا الموقف المسبق من أحمد حسين سيكون هو موقفه عند اندلاع الحرب بالفعل.

ولكن انفراج الأزمة الأوربية وتسويتها مؤقتا جعل أحمد حسين ينسى موقفه من الإنجليز فيدعو في أواخر عام 1938 إلى إحداث الانقلاب في نظام الحكم في مصر باستخدام القوة فينشى مقالا بعنوان" لابد من انقلاب ، لابد من قوة" لابد من قوة لنخرج الإنجليز من مصر لنسترد ثروتنا وحقوقنا من الأجانب.

ولعل هذا الموقف المتغير لأحمد حسين يدل دلالة واضحة على ارتباكه وعدم استقراره على سياسة معينة، متأثرا بتطورات الموقف الداخلي في مصر، وموقف الحكومات المتعاقبة منه ومن جماعته.

وعندما يتأزم الموقف الدولي من جديد وينذر بقرب وقوع الحرب، أخذ أحمد حسين يدعو إلى الوحدة الوطنية في مواجهة الأخطار التي ربما تعرضت لها البلاد. كما دعت مصر الفتاة إلى الاستعداد لمواجهة تلك الأخطار، فطالبت بجعل التجنيد إجباريا ، وتقوية سلاح الطيران، وتحصين الحدود، وإنشاء مصانع للأسلحة والذخيرة، وإن على أبناء مصر أن يدافعوا عن بلادهم.

ولكن عندما اشتدت الأزمة وتأكد بأن الحرب وشيكة الوقوع، أكدت مصر الفتاة موقفها السابق، عبر مصطفى الوكيل عن ذلك من منطلق ديني بقوله" إن موقف انجلترا وفرنسا بالنسبة لفلسطين وباقي الدول الإسلامية يجعلنا لا نقف إلى جوارهم في الحرب المقبلة".

ولكن أحمد حسين يتراجع عن هذا الذي أعلنه من قبل، وقد تحول إلى المناداة بدخول الحرب إلى جانب انجلترا . وفى هذا الشأن كتب سلسلة مقالات برر خلالها أهمية دخول مصر الحرب إلى جانب انجلترا وكيف أن هذه الحرب هي الفرصة الوحيدة لمصر كي تحقق أمانيها ولأن النصر سيكون حليفها هي وانجلترا بقوله" فإن ألماني وإيطاليا لا يمكن إلا أن ينهزما في نهاية الحرب لأن التاريخ يحتم هذه الهزيمة"

وتأكيدا لهذا الموقف المتغير من دخول الحرب يصدر مجلس إدارة حزب مصر الفتاة عدة قرارات منها" يعلن الحزب بصورة قاطعة أنه في حالة قيام حرب فعلى مصر أن تضطلع بأكبر عبء من الدفاع عن حدودها ضد الاعتداء الخارجي، وأن تقف إلى جوار انجلترا حتى يتحقق النصر النهائي ليكون ذلك أساسا لبناء مصر المجيد وتحرير الدول العربية". .

وعندما تندلع الحرب بالفعل يتراجع أحمد حسين عن موقفه السابق ويحاول تبريره بقوله" يظهر أن البعض قد أساء فهم موقف الحزب في حالة إذا ما قامت الحرب، فقد ظن البعض أننا ندعو لوقوف مصر إلى جانب انجلترا في جميع ميادين القتال بغير أن تكون لمصر مصلحة في هذا الموقف وقبل أن تحصل على ما سبق الحزب أن قرره من مقابل لهذه الحرب، وهو استرداد السودان واستكمال استقلال البلاد وحل قضية فلسطين حلا عادلا وسريعا بما يحقق مطالب العرب".

وعلى الرغم من موقف أحمد حسين المتقلب من دخول الحرب إلى جانب انجلترا ، فإن السلطات البريطانية في مصر تدرك تماما أنه يوجه نشاطا معاديا لها فيذكر أحد التقارير أن مصر الفتاة تتعادون مع أنشطة شبه فاشية مثل الجيش المرابط وتعمل على إغراء شباب البلاد بالانضمام إليه وإلى نادي الرماية الملكي ونادي الصيد واتحادات الطلاب للتدريب على الأعمال العسكرية.

وتتهم السلطات البريطانية على ماهر بتبني هذه الاتجاهات المعادية لهم وخاصة وأن الثلاثي عبد الرحمن عزام وعزيز المصري وصالح حرب من أشد المعادين لهم وهم يد على ماهر في تنفيذ سياسته.

وقد اشتد الإنجليز في موقفهم من هذا الثلاثي فضغطوا على على ماهر بإبعاد عزيز المصري عن منصب رئيس أركان الجيش المصري، فمنحه على ماهر إجازة ثلاثة أشهر ونصف.

وقد أغضب ذلك مصر الفتاة بدرجة كبيرة ، فعقد مجلس إدارتها اجتماعا أصدر فيه عدة قرارات منها" يرى المجلس أن هناك تدخلا في الشئون المصرية وهذا مخل بالتحالف، ضرورة عودة عزيز باشا المصري إلى الجيش، كما يرى أن السفير أصبح له شخصية خاصة تخرج عن السفير والتزاماته ولذلك فالمجلس يطالب بسحب السفير لأنه يسيء إلى علاقة مصر بانجلترا " وقد أسفرت مصر الفتاة عن وجهها في ذلك الوقت فأبلغت تلك القرارات إلى السفير البريطاني .

كما ردد بعض أعضائها هتافات في مطار القاهرة في مناسبة عودة على ماهر من زيارة السودان بضرورة سحب السفير من مصر، وقد أغضبه ذلك إلى أبعد الحدود واعتقد أن ذلك بتوجيه من على ماهر فشكا إلى الملك فاروق.

وعندما تقدم حزب الوفد بمذكرته الشهيرة التي ضمنها المطالب الوطنية في أول أبريل 1940، أعلنت مصر الفتاة تأييدها لما جاء بها، واشتد طلبتها في الجامعة في موقفهم من انجلترا وهتفوا بسقوطها وسقوط المعاهدة المصرية الإنجليزية.

وفى ذلك الوقت ظهر إلى الوجود شبه تحالف بين مصر الفتاة والوفد لتأييد الوفد في مذكرته، واتصل أحمد حسين بكل من النحاس ومكرم عبيد مهنئا، ويرى أحمد حسين أن على الوزارة والأحزاب أن يتحدوا في مواجهة الإنجليز وفى مظاهرة الوفد وتأييده من كل الجهات الشعبية والحكومية. حتى أنه تردد أنمصر الفتاة انضمت إلى حزب الوفد في ذلك الوقت. ولكن حقيقة الأمر أن هذا الانضمام لم يحدث وإنما كان مظاهرة من مصر الفتاة للوفد في مطالبه التي هي مطالب الأمة جميعها والتي عبر عنها الوفد.

ولما اشتدت المخاطر التي تتعرض لها البلاد عند اقتراب الحرب من أراضيها، توجه أحمد حسين بنداء إلى الأحزاب لنبذ الخلافات القائمة بينهم والوقوف واحدا في مواجهة الخطر المشترك. كما بذل جهودا في هذا السبيل للتوفيق بين زعماء الأحزاب كما يذكر هو لتكوين الجبهة الوطنية.

إلا أن الموقف الأكثر تشددا الذي وقفته مصر الفتاة كان عندما طالبت السلطات البريطانية الحكومة المصرية بإعلان الحرب على ألمانيا وإيطاليا وذلك بعد أن أعلنت إيطاليا دخولها الحرب في 10 يونيه 1940 إلى جانب ألمانيا.

أعلن على ماهر أمام مجلس النواب والشيوخ في جلسة سرية في 12 يونيه موقف حكومته من دخول إيطاليا الحرب، وفى ذلك الوقت اشتدت السلطات البريطانية في موقفها من على ماهر وأعربت للملك عن تعذر تعاونها معه.

وقد ظاهرت مصر الفتاة على ماهر في موقفه فأعربت عن تأييدها المطلق لخطواته كما أرسلت برقية إلى الملك بهذا المعنى. كما أرسلت وفدا برئاسة مصطفى الوكيل إلى القصر فقدم عريضة تأييد للوزارة في موقفها.

كان موقف الإنجليز المتشدد من على ماهر دافعا لمصر الفتاة كى تعد للقيام بثورة ضدهم، فبدأت بنشر دعاية ثورية وتهيئة الشعب للثورة ضد الإنجليز. وقد ركزت على نشر تلك الدعاية بين أعضائها على أن يقوموا هم بنشرها في بلدانهم .

وقد أوضح أحمد حسين هذه الفكرة بقوله" كان الحزب في حالة تنظيم حركة ضد الإنجليز، ومؤدى هذه الحركة أن نختار بعض القرى التي تحيط بالمركز (مركز البوليس) وفى كل قرية منها عدد من الشبان يهجم على بيت العمدة ويستولى على (السلاحليك) ويزحفوا على المركز ويسحبوا سلاح المركز وتتكرر هذه العملية في المحافظات في الوجه البحري أما في الصعيد فتقطع السكك الحديدية كما تطبع منشورات بعنوان من قيادة الثورة إلى الجماهير ولكن هذه المحاولة للقيام بالثورة وفى فترة الإعداد والتخطيط لها انكشف أمرها، فقد استطاع البوليس المصري أن يحصل على بعض المنشورات التي أعدتها مصر الفتاة للدعوة إليها.

أعدت مصر الفتاة المنشورات التي تدعو الجماهير للثورة فكان منها منشورات بعنوان" منشور القيادة رقم 1 إعلان الجهاد ضد الإنجليز" دعت فيه إلى الجهاد ضد الإنجليز وأشياعهم من الخونة المارقين والضعفاء المأجورين، وقد وقع هذا المنشور بتوقيع القيادة الرباعية للثورة المصرية الإسلامية.

وإلى جانب إعادة المنشورات فقد استطاعت مصر الفتاة أن تجمع بعض الأسلحة " والديناميت" استعدادا لتنفيذ فكرتها في إعلان الثورة على الإنجليز ووضعتها في مخابئ لهذا الغرض.

وفى نفس الوقت الذي كانت فيه مصر الفتاة تمهد للقيام بثورة ضد الإنجليز، حاول هؤلاء الاتصال بأحمد حسين وضمه إلى صفوفهم وخاصة بعد أن أعلن على ماهر إصرار حكومته على رفض إعلان الحرب ضد ألمانيا وإيطالي.

فاتصل المسئولون الإنجليز في مصر بعبد القادر مختار صديق أحمد حسين وطلبوا إليه أن يمهد لهم الاتصال به، فعرض ذلك على أحمد حسين الذي وافق أن يلتقي مع " شيرر" أحد رجال المخابرات البريطانية البارزين في ذلك الوقت، فأعد تقريرا عن تلك المقابلة رفعه إلى المسئولين الإنجليز اقترح فيه ضرورة التعاون مع أحمد حسين؛

فأرسلوا إليه خمسة ضباط، وكما يذكر أحمد حسين أنه استطاع إقناعهم بأنهم لابد وأن يغيروا من سياستهم بالنسبة لمصر، وأن يعملوا على تأليف وزارة منكل الأشخاص الذين يحاربونهم وهم على ماهر، عزيز المصري، صالح حرب وعبد الرحمن عزام فكتب هؤلاء الضباط تقريرا إلى مايلز لامبسون ضمنوه مقترحات أحمد حسين ولكنه رفض الأخذ بها.

أما تقارير البوليس فتعترف بالاتصالات بين أحمد حسين والسفارة البريطانية فتشير أحداها إلى أ،ه فضلا عن مطالبته انجلترا بجلاء جنودها بعد الحرب فإنه طلب مبلغ 25,000 جنيه ومرتب للجريدة. ولكن أحمد حسين ذكر لأعضاء حزبه أن الإنجليز هم الذين حاولوا شراءه فعرضوا عليه أن يقدموا له المال اللازم لإنعاش جريدته وصدورها بانتظام ويعيدون فتح مطبعة الحزب ويجعلون له مركزا ممتازا.

وعندما ترددت الشائعات عن قرب هجوم الايطاليين على مصر بجيوشهم الموجودة في ليبيا، نبه أحمد حسين إلى هذا الخطر وطالب بأن تظل مصر على موقفها من الحرب.

ومن ثم توجه بخطاب إلى حسين صبري رئيس الوزراء في ذلك الوقت، طالبه فيه بالاحتجاج على الحكومة الايطالية لانتهاكها حرمة الأراضي المصرية، كما طالبه بضرورة استعداد مصر لصد هذا الهجوم وللدفاع عن نفسها رغم موقفها في الامتناع عن دخول الحرب.

وفى نفس الوقت الذي نادي فيه على ماهر بضرورة تجنيب مصر ويلات الحرب وأيده في موقفه معظم الهيئات السياسية المختلفة ومنها مصر الفتاة، ورغم ذلك فقد خرج السعديون بدعوة جديدة تطالب بدخول مصر الحرب إلى جوار انجلترا ، وقد أثارت تلك الدعوة عواطف الأمة جميعا، فأرسل أحمد حسين خطابا إلى الدكتور أحمد ماهر رئيس الهيئة السعدية يطالبه بالسماح له بمقابلته ليناقشه آراءه التي يدعو إليها، كما أرسل خطابا آخر إلى أحمد حسين باشا رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت طلب إليه فيه السماح له بعقد اجتماع يرد فيه على دعوة أحمد ماهر ولكن الطلبين أخملا. ولعل ذلك يوضح موقف أحمد حسين المتشدد في مناهضة تلك الدعوة.

وعلى الرغم مما أبدته مصر الفتاة من حماسة لمهاجمة الدعوة لدخول مصر الحرب، إلا أنها تحاول التقارب من الإنجليز مرة أخرى علها تستطيع أن تجد مخرجا من الأوضاع التي تمر بها والتي تشبه الجمود إلى حد كبير. وفى هذا الشأن يقوم أحمد حسين باتصالات بوزير اليونان المفوض لينقل إليه موقفه وموقف مصر الفتاة من الإنجليز،ويدعوه لزيارة دار الحزب فيلبى الدعوة؛

ولعله من المرجح أن تكون هذه الزيارة محاولة من جانب أحمد حسين كي يسمع هذا الوزير موقف مصر الفتاة من الإنجليز في ذلك الوقت ويشير أحد التقارير أن تلك الزيارة تعتبر بدء تحول في خطة الحزب نح بريطانيا ، وأن أحمد حسين يتقرب منها فيظهر أن شعور الحزب في صفها، فينقل الوزير بدوره هذا الشعور إلى السفارة البريطانية- باعتباره وزير دولة حليفة لهم- وبهذا لا يجد الإنجليز مانعها من التعاون مع مصر الفتاة. ولكنه يبدو أن تلك المحاولة من جانب أحمد حسين لم تكلل بالنجاح وإن لم يقطع علاقته ببعض المسئولين الإنجليز كما سنرى فيما بعد.

وعندما لم تثمر محاولة أحمد حسين في التقارب من انجلترا ثمرتها المرجوة ، نجده يعود إلى أسلوبه القديم في الهجوم عليها مجددا حماسته وحماسة مصر الفتاة في الدعوة لتجنيب مصر ويلات الحرب، وقد تمثل ذلك في منشور أعدته مصر الفتاة بعنوان" شباب الجامعة واستقلال البلاد" طالب المنشور بإقالة وزارة حسين سرى على أن يتولى حكم البلاد بعض العناصر القوية التي تستطيع مقاومة المطامع الإنجليزية، والتي تستطيع أيضا أن تعلن حياد مصر في الحرب.

وقد عمل أحمد حسين على توزيع هذا المنشور على طلبة الجامعة، فعهد إلى إبراهيم الزيادى عضو الحزب والطالب بكلية الحقوق توزيعه عليهم كما كانت اجتماعات مصر الفتاة تعبيرا عن هذا الاتجاه الجديد في الهجوم مرة أخرى على سياسة انجلترا في مصر.

فقد هاجم محمد صبيح تصرفات الإنجليز وتدخلهم فئ شئون مصر الداخلية وخاصة فيما يتعلق بما طلبه السفير البريطاني " سير مايلز لامبسون" من وزارة حسين سرى باعتقال بعض الشخصيات المصرية الهامة؛

وكذلك طلبه منها بأن يبتعد على ماهر عن القاهرة، كما هاجم صبيح تعليمات الوزارة التي تقضى بالقضاء على جنود المظلات الألمان الذين يعثر عليهم أحياء؛

قائلا" فكيف تسمح حكومتنا بأن تشترك فئ عمل لا نتيجة له وليس من مصلحتنا خصوصا ونحن غير مشتركين في الحرب" ولعل محمد صبيح في هذا الرأي الأخير يعبر عن سياسة مصر الفتاة الموالية للمحور وخاصة في فترة كانت فيه انتصاراته على الحلفاء ظاهرة للعيان.

كان الإنجليز على الرغم من محاولاتهم إقامة علاقات مع أحمد حسين ومصر الفتاة، أو سعيه هو لإقامة العلاقات- متشككين تماما في موقفه منهم ولم يحيدوا عن فكرتهم في أنه من العناصر المناوئة لهم وللأجانب عامة فكانوا يراقبون نشاطه ونشاط حزبه باهتمام بالغ، وكان من رأيهم منذ بداية الحرب أن يعتقل أحمد حسين وبعض أعضاء حزبه، وقد أبلغت السلطات البريطانية رغبتها هذه إلى على ماهر وحسن صبري وحسين سرى رؤساء الوزارات التي تولت الحكم في تلك الفترة، إلا أن هؤلاء لم يجدوا ما يبرر اعتقال جماعة مخلصة للقصر الذين هم ووزارتهم تعبيرا عن اتجاهه فأهملوا الاستجابة لرغبة الإنجليز كما يذكر أحمد حسين .

فلما كانت حركة رشيد عالي الكيلانى ضد الإنجليز في العراق وموقف مصر الفتاة المؤيد لها كان من المتوقع بل ومن المؤكد أن تشتد السلطات الإنجليزية في المطالبة باعتقال أحمد حسين ورجال حزبه بعد أن أسفر عن وجهه وجاهر بدعوته في ضرورة الثورة على الإنجليز كما فعل العراق؛

وبعد أن تأكد لديهم أن محاولات التقارب التي بذلها أحمد حسين من قبل لم تكن سوى محاولات زائفة يقصد من ورائها مكاسب معينة. فأصدر حسين سرى أوامره باعتقاله وأعضاء حزبه، وإن كان خبر أمر ذلك الاعتقال قد وصل إلى علم أحمد حسين قبل صدوره. فقرر ألا يمكن السلطة منه فهرب.

وإلى جانب ذلك فقد اتخذت عدة إجراءات منها، إلغاء جريدة " مصر الفتاة" والقبض على كل من يمت إلى الحزب بصلة، وإزاء ذلك الموقف قرر عزام أحمد حسين ألا يخضع من للأمر الصادر باعتقاله وألا يمكن قوات البوليس التى اشتدت فى البحث عنه من القبض عليه.

كما قام بعض أعضاء الحزب بترويج شائعات عن هروبه إلى سوريا إمعانا فى تضليل البوليس. أما أحمد حسين فكان يرى فى الهرب فرصة يظل بعيدا عن الاعتقال حتى يتضح الموقف الدولي فربما كان فى صالحه. وكان رد الفعل لتلك الإجراءات أن اشتد بعض أعضاء مصر الفتاة فى الهجوم على الإنجليز فأصدروا لذلك عدة منشورات تفضح أساليبهم منه" النشرة القومية، خطة الإنجليز وإنذارنا للخائنين" وهى عبارة عن تهديد لمن يساعد الإنجليز من المصريين فى تنفيذ خطتهم فى اعتقال أحمد حسين وغيره .

هذا وقد عاد أعضاء مصر الفتاة الباقون خارج المعتقلات إلى محاولة بث دعاية ثورية ضد الإنجليز فيلصقون منشورات صغيرة على أعمدة الترام بمدينة القاهرة نصها" الله. الوطن . الملك. أحمد حسين زعيم الثورة" وقد استمرت هذه الحملة فى نشر الدعاية ضد الإنجليز.

قابلت السلطات العسكرية هذا النشاط من جانب مصر الفتاة بالحزم والشدة فقد اعتقلت الكثير من أعضاء الحزب، وفصلت بعض الموظفين منهم، كما فتش البوليس بضع مئات من بيوت أعضائه وبيوت أقاربهم فى جميع أنحاء البلاد بحجة البحث عن أحمد حسين، وإن كان ذلك استجابة لرغبة الإنجليز فى القضاء على كل من ينتمون لمصر الفتاة، وقد ظل أحمد حسين هاربا حتى تأكد لديه أن ميزان الحرب أصبح فى صف الحلفاء بعد الانتصارات التى أحرزوها على المحور، وهو ما كان يعلق عليه آمالا لو حدث العكس فقرر تسليم نفسه ولكن البوليس ضبطه متخفيا فى طنطا فى 23 يوليو 1941 قبل أن يسلم نفسه وأودع سجن الأجانب . ولكن أحمد حسين على الرغم من موقفه من السلطات الإنجليزية فى مصر لم يعدم المحاولة فى تجديد العلاقة بينه وبين الإنجليز وإن كان هذه المرة من داخل سجن الأجانب . وربما كان ذلك محاولة من جانبه أدرك أنها ربما ساعدته فى الخلاص من سجنه، فأرسل خطابا للجنرال كلايتون مدير المخابرات بالجيش البريطاني ولأهمية ذلك الخطاب ننشره بنصه.

" سجن الأجانب فى 7/12/1941

         بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزى الجنرال كلايتون

أحييك من كل قلبي- كنت قد بدأت أكتب لك قبل اعتقالي منذ خمسة شهور مظهرا ارتياحي إلى بعض الخطوات التى خطتها السياسة البريطانية كإعلانها استقلال سوريا وترحيبها بالوحدة العربية، حدث بعد ذلك أنني اعتقلت فتوقفت عن الكتابة خوفا من أن تفسر كتابتى بأنها نوع من المداهنة أو الرغبة فى أن يطلق سراحى ولذلك فقد آثرت الصمت طوال هذه المدة، وعندما بدأت الحملة الإنجليزية على ليبيا شعرت برغبة شديدة فى أن أكتب لك لأعرب لك عن تمنياتي الصادقة لنجاح هذه الحملة

ولكن نفس السبب القديم منعنى عن هذه المرة أيضا، على أنه جد أخيرا عاملان شجعانى على الكتابة من جديد، أما ألأول فهو أننى كتبت لوزارة الداخلية أعلنها برغبتى الصريحة فى ألا تطلق سراحى وأنني أفضل البقاء فى الاعتقال لعدة أسباب شخصية وعامة.

أما العامل الثاني فهو انقضاء مرحلة الأعمال الأولى فى ليبيا وتوقفها استعدادا لمعارك مقبلة وقد ملأ ذلك رأسي بأفكار وآراء حملتنى على أن أكتب لك أخيرا.

لقد كان رأيي الذي بسطته لك منذ مقابلتنا الأولى وظللت متمسكا به فى كل الظروف والأحوال أن مصلحة مصر الحاضرة والمستقبلة تقضى بضرورة تعاونها مع انجلترا فى هذه الحرب تعاونا على أوسع نطاق ممكن، بما فى ذلك التعاون العسكري الكامل؛

فإن وقوف مصر بعيدا عن هذا النزاع الذي يتصل بكياننا هو موقف شاذ، لا يتفق مع ما تريده هذه البلاد لنفسها من مستقبل مجيد كأمة حية تقود العرب وتتزعم الإسلام، ولك الحق أن اللوم فى ذلك يقع على عاتق الجانب البريطاني الذي رفض حتى الآن أن يطمئن مصر على هذا المستقبل ويرسم لها حدوده حتى تكون على بينة من أمرها بالنسبة لكل مشترك فى هذه الحرب؛

وهذا ما يجعل شخصا مثلى ولست إلا واحدا من عديدين نقف هذا الموقف السلبى مع أننا أكثر الناس استعدادا للعمل الشاق المتواصل دفاعا عن حرية بلادنا ومستقبلنا وقضيتنا التى هى نفس قضيتكم فى هذه الحرب.

ولكن يظهر أنه قدر علينا أن نلتزم هذا الجانب السلبى طويلا وهذا ما يجعلنى لا أملك ما أقوله الآن إلا أن أتمنى لكم التوفيق فى دحر أعدائكم الذين يتحولون إلى أعداء لنا إذا قدر لهم أن يغلبوكم على أمركم (لا قدر الله) وإني لأرجو لك صحة جيدة وتحياتى إلى جميع من تشرفنا بمعرفتهم من زملائنا الضباط" . أرجو التكرم بإشعاري بوصول الخطاب إليكم .

                                                        المخلص 
                                                      أحمد حسين
                                                    بسجن الأجانب 

ولعل هذا الخطاب يوضح مدى علاقة أحمد حسين بالشخصيات الإنجليزية المسئولة فى مصر ، والتي سبق أن عرضنا لبعضها، ولكن هذا الخطاب حسم موقف أحمد حسين من دخول الحرب، وإن كانت نغمة العداء للانجليز التى اتسم بها نشاط مصر الفتاة فى فترة الحرب تكاد لا نلمسها فى عبارات ذلك الخطاب. ولعله من المؤكد أن أحمد حسين على الرغم من انه صرح فى الخطاب بأنه خشى الكتابة إلى كلايتون حتى لا تفسر على أنها نوع من المداهنة أو الرغبة فى إطلاق سراحه ولكنه أراد أن يشير إلى رغبته فى الإفراج عنه من طرف خفي فهي محاولة من جانبه لتقديم خدماته للانجليز فى حالة الإفراج عنه وخاصة وأنه فى نهاية الخطاب يتمنى لهم دحر أعدائهم، إلا أن السلطات الإنجليزية لم تعر خطابه هذا اهتماما فظل فى الاعتقال حتى نهاية الحرب تقريبا.

وفى حقيقة ألأمر ، فإن مصر الفتاة منذ البداية وهى على علاقات سيئة تماما بالأجانب عامة وبالإنجليز خاصة، وقد تمثل ذلك فى نشاطها المعادى لهم طوال فترة الدراسة، إلا أن هذا الموقف من جانبها لم يجعل الإنجليز يسفرون عن رغبتهم فى القضاء عليها إلا فى الفترة التى كان يتعرض فيها وضع بريطانيا فى مصر للخطر فاشتدت فى معاملتها؛

أما فى الفترة السابقة على إعلان الحرب فقد كان موقف الإنجليز من مصر الفتاة ينم عن عدم الاكتراث لما تقوم به من نشاط معاد لها من استهانة بشأنها ولأن الإنجليز كانوا يعملون حقيقة وضعها وحجمها ودرجة تأثيرها فى المجتمع المصري.

وعلى الرغم من تأكدهم أيضا من أنها حركة موالية لإيطاليا وألمانيا فلم يتغير موقفهم منها إلا فى فترة الحرب كما رأينا. ولعل الإشارة إلى أن مصر الفتاة كانت موالية لإيطاليا وألمانيا، يدعونا إلى دراسة علاقاتها بهاتين الدولتين كقوى سياسية مؤثرة لتحديد الهدف الذي سعت من أجله مصر الفتاة فى إقامة علاقات معها، وربما كان مرتبطا بموقفها من المسألة الوطنية لتحقيق تقدم فيها بمساعدة تلك الدول.

كان موقف مصر الفتاة من الإنجليز والذي اتضح أنه كان يتسم بالعداء لانجلترا باعتبارها الدولة المحتلة للبلاد والتي أخرت تقدمها فى مختلف النواحي ، وعلى الرغم مما مرت به العلاقات بين مصر الفتاة والإنجليز من مراحل وما بذل من محاولات للتقارب؛

فإن مصر الفتاة لم تستطع أن تتخلى عن فكرتها القديمة المعادية للانجليز، ولعل ذلك كان دافعا لها لإقامة مع الدول الأوربية المعادية لانجلترا ، وخاصة إيطاليا وألمانيا وستقتصر معالجتنا لهذا الجانب على إظهار مدى الإعجاب الذي أبدته مصر الفتاة بهاتين الدولتين ، ومتابعة المراحل التى مر بها إلى الحد الذى جعلها ترى فى أنظمة تلك الدول مثالا يحتذى ويمكن تطبيقه فى مصر على يديها. ولنبدأ بعرض علاقة مصر الفتاة بإيطاليا منذ نشأتها وحتى نهاية فترة البحث.

يرجع إعجاب أحمد حسين بموسولينى إلى ما قبل تأسيس جمعية مصر الفتاة ففى عام 1929 وربما فيما قبلها كان إعجابه بمنجزات موسولينى فى إيطاليا وبشخصيته إعجابا لا حد له إلى الدرجة التى جعلته يطالب محمد محمود بأن يكون لمصر كموسولينى فى إيطاليا كما سبق أن ذكرنا

كما أن الإعجاب بإيطاليا كان نابعا مما قام به موسولينى من خطوات على طريق إعادة مجد روما، وهو ما كرس أحمد حسين نفسه له منذ إيمانه بمجد مصر ، وعندما أعلن قيام جمعية مصر الفتاة فى عام 1933 تحرق أحمد حسين شوقا للوقوف على مدى ما أحرزته إيطاليا من نجاح على يد موسولينى

وإن كانت مجريات الأمور لم تحقق له هذه الرغبة إلا فى العام التالي، وفى خلال ذلك العام دأبت جريدة مصر الفتاة" الصرخة" منذ نشأتها على .. التنديد بإيطاليا ومحاولاتها الاستعمارية ، ففى عددها الصادر فى 23 ديسمبر 1933 هاجمت فى عنف الدعوة التى وجهتها إيطاليا إلى الطلبة الشرقيين فى أوربا لعقد مؤتمر فى روما، وقد وصفتها مصر الفتاة فى هذا المقال بأنها هى الدولة التى لا يعرفها الشرق إلا طاغية جبارة فى طرابلس تقتل أبناءه وتستحل حرماته وتستعمر أرضه.

وعندما سنحت الفرصة لأحمد حسين عام 1934 لزيارة إيطاليا على ظهر الباخرة " النيل" وهى أولى سفن شركة مصر للملاحة التى أسسها بنك مصر وقد سافر أحمد حسين كصحفى ، كما وصف إيطاليا حيث أعلن أنها دولة متخلفة وأن النظام الفاشستى مرتبط بموسولينى فقال:

" وقد لمست روح الشعب الايطالي وتبين لى أن كل ما يقال عن إيطاليا اليوم ليس إلا ضجيجا من قبيل الدعاية الواسعة النطاق، وأن الشعب الايطالي متخلف وقدرته محدودة وأن النظام الفاشستى بأسره يتلخص فى موسولينى فإذا مات موسولينى مات هذا النظام معه"

وبعد عودته من إيطاليا شن هجوما عنيفا عليها حتى اضطرت السلطات الايطالية على طلب التحقيق مع أحمد حسين ومحاكمته بتهمة إهانة دولتهم. ولعل هذا الزيارة قد بددت أحلام أحمد حسين ، وقد ظل ذلك موقف مصر الفتاة من إيطاليا وهو ينم عن الجفاء والخصومة، فظل كذلك حتى الحرب الحبشية الايطالية والتي وقف فيها أحمد حسين وفتحي رضوان موقفهما الذي ذكرناه، حتى أن مجلة اللطائف المصورة علقت على ذلك الموقف بقولها

" نحن نريد أن نذهب فى حسن الظن بجمعية مصر الفتاة بل برئيسها وبزميله الى أبعد مدى، ولكن لا نستطيع مهما غالينا فى ذلك أن نبرىء جملتها المصطنعة من الرغبة فى الدعاية لإيطاليا وخدمة مآربها، فهل أفلح وزير إيطاليا المفوض الجديد حيث أخفق سلفه" .

وفى ظل نظام الحكم الفاشى حاولت إيطاليا نشر نفوذها فى منطقة الشرق الأدنى وأفريقيا وهى تتوق إلى ضم أراضى جديدة إليها، فأبدت اهتماما متزايدا بالبلاد العربية وخاصة مصر حيث توجد لها جالية كبيرة، وقد انتشرت بها دعاية مناهضة لانجلترا قامت بها" الوكالة المصرية الشرقية" وهى فرع تابع لوكالة الأنباء الايطالية .

ومن هذا المنطلق ومن نظرة إيطاليا حاولت ضم بعض القوى السياسية الداخلية فى مصر وفى غيرها لتمهد لها هذا السبيل بالدعاية الموالية لها.

وفى هذا المجال سعى " أنيس داود" المحرر بجريدة " كوكب الشرق" إلى لقاء مع أحمد حسين ، فبسط له فكرته فى أن تناصر جمعية مصر الفتاة إيطاليا فى موقفها ضد انجلترا ، فأبدى أحمد حسين موافقته.

ويشير تقرير من دار المندوب السامى إلى " صمويل هور" وزير الخارجية البريطانية أن أنيس داود اتصل بأحد أعضاء جمعية مصر الفتاة واعترف له بـأنه على علاقة بالمفوضية الايطالية ويعمل بوحى من توجيهاتها ، كما يشير التقرير إلى حد المصريين باسم يوسف عونى" وأنه يقوم بأعمال الجاسوسية والدعاية للمفوضية الايطالية وأنه حصل على مساعدات مالية من مكتب الدعاية الايطالي بجريدة" دوريانتى" مدعيا أنه عضو بجمعية مصر الفتاة .

وتشير تقارير أخرى إلى أن علاقة مصر الفتاة بأجهزة الدعاية الايطالية فى مصر قد توثقت إلى حد كبير، فتتقدم مصر الفتاة بالتماس إلى الملك تطلب فيه أن تقف مصر على الحياد فى النزاع الحبشى الايطالي ويظاهر موقفها محمد حسن الجوهري وهو شاب مصرى فيرسل برقية باسم سكان عابدين إلى كبير الأمناء فيها وجهة نظر مصر الفتاة ، وكانت تلك الحركة بتوجيه من " أوجو دادون " المسئول عن النشاط الدعائي لايطاليا فى مصر الذي منح الجوهري مبلغ خمسة جنيهات فى نظير قيامه بهذا العمل- كما يشير لتقرير إلى أن " دادون" دفع مبالغ ضخمة إلى جمعية مصر الفتاة ليمكنها من استعادة جريدة " الصرخة" لنشر وجهة نظرهم السابقة.

كذلك فقد تلقت مصر الفتاة مبالغ أخرى لإصدار " الصرخة" من جديد، ومبالغ عند سفر أحمد حسين لأوربا فى نهاية عام 1935 .

وعندما تولت وزارة الوفد الحكم فى عام 1936 فدمغ مصر الفتاة فى البرلمان بأنها تعمل لحساب دولة أجنبي، ولعل استناد النحاس باشا إلى تقارير وضعت فى عهد وزارته لا تقنعنا بأن هذا يكفى لإلقاء التهمة، خاصة وأن الوفد خصم سياسى لمصر الفتاة ، ولذلك فقد ساور الجميع الشك فى بيان النحاس باشا والشك دائما لمصلحة المتهم، وإن كان النحاس لم يفصح عن صحة هذه الاتصالات وبدايتها عندما ألح عليه بعض الأعضاء فى ذلك، فهو قد اتهم ولم يقدم الدليل.

ولا شك فى أن مصر الفتاة قد تلقت مساعدات مالية من إيطاليا- فهى متعطشة لجمع الأموال دائما- ولعل علاقتها بشكيب أرسلان ولقاء أحمد حسين به فى جنيف فى يناير 1936 دللا جديدا على تلقيها مبالغ من إيطاليا؛

خاصة إذا علمنا أن شكيب أرسلان على علاقة بموسولينى منذ عام 1922م حين سافر الوفد السوري إلى إيطاليا لإقناعهم بعد التصديق على الانتداب الفرنسى، فالتقى بموسولينى الذي أيد موقفهم فى جريدة " بوبولوديتاليا" وقد توطدت علاقة موسولينى بهم فيما بعد توليه الحكم؛

حتى أنه فى عام 1935 عرض على " إحسان الجابرى" القيام بثورة ضد بريطانيا فى فلسطين فوافقهن وتسلم منه مبلغ 16 ألف جنيه سلم منها 7 آلاف للمفتى الحاج أمين الحسينى وثلاثة آلاف لشكيب أرسلان، ومبالغ لغيرهما، وقد دفع موسولينى هذه المبالغ بقصد الدعاية لإيطاليا فى البلاد العربية. فإذا علمنا أن أحمد حسين التقى بشكيب أرسلان فى الفترة التالية لأخذه هذا المبلغ فمن المرجح أن يكون قد منح أحمد حسين مبالغ للقيام بهذا لغرض فى مصر.

وتشهد الأعوام التالية محاولات من جانب إيطاليا للتقارب من مصر الفتاة، ففى عام 1936 تعرض السلطات الايطالية فى مصر على أحمد حسين إرسال خمسة من أعضاء جمعيته يختارهم للسفر إلى جامعة " بيروجا" ليستكملوا دراستهم الجامعية على نفقة الحكومة الايطالية.

وهذه الجامعة مخصصة لاستقبال الطلبة الأجانب . وفى نفس الوقت كان هناك بعض أعضاء مصر الفتاة معجبين بإيطاليا ومنهم عبد الدايم أبو العطا الذي عكف على دراسة اللغة الايطالية، وقد التحق بالجامعة المذكورة حتى استطاع أن يحصل على درجة الدكتوراه منها فيما بعد.

وكما كان على اتصال بإدارة جردية " جورنالى دوريانتى" ولكن ذلك الإعجاب ومحاولات التقارب لا تستمر على نفس معدلها، ففى عام 1937 ينبه أحمد حسين إلى الخطر الايطالي الذي يهدد المنطقة فيما لو اشتعلت الحرب العالمية الثانية ، وقد تنبأ بوقوعها فى عام 1938 أو 1939 وقد أوضح فى مقاله أطماع موسولينى فى أن يجعل من البحر المتوسط بحيرة رومانية، ويرى أن الحرب ستكون مصر ميدانها بين إيطاليا وانجلترا .

وفى ربيع عام 1938 تثنى مصر الفتاة على موسولينى رجل إيطاليا الأول بل رجل أوربا الأول على حد تعبيرها ولكنها فى نفس الوقت تهاجم سياسته الرامية إلى حشد الجنود فى ليبيا وتعتبرهم المعد لغزو مصر ، وتطالب موسولينى إذا أراد أن يحظى بثقة المصريين أن يسحب جنوده منها.

وفى شهر مايو من عام 1938 يتقدم أحمد حسين بطلب إلى وزير ايطاليا المفوض فى مصر للسماح له بزيارة بلاده، فاستقبله الوزير فى المفوضية الايطالية فى يوم 21 مايو حيث تلقى تأكيدات منه بأن بلاده سوف تحسن ضيافته وأنها سترتب له لقاءات مع السنيور موسولينى، كما منحه الوزير بعض المساعدات المالية.

ومن ثم سافر أحمد حسين لزيارة أوربا لدراسة الأنظمة الأوربية، فزار كلا من ألمانيا وإيطاليا وغيرهما ، فى إيطاليا استقبله لفيف من الحزب الفاشستى وإدارة الثقافة الشعبية وجمعيات الشبيبة الفاشستية وبعض الصحفيين.

وفى إيطاليا صرح أحمد حسين لمحرر جريدة " لافور فاشيستا" فى لقاء له معه بتاريخ 29 يوليو 1938 من أنه جاء لإيطاليا ليرى نظم العمل والنظم النقابية والمالية وليرى عن كثب المؤسسات الاجتماعية.

وفى خلال ذل اللقاء أعرب عن شعوره الطيب نحو إيطاليا بقوله" نحن نرغب من صميم قلوبنا أن نكون أصدقاء لإيطاليا، فنحن نعيش على شواطىء بحر واحد ولنا مدنية مشتركة قديمة والعالم مدين لكلينا" ..

كما أبدى إعجابه الشديد بموسولينى بقول".. ولكنني معجب به إلى أبعد حد وأنى أستطيع أن أقرر أنه أحد الدعائم الكبرى التي تقوم عليها الحياة فى عصرنا الحديث" وقد بلغ حديث الإعجاب قمته خلال تلك الزيارة لإيطاليا، وهناك صرح أحمد حسين لأنه مثل موسولينى فقد أراد أن يناضل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ولهذا حضر إلى إيطاليا ليدرس عقد العمل الفاشستى.

أثناء زيارة أحمد حسين لايطاليا، عرضت فكرة أن تتعاون مصر الفتاة مع موسولينى ولكنه رفض أن يتعاون معها، قائلا أن عليه أن يحترم اتفاق "الجنتلمان " الذي وقعه مع انجلترا لتهدئة الموقف وحالة التوتر التي كانت تسود البحر المتوسط- وكان ذلك الاتفاق قد وقع فى أبريل 1938 ولقد كان اعتذاره رقيقا ومهذبا- كما يذكر محمد صبيح.

ولكن صبيح لم يذكر أكثر من ذلك فى هذا الموضوع، ولكنه يدل ضمنيا على أن نوعا من التقارب من إيطاليا حاولته مصر الفتاة على يد رئيسها ولم تشجعه إيطاليا، وقد استمر ذلك الوضع من العلاقات الفاترة بين مصر الفتاة وإيطاليا حتى إعلان قيام الحرب وموقف مصر منها بعد دخول إيطاليا الحرب.

وعندما أخذت الأوضاع تنبىء بقرب وقوع الحرب العالمية الثانية، فقد أعلنت مصر الفتاة أنها سوف تحارب إيطاليا إذا شرعت فى الهجوم على مصر.

وعلى الرغم من إعلان مصر الفتاة الوقوف إلى جوار انجلترا فى الحرب المقبلة. فإن هذا كان متغيرا كما رأينا. وفى نفس الوقت كان أصدقاؤها " القصر والوزارة" لهم ميول محورية، فالملك فاروق كانت له اتصالات بإيطاليا سبقت إعلان الحرب وهى محاولة من جانبه كى يضمن دول المحور فى حالة إعلان مصر الحياد فى الحرب المقبلة، وهذا ما أعربت عنه إيطاليا وعن حسن نيتها على يد وزيرها المفوض" الكونت ماتزولينى" وفى نفس الوقت كان على ماهر ومجموعته من أمثال صالح حرب وعبد الرحمن عزام وعزيز المصري من أشد المؤيدين للمحور وكان " دادون" رئيس مركز الاستعلامات الايطالي من ألمع الشخصيات المصرية.

كما كان على علاقة بعلى ماهر حتى أنه عندما طلب الحصول على تأشيرة خروج من مصر ، رأت وزارة الداخلية بناء على رغبة الإنجليز أن تسوف وتماطل فى منحه التأشيرة تمهيدا لاعتقاله، ولكن على ماهر اتصل بإدارة الجوازات وألح فى استعجال منحه التأشيرة حتى ذهب بنفسه وحصل على جواز سفر " دادون" وسلمه إليه فغادر مصر رغم أنف السلطات البريطانية. وعلى الرغم من موقف أصدقاء مصر الفتاة السالف من المحور، فإنه لم تبد فى الأفق أية علاقات لها بذلك الموقف على عهد وزارة على ماهر أو ربما خلال فترة الحرب حتى نهاية الدراسة.

وعندما تواترت الأخبار عن قرب مهاجمة إيطاليا للحدود المصرية فى أغسطس 1940 بعد دخولها الحرب طالب أحمد حسين بالاستمرار فى الأخذ بمبدأ تجنيب مصر ويلات الحرب، على ألا يمنعها ذلك من الاستعداد للخوض فى غمارها إذا فرضت الظروف ذلك.

وعندما هاجمت القوات الايطالية الحدود المصرية اجتمع الحزب فى 23 سبتمبر 1940، واتخذ عدة قرارات منها أن تبادر الحكومة المصرية بالاحتجاج على الحكومة الايطالية لانتهاكها حرمة الأراضي المصرية وتسألها تفسيرا عن هذا العمل، وتحتفظ لنفسها بحق الحرية فى العمل دفاعا عن نفسها وكيانها إذا هى لم تتلق ردا من الحكومة الايطالية فى ظرف ثلاثة أيام على أن حزب مصر الفتاة يرى أن تعمل الحكومة على تعبئة قوى الشعب المصر المختلفة.

وفى حقيقة الأمر أن موقف مصر الفتاة من إيطاليا فى فترة الحرب لم يكن يدل دلالة واضحة على اتصال بين مصر الفتاة والايطاليين، ولكن مجمل موقفها كان التصدى للهجوم الايطالي إذا هدد الأراضي المصرية، ولعل ذلك الموقف كان ناتجا عن موقف مصر الفتاة المتغير من انجلترا فى فترة الحرب، وربما كان موقف مصر الفتاة من إيطاليا محاولة لتطمين انجلترا من ناحيتها وإن كانت فى نفس الوقت تتمنى أن تحرز دول المحور انتصارا على الحلفاء فى نهاية الحرب انطلاقا من فكرتها فى معاداة انجلترا .

ولكن ظروف الحرب وتطوراتها لم تجعل من تمنياتها حقيقة ، فقد دارت الدائرة فى النهاية على قوات المحور، كما تجمد نشاط مصر الفتاة فى ذلك الوقت بدخول قادتها السجون بأوامر السلطة العسكرية.

أما عن علاقة مصر الفتاة بألمانيا فقد كانت محاولة من جانبها للتعاون مع عدو انجلترا اللدود فى أوربا فى ذلك الوقت، أملا من جانبها فى أن تساعدها تلك العلاقة فى الخلاص من الاستعمار البريطاني لبلادها.

وقد مرت تلك العلاقة بمراحل مختلفة، فقد مرت بمحاولات تقارب وإعجاب من جانب مصر الفتاة بألمانيا ن ومراحل تنم عن العداء والهجوم الشديد عليها، وعلينا متابعة تلك المراحل.

حاولت مصر الفتاة أن تقيم علاقات مع السلطات الألمانية فى القاهرة ، ففى يونيو 1934 قام أحمد حسين بزيارة وزير ألمانيا المفوض " د. ابرهارد فون اشتوهرر" وقد قرر الوزير أن أحمد حسين زاره لكى يعبر له عن تعاطفه مع ألمانيا الجديدة، وليطلب تأشيرة دخول لزيارة ألمانيا، وقد رفض الوزير لقاءه مرة أخرى عندما طلب أحمد حسين ذلك، بل أرسل لإدارة الأمن العام المصرية تقريرا بما تم فى مقابلته معه، ويشير تقرير الوزير أن حركة أحمد حسين بالغة الضعف وأنها ليست لها أهمية.

وعلى الرغم من ذلك الموقف من جانب ألمانيا، فإن أحمد حسين لم يكف عن محاولة عقد المقارنة بين كفاحه وكفاح هتلر فى ألمانيا هذا فضلا عن محاولة مصر الفتاة الأخذ بالأساليب النازية التى استخدمها هتلر، ففى عام 1937 سعت لإعادة تنظيم صفوفها على أساس الخطط النازية.

ومن المحتمل أن يكون موقف وزير المالية المفوض من أحمد حسين سببا فى أن العلاقات بين الطرفين قد أصابها الجمود فى الفترة التالية، إلى أن يجدد أحمد حسين المحاولة مرة أخرى فى عام 1938 حيث طلب الموافقة على زيارة ألمانيا ولكن هذه المرة لقى ترحيبا من وزيرها المفوض بمصر؛

فقد تلقى ردا على طابع ينم عن الترحيب الكامل مع الوعد بتقديم كل التسهيلات الممكنة وقد استقبله الوزير الألماني فى يوم 21 مايو عام 1938، وأكد له أنه سوف ترتب له لقاءات مع هتلر ومن المؤكد أنه قدم له بعض المساعدات المالية. ولعل تغير الوضع الدولي فى تلك الفترة هو الذي جعل الألمان يغيرون موقفهم من مصر الفتاة.

وعندما زار أحمد حسين ألمانيا فى يوليو عام 1938 بهدف دراسة الأنظمة، فقد اطلع هناك على نظم الحزب النازى وتاريخ حركته كما زار معسكرات شباب هتلر .

واتصل بزعماء النازية حيث تلقى دعوة منهم لزيارة معسكرات العمل للتعرف على نظامها والروح التي تعمل بها، وكان بصحبته سكرتير الجمعية الشرقية وأحد كبار الضباط من مصلحة العمل .

وأعجب أحمد حسين كثيرا بالنظام المستخدم فى ألمانيا والذي يتلخص فى أن كل ألماني بلغ سن التاسعة عشرة عليه أن يعمل ستة أشهر قبل دخوله الجيش فى أعمال يدوية عامة لخدمة ألمانيا، فيجتمع خلالها الأفراد من كل الطبقات، كما زار معسكر الفتيات أيضا.

وخلال تلك الزيارة لمعسكرات العمل تلقى أحمد حسين دعوة من المسئولين الألمان لإيفاد نحو خمسين شابا من شباب مصر الفتاة لينضموا إلى هذه المعسكرات فى فترة تدريب الشبان فأبدى استعداده مبدئيا.

ولكن تلك الفكرة لم تر النور، ولكن عندما عاد أحمد حسين إلى مصر دعا إلى تنفيذ كل تلك الأفكار في يختص بالعمل والعمال حتى أنه انشأ مزرعة لمصر الفتاة بالإسكندرية فيها بعض الأعمال التى يمارسها الألمان فى معسكراتهم إلى حد كبير.

وفى أثناء تلك الزيارة حاول أحمد حسين أن يبذل محاولات للتقارب مع هتلر، فقد أرسل إليه خطابا بمجرد وصوله إلى ألمانيا عبر فيه عن إعجابه بنهضة الشعب الألماني، كما أرسل خطابا آخر عند مغادرته ألمانيا عبر عن رغبته أن تصرح ألمانيا بأنها فى كفاحها إنما تبغى التقدم والتطور ولا تبغى البطش بأحد أو استعمار أو استعباد أى بلد من البلدان فهى تستطيع أن تكسب عطف الدول الشرقية بصفة خاصة والدول الصغيرة على العموم وأن تغنم صداقتها.

ولكن أحمد حسين يغير موقفه من سياسة هتلر، فموقفه من اليهود يعد مغالاة لا تتفق مع التطور الانسانى كما يرى أحمد حسين فإن كل ضغط على اليهود فى ألمانيا ينعكس على فلسطين، ولذلك فأحمد حسين لا يقر موقفه فى معاداة اليهود.

وعندما تأزم الوضع الدولي فى خريف عام 1938، كتب أحمد حسين مقالا بعنوان" إذا قامت الحرب الآن بعد كل الجهود التي بذلتها انجلترا وفرنسا والتضحيات التي قبلتها تشيكوسلوفاكيا، فإن معنى ذلك أن هتلر يكون رجلا مجنونا يريد أن يخرب العالم إرضاء لغطرسته وطغيانه".

ولعل ذلك الموقف الهجومي من جانب أحمد حسين يدل دلالة واضحة على أنه وإن كان قد أعجب بمنجزات هتلر فى ألمانيا إلا أنه لم يعجب بشخصيته وسياسته يوما ما.

ولعل ذلك الموقف كان ناتجا عن الاستقبال الفاتر الذي استقبل به أحمد حسين عند زيارته لألمانيا ومحاولته أن يلتقى بهتلر . ولكن يبدو أن سياسة حزب النازى ألا يلتقى أعضاءه إلا بمن لهم صفة رسمية، ولذلك لم يقابل أحمد حسين بالترحاب مكان موقفه هذا من هتلر.

وتعبيرا عن موقف أحمد حسين من هتلر فقد كتب إليه خطابا باللغة الفرنسية يدعوه إلى اعتناق الإسلام، فأخذ يسرد له ما فى الإسلام من مبادئ سامية فى كل المجالات وقال له فى معرض ضرورة قبوله تلك الدعوة" قد تبدو هذه الدعوة غريبة منى وقد تسخر منها كما سيسخر منها الكثيرون عند السماع بها، ولكنك فى هذه الحالة تكون مخطئا نحو عظمتك وتكون قد ألحقت بها نقصا لن تقدر على إكماله أبدا، ولكنني أدعوك إلى تفحص هذه الدعوة فقد يكون من وراء قبولها خير".

وعندما أعلنت الحرب العالمية الثانية فقد كانت القوي التي ساندت ايطاليا هي نفس القوي التي تؤيد ألمانيا وتتقارب بدرجة واحدة مع واحدة مع محور برلين روما وعلى الرغم تؤيد من ذلك فقد بدت محاولات تقارب بين ألمانيا وعباس حلمي الثاني في نفس الوقت الذي كانت اتصالاتها بالملك فاروق قائمة, فلما نما إلى علم فاروق ذلك أبدي استياءه لما يجري بين ألمانيا وعباس فقطعت الاتصالات بينهما وظل القصر على ولائه للمحور وعدائه للإنجليز ولكن الشئ الواضح أن اتصالات مصر الفتاة بالألمان خلال الحرب لم تكن قائمة , اللهم إلا محاولتهم استخدام مصطفي الوكيل لصالحهم بعد هروبه من بغداد على أثر فشل حركة رشيد عالي الكيلاني ورفضه التعاون معهم وبقي ببرلين حتى استشهد في مارس 1945 على أثر غارة جوية على برلين .

وهكذا وعلى الرغم مما أبدته مصر الفتاة من عطف وإعجاب بألمانيا إلا أن سلسلة علاقتها بها لم توضح ذلك ولعل موقفها من أحمد حسين كان دافعا له كي يهاجم زعيمها هتلر , ولعل إعجابه بموسوليني كان يفوق إعجابه بهتلر, وقد أرادت مص الفتاة أن تحقق  كسبا للمسألة الوطنية من خلال ارتباطها بتلك الدول في الحرب بدد تلك الآمال التي علقتها مصر الفتاة على ارتباطها بها .
وهناك مسألة أخري هامة ترتبط ارتبطا وثيقا بموقف مصر الفتاة من الاستعمار ومحاولة الخلاص منه بأى شكل من الأشكال لتحقيق تقديم في المسألة الوطنية فكانت علاقتها بالدول العربية محاولة لتحقيق هذا الهدف وهو ما سنعرض له في الصفحات التالية .
وحاولت مصر الفتاة أن تكون على علاقة بقضايا الدول العربية وذلك انطلاقا من فكرتها في إقامة الحلف العربي فقد نص برنامجها على أن تصبح مصر دولة عظمي تحالف  الدول العربية وتتزعم الإسلام فالحلف العربي هو الحلقة الثانية من سلسلة أفكارها؛

كما أوضحنا ذلك في الفصل السادس وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف خطت مصر الفتاة خطوات على هذا الطريق بهدف توثيق العلاقات بينها وبين تلك الدول خلال الفترة البحث ولعل من أهم القضايا التي استغرقت نشاطها كانت قضية مهاجمة الاستعمار في كل مكان من العالم عامة وفي الوطن العربي خاصة ومن المفيد أن نعرض لموقف مص الفتاة من القضايا العربية .

أن اهتمام رجال مصر الفتاة بقضايا الدول العربية يرجع إلى ما قبل اتصالات وثيقة بينهما وقد تمثل ذلك في الدعوة لمؤتمر الطلبة الشرقيين حيث سافر فتحي رضوان وكمال الدين  صلاح إلى فلسطين وسوريا للدعوة لهذا المؤتمر ولتوثيق العلاقات مع شباب  تلك البلاد وكذلك أثمرت هذه العلاقات اتصالات بين فتحي رضوان وجماعة الشباب السوري قبل قيام مص الفتاة أيضا فلما كان وضع برنامج مصر الفتاة عام 1933 أقتنع أحمد حسين بأهمية إيجاد كتلة عربية قوية فنص البرنامج على ذلك ومنذ ذلك الوقت ومصر الفتاة تعلق أهمية كبري على إيجاد ما أسمته الحلف العربي فسعت لإقامة صلات منظمة بينها وبين شباب فلسطين وسوريا والعراق وغيرها من البلاد العربية ولعله من المفيد أن نتابع علاقة مصر الفتاة بتلك الدول ولنبدأ بالسودان باعتبارها الجزء الذي يتمم مع مصر " وادي النيل" وكذلك الإمبراطورية المصرية التي تسعي لإقامتها .
اهتمت مصر الفتاة بالسودان منذ بداية تكوينها فاعتبرته الامتداد الطبيعي لمص الذي يكون معها الإمبراطورية المصرية التي تسعي لتحقيقها كخطوة لبعث مجد مصر فكان أن طالبت بفتح أبواب الهجرة إلى السودان أمام المصريين وخاصة الشباب منهم لنشر العلم في ربوعه ولزراعة الأراضي الصالحة للزراعة هناك؛

وكذلك إقامة المدارس مع مطالبة الأزهر كي يقوم بدوره الديني في حماية السودانيين بعد ن أصبحوا عرضة لناشط المبشرين الأوربيين من مختلف المذاهب وعملا من جانب مصر الفتاة

لتحقيق ذلك فقد سعت لإقامة فروع لها في السودان فكان لها شعبة في وادي حلفا كان أعضاؤها عرضة للاضطهاد من جانب السلطات الإنجليزية بالبلدة كما كان لها شعبة في أم درمان وإن كانت غير معلنة وظلت سرية خشية اضطهاد السلطات الإنجليزية .

وانطلاقا من اهتمام مصر الفتاة بالسودان فقد قام أحمد حسين بزيارته في 3 ديسمبر  1938 بهدف التعرف على الأوضاع فيه ولكي يقف على نزعات الشباب السوداني واتجاهه السياسي ومحصوله الثقافي وقد شهد هناك " ملجأ القرش " وقد نفذت فكرة مشروع القرش في إنشائه 

وبعد عودته أشاد بجهود الأمير عمر طوسون فيما يختص بالسودان كما رفع خطابا إلى الملك فاروق طالب فيه بإنشاء وزارة تهتم بشئون السودان الاقتصادية والاجتماعية وأن تتجه مصر بكل جهودها العلمية والاقتصادية والإصلاحية صوب الجنوب فالسودان هو معقد آمال مصر في حل مشكلتها في تزايد السكان وفي نفس الوقت طالب بحماية السودانيين من تصرفات السلطات الإنجليزية ضدهم وقد ظلت مصر الفتاة تردد أن السودان هو المنفس الطبيعي لمصر لحل المشكلة السكانية وأن ازدهار السودان لن يتحقق إلا على أيدي المصريين , كذلك فقد تبلور اهتمام مصر الفتاة به إلى الحد الذي أنشأت مكتبا يهتم بشئونه وحقيقة الأمر أن مصر الفتاة كانت تعلق آمالا كبارا على تحقيق الإمبراطورية المصرية التي تشمل مصر والسودان ولكن ذلك لم يتعد كونه آمالا لم تتحقق ولم تر النور وأن ظلت مص الفتاة تتشدق به طوال فترة البحث .

كما قامت لمص الفتاة علاقات " بحزب الإصلاح الوطني " في " المغرب الأقصى فجرت اتصالات بين مصر الفتاة وبين رئيسه عبد الخالق  الطريس وقد وصفته مص الفتاة على أنه زعيم القمصان الخضر بالمغرب؛

وقد زار هو وسكرتير الحزب مصر الفتاة حيث اقترح أحمد حسين ضمهما إلى عضوية مجلس الجهاد فوافق المجلس ولسنا ندري أية تنظيمات كانت تتبعها مص الفتاة حتى يقترح رئيسها ضم رئيس حزب من دولة عربية أخري لعضوية مجلس الجهاد وإن كان ذلك المجلس في ذلك الوقت من الناحية الفعلية غي قائم بعد إصدار قرار من الحزب بحلة ! ولكنه يمكن القول أن مصر الفتاة كانت تتلمس إقامة علاقات بأى شكل من الأشكال .

لم تحظ قضية من  قضايا الدول العربية باهتمام الفتاة بقدر ما حظيت به قضية فلسطين فمنذ وقت مبكر من تاريخ مصر الفتاة وهي تنبه إلى الخطر الصهيوني في فلسطين فعلي الرغم من أن السنوات الأولي لمصر الفتاة قد انقضت في مشاكل مصر المحلية؛

فإن قضية فلسطين سرعان ما بدأت تفرض نفسها بحيث تستولي على اهتمامها ولقد كان " لثورة" الطلبة المصريين في نوفمبر 1935 أثره على الأوضاع في الدول العربية ففي فلسطين قامت الثورة على المحتلين الإنجليز وعلى العصابات اليهودية ولا شك في أن قيام الفلسطينيين بثورتهم قد لفت الأنظار فوجهت أغلبية الدول العربية اهتمامها بفلسطين وبقضيتها فلما كانت محاولات تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية بناء على تقرير اللجنة الملكية البريطانية عام 1937 هاجمت مصر الفتاة ذلك التقرير ومشروع التقسيم موجهة الأنظار في مصر إلى الخطر المحدق بها من جراء قيم دولة يهودية في قلب الوطن العربي مذكرة بأن اليهود وإن كانوا قد منحوا شريطا ساحليا ضيقا في التقسيم فإن ذلك ليس إلا أول الغيث على حد تعبيرها ولن يلبث حتى ينهمر فيبتلع البقية البقية من فلسطين هذا فضلا عن خطورة قيام دولة يهودية على حدود مصر الشرقية .

وعندما تكررت المحاولات من جانب انجلترا لإجهاض الثورة الفلسطينية كانت مصر الفتاة توجه الرأي العام المصري لذلك الخطر فاهتمت الحكومة المصرية بالقضية الفلسطينية منذ عام 1937 فصاعدا وذلك بغرض الوصول إلى حل عادل للقضية فسمحت بمشاركة مصر في مؤتمر " بلودان " عام 1937

ثم ساهمت بجهود كبيرة في عقد المؤتمر البرلماني الدولي للدول العربية والإسلامية للدفاع عن فلسطين بالقاهرة عام 1938 هذا بالإضافة إلى مشاركة مص الفعالة في مؤتمر المائدة المستديرة بلندن عام 1939 وعلى الرغم من هذا فقد اعتبرت مصر الفتاة أن النشاط الذي تقوم به الحكومات المصرية حيال فلسطين وقضيتها هو دون ما يفرضه عليها وضعها في ذلك الوقت فوجهت لوما شديدا لمحمد محمود باشا عام 1938 لموقفه من القضية وتستنكر مصر الفتاة بشدة محاولات التقسيم وتري فيه خطرا على مصر؛

يجب أن يقاوم بكل ما في المصريين من عزم وقوة فهو يفصل الأقطار العربية في آسيا ويحول دون التعاون والتعامل معها ويعرقل الاتصال الاقتصادي والثقافي بها ويجعل حدود مصر الشرقية بيد أجنبية غير مأمونة الولاء كما هاجم أحمد حسين مشروع التقسيم أيضا عندما كان في لندن عام 1938 في الاجتماع الذي عقدته الجمعية العربية برئاسة " عزت طنوس فذكر فيه أن مصر كلمة يمثلها حزب مصر الفتاة تقاوم في الحال والاستقبال هذه السياسة .

كما اشتدت مصر الفتاة في الهجوم على سياسة بريطانيا التي ترمي إلى إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين مهددة بأن المصريين لا يمكنهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام ايطاليا وألمانيا طلبا لمساعدتهما ضد انجلترا وهما يريدان ذلك .

وبلغ الأمر مداه بأن أنذر أحمد حسين بريطانيا بقوله " إذا انقضي أكتوبر ونوفمبر وديسمبر ولم تغير انجلترا موقفها تجاه فلسطين ولم يتنازل اليهود عن مزاعمهم فسوف أعلن الحرب والجهاد عليهم باسم الله وليكن ما تريده انجلترا وما يريده اليهود" وأحمد حسين يحاول أن يضم الدول الإسلامية إلى جانب الدول العربية في مهاجمة انجلترا لموقفها من فلسطين وربما كان ذلك نتجا عن نمو الاتجاه الإسلامي لدي مصر الفتاة في نهاية الثلاثينات وبفعل تأثير مصطفي الوكيل.

بلغت حماسة مصر الفتاة قمتها في مناصرة القضية الفلسطينية إلى الحد الذي شكلت فيه لجنة خاصة بفلسطين متفرعة عن لجنة الطلبة التنفيذية لمص الفتاة ومهمتها التنسيق مع الهيئات الجامعية الأخرى التي تعمل لمناصرة فلسطين ليتعاونوا معا في عمل مشترك هذا بالإضافة إلى تكوين كتيبة من المجاهدين من أعضائها باسم " كتيبة فلسطين عام 1939 " 

ولكنها لا تظهر إلى الوجود كما اشتدت في الهجوم على يهود مصر عندما تأكد لديها أنهم " صهاينة " يتضامنون مع اليهود في كل مكان فدعت إلى مقاطعتهم فأصدر مجلس الجهاد عدة قرارات تنادي بمقاطعة اليهود وتأليف لجنة لتنظيم المقاطعة والإشراف عليها وأسندت رئاستها إلى محمد صبيح وسكرتاريتها إلى محمود مكي من مصر الفتاة وكما أقامت هذه اللجنة عدة فروع لها بالأقاليم وقد قامت تلك اللجنة بنشاط موفور لأداء مهمتها ونجحت إلى حد كبير في نشر أسماء اليهود الذين ستطبق المقاطعة عليهم كما قامت بإعداد نشرات لهذا الغرض وكان من نتيجة ذلك أن تعرض بعض أفرادها للاعتقال من جانب الحكومة واستمرت تلك الحملة ضد اليهود حتى كان إعلان قيام الحرب العالمية الثانية فتوقفه ذلك الناشط.

فلما أعلنت الحب العالمية الثانية طالبت مصر الفتاة حكومة على ماهر أن تطلب من انجلترا حلا عادلا لقضية فلسطين قائلة بأنه قد تم الاتفاق بينها وبين الإخوان المسلمين والشبان المسلمين على توحيد جهودهم لمؤازرة قضيتها وهكذا  كان موقف مص الفتاة من قضية فلسطين انطلاقا من برنامجها في العمل على توحيد البلاد العربية من ناحية ومن ناحية أخري نتيجة لازدياد  الاتجاه الإسلامي لديها في نهاية الثلاثينات وتعد مص الفتاة من الهيئات المصرية التي اشتدت في الدفاع عن القضية وتبنيها من منطلق عربي وإسلامي .
أما عن علاقة مصر الفتاة بسوريا فقد كانت علاقة غير مباشرة فهي علاقة موقف من الاستعمار الفرنسي هناك تندد به وبتصرفاته حيالها  وقد كان ذلك انطلاقا من معاداتها للاستعمار في كل مكان من العالم وفي العالم العربي خاصة وقد سبق ن ذكرنا أنه كانت هناك اتصالات بين شباب مصر الفتاة والشباب السوري وقد تمثل ذلك في المراسلات بين نفر منهم وبين فتحي رضوان قبيل تأليف جمعية مص الفتاة وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال يفرض نفسه وهو هل قامت اتصالات بين مصر الفتاة كحركة تمثل الشباب المصري وبين الحركات المشابهة لها في سوريا ونخص بالذكر الحزب القومي السوري ؟ 

وللإجابة على هذا السؤال تقول أنه قامت محاولات للاتصالات تمثلت في بعض المراسلات بينهما ولكنها لم تتعد هذا المستوى أما إقامة اتصالات منظمة ودائمة فذلك ما لم يحدث ولكنه ربما كانت الاتصالات بهدف الوقوف على نشاط كل منهما .

أنبرت مصر الفتاة تشن حملة عنيفة ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا , تندد بتصرفاته حيال الوطنيين هناك وقد بلغت هذه الحملة قمتها بمقال كتبه أحمد حسين بعنوان " سوريا تحركي وانهضي فقد حانت ساعة استقلالك وخلاصك" كما أرسل خطابات إلى رئيس الوزراء السوري وإلى الدكتور  عبد الرحمن الشهبندر زعيم المعارضة يدعوهما إلى الثورة وتحريض الشعب ضد فرنسا . 

كما نددت مصر الفتاة بتصرف فرنسا عندما تنازلت لتركيا عن " لواء الإسكندرونة " السوري وهاجمت تركيا لأنها كما تري عادت من جديد لبذل المحاولات لتوسيع نفوذها وقد احتج أحمد حسين على هذا العمل احتجاجا شديدا فأرسل برقية إلى المندوب السامي الفرنسي في بيروت نصها " تلقينا باستنكار واشمئزاز عدوانكم المخيف على استقلال سوريا ودستورها؛

وليس ذلك إلا حلقة في سلسلة عدوانكم المتواصل على العرب والمسلمين وباسم الشباب المصري أعلنكم بمقتنا لكم وعزمنا على محاربتكم بكل ما نملك من وسائل فأبلغوا ذلك لحكومتكم الفرنسية والله أكبر" وقد ظل هذا هو موقف مصر الفتاة مما يجري في وسوريا فهي تستنكره وتشتد في الهجوم على الاستعمار الفرنسي هناك من منطلق عربي وإسلامي أيضا كما تعرف أحمد حسين على بعض الزعماء السوريين مثل سعد الله الجابري وجميل مردم عندما كان لاجئين في الحجاز عام 1935 .

ومنذ وقت مبكر فقد نشأت لمصر الفتاة اتصالات بالحجاز فقد كانت حريصة على أن تكون لها صلات بملوك العرب والمسلمين في البلاد العربية فأرسل فتحي رضوان خطابا مفتوحا لهؤلاء الملوك في عام 1934 شرح لهم فيه حركة مصر الفتة وأهدافها وطلب إليهم إبداء رأيهم في كفاحها وتحقيقا لذلك الاتصال قرر أحمد حسين في عام 1935 تأدية فريضة لقاء الملك عبد العزيز آل سعود؛

وكان بصحبة بعض المصريين من أمثالا سيد خشبة " باشا " فاستأذن أحمد حسين جلالة الملك وألقي كلمة مدح فيها جلالته وأشاد بأعماله فقربه ذلك من الملك الذي أعطاه مبلغ خمسة وستين جنيها وخصص له سيارة يسافر بها إلى المدينة مع وعد منه بالمساعدة المالية من وقت لآخر بعد أن قدم له أحمد حسين بعض أعداد مجلة " الصرخة" لتأييد جلالته والإشادة بأعماله الجليلة كما ادعي أحمد حسين انه نشأت لجمعيته شعبة في " المدينة المنورة" ولكن ليس ذلك صحيحا فلم يرد ذكر لهذه الشعبة سوي في هذا التقرير .

استمرت الاتصالات قائمة بين أحمد حسين وبين الملك عبد العزيز فقد تردد أحمد حسين على الحجاز بغرض أداء فريضة الحج عدة مرات كان في كل منها يلقي خطبا ن أمجاد الإسلام كان يلقي عليها عطفا متزايدا من الملك عبد العزيز .

ففي عام 1940 سافر هو ووالده ووالدة زوجته وعبد الحميد المشهدي عضو مجلس إدارة الحزب لأداء الفريضة ونزلوا في ضيافة الملك عبد العزيز ويعرب أحمد حسين عن شكه لجلالته لما لاقوه من حسن الوفادة ومما غمرهم به من رعاية وعطف وكما توجه في العام التالي 1949 لأداء الفريضة وبصحبته إبراهيم شكري وعبد القادر بك مختار وهي الحجة الثالثة له وفي كل مرة كان أحمد حسين يلقي خطابا سياسيا أمام الملك ووفود الدول الإسلامية يدعو إلى ضرورة قيام الجامعة الإسلامية حتى أنه كتب مقالا ذكر فيه

" ما ذهبت مرة إلى الأراضي المقدسة وعدت منها إلا وتضاعف إيماني بعظمة الدين الإسلامي والقوة الكامنة في معتنقيه واقتراب الساعة التي يسترجعون فيها مجدهم وعزمهم "

كان أحمد حسين يجد الفرصة سانحة أمامه كي يسمع صوته إلى رجالات العرب والمسلمين عندما يلتقي بهم في الحجاز ليردد أمامهم دعوته إلى تحقيق الجامعة الإسلامية  ولعل ذلك راجعا لأنه لم يكن يستطيع أن يمارس نشاطه بحرية في مصر نظرا لظروف الحرب القائمة؛

هذا فضلا عما كان يلقاه من عناية وعطف من الملك عبد العزيز آل سعود وعلى هذا فقد استمرت علاقة أحمد حسين بالسعوديين علاقة طيبة طوال الفترة وربما حققت نجاحا كبيرا .

اهتمت مصر الفتاة منذ البداية بالعراق وعلى سبيل المثال فقد تقدمت  بطلب لانضمام بعض أعضائها إلى الجيش العراقي كما سبق القول ولسنا ندري سببا لاختيار العراق بالذات وفي محاولة لتفسير ذلك فإنه يمكن القول أن الجيش العراقي في ذلك الوقت كما ذاع ذلك؛

يمثل القوة العربية الحقيقية وربما كان ذلك ناتجا عن دراسة لأوضاع العراق وأن بها حركات مشابهة لحرك مصر الفتاة تقوم على أساس شبه عسكري مثل حركة الكشافة العراقية ثم حاولت مصر الفتاة أن تقيم صلات بينهما فقد فكرت في عام 1935 في ايفاد عز الدين عبد القادر إلى العراق ليقيم تلك الاتصالات

وبما كان ذلك ناتج عن لقاء أحمد حسين ببعض شباب الكشافة العراقية عندما كان بالحجاز عام 1935 وفي نفس الوقت بكثير من الشعوب الإسلامية الأخرى وأقسموا على " المصحف " جميعا بأن يعملوا بإخلاص لمقاومة الاستعمار وتهيئة الرأي العام للثورة ضده في كل البلاد الشرقية وقد استطاع عز الدين عبد القادر أن يحصل على تأشيرة دخوله من القنصلية العراقية بالقاهرة وسافر عن طريق فلسطين ولكن يبدو أنه لم يواصل السفر وعاد إلى القاهرة .

ولم تعدم مصر الفتاة محاولة إقامة صلات وبين العراق فقد استطاعت أن يكون لها مراسلون لجريدتها من العراقيين يوافونها بالأخبار عن شئون العراق كما كان هناك من المصريين من قام  بهذا العمل أيضا  وفي أكتوبر 1940 سافر مصطفي الوكيل إلى العراق ليتولي منصبا للتدريس في دار المعلمين ببغداد كان ذلك في الظاهر ولكن أحمد حسين يقرر أنه أرسل فعلا من جانب الحزب ليقيم علاقات مع زعماء القوميين العرب في كل من العراق وسوريا وفلسطين فيذكر أحمد حسين " ولاشك أن الدكتور مصطفي الوكيل سيكون خير سفير لنا يمثل شباب مصر الفتاة ويحمل إلى العراق رسالة مصر الفتاة سافر  مصطفي الوكيل إلى العراق يوم 5 أكتوبر عام 1940 وصحبه أحمد حسين وعبد القادر مختار حتى ودعاه في " القنطرة" وقد زوده أحمد حسين بسالة إلى مفتي  فلسطين " الحاج أمين الحسيني " والذي كان يقيم هناك فسهل له ذلك  مهمة الاتصال بالقوميين العرب في العراق فأقام  علاقة مع رشيد عالي الكيلاني  وقد شارك في كتابة مقالات ضد الإنجليز بعث بها إلى الصحافة العراقية .

وعندما قامت حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 في العراق ضد الإنجليز فقد أيدها الشعب المصري باعتبارها حركة وطنية موجهة ضد الاستعمار؛

فقد كانت المتنفس الحقيقي للوطنيين المصريين , فتبعوا أنباءها بحماسة بالغة وعلقوا عليها آمالا واسعة ويودون لو فعلوا مثلما فعل الكيلاني وقد انضم مصطفي الوكيل إلى هذه الحركة بكل قوته وانخرط في سلك المجاهدين وكان مصمما على الاستشهاد على حد قول أحمد حسين لولا أن المفتي كلفه بمهمة في الاذاعة إلى جانب " صديق شنشل" مدير الدعاية العام في حكومة الكيلاني؛

فكانا من أشد المهاجمين لبريطانيا عنفا في أحاديثهما الاذاعية فقد وجه الوكيل إذاعته إلى مصر يمدح ويؤيد فيها حركة الكيلاني ويدعو المصريين أن يهبوا بدورهم ضد بريطانيا كما أرسل برقية باسم الحزب الوطني الإسلامي يؤيد فيها الحركة وإن كان ذلك تعبيرا عن وجهة نظر الحزب؛

فقد ذكرت إذاعة " باري بايطاليا " ما يؤيد ذلك " جاء من القاهرة أن الرأي العام المصري يتتبع باهتمام وعطف الاصطدام بين الكيلاني والإنجليز وقد أرسل الوطنيون الشبان من حزب مص الفتاة يشجعون الكيلاني على الكفاح ويصفونه بالبطل المقدام للعروبة

" ولعل هذا يؤكد أن الحزب هو الذي أيد الحركة وهو الذي أرسل البقية وليس مصطفي الوكيل كما يذكر كما يذكر أحمد حسين وعلى كل حال فقد كان ذلك كفيلا بأن تشتد السلطات الإنجليزية في مصر في طلب اعتقال أعضاء مصر الفتاة ورئيسها فصدر الأمر في 4 مايو 1941 باعتقال أحمد حسين وبعض الأعضاء وهكذا انتهت العلاقات مع العراق عند هذا الحد.

وخلاصة القول فإن حركة مصر الفتاة داخل المجتمع المصري كانت تعبيرا عن العداء الواضح للأجانب والاستعمار بصفة عامة في كل مكان من العالم وخاصة في الوطن العربي وعلى الأخص كان عداؤها للإنجليز المحتلين لبلادها وعلى هذا فقد كانت علاقتها وصلاتها سواء بالدول الأوربية المعادية للإنجليز مثل ايطاليا وألمانيا أو  بالدول العربية في محاولة منها لإيجاد الحلف العربي ليكون كتلة قوية تعمل في مواجهة الاستعمار كان كل ذلك تطبيقا لموقفها من الاستعمار وفي محاولة للخلاص منه وتحقيق الاستقلال للبلاد عن أى طريق كان وبالعمل على أى مستوي .
==الخاتمة==
ظهرت في المجتمع المصري أنظمة سياسية ذات اتجاهات فكرية مختلفة اختلفت مع الأنظمة القائمة في البلاد, فقد جاءت لأنظمة تعبيرا عن أفكار انتشرت في أوربا في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين وقد اعتمدت تلك الأنظمة في تكويناتها على عنصر الشباب بحماسته المتدفقة وسرعته في التأثر والإيمان المطلق بما أرادت أن تنشره من أفكار جديدة كانت غير مألوفة ولا مستخدمة في تلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولي وقد لجأت بعض تلك الدول لهذا الأسلوب
حتى يتاح لها استعادة وضعها السابق وتجديد شباب  دولها عن طريق الشباب وحماستهم وربما الأولي دافعا للتغني بتلك المبادئ التي تنادي بسيادة العنصر الجرماني وهي دعوة عنصرية " عرقية " لعلها " مرتبطة بناحية نفسية طبيعية تصاب بها أية كيانات عندما تتعرض لهزة عنيفة وليس هناك أقوي من رد فعل الحرب وظروفها على المجتمعات المختلفة .
فقد هيأت ظروف الحرب التي  تعرضت لها هذه المجتمعات الفرصة لظهور تلك  النظم السياسية المختلفة التي تنادي بضرورة بعث مجد روما في ايطاليا وسيادة العنصر الجرماني في ألمانيا .
وعندما استطاعت تلك الأنظمة الأوربية أن تحقق نجاحا منقطع النظير  في الوصول إلى تحقيق النظريات التي طروحها وقد تمثل ذلك في النجاح  الذي حققه موسوليني في ايطاليا بعد استيلائه على السلطة عام 1922 حيث نهض بايطاليا نهضة اندهش لها الغرب والشرق معا في ذلك الوقت , كذلك استطاع هتلر أن يقفز إلى السلطة في عام 1933 وأن يعيد لألمانيا جزء من هيبتها بعد أن مزقت الحرب أوصالها وقضت على شبابها فاستطاع هتلر أن يجمع حوله بعض العناصر التي شاركته في العمل على  إعادة ألمانيا إلى سابق عهدها وقد نجح هو أيضا في هذا الشأن فكان ذلك النجاح الذي شهدته تلك الدول في ظل أنظمة حكم ديكتاتورية تقوم على الفرد كما تقوم على طبيعة عسكرية استخدمت قوتها في الوصول إلى الحكم وتغيير شكل المجتمع كانت مثار إعجاب من معظم دول العالم إلى الحد الذي رأت فيها بعض الدول والشعوب نماذج تحتذي.
كان  رد الفعل للنجاح الذي أحرزته الفاشية والنازية في أوربا قوتا في منطقة الشرق وخاصة في الدول التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار  فقد ظهرت بها تيارات فكرية تؤمن باستخدام الأساليب الأوربية الفاشية لتحقيق تقدم في قضاياها الوطنية فنتج عن ذلك ظهور بعض التجماعات السياسية من أحزاب وجماعات؛

ومنها على سبيل المثال جماعة الإخوان المسلمين والحزب الوطني ومصر الفتاة في مصر و" الكشافة في العراق " و" الكتائب اللبنانية" و" عصبة العمل القومي" و" القمصان الحديدية " و" الوحدة اللبنانية" و" الحزب القومي السوري " في سوريا كانت ظهرت أيضا في بعض دول العالم المختلفة أنظمة حكم فاشية مثلما حدث في ايرلندا واليابان والأرجنتين وأسبانيا ورومانيا وقد اختفت تلك الأنظمة الشمولية بعد أول مواجهة عسكرية فانهار معظمها نتيجة للهزيمة المروعة التي تعرضت لها على يد الدول الديمقراطية في أوربا في الحرب العالمية الثانية وأن بقي بعضها قائما في رومانيا والأرجنتين واليابان بعد نهاية الحرب .

أما عن تأثير تلك الموجة الفكرية التي غمرت أوربا في مصر فقد انعكس على أحمد حسين وهو شاب صغير , راعه ما حدث في ايطاليا وما حققه موسوليني لها رافعا شعار إعادة مجد روما فقد ازداد هو الآخر اعتقادا في ضرورة بعث مجد مصر بعد زيارته لآثار الفراعنة ووقوفه  على مدي عظمتهم وعظمة مص وربما كان أحمد حسين 

يحاول البحث عن " موسوليني" آخر في مصر يقوم بنفس الدور الذي قام به " موسوليني" في ايطاليا ولكن أحمد حسين لم يدرك تماما حقيقة وضع مصر والظروف الموضوعية التي تمر بها في ظل الاحتلال البريطاني المعادي لهذا الفكر من ناحية ومن ناحية أخري فإن الأنظمة السياسية كالنباتات فما يصلح في مكان لا يصلح في المكان الآخر ولكن أحمد حسين لم يقدر تلك العوامل وإنما ازداد إيمانا بمرور الزمن في ضرورة العمل على بعث مجد مصر متخذا لهذا الغرض عدة أساليب وتغيرات طرأت على أسلوب كفاحه .

اعتقدت مصر الفتاة في أسلوب العمل الذي اتخذته الفاشية الأوروبية لتنفيذ فلسفتها فآمنت باستخدام القوة نابذة أسلوب المفاوضات الذي ارتضاه المصريون كأساس لتحديد العلاقات بين مصر وانجلترا الدولة المحتلة أما مصر الفتاة فتري أن هذا الأسلوب لا يحقق للبلاد بغيتها فالمفاوضة بين الضعيف والقوي غير مجدية ولا تحقق تقدما في المسألة الوطنية فإن لم تكن المفاوضات بين ندين فستكون نتيجتها فرض إرادة القوي على الضعيف .

ومن هذا المنطلق وخاصة بعد أن استخدم السياسيون المصريون أسلوب المفاوضات فترة طويلة لم تؤت ثمرتها بتحقيق الاستقلال التام للبلاد كان ذلك إيذانا بزياد

و اعتقادها في الأسلوب الذي ارتضته لتحقيق استقلال البلاد فاتجهت إلى ترديد حديث القوة في البلاد مطالبة المواطنين بعشر سنوات من العمل كي تعوض ما فاتهم في السنوات العشر السابقة على نشأتها في المهاترات الحزبية والخلافات وفي إضاعة الوقت في المفاوضات مع المحتل دون التوصل إلى تحقيق أماني المصريين القومية في الاستقلال .

استخدمت مصر الفتاة أساليب الفاشية في تطبيق فكرها , فاتخذت منذ البداية تشكيلات شبه عسكرية كانت كما تري هي " الميليشيا الفرعونية " التي ستساعدها في الوصول إلى هدفها في إعادة مجد مصر وقد كرست نفسها لنمو  الإيمان بتلك الأفكار والتي ستؤدي حتما إلى  ازدياد عدد ونمو حجم تلك التشكيلات؛

ولكن واقع المجتمع المصري بتكويناته الاجتماعية والسياسية وواقعه وظروفه الموضوعية لم يسمح بنمو هذه الفرق الفاشية العسكرية إلى الحد الذي يمكن مصر الفتاة أو غيرها من تحقيق ما هدفت إليه وما كرست إلى الحد الذي يمكن مصر الفتاة أو غيرها من تحقيق ما هدفت إليه وما كرست نفسها له فكان ذلك مجرد خيالات نشأت في فكر أحمد حسين ولم يتح لها أن تحقق ما حاول أن ينفذه في مصر مستلهما فكره من التجربة الايطالية ومحاولا استخدام أساليبها .

وعلى الرغم من أن محاكاة الفاشية الأوربية لم تثمر الثمرة المرجوة منها فقد ظل ذلك الفكر يلح على مصر الفتاة حتى بعد أن تحولت إلى الحزب الوطني الإسلامي وقبل ذلك عندما منعت الدولة قيام مثل تلك التشكيلات في المجتمع المصري 

ظلت مصر الفتاة تلح في محاولة نشر الفكر العسكري الذي ينادي باستخدام القوة ولكن الواقع الذي دمرت به مصر الفتاة كحركة سياسية فيمص لم يهيؤ لها تحقيق هذا الفكر لأن مثل هذه الأفكار كانت تعد أفكارا رومانسية بعيدة المنال صعبة التحقيق .

ولما كانت  تلك الأفكار التي طرحتها مص الفتاة وما تتسم به من رومانسية فإنها لم تستهو سوي الشباب من أعضائها وأنصارها على قلتهم حيث كان هؤلاء لا يملون طبقة اجتماعية معينة تطرح أفكارا تعبر عن مصالح أفرادها وإنما كان هؤلاء الشبان من طبقات اجتماعية مختلفة تعد انعكاسا للتركيب الاجتماعي للمجتمع المصري في تلك الفترة فهي في هذا لا تختلف كثيرا عن غيرها من التنظيمت السياسية القائمة وإن كانت الصفة التي تميزها عنهم أنها اعتمدت أساسا على عنصر الشباب الملئ بالحماسة والتطرف في معالجة الأمور .
ولما كانت الحركة لا تمثل عنصرا اجتماعيا معينا فقد اضطرت أن تكون حركتها موالية لكيانات سياسية أكبر منها فرغم محاولاتها المستمرة في مسايرة التيار الشعبي الذي ساد البلاد في تلك الفترة ممثلا في حزب الوفد وجماهيره العريضة والعمل تحت رايته ككيان مستقل ولكن ذلك التيار الشعبي كان يرفض قيام أية كيانات سياسية تقوم إلى جانبه أن لم تكن كلها تدور في فلكه وعلى هذا اضطرت إلى أن تنأي بحركتها عن هذا التيار .
ربطت مصر الفتاة نفسها بالقصر وبأحزاب الأقلية وتصدت معها لمواجهة التيار الشعبي وهي تهدف من وراء ذلك إلى تحقيق مكاسب لها تساعدها على تنفيذ برنامجها أما تلك القوي فكانت تري فيها أداة تساعدها على تنفيذ سياستها في التصدي للتيار الشعبي وصرعه والقضاء عليه وما يترتب عليه من انتكاسة يواجهها في كل مرة تتغلب عليه فالصراع بينهما محتوم وكانت القضية الوطنية هي الضجة  فإن ما تعرض له التيار الشعبي من هزات وانقلابات كانت بهدف سلب مكاسب الشعب التي كافح طويلا من أجل الوصول إليها وما الانقلابات الدستورية التي تعرضت لها البلاد إلا تعبيرا صادقا عن ذلك الصراع.
ومصر الفتاة وإن كانت حركتها موالية للقصر وأحزاب الأقلية في موجهة التيار الشعبي إلا أنها لم تلتزم بذلك التزاما مطلقا فقد خرجت عليه في بعض الأحيان فهاجمت بعض وزارات تلك الأحزاب وانضمت إلى جانب  القصر تارة. وتارة أخري حاولت التقارب مع الكثرة الجماهيرية ممثلة في حزب الوفد وإن كانت في النهاية  لا تستقر على سياسة معينة فكانت  حركتها تعاني اضطرابا شديدا في مواقفها المختلفة من القضايا المطروحة داخل البلاد ولعل ذلك راجع لعدم وضوح الرؤية حتى على أعلي مستوياتها... فعندما اتضح لها موقف تلك القوي التي ربطت نفسها بها كان الافتراق والخلاف معها وأدركت أن ما هدفت إليه من وراء التعاون معها ومساندتها ليس إلا سرابا .

فإذا انتقلنا إلى تحديد موقف مصر الفتاة من المسألة الوطنية ومن قضية الاستقلال , فإنه من الواضح أنها منذ البداية وهي حركة معادية للمركز الذي صنعه الأجانب لأنفسهم في مصر وللإنجليز خاصة فقد ظلت تندر بهم وبتصرفاتهم وتستخدم أسلوبا متطرفا عنيفا ضدهم وتطلب وتسعي جاهدة لتهيئة الأذهان للثورة ضدهم وظلت تعمل من أجلها طوال فترة البحث

ولكن إمكانياتها المادية والفكرية لم تتح لها النجاح في هذا الميدان هذا فضلا عن الظروف الموضوعية للبلاد في ظل الاحتلال وكنتيجة لموقف مص الفتاة من الإنجليز فقد انعقدت آمالها وآمال قادتها على الدول المعادية لانجلترا فكان إن جاءت علاقتها بايطاليا وألمانيا والإعجاب بهما وبأنظمة الحكم التي أقامتاها في أوربا وكان ذلك هو موقف غالبية الشعب المصري وليس ذلك ناتجا عن حب أو فهم لطبيعة الفاشية وإنما كان شماتة في المحتلين الإنجليز .

أما الإنجليز فقد كان موقفهم من تلك الحركة المعادية للأجانب ولهم موقف المتربص بها للقضاء عليها فلما تأكد لهم أنها موالية للإيطاليين والألمان لم يكن هناك بد من محاولة إخفات صوتها حتى كانت حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق في عام 1941 والتي أسفت فيها مصر الفتاة عن وجهها فأيدتها تأييدا مطلقا وطالبت المصريين أن يحذو حذوها فيهبوا بثورتهم ضد انجلترا إزاء ذلك الموقف لم تر السلطات البريطانية مفرا من إصدار الأوامر بإلقاء هؤلاء الشبان في المعتقلات والسجون طوال فترة الحرب تقريبا وفي الوقت الذي كانت فيه انجلترا تعاني من أزمات في سير الحرب.

وهكذا توارت مصر الفتاة كواقع عملي في المجتمع المصري خلال فترة البحث وحقيقة الأمر فإنها وإن كانت قد فشلت في تحقيق ما قامت من أجله وهو إعادة مجد مصر.

فإنها قد أحدت جذوة في البلاد وأتت بأفكار جديدة لم يألفها المصريون من قبل وحاولت استخدام أساليب جديدة للخلاص من الاستعمار الذي كرست جل وقتها لمناوأته والتصدي له وقد دفعها ذلك للتعامل مع جهات متعددة ربما رأي البعض في تعاملها معها خروجها على الخط الوطني ولكن مصر الفتاة رأت أنها على استعداد للتعاون مع الشيطان حتى تحرز تقدما في المسألة الوطنية وتحرير البلاد , ولكن ما صارت إليه أوضاعها في فترة الحرب قد جمد نشاطها وإن استأنفت نشاطها قرب نهايتها من جديد.

خرج أحمد حسين وصحبه من الاعتقال في أكتوبر عام 1944 فحاول إحياء حزب مصر الفتاة من جديد وإن كان كما يذكر هو أنه لم يجد بجواره أحدا من أعضاء مصر الفتاة القدامي إلا المخلصون منهم أو من شاركه الاعتقال فبدأ بداية جديدة تماما وإن تركت الحرب بصماتها على تفكيره كما أظهرت تيارات فكرية أخري وإن ظل أحمد حسين رغم ذلك يردد أن تصبح مصر دولة شامخة تتألف من مصر والسودان وتحالف الدول العربية وتتزعم الإسلام وإن تغيرت طريقها في الكفاح فدعت إلى النهوض بالصناعة المصرية وإدخال الصناعات الثقيلة وإقامة جيش قوي.

ظلت مصر الفتاة تواصل كفاحها حتى كان مقتل أحمد ماهر في عام 1945 على أثر إعلانه في مجلس النواب دخول مصر الحرب إلى جوار انجلترا كان أحمد حسين من الذين قدموا للمحاكمة بتهمة الاشتراك في الجريمة كذلك كان أحمد حسين من أوائل من تحوم حولهم الشبهات عندما تتعرض البلاد لحوادث أخري فكان مقتل النقراشي وحسن البنا وغيرهما من القضايا مبررات للقبض على أحمد حسين والتحقيق معه.

وفي عام 1948 أعد حمد حسين برنامجا جديدا لحزبه وإن لم يطن هناك ما يبرر ذلك ومن الواضح أنها محولة من جانب أحمد حسين لإنعاش الحزب كما يذكر هو ذلك وفي عام 1949 أعلن تحول حزبه من حزب مصر الفتة إلى حزب مصر الاشتراكي واضعا له برنامجا جديدا يطالب بتطبيق المبادئ الإشتراكية ولعل ذلك كان ناتجا عن انتشار تلك الأفكار في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد غمر الفكر الشيوعي أجزاء كثيرة من العالم وإن لم يكن تحولا أصلا نحو الفكر الاشتراكي .

وفي انتخابات عام 1950 ولأول مرة وآخر في تاريخ مصر الفتاة نجح إبراهيم شكري في دائرة " شربين" كعضو في مجلس النواب فأسمع صوت الحزب الاشتراكي للبرلمان وطالب بتحديد الملكية الزراعية بخمسين فدان وهو من أسرة تنتمي إلى كبار الملاك الزراعيين .

وفي عام 1951 اشتدت مصر الفتاة في الهجوم على النظم الملكي وعلى شخص الملك وأخذت تندد بتصرفاته وتنعي حال الشعب المصري من رعاياه في ظل حكمه الفاسد فشنت حملات غاية في التطرف ضد الملك فاروق.

وعندما حدث حريق القاهرة في 26 يناير 1952 وهو لغز محير في التاريخ المعاصر كان أحمد حسين هو المتهم الأول في القضية فقد حاولت كل القوي السياسية تلصق به تهمة الحريق فالقصر يريد التخلص منه لاشتداده في الهجوم عليه وعلي شخص الملك والوفد يريد الصاق التهمة به حتى يداري القصور الواضح في موقفه الذي عرض القاهرة للحريق والإنجليز يرون في الحريق فرصتهم للقضاء على المقاومة الشعبية التي اشتدت ضدهم في منطقة القناة بعد إلغاء معاهدة 1936 من جانب مصر ومهما يكن الرأي في الحريق وهو الذي لم تتكشف خباياه حتى الآن فقد حاولت كل القوي إلصاق تهمة الحريق بأحمد حسين وحزبه حتى أفرج عنه بعد أن تغيرت الأوضاع تغيرا جذريا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 التي رأت في الأحزاب المصرية القائمة مثار خلافات ومنازعات ليست هي في حاجة إليها في تلك الفترة فطالبتها بتصحيح أوضاعها.

وربما كان ذلك من جانبها تمهيدا للإطاحة بالحياة الحزبية برمتها التي مرت بها البلاد في النصف الأول من القرن العشرين وأن تضع نهاية لها فأصدرت قرارها بحل الأحزاب والجماعات السياسية المختلفة في عام 1953 .

ولعل الموضوعات والقضايا التي أشرنا إليها في تاريخ حركة مصر الفتاة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى إلغاء الأحزاب المصرية في عام 1953 تفرض نفسها لكي تكون الجزء الثاني من هذه الدراسة حتى تتضح حركة مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية .