الإمام الشهيد حسن البنا رجل دخل التاريخ من أوسع أبوابه
﴿..... إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)﴾ (هود)
بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
أيها الإخوة.. أنتم بفضل الله تسعون في كل اتجاه لأداء الواجب الذي أمركم الله به، وأمر جميع المسلمين به، وهو البيان لقضايا هذا الدين العظيم والدفاع عن الحق بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، كما أمركم القرآن.
وما مجلس الشعب إلا سبيل من هذه السبل، وطريق لتبليغ ما تريدون، وأنتم بحمد الله وفضله لم تسعوا حبًّا في منصبٍ ولا حرصًا على جاه، ولا ابتغاءَ منفعة دنيوية أو اكتساب وجاهة اجتماعية؛ لأن الله عزَّ وجلَّ صنعكم لغير هذا كله، والحمد لله في جميع الدورات التي اشتركتم فيها ومضابط المجلس شاهدة على الجميع بأنكم كنتم الأمناء على ما اختارتكم له الأمة، الأمناء في كل شيء؛ في الكلمة وفي الاستجوابات، وفي المناقشات، وفي التعامل مع غيركم من إخوانكم في المجلس وجميع أهل المجلس حتى المخالف في الرأي- لم يكن بينكم وبينه خصومة، ولقد تركتم بحمد الله- والتاريخ يشهد على ذلك أثرًا طيبًا وقدوةً حسنةً في هذه الفترة المضيئة من مجلس الشعب وحين رأيتم أن الأمور قد زادت عن الحد واختلط الأمر واعوجَّ الطريق اعتذرتم مشكورين بأنكم لا تستطيعون الحياة في هذه الأجواء، وآثرتم الانصراف إلى دعوتكم ورسالتكم التي كلفكم الله بها.
وجزئية المجلس تعتبر عندنا وسيلةً وليست غاية فهي ليست فريضة بل هي صورة من صور البلاغ إن وجدت فالحمد لله وإن لم توجد فالحمد لله أيضًا.
وقد يقول البعض إنكم أخطأتم: ففي أي شيء أخطأتم؟
ومقدمًا سامح الله الجميع وغفر لهم، وسامح الله الذين ظلموا والذين ساعدوا على الظلم، وسامح الله الذين تنكروا وفعلوا ما فعلوا، والأمر لله في البداية والنهاية يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء.
أما رسالتكم الكبرى التي رهنتم أنفسكم لها مع غيركم من العلماء الأجلاء والدعاة الأبرار في كل مكان فهي التي تحتاج منا إلى تذكير وإلى وقفة، نحن الإخوان نحب كل المسلمين على ظهر الأرض وندعو لهم بظهر الغيب فهم إخوة، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة، ندعو الله جميعًا لكل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ونتمنى من سويداء القلوب أن يزدادوا إيمانًا وأن يشرح الله صدورهم لهذا الحق، وأن تطمئن قلوبهم بذكر الله، وأن نحسن التوبة نحن وهم وأن يكون المصحف الشريف هو دستورنا جميعًا لكي نخرج من الظلمات إلى النور، وأن تكون عبوديتنا لله جميعًا، سواء كنا نسكن في ناطحات السحاب أم في الأكواخ لا يهم، من المثقفين أو الأميين أو الفقراء والعمال، نتمنى بحق وصدق أن يدخلنا جميعًا الجنة، كما نتمنى لغير المسلمين أن يشرح الله صدورهم، وأن ييسر أمورهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل وأن يجعلنا جميعًا متعاونين مترابطين متوادين متسامحين.
أما مهمتنا الكبرى فهي تحقيق العبودية لله عز وجل في أنفسنا، وفي بيوتنا، ومع أبنائنا، ومع أقاربنا، فهي كما ترون ميدان واسع نستطيع أن نعمل فيه شيئًا وأن نؤدي فيه واجبًا.
ولقد كان الإمام البنا يحرص كل الحرص على كل مَن يتصدر للدعوة إلى الله، وأولهم العلماء العاملين فكان يعتبر نفسه واحدًا من علماء الأزهر الشريف نقل مرة إلى مدينة قنا تغريبًا له عن القاهرة فنزل من القطار بحقيبته، واتجه إلى المعهد الديني الأزهري وهو لا يعرف شخصًا واحدًا منهم، لكن يعرفهم جميعًا بأنهم حملة خير ورواد فضيلة، وحراس للحق من ألف سنة وذهب إليهم والتقى بهم وكأنهم وُلدوا معه وولد معهم فأحبهم وأحبوه، وعاش معهم وعاشوا معه.
وكان له لقاء في كل سنة مع علماء الأزهر يدعوهم إلى المركز العام ويقيم لهم حفل شاي، ويتحدث إليهم ويستمع منهم، وكان مما قاله لهم في بعض اللقاءات: "أنتم الضباط ونحن الجنود، ائتوني بألفٍ من علماء الأزهر يحفظون القرآن ويعملون به، ويفهمون السنة ويفقهون السيرة، وأعطى كل واحد منهم ألفًا من الإخوان، هذه ألف ألف لو أوتيتها لفتحت الدنيا".
أما كيف يفتحها؟ ففي تقديرنا بالكلمة الطيبة والأسوة الحسنة، والأخلاق الفاضلة، والعلم والعمل وهذا هو دور العلماء الهام والحقيقي.
وهذا ما يجب علينا كاقتداء بإمامنا واحترام لديننا أن نوقر، وأن نحترم كل مَن يدعو إليه؛ فهو الأخ والحبيب والصديق وكان أيضًا يحترم بسعة أفقه- رحمه الله- جميع الجمعيات التي تعمل للإسلام ولو جزئيًّا فهو يشجعها ويؤاخيها ويعطى في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، فبينه وبين الجميع خيوط ممتدة من حسن الخلق وأدب التعامل.
أيها الإخوة.. خلق الإنسان- كل الإنسان- لعبادة الله، جاء في الحديث القدسي "يا عبادي.. إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستعين بكم على دفع أمرٍ عجزت عن دفعه ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، ولكني خلقكتم لتعبدوني طويلاً، وتذكروني كثيرًا، وتسبحوني بكرةً وأصيلاً"، إن هناك في القرآن جوانب من أظهر الأشياء لكنا نغفل عنها، أو نمر بها مرَّ الكرام، وهي أن هذا الكون بكل ما فيه ومَن فيه عابد ومسبح لله عز وجل، وفي أكثر من آيةٍ من القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (الإسراء: من الآية 44) ويقول سبحانه ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)﴾ (الجمعة).
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)﴾ (الحج).
ويقول الحق تبارك وتعالى يوم أن خلق السماوات والأرض: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾ (فصلت).
مَن الذي بقى وتخلَّف في الاستجابة؟ إنه الإنسان الذي أودع الله فيه العقل بل وفطره على هذا الدين هو الشاذ الوحيد بين أمم الأرض، سيدنا نوح يدعو قومه ليلاً ونهارًا فلم يستجيبوا ولم يستمعوا ويرفع شكواه إلى ربه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)﴾ (نوح).
إنه الإنسان يأتيه الرسول تلو الرسول وكلهم يقولون لهم ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: من الآية 59)، وهذه العبودية لله وحده هي العهد الوثيق والقديم الذي أخذه الله على بني آدم وسجله بقلم القدرة في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصلية، منذ وضع في رءوسهم عقولاً تعي، وفي صدورهم قلوبًا تخفق، وفي الكون حولهم آيات تهدي ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)﴾ (الأعراف)، ويقول سبحانه وتعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾ (يس).
وانظر إلى سيدنا موسى في القرآن وقصته مع فرعون وما نزل بالسحرة الذين يقال إنهم بلغوا عشرة آلاف يوم أن قالوا لا إله إلا إلله آمنا برب هارون وموسى كيف فعل بهم؟ يقول ابن عباس رضي الله عنهما فيهم "أصبحوا سحرة وأضحوا مؤمنين وأمسوا شهداء"، وإنها لنقلة كبيرة فسبحان مقلب القلوب ومانح الفضل ومعطي ما يشاء لمَن يشاء، تأمل في القرآن الكريم من أوله إلى آخره لا تردده من غير تدبر ولا خشوع بل كما قالوا: اقرأ وتدبر واعمل.
لا بد من الثلاثة، وهذا هو رسول الله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تعلمون جميعًا ما فعلت معه قريش والأذى الذي نزل به، والشدائد التي مرَّ بها هو وأصحابه الأبرار، وفي المدينة خداع اليهود وغدر اليهود ومكر اليهود لم ينقطع إلا بقطع دابرهم وإبعادهم عن المدينة المنورة.
ولا عجبَ أبدًا بل العجب ألا يكون- أن المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بالعهد الذي بينهم وبين ربهم، والذي أخذه عليهم وهم في أصلاب الآباء، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية أو التقليد. ولا عجب أبدًا، ولا غرابة- بل العجب ألا يكون- النداء الأول لكل رسول ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: من الآية 59).
أيها الأحباب.. هذه حقيقة مهمتكم بالتعاون مع غيركم من الأبرار العلماء والدعاة على ظهر الأرض، فأين هي هذه النقطة التي شغلتم بها من هذه الأمانات التي تسع السماوات والأرض، ومن جميع المجالس ومن جميع المؤتمرات، ومن جميع الندوات، إن لم تكن هذه وسيلة من الوسائل الموصلة إلى الغاية الكبرى، ومن هنا كان شعاركم (الله غايتنا)، وقد أطلنا في هذا الجانب من الموضوع لبيان هذه التكاليف الثقيلة التي تحتاج إلى إعداد وتربية صحيحة سليمة للعقل، وإعداد للروح، وتقوية للقلب وإيمان عميق راسخ يعين على حمل هذه الأمانة التي قال الله فيها ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72)﴾ (الأحزاب).
إنها المهمة التي يجب الإعداد لها، فإنها واجب ثقيل وحمل كبير لن تنهض به إلا بتحقيق هذه المعاني التي كان الإمام البنا رحمه الله دائمًا يرددها على مسامع إخوانه وهي للعالم الأديب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله يقول: "إن لله عبادًا اختصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل، فإذا طرح أحدهم للشهوات وزهد فيها واستقام على ذلك في عقد ونية وقوة وإرادة فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة كما يحمل البطل الأروع الأسلحة في معاركه الدامية، هذا يُتعلَّم منه فن، وذاك يُتعلَّم منه فن آخر، وكلاهما يُرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعزب من الحياة فأول فضائله الشعور بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة" وحي القلم جـ2.
والزورق الذي ينطلق بنا بين هذه العواصف وفوق هذه البحار ويعدنا الإعداد العظيم هو الإخلاص.. يقول تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: من الآية 5) والإخلاص وحده.
ويقول الإمام البنا- رحمه الله- في هذا الركن الذي يجب أن نؤمن به وأن نعمل للوصول له من مجاهدة ومصابرة وضبط لحياتنا كلها.. يقول: "وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظرٍ إلى مغنمٍ أو جاه أو لقب أو تقدُّم أو تأخُّر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعة ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام).
ويعد الإخلاص بحق من أهم مكونات شخصية الداعية الذي يستعذب كل جهاد وكفاح وعمل في سبيل دعوته؛ لأن الإخلاص يبنى عليه قبول العمل من عدمه وإن من أخطر ما يؤثر في بناء شخصية المسلم، ويقلل أو يزيد من فاعليته وحركته من أجل بناء نفسه وأمته وتوطيد أركان دعوته؛ درجة وضوح فكرته ودرجة إيمانه بها وإخلاصه لها وتفانيه في سبيلها، وهذا الوضوح الذي نقصده يحدده الفهم الدقيق والإيمان العميق والحب الوثيق والعمل المتواصل والوعي المتكامل.
ولا بد من إخلاص يليه العمل الصالح والجاد، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾ (الكهف) ذلك لأن الإخلاص هو لب العبادات، وهو روحها وهو ميزانها الدقيق، وبدونه يصبح العمل كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
أيها الإخوة:
يجب أن نعلم أن الداعية غير الخطيب، وغير المتحدث فحسب، وغير الذي يعظ الناس وكفى، بل هو يجمع هذه الأشياء جميعًا ويضيف إليها الثمرة المرجوة منه، فالداعية مؤمن إيمانًا عميقًا بفكرة يدعو إليها بكل الوسائل وتستولي عليه ويخدمها باهتماماته وكل ما يستطيع من وسائل الدعاية لها ثم إن دعوته تعيش في نفسه وتنبض بها عروقه وتتخلل جميع مشاعره، وهو طبيب اجتماعي زائر لكل مريض يعالج أمراض النفوس ويصلح أوضاع المجتمع الفاسدة، وهو موجه ومعلم يقف نفسه على تعليم الآخرين وإصلاحهم ويرهن نفسه لذلك، فالرحمة تتدفق من عينيه وتجرى المواساة على لسانه ويديه، وهو أخ للغني والفقير على السواء.
إن الدعوة الإسلامية لا تتحدث عنها من فراغ واصلت طريقها وأصبح لها تاريخ وصارت تملأ الشرق والغرب ويقبل عليها كل مَن يرجو الله والدار الآخرة، وهي لن تموت أبدًا بفضل الله وبفضل رجالها المخلصين ودعاتها المؤمنين بها الذين تتسع قلوبهم للقريب والبعيد والمحسن والمسيء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا رحمة مهداة".
والحمد لله رب العالمين..