الإمام حسن البنا يكتب عن دور مصر والعرب نحو القضية الفلسطينية
تحت عنوان: فلسطين العربية المسلمة لا بد أن نعمل لإنقاذها
ذلك حق مصر الطبيعى وواجبها الذى لا محيص عنه .. كتب
يسرنا أن نرى رجال مصر السياسيين يقومون بقسط وافر فى الدفاع عن قضية فلسطين الشهيدة. ذلك أن معالى علوبة باشا وكثيرين من رجال مصر العاملين عقدوا اجتماعا خاصا للنظر فى واجب مصر نحو الشقيقة، وإن كانت المهمة تستدعى منهم نشاطا عمليا أضعاف هذا النشاط القولى وقد تكلموا عن خطأ السياسة الإنجليزية فى تحيزها لليهود وتمسكها بوعد "بلفور" وإنكارها لخدمات العرب وتضحياتهم فى الحرب العالمية. على أننا نعرف أن السر فى تمسك إنجلترا بهذه السياسة أن "جاسوسا يهوديا" أطلع إنجلترا على الغازات السامة التى كانت تستعملها ألمانيا فى الحرب العظمى، وإزاء ذلك وعد الوزير الإنجليزى هذا اليهودى بتأسيس وطن قومى فى فلسطين. ولما كانت جميع القوانين المدنية تسمح للجار بحق التدخل فى سياسة جاره (وهذا ما يسمونه بالشفعة)، فكان جديرا بمصر أن تعرض لهذه المسألة وتهتم لها وتتدخل إلى حد بعيد.
على أن المسألة ليست جيرة فقط، بل مسألة وحدة بين العرب والمصريين، وحدة فى الدين واللغة والدم والمصاهرة، ولا تعترف بهذه التقسيمات الجائرة الشاذة التى أملتها الأهواء السياسة الأوربية الاستعمارية ويشهد على ذلك تاريخ "إبراهيم باشا".
والشاهد على ذلك أن القاهرة كانت عاصمة الخلافة، وهاهى ذى قبور الأولياء والأئمة العرب تشهد على هذه الرابطة القوية.
وإذا نظرنا إلى المسألة من ناحية السياسة الخارجية لوجدنا لمصر الحق فى التدخل بالقوة المسلحة لمنع هذا التقسيم.
ونحن نسائل إنجلترا: لماذا تدخلت فى مسألة "السوديت" الأقلية الألمانية فى تشكوسلوفاكيا؟ ومن المعروف أن إنجلترا بعيدة كل البعد عن أوربا الوسطى، ولكنها تتدخل لمصلحة أصحاب البنوك اليهود بإنجلترا.
على أن الحالة فى فلسطين على عكس الحالة فى أوروبا، فهذا الشعب العربى له الأكثرية وهم أهل البلاد الأصليون، فكل أجنبى يجب أن يخضع لنظام العرب، ولا يسعنا -نحن الإخوان المسلمين- إلا أن نلح على الحكومة المصرية بوجوب التدخل فى هذه المسألة تدخلا جديا حازما، وقد ثارت من ناحية أخرى الحكومة العراقية والسورية وبعض الجارات.
كما أننا نحذر إنجلترا من سوء العاقبة، فهى بدفاعها عن اليهود تعجل بانفجار بركان السخط الإسلامى والعالمى على السياسة الإنجليزية.
ومن الغريب أننا نسمع كبير أساقفة "كانتربرى" يهدد بوقوع حروب عالمية قريبة لا تبقى ولا تذر، حفظا لكيان عصبة الأمم التى سجلت أكبر المخازى لسياسة إنجلترا.
وأين تلك العصبة التى أهملت حق مصير الشعوب وتركت لإنجلترا حق تعذيب الشعوب وإبادتها وتوزيع الأراضى حسب ما تراه؟
هل نصت على ذلك نصوص الانتداب؟
يقول كبير الأساقفة للكنيسة الإنجليزية: ربما احتجنا لحرب تقضى على الجيل الحاضر والجيل المستقبل؛ لأننا فى حاجة إلى حرب ضروس تشيد "عصبة الأمم" كما كانت حاجتنا للحرب العالمية 1914 لإنشاء هذه العصبة.
لعل السر فى سياسة إنجلترا اليهودية قد أصبح غير مستقر بعد هذا الخطاب، وبعد أن شهد العالم أكبر جريمة "إنسانية" تمثل على مسارح السياسة المخزية الإنجليزية.
إنجلترا تريد أن تدفع العالم إلى حرب تقضى على جيلين؛ لأن يهود تشكوسلوفاكيا ويهود فلسطين يحرسون طريق الإمبراطورية البريطانية.
نعم تخشى إنجلترا ألمانيا فى البلقان إلى البحر الأسود إلى آسيا، وتخشى إنجلترا الإمبراطورية العربية التى تمتد من المحيط الأطلانطيقى إلى المحيط الهندى.
فلم تكتف بتقسيم جزيرة العرب إلى ولايات وإمارات وممالك تحت لوائها، فجاءت بالحرس اليهودى يسهر على المحافظة على أنابيب البترول الذى يغذى الأسطول الإنجليزى والطيارات الإنجليزية.
نعم تجد فى إنجلترا صاحب البنك ومدير الشركة والسماسرة والمقاولين من اليهود الأغنياء، فكيف لا يخدمون اليهود الفقراء الذين يخدموهم للحصول على المواد الأولية والدفاع عن المواصلات الإمبراطورية.
هذه هى السنة السياسية الإنجليزية منذ حاربت إمبراطورية "محمد على" والوحدة بين مصر وفلسطين.
من المفروض أن اليهود أقلية فى كل أمة من أمم العالم. وإذن فإنجلترا أحد شيئين: إما أنها يهودية. أو أن الشعب الإنجليزى مستعبد لخدمة اليهود. وستكون إنجلترا مسؤولة عن تعكير صفو العالم لتدخلها فى سياسة الأمم تحت ستار "الأقليات"، "عصبة الأمم" إلخ.
ومما يؤسف أن "الأمير عبد الله" تقدم أخيرا باقتراح لم يرض أحدا لا من الجانب العربى -وهو صاحب الكلمة- ولا اللجنة الإنجليزية.
ولعل الأمير قد نسى خداع إنجلترا لوالده المرحوم "السلطان حسين" وأخيه "الملك فيصل".
و"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". وإن فى ذلك لعظة للمتقين[١]
وجوب انسحاب الحكومات العربية
من هيئة الأمم المتحدة
أرسل فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين إلى سعادة الأمين العام للجامعة العربية الكتاب التالى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
الآن وقد جد الجد، وبدأت حكومات العرب وشعوبهم تتأهب لأقدس خطوة عرفها تاريخ الجامعة العربية فى إنقاذ فلسطين الشقيقة، قرر مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين فى جلسة مساء الأحد 27 من ذى القعدة 1366 الموافق 12 من أكتوبر 1947 أن يطالب الجامعة العربية الموقرة ودولها الكريمة باتخاذ الخطوات التالية:
أولا- وجوب انسحاب الحكومات العربية من هيئة الأمم المتحدة بعد أن ثبت أنها لا تعدو أن تكون ستارا قانونيا لتنظيم المطامع الاستعمارية بين الدول الكبرى.
ثانيا- مناشدة جميع الحكومات ذات الضمير الحى والمثل الكريمة فى كافة أنحاء العالم -ولاسيما الدول الشرقية والإسلامية- أن تنسحب من هذه الهيئة الخانعة وقاية لشرف هذه الدول وكرامتها من أن تكون مطية لتقنين الظلم وتنظيم الاستعمار.
ثالثا- مبادرة الحكومات العربية بسحب الجنسية الوطنية من أبناء الجالية اليهودية فى كل هذه البلاد إذا تخلفوا عن مسابقة أبناء البلاد مسلمين ومسيحيين فى حمل نصيبهم الوطنى العربى من العمل لإنقاذ فلسطين وعروبتها بالأنفس والأموال.
هذا يا صاحب السعادة أفضل ما تتخذه الجامعة والحكومات العربية ليستقيم به قرارها الحاسم فى إنقاذ فلسطين الشقيقة.
وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول عظيم الاحترام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[٢]
إلى السادة الأكرمين
أعضاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية
أيها السادة الفضلاء الأكرمون: إن مصر الثائرة الغاضبة لتحييكم وتسعد بمقدمكم وتفخر بجهادكم وتسأل الله لكم من أعماق القلوب كل توفيق وتأييد، وإن أمامكم اليوم أيها السادة لعملا كثيرا.
ومنذ امتدت أصبع الاستعمار إلى الوطن العربى من الخليج إلى المحيط إلى اليوم وقضية هذا الوطن واحدة هى الحرية والوحدة.
وقضية فلسطين التى أثارت غضبة العرب اليوم حلقة من حلقات هذه السلسلة سلسلة العدوان المتواصل الجرىء الظالم على هذا الوطن، وهناك قضية وادى النيل وقضية المغرب العربى بأقسامه الثلاثة: تونس والجزائر ومراكش وقضية ليبيا، ويلحق بهذه القضايا الأربع ما هو من جنسها تماما مما يتصل بالعالم الشرقى والإسلامى، وهو عالم تربطنا به العقيدة والمصلحة معا وإلا لم يكن عربى الدم والجنس.
وعلى الجامعة العربية الناشئة الوليدة أن تنهض بهذه الأعباء الثقال جميعا، ونعتقد أن الجامعة العربية -رغم حداثة عهدها- ستنهض بها على خير حال وسيوفقها الله إلى النجاح الكامل فى هذا الامتحان الرهيب إن شاء الله.
وقضية الساعة (قضية فلسطين) قد انتهى الأمر فيها من دور النقاش والجدل إلى دور الكفاح والعمل، واستنار الطريق كأوضح ما يكون أمام العاملين فليس هناك عذر لمتردد.
وصار من الواجب المحتوم على العرب والمسلمين جميعا وعلى الجامعة العربية بوصفها القيادة العامة لهذه الشعوب أمور ثلاثة:
1- مصارحة أعداء البلاد فى الداخل والخارج بالخصومة حتى يتحدد موقفهم من الشعوب وموقف الشعوب منهم، واعتبار الصهيونية مبدأ هداما شديد الخطورة على الأوطان العربية، ومؤاخذة كل صهيونى بجرمه بهذا الاعتبار، وإشعار الدول التى ناصرت الصهيونية هذه المعانى من السخط والألم بكل الوسائل الممكنة وهى كثيرة؛ كمقاطعة بضائعها، والتخلص من رءوس أموالها، وسلب حق الإقامة فى ديارنا من رعاياها، وسحب امتيازات شركاتها وعدم التعاون معها فى مصالحها المادية أو الأدبية المتصلة بنا وهكذا.
2- وبذل المال من الحكومات ومن الشعوب. والمال بحمد الله كثير والنفوس مستعدة للبذل، وإنما ينقصنا تركيز القيادة وحسن التنظيم وتنسيق جهود الهيئات، وإننا لنرى مظاهر هذا الاتجاه بادية بين الهيئات والجماعات، وعلى الجامعة والحكومات أن تعنى بتشجيع هذه الجهود حتى يتكاتف الجميع على التركيز والتنظيم المنشود.
3- وتجهيز الرجال. والنفوس العربية والإسلامية -بحمد الله- لا زالت تحن إلى الجهاد، وترغب الموت فى سبيل الله وتؤثره على هذه الحياة الذليلة، وتتمنى الشهادة فى سبيل الحق، والعدد كثير ولن نشكو فى يوم من الأيام القلة. وعقبة الحصول على السلاح ميسرة مذللة إذا اتجهت إليها الهمم بصدق وحزم.
لقد أضعنا وقتا كثيرا فى التردد وحسن الظن ولا نريد أن نتلاوم على الماضى، فلم تكن الفضيلة عيبا فى يوم من الأيام. ولأن نكون فضلاء وبيدنا الحق أولى من أن نكون معتدين على الباطل، ولكن يكفينا ما مضى ولنتقدم بعزيمة اليوم. وإن النفوس لترقب هذا الاجتماع المبارك للجنة السياسية للجامعة بشغف ولهف، ونرجو أن يسفر عن هذا التحديد والتوجيه ورفع راية العمل والإذن بالجهاد. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف: 21][٣]
بيان للشعوب العربية
أيتها الشعوب العربية والإسلامية:
الآن وقد وصلت قضية العروبة والإسلام فى فلسطين المباركة إلى ما وصلت إليه، لم يكن بد من أن تصارحكم الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين -وهم الذين احتضنوا هذه القضية وكافحوا فى سبيلها الكفاح المرير منذ عشر سنوات أو يزيد- بهذا البيان، وتطلب إليكم- والكلمة لكم الآن- أن تهبوا أجمعين وتعملوا جاهدين على كسب هذه المعركة الفاصلة فى تاريخكم. ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 35]. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾[محمد: 11].
الخطر الصهيونى
أيتها الشعوب العربية والإسلامية:
إن الصهيونية التى كشفت القناع اليوم عن مقصدها وأغراضها ليست حركة سياسية قاصرة على الوطن القومى لليهود أو الدولة المزعومة بالتقسيم الموهوم، ولكنها ثمرة تدابير وجهود اليهودية العالمية التى تهدف إلى تسخير العام كله لحكم اليهود ومصلحة اليهود وزعامة مسيح صهيون، وليست دولتهم الخيالية التى يعبرون عنها بجملتهم المأثورة "ملك سليمان إسرائيل من الفرات إلى النيل" أو فى عرفهم إلا نقطة ارتكاز تنقض منها اليهودية العالمية على الأمة العربية دولة فدولة، ثم على المجموعة الإسلامية أمة بعد أمة. أما أمم الغرب فى أوروبا وأمريكا فقد تكفل الذهب اليهودى والإغراء الصهيونى بتوجيه زعمائها ورؤسائها وحكامها حيث يريد.
هجمة الصهيونيين:
وإن الصهيونية التى لا تتقيد بخلق ولا فضيلة ولا تؤمن بشريعة ولا قانون، إذا مكن لها فى الشرق -ولن يكون بإذن الله- فلن تقوم فى أية دولة من الدولة صناعة ناجحة ولا تجارة رابحة، وستقضى المنافسة الصناعية والتجارية على كل أمل لهذه الأمم العربية والإسلامية فى التقدم والنهوض، هذا فضلا عن الفساد الاجتماعى الذى تحمل جراثيمه هذه الرؤوس والنفوس الطريدة من كل دولة ومن كل أمة وكل فكرة وكل دعوة، مما يشيع فى هذه المجتمعات الكريمة أسوأ معانى الإباحية والإلحاد والتحلل وكل خلق فاسد مرذول.
ولقد تكشف هؤلاء الصهيونيون عن أبشع معانى الهمجية بهذه الفظائع التى ارتكبوها مع عرب فلسطين: من الغدر، والخيانة، والجبن، والنذالة، والاعتداء على النساء والشيوخ والأطفال، والتمثيل بجثث القتلى، والإجهاز على الجرحى، وعرض المحصنات الحرائر عاريات فى الطرقات والشوارع، وانتهاك حرمة المعابد والأديار والمساجد، ورفع علم الصهيونية المنكوس على أهلة المآذن إلى آخر هذا السجل من المخازى التى لا تغيب ولا تنسى، ولن يفلتوا من عقابها أبدا.
مؤامرة الإنجليز
أيتها الشعوب العربية والإسلامية:
لقد تواطأ الإنجليز مع اليهودية العالمية منذ سنة 1917 على الأمة العربية وسجلت الحكومة البريطانية على نفسها هذا التواطؤ بوعد بلفور المشئوم، ثم اغتصبت البلاد من أهلها العرب عقب الحرب العالمية الأولى وحكمتها باسم الانتداب الباطل، فجارت فى حكمها، ويسرت لليهود كل السبل ليتملكوا الأرض وينشئوا المستعمرات، وأغرتم بالتسلح والتدريب والتحصين وهيأت لهم وسائل ذلك كاملة، وأمدتهم بالسلاح والذخيرة، وسمحت لهم بإنشاء المعامل وإقامة المصانع ظاهرة، ومستورة فى تل أبيب وغيرها- وكل هذا فى الوقت الذى كانت تأخذ فيه العرب أشد المؤاخذة بأتفه الأسباب، وتحكم بالإعدام على كل من تقع عليه شبهة حمل السلاح أو حيازة السلاح.
حتى إذا تم لها ولليهود ما أرادت، فاجأت العالم بإعلان التخلى عن الانتداب بعد ثلاثين سنة تجسم فيها الظلم والجور والتضييق على العرب والممالأة والمحايلة والتدليل لليهود.
خديعة ساسة العرب
ثم زجت السياسة البريطانية الماكرة الملتوية بهذه المؤسسة الناشئة الحديثة العهد بمناورات البريطانيين ومزالق سياستهم فى هذا المأزق الحرج (مأزق اقتراح التقسيم والموافقة عليه) مع وقوفها موقف المتفرج تتلهى بتخبط الساسة وتنظر الضحايا وأشلاء القتلى وأنين المجروحين، ولم تكتف بذلك، بل خدعت ساسة الدول العربية وخدرت أعصاب أعضاء الجامعة العربية، حتى يفلت منهم الوقت، وتضيع الفرصة، وتتعقد الأمور، وتواجههم الحوادث بالأمر الواقع، وأوهمتهم أن الأمر سيتم صلحا بعد مناورات عسكرية طفيفة، وأن الأساليب السياسية ستغنيهم عن الجهاد الصحيح والخطط الحربية، وأن القضية ستحل فى قاعات هيئة الأمم المتحدة لا فى ساحات القدس وحيفا ويافا وتل أبيب ومستعمرات الجنوب والشمال، وأن حكومة الانتداب ستنهض بالتزاماتها كاملة فى صيانة الأمن والقضاء على محاولات عصابات الشر إلى آخر يوم من أيامه.
واطمأن رجالنا الرسميون إلى هذا الأمل فعالجوا الأمور على مهل حتى حدثت القارعة ووقعت الواقعة، وسقطت حيفا ويافا، واشتعلت القدس، وامتد الخطر إلى كل قرى الشمال، وصدم رؤساء الحكومات العربية ورجال الجامعة العربية بما لم يكونوا يحتسبون، واصبحوا يحملون أمام الله وأمام التاريخ وأمام الشعوب أثقل تبعة حملها حاكم أو زعيم.
فرصة العمل لم تضع أيتها الشعوب العربية والإسلامية:
إن هذا الذى حدث لم يكن غائبا عنا ولا مجهولا لدينا ولا غريبا فى حد ذاته، بل كان متوقعا فى أى لحظة من اللحظات، والحرب سجال واليهود يستعدون لهذا. ولقد صارحنا بهذا كل المسئولين اليوم منذ ثلاثين عاما أو تزيد، ولفتناهم إلى أهمية عامل الوقت ووجوب انتهاز الفرص وبذل كل مجهود فى الإعداد والاستعداد والعمل. ومهما يكن من شىء، فلا زال فى الوقت بقية، ولا زال شراع السفينة على سطح الماء يهيب بإنقاذها من الغرق، والعرب على ذلك قادرون بتأييد الله متى صدقت عزائمهم، واجتمعت كلمتهم، وسلكوا سبيل الجهاد الصحيح الذى لا خير إلا فيه ولا نجاة إلا به، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ*إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ*وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين﴾[آل عمران: 139-141].
إعلان الجهاد المقدس
ولقد أعلن شيخ الأزهر وكبار علمائه وأئمة المسلمين وشيوخهم فى كل قطر "أن إنقاذ فلسطين قلب العروبة والإسلام واجب دينى على المسلمين عامة فى كل نواحى الأرض، يستوى فيه الملوك والأمراء والرؤساء والحكومات والشعوب، وأن السبيل إلى ذلك هو أن تتكاتف الحكومات الإسلامية والعربية على أن تتخذ –وفورا- كل ما تستطيع من الوسائل الفعالة الحاسمة عسكرية وغير عسكرية لإنقاذ فلسطين". كما أعلنت هذه المعانى بلسان الآباء المسيحيين ورعاة الكنائس على اختلاف مذاهبهم، ووردت الإشارة إليها -بل التصريح بها- فى بيانات رؤساء الدول العربية ورجال الحكومات الرسمية أو الشعبية.
وبهذا أصبح من الواجب المحتوم على كل حكومة عربية أو إسلامية وكل شعب عربى أو إسلامى مواصلة الجهاد بكل وسائله حتى تحرر فلسطين، ويقضى على عصابات الشر من الصهيونيين، وتنهزم اليهودية العالمية الباغية فى الأرض المباركة.
تسليم فلسطين خيانة:
وإذا كانت هيئة الأمم المتحدة أو بعض الحكومات تريد أن تتخذ من الموقف الحاضر ومن ظروف الدول العربية سببا للضغط عليها ولقبول هدنة عسكرية، أو وصاية دولية، أو مشروع آخر غير الاعتراف باستقلال فلسطين العربية الموحدة وسيادتها، وإذا كانت بعض الحكومات تميل إلى أن تنتصر لهذا الرأى لتلقى عن أكتافها عبء الكفاح والجهاد وتدع مصير فلسطين للأقدار، فإننا نعلن أن معنى ذلك تسليم فلسطين والقضاء على العروبة فيها وتمزيق شمل أهلها، وتمكين الصهيونيين من إعلان دولتهم واستكمال عدتهم وزيادة عددهم. وإن قبول مثل هذه الحلول أو الموافقة عليها خيانة عظمى لأمانة فلسطين أولا، ولأمانة الشعوب العربية والإسلامية بعد ذلك، وإنه لا سبيل إلا الكفاح المرير والجهاد الدائب حتى يفتح الله بيننا وبين الناس بالحق وهو خير الفاتحين.
مطالب للجامعة والحكومات:
وإن الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين لتطالب الجامعة العربية باتخاذ الخطوات الآتية فورا:
1-إعلان الاعتراف بفلسطين كلها (بحدودها المعروفة برا وبحرا) دولة عربية موحدة حرة مستقلة ذات سيادة، وأن كل قرار يخالف ذلك من أية جهة يعتبر عدوانا على الحكومات العربية والأمم العربية جميعا. وإن عصابات اليهود المسلحة من الهاجاناه والأرجون وشتيرن وغيرها قراصنة معتدون مطالبون بما اقترفوا من جرائم وما أراقوا من دماء، وأن الصهيونية الآثمة لا حق لها فى شبر واحد من أرض فلسطين.
2-مصارحة الشعوب بأنها قد أصبحت فى حالة حرب عنيفة مع الصهيونية المعتدية الآثمة، ومع اليهودية العالمية التى تؤازرها وتمدها بالمال والرجال والسلاح والنفوذ، وإعلان الجهاد المقدس واتخاذ التدابير التى يقتضيها هذا الوضع الجديد بفتح معسكرات التدريب للمتطوعين، والحصول على الأسلحة والذخائر، وإقامة المعامل والمصانع الحربية بأية طريق، بحشد القوات النظامية الكافية، وتكييف الحياة المدنية بالصورة التى تقتضيها حالة الحرب.
3-دعوة الحكومات والشعوب الإسلامية -وفى مقدمتها تركيا- للاشتراك مع الجماعة العربية فى هذه السبيل.
4-تحديد الموقف من اليهود المحليين لتحريم منح الجنسية المحلية لأى يهودى يعيش فى وطن عربى أو إسلامى لا يحمل جنسيته، بوضع أمواله وأملاكه تحت الحراسة، ومعاملته كما يعامل رعايا الأعداء، ومراقبة نشاط اليهود الذين يحملون الجنسية المحلية مراقبة دقيقة، وسحب هذه الجنسية من كل من يثبت عليه منهم أنه يساعد الصهيونيين بأى نوع من أنواع المساعدة أو يتصل بهم أى اتصال.
واجب الشعوب
أيتها الشعوب العربية والإسلامية:
إذا آثرت الحكومات القعود والتردد، ولم يكفها ما فات، ولم ترد أن تتدارك الموقف وتواجه الحوادث بالسرعة والحزم الواجبين، فإن الهيئة التأسيسية تهيب بكل شعب عربى وبكل أمة مسلمة أن تتخذ من جانبها هذه الخطوات:
1-إعلان استقلال فلسطين العربية وسيادتها وإعلان الجهاد ضد الصهيونية واليهودية العالمية.
2-إنشاء قيادة عسكرية شعبية لتنظيم التطوع والتسليح وتحويل حياة العبث واللهو إلى حياة جد وعمل وإيمان وجهاد وحقوق.
3-إنشاء هيئة شعبية اقتصادية لتنظيم مقاطعة اليهود المحليين مقاطعة شاملة.
4-إنشاء هيئة شعبية جامعة تضم كل الهيئات والأحزاب والطوائف لتنظيم حركة العصيان المدنى إذا اعترضت الحكومات سبيل هذه الخطوات.
الإخوان طليعة المجاهدين
وإن مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين -وقد وكلت إليه الهيئة التأسيسية العمل على إنفاذ هذه القرارات- سيراقب فى لهفة وأمل خطوات الشعوب والحكومات، فإن أدت واجبها كاملا فذاك، وإلا فحسب الإخوان المسلمين أن يكونوا الطليعة الفادية المجاهدة، فإن عاشوا عاشوا سعداء فى ظل القوة والكرامة، وإن ماتوا ماتوا شهداء فى ساحات الشرف والبطولة. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الروم: 4، 5].
والله أكبر ولله الحمد[٤]
المصادر
- ↑ مجلة النذير، العدد (3)، السنة الأولى، 14ربيع الثانى 1357ه- 13يونيو 1938م، ص(19-20).
- ↑ جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (485)، السنة الثانية، 18 محرم 1367ه- 1 ديسمبر 1947م، ص(2).
- ↑ جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (551)، السنة الثانية، 6 ربيع الثانى 1367ه- 16 فبراير 1948م، ص(2).
- ↑ جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (631)، السنة الثالثة، 11 رجب 1367ه- 20مايو 1948م، ص(2).