العرض الأخير للثورة المضادة.. تقدير موقف
بقلم : عبدالعظيم حماد
منذ ظهيرة يوم السبت الماضي أصبح واضحا لكل متأمل للمشهد السياسي المصري أن المأساة التي وقعت فجر ذلك النهار في ميدان التحرير سوف تكون العرض العلني الأخير لقوي الثورة المضادة,أو علي الأقل فهذا هو ما غلب علي ظن الكثيرين, ومنهم كاتب هذه السطور.
, ثم جاء قرار النائب العام بإحالة الرئيس السابق حسني مبارك ونجليه إلي التحقيق وبعده قراره بحبس الثلاثة علي ذمة التحقيقات, ليحول أغلب الظن هذا إلي يقين راسخ.
لقد كانت محاكمة الرئيس السابق هي المطلب الرئيسي للثوار, ومن ثم فقد كانت المحفز الأول لاستئناف التظاهر في ميدان التحرير, والتأهب للعودة إلي حالة الاعتصام المفتوح, وقد انتفي هذا الدافع بقرارات النائب العام ليلة الثلاثاء الماضي في حق مبارك ونجليه, وبما أن الثوار قرروا تعليق التظاهر في أول رد فعل لهم علي تلك القرارات, فقد انتفت أيضا فرصة قيادات الثورة المضادة للتخطيط لاستغلال ميدان التحرير في دس عناصرها بين الثوار لإحداث انقسام بين كتل الثوار أنفسهم, علي نحو ما حدث بين المؤيدين والمعارضين لحق الشرطة العسكرية في القبض علي ضباط القوات المسلحة العاملين والمتقاعدين الذين شاركوا في التظاهر بالمخالفة للقانون العسكري, وحرضوا علي الاعتصام المفتوح بالمخالفة لقرارات اللجان التنسيقية للثوار, وأخيرا بالمخالفة للقرارات العسكرية بحظر التجوال, وهي قرارات تتعلق بالنظام العام, وحظيت بالقبول الإجماعي منذ ليلة الثاني عشر من فبراير الماضي, كما انتفت بدورها فرصة قيادات الثورة المضادة في إحداث الصدع المبتغي عندها بين الثورة والجيش, وداخل الجيش نفسه.
ولكي نثبت أن هذا الذي ذهبنا إليه صحيح, فلنحاول جميعا أن نجيب عن السؤال التالي: هل سيتمكن أعداء الثورة من فلول النظام السابق, ومرتزقتهم والواقعين في تناقضات فردية مع مؤسسات النظام الانتقالي الحالي أن يقوموا بتحرك علني مؤثر بالاعتماد علي قواهم الذاتية, ودون اندساس بين جماهير الثورة للاحتماء بها؟!
أظن أننا جميعا نعرف الإجابة؟
لكن حتي ولو كان قرار التحقيق مع الرئيس السابق ونجليه, وحبسهم احتياطيا, قد تأخر قليلا فما كانت النتيجة التي خلصنا إليها من أن جمعة التطهير هي العرض العلني الأخير لقوي الثورة المضادة سوف تتغير, وهذه هي الأسباب:
||اكتشفت قيادات مليونية التطهير منذ منتصف ليلة الخميس مخطط الثورة المضادة, ورصدت عناصره.
|| ظلت جماعة الضباط المخالفين للقانون, وأنصارهم معزولة عن التيار الرئيسي العارم للمتظاهرين طيلة نهار الجمعة, وحتي منتصف ليلته.
|| الذين التفوا حول هؤلاء الضباط لحمايتهم من الاعتقال المشروع فعلوا ذلك لأسباب عاطفية وإنسانية, كما أخبرنا بعضهم في ندوة بالأهرام عصر السبت الماضي وليس اقتناعا بسلامة ومشروعية موقف الضباط.
|| كل من أفزعه مقتل مواطن وإصابة آخرين في فض اعتصام الضباط المخالفين, وأنصارهم, إنما كان يرفض أسلوب إراقة الدماء من حيث المبدأ, ومهما تكن الأسباب, وهم محقون في ذلك, لكنهم بالقطع ليسوا محقين في منع تطبيق القانون العسكري علي من يجب تطبيقه عليه, ومهما تكن الأسباب أيضا, ومع ذلك فقد حافظ الجميع علي مبدأ وحدة الجيش والشعب.
إذن فليس ممكنا أن تتكرر مأساة الفجر الدامي في ميدان التحرير, لأنه أصبح من غير الممكن تكرار سوء الأداء الذي صاحب تنظيم مليونية التطهير, والذي سهل لمخططي ومنفذي مؤامرة الثورة المضادة مهمتهم, كما أصبح من غير الوارد أن يتكرر سوء الأداء الذي صاحب عملية فض دعاة الاعتصام المفتوح, وقد كان الجميع شركاء متساوين في ذلك السوء في الأداء, إذ يبقي من غير المفهوم ألا تشكل لجان تفتيش علي مداخل ميدان التحرير كما كان يحدث طوال المرحلة الأولي من الثورة,
بحيث يمنع دخول من يرتدي زيا عسكريا ومن يشتبه في أنه مندس علي جماهير الميدان, لا سيما أن معظمهم معروف لقيادات الثوار, كما أخبرونا في ندوة الأهرام, وفي غيرها من المناسبات, ويبقي غير مفهوم أيضا عدم قيام الشرطة العسكرية بالشيء نفسه, وهو ما كانت تفعله من قبل في مرحلة الثورة الأولي. لكن أكثر ما يحير هو إحجام السلطات العسكرية عن القبض علي أولئك الضباط من منازلهم منذ اللحظة التي أظهروا فيها علنا نية مخالفة القانون العسكري, سيما أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة أصدر إنذارا بالسجن المشدد لكل من ينتحل زيا عسكريا نهار الخميس, وجعلته الأهرام عنوان صفحتها الأولي الرئيسي أو( المانشيت) بلغة الصحافة في اليوم التالي.
فإذا افترضنا أن عدم التحرك للقبض علي أولئك الضباط المخالفين مبكرا كان بدافع نبيل, وهو كذلك في الأغلب, فالذي لاشك فيه أن سرعة التحرك لتقديمهم إلي محاكمة عاجلة قبل يوم الجمعة لم يكن ليسبب كل هذا الضرر الذي نجم عن عملية فض اعتصامهم بين جماهير المتظاهرين, وهو ضرر كاد يصيب واحدا من أهم مكتسبات ثورة25 يناير.. أعني شعار ومبدأ وسياسة وحدة الجيش والشعب.
ولكي تطوي هذه الصفحة من سوء الأداء بالكامل, فهناك شروط نحتاجها فورا, أولها بطبيعة الحال اعتراف الأطراف كلها بهذه الأخطاء, والاعتذار عنها, وإعلان الالتزام بعدم تكرارها, ثم معالجة بؤر التوتر والجدل الدائر حاليا حول حساسية العسكريين من النقد العلني, أو الأحاديث حول حالات تعذيب المسجونين عند القوات المسلحة, أو حول قضية مثل قضية المدون مايكل نبيل, وغيرها من المحاكمات العسكرية, ولن يكون في الأمر مبالغة ـ في رأيي إذا قلنا إنه من السهل معالجة هذه البؤر, فقد أدي البدء في إجراءات محاكمة الرئيس السابق وابنيه, وكذلك البدء في إجراءات محاكمة من كانوا قد تبقوا من الرؤوس الكبيرة في نظامه إلي سقوط تهم التواطؤ التي كانت أكثر ما يثير الحساسية من النقد لدي المؤسسة العسكرية, أما نقد بعض السياسات فليس ضد الجيش ودوره المجيد في انتصار الثورة, وحفظ كيان الأمة, ولكنه يبقي في إطاره المحدود, وأما الحديث حول التعذيب فمن الواضح أنه ليس حديثا عن سياسة منهجية في السجون العسكرية, ولكنه حديث عن حالات بعينها..
حقا ما كان يجب أن تقع, ولكن لنفترض أنها وقعت بسبب أخطاء فردية ناجمة عن الثقافة السياسية فيما قبل ثورة25 يناير, وآن لها ألا تتكرر, وفي كل الأحوال فإن المصارحة أولا بأول هي أفضل ضمان لوحدة الجيش والشعب.
وتطبيقا لمبدأ المصارحة, فإن الطرف الآخر, أي الثوار والسياسيين, عليهم أن يدركوا أن من حق المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن تكون لديه معلومات وتقديرات وخطط ليس من المصلحة الوطنية, ولا من مصلحة الثورة إعلانها أو تنفيذها قبل وقتها.
شأن المجلس الأعلي في ذلك شأن كل الحكومات الانتقالية وغير الانتقالية, والديمقراطية وغير الديمقراطية في كل مكان في العالم.
وماذا إذن بعد أن تطوي هذه الصفحة؟
بالقطع سوف نكون قد وصلنا إلي النقطة التي يستحيل فيها علي الثورة المضادة القيام بفعل مؤثر مرة أخري, إلا أن ذلك لن يغلق الباب نهائيا أمام فلول النظام السابق من الصفوف الوسطي ومرتزقتهم من العمل في الظلام, كما أنه لن يردع أصحاب الخطط المناوئة لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية العصرية الذي قامت من أجله الثورة, من عرقلة هذا المشروع أو الانقضاض عليه إذا أمكن, كذلك فليس متصورا أن تتطوع القوي الإقليمية الخائفة من إلهام الثورة المصرية بوقف أنشطتها التي لابد أنها مستمرة.
وبالمناسبة يلزمنا هنا أن نقدم التفسير الذي قصدناه لتعبير ورد في مقال الأسبوع الماضي, وهو الرجعية العربية, فالمقصود هنا قوي مجتمعية رجعية تتعصب لمذاهب دينية, وتفسيرات بعينها, ولا تقبل التعددية فضلا عن عدم قبولها مبدأ الدولة المدنية الديمقراطية, وليس المقصود حكومات الدول الشقيقة التي تعاني هي نفسها من هذه القوي المجتمعية الرجعية, وهي قوي تمارس الإرهاب وتموله في مجتمعاتها وفي المجتمعات الأخري, ولم تكن قاعدة أسامة بن لادن إلا إحدي مظاهرها.
وبالمناسبة أيضا فإن تعبير الرجعية هو تعبير أقدم كثيرا من الفترة الناصرية, فقد وصف به الأستاذ العقاد الملك فؤاد تحت قبة البرلمان مثلا.
ما هو المطلوب إذن لتحصين الثورة, وتحصين مبدأ وحدة الجيش والشعب ضد بقايا الثورة المضادة, وحلفائهم المحتملين في الخارج, بعد أن انعدمت تقريبا فرص العروض العلنية لتلك البقايا, كما أثبتنا في السطور السابقة؟
للإجابة عن هذا السؤال لن نجد غضاضة في أن نكرر ونكرر أن أول وأقوي الضمانات هو التحرك بأقصي سرعة ممكنة لتجنب الانهيار الاقتصادي بالعودة إلي العمل والإنتاج, وإثبات جدارة الوضع السياسي والأمني, باستعادة الحركة السياحية والاستثمارات الداخلية والخارجية.
وتأتي بعد ذلك الحاجة إلي وقت مستقطع لالتقاط الأنفاس في الجدل السياسي والدستوري, وربما يكون مفيدا هنا أن يستجيب الكبار من رجال النظام السابق ممن لم تنلهم تهم الفساد وقتل المتظاهرين, ولم يلحقوا بزملائهم السابقين في مزرعة طرة, لندائنا لهم بأن يختتموا تاريخهم السياسي ودورهم في الخدمة العامة, ببيان يؤيدون فيه الثورة ومشروعها الديمقراطي, ويؤيدون فيه أيضا الدور التاريخي الذي يقوم به المجلس الأعلي للقوات المسلحة في قيادة هذا التحول, وإذا جاز تحديد أسماء, فإنني أوجه هذا النداء للسادة: عمر سليمان وأحمد شفيق وحسام بدراوي, علي وجه الخصوص.
إن مثل هذا البيان سوف يفت كثيرا في عضد الثورة المضادة.
أو هكذا أتصور.
المصدر
- مقال:العرض الأخير للثورة المضادة.. تقدير موقفالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات