السعودية سيرة دولة ومجتمع (2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الفصل الخامس:عقل التنوير

" ليس في المملكة علمانيون يطالبون بفصل الدين عن الدولة .. كل إنسان في المملكة يدرك أن الدولة قامت على الدين ولن نبقي لحظة واحدة إذا فصلت عنه .." غازي القصيبي

لقد ظل الفكر الديني من أقوى عوامل مقاومة التغيير لعقود عدة، فلم يتعايش العقل الفقهي مع مشكلات التحديث السعودي إلا ككابح لحركته نحو الحياة العصرية الجديدة

على الرغم من أن المجتمع بفئاته المتعددة أخذ مسارات مخالفة لخطاب الوعاظ والمؤسسات الدينية في غير مرحلة تاريخية ولهذا أصبح في السنوات الأخيرة الحديث عن التشدد الديني من أولويات الإصلاح الفكري ، لأن المجتمع مع تطورات التنمية المادية لم يحدث لديه تطور اجتماعي وفكري وسياسي .

تتضمن الفصول السابقة الإجابة عن الكثير من تفاصيل بعض المتغيرات التي تفسر هذا الخلل ، لكن السؤال الذي ظل محيرا في بعض جوانبه ، وهو لماذا لم تحدث محاولات تنوير ديني محلي خلال أكثر من نصف قرن على الرغم من هذه التطورات !؟ ما عوائق التنوير الفقهي ؟ ولماذا تأخر الكثير من التساؤلات المهمة حول مشكلات الحضارة وتحدياتها ؟

يمكن القول إن حالة الثراء المفرط، و المقدرة المالية للدولة وللفرد في تلك المرحلة وسهولة شراء متطلبات التمدن وفق مواصفات المشترى وليس المصدر لمنجزات الآخر وهي حالة عابرة تاريخيا لا يمكن الاعتماد عليها أمور أسهمت في ركون العقل الفقهي المحلي وتكاسله عن متطلبات التجديد والشعور بالتحدي وإعطاء فقه التيسير مساحة أكبر ..

وقد تشكل كثير من الآراء الفقهية الاجتماعية في حالة رخاء وترف يسهل معها تسهيل العوائق وتعدد الاختيارات ، والقدرة المادية المبهرة كما أنها تغري الآخر بالتسامح مع شروطك من أجل الظفر السريع بشئ من هذا الكنز المالي الذي تملكه

فإنها تغرى العقل الفقهي في الاستهتار وعدم الاكتراث بأهمية الوعي بمتطلبات الحضارة وكأنها مجرد شروط وضوابط ترفق في ثنايا عقد من العقود أو مشروع من المشروعات للمحافظة على خصوصياتنا

ومع استمرار تجاهل أهمية تطوير العقل الفقهي وأدواته من الداخل في الجامعات والمدارس والمعاهد والمساجد .. فقد سار الفكر الديني المحلي بمختلف أطيافه باتجاه إغراء أسلمة العصر .. مع تجاهل كبير لأهمية عصرنة الفكر الإسلامي !

إن قصة التنوير في السعودية ما زالت بحاجة إلى الكثير من التدوين ورسم خارطة مبدئية لتصور تاريخي بعيدا عن القراءات الموجهة والتمصلح الفردي نتيجة لغياب ثقافة الكتابات المسؤولة ، والاهتمامات الجادة في رصد تطوراتنا الحضارية والسياسية .

وفي كثير من الدول يصدر بعد كل منعطف تاريخي وتحولات كبري في العديد من المؤلفات ،والملفات الصحافية والحوارات ،والمقارنات بين مرحلة سياسية وأخرى ، تثري الرأى العام حول تطوراتهم التاريخية المعاصرة وهو ما تعاني فقدانه الحالة السعودية .

ليس الهدف هنا الدخول في كثير من التفاصيل حول حكاية التنوير ، فلهذا قصة تطول ، وإنما الإشارة إلى بعض الحقائق لوضع تصورات ضرورية حول طبيعة المسار الذي تعانيه تجربتنا المحلية ، والذي أعاق تأسيس فكر تنويري مبكرا .

وعندما تطرح قضية "التنوير" هنا فليس الهدف فقط عرض إشكاليات وتفاصيل فكرية وفقهية ومناقشة موقف الإسلام من هذه الأفكار والمتغيرات في هذا العصر، أو التناول التقليدي لمشكلة الأصالة والمعاصرة على الرغم من اهتمامي الخاص والمبكر بهذه القضايا التي تحتاج إلى كتابات أخرى .

التنوير المحلي .. والتاريخ

ليس من المبالغة القول بأن طبيعة المنهج السلفي والذهنية النقلية أكثر قابلية للمحافظة وربما للتشدد في بعض الحالات ، فالعقلية النقلية التي ترتاح دائما لتقديم النص على أى اجتهادات فقهية أخرى سيؤدى بها هذا المنهج مع مرور الوقت إلى تأثر ملكة الاجتهاد، وضمور التفكير والإبداع الفقهي .

ولا يعنينا هنا البحث عما هو صواب وما هو خطأ ، وتفاصيل ضوابط الاجتهاد الفقهي ، بقدر أن نشير إلى أن الذهنية النقلية بوجه عام في الفقه أو غيره من المجالات العلمية أقل إبداعا ، وتميل إلى التكرار والحفظ وتهميش قيمة التغيير والاكتشاف .

والمدرسة الوهابية برؤية تاريخية لا يمكن الادعاء بأنها نسخة متسامحة ومعتدلة حضاريا ، مقارنة بالمذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى ، مع أن الوهابية امتداد حقيقي للحنبلية وفكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم

إلا أن تجربتها التاريخية أفرزت فقها وخطابا دينيا ذا ملامح خاصة ، وصفات أقرب إلى التشدد في حالات معينة ولهذا ظروف يمكن تقديرها وتفسيرها في مراحل عدة خلال أكثر من قرنين .

وعلى الرغم من هذه المدة الطويلة ، فإنه وجد بعض الومضات والمحاولات المستنيرة التي برزت بين فترة وأخرى ، من مشايخ وطلبة علم ، لكن ظلت القوى الأكثر تأثيرا هي القوى ذات الرؤى المتشددة التي تأثرت بالظروف السياسية والاجتماعية .

ولسنا هنا بصدد أن نقرّر ما الصواب وما الخطأ فلكل مرحلة شروطها .لقد ظهرت بعض الكتابات التاريخية المتناثرة التي تسجل حالات محلية لمقاومة آراء متشددة لكنها ظلت محدودة

وهناك رغبة بعدم إثارتها وتهميشها ، ومع أن المجتمع والدولة بحاجة إلى مثل هذا التنوع في قراءة تاريخنا ، فإن الموانع الفقهية والسياسية أخرت مثل هذا التناول ، لأسباب يدرك تفاصيلها أى مثقف مهتم بقراءة واقعنا العلمي .

من أهم المسائل التي تم تداولها مؤخرا في إشكاليات التطرف الديني الحديث عن إشكالية مفهوم "الولاء والبراء" والموقف من الآخر ، وأصبح تطبيق هذا المفهوم أساسا للاختلاف بين التيارات الإسلامية .

وشعر الباحثون منذ التسعينيات بوجود نزعة تشدد جديدة مصدرها الخطاب السلفي الوهابي في نظرهم ، وتطورت هذه الحساسية في الوعي الغربي في إعلامهم ومراكز بحثهم وزادت درجة هذه الحدة مع أحداث أيلول (سبتمبر) وما بعدها .

لا نبحث هنا حول صحة هذه التهم والمقولات بقدر ما أنها أصبحت جزءا من أدبيات الكتاب والباحثين في الفكر والحركات الإسلامية ، وخصوصا عندما ظهرت ملامح تيار أطلق عليه "السلفية الجهادية" في الخطاب الإعلامي السائد .

طرح هذه المفهوم على مستويات عدة ، وفي الصحافة المحلية تمّ تداوله بقدر من عدم المسؤولية والتسطيح ، على الرغم من حدوث العديد من الردود والتفاعلات حول القضية التي كانت من قضايا الخلاف بين رؤيتين ، تقليدية فقهية معتمدة على مقدمات الخطاب السلفي والمدرسة الوهابية مقابل رؤية لا تخلو من المشاغبة والإثارة حول المفهوم من دون وجود رؤية عميقة لطبيعة الأزمة العلمية والعقائدية .

ومع ظهور الأزمة السياسية جاءت بعض المحاولات الفقهية الرسمية للتخفيف من حدتها ، على الرغم من أنها كانت جزءا من أدبيات البعض منهم حتى إسلاميين آخرين .. فكيف بالغرب ؟

لكن عندما ظهرت تأثيرات المفهوم المذكور السياسي السلبية، بدأت محاولاتهم التلفيقية لتطليف المفهوم في خطابات عامة ، من دون مراجعة فقهية جادة له وتحديد أين مصدر الخلل ، بخاصة أنه من أهم الجوانب التي يتكئ عليها الخطاب الجهادي .

اللافت أن هذا الجدل الكبير الذي ظهر في صحافتنا، ومنتدياتنا الإنترنتية والفضائيات هو أيضا كان موضوعا لجدل بين علماء في نجد ، قبل أكثر من قرن في عام 1871م 1288هـ .

مشهورة عند الطلبة قصة رد الشيخ (حمد بن عتيق) في رسالة مطولة بعنوان (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك) حيث كتب الشيخ (محمد بن عجلان) رسالة أجاز فيها استعانة الإمام عبد الله بالدولة العثمانية

فردّ عليه الشيخ (عبد اللطيف بن حسن) برسالة عنونها بـ (حبالة الشيطان) واشتد الشيخ ابن عتيق في ردّه على الشيخ ابن عجلان في الرسالة واتهمه بالردّة عن الإسلام بسبب كلمة جواز الاستعانة بمن وصفهم بالمشركين .

وقد فتحت هذه المناقشات بين العلماء وطلبة العلم أبوابا أدت إلى الولوج إلى مسائل لم تكن تحظي بأهمية مناقشتها قبل هذه الفتنة . ومنها الحديث عن مسائل القضاء والقدر ، وحكم الاستعانة بالمبتدعة وغير المسلمين ، والسفر إلى بلادهم والاتجار معهم ، وهل يعتبر ذلك من الولاء المحرم شرعا ؟

ومن الأمثلة على مناقشة هذه المسائل في بلدة بريدة كلام أحد طلبة العلم فيها ،وهو (على بن عرفج) الذي رد عليه طالب العلم الآخر (فهد بن سلطان) برسالة سماها : (توضيح المنهج في الرد على ابن عرفج)

وجاء كلام ابن سلطان عن ابن عرفج بقوله :

"أما بعد فإني سمعت من على بن عرفج الساكن في جنوب بريدة كلاما يدل على ضعف فهمه وينتبئ عن قلة اطلاعه وعلمه ، وهو أن الله سبحانه وتعالي خلق الجنة وأهلها ، وخلق النار وأهلها وأبهم الأمر فلم يبين أهل الجنة وأهل النار
فإذا كان الأمر كذلك فلا يبغض شخص ارتكب شيئا من المحرمات لأننا لا نجزم له بدخول النار ، بل نبغض عمله دون ذاته .." (أحمد البسام)" من جهود الملك عبد العزيز في توحيد كلمة العلماء وقيادتهم الدينية : بريدة نموذجا " مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود (العلوم الإنسانية والاجتماعية) ، العدد 6 (محرم 1429هـ) ، ص 166 -167 ، 178).

الدولة .. والتنوير

من خصائص الحالة السعودية المبكرة أنه لم توجد رموز دينية تنويرية ولم يتشكل خطاب تسامح فقهي منذ البدايات الأولي من تأسيس الدولة الحديثة

وما يبدو لافتا أنه لم توجد رغبة حقيقية في تشجيع هذا المسار وإتاحة الفرصة لظهور مثل هذه النماذج ، وربما يستغرب بعض محدودي الخبرة في الشأن السعودي عدم وجود هذه الرغبة في تشكل تيار ديني ومشيخة مستنيرة !

على الرغم من أن مسألة التنوير ضرورة حضارية للإستمرارية ومواجهة تحديات العصر .. فلماذا لم توجد هذه الرغبة سياسيا حيث مازال هناك ترددّ في تحديث الفكر الديني وبذل الجهد في تشكيل مدرسة دينية متسامحة مستنيرة في آرائها الفقهية ، وبخاصة في مراحل كان المجتمع فيها فطريا وليست لديه مواقف أيديولوجية مسبقة ؟

ليس المهم تحديد ما هو خطأ وما هو صواب في هذه الاجتهادات المستمرة عند السياسي ، والتي تحكمها تصورات وأولويات تختلف عن أولويات المثقف

وإنما المهم هو وضع تصوّر عقلاني لهذه الإختيارات السياسية ومبرراتها ، بعدما لاحظت أن كثيرا من المثقفين والكتاب يقدمون مواعظهم للسياسي من أجل خطوات تنويرية من دون أن تكون لديهم تصوّرات معتدلة لحقيقة الأزمة .

فلماذا لا يريد السياسي هذا التحديث مع أنه في مراحل مبكرة شعر بأهمية التنمية والتعليم ، ودعم بقوة التعليم وتحديث مؤسسات الدولة اقتصاديا وإداريا وأصبحت بعد عقود عدّة من الأقطار الحديثة ، على أن المؤسسة الدينية على الرغم من بدايات مأسستها المبكرة ، والتي تمت وفق ظروف مرحلية ، لم تبد جهودا تحديثية حقيقية لفقه مستنير .

وهناك تفسيرات عدّة قد تساعد على التفكير بموضوعية وعقلانية بعيدا عن التهم المؤامراتية ، يمكن تلخيصها في ما يأتي:

التفسير الأول: أن الدولة أو الحكومة ترغب في ذلك لكن المؤسسة الدينية ورموزها الموالية للدولة ليست لديها الرغبة في أى تغيير، وهم يفضلون المحافظة على تقاليدهم التعليمية والعلمية وأفكارهم هذه حقيقة تاريخية
فلم يتمّ التعرض لهذه الرغبة إلا ما كان ضرورة تجديدية شكلي كالمباني ، ومسميات المؤسسات الحديثة وإنشاء المعاهد والكليات حيث اقتنع بها العلماء وأيدوها وخصوصا أن مضمون المناهج لم يتغير كثيرا عن مضمون ما يتم تدريسه في حلق العلم والمساجد
ومع أن هذه التحديثات أوجدت بعض المقاومة ، إلا أنها تلاشت سريعا لأنها حافظت على مضمونها الفقهي والديني ، ونظرا لاحترام الدولة للعلماء وتقديرهم ودور العلماء في مشروع التوحيد والاستقرار ، أهميتهم في ضبط المجتمع في التوجيه والوعظ
فقد رأي السياسي عدم التدخل في شؤونهم ومضمون خطابهم ، مقابل أن يستمر في عملية تحديث المجتمع ونشر التعليم ، خصوصا أنه في تلك المرحلة لم توجد ضرورة ملحة لهذا التدخل فتطوّر المجتمع وقوة التنمية ستغيران الجميع بمن فيهم العلماء ، وهو تصور عملي مقبول فبعض الأشياء التي كانت مرفوضة تم قبولها لاحقا ، بعد تغير الكثير من المعطيات .
التفسير الثاني: أن الأنظمة المحافظة بطبيعتها ، لا ترغب من ناحية المبدأ في الإخلال بأى توازنات ، والتهور بعملية تغيير لأسس داخلية ، في الدين والقبيلة والكثير من التقاليد والأعراف الاجتماعية
يدرك أى مثقف سياسي مدى تأثير بعض الخطابات التنويرية ، وما قد تحدثه من اهتزاز غير مرغوب فيه في بنية المجتمع التقليدي ، عندما يتم نقله إلى وعي أكثر حداثة وينتمي إلى عصر جديد .
والتنوير الفقهي هو الآخر سيؤثر في تماسك بعض الأسس الدينية التقليدية الضرورية للسكون والاستقرار ، مع أن بعض النظم المحافظة تدرك من جانب آخر أهمية التحديث ، ومخاطر التشدد على بنية الاستقرار مستقبلا ، لكنها أيضا تدرك مشكلات الانفتاح في الإخلال بتوازن القوى التي يدار بها المجتمع .
إن من مميزّات الدول المتقدمة أو المستقرة تاريخيا أن القوى الاجتماعية تشكلت بصورة واضحة المعالم ، بقوى أغلبية لجهات وتيارات ذات وعي تاريخي متراكم ، مع بقاء بعض الحالات الشاذة ثقافيا ودينيا واجتماعيا غير مؤثرة في استقرار ومسار تنمية تلك الدول
وذلك بعكس الكثير من أقطارنا العربية التي لا تزال تواجه مشكلة هذه التحوّلات،وصعوبة ضبط هذه التوازنات التي هي عرضة لأى ارتباك، فلم تتشكل ثقافات عصرية مستقرة ، ومتراكمة ، وكل ما تمّ طرحه من مقولات وأفكار حضارية جديدة لا علاقة لها بحقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي .
وعلى الرغم من أن مجتمعنا تعرّض لتحوّلات تنموية كبرى ، وهو يواجه منذ عقود عدة إشكاليات حضارية متنوعة في خياراته الاجتماعية والسياسية والدينية
فإن البعض يتخوف من التطوير الفقهي الذي قد يصنع وعيا جديد سيؤثر في الكثير من التوازنات التقليدية في القوى الاجتماعي بصورة مركب لمساره التاريخي لهذا استمر التردد في هذا الاتجاه .
وبغض النظر عما إذا كانت هذه الرؤية لأهداف شخصية ضيقة أو حرص على مصلحة عامة للدولة والمجتمع ، فإنها تفسر بعض أسباب هذا التردد لهذا عندما نقول في حالات متعددة إنه لم يوجد ترحيب بالتنوير إلا في مجالات محدّدة واستهلاكية وترفيهية
فإن لهذا تفسيرات عقلانية مفهومة ويبدو غريبا عند البعض هذا الرقيب القادر على التسامح مع منظومة كبري من الإعلام والمجلات والقضايا الترفيهية
وفي الوقت نفسه يحجب آراء فقهية لكتب بعض العلماء والدعاة من العالم الإسلامي في مراحل سابقة ، وكأن ضد الرؤي التنويرية الدينية ، وتبدو حالات حيرة في التعامل مع التحديث الفكري والتنوير الثقافي في الإعلام والتعليم .
إن الذهنية المحافظة ليست مقتصرة على الجيل الأول ، وإنما تشكلت في الجيل الثاني ، ولديها حساسية وإدراك إلى أين ستنتهي مثل هذه الخطوات لهذا لا معني لدهشة البعض من دعم قوى مؤثرة محليا للرؤية المحافظة وهي تقدم نصائحها في تحديد المصلحة السياسية .
لكن هذه المحافظة على الوضع السائد تاريخيا تواجه إشكالا آخر ، فلماذا لم تأخذ المدارس والمذاهب الفقهية الأخرى حقها بالحضور والانتشار ، مقارنة بالحصار الذي تعرضت له على الرغم من حضورها التاريخي الطويل ؟
من الناحية العملية كان مشروع التوحيد اعتمد على توحيد الرؤية الدينية وفق المدرسة الفقهية الوهابية ، وحتى لو كانت تبدو متشددة فمميزات دورها الديني والسياسي كانت تفوق سلبيات تشددها في ذلك الوقت
وكان هدف الوحدة في تلك المرحلة له أولوية تفوق مسألة مراعاة التعدد الفكري والفقهي ، ولم يصل الوعي في ذلك الوقت لمتطلبات التحديث وإدراك ضرورة التسامح
فسارت الأمور بقدر من العفوية قبل أن تصبح المسألة الدينية من أهم الملفات عندما تجاوزت السلفية والرؤية الوهابية الحدود الإقليمية "وتعولمت" مبكرا بفعل انتشار التأثير الفكر السلفي وارتفاع دخل النفط .
لكر هذا التفسير يتعلق بما حدث بالماضي وظروفه المرحلية، ولا يبرر التردد في الحاضر مع ظهور تعقيدات سياسية وفكرية وأزمة تشدد منذ العقد الماضي ، ولهذا ظل السؤال مشروعا: لماذا لا تزال هذه الرغبة في التنوير غير جادة ؟
التفسير الثالث : توجد مبرّرات كثيرة دينية وسياسية لفهم غياب التنوير في مرحلة الخمسينيات والستينيات، لكن لماذا استمر الموقف من التنوير الفقهي حتى الآن ؟ حيث ما زال هناك خوف من المثقف التنويري ، والشيخ التنويري الحقيقي القادر على صنع التغيير .
لندع حكاية حوار الأديان والحضارات والندوات ، واللقاءات في المؤتمرات وحتى الدراسات عن الغلو والتشدد والتحذير منه في جامعتنا وإعلامنا لأن الذي يتابع حقيقة مضمونها سيجد عدم وجود رغبة فعليه في الدخول في حقيقة المشكلة وطرح الأسئلة الحقيقية .
بعد نهاية ربيع الإصلاح الذي لم يستمر سوى ثلاثة أعوام ، تأكد في نظر البعض عدم وجود هذه الرغبة ، ليس فقط في الإصلاح السياسي ، وإنما حتى في الإصلاح الديني والثقافي ، وأن الجدل الاستعراضي ، والإثارة الغوغائية في الصحافة ضد التشدّد ليسا سوى جزء من حقيقة الأزمة ، حيث يتم العبث بأولوياتها في معارك هامشية نفعية .
ما يبدو مثيرا للبعض سؤال لماذا تكون ضد التنوير على الرغم من وجود ضغوط خارجية والتشوية لسمعة البلد الذي حدث ؟
إن الأنظمة المحافظة بطبيعتها تظل تقاوم أى تغيير ما لم توجد قوة خارجية تفرضه عليها .. وما يوجد من تغيير أو محاولة تحسين هو نوع من المقاومة والانحناء للعاصفة فالخوف من التغيير أهم خصائص الأنظمة المحافظة لكن هل يمكن التعايش المستمر بهذه التوفيقية بين المحافظة ذات المظهر المتشدد أحيانا مع متطلبات ومشكلات العصر ؟
وهل يمكن إدارة الأمور وتكون تحت السيطرة ، كما حدث في السابق ، عن طريق التخفيف من الاختنافات المحلية بين فترة وأخرى خلال الأحداث الساخنة والطارئة ؟
هل ما زال هذا الخيار هو الأفضل عمليا ؟ لا أحد يطالب بتغيير ثورى وجذري من حالة فكرية إلى أخرى ، وإنما التفكير بالعديد من الحلول ومنافشتها ، ربما يكون هناك عدم إحساس بالمسؤولية وأن الرغبات اللحظية والمصالح الضيقة ، هي الأقوى طالما أن هناك قدرة مستمرة على التحكم بالأمور
حيث لم توجد ضرورة بعد لهذا التنوير الديني الذي قد يأتي بمخاطر جديدة غير محسوبة ولأنه سيؤثر في الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي فتصبح هناك مطالب عصرية في الحقوق والواجبات .
يأتي هذا الرأي أحيانا من أصحاب التفسيرات التآمرية وقد يأتي بطرق تفكير متعددة تحت مبدأ الحفاظ على الاستقرار والمصلحة العامة .
التفسير الرابع : هناك الجانب الإيماني الشرعي ، فالرؤية الدينية السلفية لديها حساسية مما تراه تغييرا في الأحكام الفقهية ، وأنه أخطر من ارتكاب المعصية بالنسبة للمسلم
حيث يظل الخطاب الديني كما هو دون المساس به ، تظل الحياة تسير بقدر من التوفيقات العشوائية والعفوية والاجتهادات الطارئة لكل حالة ، وأن هذه المحافظة لا علاقة لها بتخطيط سياسي مدرك لكل التفاصيل .
هذا الإتجاه يمارس بعفوية بحيث تسير الحياة وتستمر بتطوراتها فتلتقي أحيانا مع تصورات العقل الديني وأحيانا تختلف بصورة عشوائية تتأثر بظروف كل مرحلة ،فعندما تزداد حالة التدين يتمسك المجتمع بتعاليم الفقه بصورة أكبر ، وتبدأ حالات الانحراف عندما تقل حدة الموجة الدينية .
هذا الخيار له إيجابياته السياسية والدينية والاجتماعية ، وقد تمّ تطبيقه خلال مراحل عدة ، إلا أنه بدأت تفرز سلبيات جديدة مع زيادة حدة المتغيرات في المجتمع عندما لم يعد محصنا
وموجها في خطاب أحادى ، وبدأ المجتمع يشهد حالات غير مفهومه من الانحراف ويصعب التنبؤ إلى أين ستنتهي خصوصا عندما يذهب الجيل الأول بكامله ، والذي ما زال تأثيره بارزا في التحكم وفي عدم حدوث أى انهيارات .
التفسير الخامس : تأتي المقاومة التقليدية عند مناقشة أى أفكار تطويرية في المجال الديني والسياسي والاجتماعي في مسألة "بلاد الحرمين" لتكون مبررا ضد أى تغيير وتحديث ، وتوظيف القيمة الرمزية في ردع هذه المحاولات .
ومع أنه لا يوجد أصل ديني لرفع هذا الشعار فأحكام الإسلام وواجبات الشريعة يجب الالتزام بها لأنها طاعة لله ، وليس للحرمين علاقة بذلك إلا ما يخصهما من أحكام معروفة في الحج والعمرة وفضائل المكان وما ورد فيها من نصوص
فالإسلام لم يضع خصوصية لتطبيق الشريعة هنا فقط ، أخذ البعض يبالغ في هذه الحجة حتى تطورت عند بعضهم لتشبيه السعودية بدولة الفاتيكان ، مع حماستهم في مواجهة مطالبات بعض الغربيين ، وهذا التشبيه خطأ سياسي وديني
وقد استعمل في مراحل عدة ، بدأ عفويا في خطاب السياسي والإعلامي .. ثم تطوّر وأخذ يستعمله التيار الديني ضد خصومه ، ما دام أنه يساعده في السجال بغض النظر عن شرعية هذه الحجة ومعقوليتها .

محاولات التنوير

" تحفل السوق الاجتماعية هذه الأيام بألوان من الآراء الناقدة تمارس تحت ستار حرية الكلمة والمطالبة بالمزيد من الإصلاح " عبد الرحمن الرويشد (مجلة الدعوة ، 8 رجب 1396هـ)

ما تجب الإشارة إليه هنا أن الوضع ليس متصفا بالجمود التام ، بل على العكس فإن من مميزات الحالة السعودية أن هذه الكوابح ضد التغيير ليست متطرفة فعندما تشعر بالخطأ وتزايد المشكلات فإنها تضع هامش تغيير جديدا

ولهذا تظهر بين فترة وأخرى حالات متعددة ترحب بالمحاولات التنويرية الفكرية والنقد العلمي ، ليس بالضرورة بالصورة التي توافق رغبات المثقف تماما لكنها خطوات نافعة ، فحسابات السياسي تظل مختلفة عن حسابات النخب الثقافية وهمومها .

وقد مرّت الحالة السعودية بعدة محطات في موقفها من التنوير والتحديث الفكري منذ مرحلة التأسيس حيث الاهتمام بنشر التعليم .

في المرحلة الفيصيلية كانت هناك رغبة في تطوير الفكر بعد مرحلة الشيخ ابن إبراهيم ، وكان استقطاب الكثير من الأسماء الإسلامية ورموزها في العالم العربي جزءا من هذا الهدف بعد الهدف الرئيس لمواجهة التيارات الأخرى التي أثرت في جيل الشباب في تلك المرحلة ، حيث لم يكن خطاب الوهابية قادرا على التعامل مع الأفكار العصرية .

ولأنه كان ينظر إليهم بأنهم أقل تشددا ، وقد يساعد ذلك على تليين الفقه المحلي ، والتخفيف من حدة الوهابية ، وفي هذه المرحلة أيضا تمت إعادة وضع المؤسسة الدينية ، لكنها تجربة لم تستمر طويلا

حيث انتهت مع نهاية السبعينيات وحتى مع مجئ الكثير من الإسلاميين من مختلف البلاد العربية والإسلامية فإنه لم يكن متاحا لهم تقديم آراء فقيهة مخالفة للسائد، وكان الشيخ على الطنطاوي على سبيل المثال ، مع كل رأي قد يري أنه لا يناسب فقهنا المحلي .

يكرر دائما أنه لا يفتي ولا يقدم فتوى .. هذه محاولة لم تكتمل شروطها ، وكان الهدف منها تخفيف حدّة موقف المؤسسة الدينية من بعض المتغيرات التنموية .

ليس المهم ما هو الدافع من استقطاب تلك الأسماء ما دام أنه حدث ، فقد أسهم في تكوين ذهنية محافظة جديدة ، أقل تشددا وتقليدية من المدرسة الوهابية التي تخلو من التنظير والكتابة حول مشكلات العصر

ولم تكن تلك الأدبيات الجديدة تمثل تنويرا حقيقيا إلا قياسا على ظروف المرحلة في الداخل السعودي ،ففي مجال الخطاب الإسلامي المعاصر فإنه يصنف هذا الخطاب الوافد بأنه محافظ هو الآخر.

لقد أحدث ذلك الاستقطاب في تلك المرحلة تأثيرا في الوعي الديني ، فقد كان الطابع الثقافي هو السائد ، والوعي بالتمدن مع المحافظة جزءا من خطاب اللحظة

وأنه لا يوجد تناقض بين التقدم والإسلام والكثير من أدبيات تلك المرحلة يدور حول هذا الجانب حتى منتصف الثمانينيات ، وحتى تيار الصحوة في البدايات المبكرة كان ينظر إليه على أنه موجة دينية مستنيرة تجمع بين المحافظة والتعليم العصري و شهدت تلك المرحلة إقبالا شديدا من المتدينين والمحافظين على الكليات العلمية في الطب والهندسة والعلوم في ظاهرة لم يألفها المجتمع

وكانوا من المتفوقين في دراستهم العلمية ، قبل أن تتجه الصحوة لتطورات أخرى أشرنا إليها من قبل ، حيث بدأت تحدث ردة وبعضهم بدأ يهجر هذه التخصصات ويعود من الكليات العلمية إلى الشرعية من جديد .

إن الذي حدث في أوائل الثمانينيات غير صورة المطوع التقليدي عند المجتمع إلى صورة تدين مدني ، ولهذا بعد مراحل عدة شعر خصوم الصحوة أن الفطرية والسذاجة القديمة عند الفقهاء أرحم من ذكاء الصحويين والإسلاميين الجدد، ومن تطورهم الفكري .

وعلى الرغم من أنه بعد حادثة الحرم تمت إعادة الاعتبار والأهمية للمؤسسة الدينية التقليدية ورموزها ، مع دعم كبير للرؤية المحافظة ،واستمر ذلك حتى التسعينيات لم توجد في هذه المرحلة أى رغبة بالتنوير ، بل تمت محاصرة المصادر المؤثرة في ذلك

ومع ظهور رموز الصحوة الجدد فإن موقفهم كان امتدادا للرؤية السلفية والرسمية وليس العقلانية الإسلامية المعاصرة ، قبل أن تنتهي هذه المرحلة بالصدام ، والشعور الرسمي بخطورة التشدد الديني مرة أخرى ، وأتيح لمواجهته بخطاب ديني تقليدي .

ومع نهاية التسعينيات جاءت مرحلة التنوير الحالية مرورا بأحداث أيلول (سبتمبر) وكان موقف السياسي إيجابيا مع بدايات الظاهرة التنويرية ومتسامحا ، مع بعض التحفظ على أنواع محددة من النقد

وقد ظهر العديد من المقالات والكتابات فلم تواجه بالحظر مباشرة في حينها ، على الرغم من أنه كانت تبدو حالات عدم رضا على بعض المشاركات لكنها لم تواجهها بالقمع والإيقاف .

الصحوة والتنوير

الصحوة في بعض مراحلها الأولية كان فيها قدر من الخطاب التجديدي لكن كما في بداية أى حركة لا تتضح الأمور إلا بعد مرور معدل زمني محدد وقد توقع البعض أنها عصرية مقارنة بما كان عليه الفكر السلفي التقليدي مع بداية الثمانينيات وأنها تجاوزت التعصب المذهبي الفقي

وأنها خطوة تنويري خاصة أن أبناء التيار زاد تفوقهم العلمي في جميع التخصصات لكن تراكمت مجموعة متغيرات أدت إلى ضعف المحتوى الثقافي عند تيار الصحوة ونخبها .

لم يطل هذا الزمن الذي ظهر في تعليم أبنائها العصري ، فقد بدأت الصحوة تفقد مسارها المعتدل، حيث تأكدت خصومتها مع الفكر العقلاني الإسلامي و حتى مع دعاة لهم باع طويل في الدعوة والإرشاد

كما أشرنا سابقا إلى تأثير معركة سلمان العودة مع محمد الغزالي ، والتي أحدثت قطيعة مع الخطاب الإسلامي العقلاني ، ثم جاء موقف الصحوة من الحداثة الذي أثر في بنية الوعي الثقافي و أحدث قطيعة أخرى مع بعض محتويات الخطاب الفكري العربي .

ومع نهاية الثمانينيات الميلادية كانت الصحوة أخذت تتسلف ، ويزداد اهتمامها بعلم الحديث .الخطاب الذي استمر وجوده ولم يتأثر بالموجات هو الخطاب الوعظي الذي يتشكل وفقا لنوعية الواعظ وخلفيته العلمية والاجتماعية .

لقد تطورت الصحوة في ما بعد نحو المشيخة على حساب المثقف ، وأصبح المثقف مجرد تابع بسيط يختلف بدرجة محدودة عن العامة ، بعد تراجع أهمية الثقافة ، ولم يتجاوز دور المثقف دعم الشيخ والواعظ في تلك المرحلة .

ولم تكن هناك مصادر أخرى للتنوير بالنسبة للصحوة بعد تراجع أهمية الكتب الفكرية ، استمرار التحذير من الكتب ذات التوجه العقلاني لصالح الكتب الفقهية التقليدية .

اتخذت الصحوة أيضا موقفا مبكرا سلبيا ومقاطعا للإعلام ما أثر في وعي جمهورها ، وكان هناك تحذير من بعض الكتب الفكرية الإسلامية ما أدي إلى انقطاع التواصل مع الخطاب الإسلامي المعاصر .

وهذا يفسر ضخامة عدد الوعاظ والدعاة وعلماء الشريعة ، وندرة المثقفين والكتاب والمحللين السياسيين المؤثرين في تيار الصحوة

ولهذا كان أبناء نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات وما بعدها من جيل الصحوة هم الأضعف في إمكانيتهم الثقافية والفكرية ، وهم الذين حدثت لديهم حالات انهيار فكري إما بالتطرف ، أو ردة الفعل من كل ما هو إسلامي بعد مرحلة حضانة إسلامية طويلة .

كانت مشكلة مشايخ الصحوة أنهم جمعوا بين دور الشيخ التقليدي ودور المثقف العصري ،مقابل ذلك سخرت الصحوة من دور الثقافة والمثقفين كثيرا

ورأت أن الكتاب الفكري لا يعتبر علما مقارنة بالكتب التراثية الدينية ولا يزال التيار الديني غير مدرك لضرورة المثقف وأنه في كثير من الحالات يفوق دور الشيخ في التعامل مع المشكلات العصرية .

وظهرت بعض المحاولات المحدودة في إثارة موضوعات فقهية حساسة تم تجاهلها كما هي مؤلفات الشيخ (عبد الله الجديع) في الثمانينيات ، واشليخ (دبيان الدبيان) في التسعينيات

وفي الثمانينيات ظهرت دراسة حول قضية الفوائد البنكية وزعت كمنشور ، كتبها (إبراهيم الناصر) من مؤسسة النقد يحاور فيها العلماء وآراءهم حول الفوائد البنكية .

هذه المحاولة يندر أن تأتي من شخصية محسوبة على العاملين في مناصب رسمية، وقبل حينها أنه ستكون هناك ردود عليها من العلماء وأن الشيخ (حمود التويجري) سيقدم رده عليها ، وبعدها أثيرت في الصحافة العربية ، مسألة الفوائد ورأي سيد طنطاوي في مصر ، وخرجت ردود من علماء الداخل تستنكر هذا الرأي .

وظهر مبكرا مصطلح " ترشيد الصحوة " وقدم العديد من الكتيبات والمحاضرات لكنها كانت فاقدة للرؤية ، لا يوجد فيها طرح فكري عميق وإنما مجرد نصائح دعوية للشباب

حيث لم تطرح مراجعات ونقد لقضايا وأفكار ذات نزعة تشدد في ذلك الوقت المبكر ولم تؤسس لنقد ذاتي لخطاب الصحوة ، ولهذا لم يؤثر هذا المشروع كثيرا في فكر الصحوة .

مع بداية التسعينيات حدثت متغيرات معطيات جديدة أدت إلى حراك فكري فظهر صراع إسلامي – إسلامي بين الصحوة وخصومها كالجامية ، وعلى الرغم من أن الخطاب الجامي كان ذا مضمون متشدد وأفكار تقليدية إلا أنه أسهم في حدوث جدل داخلي وإرباك بعض يقينيات الصحوة .

كان الحضور الأهم في هذه المرحلة هو بروز تيار تكنوقراطي من الصحوة قاد عملية خطاب المعارضة السياسي عبر المذكرات ، وهو مساهمة في الوعي السياسي

وبغض النظر عن تقييم مضمونه هنا إلا أنه أحدث نقلة مختلفة في طريقة التفكير بالسياسة والحقوق والحريات لكن هذا الطرح جاء في سياق خصومات ومواجهات مسيسة لم تكن من محتويات الخطاب في السابق فزاد من حساسية هذه المفاهيم ، وأضعف صدقيتها .

ومن الصحف التي كان لها دور تنويري خلال فترة التسعينيات جريدة الحياة ،وهي صحيفة نخبوية ومتابعة من الإسلاميين ، وأدت إلى التعرف على آراء وكتاب من مختلف الأقطار العربية ، وهو ما لم توفره الصحف المحلية ، وحافظت الحياة على مهنية مشابهة لمهنية (البي بي سي) وصدقيتها .

وكان لتراجع أهمية الكاسيت دور في عملية العودة للقراءة .. وتوقف ضخ خطاب الصحوة التقليدي والحماسي الغوغائي في بعض الحالات ، وأدي إلى نوع من المراجعات ، تغير القناعات الفكرية واحترام جديد للثقافة والبحث عن رؤى أخرى

وكان لغياب الرموز دور في هذه المراجعات وإعادة الحسابات ، مع تزايد البث الفضائي وظهور مشايخ من مختلف العالم الإسلامي ، فأحدث ذلك إرباكا لخطاب الصحوة .

جاءت أولي المحاولات التنويرية المبكرة في الصحافة المحلية من )عبد الله الحامد) و(حسن المالكي) ومعركتهم مع الشيخ (صالح الفوزان) في مجلة اليمامة .

كان هذا من الحوارات النادرة التي تنشرها مطبوعاتنا في تلك المرحلة المبكرة مع شيخ، ويمكن اعتباره أول موضوع يجرؤ على تناول القضايا الدينية، والمناهج

حيث رد (عبد الله الحامد) على (صالح الفوزان) في (مجلة اليمامة 26 شوال 1412 هـ) بما يلي:

" آفة التعليم هذه المتون .. أعاتب الشيخ الفوزان لرفضه الحوار معي لأنني لست فقيها "

وعرض الحامد شيئا من معاناة أساتذة جامعاتنا الإسلامية فكتب:

" لقد لقي أحد الأساتذة في إحدي الجامعات الإسلامية عنتا منذ بضع سنين لأنه أصر على استعمال مصطلح (موسيقي الشعر) في محاضراته ، ولقي آخر عنتا لأنه قرر على طلبته نصا من الشعر الحر ، فجمع بين معصيتين ذكر السياب وتدريس الشعر الحر ".

عاد مرة أخرى عبد الله الحامد للكتابة في جريدة الحياة بعد 1998م، فقد نقدا للخطاب الديني ، وخطب الجمعة ومسألة تحفيظ القرآن ، وقد كتبها بأسلوب لافت وجذاب ، قدر من العقلانية والمنهجية

وقد كتب حسن الماليكي مبكرا وهو طالب في الجامعة مقالة بعنوان : "أنقذوا التاريخ الإسلامي" مجلة اليمامة (28 ذو الحجة 1411 هـ) .

عاد مرة أخرى حسن المالكي ليسجل مبادراته النقدية في مراجعة المناهج الدينية، عبر جريدة الرياض التي أتاحت بجرأة نشر هذه المواضيع وامتازت كتاباته بقدر من النقد المفصل لمناهج الفقه والتوحيد ما أحرج الوزارة وهو الموظف بها ، ثم جاءت مقالاته عن التاريخ .

لا شك في أن هذه المساهمة تعتبر مبادرة وخطوة متقدمة لكن مشكلتها أنها جاءت في سياق أحداث ساخنة ومرحلة التضييق على خطاب الصحوة ، ثم حدوث تفجير العليا والخبر ، وما جعل مثل هذا الطرح مشبوها في نظر المحافظين الإسلاميين .

لكن النقد الذي قدمه يعتبر نقلة نوعية في الخطاب المحلي في صحفنا حيث نقد العديد من الدراسات التاريخية في الجامعات ، وأثار قضايا جديلة مشهورة ، حول ابن سبأ ، وسيف بن عمر ، وإشكاليات الروايات التاريخية

وناقشه في هذه الكتابات أكرم العمرى، وسليمان العودة في رسالته عن ابن سبأ، وعبد الله العسكر حول سيف بن عمرو ، وعبد الحميد فقيهي في رسالته عن خلافة على بن أبي طالب .

ومع إعجابي بمبدأ النقد الذي حرك بعض المياه الراكدة في صحيفة سيارة ، على الرغم من هذا الإنجاز والجهد النقدي المبذول الذي بذله حسن حول قضايا تاريخية محددة ، إلا أن الفكر التي انطلق منها في نظري غير تنويرية

فقد لاحظت أن لديه خللا في مفاهيم أساسية تقود هذه القدرة البحثية الممتازة إلى الاتجاه الخطأ ، والأكثر غرابة أن الذين ردوا عليه لم يتمكنوا من تحديد الأخطاء الجوهرية في الرؤية التي ينطلق منها

فقد كان يريد تطبيق منهج المحدثين على التاريخ أيضا كما يطبق في علم الحديث ، وهذا المبدأ يدل على خلل في الأسس المنهجية عند المؤرخين والمناهج الحديثة .

لقد كنت مع النقد من ناحية المبدأ ، إلا أن لدي تحفظات كثيرة على طريقته العلمية ، ومنهج التفكير ، ولشعوري بأهمية تشجيع هذه المبادرة وتقديم بعض الملاحظات .

أذكر أني اتصلت بحسن المالكي ، بعد سلسلة مقالاته في جريدة الرياض في منتصف التسعينيات ، وحددت موعدا معه ، وتحاورنا في بعض ما يقدمه وعلى الرغم من تأييدى لمبدأ النقد ذاته تحفظت على إغراقه في قضية تاريخية حول على ومعاوية ، والتي ستقوده إلى طريق مسدود متوقعة لوجود عقبت من نوع خاص

فهي ليست من أولوتنا التي يحتاج إليها مجتمعنا ، وخلال الحوار اكتشفت أنه غارق جدا في كتب تراثية محددة ، وبعيدة عن الكتابات والمؤلفات العصرية

حتى في الموضوع الذي يطرحه في مقالاته وهذا يفسر ضعف قدراته التحليلية مقارنة بقوته البحثية في الحصول على معلوماته التاريخية التي يريدها ،فقلت له حينها : هل قرأت كتاب مفهوم التاريخ لـ (عبد الله العروي)؟ المفاجأة بالنسبة إلى ليست أنه لم يقرأ الكتاب بل أنه لم يسمع حتى بالمؤلف

وكنت متخوفا أن هذا الجهد البحثي الضخم بحاجة إلى قدر من الوعي وليس لأحد الحق في تحديد أولويات كل باحث والطريقة التي يعمل بها لكنها ملاحظة كنت قدمتها له آنذاك.

من المؤثرات التي اشرنا إليها سابقا ، الخطاب الديني الكويتي الجديد الذي كان أكثر استنارة وحيوية ورؤية متحضرة عبر العديد من الكاسيتات والمجلات والدورات وكان في مقدمتهم طارق السويدان وجاسم المطوع ومحمد الثويني ، وأسماء الرويشد في مجلة فرحة ، وصلاح الراشد .. وغيرهم حيث زاد الإقبال عليها مع تأثر سوق الكاسيت السعودي بغياب رموزه.

كان من الممكن أن تتبني الصحوة ظاهرة التنوير منذ بدايتها الأولي ، وما دام أن هذا الخطاب الجديد ينطلق من رؤية إسلامية لكن الصحوة منذ معركتها مع كتاب (الغزالي) زادت حساسيتها من أى عقلانية إسلامية ، ولهذا وضعت نقاط تفتيش مبكرة على أى مظهر لذلك

أما المؤسسة الدينية فقد استمرت في حساسيتها من الآراء الفقهية المخالفة لها ، وكان صدور بيانها عن كتاب للشيخ دبيان الدبيان بخصوص مسألة فقهية خلافية حول أحكام اللحية صدمة للمتابع ومعبرا عن صعوبة تقبل أى تنوير فقهي آخر في مسائل أكبر .

لم تنجح الظاهرة التنويرية هي الأخرى ، في مد الجسور مع التيار الإسلامي الكبير على الرغم من وجود بعض المحاولات المبكرة .

كثير من نخبو الصحوة الآن ربما يرون أن موقف الصحوة السلبي من هذه الظاهرة مبرر، لأن الخطاب التنويري تجاوز الحدود والأدب ، ولغياب المنهجية في نقده وآرائه

ومع الاعتراف ببعض أخطاء الخطاب التنويري التي أشرت إلى بعضها هنا ، يجب أن نطرح السؤال التالي : هل كانت الصحوة برموزها المؤثرة قادرة على أن تستقبل وتستوعب الخطاب التنويري الجديد في بدايته كي يستمر الخطاب التنويري بطرحه الهادئ وليبقي في الإطار المقبول ؟

الواقع أنه من خلال خبرتها وتطبيقها بعض ما كتبته ، فإن تجربة (جريدة المحايد) التي معي أنها لم تكن مستفزة لهذا التيار ، فإنها وجدت معارضة شديدة ليعبر ذلك عن عمق المشكلة عند هذا التيار .

ومما يعطي مؤشرا على عمق هذه الممانعة هو أن بعض شيوخ الصحوة وجدوا صعوبة في تقديم أفكارهم الجديدة فبقيت تلك الأفكار في دوائرهم الخاصة فقط .

لقد زادت حدة المقاومة لظاهرة التنوير مع وجود المبررات التي توفرت والشواهد وظهور الكتابات المستفزة وبخاصة في منتديات الإنترنت ، وفي بعض المقالات ، فكان تغير خطاب التنوير نحو الاستفزاز حول شكليات معينة أراح الصحوة كثيرا وقدم لها عذرا صريحا في ممانعتها

حيث توفرت لها العديد من النصوص والمواقف التي يمكنها مهاجمتها كما هاجمت تيار الحداثة ، وهذا لا يعني عدم وجود أسماء من الصحوة تفاعلت مع الظاهرة الحداثة ، وهذا لا يعني عدم وجود أسماء من الصحوة تفاعلت مع الظاهرة التنويرية بإيجابية مع محافظتها على نشاطها الإسلامي السابق.

المشكلة أن تيار الصحوة يتحدث عن الاستفزاز ولا يتحدث عن قابليته للإستفزاز ، إضافة للدعاية التي يوفرها لخصومه تبدو مريبة للمراقب فأصبحت لدينا قائمة طويلة من الأسماء التي خدمتها وكالة " دعاية الصحوة "

وسوّقت لها ولأطروحتها عند العامة والخاصة ،حتى أصبحت تغري الكثير من الكتاب بممارسة هذه اللعبة مع تيار الصحوة ، طالما أنها توفر لهم دعاية وشهرة سريعة ومجانية .

الصحوة تعرف دائما كيف تختار خصومها ، فهي لا تتجرأ على من لديهم قوة علمية وفكرية ، فتهاجم بشراسة من لديهم ضعف علمي وترمزهم سريعا ما أضر الظاهرة التنويرية وأشغلها في سجالات حول قضايا هامشية .

الظاهرة التنويرية .. قبل أيلول (سبتمبر) وبعده " الغريب أننا أكتشفنا أن جميع هذا الحراك والكتابات التي ظهرت في تلك المرحلة تدور حول أسماء محددة يعرفون بعضهم .." عادل الطريفي

قبيل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وتحديدا ما بين عامي 1998 ، 2001 م، بدأ ظهور بوادر مراجعات فكرية ونقدية داخل التيار الإسلامي ، حيث يشعر المتابع بوجود ملامح لوعي ونضج جديد وإحساس عام بأهمية التغيير .

كانت مرحلة هادئة غير مشحونة بمؤثرات سلبية وردود أفعال ، ومن أهم مميزات هذه المرحلة القصيرة أنها لحظة تاريخية سرقتها تطورات أيلول (سبتمبر) وما بعدها

حيث كان فيها قلق فكري إيجابي ،ووعي بأهمية المراجعات بعد شعور الكثير من الإسلاميين بإخفاق خطاب المرحلة الماضية وكانت مرحلة لعودة بعض الإسلاميين الناشطين وبداية لتراجعهم عن مرحلة تشدد سابقة

خاصة لمن كان لهم دور في أحداث التسعينيات ، ما أعطي حيوية لهذه المرحلة وحواراتها وأسئلتها الفكرية التي طمست ودفنت تحت أنقاض كارثة أيلول (سبتمبر)!

لكن ما الذي حدث في هذه السنوات المسروقة من تحولاتنا الفكرية التي لو أخذت المرحلة مدي زمنيا أطول لربما تشكلت بنية فكرية وعلمية أكثر نضجا ، وأقل انتهازية وانفعالا ؟

لا أريد التباكي على تلك اللحظة التاريخية ، لكن هناك ضرورة لتسجيلها كأهم مرحلة تحول حديث في التيار الإسلامي وندون بعض ملامحها .

هناك أهمية لتناولها بقدر من الموضوعية ، لأنها النواة التي انطلقت منها سجالات أيلول (سبتمبر) وقضاياها محليا ، ولأنها ستعزز وعيا لفهم متغيرات كثيرة حدثت بعدها ، وفي المستقبل الذي ما زال مفتوحا حتى هذه اللحظة .

مرحلة التحولات

كان الجانب الأكثر إثارة في تلك المرحلة قصص التحولات والتراجعات التي حدثت من شخصيات ذات مواقف وآراء متشددة في السابق ، وبعض هذه التحولات أو التراجعات جاء مبكرا كما عند الشيخ (عبد المحسن العبيكان)

وظهر بعض ملامح القابلية للتغير والاستغداد، المهم في بعض هذه التغيرات أنها بدأت من أسماء ذات أهمية في تيار الصحوة في مرحلة التسعينيات .

هناك أيضا تحولات لأفراد لم يكونوا معروفين في ذلك الوقت ، لكن جاءت شهرة التحول التي عرض أصحابها قصتهم بسبب السرد الغرائبي في التحول من أقصي حالات التقشف والزهد إلى مرحلة أقل تشددا ، قبل أن تتطور بعض هذه التحوّلات إلى مراحل جديدة في ما بعد .

هذه الصورة الغرائبية والمثيرة جعلت تيار الصحوة التقليدي يحاول استعمالها من أجل تشويه هذه التحوّلات لبعض أبنائها ، وقد نجح مؤقتا في هذا التشويه لكنه لم ينجح في ردع هذه التحوّلات وفي المقابل كان الاستفزاز من الطرفين يقوم بمهمة إيجابية أخرى في الإثارة ولفت الأنظار لمسألة التحولات

ولهذا الجانب قصة طويلة وتحوّلات ليس هنا مكانها ، على الرغم من أنه كتب عنها أصحابها ، إلا أنها تخفي أكثر مما تظهر .

لم تكن هذه التحوّلات وفق رؤية محدّدة كما كان يحدث لتحولات التدين في السابق ، حيث ينخرط المتدين الجديد مع مسار تدين الصحوة وخطابها الذي تشكل واستقر حيث لا توجد رؤية ومنهج وتيار يمكن الانخراط فيه ، فلم تكن سوى رغبة في التغيير ، ومواجهة ما يرون أنه أخطاء الماضي ومراجعته

ما جعل مسار التنوير الديني يأخذ اتجاها عشوائيا ، فلكل فرد قصته ومنهجه وتجربته الخاصة وتاريخه الفكري ، وأولوياته ، لهذا أخذت التحولات صورة ضبابية في رؤيتها الفكرية .

اتفقت هذه القناعات على أهمية النقد والتغيير ، ثم بدأت تأخذ ملامح خاصة بمرور الوقت ، وتشكلت شلل تجمع الرغبات والرؤى والتصورات لكل منها

وكان هناك تفاؤل بأن تنجز هذه الظاهرة تطورا فكريا في الساحة والمحلية ، وتقدم ما عجزت عنه تيارات أخرى في السابق من قومية ويسارية وحداثية لأن تحديثها بدأ النقد في المجال الديني .

لقد عايشت تفاصيل هذا الحراك التنويري ، ولاحظت منذ البداية ملامح أساسية وهي :

  • أن الأغلبية كان وعيها الثقافي والسياسي ضعيفا ، لعدم وجود أى أرضية فكرية معاصرة لرؤيتها ، والتي تدور بين الرؤية الصحوية التي سادت خلال عقدين ، أو الرؤية السلفية التقليدية أو رؤية مدرسة أهل الحديث ، وغيرها من التنويعات داخل التيار الإسلامي
وكان نقص القدرات واضحا ، حيث لا متابعة للصحافة والإعلام في مراحل مهمة ، وبعضهم كانوا في عزلة حقيقية وكأنهم قدموا من عالم آخر ، حتى إن كانوا درسوا وتخرجوا في الجامعات فالصحوة عزلت كوادرها عن الإعلام والثقافة المعاصرة .
  • أن بعضهم انخرط مبكرا في أنشطة حركية ودعوية وسياسية ، قبل تحقيق الحد الأدنى من الوعي والإدراك وتعرضوا لضريبة هذا التسيس المكبر قبل الوعي
فبعضهم كان صغير السن لا تسمح خبراته بإدراك الكثير من التعقيدات ، وهذا الخلل الذي كان واضحا مع اختلاف في درجة حدته بينهم إلا أنه سيؤثر في نوعية التحوّلات وطريقتها في مراحل تالية .

وهذا أدي إلى التسرع في تغيير الآراء والاقتناع المتعجل ، والانتقال من فكرة إلى أخرى قبل نضجها ، بدأ هذا التسرع كنوع من محاولة اللحاق بالأفكار الجديدة ، والدخول إلى مرحلة عصرية أكثر تحررا؛

فظهرت حالات التسرع من خلال الآراء الاستعراضية ، والتظاهر بالمعرفة العصرية في اللقاءات والحوارات ، مع أن الكثير منها مجرد عناوين ومصطلحات وأسماء لمفكرين دون استيعاب طويل لمشاريعهم الفكرية .

ولا توجد خبرة في قراءات مطولة لأهم المفكرين العرب ، وكان هناك ضعف في استيعاب التحوّلات الفكرية والسياسية التي حدثت عربيا وخطاب التيارات القومية والشيوعية والعلمانية .

تزايد سرد قصص وحكايات الصحوة تحت عناوين (قصتي مع الصحوة) مثل عبد العزيز العلي 7 محرم 1429 هـ على (موقع قناة العربية نت) تقليدا لقصة (التائهة) التي اشتهرت في المنتديات (النتّية) ومحاولة إلى لفت الأنظار .

وتبدو مشكلة هذه القصص الفردية ليس فقط في أنها أصبحت مكررة ومملة ، وإنما في أنها لا تقدم ما هو جديد وتكتشف المكتشف ، وفي هذه القصة يري أنه يقدم معلومات عن الصحوة الحركية

وعن أساليب الصحوة في توجيه أتباعها والتأثير في العلماء ، وطريقتها في رصد المعلومات وآليات إنكار المنكر ، وأساليب تربية النشء في المدارس ، وحلق تحفيظ القرآن ، والرحلات والمراكز الصيفية ، وكيف أنها كانت تقام على أسس هرمية منظمة ، ولقاءات وندوات خاصة .

ومن خلال هذه القصة يظهر أن صاحبها بلغ مرحلة متقدمة في الكادر الحركي واطلع على التفاصيل، بدليل أنه رافق بعضهم في الذهاب للعلماء لإنكار المنكر والتفاصيل التي قدمها حول بعض المشكلات التربوية والأخلاقية عن حلق تحفيظ القرآن ، وإشارته إلى النقص عند بعض المتحولين في معرفة الصحوة لأنهم من خارجها .

هذه القصة وغيرها من القصص الكثيرة محاولة فاشلة لإحراج تيار الصحوة هذا التحول تبدو مشكلته أنه يحاول تصوير أن التنظيم والتجمعات ، والرحلات ، والندوات ، الرصد ، والذهاب للعلماء ، صارت مؤامرات في نظرهم ، مع أنها أشياء معروفة للجميع حتى في مرحلة الصحوة ..

ومن يستمع جيدا للكاسيت الصحوى ويرصده ، سيدرك أن جميع هذه الاكتشافات كانت معلنة في المحاضرات ، ويوجه لها شباب الصحوة علنا ، وتطرح مشكلاتها ومخططها في إرشاد المجتمع ودعوة الشباب ، ولا أدري أين مصدر الغرابة هنا ؟! ولا أدري كيف يكون كادرا صحويا ، ولا يدرك طبيعة ماذا كان يعمل ؟!

هل يتصور هو وغيره أن ما يقوله من معلومات عن هذه الأنشطة المسموح بها رسميا في العمل الخيري ، والحلقات، أو الأنشطة التابعة لوزارة التربية والجامعات خلال أكثر من ربع قرن ، أنها عمل سري ؟

ربما كانت كل أم تعرف أين يذهب ابنها ، وماذا يفعلون في رحلاتهم ، ويرون أنه عمل خير ، فضلا عن الدولة التي تدرك جميع هذه التفاصيل ، بل كثير من الأسر أعجب بهذا الانضباط الذي تربي أولادهم عليه ، بعدما كانوا يتسكعون في الشوارع من دون هدف .

مثل هذه الاكتشافات الغبية مؤشر على فشل وعي هذه الكوادر الصحوية في إدراك أين كان الخلل في هذه التجربة خلال ربع قرن ؟ وأين كان الخلل في تجربتهم الفردية ؟ ولهذا الموضوع قصة أخرى .

المشكلة في هذه الاعترافات أنها تعبر عن قلة الوعي بمعني التنظيم ودرجاته ، فلا يعقل أن تدار جميع هذه الأنشطة الضخمة في السعودية من دون تنظيم ومن دون رؤية فكرية رسمية أو غير رسمية ، ومن دون تفاهم بين النخب الصحوية حول مشكلاتها ، وتوظيفها في خدمة الدعوة وانتشار فكرهم .

مثل هذه الاكتشافات التحريضية ناتجة عن قلة الوعي المبكر لديهم وهي نموذج لقلة وعي الصحوة في تربية كوادرها وتثقيفهم وهي جزء من مشكلات الصحوة الكثيرة .

ولو كانت الصحوة مسيسة بالطرق الموجودة في أى تنظيم حزبي في العالم لما أصبح وعيها هي ومن مثلها بهذه الصورة ، فطريقة النقد وكشف المعلومات تدل على سذاجة مستمرة وإذا كان للصحوة من عيوب فهو بتخريجها مثل هذه النماذج في التفكير السياسي .

هؤلاء يفترضون أن أى عمل خيري منظم يجب ألا يكون له أهداف سياسية رغبة في تجريد الإنسان من هذا الحق (كفرد أو مجموعة) أليست الدولة عندما دعمت تيار الصحوة كان دعمها لهدف سياسي واضح يدركه أى مثقف حينها ، ويعرف مبرراته ؟

فوضع الشباب تحت هذه البرامج هو جزء من السياسة وتصور أن هذه النشاطات ستكون خالية من السياسة هو تفكير عجائز وعوام .

الحقيقة التي سأقدم تفاصيلها في كتابة أخرى أن الصحوة على الرغم من أنها عملت تنظيما كبيرا في إدارة المجتمع وتوجيهه، واختراق مؤسساته إلا أنها كانت ضعيفة جدا في اللعبة السياسية وحيلها والوعي بمعناها الحقيقي كنشاط وتحزب ، لأنه يغلب عليها الهموم الدعوية والتربوية ، ولو غلب عليها الهم السياسي مبكرا لكانت النتيجة مختلفة .

المشكلة في هذه الرؤى البسيطة أنهم يعتبرون " الهدف السياسي " تهمة بذاته، وأنه رجس من عمل الشيطان ، فحتى الرجل الحكومي والصحافي النفعي الذي يطبل للحكومات والزعماء هو يمارس عملا سياسيا بحتا ولمصلحة سياسية له وللجهة التي تدعمه ، ويمكن لأى أحد أن يتهمه بأنه مسيس !

كانت مشكلة الصحوة أنها " استعملت سياسيا " في ضبط المجتمع لكنها لم تكن بالذكاء الكافي سياسيا ، ولهذا عندما حدثت أزمة المعارضة لم يلتحق بها إلا هامش محدود جدا ، وأسماء قليلة جدا.

وإذا كانت الصحوة أخرجت أكثر من ثلاثة أجيال حتى أصبحت بهذه الضخامة ، فإنه يحسب لها أنها لم تفرز عددا اكبر من المنشقين .

مشكلة هذه الكتابات أنها تريد أن تنزع أى بعد ديني خيري في نشاط الصحة ، وتوصيفه وكأنه عمل سياسي محض ، وهذه مغالطة ضخمة يجب أن يترفع عنها العقلاء ، ومن يريد فهم الواقع على حقيقته وليس اختراعه كما يريد !

إيجابيات هذه الظاهرة

لقد حركت الأجواء المحلية الراكدة طويلا بأسماء معدودة تملك رؤى تنويرية واستطاعت التأثير في المشهد الإعلامي والصحافي ومنتديات الإنترنت ، فلأول مرة يشهد التيار الديني تحديا فكريا حقيقا ومربكا لكون هذه الأسماء التنويرية التي ظهرت في هذه المرحلة كانت تملك خلفية شرعية جيدة .

لم يكن هناك قيادات أو تنظيم لهذه الظاهرة ، حيث لم توجد رموز فكانت الأمور في بداياتها تسير من دون تنظيمات خاصة، وبدا وكأن لديهم موقفا من العمل على طريقة مرحلتهم في الصحوة

فسارت الأمور بقدر من العشوائية ، لكن التنظيم لابد أن يظهر لاحقا بطريقة جزيقة جزئية شللية ومصلحية وهو ما تطوّر في ما بعد وأصبح يمكن تحديدها في ملامح عدة حيث كانت هذه الشلل والدوائر تتغير بمرور الوقت إلى أن استقرت بأشكال محدّدة وفي تجانس شخصي وفكري ونفعي .

وهذا بالتأكيد ترك تأثيره في نمط الحراك نفسه سلبا وإيجابا ، حيث ظهرت المجاملات الشخصية والدعاية لأسماء معينة، والتسويق المتبادل لوهم الريادة الفردية على حساب المضمون الفكري ، فاستبدلت تنظيمات الصحوة بتنظيمات شللية نفعية ، تطورت في ما بعد وأصبحت مرتبطة بدوائر ذات قرب من قوى مهمة .

والشللية ليست عيبا في ذاتها فلا يمكن تصور حراك ونشاط فكري وسياسي وديني دون تشكل درجة من التنسيق البدائي إلى النوع المتقدم جدا

وفقا لظروف كل مرحلة ومجتمع فكثير من التجارب لرموز فكرية أحدثت تغيرا في مجتمعاتنا العربية كان نشاطها يتضمن هذه الشللية لكن الذي حدث أنه لم ينتج عنها أى مشروعات جادة وبعضها بدأ يضر بالظاهرة نفسها من خلال سيطرة النفعية الشخصية على الهموم التنويرية العامة .

لا يمكن حساب هذه الظاهرة على أفراد أو قيادات معينة فكل شخصية ساهمت كان لها دورها وفقا لوعيها وظروفها وحساباتها ومهاراتها الشخصية لكن هذا التعميم ليس على إطلاقه ، فالواقع أنه يمكن تصنيف عدد من الأسماء ونوعية تأثيرها .

كان من عيوب هذا الظاهرة أنه لم يوجد قدر من الاحترام للأسماء وفقا لإمكانياتها المعرفية ووعيها ، فقد حاول البعض أن يمارس ريادة بحيل متعددة عبر معرفات إنترنتية لتسويق اسمه يكتبها بمعرفاته الخاصة ومعرفات الشلة الخاصة به .

كان عدم وجود قيادات في البداية ميزة لهذه الظاهرة لكن غياب التقدير للأكفاء أعطت علامات مبكرة على عدم جدية هذه التغيرات ، وأن الكثير منها محاولة لصنع مجد شخصي بأسهل الطرق

حيث تراجعت كثيرا الهموم محاولة لصنع مجد شخصي بأسهل الطرق ، حيث تراجعت كثيرا الهموم المعرفية والتأملات الفكرية الجادة ، والبعد الرسالة المخلص في إتقان مهمته للمساهمة في تصحيح الأخطاء الاجتماعية والسياسية والدينية

ولهذا لم ينجز خطاب تنويري متماسك محلي حتى الآن ، بعد أن أخفقت المعاصرة العشوائية والأصالة الساذجة ، لهذا كانت الكتابات في ما بعد تأتي على شكل موجات وموضات ومحاولات لفت النظر بالإثارة .

لقد فوجئت بالانهيارات الفكرية التي حدثت في ما بعد ، حيث كانت تحدث تغيرات بمعدل سنوى في الأفكار الرئيسة والرؤية الدينية والسياسية مع موجة المزايدات الطفولية ، ليثبت كل واحد أيهم أكثر انفتاحا من الآخر .

بالتأكيد لا أحد يرحب بالجمود لكن أن تصبح هذه المرونة والهشاشة في الأفكار قابلة للتغير بسهولة في جلسات عابرة ، ونفعية طارئة ، فإن هذا يفقد الصدقية لأى خطاب .

إن بعض التحوّلات المتسارعة من الصغار سنا تبدو مفهومة لأنهم كانوا عرضة لحضانة طويلة فكرية مبكرة ، ثم جاء الانفتاح الإنترنتي المفاجئ فمشكلة صغار السن أن وعيهم الأولي لم يتشكل إلا في أقوى مراحل خطاب الصحوة

ولم يدرك بعض أزمنة ما قبل انتشار الصحوة وتأثيرها في المجتمع ، حيث السيطرة الكبرى لمنطق وخطاب كاسيت الصحوة ، ما ولد لبعضهم ردة فعل عكسية بعد سنوات .

المؤثرات في تشكل الظاهرة

وجدت مجموعة عوامل في هذه المرحلة ساعدت على وجود زخم لهذا التغيير والتحولات ، فكان لدورها تأثير مهم ، وأسهمت في التعريف بالظاهرة ..

فقد كان للكاتب والصحافي (على العميم) دور تاريخي ، خصوصا في مجلة المجلة في الفترة التي رئس تحريرها عبد العزيز الخميس حيث كان له دور مؤثر في إتاحة الفرصة لوجود مساحة صحافية نقدية محلية في تلك المرحلة المبكرة وعناية يمثل هذه القضايا

فقدمت موضوعات اجتماعية مهمة وأتاحت لعدد من الأقلام الكتابة بها وللعميم دور مهم في توجيه بعض هذه الأقلام من المتحولين الجدد في عالم الصحافة والثقافة ، فلم يقتصر دوره التنويري للمتحولين الجدد على إتاحة الفرصة للنشر

وإنما استطاع أن يختصر لهم الزمن في تعريفهم بالأسماء الثقافية والفكرية في عالمنا العربي والتعرف على الكثير من المفاهيم و واللافت أن بعض هؤلاء المتحولين على الرغم من إسلاميتهم ، لم تكن لديهم خلفية عن الحركات الإسلامية المعاصرة وتاريخها وتطوراتها ، وإنما جاءت متابعتهم متأخرة كثيرا .

ومن الأسماء المهمة التي أثرت في بعض من المتحولين الكاتب (سليمان الضحيان) وكان من أبرز الشخصيات التي كان لها حضور في المراجعات الفكرية والفقهية ، وأكثرهم خبرة وتجربة في الصحوة ، لأنه عاصر تحوّلاتها المبكرة .

وتأتي ندوة الكاتب (نواف القديمي) كأهم اللقاءات التي أثرت تلك المرحلة ، وغيرت مسارات العديد من الأسماء ، حيث طرح فيها العديد من الموضوعات الحيوية من خلال استضافة أسماء مهمة في الثقافة والفكر، محلية وخارجية

وقد بدأت هذه الندوة قبل أحداث أيلول (سبتمبر) بقرابة العامين ، وقبل أن تأخذ منتديات الإنترنت المساحة الكبري من الجدل الفكري والديني .

ظهرت أيضا (جريدة المحايد) التي حسبت كمشروع تنويري إسلامي وساهمت بشكل كبير في إثراء النقاش الفكري داخل الوسط الصحوى ، إلا أنها واجهت بعد ذلك العديد من المشكلات الخاصة .

كانت جريدة الوطن أيضا تتهيأ للصدور ، وبدأت بعد صدورها بقوة وحيوية فكان (لمنصور النفيدان) دور أساسي في عملية التنوير الصحافية عندما كان يشرف على صفحة دين ودنيا في هذه الصحيفة

وذلك من خلال طرح العديد من القضايا والملفات ، واستضافة العديد من الكتاب السعوديين وبمرور الوقت صار الإنترنت يشكل حضورا متزايدا ، وفي مجال الفكر والثقافة ونشر الكتاب ، ظهرت في تلك المرحلة مكتبة (التراثية)

التي ساهمت في توفير الكتاب الثقافي والفكري المختلف عن المكتبات الأخرى، وأحيانا المحظور والذي غاب عن الساحة السعودية لعقود عدة ، مع بدايات تخفيف الرقابة الإعلامية .

التنوير .. وأحداث أيلول (سبتمبر)

جاءت أحداث أيلول (سبتمبر) فطغت على كل شئ ، وأصبح الكثير من الجوانب مدفونا تحت ركام هذا الحدث الضخم .

أشرت إلى أن التغيير، ومحاولات التنوير الفكري الديني سبقت أحداث أيلول (سبتمبر) بقليل ، بعكس ما يتصوره الكثيرون الذين ربطوا كل شئ بهذه الأحداث بل حتى بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية سبقت أحداث أيلول (سبتمبر) فشعور السياسي بضرورة التصحيح بدأت ملامحها قبل هذا الحدث

فكانت الإصلاحات الاقتصادية بعد تدهور أسعار النفط في عام 1999م، والتصالح مع التيار الديني الصحوى الذي نتج منه خروج مشايخ الصحوة من السجن . الجديد الذي حدث أن الغرب ضاعف من اهتمامه بالحركات الإسلامية وكانت السعودية في مقدمة الدول التي تعرضت لهجوم ونقد شديدين .

ما هو إيجابي في أحداث أيلول (سبتمبر) أنه فعل دور تيارات أخرى كانت خامل فدخلت في موجة الإصلاح بعد سكون طويل .. وحدثت تحالفات بين اتجاهات عدة لأهداف إصلاحية سياسية .

إن تركيز الإعلام العالمي على السعودية أعطي هذا الخطاب الجديد قيمة إضافية ، وتغطية بعض الصحف الخارجية له؛ ولقد تأخر مثقف الثمانينيات والتسعينيات التقليدي في الدخول في حوارات المرحلة وجدل اللحظة لأنه غارق في شؤون ثقافية خاصة ، ولديه حساسية وخوف مستقر في وعيه القديم من كل ما هو سياسي وديني .

كيف تفاعل التنويري الجديد مع هذا الحدث ؟ اللافت أن ردة الفعل الأولية ، ومشاعر الصدمة الأولي ليست كما كنت أتوقع وأتمنى ، فقد فوجئت شخصيا من نوعية ردة الفعل ..

وقدمت لى مؤشرات مبكرة على مدي ضعف الوعي السياسي والثقافي وعدم القدرة على التمييز بين القضايا الأحلاقية و السياسية والدينية وخاصة في الأيام الأولي وعدم التماسك الفكرة والعقلاني للرؤية الإسلامية والحضارية والإنسانية فوجئت بالتخبط وردود الفعل العاطفية في بعض الحوارات واللقاءات التي حدثت خلال الأسابيع الأولي للحدث .

كان الخلل واضحا في ضعف الوعي التنويري في استيعاب جوانب فكرية وسياسية كبرى ، قبل أن يقوم الكثيرون من التنويريين بعملية تجميل لمواقفهم تدريجيا وفق تعديلات جذرية وهناك العديد من الأسماء التي كانت محسوبة على الظاهرة التنويرية وأخفقت في تقييم الموقف في مثل هذه الأحداث وتفسيرها في بدايات الحدث .

في تلك اللحظة لابد من الشعور بصعوبة صياغة وكتابة خطاب عقلاني سياسي وديني يؤسس لوعي منهجي لإشكالية العنف، فلم يطل التخبط فقط أسماء هذه الظاهرة بل طال حتى الكتاب الرسميين لأن الموقف الرسمي العام شابه هو الآخر بعض الآرتباك وبخاصة مع تزايد التهم الموجه للبلد ، ومع الرأي الشعبي المرتبك ..

أما موقف التيار الديني فكان مبدئيا كما توقعته فكتبت المقالات العديدة للتذكير بخطورة التعامل مع هذه المسائل ، ودخلت في مناقشات ، قبل أن تتغير قناعاتهم لاحقا ، خاصة بعد أن وصل العنف إلى الداخل .

إن موقف بعض التنويريين اهتز في البدايات ، ثم أخذ يتحسن تدريجيا وبعضها كان تحسنا نفعيا حسب اتجاه البوصلة إلى أن اتضحت الأمور التي كشفت عن قدرات الكثير منهم ، ومدي وعيهم السياسي .

جاءت أحداث أيلول (سبتمبر) وكنت في مرحلة استيعاب لإشكاليات سياسية وثقافية ودينية و بسبب شعورى بصعوبة الكتابة والخطاب في أجواء المرحلة الأولي بعد الحدث ، إلى ما بعد أفغانستان ، في هذا الجو المرتبك الذي كانت تمزج فيه الرؤية العقلانية بين الرؤية السياسية والديينية .

ومما زاد من إشكاليات الموقف أن الرؤية الرسمية التصريحات الكثيرة تبدو معززة للكتابات المرتبكة في تقييم الأزمة وقد أشرت في حينها إلى ضرورة التمييز بين دور المثقف والسياسي في مثل هذه الحالات

وما كتبته وما سجلته حول إشكالية الأزمة في وعي تلك المرحلة إلى ما بعد أحداث أيا (مايو) ليس مجرد مقالة ، أو مقالتين ، وإنما عدد كبير من المقالات التي يمكن أن يجمعها كتاب خاص لتصور مسائل سياسية ودينية وإشكاليات الإرهاب في أجواء تلك المرحلة .

مبررات ارتباك الصدمة الأولي !

كان الرأي الديني الرسمي والتقليدي رافضا منذ البداية امتدادا لرفضه القديم لأحداث سابقة في التسعينيات والبيانات التي كانت تخرج لكن هذه المرة من دون إدراك لطبيعة ، التحدي الجديد

وأنه بحاجة إلى خطاب مختلف في تعامله مع الحدث الكبير لهذا فوجئ هذا الخطاب نفسه بالتطورّات وموقف المجتمع من الأحداث مقارنة بالسابق ، وردود الفعل الشعبية ،الإعلامية فهو أول اختبار لخطابهم بعد انهيار الرقابة الإعلامية في زمن ثورة الاتصال .

ولأن حادث 11 أيلول (سبتمبر) جاء بعد انتفاضة الأقصى في العام 2000م ، حيث شحن الرأي العام العربي والمحلي في المقالات والفضائيات والانترنت والمساجد

هذا الشحن كان بعضه عفويا ورسميا شارك فيه الكثيرون ولهذا كانت مسألة حكم الأعمال الانتحارية في فلسطين أخذت رأيا باتجاه التأبيد بوجه عام ، وواجه الرأي المتحفظ صعوبة في إبداء هذا الرأي

وحتة رأي المفتي في تلك اللحظة لم يكن حازما في رفض هذا العمليات وإنما توقف ومع ذلك سخر منه الكثيرون حتى من الكتاب الذي زايدوا فيما بعد على التنوير

وحتى الذين أيدوا هذه العمليات على أن تكون مشروطة بضوابط خاصة في الوضع الفلسطيني كما عند القرضاوى ، ولا أريد استعراض طبيعة الخلاف الفقهي في هذه المسألة ، والآراء التي قيلت فالذي أيد أو تحفظ كل له منهجه ومبرراته ولا ينبغي أن يزايد أحد على الآخر .

كثيرون تغيرت آراؤهم بعد تطورات الأحداث ، ووصول هذه العمليات إلى أماكنهم ومجتمعاتهم حتى أن الرفض أصبح غوغائيا كما هو القبول عند بعضهم وكفروا بالقضية الفلسطينية؛

وحتى في حق مقاومة المحتل ، ومع تحولات ملف العنف ، وزادت حدة المغالطات عندهن في عرض الأمور الغياب تفاصيل كثيرة عن القارئ العادي .. وفهم أسباب العنف ملف كبير لن أتعرض له هنا .

كان موقف التنويريين مع الانتفاضة في تقدير إيجابيا وموفقا مع تحفظي على الحماسة في الخطاب وقد كتبت حينها عن تحرير الخطاب وتحرير القدس لأن الموقف من الصهونية وإسرائيل من المفترض أن يكون محسوما عند جميع التيارات

حتى إن اختلفت الرؤية في أسلوب المقاومة باختلاف الوعي السياسي ، لكن عندما أصبح العنف ضد الولايات المتحدة أصبح الموقف أكثر تعقيدا من الناحية السياسية وبخاصة أن الانتفاضة كانت لا تزال ساخنة .

وعلى الرغم من التخبط الذي حدث في المواقف من قضية فلسطين ونوعية الموقف من إسرائيل وأمريكا ، إلا أنه أقل بكثير من التخبط في مواقف ما بعد عام 2006م ، 2008 م التي تعبر عن مدى الهلامية عند البعض في تحديد المواقف السياسية والفكرية .

كان موقف التنويريين من قضية تحطيم طالبان للأصنام واعيا ، وقدموا نقدا لافتا ، وظهرت كتابات ومقالات في الصحف والإنترنت كشفت عن وعي فقهي في نقد هذا العمل ، وحدثت حينها مواجهات بين الرؤية السلفية التقليدية والتنويرية فكانت حوارات تاريخية وثرية .

ومن الجوانب التي عززت ارتباك الكثيرين من أصحاب الرؤى التنويرية أن بعضهم كان لا يزال حديث الاطلاع على الأفكار العصرية والسياسية؛

ثم إنه في الوقت الذي كان الحوار فيه ساخنا حول مشروعية وأخلاقية هذا العمل كانت الولايات المتحدة بدأت تدك أفغانستان بطائراتها وصواريخها لإسقاط حكومة طالبان بعملية (النسر النبيل) فحدث الارتباك في المواقف وتحريرها

وظهرت (لكن) الشهيرة في التعامل مع هذه القضايا ، ومع أنها كانت ولا تزال تساؤلا مشروعا ، فإن أصحابها لم يتقنوا وضعها في مكانها وزمانها الصحيحين .

خطاب التنوير في الوطن

يصعب تسجيل ما قبل وما بعد الحدث السبتمبري في كل تفاصيله ، مع أنه من الضروري عرض بعض ملامح خطاب تلك اللحظة التاريخية التي حدث فيها هذا المنعطف ونظرا إلى أن جريدة الوطن كانت من أبرز الصحف السعودية التي تفاعلت مع الأحداث بقدر من الحيوية والانطلاق وعرضت جميع أنواع ردود الفعل

فقد كانت أهم وأول الصحف التي احتضنت الخطاب التنويري الجديد وقدمته للمجتمع ولا أريد التعليق على الكثير مما يمكن عرضه هنا، إلا في تلخيص بعض محتوياته للضرورة لتقديم تصور أولي لتلك اللحظة قبل الحدث بأسابيع وبعده .

شهر آب (أغسطس) 2001 م

  • علماء الشريعة والوافد الثقافي .. المنطق (أنموذجا) (سليمان الضحايان ، 26 / 8/ 2001م) .
  • العقل والنقل (خالد الغنامي ، 22/8/ 2001م)
  • الحرية وأحاديث المساء (عبد الرحمن اللاحم 22/8/2001م)
  • تقييم محاولات النهضة .. قراءات متناقضة (عبد العزيز الخضر، 22/ 8/ 2001 م)
  • لأننا لا ننتج معرفة (يوسف الديني ، 27 / 8/ 2001 م)
  • المجتمع المدني .. والخبرة الإسلامية ( زكي الميلاد ، 20 /8/ 2001 م)

شهر أيلول (سبتمبر) 2001 م

  • منجزات الصحوة .. هل تكتمل بأدوات جديدة ؟ (عبد العزيز القاسم ، 1/9/2001م)
  • الفلسفة والدين (خالد الغنامي ، 1/ 9/ 2001 م)
  • موضوع في صفحة دين ودنيا ، وحلقات حول ما يفعله بعض العلماء من التخيير بين النصوص الشرعية في أحكام التعامل مع غير المسلمين منهج مزاجي لا يحكمه إلا الهوى (عبد الله إبراهيم الطريقي ، 1/9/2001م) .
  • أخبار الانتفاضة مستمرة .. في الصفحات الأولي في هذه الفترة ومقتل أبو على مصطفي في فلسطين .
  • علماء الشريعة والوافد الثقافي .. المنطق (أنموذجا) الحلقة (5) .
  • (سليمان الضحيان ، 2/9 / 2001 م)
  • التعصب آفة (عبد الرحمن اللاحم ، 2/9/2001م) .
  • صفحة دين ودنيا ، حوار مع محمد العوضي ، الإسلام لا يفتش عن عقائد الناس الخاصة ، والملحدون في التاريخ الإسلامي (2/9/2001 م)
  • أبو بكر نفسه لم يعرف وعمر هو الآخر يخطئ (خالد السيف ، 3/9/2001 م).
  • الوعي السياسي ونظرية المؤامرة "مرة أخرى" (عبد الله الصبيح ، 4 / 9/ 2001م)
  • في صفحة دين ودنيا (عناوين كبيرة) مؤكدا أن الفلسطينيين الذين يفجرون أنفسهم في أعلي مراتب الشهادة القرضاوى يحذر من التوقيع على وثيقة الأمم المتحدة للطفولة (5/ 9 / 2001 م)
  • أفغانستان مرة أخرى .. مأزق فقه الدين ومأزق تنزيله على الواقع (وائل مرزا ، 7 / 9/ 2001 م)
  • مدائننا خضرة نادرة ومياه فائضة وطاقة اجتماعية غير مستثمرة (عبد العزيز القاسم 8 / 9/ 2001م).
  • نعم ولا .. لتدريس اللغة الانكليزية في المرحلة الابتدائية (سليمان الضحيان ، 9/9/ 2001 م)
  • مفهوم الحرية ، (خالد الغنامي ، 10/ 9 / 2001م) .
  • بالأحمر الكبير (مانشيت) الصفحة الأولي : أكبر هجوم انتحاري منسق يستهدف أمريكا ويهز العالم الثلاثاء الأسواد يشهد كارثة ضرب العصب الأمريكي عسكريا واقتصاديا وسياسيا (2/9/ 2001 م)
  • أزمة في تشخيص أزمتنا الحضارية (عبد العزيز الخضر ، 12 /9/ 2001م)
  • السلطات الأمريكية تطلب أسماء المتدربين العرب في علوم الطيران (14 / 9/ 2001م)
  • هذه أمريكا ، على الموسي ، (4 / 9 / 2001 م) وإشارة من الكاتب إلى تفجيرات أو كلاهما .. وحديث عن دور أمريكا في تقليب الخريطة العالمية .. ونتائجها السلبية .
  • على هامش مأساة نيويورك ماهر عبد الله ، يطالب بأن تعامل مثل الجريمة العام ، 14 / 9/ 2001 م.. ووائل مرزا يكتب عن التطرف في إيرلندا وعن التطرف كمنهج .
  • رامبو الأمريكي يتحول إلى "ميكي ماوس" في لحظات خاطفة (عبد الله السمطي ، 14 / 9 / 2001 م)
  • عناوين صفحة كاملة في محليات : في حديثه للتلفزيون السعودي حول حكم شريعة الإسلام في الاعتداءات على أمريكا .. الشيخ اللحيدان : الإسلام يحرم الجرائم العظام والفواحش الخطيرة التي تقع ولا تفرق بين رضيع وامرأة ومسن ومسنة .
  • كلام عام حول حكم الخطف للطائرات ومنهج الإسلام
  • "ومما طرح على من الأسئلة وهي كثيرة قبل أن أقبل بأن أتكلم ، ولكن تحت ضغط كثرة الأسئلة والرغبات في أن أتحدث ، ويعرف موقف القضاء في المملكة العربية السعودية ..
أكرر مرة أخرى أن هذا العمل الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الفظاعة والوحشية المتناهية هو أبعد من عمل الوحوش وأبعد من عمل ما يسمي جماعات وإرهاب وفصائل إجرام 15 / 9 / 2001 م"
  • تعليق : هذا الخطاب من اللحيدان كان متوقعا لأي مراقب للذهنية الرسمية المحلية ، فهو امتداد للمواقف الدينية الرسمية في بداية التسعينيات خطاب يبدو روتينيا إلى النص المقتبس هنا عن أمريكا ، حيث لا جديد فيه
إلا أنه جاء في لحظة مختلفة في سياقها ، وقبل معرفة هوية الفاعلين ، فربما يكون من الشعب الأمريكي كما كانت توقعات البعض ، ولهذا لم تجد هذه الكلمة صدي إيجابيا في وقتها ومع الفوضي الذهنية التي سادت في تلك اللحظة ، فإني سجلت ملاحظات حينها لصدي ردود الأفعال ، فالرأي الشعبي التلقائي شبه مرحب به عند الغالبية
خصوصا أن انتفاضة القدس ما زالت ساخنة في أذهان المجتمع ، لذا يبدو أن هذه الكلمة (خاصة الاقتباس الأخير الذي نقلته هنا ، لم تحدث أثرا يذكر خصوصا مع الشعور العدائي الداخلي ضد أمريكا ، وهو ما جعل ردود الفعل في الانترنت من مختلف التيارات والأقلام في اتجاه مضاد لهذه الرؤية .
وفي الخطاب المحلي كان الرأي الرسمي أيضا بدأ يرتبك وقد سجلت حينها العديد من الأخطاء الدبلوماسية في هذا المجال وهذا أدي إلى تخبط الخطاب السياسي والثقافي والديني
وجاءت ردة الفعل بقدر من الضبابية اللافتة ، لم يكن الرأي الأغلب على طريقة خطاب "القاعدة" لكنه لم يقدم خطابا يناسب اللحظة في تماسك منهجي ، ولم يرتبك فقط تيار الصحوة العام؛

؛وإنما الخطاب التنويري الجديد مع بعض الكتاب الرسميين والتيارات الأخرى غير الإسلامية ، قبل أن تتطور الأمور وتتضح لاحقا لم يكن في تلك اللحظة وجود بارز لليبرالية الجديدة وفق ملامح ما بعد أيلول (سبتمبر) محليا ، والتي تأخر ظهورها قبل أن تتشكل بسنوات بعد عام 2003 م؟

  • الثلاثاء الدامي نجيب الخنيزي ، (15 / 9 / 2001 م) مقالة تدين السياسة الأمريكية وإسرائيل التي تستعمل المعونات الاقتصادية والأسلحة الأمريكية المتطورة لقمع الفئات المدنية للشعب الفلسطيني .
  • أحداث الثلاثاء امتحان دام لأخلاق القوة (عبد العزيز القاسم ، 15/ 9 / 2001م) .
  • عنوان في الصفحة الأولي .. مفتى السعودية : التفجيرات التي وقعت في أمريكا ضرب من الظلم والجور والبغي الذي لا يقره الإسلام . شبابنا في مواجهة الأحداث ، (عثمان الصيني ، 16 /9/ 2001م) عن ردود الفعل ورسائل الجوال ومقاهي الإنترنت ومطالبة بالدخول للمواقع الأجنبية للرد على الهجوم ضد العرب والمسلمين .
  • ليس العنف هو الجواب الصحيح على العنف (برهان غليون ، 16/9/2001) لكن في مواجهة انفلات البربرية بالصورة التي انفلتت فيها لا ينبغي الوقوف عند الإدانة ولابد من التأمل في الظروف التي سمحت بحصول مثل هذه الأعمال الخطيرة .."
  • الأبرياء .. بين الإرهاب والانتقام (عبد الله دحلان ، 16 / 9/ 2001م) يري أن على أمريكا أن تبحث عما وراء ودوافع الجناة وأسباب العداء لها .
  • بداية الحرب الرمادية (سليمان الضحيان ، 16/ 9/ 2001م) فيه عرض لما حدث ، وينقل عن (فرانسوا لونكل) " ثمة تحليل يتعين القيام به عن الطريق التي حملت الديمقراطيات الغربية وخصوصا الولايات المتحدة على التعاطي باستخفاف مع احتدام الأزمة في الشرق الأوسط ، واليأس الذي يعتمل في نفوس عدد من شعوب العالم".

ويشير الضحيان إلى

" ثمة ابتهاج لا يمكن إنكاره عم الأوساط الشعبية في الوطن العربي وقد لمست هذا من الجمهرةالكاثرة في الشارع المحلي مع امتعاضهم الفطري من التعدي على المدنيين الأبرياء وفقا لتعاليم الإسلام التي تنص على حرمة قتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ
ومن كف يده عن الحرب ، ومرد هذا الشعور الذي يعتمل في نفوس الناس في الشارع العربي الدعم الأمريكي لإسرائيل في قتلها الأبرياء العرب من الشيوخ والأطفال والنساء وقد تعدي هذا الشعور عامة الناس إلى بعض المثقفين من الكتاب والوعاظ فهل هذا الشعور له مستند شرعي ، أو هو تنفيس عاطفي لا يليق في مثل هذه الظروف "
  • أيها الإنسان من رآك (عبد الرحمن اللاحم 16/9/ 2001 م) يري أنه يمكن تفهم موقف العامة تجاه الأحداث لسبب المواقف المجحفة للإدارة الأمريكية تجاه قضية فلسطين ، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن تبرير مواقف القيادات الفكرية الفاعلة التي تصنع قيم ومبادئ أولئك العوام .
  • عن خطاب الشيخ اللحيدان (على الموسي ، 17/9/2001 م) إشادة بطرح الشيخ .
  • حتى لا تستمر 11 سبتمبر اليهود في الأحداث الأخيرة (عثمان الصيني ، 17 / 9 / 2001 م) مطالبة ببذل الجهود لتحسين الصورة إعلاميا .
  • عندما تكون البندقية في اليد الخطأ (محمد الرميحي 18 / 9/ 2001)
  • رسالة إلى الرئيس بوش، (محمد الهرفي، 8/ 9/ 2001 م) يطالب أن يكون هناك تعريف محدد للإرهاب . القلق وسيناريوهات الغضب (خالد السيف ، 19/ 9/ 2001م)
  • حرب الإرهاب في صراع الحضارات (سليمان العقيلي ، 20 سبتمبر 2001 م) تعليق على كلمة بوش حرب صليبية .
  • بين زمنين ، (عبد العزيز الخضر، 21 / 9/ 2001 م)
" أغلب التحليلات التي تابعتها في الأيام القليلة الماضية من المحللين والكتاب والمثقفين لا يستفيد منه الرأي العام العربي و لا تصل للرأي العام الغربي بل قد يتضرر منه رجل الشارع العربي لأنه ليس بحاجة إلى إقناعه بخطأ السياسة الأمريكية الواضحة للعالم بقدر ما هو بحاجة إلى كيفية التعامل مع هذه الأزمة للخروج ببعض المكاسب وأقل الخسائر "
" هناك مسلمات في القيم والمبادئ وثقافة الأمة يفترض ألا تهتز مهما كانت حالة الإحباط واليأس والمؤسف أنه لوحظ حالة تناقض صارخة تعكس حالة الفوضى في المفاهيم حتى وجد من يدين هذه العملية ويفرح بها في الوقت نفسه !.."
  • أمريكا تصحو من صدمتها وتحاول مواجهة الأسئلة الكبرى ، فماذا عن أسئلتنا الكبري (وائل مرزا ، 21 / 9/ 2001 م)
  • الصفحة الأولي: الملا عمر يفضل إحراق أفغانستان على تسليم ابن لادن (22/ 9/ 2001 م) .
  • مفارقات لسان الحرب (عبد العزيز القاسم ، 21 / 9 / 2001 م) :
" بوش الابن جازف بإيحاء صلبنة حربه ، على الرغم من أن صليبية المعركة تستدعي في الذاكرة هزائم جيوش الصليب كما تستدعي بطولة خارقة لصلاح الدين فارس المسلمين في الحرب الصليبية "..
يشير إلى عقلاء الغرب الذي نادوا بوضوح في مراجعة الأبعاد الغائبة لهجمات الثلاثاء لاستكشاف أغوار ودوافع الفاعلين .. وظهرت الحكمة من رموز غربية كبيرة مثل كندر وتشومسكي ، وروبرت فيسك ، وفوكويا ما ".. " ثم نفاجأ ببعض مثقفينا العرب وقد انكب يعلمنا في هذه الظروف الحالكة كيف نحب أمريكا !!
وكيف نكتشف براءتها وعذريتها شامتا بمواقف الضعفاء والبسطاء الذين ظلموا فعبروا عن مواقف ساذجة ليطالبهم بحكمة وألوان اللغة الدبلوماسية .. يطالب بعيدا عن مزايدات الشجب وهي فرصة لطرح أسئلة علاقتها بالعالم ..
مع دموع الأم التي لم يعرف غزارتها مع ضحايا إفريقيا ، وأطفال العراق وثكالي فلسطين وأيتام الجنوب اللبناني وأمم من البشر الذين قضوا ضحايا حروب النفوذ في أمريكا اللاتينية وغيرها ".
  • أزمة أمريكا بين الجهاد .. الحرب الصليبية (سليمان الضحيان ، 23 / 9/ 2001 م)
  • دولة السيد الرئيس بوش (على الموسي 23 / 9 / 2001 م): " فأكبر قوة عدل على وجه الأرض كما تدعون قد تكون أكبر قوة ظلم إذا لم تفتح كل الأعين على منابع الإرهاب ".
  • التفكير قبل التدبير (نجيب الخنيزي ، 23/ 9 / 2001م) : "وإذا كان إرهاب الجماعات قد تطور وتمادي ووصل إلى مستويات خطيرة فإن إرهاب الدول هو أخطر مستويات الإرهاب ".
  • ثقافة العنف (على الدميني 23/ 9/ 2001 م) حديث عام عن العنف وصدام الحضارات ، وعن خطورة معاقبة أبرياء أفغانستان .
  • عناوين : في حديثه لشبكة (سي . إن . إن ) الأمير نايف نحن سباقون في مكافحة الإرهاب ، وقد وجهنا نداء في السابق إلى جميع دول العالم وإلى هيئة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (24 / 9/ 2001م) .
  • السباحة في المجهول (سعد عطية الغامدي ، 24 / 9/ 2001م) "إن الإرهاب يبدأ في إسرائيل وينتهي في إسرائيل ، وإن النسر النبيل لابد حتى يكون نبيلا أن يقتنص ما يعكر صفو القمم السامية .."
  • الإرهاب من منظور قانون (خالد أحمد عثمان ، 24 /9/2001م)
  • ما هكذا يا بوش تورد الإبل (عبد المحس هلال ، 25/ 9/ 2001م)
  • ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض (محمد الهرفي و 25/ 9/ 2001 م)
  • ما هو أخطر من انفجار الثلاثاء (عبد الله الصبيح ، 25 / 9/ 2001م)
  • النفاق الغربي في التعامل مع الإرهاب (على الموسي ، 26/ 9/ 2001 م)
  • لا يجب أن نسمح للقتلة بتسميم عقولنا (غازي القصيبي، 27 / 9 / 2001 م)
  • الحرب ضد الإرهاب حتمية (على بن سعيد الغامدي، 27 /9 / 2001 م) يطالب بتعريف الإرهاب .
  • الرد العربي والإسلامي على أحداث أمريكا .. أزمة في التفكير الاستراتيجي (وائل مرزا ، 28 / 9/ 2001م) .
  • قوة المنطق .. أو منطق القوة (يوسف الديني ، 28 / 9 /2001م) مهما قلنا في إدانته ، وتجريمه فهو قد ولد من رحمن السياسات الأمريكية وهيمنتها وموقفها تجاه القضايا المصيرية للأمة الإسلامية .."
  • الأصولية الأمريكية (نجيب الخنيزي ، 29 / 9/ 2001م).
  • التاريخ ما لم تحسبه حركة طالبان (على الموسي ، 30/ 9 / 2001 م)

شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2001 م

  • عام من الجهاد .. عام من الإرهاب (سعيد عطية الغامدي 1/10 / 2001م)
  • أيها الموقعون بالإنابة عن رب العالمين ، ليست المسألة " دم حيض "، وإنما دم أمة سيهرق (خالد السيف ، 1/ 10 / 2001م)
  • الانتفاضة سنة أولي (عبد المحسن هلال 2/10/2001 م)
  • قراقوش يظهر من جديد (محمد الهرفي 2/10 /2001 م).
  • محاربة الإرهاب والانتفاضة أنموذجا (عبد الله الصبيح ، 2/10/ 2001م)
  • التعريف الغائب للإرهاب (محمد عوض 3/10/2001 م)
  • تنظيم "اللآخلاقي" (عبد العزيز الخضر ، 3/ 10/ 2001 م)
  • إما معنا .. أو مع الإرهاب (عبد الرحمن اللاحم ، 3/ 10/ 2001م)

" ما زال العالم الإسلامي منذ عقود عديدة هدفا لمنتجات ومفرزات الحضارة الغربية ، سواء كانت سلعا تجارية أو أنماطا اجتماعية أو صفات سياسية ، والأخطر منها جميعا الصادرات الفكرية التي رأيناها تنهمر علينا بغزارة بعيد تفجيرات منهاتن .. ومن أبرز تلك المعلبات الفكرية الغربية التفسير الأمريكي ومن ورائه الغربي لمصطلح الإرهاب والعدالة "،.

" وإذا كانت العدالة حسب المفهوم الأمريكي هي قتل الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء في أفغانستان أو غيرها من أجل إعادة الهيبة للتنين الأمريكي ".

  • هل الإرهاب هو الحل في معادلات الأمم ؟ (عبد العزيز القاسم، 6 / 10 / 2001 م).
  • من وراء الأحداث في أمريكا (خالد الشريدة ، 6/ 10 /2001 م)
  • صفحة دين ودنيا: عرض لخطبة الحرم للشيخ صالح بن حميد .
  • عناوين بارزة: المسلم حينما يستنكر الإرهاب لا يستمد موقفه من إعلام الإثارة ولا من الفلسفات الاعتذارية ، ولكن من إسلامه الذي يمنع قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق .
  • عنوان آخر : ما يجري في فلسطين منذ عشرات السنين هو صورة ماثلة لإرهاب الدولة المنظم وشاهد عيان للظلم والعدوان " (6 / 10 / 2001)
  • صفحة أولي ومانشيت كبير : بدأ الحرب : طالبان و "آخرون" (8 / 10 / 2001 م).
  • النظام العالمي البديل .. قوة الحق لا حق القوة ، على إدريس ، 8 أكتوبر 2001 م.
  • هذه عارية ! ألا ترون .؟ (خالد السيف ، 8 / 10 / 2001م) ولنردد خلف أطفالنا .. لماذا أمريكا عارية "؟
  • كرة الثلج وكرة "الكره" (عبد المحسن هلال ، 9/ 10/ 2001 م)
  • العلاقات الأمريكية الإسرائيلية : لحظة الحقيقة (ماجد كيالي 9/10 / 2001م)
  • التحالف المميت إسرائيل تقود أمريكا إلى الهاوية (عبد المالك سليمان ، 9/ 10/ 2001 م)
  • هل سيكسب العرب ضد العنصرية الصهيونية ؟ (نعيم قداح ، 9 / 10 / 2001 م). متغيرات بوشية (محمد الهرفي 9/10/ 2001 م)
  • (هامش : ستلاحظ أن أغلب المقالات في نفس واحد ضد أمريكا و إسرائيل) .
  • تمرير "اللامعقول" (عبد العزيز الخضر ، 10/ 10/ 2001 م) حول قضية من يشككك في هوية الفاعل في أحداث سبتمبر .
  • زوبعة إسرائيل الأمريكية (محمد عوض ، 10 / 10 / 2001 م)
  • الهرولة إلى واشنطن .. خيار أم ماذا ؟ (على سعيد الغامدي 10/10/ 2001 م)
  • قضية أفغانستان .. الدين والوطن أولا (سليمان العقيلي ، 12 /10 / 2001 م)
  • ماذا لو تم ترشيح (روبرت فسك) لجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام والبشرية ؟ (وائل مرزا ، 12 / 10 / 2001 م) .
  • الخاسرون في العدوان على كابل (عبد العزيز القاسم ، 12/ 10/ 2001 م) :
" مع العدوان على كابل خسرت مؤسسات دينية صدقية خطابها ، فمواقف الأمس الصارمة باتت رخوة حيية أمام جراح الأبرياء في خطام المدن الأفغانية ..
إن الرابح الأكبر في هذه المعارك هم أصحاب الحلول الجذرية أصحاب الخطاب الحدي ، فقد حملت لهم قذائف العرب حججا جديدة على ازدواج المعايير وهشاشة الممارسة المدنية وزئبقيتها ، فما الفرق بين أبرياء نيويورك وأبرياء الأفغان ؟ وما الفرق بين سلامة المواطن الغربي وسلامة المواطن المدني الأفغاني ؟ وما الفرق بين تآمر وتآمر .."؟
  • أمريكا وحرب الجاهلية (على الموسي 14 / 10/2001م)
  • نهاية التاريخ بصدام الحضارات (سليمان الضحيان ، 14/ 10/ 2001 م)
  • تحريم القنوات الفضائية (عبد الرحمن اللاحم ، 14/ 10/ 2001 م)
" ومع الوحشية المفرطة التي يمارسها التنين الأمريكي مع الشعب الأفغاني الآن تلك نتساءل أخي الحبيب:" فهل تكون هذه الأحداث بداية لظهور أصوات شرعية محلية تعيد تقييم فتوى تحريم اقتناء أجهزة الإستقبال .."
  • رؤية في مكافحة الإرهاب على الطريقة الأمريكية ( سليمان العقيلي ، 16/10/ 2001 م).
  • وللمؤسسات الخيرية نصيب (عبد الله الصبيح ، 16/10/2001م)
  • سنة 501 الغزو مستمر (عبد العزيز الخضر ، 17/ 10م 2001م)
" يلاحظ على السياسة الأمريكية المبالغة في تضخيم قوة أعدائها مهما كانت القوة التي أمامها ضعيفة ما يغري بعض المراهقين السياسيين في عالمنا العربي والإسلامي ليسجل عنتريات لفظية لمدة قصيرة ثم تستباح البلاد ويقتل الأبرياء سنين عددا ".
  • زلة لسان .. أم مقاصد مبطنة ؟ (على سعيد الغامدي ، 17 / 10 / 2001 م) .
  • تسجيل موقف في أحداث أفغانستان (وائل مرزا ، 18/ 10 / 2001م)
" ولكن السكوت عن قتل عشرات الآلاف بأيدينا ثم التباكي على قتل العشرات بأيدي غيرنا ، والادعاء بأن هذا غيره على الإسلام والمسلمين ، يمثل فضيحة كبرى تكشف اهتراء فهمنا لهذا الدين .."
  • صفحة دين ودنيا (18 / 10 / 2001م) عناوين : وزير الشؤون الإسلامية في حديث للأمة والخطباء ، إذ أخذ ولي الأمر بالعهد والميثاق الذي بينه وبين غير المؤمنين فإنه لا يخالف الولاء والبراء .. (19 / 10/ 2001م) الدعوة للجهاد وشحن النفوس باسم الولاء والبراء دون توجيه صحيح يسبب الفرقة ويوغر الصدور .
  • الولايات المتحدة ومفهوم القضية العادلة (نجيب الحنيزي ، 20/ 10/2001م) .
  • قواعد يقتلها الكبار (عبد العزيز القاسم ، 20 / 10/ 2001م)
" ازدواجية معايير حقوق المدنين هذا لم تكلف بعض مثقفينا كلمة واحدة تستنكر انتهاك حرمتهم حين كانوا أفغانا ، ولم تقف موقف آخرين عند الصمت ، بل تقلب في تبرير العدوان وتطهيره ليتحول إلى عمل خلافي توجبه ضرورة مواجهة الإرهاب .."
  • خطابنا الديني وأمننا الوطني (سليمان الضحيان ، 21 /10 / 2001 /)
  • الحملة الأمريكية والمآزق الدستورى، (عبد الرحمن اللاحم 21 / 10 / 2001م) " ووسط هذه الأحداث نجد أن هناك من يحاول دفع مجتمعنا إلى مأزق دستورى من خلال تمرير فكرة جواز الوقوف في الخندق الأمريكي في حربه للشعب الأفغاني المسلم في معركة محددة الأهداف والمآرب وقمع الآراء المنددة بالحملة الأمريكية "..

لقد وصل الأمر إلى درجة الاستهتار بمشاعر المسلمين ، من ذلك ما قاله أحدهم وعبر أثير إحدي الإذاعات عندما سئل عن الموقف الشرعي من الغارات الأمريكية إذ قال وبكل ما أوتي من دم بارد :

" إن عدد القتلي لم يبلغ رقما مهولا !! قال ذلك في الجمعة ذاتها التي أعقبت الهجمات الأمريكية ، التي كان الشارع الإسلامي يغلي ويخرج من المساجد في مظاهرات غاضبة .."

  • إنها المعركة (سعد عطية الغامدي ، 22/ 10/ 2001 م)
  • القشة التي قصمت ظهر البعير (عبد المحسن هلال ، 23/ 10/ 2001م)
  • أمريكستان (خالد السيف ، 23 / 10 / 2001م)
  • العنف من يصنعه ؟ (عبد الله الصبيح، 23 / 10 / 2001م)
  • مظاهرات ومسيرات لمن ؟! (عبد العزيز الخضر ، 24 / 10 / 2001 م) .
  • الحضانة الفكرية وثقافة ردود الأفعال (عثمان الصيني 24 /10 / 2001م)
  • حرب الثنائيات (يوسف الديني ، 24 / 10 / 2001 م) انتقاد لأمريكا وضرب الأبرياء في أفغانستان واستغلال 11 سبتمبر .
  • التوعية الدينية ترشيد أم تأميم ؟ (عبد العزيز القاسم ، 27 / 10 / 2001 م)
  • التوعية والتنمية الوطنية (سليمان الضحيان ، 27 / 10/ 2001 م)
  • مصيبة أمريكا وورطتها (انتصار العقيل ، 29 / 10 / 2001م)
  • الفتاوى الفردية والافتقار للمنهج المقاصدي (خالد السيف ، 29 / 10 / 2001 م)
  • أسامة بن لادن في عيون أهل الفقه السياسي المعتدل (عبد الإله بلقزيز، 29/10/2001م).
  • صفحة دين ودنيا، عنوان : في حديثه عن أحكام القنوت ، آل شيخ يستنكر إدخال السياسة الحركية في العبادات الشرعية (وزير الشؤون الإسلامية ، 29 /10/2001م).
  • وعاظ للسياسة الأمريكية (عبد العزيز الخضر ، 31 / 10 / 2001م)
  • السياسة الأمريكية بين المطارق والسنادين (يوسف مكي 31 /10/2001م) .

شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2001م

  • استغلال أحداث أفغانستان في الكسب السياسي (عبد الله المدني ، 1/11/ 2001 م) .
  • بؤدي أن أصدقكم ولكن ! (عبد الله الشبانة ، 1/11/ 2001 م)
  • سبحان من جمع هؤلاء في الدفاع عن الإسلام (وائل مرزا ، 2/11/2001م)
  • من الحق المر في المشكل الأفغاني (يوسف الديني ، 2/ 11/ 2001م)
  • الإرهاب والدين (نجيب الخنيزي ، 3/ 11 / 2001 م)
  • أوهام الشمولية (عبد العزيز القاسم ، 3/ 11/ 2001 م)
  • هذه دوافع أخرى للهجوم الذي يشنه علينا كلاب شارون .. في أمريكا (فهد العرابي الحارثي 3/11/ 2001 م)
  • ما سبب غياب الصوت السعودي في وسائل الإعلام ؟ (سليمان الضحيان 4 / 11/ 2001 م)
  • سيرة الجهاد العربي في أفغانستان (على الموسي ، 4/ 11/ 2001 م)
  • سؤالات حول "المذكور" بحاجة إلى إجابة علماء الأمة ، كلام "ابن لادن" عبر الجزيرة "شيفرة" أم بلبلة مقصودة ؟ (قينان الغامدي ، 5/ 11/ 2001 م)
  • صفحة دين ودنيا، عناوين "خدمة القضية الفلسطينية لا تتم إلا عبر حكومات المنطقة التي يكفرها ابن لادن ".. " على علماء الأمة إعادة النظر في قواعد أحكام التكفير ونواقض الإسلام واعتماد النصوص القطعية وقواعد الشريعة" (منصور النقيدان ، 5/ 11/ 2001م)
  • تعريف الهزائم (عبد العزيز الخضر ، 7/ 11/ 2001م).
  • هل يصبح العمل الخيري إرهابا عند أمريكا؟ (محمد الهرفي ، 9/ 11/ 2001 م)
  • كيف تخسر حربا؟ وصفة بسيطة لخسران الحرب (ماهر عبد الله 9 / 11/ 2001 م)
  • المخاوف من الهيمنة الأمريكية .. بين الأوهام والحسابات (وائل مرزا ، 9/ 11/ 2001 م).
  • أمة المليار من يملك حق الحديث باسمها؟ (يوسف الديني ، 9 / 11/ 2001 م) .
  • إرهاب العولمة (نجيب الخنيزي ، 10 / 11/ 2001 م)
  • توطين الإسلام في الغرب (سليمان الضحيان ، 10 / 11/ 2001م)
  • جامعتنا المعزولة في هذه الأزمة كيف تعدد ؟ (عبد العزيز القاسم ، 10 / 11 / 2001 م) .
  • عنوان صفحة أولي .. ابن لادن : نعم فعلتها في 11 سبتمبر .. وتفجيرات السعودية بأوامر منى (12 / 11/ 2001 م).
  • هكذا علمتني أمريكا (خالد السيف ، 12 / 11/ 2001 م)
  • الاعتداء على ثقافات الأمم الأخرى (عبد الله الصبيح ، 13 / 11/ 2001م)
  • اللعب في الوقت الضائع (عبد المحسن هلال ، 13 / 11/ 2001 م)
  • عناوين صفحة أولي : كابل تحت حكم "الباكول " بعد سقوطها المفاجئ (14 / 11/ 2001 م)
  • خطاب الأزمة حين يصبح "المونولوج" الداخلي بعيدا عن الفعل البشري (وائل مرزا ، 16 / 11/ 2001 م)
  • الصوت الآخر المختلف في الولايات المتحدة (عثمان الصيني ، 17 / 11/ 2001م)
  • حماقة قاتلة (عبد الله الفوزان ، 17 / 11/ 2001 م)
  • ظاهرة علمنة الآخرين (عبد العزيز القاسم ، 17 / 11/ 2001م)
  • صفحة دين ودنيا ، قراءة في كلمة الأمير عبد الله للعلماء (منصور النقيدان ، 18 / 11/ 2001 م)
  • هل نحت في بداية عهد ثقافي جديد في السعودية (سليمان الضحيان 18 / 11/ 2001 م)
  • عنوان صفحة أولي : تحقيق أجرته " الوطن" طالبان انهارت ولن يكون لها دور سياسي مستقبلا (20 / 11/ 2001 م)
  • وسقطت الخرافات تباعا (عبد الله المدني ، 22/ 11/ 2001م)
  • أفغانستان إلى أين (نجيب الخنيزي ، 22/ 11/ 2001 م)
  • العنف وفن الترويض على أدوات التخلف (عبد العزيز القاسم ، 24 / 11/ 2001 م)
  • عنوان صفحة أولي : استسلام قادة من طالبان ومعلومات عن اختبار ابن لادن في "تورا بورا" الجبية (25 / 11/ 2001 م)
  • الحركات الإسلامية ومسلسل الفشل السياسي (سليمان الضحيان 25 / 11/ 2001 م).
  • أرهبتنا أمريكا (عبد الله الفوزان ، 25 / 11/ 2001 م)
  • شبابنا : الجريمة والإرهاب القواسم المشتركة (على الموسي ، 25 / 11/ 2001 م)
  • فتاوى الشيخ رامسفيلد (طارق إبراهيم ، 26 / 11/ 2001 م)
  • تمخض الجمل فولد فأرا (عبد المحسن هلال ، 27 / 11/ 2001م)

لقد استعرضت بتدرج زمني ما تم طرحه حول الأزمة، وتأثير الأحداث في المقالات ومضمونها وتغير اللغة مع كل تغير ، حيث النضالية مع غزو أفغانستان ثم حدث تغير مفاجئ وواضح بعد هزيمة طالبان في زمن قصير ، وهذا التسلسل يقدم تصورا لما كان يطرح قبل سبتمبر وبعده مباشرة كعينة زمنية .

التنويريون .. وبيان التعايش

كانت الأحداث تتسارع بمعدل أسبوعي ، والارتباك في الخطاب والفوضى في المفاهيم يتطلبان مواقف سريعة وواعية من النخب الدينية والثقافية والسياسية

وكان زعماء الصحوة منذ خروجهم حتى بعد غزو أفغانستان لم يتكيفوا بعد مع الجو العام حينها ، مع تردد أحاديث من جمهورهم حول تغير مواقفهم ، فلم يبدأ بعد ظهورهم الإعلامي من جديد ..

وقد أشرت إلى تفاصيل ذلك سابقا ، لكن ماذا عن موقف التنويريين من هذا التغير عندما ظهر "بيان التعايش" كضربة معلم من سلمان العودة ، وأعادت تدشينه للساحة بقوة مرة أخرى ، ووضعته في سياق أكثر استنارة .

تباينت ردود الأفعال ، لكن ترحيب التنويريين كان فيه بعض التلعثم الذي لا يمكن إنكاره ، ولهذا أسباب عدة فلماذا حدث هذا الارتباك في الموقف منه على الرغم من أن الآخرين من مثقفي التيارات الأخرى رحبوا به ؟

وما يبدو لافتا للمراقب أن موقف بعض التنويريين السلبي بمقالاتهم وكتاباتهم في الانترنت سبق موقف السلفيين الذي هاجم البيان من رؤية عقائدية ! وهنا كانت مفارقة حيث هاجم البيان تيارات متشددا وآخر يفترض أنه متسامح وتنويري ،، وقد كتبت إيمان القويفلي مقالة موضوعية في الشرق الأوسط في حينها تسجل حالة التناقض هذه غير المفهومة ، من خصوم البيان وموقفهم من تغير الشيخ .

كان الجانب النفسي مؤثرا في الموقف التنويري ، فقد كانت المبادرة من الشيخ العودة ذكية جدا ، واستدركت أمورا كثيرة ، فلم يكد البعض يستوعب الهزيمة السريعة لحركة طالبان

وبصورة سينمائية، إذ بالعودة يستدرك بهذا الخطاب التاريخي أزمته ، وأزمة الجو العام المتوتر ، ويتمكن بعد أشهر من حادثة أيلول (سبتمبر) وتطوراتها الظهور في الحدث بقوة

حيث يمكن اعتبار هذا البيان أول بيان يدشن عصر البيانات في السعودية في مرحلة ما بعد سبتمبر وحتى الآن .

كانت قائمة الأسماء التي وقعت على البيان من مشايخ ومثقفين وبعضها كانت له مشكلة مع تيار الصحوة ، هي النقلة الجديدة في هذا البيان من خلال التنوع المفاجئ كخطوة عملية نحو الاعتدال، والتسامح .

تشكل الجانب النفسي لموقف التنويريين ، لأن البيان أحدث صدي إعلاميا ناجحا وسريعا فخطف الأضواء من "التنويريين" الذي كان لهم السبق في تدشين النقد ضد التشدد والدعوة للتسامح فكأنه أخذ منهم المشروع بهذه المبادرة ، وهم الذين كتبوا الكثير قبل ذلك ، وبخاصة أن بعضهم لم يكن من المدعوين للتوقيع على الخطاب مع قائمة الأسماء

فتحول ذلك إلى شبه موقف شخصي ، ولهذا من الواضح أن موقف التنويريين السلبي عند بعضهم متكلف وانطباعي في بعض جوانبه ومع أن البيان احتوى على العديد من الملاحظات العلمية التي تدل على خلل في تصور بعض المفاهيم السياسية والدينية في خطابهم للمثقف الأمريكي

وأن معالجته للأخطاء المتعلقة بقضايا العنف ليست بالعمق الذي تتطلبه القضية إضافة إلي أخطاء في تصورات البيان حول العلمانية ، ومفهوم الدولة في الفكر المعاصر ، وأن هذا البيان مجرد خطوة شكلية وليس معالجة حقيقية لمصادر التشدد في الفكر المحلي .

لكن الردود الانفعالية أضاعت الفرصة لمناقشة مضمون البيان ونقده فكريا ثم تصاعد بعد أيام الرد السلفي المتشدد على البيان فعزز من قيمته التنويرية عند الرأي العام ،عند الذي تؤثر فيهم النكاية بالآخر المتشدد فاعتبر البيان مفيدا ما دام أن المتشدد توتر منه واعترض عليه

وانتهي البيان كما أشرنا سابقا إلى تراجع وتوبة الشيخ ومن معه من الأسماء المهمة في الصحوة في ورقة عند الشيخ عبد الرحمن البراك ، كما نشر في حينها في المنتديات .

خلال هذه الفترة بدأت تظهر البيانات الإصلاحية إلى ما بعد غزو العراق ، ومع بداية غزو العراق و بدا الخطاب التنويري في حالة غير مستقرة في عدم القدرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات

فالبعض منهم ليس لديه القدرة على التفريق بين ما هو قيمي ، وما هو أخلاقي ، وما هو سياسي وبدأت تعود حالة المقاربة إلى الارتباك الذي حدث أثناء غزو أفغانستان مع مشاعر قومية هذه المرة وظن البعض أنه في هذه الحالة أمام دولة وجيش وليس أمام طالبان ، ثم حدث الانهيار المفاجئ مرة أخرى بمسار مقارب للحالة الأفغانية؛

وأدي إلى انهيار داخلي في الأفكار الهشة عند بعضهم والتحول إلى مرحلة جديدة أكثر تمردا وبعيدا عن العقلانية المتزنة والخطاب التنويري السابق فتشكل تيار متلبرل جديد له مواصفات معينة وخلطة تقودها جهات محدّدة نفعية لم يستطع مقاومتها البعض منهم .

الذي أحدث هذا الارتباك مع غزو العراق ، حتى عند الكتاب التقليديين القدماء والرسميين ، أن الرأي الرسمي لم يتشكل موقف بصورة واضحة قبل بدء الحرب وأثناءها ولهذا جاءت اللغة عشوائية، مع مسحة نضالية بدأ يقدمها كتاب وكاتبات ، ولكنها انتهت واختفت فجأة مع لحظة سقوط بغداد

وعلى المراقب أن يفرق هنا في السياق، فضرب العراق لم يوجد له مبررات مقنعة للرأي الدولي ، ولهذا واجه معارضة عالمية أكبر من ضرب حركة طالبان .

هذه الحرب انعكست على الداخل السعودي وحراكه الفكري والسياسي مع تصاعد لغة الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية في الوطن العربي وهي فمه ما أطلق عليه ربيع الإصلاح في السعودية

التي شهدت في هذه المرحلة صدور العديد من البيانات المتنوعة في اتجاهاتها واهتماماتها ، وزيادة اللقاءات والندوات والحوارات في الصالونات والتجمعات المتنوعة ، ولهذا جاءت فكرة الحوار الوطني في هذه المرحلة لامتصاص هذه الفعاليات تحت المظلة الرسمية .

وبدأت زيادة جرعة النقد للخطاب الديني ، من طور الخطاب التنويري الهادئ إلى مرحلة ساخنة من النقد ، انفجرت مع أحداث 12 أيار (مايو 2003م) وتفجيرات الرياض المتتالية على الطريقة السبتمبرية .

والندوات والحوارات في الصالونات والتجمعات المتنوعة، ولهذا جاءت فكرة الحوار الوطني في هذه المرحلة لامتصاص هذه الفعاليات تحت المظلة الرسمية وبدأت زيادة جرعة النقد للخطاب الديني ، من طور الخطاب التنويري الهادئ إلى مرحلة ساخنة من النقد ، انفجرت مع أحداث 12 أيار (مايو) 2003 م ، وتفجيرات الرياض المتتالية على الطريقة السبتمبرية .

ولأن أحداث أيلول (سبتمبر) وأفغانستان والعراق كانت خارجية ، فلم يكن النقد للخطاب الديني المحلي بالحدة على طريقة "إما معنا أو ضدنا" الشهيرة كما كتب (جمال خاشقجي) في الأيام الأولي من الحدث ، وهي من أكثر المقالات التي استثارت الرأي العام الديني ضده وكانت سببا في خروجه المبكر من جريدة الوطن .

واللافت أن التيار الديني المحلي برموزه المتنوعة ارتبك في البداية في طريقة تناوله الحدث .. وبيانات الاستنكار كانت مرتبكة ومتأثرة بالهجوم الإعلامي المفاجئ حتى صقور الصحوة شعروا بخطورة الأمر عندما وصلت التفجيرات إلى حي غرناطة بالرياض ، فتطلب منهم الحدث تغيير خطابهم حول الموقف من العنف .

لقد كتبت حول تفاصيل هذه المشكلة في خطاب إدانة العنف عند التيار الإسلامي ، ومشكلة الوعي السياسي في بيانات الإدانة ، وبأن بيانات الإدانة من الناحية السياسية والإعلامية من الخطأ لها الدخول في تفسيرات الحدث فلماذا ولكن .. فهي إدانة فقط من دون شرح للأوضاع .

في كتابات أخرى ومناسبات ثانية من الممكن أن تعبر عن رأيك بحرية وتفصل بالخلل الذي تراه ، كانت المشكلة في البيانات الإسلامية أنها تريد حشر كل شئ في هذه البيانات

ما جعلها مشوشة واستفاد منها خصومهم وهذا الشرح في البيانات في الأحداث الخارجية لم يكن بتلك الحساسية في الداخل لكن عندما ما حدثت التفجيرات في أحياء الرياض ظن البعض أن صيغة الإدانة لن تختلف

بدأ النقد للإسلاميين يتطور ، وأخذ يتجه عند بعض المحسوبين على التنوير إلى خطاب جديد شبه استئصالي أحيانا ، ويستعدي السلطة ، وظهرت ملامح الانتهازية وفقدان الاتزان وروح المسؤولية في النقد؛

وقد كنت كتبت سلسلة طويلة من المقالات في نقد الصحوة ، والفكر الديني ، والحركات الإسلامية فاضطررت إلى إيقافها منذ ذلك الوقت ، لأن الذي حدث أنه تم التصعيد بلغة أمنية أكثر منها معالجة فكرية ، وأخذت الأمور مسارا انتقائيا وعشوائيا ..

وبخاصة بعد وجود شعور عام بأن هناك سماحا لهذا النقد ومطلبا من قوى معينة، حيث تحول الهجوم إلى تسطيح في تناول مشكلات الحركات الإسلامية والعنف وكتب عنها من ليس لديه أى خبرة عن هذه الحركات وتحولاتها التاريخية ، وبعد تحول الكتابة عن الشأن الإسلامي إلى حفلة اشترك فيها من لا يدرك الكثير من الأسس في نقد الفكر الإسلامي

ومعرفة تاريخ الحركات الإسلامية والتيارات والتحوّلات خلال قرن ، ودون أن يملكوا أرضية عن تصور علاقة الديني بالسياسي وتعقيدها بالحالة السعودية فأصبحت الكتابة مجرد انطباعات سريعة ، وأفكار تسرق من حوارات ولقاءات عابرة ومنتديات النت .

لقد وجدت أنه من الأفضل سحب هذه الكتابات من النشر عن قضايا الصحوة في السعودية وموقفي النقدي ليس طارئا أو مجرد استغلال لحظي ، فتحفظاتي مبكرة على بعض الأخطاء ثم إنه حدث نوع من السرقات للأفكار من دون إسنادها إلى أصحابها

فبعضها ليست في مراجع سائدة والمشكلة ليست في هذه السرقات الفكرية ، وإنما تشويهها ، والعبث بها أيضا فالساحة المحلية تعاني من عدم احترام ، وحفظ الحقوق الفكرية

حيث أراد البعض البروز على حساب الآخرين ولهذا وجدنا نوعا من العقم عند بعضهم والتكرار الممل ، مع أن الموضوع الإسلامي من أخصب القضايا التي لا تنتهي معالجتها ، وهناك من التنويريين من تخلي عن نقده السابق ليأتي انتقائيا ومراكز حسب متطلبات اللحظة .

تغير المطالبين بالتغيير

وصل الطرح النقدي إلى قمة ضد التيار الإسلامي والصحوة في الصحافة والانترنت ، ولم يعد هناك سوى تكرار للهجوم والهجاء بطرق لا جديد فيها فقد قيل الكثير مما يمكن قوله مبدئيا في نقد التيار الإسلامي عند الكتاب

ولم يتبق إلا الأفكار الخاصة بالمهتمين بإشكاليات التيار الإسلامي والثقافة المحلية ولديهم اتصال مبكر بأهم المراجع، وقد جاء البعض ممن أرادوا المشاركة في الحفلة النقدية متأخرين ، وحاولوا إثارة التيار الديني بألفاظ واستفزازات شكلية !

بعد هذه القمة النقدية للخطاب الديني التي شارك فيها مختلف التيارات بمن فيهم بعض الإسلاميين أخذ بعض التنويريين ينتقلون إلى مرحلة جديدة وأصبح خطابهم الإسلامي المستنير قبل سنوات يتحول إلى حالة لا علاقة لها بمقدماتهم السابقة

وجديتهم في نقد الواقع الديني والسياسي والثقافي لمجاراة الواقع ، بعد أن اتضح أن التغيير المنشود في الحريات والتعليم والخدمات وحقوق الإنسان محاطة بعوائق كبرى ، وأنهم أمام حالة جمود سلبية اشتهرت بها الحالة السعودية..

وخصوصا أن هذا الجمود يختلف عن حالات سابقة لوجود اختلافات بين قوى مؤثرة في مراكز قوي .. وتزامن هذا الجمود مع لحظة صعود لافت في أسعار النفط .

والذي أخذ يؤثر في جدية الإصلاح فمع كل دولار يضاف للسعر .. كانت هناك شمعة تسحب من ضوء النقد الإصلاحي ، وأصبح الحديث عن الإصلاح الحقيقي نوعا من الترف وتم التركيز على جوانب انتقائية بعد مشاهدة الضوء الأخضر لنقدها ، والتسلي بها عدة أشهر ، والإيحاء بوجود حراك .

لم يتغير شئ يستحق الذكر .. إلا بعض تغير فكر المطالبين بالتغيير حيث بدأت أصواتهم تتحول إلى خطاب جديد يتذاكي فيه الكاتب على القارئ .. فتحولت الكتابة التنويرية بعد 2005 م إلى اتجاهات عدة مع زيادة الرقابة وضعف الحريات ..

يمكن تحديدها في ما يلي :

  • استمرار النقد للصحوة والتيار الديني ، على الرغم من أنه لم توجد في هذه المرحلة أفكار تستحق الذكر في تقديم رؤية جديدة عن الفكر الإسلامي المحلي ، وظهر كتاب جدد يكررون الأطروحات السابقة بتنويعات لفظية ، مع شئ من الشدة والاستفزاز ولفت النظر
بل تحول عند بعضهم إلى حالة هجاء لفظي ، مع عدم وجود خبرة وإمكانيات في تفكيك الظاهرة الإسلامية على الرغم من أن القضية الإسلامية مليئة بالأزمات ، وما طرح في الصحافة إلا ما هو هامشي ز.. فلم يكتشفوا بعد هذه العيوب ، إلا ما هو مكرر في هذه المقالات .
حدث اتجاه آخر وهو مرحلة ما أسماه البعض " موسم الهجرة إلى البلاط " فأصبحوا يجمعون بين النضالية الاستعراضية والحكومية وتبدو مشكلة هذه الحكومية مؤخرا ليس بالصورة التقليدية القديمة والعريقة المحترمة الخالية من الاستعراضات النقدية المتذاكية .
هذا الخطاب ينطلق من مجموعة أفكار محددة التقطت من بقايا النقد القديم .. والتركيز عليهم لجعلهم في الساحة النقدية ، ومن جانب عرض ما هو ما يرضي الجهة التي يرغب ، فأصبحت الديمقراطية غير مناسبة بطريقة تختلف عن مبررات مثقف الثمانينيات التقليدي والشيخ السلفي .
إنه خطاب جديد يتشكل ليقاوم الرؤى النقدية التي فرضتها تحديات المرحلة بمغالطات تناسب المرحلة ولهذا تجده يري أن المجتمع هو السبب في كثير من الأخطاء لهذا يتاح له بأن يقدم بين فترة وأخرى نقدا حول موضوع معين أو لجهة حكومية ، لكنه مقابل ذلك يمرر مدائحه الخاصة من الوزن الثقيل للأوضاع بحيث تبدو هذه العيوب التي ينتقدها جوانب هامشية ..
  • ظل هناك بعض الأقلام الجادة في صحافتنا ، والتي أصلا لم تقدم نضالات فارغة ، فحافظت على اتزانها النقدي والتنويري خلال سنوات عديدة كـ (خالد الدخيل) وكذلك إيمان القويفلي التي حافظت على مستوى ثابت في منهجها النقدي ورؤيتها للأمور خلال ثلاث مراحل .
  • كان ما يميز الظاهرة التنويرية التي بدأت قبل 11 أيلول (سبتمبر) أنها جاءت من خلفيات وخبرات واهتمامات متنوعة ما جعل الحوارات والكتابات ثرية؛ ولم تكن ذات توجه أحادي هذا التنوع حتى في التجربة الإسلامية ومن الذين ساهموا في هذا الحراك في تلك المرحلة العديد من الأسماء التي قدمت جهدا في تشكيل هذه الظاهرة
ومنها: عبد الله الحامد حسن المالكي ، وقد أشرنا إلى مبادراتهما المبكرة وجاء دور محسن العواجي وعبد العزيز القاسم في منتدى الوسطية الذي شكل مرحلة مهمة في الخطاب التنويري بالإضافة إلى أهميتها في الصحوة في مرحلة التسعينيات ونشاطهما المعروف ، ويأتي سليمان الضحيان كاسم بارز من عرّابي هذه المرحلة وقد أثر في العديد من الأسماء المتحولة .
وجاءت تجربة منصور النقيدان ، ومشاري الذايدى ، وعبد الله بن بجاد ذات خصوصية اشتهرت عند الكثيرين، وكانت مرحلة منصور النقيدان الذهبية هي دوره في جريدة الوطن في صفحة دين ودنيا، وهي مرحلة عقلانية محتفظة ببعدها التنويري الإسلامي ..
وكان لـ (نواف القديمي) دور أساس كصحافي وكاتب وناشط وفعال في جميع هذه المراحل وتعتبر الأعمال الفكرية التي قدمها في جريدة المحايد مبكرة جدا في سياق هذه الظاهرة وكذلك الأعمال الفكرية التي تلتها في صحيفة الشرق الأوسط .. وكان للصحافي عبد العزيز قاسم في ملحق جريدة المدينة وجريدة البلاد أداء مهم في تفعيل هذا الحراك إعلاميا .
  • ومن أسماء هذه المرحلة سعود السرحان ، ويوسف الديني ، وسعود القحطاني ، وخالد السيف ، غازي المغلوث ، وصالح الشبعان وخالد المشوح ، ووائل مرزا ، وإبراهيم السكران ، عادل الطريفي ، وعبد الرحمن اللاحم ، ومنصور الجهلة ، وفهد الشافي ، وخالد الغنامي .. وغيرها من الأسماء .

اتجاهات التنوير

  • كانت الظاهرة التنويرية قبل 2001 م رغبة ذاتية ، ولهذا كانت أكثر منهجية وعقلانية ، وما بين عامي 2001 ، 2003 م كانت تحت تأثير الصدمة وارتبكت بعض الرؤى واختلت الأولويات في التنوير
على الرغم من أنها استفادت من مرحلتها السابقة في تصور مشكلات الفكر الديني في الداخل ، في هذه المرحلة برز المؤثر الخارجي مع الاهتمام الغربي الجديد بالحركات الإسلامية في العالم الإسلامي وفي السعودية خاصة .
  • أما في مرحلة ما بعد 2005 م ، فقد تحول التنوير إلى اتجاهات متعددة بدت أكثر تميزا وليبرالية وفق منظور "شللي" تحكمها ظروف وقوى معينة ظهرت ملامحها بمنتديات خاصة وأخذت تتشكل يوميا ، من دون منهج فكري لكن وفق منهج شخصي محدد يعرف ماذا يريد ، وتحت تأثير القوى التي يتبعها لتحديد ما يناسب وما لا يناسب تحت شعار محاربة التطرف والإرهاب .
  • التنوير هنا تراجع عن كثير من منطلقاته المفترضة ، إلى تطورات ومزايدات نقلة الرؤية إلى مسارات غير إسلامية عبثية وأحيانا هرطقة غير معلنة خلف معرفات إنترنتية وفي الوقت نفسه لم تنتقل لتأسيس وعي ليبرالي حقيقي .
واتجاه آخر انسحب قليلا، بعد أن تحددت شروط اللعبة ، لعدم وجود صدقية في تقبل خطاب تنويري حقيقي فالمطلوب نقد انتقائي محدد سلفا لجهات ولرؤى معينة وأصبح هذا الاتجاه ثقيلا وغير مرغوب فيه ، لأنه يعتبر في نظر البعض ليس لماحا في فهم اللعبة ، وليس في الخفة المطلوبة في المشاركة بالمعارك الموجهة إعلاميا .

ماذا قدم التنوير؟

على الرغم من جميع الأخطاء التي حدثت وتحدث الآن ، وهذه المرة ليس بتأثير التيار المحافظ أو قوى الصحوة كما في معركة الحداثة ، فإن التنوير على الأقل ما بين عامي 1998 م، 2003 م قدم أهم حركة استنارة واعية محلية للفكر الديني

وأصبحت هذه الحركة وكأنها تيار من دون تنظيم حركي ، وكانت ميزة هذا الخطاب أنه جاء من خبرة ذاتية وتجارب خاصة في المجتمع منذ الثمانينيات أرادت تصحيح بعض أخطائها وأهم ميزة لهذا الاتجاه في البداية أن اهتمامه انطلق من الخطاب الديني في إشكاليات المسألة الدينية ، الذي هو أهم مكون وموجه في المجتمع السعودي

حيث طرح الكثير من الأسئلة التي كان مجتمعنا بحاجة إليها ، على الرغم من حساسية القضايا الدينية اجتماعيا وسياسيا وبخاصة أن النقد وجه حتى للسلفية التقليدية المكون الأساسي للمؤسسة الدينية الرسمية.. قبل أن يتراجع بعضها في ما بعد ليعيد ترتيب أفكاره وخطابه وفق أولويات المكان الجديد الذي هم فيه .

لم يتم الانشغال على طريقة تيار الحداثة بمفاهيم وأدوات وأسئلة بعيدة عن الهموم الرئيسة لمشكلات المجتمع الثقافية ، فطرحت تساؤلات حول التراث المكون الرئيس للمرجعية الدينية ، بعكس الحداثة التي كانت مهمومة بالأشكال التعبيرية على حساب المضامين الفكرية والمحتوى العلمي .

وبدأت الظاهرة التنويرية حول إشكاليات الخطاب الإسلامي ، والفقه والنشاط الدعوى ومحددات السلفية ، ورؤية حول الوهابية ، وحوارات حول الحركات الإسلامية ومشكلاتها ، ومعالجات لقضايا التشدد والتطرف .

لقد كانت مشكلة الثقافة السعودية ، والفكر النقدي المحلي منذ عقود في محاولاته التنويرية أنه خطاب لم يعن بالفكر الديني ومناقشة مضمونة ولم يطرح الأسئلة الاجتماعية من منظور فكر الإجتماع الحديث .

وحتى الأدب الذي يتضمن فكرا تنويريا كبيرا في الثقافات العالمية ، فإنه في الحالة السعودية لم يستطع غرس الوعي المستنير والفكر الحديث فظل غارقا في القضايا الأدبية والثقافية الناعمة وغير الخطرة

ولهذا استطاعت الظاهرة التنويرية مع قمة حضورها في عام 2001م أن تهز الكثير من القناعات ، وأن يراجع حتى السياسي بعض قناعاته التقليدية وأربكت حتى المؤسسة الدينية وتيار الصحوة التقليدي ،ولهذا لقيت الظاهرة التنويرية ترحيبا متدرجا في الصحافة ، بعكس الحداثة التي كانت موجودة في الصحافة وانطلقت منها للتعريف بخطابها .

كان أهم ما تميزت به الظاهرة خلال السنوات الخمس الأولي أنها لم تكن تحت قيادات رمزية محدّدة لتعيق ديناميتها ، وتفرض عليها بعض أشكال المجاملات.

ثم إن عدم وجود هذه القيادة في البداية أربك صاحب القرار في التوجيه والتعامل مع هذه الظاهرة الجديدة وهذا الحراك المختلف الذي شعر بأنه ضروري ومفيدا أحيانا

لكنه لم يسيطر عليه ، حيث تأخرت السيطرة عليه ، لأنه تيار ليس موجودا في الصحافة التي يوجهها ، كما في التيارات الأخرى فقد كانوا متفرقين في جهات مختلفة ما زاد من صعوبة السيطرة المبكرة على هذا الاتجاه

ولهذا كانت السنوات الخمس الأولي هي الأكثر خصوبة في هذا الخطاب والأكثر عفوية وصدقية وجدية ، قبل مرحلة الاستقطاب والسيطرة حيث بدأ يتم توجيه النقد بالطريقة التي ترغب فيها هذه القوى ، وليس وفق مشكلات مجتمعنا الحقيقية .

إن الإستقلالية والتلقائية في المرحلة الأولي كانتا ذواتي تأثير كبير ، وهما أهم شروط نجاح الخطاب التنويري ، وكان من مميزات هذه الظاهرة أنها لم تبرز كمعارضة للنظام بل تشعر المطلع بانتمائها ووطنيتها ، وأهمية النقد من الداخل ، بما يختلف عن نموذج ذهنية المعارضة التقليدية ، أو الحكومة السائدة ، وقدمت نموذجا جديدا

حيث شجعت العقلية الحكومية خطو نحو تقبل النقد وممارسته ، وأهميته دون الخوف من تهمة التمرد ، وفي المقابل أثرت في تطرف المعارضة القديم ، عقلنته نحو قدر من الموضوعية .

هذه الحيوية في الخطاب التنويري لم تكن نابعة عند الكثير منهم من عمق علمي ومعرفي بقدر ما هي مؤشر على أهمية تيار ينشأ من رحم أزمة المجتمع السابقة ويعبر عنها من دون أهداف مسيسة مسبقا

أو الخضوع لأولويات رسمية ، ما جعل تأثيرها أقوى ولم يستطع التيار الديني إيقاف تمدده ، وتأثير خطابه في الكثيرين ، وفرض تغيرات على رموز دينية من الصحوة ذاتها ، وبعد فترة شعرت بأنها تحت رقابة من هذا الخطاب النقدي الجديد .

وكان لهذا الظاهرة دور مهم في تحرير مقالات الرأي في صحفنا إلى آفاق أخري ، بعد أن كانت محصورة وفق أطر محددة ، وأصبح تناول الشأن الديني أمرا معتادا وفرضت طريقة مختلفة في معالجة الإرهاب ، مقارنة بمنتصف التسعينيات ومقالات الرأي في تلك المرحلة التي جاءت وفق طرق تقليدية تراعي الذهنية الرسمية .

نقد سلبيات الظاهرة

من مشكلات هذه الظاهرة أن البعض ظن أن العمل التنويري مجرد مقالات استفزازية ومنتديات بمعرفات متنوعة ، وظهور فضائي استعراضي لا مشاريع جادة لتأسيس خطاب عميق حول مشكلاتنا المحلية ، وحتى في العمل الإعلامي ، من خلال الملفات الصحافية المطولة لدراسة ومتابعة الكثير من قضايانا المحلية .

وبمرور الوقت أصبحت الظاهرة لا تختلف كثيرا عن ظاهرة الحداثة باستعمال المقالات والخواطر العابرة ، والصحو بكتيباتها ، فالتنوير ما لم يعتمد على مؤلفات وكتابات إعلامية جادة لمقاومة التسطيح السائد في الصحافة المسيرة وفق أولويات أخري لأسباب مفهومة تاريخيا فإن الظاهرة التنويرية ستكرر أخطاء التجارب السابقة .

ومن إشكاليات هذه الظاهرة أن هناك شخصيات أخذت تتخبط في خطابها وتحوّلاتها المتسارعة ، ما أشعر الآخرين بعدم وجود اتزان سوى حيث شوه البعض مصطلح " الوسطية " حتى أصبح علامة على التحايلات الشخصية واللعب بين قوى عدة ، وآخرون شوهوا مصطلح " الإنسانية " وهو من أهم مفردات التنوير، لكنه أصبح مكررا وممللا فضلا عن استعمالات ساذجة ،وفي غير مكانها للإستعراض .

ومن إشكاليات الظاهرة أن البعض لم يكونوا في مرحلة نضج ومعرفة علمية بالفكر المعاصر ، وخبرة بطريقة إدارة المجتمع ، مقوماتها ، ولهذا حدث تذبذب شديد متنوع .

هذه التطورات الانفعالية من موقف إلى آخر ليست دلالة على مرونة إيجابية بقدر ما هي مؤشر على حالة ضعف في تشك القيم التنويرية ورسوخها في ذهنيتهم لدرجة أن هذا التذبذب الفكري يتطور بمعدل سنوى ، لا يدل على مرونة وحيوية بقدر ما أن الأفكار لم تأخذ خيزا زمنيا كافيا للوعي بها .

هذه التغيرات السريعة "حسب الطلب" أثرت في صدقية الخطاب التنويري واستقلاليته ، والإخلاص للمبادئ الإصلاحية المفترض أنه انطلق منها .وبعد هذه التطورات المؤسفة حدثت عودة للمحافظة عند آخرين بعد الشعور بأن هذا التنوير مجرد خطوات شيطانية ، في نظرهم ، لا تختلف عن تجارب سبقتها في أقطار آخري .

وكانت الشخصنة والاهتمام بالذات وجعل القضايا والمسائل والأزمات الفكرية تدور حول الذات والرغبات الفكرية لمجموعتها القريبة .. وعند اللقاء مع المثقفين والكتّاب الأجانب المستطلعين للوضع في السعودية ، تبدأ حكاية سرد البطولات الخاصة ، وتسويق الأسماء وفقا لمبدأ العلاقات العامة الشخصية ، وليس وفق الحقائق ..

فتزايدت حالة تبادل المدائح .. في جهودهم ضد التطرف والإرهاب ! ومع أن العلاقات العامة ليست عيبا بذاتها على أن المثقف يجب أن يمارسها بنفعية أقل ومسئولية أخلاقية أكبر . وتبدو هذه الشخصنة من خلال تصنع النضال والاستعراض ، وكأنهم في المعركة الوحيدون ضد التشدد ، والتطرف والظلامية .

وبعيدا عن تفاصيل مثل هذه المعارك ، كما يحدث في التصعيد حول رأي شيخ ديني ضد كاتب ، أو فتوى ، تري أحدهم عندما يعلق على ردود الفعل ضد الشيخ في سياق نضاله يذكر جهود فلاسفة التنوير الكبار في الحالة الأوروبية (سبينوزا) ومشكلته مع اليهود ، ويستعرض قائمة أسماء مفكرين كبار غربيين وعرب

وسرد قائمة شلته مع قائمة طويلة من كبار فلاسفة البشرية مع كتابنا ، في صراعات مكشوف تفاصيلها ، إضافة لسعيه لتجنب الإشارة إلى " كبار " و" قوى مهمة " مقابل أشد النقد الذي يوجهه لـ " المطاوعة " ولمشايخ بسطاء ليست بيدهم سلطة وليس لهم تأثير .

ولا أدري ما هي النضالية وهنا وأين هي ؟ ويذكر هذه الطريقة في استحضار الأوهام النضالية التنويرية لدي هؤلاء بطريقة تفكير أبناء الصحوة ودعاتها عندما يواجه مضايقة بسبب جهوده في الدعوة والنصيحة في المنزل أو العمل أو مع الدولة فيستحضر قصة بلال وأبي جهل وكفار قريش مع الصحافة وعلماء السلف .

ومع هذه التحوّلات من الطبيعي والمتوقع أن تتعرض هذه الظاهرة التي قدمت آراء جريئة ضد الفكر السائد إلى محاولات استقطاب ، وهو ما حدث ، وليست المشكلة في مبدأ الاحتواء وقبوله ما دام حافظ المثقف على درجة من الممارسة المسئولية إعلاميا وثقافيا ، وعدم تحول خطابه " التنويري " إلى خطاب موجه وفق مصالح شخصية ضيقة .

وليس هناك أى إشكال مع كل ما هو رسمي وحكومي وقوى نافذة ، فهذه خيارات فردية لابد منها ، لا توجد استقلالية تامة في حياة أى إنسان ولن يوجد مثقف لن يكن قريبا أو منتميا لتيار أو قوى معينة ، الحياد التام ليس هو المطلوب لكن الذي حدث أن هذا الاستقطاب تسبب في حالة انهيارات شديدة في الخطاب التنويري

وأحدث تحوّلات سلبية فيه .. ولهذا عندما تسرّب وأشيع خبر الشرهة الكبيرة التي قدمت لبعض الأسماء من الكتاب زادت حدة النفعية والكتابات التي تبحث لها عن مكان .

التنوير .. وآراء خارجية

بدأ اهتمام الآخر بما يحدث من حراك تنويري بعد أحداث أيلول (سبتمبر) ، وظهر العديد من الكتابات والبرامج التي ترصد هذه التغيرات الفكرية ..

ومن النادر نجاح مثل هذه الكتابات في وصف الحالة الداخلية ، إلا بما يتم تزويده من معلومات ، وتفسيرات وفق أجندة من يلتقي بهم الزائر الأجنبي وأولوياتهم لهذا يعجز الكثير من الكتابات عن فهم طبيعة الوضع السياسي والديني والاجتماعي السعودي

لكن ميزة أغلب الكتاب الغربيين بالذات استقلاليتهم أحيانا ، وصدقيتهم مقارنة بالمثقفين العرب ، لكن أخطاءهم في تحليل تفاصيل ما يحدث تبدو واضحة لمن يملك خبرة في الحالة السعودية التي لم تتوفر بعد فيها المؤلفات القادرة على توصيف ما يحدث بدقة .

ومن المتوقع أن تكون كتابات الغربيين أقوى ومتعاطفة مع أى حراك تنويري مقابل التشدد الديني ، لكن تبدو مشكلتهم أن الكتاب الغربيين قدموا الكثير من المؤلفات عن مجتمعاتنا العربية

وعن الإسلاميين والحركات الإسلامية منذ الثمانينيات وبخاصة بعد أحداث الحرم ومقتل السادات التي نشطت مثل هذه الدراسات ..

ولديهم تميز بالمعلومة المتاحة لهم لكنهم في الحالة السعودية يواجهون صعوبة كبيرة في تصور الحراك الذي يحدث دينيا وثقافيا.. ولهذا نجد وصفهم للأوضاع في أقطار عربية وإسلامية أخرى أكثر قوة وتماسكا

وقدت هذه الدراسات للمكتبة العديد من المراجع الرئيسة في الحركات الإسلامية لأنه توجد في بعض هذه الأقطار أحزاب ونقابات وتيارات ورموزها في العلن وهناك إنتاج متراكم لكل تيار ما يسهل عملية التعرف عليهم وبعكس الحالة السعودية ، وخصوصا التي تتداخل فيها هذه المسائل بصورة غامضة ، ولا وجود لها محدد الملامح .

أما الكتاب العرب ، فبعضهم يعرف أفضل خاصة الذي عاش طويلا في الداخل ، لكن بعضهم يفقد الصدقية ، وهناك أعداد كبيرة من المزيفيين في وصفهم للتجربة السعودية . وقد اهتم الكثير من الوسائل الإعلامية بالحراك الداخلي في السعودية والصراعات والتغيرات ، وكتب عن بعض هذه التغيرات ومنها الظاهرة التنويرية وتأثيرها .

وكانت ورقة ستيفين لاكرويكس ، الباحث الفرنسي ، من أشهر الكتابات التي تم تداولها في المنتديات والمواقع ، وعلى الرغم من أنها من أبرز ما كتب في تلك المرحلة إلا أنها نموذج للأخطاء التي يرتكبها الباحثون الغربيون وفهو يأخذ المعلوما عن الشخصيات التي تحدث عنها بطريقة سواليف

من دون أن يتأكد منها إنها ملخص لما قبل شفهيا له من آخرين والكثير من المعلومات عن الشخصيات ليست دقيقة في تقييمها (ستيفن لاكرويس ، "بين الإسلاميين والليبراليين: الإصلاحيون اليبرو – إسلاميون الجدد في السعودية " موقع راصد ، 2/ 10 / 2004م)

(جمال سلطان) الذي تغيّر في أواخر التسعينيات نحو إسلامية معتدلة في مواقفها مع العقلانية الإسلامية ، ولديه اتصال مستمر بالساحة الإسلامية السعودية ، كتب مقالة بعنوان " قلق في السعودية " في (جريدة المصريون ، 1/4/2008م) عن ظاهرة الحراك التنويري ، وقدم فيها تصوراته لها قبل عشر سنوات وبعدها ..

واستغرب في تقييمه أنه كان يري فيها مراهقة فكرية في البدايات ، ثم استعرض ما حدث من تحوّلات وقارن ذلك بالحالة المصرية منتقدا لها؛والواقع أنها مقارنة مبالغ فيها ومتأثرة بطريقة تفكير خصوم التنوير محليا إما لأن لم يفهم الحالة السعودية أو لأنه لم يفهم الحالة المصرية في تطوراتها الفكرية في القرن الماضي .

وفي مقابل هذا الرأي المضاد للظاهرة هناك رأي آخر ، لـ (شاكر النابلسي) الذي ركب موجة الليبرالية الجديدة ، وقد زادت جرعة النقدية للوضع الداخلي في السعودية وهجومه على المناهج

ومع زيادة أسعار النفط تحول نقده على الطريقة المرغوبة محليا ، خصوصا عندما بدأ الكتابة في جريدة الوطن ، فكتب مقالة في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2003 م عن ما هي المعاني السياسية لقيام جبهة سعودية ليبرالية للإصلاح ؟

في إيلاف ، وتبدو مشكلة الكاتب ليست في مبالغاته فقط ، وإنما في تناقضاته بين مرحلة وأخري ، فخلط الحراك الثقافي بالمعارضة ، ورأي أن الدولة وجدت في بيان الدستوريين الليبرالي ضالتها لتواجه الإسلاميين .

حول مشكلات المصطلح

تعاني الحالة السعودية مشكلة مصطلحات امتدادا لمشكلتها في تحديد التيارات الفكرية ، والاهتمام الثقافي بالمصطلحات والوعي بها إما أن يكون دلالة على قوة علمية معرفية أو دلالة على حيل تستعمل في الصراعات الفكرية كما هو في حالتنا السعودية وللأسف فإن إشكالية مصطلحات التنوير أو العصرانية والعقلانية والليبرالية وغيرها

والتي يتم تداولها إما للتحذير منها أو الإعجاب بها تظهر في بيئة ثقافية لم تتراكم فيها هذه المفاهيم .تعزز هذه البيئة الكثير من المغالطات المقصودة وغير المقصودة في إدارة الصراع مع الآخر ، كما حدث في إشكالية الحداثة منذ الثمانينيات وتخبط الحداثيين في شرح مفهومهم للحداثة ..

قبل حدوث أزمتهم مع التيار المحافظ ، وهنا لا أريد تحديد حقيقة مثل هذه المفاهيم لأن أى مثقف من المفترض أن يدرك ماذا تعني ، وإنما أريد تناول طريقة الوعي والتعامل معها في تجربتنا وحيل التنويريين وخصومهم حولها .

يختلف كثيرا سياق مفهوم ومصطلح " الحداثة" عن مفهوم "التنوير الإسلامي" أو العقلانية والعصرانية .. ولهذا كان على الحداثيين في الثمانينيات أن يحددوا مفهومهم للحداثة مبكرا وبالتفصيل

وموقفهم من الإشكاليات التي تثار حولها ، بدلا من التهرب والتحايل ، لهذا عندما انفجرت الأزمة ضدهم فإن تهمة الحداثة أصبحت وفق المفهوم الغربي في بيئة سلفية لأنهم لم يقدموا حينها أى مبادرة تكييف لهذا المفهوم للتخفيف من قلق الذهنية المحافظة .

وقد أشرت إلى أن البعض منهم تعمد هذا التهرب ليحتفظ بدلالة المصطلح وغموضه ليمارس أدوارا وأهدافا عدة حسب الحالة وليبقي بريق المصطلح في الداخل والخارج من دون تحديد ، ولا يريدون هذا التحديد حول أى مستوى من الحداثة ينادون به ، لأن هذا التحديد يفسد اللعبة مبكرا

ولأنهم سيخسرون تأييد الحداثيين الحقيقيين إذا قدموا تعريفا محافظا وسيدينون أنفسهم لو أقروا بالمفهوم الغربي كما هو في بيئة محافظة ، لهذا فالقضية لم تكن بحاجة إلى تشويه التيار الإسلامي للمصطلح ..

كما يحاول تصوير ذلك فيما بعد من يريد مغالطة الحقائق فأى مثقف مطلع يدرك مفهوم الحداثة الغربي، كما يجب عليه أن يدرك مفهوم الليبرالية والعلمانية والشيوعية .. وغيرها وإلا فلا يمكن اعتباره مثقفا عصريا ..

وتتسع المشكلة لدينا عند تناول الكثير من المفاهيم ، حتى أن أحد المثقفين يتحدث في الحوار الوطني "بأننا لم نفهم الإسلام" وكأن الإسلام مسألة رياضية وفيزيائية معقدة !أما المحاولات المتأخرة في توضيح المقصود بالحداثة .. فهي الأخرى لم تكن مقنعة ، فقد حاول البعض تفريغ المصطلح من مضمونه .

وبدا كأنه مفردة لا تختلف عن مفهوم " التحديث الشكلي " وإذا كان المقصود غير المفهوم الغربي عند روّاد الحداثة وزعمائها فما الداعي لتبنيه واستعماله ؟ وإذا كان المفهوم الغربي يتضمن جوانب ضرورية للإستنارة الفكرية ولا يري أنها تخالف مبادئه فليحددها وهو ما فعله بعض روّاد التحديث في وطننا العربي .

أما مفهوم العقلانية ، والتنوير الإسلامي ، والعصرانية ، والليبرالية الإسلامية ، وهي مسميات أطلقت على اتجاهات إسلامية تشكلت منذ نهايات القرنين التاسع عشر والعشرين فقد وجدت محاولات لهذه العصرنة الفكرية الإسلامية وتشكلت مدراس وأصبحت محددة في كثير من ملامحها وفقا لهذه التجربة

على الرغم من وجود اختلافات بين تجربة وأخري ، ومفكر وآخر .. وهي محاولات مبكرة لعرض الإسلام في وجهة عصرية قبل أن تتطور في ما بعد فكرة الأسلمة بطريقة محافظة لمواجهة العصرية .

وأى مثقف مطلع على أدبيات الثقافة الإسلامية المعاصرة ورموزها خلال القرن الماضي يدرك مدي حضور أسماء كثيرة في هذه المدرسة ، وتأثيرها في تشكيل رؤى حديثة للمفاهيم الإسلامية ،هذا الاتجاه تضمن أطيافا متعددة اختلفت من مرحلة إلى أخري في منهجها وتطرفها واعتدالها

حيث قدمت أحيانا آراء بالغة الغرابة باسم التجديد والتنوير ، مخالفة لأسس وقواعد إسلامية باسم هذه الاستنارة ، وأحيانا تبدو متعقلة في خطابها التنويري محافظة على قدر من المنهجية العلمية .

وما يهم هنا الإشارة إلى وجود اختلاف المرجعية في نشوء المصطلح والتجربة ، مقارنة بنشأة " الحداثة " ولهذا عندما ظهرت بوادر الظاهرة العصرانية والتنويرية في الحالة السعودية في نهاية التسعينيات الماضية

كنت أستغرب من أن البعض ، ومن خلال بعض الحوارات يظن أن "العقلانية الإسلامية " تهمة وتشويه لسمعة الفرد .. ولم أكتب عن مشكلات المصطلح لأنه تأسيس وله تجارب وخطاب تشكل ، وليس بالضرورة أن نوافق على جميع تفاصيله ، فلهذا الاتجاه تراكمات قديمة وله رموز فكرية ودعاة وعلماء ومفتون .

ومع وجود تحفظ شخصي على الكثير من أدبيات ومنهجية التنوير الإسلامي الذي تشكل في بدايات القرن الماضي ، وليس التحفظ تحفظا سلفيا بقدر ما هو أخطاء علمية وفكرية

فإن هذا لم يجعل لها أولية في نقدها فعملية استدراك هذه الملاحظات تحتاج إلى كتابات ومؤلفات خاصة مطولة ، والإشكال ليس في توضيح هذه التحفظات التي قد تصادم الذهنية السلفية ،والصحوة خاصة أن الصحوة والسلفية المحلية لها سوابق في إسقاط شرعية الآخرين والتشكيك بهم ، بمن فيهم فقهاء كبار كالشيخ القرضاوى .

في بداية الظاهرة كان يظن التيار الإسلامي والصحوة أن مجرد إطلاق تهمة العصرانية والعقلانية ضد الشخصيات كاف لتشويه السمعة ، وخصوصا بعد تراكم الهجوم على هذه الاتجاه ، منذ رد الشيخ (سلمان العودة) على الشيخ محمد الغزالي

ثم كتب (جمال سلطان) و(عبد الرحمن الزنيدي) وفي ما بعد كتابات (سليمان الخراشي) حيث شعر الإسلاميون أن هذه التهمة تحوّلت إلى ميزة ومصدر للفخر

وبخاصة بعد ظهور العديد من الأسماء والكتاب الذين أحدثوا هزة فكرية في ذهنية الكثيرين بمن فيهم فئات من جمهور الصحوة ، وكان بعضها قد قدم جهودا ضخمة في محاربة ظاهرة التنوير وتشويههها ، ثم التحق بها بعد سنوات .

كان من مميزات بداية هذه الظاهرة أن هذه الشخصيات التنويرية كان لديها وعي بالتراث الإسلامي ، وخبرة بالصراعات الإسلامية المحلية لهذا لم تنجح معها هذه الممارسات التشويهية وخصوصا أن الخطاب التنويري في بدايته كان متعقلا .

وبعد سنوات ومع نهاية ربيع الإصلاح ، حدث تطوّر آخر ، وذلك عندما بدأت بعض الأسماء التنويرية تتجه الليبرالية الجديدة بشدة ، مع حفلة من المزايدات بالانفتاح ، حيث لم تعد هذه الليبرالية (ليبرالية إسلامية) ..

فالاتجاه الإسلامي كان قد اختفي مع التغيرات الجديدة التي فرضتها ظروف (شللية) محضة .. فتم فصل الإسلامية عن الليبرالية عن البعض ، وقاموا بتوديع (التنوير السابق) الذي أصبح بالنسبة إليهم (دقة قديمة) لا تتناسب مع المرحلة التالية و (الجلسات الخاصة)

تختلف هذه الليبرالية الطارئة عن ليبرالية السعوديين القديمة الأرستقراطية فقد بدأت هذه اليبرالية خطابها بشئ من الاندفاع والحمق في رؤاها السياسية على طريقة الليبراليين الجدد في الموقف من أمريكا وإسرائيل ، فلم تستطع أن تحافظ على شروط الليبرالية الموجودة عند النخب السعودية القديمة والتكنوقراط في الحكومة .

ولهذا تختلف ليبرالية ما بعد 2003م عما كان قبلها في بعض المواقف والأسس التي يعرفها المدرك لتشكلات الوعي النخبوي السعودي على الرغم من أنه لم يكن ينقص هذه اليبرالية الجديدة جرعة الحكومة اللازمة ، بل إن لديها مزايدة متطرفة ونفعية مكشوفة ، لكن ليس على الطريقة التقليدية القديمة وإنما مخلوطة بقليل من الاستعراض النضالي المزيف .

وكان مصطلح الليبرالية الإسلامية الذي بدأ مع ظاهرة التنوير مشابها لمفهومي العقلانية والعصرانية ومرادفا لهما ، بمعني أنها تنطلق من رؤية إسلامية مستنيرة .. ومع تخلي البهض عن الإسلامية فإن مشكلة المصطلح بدت تفرض نفسها مرة أخرى خصوصا أن هذه الموجة فرضت على هؤلاء التخلي عن مفدرة (إسلامي) حتى لا تبدو قريبة من تهمة " الصحوية "

وتطورات الحالة عند البعض ، فأخذ يحاول تصوير نفسه على أنه ليبرالي مبكرا ! حتى أنكر أحدهم أنه كان يستمع للشريط الإسلامي ، ومع ذلك هو لا يتردد في أن يقدم نقدا شديدا للخطابات المسجلة بتلك الأشرطة ، ولا أدري كيف إذا ينتقد خطابا لم يسمعه !..

وما دامت الليبرالية استغنت عن مفردة " الإسلامية " وبخاصة عندما بدأت تظهر ملامح تمرد تزداد حدته خاصة في المنتديات ، وهرطقة سياسية ضد العرب والمقاومة ، وحالات تصهين ممزوجة بدعاوى وطنية وحكومية إلى مفردات دينية تستحضر عند الحاجة إليها

وحال التورط في صدام مع الخصوم ،فإنها بمواصفاتها الجديدة ، وظهور ملامح التمرد تعيد سؤال المصطلح ومفهومه مرة أخرى لتكرر الإشكالية السابقة حول (الحداثة) و(الحداثيين) مع المصطلحات .

ولهذا بدأت بعض الكتابات التي تولّت حملة الدفاع عن المصطلح وتلميعه بطرق لا تختلف عن أسلوب تيار الحداثة تفتقد الموضوعية الفكرية ، والاحترام لوعي المثقف، وعندما ظهرت فتوى الشيخ صالح الفوزان عن الليبرالية ، بدأ الخطاب الانفعالي ضده وضد السائل ، وتوالي سرد المؤامرات ..

مع أن القضية لم تكن بحاجة إلى مؤامرات ! فلا أدري ماذا يتوقعون من رأي شيخ سلفي تقليدي عن الليبرالية ؟! ونحن نعرف مواقف هذه المدرسة التقليدية من دعاة إسلاميين ومشاهير من حركات وتيارات إسلامية فكيف سيكون موقفها من الليبرالية ودعاتها ؟

والقضية ليست بحاجة إلى سائل كـ (سليما الخراشي) المعروف بخصومته لليبرالية أو غيره لأن الشيخ صالح الفوزان لم تتغير آراؤه قبل الصحوة وبعدها . وظهرت أيضا حالات تباك في بعض المقالات على تشويه المصطلح والفهم الخاطئ له ، تحريض المجتمع ضده ، وأن الليبرالية لا تخالف الإسلام ..

ولست معنيا هنا بسؤال : هل تخالف الليبرالية الإسلام أو لا تخالفه ؟ ولكن هذا الجدل يذكرنا بالطريقة نفسها التي تحدث بها التيار الحداثي عن مفهوم حداثته وكيف أنها لا تخالف الإسلام ؟

وليست القضية حرمة استعمال أى مصطلح أو إباحته .. بقدر ما أن هذه العشوائية باتت مؤذية في الطرح ، لتضمنها كثيرا من عدم الدقة في التعامل مع المفاهيم .. وأخطاء الرؤية السلفية ليست مشكلة ، لأنها ليست متعايشة ومتصالحة مع الفكر والثقافة بصورة عقلانية في الأصل ، فهذا يبدو خطؤها متوقعا في التعاطي مع أى مفهوم عصري

لهذا فإن الحيلة الجديدة التي بدأ يتفذلك بها بعض الكتاب هي أن الليبرالية (لا يمكن تعريفها) وعدم الإمكانية هنا ليس من أجل (الدقة المنهجية) في البحث عن تعريف قاموسي جامع مانع بقدر ما هي حالة هروب .

وإذا كان المثقف لا يدرك ماذا تعني العلمانية واليبرالية والديمقراطية والشيوعية والحداثة وغيرها ، بحجة عدم وجود هذا التعريف القاموسي المجمع عليه ، فإن هذا ينقل الإشكال إلى مستوى آخر ، ويجعلنا أمام ذهنية نصية ، أو ذهنية هلامية عبثية .

وفي تقديري أن أزمة مصطلح الليبرالية السعودية ليست بالعجز عن تحريرها نظريا بقدر ما هو عجز عن دفع كلفة حمولاتها الفكرية و الدينية والسياسية بصورة صريحة وما يسببه هذا المصطلح من خسائر لهم ، وليس ذلك تكتيكا وقتيا كما يتصور البعض لتأجيل التصريح بالقناعات ، فليست هناك قناعات جادة تستجق الاحترام عند البعض

حتى لو كانت وفق ليبرالية المؤسسين وفلاسفتها الكبار ، وإنما هي خصائص مرنة نفعية و ولهذا يمكن أن تتحجب أحيانا ، ويمكن أن تتمرد في بعض القضايا ، والتعريف الواضح بات يفسد اللعبة (كما عند تيار الحداثة)

ولو اضطر أحدهم لأسلمة الليبرالية في كتاباته فسيتعرض لخسارة شلته وعلاقاته ، لأنه سيبدو كمحافظ تقليدي ، وإذا تعامل معها كما هي من دون حجاب ، فإنه لم يكن مؤهلا لهذه المهمة سياسيا ودينيا واجتماعيا .

آراء حول هذه الليبرالية

(أخشي ما أخشاه أن تكون الليبرالية " في المجتمع السعودي كذبة اخترعها المحافظون ليشرعنوا وجودهم ويضمنوا استمرارهم). ناصر القصبي في دور الدكتور عبد الله في حلقة طاش " ليبراليون .. ولكن " 15 رمضان 1428هـ

عندما عرضت طاش حلقة (ليبراليون ولكن) كانت ردود فعل الوسط التنويري واليبرالي التي سجلتها مواقع الإنترنت ورسائل الجوال منزعجة من التسطيح الذي عرضت فيه كما يرون ، وأن ما قدمه (طاش) هو تشويه لسمعة التيار لصالح الرؤية التقليدية ..

ولست معنيا هنا بحلقة " طاش " بقدر أهمية الانطباع الذي قدمته ، وردة الفعل التي جاءت من خلال مقالات في الصحف ومنتديات الانترنت .. وكان مشهد الكبسة والشراب والابن الضائع أكثر المشاهد استفزازا للتيار الليبرالي في تلك الليلة الرمضانية .

ولهذا تفاعلت شخصية فكرية مهمة مع هذه الحلقة فكتب (عبد العزيز الدخيل) مقالة بعنوان " الصفقة الطاشية على حساب الليبرالية " (جريدة الوطن 4/ 10/ 2007م)

وقدم بعض الرؤي التي تهم المراقب عن تصوّراته حول الليبرالية في مجتمعنا ، والكاتب اسم له قيمته وصاحب رؤى عقلانية و فهو يري " أن مجتمعنا بكل مؤسساته الحكومية والخاصة وشرائحه الاجتماعية لم يصل بعد إلي مرحلة الليبرالية "

ولهذا رأي أن

" الحديث عن ليبراليين في مجتمع لا تتوفر فيه اشروط اللازمة لولادة ونمو فكر ليبرالي أصيل يعتبر نوعا من التجني على الواقع ، وحكما غيابيا على الليبرالية
صحيح أن هناك بعض الومضات والنزعات الليبرالية لدي بعض المثقفين لكنها ومضات لا تؤسس فكرا فلسفيا ليبراليا يقوم على مقومات ونتائج منطقية ويؤسس لقيام مرحلة اجتماعية سياسية اقتصادية ليبرالية "

ثم يشير إلى رأيه في الليبرالية بأنها:

" فكر عقلاني يقيم السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للفرد ومن ورائه المجتمع على مبدأ الحرية الكاملة للفرد في جميع ما يتعلق بشأنه الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي بشرط عدم المساس بحرية الآخرين
وكذلك عدم المساس بالثوابت والقيم الدينية والاجتماعية التي شرعها ودسترها الأفراد من خلال ممثلين لهم ، انتخبوا بكل نزاهة وصدق في عقد اجتماعي ودستور ".
" ويكون السؤال إذا ، هل نعيش في العربية السعودية حالة من الليبرالية ؟ والجواب في رأيي هو أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة في سلم التمدن الحضاري حيث لا نزال كغيرنا من الأقطار العربية وبعض أقطار العالم الثالث وإن بشكل نسبي في المرحلة الانتقالية أى المرحلة الوسطي"

ثم يشير إلى أننا

" نحن إذا، ليسنا في حالة اجتماعية ليبرالية سواء من حيث الفكر السائد أو السلوك السائد ، فخارطتنا الاجتماعية ليس فيها فريق من الليبراليين لهم وزنهم وصوتهم في الساحة الثقافية والفكرية .. نعم يوجد بعض المفكرين ممن لديهم ميول ليبرالية .
لكننا نتحدث هنا عن الفكر الليبرالي المؤسس على منهج فكري فلسفي .. وتبدو أهمية هذا الطرح من أنه رؤية تأتي ممن لديه خبرة جيدة في إشكاليات الانفتاح محليا ، وليس وليدة قراءة حديثة عن المفهوم ".

ويبدو (الدخيل) هنا قلقا من تشويه المصطلح ، ما أفقده بعض الموضوعية حول المفهوم وهو يحاول تصويره بأنه لا يخالف القيم الدينية وهذه ليست مشكلة الدخيل فقط وإنما مشكلة كثير من المفكرين العرب يقدمون هذه المفاهيم بحجة أنها لا تخالف الإسلام وتبدو مشكلة هذه المفاهيم أنها تقع بين مغالطتين ..

فالمحافظون يريدون تشويهها ، وكأنها لا يوجد أى حق فيها ، والآخر يدعي بأنها لا تخالف الإسلام وكأنه لا يوجد ما يخالف الإسلام .

وفي مقالة "هل أنت ليبرالي سعودي" لـ (عبد العزيز السماري) استعرض في هذه المقالة المصطلح وإيحاءاته السياسية الحالية التي تعني الارتباط السياسي بأمريكا أو بالمحافظين الجدد

وما يثير السخرية في نظره أن الليبراليين في الولايات المتحدة خصوم لحركة المحافظين الجدد (جريدة الجزيرة ، 22/ 3/ 1429هـ).

أما رأي نواف عبيد ، فيري أن "وجود ليبرالية في السعودية موضوع سخيف" ويقول:

" المؤسف أن أطروحات ورؤى من يسمون أنفسهم باليبرالية تدعو إلى الشفقة والضحك معا، ودولة مثل العربية السعودية تعتبر قلب الإسلام ، ولا يمكن إطلاقا أن ينمو فيها الفكر الليبرالي " (جريدة الحياة ، 12 / 2/ 2008م)

ومع أن عبيد هنا يمثل نفسه في الحوار فإن أهميته في نظر المراقب أنه قد يكون تعبيرا عن رأي قوى مهمة يمثلها في لحظة تراجعت فيها الآراء الإصلاحيةلصالح الرؤية الرسمي التقليدية.

التعريفات في السعودية إذا لها طقوسها وحيلها المتعددة ، والتي لا يمكن فهمها ما لم تكن مدركا لتفاصيل الجو السياسي والاجتماعي في كل مرحلة؛ومع أن بعض أشكال الليبرالية في النخب التجارية والسياسية موجود مبكرا منذ أكثر من نصف قرن ، ويستحق الشرح المستقبل

فإن الظاهرة التي تشكلت قبل طفرة النفط ليس هنا مكان الاستطراد فيها ، فلم يكن لديها هم أيديولوجي لبث هذا الفكر في المجتمع .

تفقد هذه الليبرالية الجديدة الكثير من الأسس الثقافية والحياة الاجتماعية والسياسية التي توافرت للجيل القديم .. والليبراليون يختلف وعيهم السياسي ، ومكانتهم الاجتماعية ومن أبرز خصائص تلك الليبرالية الخجل والصمت واحترام المجتمع المحافظ واختياراته والليبرالي يعيش طقوسه الخاصة بعيدا عنه!

الشيخ .. والتنوير

مع الحراك التنويري ، وتزايد النقد ضد الخطاب الديني والفقهي وشعور بعض الرموز الدعوية ببعض أخطاء المرحلة السابقة شهدت هذه المرحلة تطورات فقهية نحو التسامح الفقهي والبعد عن التشدد قياسا على ظروف الحالة السعودية التي لم تشهد ظهور شيخ تنويري إصلاحي له مدرسة فقهية مكتملة مؤثرة .

لقد أشرت إلى عوائق ظهور مثل هذه الشخصيات في البيئة الفقهية المحلية لأنه بمجرد وجود تغير في الخطاب الديني ، فإنه يفقد صدقيته الشرعية

ويتحول إلى مسار آخر خارج دائرة العلماء المعتبرين الشرعين المشتغلين في الدعوة والتعليم والإفتاء ولهم جماهيرية نظرا لأن المرجعية الرسمية لم تكن تتيح لأى تنوع فقهي في الظهور وتزكيته ، حتى في مجال العبادات والمسائل الفردية حيث المركزية الشديدة وعندما تسحب هذه التزكية لأى داعية مبتدئ فإنه لا يستطيع تأسيس منهجه الخاص فيكون ملزما بالسير على ما هو موجود .

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة حالات خروج عن هذه المركزية مع ضعف المرجعية الدينية للمؤسسة الرسمية ، وعدم ظهور شخصيات بحجم ابن إبراهيم وابن حميد وابن باز وابن عثيمين

فأصبح متاحا لبعض الشخصيات الدينية القول بآراء فقهية مخالفة لرأي المؤسسة الدينية إعلاميا ما يعد ظاهرة جديدة قد تسمح بظهور مدرسة فقهية غير تقليدية ، وهذه الآراء المخالفة إن وجدت فإنها لا تعلن ولا تطرح على المنابر .

ومع الارتباك الذي أحدثه موضوع الإرهاب ، والقلق السياسي والثقافي أصبح الجو مهيئا عند التيار الديني وجمهوره لقبول هذه الآراء الجديدة والتسامح معها.

وكان هناك مشايخ أظهروا آراء متسامحة مبكرا حول مسائل فقهية مهمة كالتأمين عند الشيخ (عبد الله بن منيع) وبسبب سعة أفقهم وخبرتهم في بعض المجالات كالاقتصاد

فإن هذا أتاح لهم مواجهة الرأي الفقهي المخالف للمشايخ الكبار ، فقد كان المجال الاقتصادي هو المجال المتاح ، وورد الاختلاف فيه مبكرا حول بعض الفروع الفقهية لكن المجال الاجتماعي وبخاصة قضايا المرأة هو المجال الذي يواجه صعوبة وحساسية أكبر .

والتحول الجديد الذي فرضته ظروف المرحلة وضعنا أمام تجارب عدة لتحولات المشايخ نحو فقه متسامح ، لكن هذا التحول تختلف درجة نجاحه من شيخ إلى آخر ، بل إن هذا التحول ما زال في مرحلة التشكل عند عدد منهم .

إن تجربة الشيخ (عبد المحسن العبيكان) جاءت بعد مرحلته الثورية الطارئة وتراجعه المبكر في التسعينيات فبدأ يقدم في الفضائيات خطابا وآراءا فقهية مختلفة مع احتفاظه بالرؤية التقليدية السائدة في الخطاب الديني من دون تغيير جوهري .

وبعد أحداث العنف رحبت به الصحافة والإعلام بصورة مبالغ فيها ، فلم يتمكن خلال هذا الظهور المكثف من المحافظة على صدقيته ، لأن آراءه في القضايا السياسية والأحداث لم تكن موفقة في منهجية عرضها ، وخصوصا أن تيار الصحوة أخذ موقفا مبكرا منه منذ تحوّله القديم.

وتيار الصحوة هو المؤثر الأهم في فئات كثيرة في المجتمع في المجال الديني ، وتكوين سمعة وصدقية لأى شيخ حيث تراجعت صدقية الشيخ بسبب الصحافة

ولا يمكن أن يلام الجمهور بقدر ما يلام الشيخ الذي لم يدر هذه التحوّلات بصورة صحيحة وتمجيد الصحافة الطارئ لم يكن لصالحه مع أنه لا تنقصه المعرفة الفقهية ، لكنه بخصوص الوعي المعاصر فإنه يفتقد الشئ الكثير

لهذا لم ينجح الشيخ في تكوين حضور له وشعبية ، سوى بين مجموعة كتاب وصحافيين حاولت صنع دعاية لع لم تنجح وذلك لنقص الخبرة في الحالة الإسلامية .

مقابل هذه التجربة تأتي تحوّلات الشيخ (سلمان العودة) المتدرجة أقوى تأثيرا وتماسكا ، وما زالت التجربة مستمرة وتمضي بقدر من الحذر الشديد على الرغم من تقدمها فإدارة الشيخ العودة لخطابه الأخير يقظة جدا ، فهو يؤمن بالتدرج المدروس لعدم خسارة شعبيته القديمة عند التيار المحافظ وجمهور الصحوة الذي صنع له المجد الجماهيري ؛

وخلال هذا التحوّل وفي الوقت الذي بدأ يخسر فيه بعض جمهوره من تيار الصحوة القديم كانت هناك جماهيرية جديدة تتشكل من المجتمع المحلي والخارجي فكسب صدقية عند الجمهور الآخر ما حقق لتحوله قدرا من التوازن المدروس وقدرة على مواجهة تيار الصحوة التقليدي وناشطيه ، ولهذا هناك حذر ملحوظ منهم في أسلوب إعاقة الشيخ عن تغيره

فقد أدار الشيخ تغيره بقدر من الهدوءة والمرحلية والشيخ العودة بسبب خبرته التربوية المبكر ، ووعيه بالجماهيرية الدينية المحلية ، كريقة تفكيره فإنه استفاد من هذه الخبرة كثيرا حتى لا يحترق ويفقد صدقيته .

وعلى الرغم من ذلك فإنه هذا التغير سيعاني صعوبات كثيرة حيث ستتأثر الصدقية في جوانب أخرى ، لعدم استقلاليته مرة أخرى كرمز ديني لأن الأحداث ستختبره في مواقفه

ولعدم قدرته على تقديم مواقف واضحة وهروبه المستمر عن مواضيع حساسة دينيا وسياسيا واجتماعيا من دون مواقف قوية ، إن خطابه التنويري الجديد سيجعله امتدادا (لعمرو خالد) و (طارق السويدان) فالشيخ الشرعي يكتسب حضوره جماهيريا من مواقفه الفقهية مع القضايا المشكلة جماهيريا

أو من زهده الدنيوي والبعد عن الأضواء و لهذا كانت الشخصيات والعلماء الرسميون تبدو قيمتهم ببعض مظاهر الزهد .فاحتفظوا بقدر من الصدقية حتى مع رسميتهم الشديدة .

إن إسرافه الشديد في الموضوعات التربوية وتطوير الذهنية والادارة بمثابة قضايا ستخرجه مستقبلا من القيمة الفقهية إلى طور آخر من الخطاب التبليغي .

وعندما كان الشيخ يحتفظ بكامل صدقيته عند جمهوره في التسعينيات واستقلاليته فإن نجح بقوة في تغيير بعض قناعات تيار الصحوة حول قضايا تعليم المرأة وعملها بقوة ، وكان رأيه يعتبر في مسائل المرأة هو الأكثر تسامحا ، في خطاب الكاسيت ولم ينظر إليه جمهوره بريبة

لكن عندما تكون آراؤه على (إم . بي ، سي) فإن ظروف الاستقبال تغيرت ، فلن يكون الشيخ هنا كما هو ، لهذا ستواجه تجربة الشيخ الكثير من التحديات

ولا يمكن الاستهانة بمدى موقف التيار الديني وناشطيه منه مهما كانت جماهيريته الأخري بالمجال الديني له حساباته الدقيقة الأخري ، ليس منها الجمع الحسابي لعدد الجمهور إن جماهيرية الوعّاظ والحكواتية تختلف عن جماهيرية الفقهاء والعلماء في نوعيتها .

موضوعات .. الخطاب التنويري

قدم الخطاب التنويري عددا من القضايا أصبحت في ما بعد جزءا من مفاهيم المرحلة وشعاراتها قبل حوادث العنف المحلية و من خلال طرح مبدأ التسامح؛ومواجهة التشدد الفقي والحديث عن المجتمع المدني ، الإنسانية ، والوطنية ، وحقوق الإنسان ،.. ومع موجة العنف كان للخطاب التنويري دور بارز في تناول هذه القضايا

ويمكن الإشارة إلى طبيعة هذه المعالجات هنا:

نقد الإرهاب : من مشكلات هذا الخطاب أنه ربك أهميته بمواجهة الإرهاب والتطرف في ما بعد ، بسبب المبالغات في تناول هذه المسألة ، وفي التحذير من أى خلل اجتماعي وديني وكأنه سيقود إلى التطّرف والعنف .

إن ربط بعض التنويريين أهميتهم بمواجهة التشدد والعنف خطأ استراتيجي ولأن التنويري الفكري حاجة ضرورية لأي قطر ومجتمع عصري وتقدم علمي ، حتى لو لم يوجد هذا التطرف أو العنف الطارئ ولهذا أصبح البعض ينظر إليهم بأن أهميتهم مؤقتة تنتهي بانتهاء الأزمة .

ولهذا حرص بعض الكتاب على المبالغة بوجود تطرف أو تشدد لن ينتهي أبدا في نظرهم وأنه سيعود مرة أخرى حتى لو توقفت أحداث العنف، على الرغم من أنه من الممكن أن يزول هذا الخطر بسبب قوة أمنية ، وتعديل بعض الأخطاء في أشياء محددة .

إن لتنوير يجب أن تكون أهميته أكبر من أداء مهام طارئة ، ومع ذلك ما الجديد الذي أحدثه التنوير في نقد الإرهاب في الإعلام ؟

لقد حدث نقد للعنف في إعلامنا في منتصف التسعينيات بعد حادثتي العليا والخبر ، في نهاية مرحلة السيطرة الإعلامية وقبل زمن الانترنت تمت معالجته في الصحف بالطريقة القديمة : في تقديم رسالة موجهة .،.

ومع ذلك قدمت بعض الأفكار حيث طرحت تلك المرحلة مسألة الوطنية في بعض المقالات واقترحت بعض الأفكار ، ومن خلالها تم إقرار مادة الوطنية ..

وأشير إلى مشكلة المناهج لكنه كان نقدا في الشكليات وليس منهجيا في رؤيته الدينية والسياسية ، لقد مر الخطاب التنويري في نقده للإرهاب والتشدد الديني بمراحل عدة وفقا للتطور الذي حدث له والمتغيرات السياسية والاجتماعية ، يمكن تقسيمها إلى مراحل تأثرت بالرؤية الرسمية ، الداخلية والخارجية .

ويمكن تلخيص المراحل إلى ما يلي :

  • ماب ين 11 أيلول (سبتمبر) 2001 م – 12 أيار (مايو) 2003م وكانت هذه المرحلة من أكثر المراحل خصوبة في الجدل حول مفهوم الإرهاب ، حيث وجدت قراءات متعددة ما بين مؤيدة ومعارضة ومتحفظة بـ (لكن) ولأن أحداث العنف كانت في دول بعيدة فقد كان هناك هامش كبير للإختلاف عند النخب والجمهور وعامة الناس ، ولهذا أفرزت هذه المرحلة قراءات فكرية وسياسية ، فقهية لافتة لكل اتجاه في الموقف من هذه الأعمال ، رفضا أو تأييدا .
  • تفجيرات 12 أيار (مايو) 2003 م في الرياض أدت إلى انقلاب جذري في الخطاب النقدي ضد العنف ، واختفي سريعا خطاب المقاومة ، والمبرر لها في دول أخرى ، والتأييد العلني المباشر ، ولم يتبق إلا أصوات مخفية خلف معرفات نتيّة تؤيد تنظيم القاعدة صراحة و تحشد الأنصار لها في مواقع المنتديات والمنشورات ومجلات في مواقع الإنترنت .
  • في هذه المرحلة لم يوجد إلا صوت الرفض محليا ، وتخوف الذين كانت لهم آراء في أحداث أيلول (سبتمبر) شبه مؤيدة من التهم ضدهم فغيروا خطابهم ، لكن الخطاب النقدي في الصحافة ومن التنويريين لم يتح للخطاب المتردد سابقا ترتيب نفسه وخطابه ، حيث تعرض لهجوم مباغت وكبير ، ومع وجود سماح إعلامي لهذا النقد زادت حدّة الهجوم
وتحولت في بعض أطوارها إلى رقابة بوليسية على الخطاب الديني والتحريضي في بعض المقالات وبمرور الوقت كان البعد الإصلاحي والحرية يضيقان والنقد التنويري يكرر نفسه حول مشكلات مملة والاتجاه الرسمي بدأ يسيطر على انفلات الخطاب
ويحدد محددات خطابه الإعلامي وظهر كتاب جدد في هذه المرحلة لم يقدموا سوى تكرار لما قيل من قبل ، مع حدة في الهجوم المستفز من أجل لفت النظر ، كتاب هذه المرحلة يعانون ضعفا بارزا في الوعي بالإسلاميات والحركات الإسلامية لكن ظهرت " اقتصاديات الإرهاب " كما أطلق عليها أحد الزملاء المثقفين .

في هذه المرحلة ظهرت تطورات جديدة في المعالجة منها مشاركة الدراما في معالجة أزمة الإرهاب ، فكان مسلسل " الحور العين " الذي أثار ضجة واسعة في منتديات الانترنت قبل عرضه بفترة طويلة بسبب اسم المسلسل والريبة من الجهة المنفذة وعل الرغم من أن معالجته كانت ضعيفة

ولم يتذكر المتابع له سوى مشاهد الطبخ والأكل التي تكررت في المسلسل بشكل ممل . وكانت حلقة إرهاب أكاديمي في " طاش " ساخرة جدا ، مستفزة للتيار الديني .

إن دخول الدراما السعودية مباشرة في هذا الملف يعتبر تطورا نوعيا في معالجة هذه الظاهرة بعد مرحلة المقالات والدراما فأهميتها أكبر لأنها تصل إلى شريحة واسعة من الجمهور على مختلف المستويات .

ولا أريد هنا تقييم الدراما ، لكن الصورة العامة لها توضح أنها لم تنجح في كسب جماهيرية مؤيدة وأنها لم تنجح سوى في استفزاز الجمهور وكذلك لم تجد تأييدا من النقاد الفنيين ولم تعالج " إرهابا أكاديميا " مما يدور فعلا في إشكاليات النشاط الإسلامي

وليست المشكلة في المبالغات التي يحتاج إليها العمل الدرامي الساخر ، بقدر ما أنها لم تنجح في تحديد الخطأ الذي يسخر منه فالنصوص كانت هزيلة وفقيرة جدا ، ولهذا لا يحتفظ المشاهد بعد فترة بأى نكتة يمكن استعمالها .. وأيضا الرؤى المتسرعة والمعالجات التجارية كان لها دور في إخفاق الدور الفني في مناقشة العنف والتطرف .

لقد زادت في ما بعد حدة المناكفات .. ونظرا إلى العجز عن تقديم معالجات جديدة لمشكلاتنا الحقيقية بدأ البحث في الأعمدة والمقالات عن الخصومات الشكلية ، بزيادة جرعة الاستفزاز بتكرار مفردة "الغفو" بدلا من " الصحوة " وبآخر يحدثنا عن معالجة المجتمع نفسيا من الصحوة ، وسوى ذلك .

ومما يميز هذه المرحلة أن الذينن انخرطوا في هذا المجال النقدي لم تكن لديهم أى خبرة تؤهلهم للكتابة عن هذه القضايا ، سوى اطلاع متأخر جدا في موضوعات الحركات الإسلامية والفكر الديني ربما .

ومن الناحية الصحافية كانت تجربة الصحافي (فارس بن حزام) مهمة فقد تخصص في القضايا المعلوماتية التي تخص الإرهاب وتنظيم القاعدة وأصبح بعد سنوات معدود ة مرجعا في هذه الموضوعات وتطوراتها الجديدة ، وإذا استمرت تجربته مستقبلا بهذا الاتساق فقد يكون نموذجا ناجخا للتخصص الصحافي المبكر .

لقد كانت أهم مشكلة في الوعي بقضايا الإرهاب والعنف أنها تحتاج إلى أرضية صلبة من المفاهيم السياسية المعاصرة ، وهو ما يفقد أغلبية الكتاب السعوديين .

وهناك أصول وأعراف في رؤية معني الدولة والحزب والمقاومة والإرهاب ، والعنف والجريمة ، والحرب وأخلاقيتها وقوانينها ، وتقييم ما هو أخلاقي منها وما هو غير أخلاقي وما هو مقاومة مشروعة وما هو غير مشروع ودور القوة في وصلاحيتها في انتهاك القوانين الدولية ، ودور الضعف في أن تكون مظلوما ..

ولهذا تمت الكتابة عن صراعات عديدة تتداخل فيها مفاهيم متعددة ، في أفغانستان والعراق ، والعلاقات الدولية ، وقضية فلسطين وإسرائيل ، فالقارئ سيجد العديد من المغالطات والتخبط في هذا الكتابات

ولهذا سأحاول في دراسة أخرى رصد أخطاء هذه المعالجات مفصلة في انتهاك أصول التحليل والتفسير السياسي والفكري و وقد أشرت في بعض المقالات بعد أيلو ل (سبتمبر) إلى مشكلة هذه الرؤي النقدية

وخصوصا أن هناك ارتباك واضحا حتى من التنويريين في البداية ، ومع هذا الضعف فإن هناك أيضا عدم وضوح لمفهوم الجهاد في الإسلام ، وهو عجز لا يتحمله فقط التيار الديني المعاصر

وإنما هو من أهم إشكاليات الثقافة الإسلامية المعاصرة ، ولم تفلح محاولات المفكرين المعاصرين والفقهاء التقليديين في صياغة مفاهيم قادرة على الصمود أمام إشكاليات العصر .

مسألة الوطنية : مع أن الوطن والوطنية كانا وما زالا من المفردات الشائعة في صحافتنا وإعلامنا في مختلف المراحل وموضوعا تقليديا سائدا عند الكتاب في مراحل متعددة فإن الشعور العام لم يتفاعل معهما ، لأن الخطاب حولهما قدم بنوع من التقليدية والوعظية المعتادة والاستهلاك البارد كتقليد رسمي إعلامي في المناسبات .

لكن " الوطنية " التي حضرت مع بداية الخطاب التنويري والإصلاحي اختلفت هذه المرة ، فجاءت بعد ذلك في الخطاب التنويري والإصلاحي تحمل قدرا من الشعور بالمسؤولية في موضوع الإصلاح السياسي والإشارة إلى الحقوق كما هي الواجبات ، حيث نقلها هذا الخطاب من مفردة تقليدية لا تحرك الذهن ، ولا تعني شيئا ، إلى مفردة ذات حيوية إصلاحية

وتمت مناقشتها في مناسبات عدة ، في منتديات ومقالات ، وأشار هذا الخطاب إلى مشكلاتها في الثقافة الإسلامية السائدة وبدأت " الوطنية " بمفهوم جديد في هذه المرحلة لأن المعالجات هذه المرة ليست وعظية

وإنما جاءت في سياق أزمات سياسية ، مشكلات فكرية وإقليمية ومذهبية وعالمية وثم إنها جاءت من نخب مختلفة ، ذات استقلالية وصدقية أكثر من نخب الصحافة في مراحل سابقة وبعضهم كان له نزعة معارضة في الماضي .

هذه الأطروحات أحدثت حراكا ملموسا في الوعي بهذه القضية ، وأصبحت "الوطنية " ليست خاصة بفئة دون أخرى توزع حسب القرب من الرسمية

وكانت المقالة التي كتبها (خالد الدخيل) ونشرتها جريدة الوطن في حواره مع الأمير (خالد الفيصل) الذي عبر عن هذه المفاهيم بقدر من الجدية الفكرية ، مؤشرا على طبيعة مرحلة إصلاحية عاشها الوطن وجريدته .

لكن هذا النجاح الذي تحقق خلال المرحلة الأولي أخذ يساء إليه في مراحل تالية، مع الإسراف الزائد في استعمال المفردة بتكرار "الوطنية" والمبالغات بالحكم على فلان بأنه "وطني" ولديه "وطنية" دون معايير تحدد ماذا تعني هذه الوطنية .

كان لظهور بعض الكتاب الجدد الذين تأخروا في حضور موجة الإصلاح دور في استعمال كل منجزات مرحلة التنوير الأولي مع تزايد البع النفعي.

الإنسانية: من مظاهر مفردات الخطاب التنويري الحضور اللافت لمصطلح "الإنسانية" في الكتابات والمقالات والحوارات وبالفعل أصبحت مع نهاية المرحلة الأولي من المفردات المستعملة في خطاب الإعلام والصحافة بصورة كبيرة

لكن مع بداية المرحلة الثانية ، بدأ البعض يسئ إلى هذه المفردة باستعمالها بإفراط من دون إدراك للمفهوم من الناحية الفسلفية ، وأصبحت تتردد بشكل ممجوج في الإعلام

فمثلا جاء تكرار "مملكة الإنسانية " في هذه المرحلة في بعض الوسائل الإعلامية دلالة على سوء تقدير ووعي وخصوصا أن هذه المفردة وغيرها لم تكن سائدة وغير مرغوب فيها مثل " حقوق الإنسان " لصالح لغة تقليدية محافظة دينيا وسياسيا .

وكان من المشاهدات الطريفة بالنسبة إلى أن تجد في الطريق الدائري الشمالي وهو من أكبر الطرق بمدينة الرياض ، أنه تم وضع لوحات لاستقبال ضيوف (مؤتمر قمة أوبك) في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007م وهي مناسبة رسمية جدا ، واللوجات الموضوعية تم وضعها من جهة رسمية "أمانة مدينة الرياض " .

ومع ذلك نجد أن هذه اللوحات مكتوب عليها (مملكة الإنسانية ترحب بالضيوف) !، والمفترض أن يتم استعمال التعبير الرسمي (المملكة العربية السعودية) .. إضافة إلى أن هذه المناسبة لا تتلاءم إطلاقا مع هذا التعبير ، فهو ليس اجتماعا عن قضايا حقوق الإنسان أو العدل ، وإنما اجتماع اقتصادي محض ..

ولكن هذا الفعل يعطي دلالة على سذاجة الاستعمال ، وتأثير الخطاب الإعلامي المسرف من دون وعي .ومع مرحلة المزايدات في الخطاب الفكري بالغ البعض في استعمال هذه المفردات ، حيث تحول الأمر عندهم إلى قيمة تنافس القيمة الدينية في المجتمع ، ربما قصد به البعض استفزاز الإسلاميين ، لذلك يتم استعمالها في سياقات غير مناسبة لها .

إن هذا التكرار أحدث ردة فعل سلبية من المفردة وأصبحت مجالا للسخرية ، لم تؤد النتيجة المطلوبة التي كانت ناجحة وفاعلة في بدايات حضور هذا المصطلح .

" الإنسانية " مصطلح بدأ يستعمل بصورة مثالية عند البعض من دون وعي بالمفاهيم السياسية والإشكاليات الفلسفية التي ولدت مع مثل هذه المفاهيم في الفكر المعاصر وقد استعملها الكثير من الكتاب دون أن يكونوا مؤهلين في استيعاب طريقة التفكير العلماني التي تحتاج إليها مثل هذه المفردة .

فالإنسانية العلماني ، لكن مثقفينا كعادتهم يخلطون الأمور بصورة تبدو مضحكة والاستعمال الساذج لهذه المفاهيم حالة مستمرة في مشهدنا الثقافي؛ على الرغم من ذلك جاءت ردة الفعل المحافظة ضد هذه المفاهيم بالطريقة التقليدية والعجز عن كشف الخطأ العلمي حول هذه الاستعمالات الساذجة أحيانا .

ليست هناك أى مفاجأة من أخطاء أصحاب التفكير النقلي والمحافظ في طريقة تناول هذه المفاهيم ، وهم مشغولون في اكتشاف حيل العقلانيين والعصرانيين لوجود مثل هذه المصطلحات فأخطاء التقليين أقل خطورة من الناحية الثقافية والفكرية من أخطاء التنويريين الذين لا يحسن بعضهم "النقل" ولا استعمال "العقل" .

حقوق الإنسان والمجتمع المدني: كان من إيجابيات هذه المرحلة حضور مصطلحات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والتخفيف من حساسيتها السياسية لكن الإسراف في استعمالها إعلاميا وفي المقالات في غير مكانها أدي إلى تشويه كبير لها ، والبعض ليس لديه تصور سياسي ..

وماذا تعني مؤسسات المجتمع المدني في لغة العصر السياسية ؟ فتبدو بعض الكتابات مضحكة بتناقضاتها ، والجدل الذي حدث عن المجتمعات المدنية يصوّر بعضا من إشكاليات هذه المفاهيم .

الولاء والبراء: تناول الخطاب التنويري هذه المسألة ، وكانت من أهم القضايا حساسية دينية ، خاصة أنها مرتبطة بالمدرسة الوهابية بعمق تطبيقا وتنظيرا ونجح في إثارة التساؤلات الفكرية المهمة في المرحلة الأولي لكن مع بداية المرحلة الثانية ظهرت الاستفزازات والمشاغبات في السخرية من هذا المبدأ ، من دون منهجية علمية

ومحاولة استغلال الأوضاع السياسية و قضية كراهية الغرب المثارة في هذه الأزمة ، وكأنه سبب وحيد للإرهاب ، وبعضهم يظن أن هذا المبدأ اختراع وهابي بمماحكات فقهية بدائية .

الحزبية والأيديولوجيا: أيضا قدم الخطاب التنويري مساهمته في هذه المسائل ، وكان تركي الحمد أبرز من دشن نقد الأيديولوجيا في المشهد الثقافي المحلي مبكرا خاصة بعد حرب الخليج ، أما نقد الحزبية فقد كان له أدبيات داخل التيار الإسلامي نفسه ورؤي خاصة عند الحركيين والسلفيين .

لا أريد مناقشة مدى دقة ما تم طرحه في هذه المرحلة لأنه يحتاج إلى توسع كبيرا ، لكن الخطاب التنويري الجديد في تناوله لهذه القضايا لم يكن عن وعي بهذه المفاهيم سياسيا وفكريا ففي نقد الأيديولوجيا تأثر بعضهم بما كتبه تركي الحمد ، و الذي جاء في سياقات وهموم مختلفة عن مشكلة الخطاب التنويري الجديد .

في هذه المرحلة أصبحت هناك حالة هجاء عشوائية لا تخلو من السذاجة المعرفية في فهم الحزبية والأيديولوجيا بصورة مؤذية ، لمن يدرك ماذا تعني مثل هذه المفاهيم وتأثيرها في الوعي السياسي والثقافي .

وهناك أدبيات الحركات الإسلامية والقومية والعمل الحزبي لمختلف التيارات التي تشكلت في الأقطار العربية منذ منتصف القرن الماضي ، ومرّت بتحولات تاريخية عديدة وخلقت سياقا لمشكلاتها الفكرية والسياسية وتأثيرها في تطور مجتمعاتهم .

مشكلة الذهنية المحلية بما فيها المثقفة بعيدة عن ثقافة الأحزاب والأيديولوجيات ، ولهذا يخفق الكثير من التفسيرات لمشكلة الواقع السعودي في سياق مختلف ، حيث استعملت هذه المسائل وكأنها تهم وشتيمة لخصوم التيارات الأخري .

وفي هذه المرحلة حدثت تطورات في نوعية مواجهة مشكلة التطرف ، وأخذت الجهود تحاول العبث بأسباب العنف والتطرف بطريقة انتقائية والتركيز على مجموعة مسببّات في العالجات الدينية ، ونقل التهمة لحركات إسلامية معينة ومقابل تبرئة فكر آخر

حيث تراجع نقد الفكر السلفي التقليدي ، وإنكار العلاقة بين التطرف، ومشكلات التنمية والفقر والسياسة والحريات ، ومع أن هذه القضايا قابلة للجدل وتنوع الآراء ، إلا أن هذا التحول لم يكن موضوعيا بقدر ما هو تكيف خطابي مع مصالح اللحظة .

لقد أخذ الجدل حول عمل الهيئة وأخطائها صورة لافتة ، وهو جدل يبدو أنه كان يمهّد لقرارات من المفترض أن تظهر ، وقد ظهر بعضها ، وكانت مؤشرا على اختلاف بين أكثر من قوة .وفي هذه المرحلة زادت المعارك بين الشيخ والصحافي وبخاصة بعد مسألة توسعة المسعي ، ولم تكن هذه الحوارات ناجحة لأنها تبدو معبرة عن حرب مقنعة .

ومع أطروحات التنوير بدأت تظهر مبالغات فارغة بأن مجتمعنا في السابق كان منفتحا وسرد الذكريات المطرزة ، وتبدو مشكلة هذه الآراء أنها انتقائية وفيها مغالطات متعددة وقد أشرت إليها سابقا .

وعلى الرغم من الأخطاء التي وجدت في الخطاب التنويري ، فقد شهدت هذه المرحلة معالجات جادة ذات رؤى نقدية مهمة ومنهجية ، وبغض النظر عن الموقف من كل طرح

فلكل منها سياقها الخاص ، فإنها أطروحات تحمل هما فكريا ورؤية ، وليست مجرد استفزازات ومشاغبات ، وكانت الورقة التي قام بإعدادها إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم عن المناهج الدينية تحت عنوان (قراءة في فقه التعامل مع الواقع والحضارة)

والتي قدمت في مؤتمر الحوار الوطني الثاني بمكة قد أثارت جدلا كبيرا، وارتبك التيار المحافظ في التعامل معها وتفاعلت معها الصحافة في حينها.وهناك ما كتبه (سعود السرحان) عن ابن تيمية والفلسفية ، و(منصور الهجلة) عن العصرانية و (عبد الله البريدي) حول السلفية والليبرالية وغيرها من المحاولات .

التراجعات

في الوقت الذي شهدنا فيه تحولات بعض الصحويين والسلفيين والجهاديين نحو الانفتاح والاعتدال في مرحلة بدايات التنوير جاءت تحولات من نوع آخر خلال العقد الماضي ، وهو تحول مثقفين إلى التيار المحافظ

وهذه الظاهرة أهم من الظاهرة الأولي ، فتحو المثقف يكون لافتا، لأن لديه تصورات أقوى وأكثر عقلانية ، بعكس الذين تحولوا من المحافظة التقليدية نتيجة نقص وعيهم الثقافي مبكرا وعزلتهم هؤلاء المثقفون يتحولون عن وعي ونضج في الوقت الذي بدأ يقل فيه تأثير الصحوة وحضورها في المجتمع

وهذا التحول لا يعني أنه هجرة من التنوير فقد يكون محافظا لكنه أكثر استنارة وعلمية من مرحلته السابقة في مرحلة انفتاحه ، وأحيانا تكون ردة فعل سلبية تؤثر في الوعي الموضوعي والمستنير للقضايا .

لقد كتبت ليلي الأحيدب مقالتين في (مجلة اليمامة ، العددان 19051906) تعليقا على توبة سعد الدوسري في أنها تمر بالتجربة نفسها .

ففي المقالة الأولي : " الكتابة وتوبة سعد " تعلق على تحقيق نشرته جريدة الوطن حول ما أثاره سعد الدوسري في إحدي زواياه عن توبته من بعض الأعمال التي كتبها في السابق ولم يضمنها أيا من مجموعته القصصية .

وتشير إلى :

" أفهم تماما هذا النوع من إعادة الحسابات ، لأنني جربت شيئا منها ، لكني لم افكر بالطريقة التي فكر بها سعد ، وهي طريقة مريحة وسريعة خلصته من ملفات عالقة مؤرقة بالنسبة له ..
لذلك حينما بدأت الكتابة فيها آراء صائبة عن الحجاب والاختلاط مثلا كانت تأتي رسائل كثيرة في إيميلي ، رسائل لا تحمل رؤية منطقية بقدر ما تحمل تثبيطا واتهاما ، هذه الرسائل العمياء كانت تأتي دون أسماء وإن كنت أعرف سلفا من كتبها ولماذا "

هذه التوبة من الكاتب والكاتبة تتعلق بمشكلات المثقف ، لكن أيضا قد نشهد تحولات متراجعة عن تجربتها التنويرية الإسلامية ،ففي المرحلة الثانية بدأت حالات الارتباك التنويري بالظهور مبكرا

بدأت وكأنها مرحلة حسن خاصة بأولئك الذين ظلت الرؤية الفكرية غير مستقرة لديهم ، فبعضهم زادت لديهم جرعة الانفتاح بصورة بدأت معها الأمور عبثية بلا منهج ورؤية بحجة معاداة الأيديولوجيا ، وأى أسلمة .

وآخرون لم تطل خبرتهم في مسائل فكرية جدلية في قضايا معاصرة ثم شاهد هذه الانهيارات من الذين يعرفهم ، فحدث قلق طبيعي ليستدرك نفسه ليعود قريبا من حالته السابقة .

ولا شك في أن هذا الارتباك جاء بسبب انهيار الخطاب التنويري عند البعض ، ولهذا جاء بحث إبراهيم السكران عن "مآلات الخطاب المدني" وما بحمله من مضمون يعبر عن الأزمة في الخطاب التنويري ، قبل أن تكون معبرة عن تراجعه الشخصي

لا أريد أن أدخل في تفاصيل ما طرحه هنا ، فقد ناقشه كتاب تنويريون آخرون ، وكان منهم نواف القديمي في رد مطول له بعنوان (حكاية المدنية الموبوءة)

وعلق أيضا سليمان الضحيان على البحث بقوله :" إن أجمل وصف يمكن أن يوصف به بحث أخينا الأستاذ إبراهيم هو (ارتباك فكري) لأن ذلك البحث وقع في خطأين :

الخطأ الأول: أنه خلط في حديثه بين كتاب إسلاميين كانوا صحويين ثم تحرّروا من أسر خطاب الصحوة ، وبقوا تحت مظلة الوصف الإسلامي مقرّين بمرجعية الإسلام في كتاباتهم ، وكتاب آخرين تحرّروا من الخطاب الإسلامي وتحولوا إلى خطاب علماني صريح ومعاد لكل ما هو إسلامي " (حوار مع الضحيان على موقع عاجل بتاريخ 21 آذار (مارس) 2008م)

وعلى الرغم من وجود فئة معتدلة تنويرية ليست مرتاحة لهذه الفوضي والتخبط المنهجي الذي بدأ يظهر في الخطاب التنويري ، إلا أن بحث السكران لم يناقش مشكلات الخطاب التنويري ، ولم يحسن تناول إشكالية الخطاب المدني شرعيا وحضاريا

وعلى الرغم من أن لدي تحفظات كثيرة على تجارب التنوير العربي في غير مرحلة والخطاب الإسلامي المستنير وليس هنا مجال التوسع في ذلك ، فإن مشكلة إبراهيم السكران أنه لم يوفق في مدخل البحث وفكرته منذ البداية .

وهنام إشكاليات متعددة تشير إلى خصوصية أزمة بعض الذين تعرضوا لمرحلة تنويرية بأنها تقرأ الواقع بناء على تجربتها الخاصة في الاطلاع وتجربة الذين يعرفهم فقط .

جزء من الإشكال عند الرؤية المحافظة هو الخلط بين الهمّ التربوي والدعوى وهو اهتمام مشروع ومحترم ، لكنه ليس علميا ، ولا علاقة له بالمشكل الديني الفكري والتاريخي لكثير من المسائل الحضارية .

الفصل السادس : العقل الإعلامي

"إن لى رأيا خاصا في الصحافة .. منذ أن أصبحت مؤسسات صحافية تضم خليطا غير متجانس لا في الاتجاه .. ولا في التفكير .. ولا في الثقافة ". حمد الجاسر (جريدة المدينة ، 12/ 1/ 1409هـ)

كان الإعلام السعودي بصحافته وإذاعته وتلفزيونه الرسمي أكبر صانع للذهنية السائدة شعبيا خلال أكثر من نصف قرن والمؤثر الأهم حيث تفوق تأثيره في كثير من الحالات على التعلي وخطاب المسجد وشكل أقوى موجة للوعي التقليدي ومؤسس للعقل الحكومي الشعبي وبخاصة في مراحل ما قبل البث الفضائي والانفتاح الإنترنتي .

هذه القوة في التأثير ليست لأنه خطاب جذاب ذو صدقية ، إنما لأن الشعور الشعبي العام خلال هذه المراحل يري أن خطاب الإعلام والصحافة يمثل رأي الحكومة وتوجهها عند مختلف فئات المجتمع من دون استثناء ، ففي نظرهم أنه لا يمكن نشر شئ لا ترضي عنه الحكومة ؟

عزّز هذا الشعور المبكر عند مختلف الفئات الاجتماعية قوة تأثير الإعلا ودوره في صناعة العقل الحكومي " وملامحه ومواصفاته ومفرداته الرسمية وما ترغبه الدولة من القول والعمل .

ولهذا بعد عقود عدة من التأثير في الوعي تشكل خطاب عام وشعبي نمطي في الجمل والتعبيرات .. يلمسه المتابع في استطلاعات الرأي في المناسبات الشعبية والرسمية في الصحافة والتلفزيون والإذاعة

وبمرور الوقت أصبحت هذه الجمل كليشهات جاهزة تبدو في التعبير التلقائي عند الرسمي ورجل الشارع : " حكومتنا الرشيدة .. ما قصرت " سياسة الباب المفتوح "، " بلد الأمن والأمان ورغد العيش ".. إعادة مستمرة ومتنوعة لقصة الفقر والجوع والخوف .. تاريخيا ومقارنتها بالحاضر .

وقبل أن يتشتت وعي المتلقي عند بعض أبناء الجيل الجديد إلى خطابات عوالم أخرى بمختلف التوجهات في عصر الفضاء والانترنت ، وتصبح هذه التعبيرات مادة للتندر والسخرية .. وقبل أن تأتي هذه المرحلة فقد تشكلت أجيال عدة على هذه اللغة ، وأصبحت جزءا من تكوين التفكير العام في الحراك الرسمي والخاص وسيظل موجودا في مراحل قادمة .

للإعلام السعودي قصة طويلة منذ بداياته المتواضعة إلى أن أصبح إمبراطورية كبري بقوة المال وهناك العديد من المراجع التي تزودنا بتطوّرات الإعلام والصحافة في بلادنا

وتوفر لنا معلومات أرشيفية عامة حول تاريخ الصحافة وتحوّلاتها وتطور الإعلام الإذاعي والتلفزيوني ، لكن هذه المؤلفات لا تقدم لنا قراءات نقدية لمضمون الخطاب الإعلامي في كل مرحلة والمتغيرات شهدها ولماذا حدثت .

تقدم هذه الدراسات الكثير من المعلومات عن التطورات الشكلية للمؤسسات الإعلامية ، وعرضا لأنظمة وقوانين تتعلق بالنشر والحريات وأهداف وسياسات الإعلام وغيرها ، وأحيانا تتناول بعض المحتويات والبرامج من دون رؤية في معالجة الخطاب الإعلامي .

ونظرا إلى أن الإعلام المحلي يتضمن حساسيات كثيرة ، فإن كشف الكثير من قوانينه الخاصة في كل تجربة ، وتوصيف نوعية الممارسة وحيلها في توجيه الرأي العام وأدوات التنفيذ والكوادر البشرية التي تقوم بهذه المهمة وشروطها ، وتشكلاتها وتاريخها ،.. هذه وغيرها من التفاصيل تتطلب خبرة طويلة من المتابعة والتدقيق

ورصد الملاحظات والمتغيرات وتهميش الحسابات الشخصية .. وبخاصة لمن لديه علاقات بالإعلاميين ، ومعرفة بهذا الوسط .

الإعلام السعودي صناعة محتكرة في كثير من مؤسساته فعلي الرغم من أنه أصبح إمبراطوارية كبرى إلا أن هذا الاتساع لم يستفد منه الإعلامي والمثقف السعودي في حرية نقده ، وأدائه واختياراته ، فهو مقيد بالكثير من الحسابات ،وإذا كن كاتبا صحافيا فإنه قد يخسر بسبب ذلك .

لقد أصبح تناول الإعلام السعودي يشبه تناول موضوع النفط ، حيث تشكل خطاب سائد بين لغة وصفية تقليدية في دوره التنموى دون بنية الخلل والفساد الذي صاحبه ، أو خطاب معارض غوغائي يشتم النفط ويربطه بكل مصيبة عند العرب

لم تتعود النخب المحلية على قراءة كتابات عقلانية وهادئة حول قضايانا الداخلية ولهذا تقيم مثل هذه الكتابات وفق مواقف انطباعته متسرعة بالرفض أو القبول ، دون التنبه إلى حق أبناء هذا الجيل ومن بعده في التعرف على تحوّلاتنا التاريخية كما هي ، أو قريبا من الحقيقة بقدر أقل من المجاملات والخطاب المنفعي .

" وصحافتنا اليوم أمرها عجب بين صحافة العالم ، فهي ليست صحافة خبر ، وهي ليست صحافة رأي ، فالخبر يمنعه الرقيب الصغير ، والرأي يقتله الرقيب الكبير .. إلا ما كان من رأى أو خبر يتفق ومصلحة الحاكمين ، وإلا أخبارا خارجية تتلقفها الصحف عن دور الإذاعات العربية والإفرنجية .
أما الأخبار الداخلية فقليلة جدا ، إلا ما كان من سفر فلان ، أو مجئ علان .. أن بييئتنا جامدة ساكنة ، لا تضطرب بأحداث الحياة ، كما تضطرب أى بقعة في العالم بأحداث الحياة .
ولا أنكر أن بعض صحفنا تبذل جهدها في التحسن والتطور وتحاول أن تخرج من قمقم "سيدنا سليمان" ولكنها ما تكاد تطل برأسها لكي تتنفس الهواء دقيقة واحدة حتى تتلقي في أشخاص أصحابها وكتابها ومحرريها صفعات تكتم أنفاسها وتعيدها مرة أخرى إلى قاع ذلك القمقم اللعين !" (عبد الله عبد الجبار ، التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية ، 1959م ص 171)

وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على راي عبد الله عبد الجبار فإن الكثير من مضمونه النقدي ما زال قائما ، على الرغم من وجود فوراق بين مرحلة وأخري ، فقد كانت صحافة الأفراد أكثر فاعلية في رسالتها الإعلامية مع تواضع إمكانياتها في ذلك الوقت .

الإذاعة والتلفزيون

كثيرا ما ينتقد الرأي الشعبي الإعلام الحكومي وخاصة الإذاعة والتلفزيون لتقليديتهما، واشتهرت في إحدي المراحل القناة الأولي والثانية بـ " غصب الأولي ، وقناة غصب الثانية ".

وللإعلام الإذاعي والتلفزيون خصوصية رسمية مع وكالات الأنباء السعودية وليس من الحكم أن تتعرض هذه الوسائل لتجديد عشوائي لأنها تعبر عن طبيعة النظام المحافظ الإعلام الحكومي في أى قطر يميل إلى التحفظ والمحافظة ونظرا إلى أهميته الرسمية فإن الحذر من أى تغيير يبدو مفهوما .

نقد بعض الأقلام له مؤخرا بحجة التطوير عن طريق المقارنة بفضائيات تجارية هو نقد غير عقلاني ، فالتطوير الذي يحتاج إليه الإعلام الحكومي يجب تجارية هو نقد غير عقلاني فالتطوير الذي يحتاج إليه الإعلام الحكومي يجب أن يأتي في سياق حكوميته وترتيب الأولويات لديه ، والأخبار يجب أن تكون وفق أولوياته الوطنية .

وعلى الرغم من قناعة الرأي الشعبي بأن الإعلام مسيطر عليه حكوميا ، وشعوره بقوة الرقابة على الصحافة ، إلا أن الإعلام استطاع إيجاد ذهنية حكومية تقليدية وطريقة تفكير رسمية شعبية موحدة في اللغة والخطاب تجدها عند النخب والعامة و وهي لا تزال تمثل البوصلة ولغة التفاهم بين المسئول والمواطن

وهذا النقد والسخرية اللذان يقدمان في المجالس بدعوى أنه إعلام غير مؤثر لا يخلوان من مغالطة فالواقع أنه أثر كثيرا في أجيال ما قبل الفضائيات وكان جزءا من توحيد الوعي الشعبي السياسي بالدولة ، وله دوره في تحقيق الاستقرار .

بالنسبة إلى الجيل الجديد يصعب التنبؤ بطرق تأثير الإعلام الرسمي فيه طالما أنه قد لا يتعرض له إلا قليلا ، مقارنة بتعرضه للإعلام الآخر .

في الحالة السعودية أدت الإذاعة دورا تاريخيا، ثم تلاها التلفزيون وظهرت بعض الدراسات التي تؤكد تأثير هذه الوسائل في ذهنية المجتمع ودورها التنموي الكبير، هذه الوسائل ظلت تحت إشراف حكومي مشدد ويخضع لرقابة رسمية مستمرة ، غير قابل للإجتهادات الشخصية العشوائية .

ولا يختلف دور هذا الإعلام في تنمية الوعي العام بمتطلبات الدولة الحديثة عن أى إعلام دول نامية أخرى ، حيث يتعرف المجتمع بمختلف فئاته على تقاليده الرسمية ، ورموزه السياسية، وأخبار الحكومة وما تقدمه من مشروعات تنموية ، وإدراك نظام قطر هو علاقته بالداخل والخارج .

يضاف إلى ذلك دور هذه الوسائل التقليدي في الترفية، والتعليم والتوعية الثقافية والدينية وما حققته من تواصل بين المجتمع وثقافة العصر والعالم من حوله .

ويوجد العديد من الدراسات التقليدية التي تقيس تأثير هذه الوسائل في عينات من المناطق والمدن وتقديم الإحصائيات وهناك تفاصيل يمكن أن تقدم عن الإذاعة وتطوراتها وبرامجها ، والتلفزيون وهذه المعلوما لا تعنينا في هذا الكتاب .

لقد مرّ التلفزيون بمراحل عدة وهو الأكثر تأثيرا منذ السبعينيات في تشكيل الذهنية الشعبية، وصياغة القيم الجديدة بين ما هو مقبول وغير مقبول وتمثل الرقابة التلفزيونية معيارا توفيقيا للحالة السعودية حافظت عليه مقارنة بأقطار عربية إسلامية أخرى

وظل هو الأكثر محافظة في جميع مراحله وعلى الرغم من ذلك ، لم يحظ التلفزيون برضا التيارات المحافظة والدينية واعتبر بأنه مفسد للمجتمع وخصوصا المسلسلات والأغاني التي تقدم قبل أن يأتي عصر الفضائيات ويتشكل واقع جديد أصبح معه التلفزيون بالمعايير الجديدة هو الأكثر نظافة وحشمة .

ويمكن إيجاز مراحل التلفزيون في ما يلي :

  • نهاية الستينيات ومرحلة السبعينيات كانتا أكثر مراحل التلفزيون السعودي تحررا، منذ مرحلة الوزير (جميل الحجيلان) مرورا بـ (إبراهيم العنقري) و (محمد عبده يماني)
وقد ظهرت المذيعة السعودية مبكرا وتعايش المجتمع السعودي طويلا مع أغاني أم كلثوم ، وتابع أهم برامج الدراما العربية والمسرحيات التي اشتهرت في تلك المرحلة وتعرف على الرموز الفنية العربية في الغناء والتمثيل وكانت حتى ملابس النساء أقل احتشاما منها في مرحلة الثمانينيات في ما بعد .
  • وفي مرحلة السبعينيات كانت برامج الأطفال في عهدها الذهبي وتأثر جيل كامل بها قبل أن تتعرض لرقابة جديدة في ما بعد ، وأتمنى أن تتوفر دراسات مستقبلية عن هذه المرحلة بالنسبة إلى برامج الأطفال
تقوم بحوارات جادة مع الذين تفوق أعمارهم حاليا الثلاثين سنة ، لمعرفة الكثير من التفاصيل والقصص ونوعية التأثير ، وهي تمثل أهم مظاهر المرحلة الليبرالية في الإعلام وساعد على تفاعل المجتمع وتقبل هذا النوع من البث الطفرة المعيشية الجديدة التي غيرت كثيرا من المفاهيم ، وهذه الفترة هي التي فقد فيها التيار الديني جهود شيخه محمد بن إبراهيم .
  • أسست هذه المرحلة لجيل أكثر انفتاحا ، بقدر من عدم الاتزان أحيانا بين الأصالة والمعاصرة ، حيث ظهرت بعدها مشكلات السفر للخارج للسياحة غير اللائقة وظهرت أمراض جديدة من انحراف الشباب وهي التي صنعت ردة الفعل الدينية عند المجتمع وبعض فئاته في ما بعد ، وكان أكبر تجلياتهاممثلا في حادثة الحرم ، ومراجعة الدولة لاستراتيجيتها الإعلامية .
  • جاءت المرحلة الثانية بعد حادثة الحرم ، فكان أول ما لفت أنظار المجتمع هو تغير برامج التلفزيون ، حتى الصغار شعروا بهذا التغيير . كان التقليد السائد مع بداية ذي الحجة كل عام هو أن تتغير برامج التفلزيون كاملة بمناسبة الحج ، فتعرض المسلسلات التاريخية وتزداد البرامج الدينية
ثم بعد عودة الحجاج ونهاية ذي الحجة تعود البرامج لطبيعتها لكن حادثة الحرم جعلت بعض ضوابط تلفزيون الحج تستمر طويلا منذ تلك السنة 1400هـ وتمتد لأكثر من عقدين . كان الكثيرون من العامة ينتظرون عودة تلفزيونهم القديم كل أسبوع ويتذرعون بالحجة السنوية ، قبل أن تربط شعبيا بما حدث في الحرم ، وتبدأ مراجعات القيم من جديد
واختفت مباشرة المطربات من الظهور ، ثم أفلام السينما ، وتراجع ظهور المسرحيات ، وتأثر حضور السعوديات وظهورهن أصبح شبه محظور وتغيرت برامج الأطفال ثم دخل التلفزيون في عصر الوزير (على الشاعر) حيث كانت المرحلة الأكثر سوءا عند الرأي الشعبي ، وفيها حدثت المبالغة في تغطية المناسبات الرسمية ، والأغاني الوطنية
ما ولد ردة فعل سياسي عند البسطاء وكرها عفويا للمناسبات الرسمية ،بعد أن كانت هذه البرامج والأغاني مرغوبة في مراحل سابقة . كانت بعض التغطيات والأغاني يأتي في أوقات الذروة للمشاهد ، وكثيرا ما تؤجل المسلسلات التلفزيونية وتتأثر المناسبات الرياضية لهذا السبب
وخلقت تلك المرحلة الكثير من التعليقات السياسية الشعبية الساخرة التي تعطي مؤشرا على خطأ تلك السياسية الإعلامية ، وقد استمرت هذه المرحلة مع بعض التغيرات التي فرضتها الفضائيات الجديدة إلى نهاية التسعينيات .
  • جاءت المرحلة الأخيرة مع انتشار الفضائيات، ثم مرحلة الوزير إياد مدني ، بعد أحداث سبتمبر التي فرضت على السياسي استراتيجيات إعلامية جديدة منها محاولة إظهار المرأة السعودية بقدر من التكلف ، والإسراع في توظيف المذيعات السعوديات لتحسين سمعة البلد في الخارج بعد تهم التشدد من الإعلام الغربي .
  • في هذه المرحلة بعد انتشار الفضائيات تراجعت أهمية الفضائيات الرسمية في جميع الأقطار لصالح الفضائيات التجارية ، وتغيرت المعايير التي يمكن تقييم التأثير والضوابط فيها .
  • في مدارسنا الإعلامية
  • من الصعب تصنيف المدارس التي تنتمي إليها صحافتنا خلال مراحل تاريخية عدة فقد ظلت محكومة بمنهج محافظ رسمي بوجه عام ، ولكنها في بعض الحالات تمارس دور الصحافة الصفراء في أوقات الحملات الموجهة ، أو الشعور بوجود إذن في نقد قضايا محددة ولذلك هي خليط غير ممنهج تعتمد على مزاج شخصي ومرحلي .
  • يفقد الكثيرون من العاملين في الصحافة تصورات مهمة حول بعض المفاهيم والنظريات السائدة في الإعلام ، مقارنة بوعيهم النفهي لمتطلبات النافذين في هذا المجال .
  • وتبلور هذه التصورات ذهنية الإعلامي وحدسه المهني وذائقته في قراءة وسائل الإعلام المتنوعة والتعامل معها ، مميزات كل اتجاه وعيوبه وتصنيفها وفق مدارس ومناهج معروفة لتنمي خبرته في رؤية الواقع الإعلامي والمشاركة فيه ، من خلال التعرف على بعض الملامح العامة حول العديد من النظريات في تصنف المدارس الإعلامية وأى اتجاه يجد نفسه ويميل إليه .
فكل اتجاه ينطلق من فلسفة خاصة تحكم سلوكه المهني وأخلاقياته ، فمثلا النظرية السلطوية في الصحافة في القرن السابع عشر تقوم على أساس فلسفة السلطة المطلقة للملك ، وفي نظرها أن مهمة الصحافة تنحصر في كونها أداة لتحقيق وتنفيذ الدعوة إلى سياسة الحكم الموجودة .
مقابل ذلك جاءت نظرية الإرادة الحرة في أواخر القرن السابع عشر في مرحلة انتصار الرأسمالية ، قامت هذه النظرية على أعمال (جون ميلتون) ، (جون لوك) و (جون ستيورات ميل) على أساس الفلسفة العقلانية والحقوق الطبيعية للإنسان .

وهي تري أن وظائف الصحافة هي التعليم والتسويق و الترفيه وكشف الحقائق ومراقبة الحكومة أما حق امتلاك الصحف فيتمتع به كل مواطن قادرا اقتصاديا .

أما النظرية الليبرالية في الصحافة فقد ولدت نتيجة ظهور مفهوم غربي جديد في القرن السابع عشر عن طبيعة الإنسان وعلاقته بالدولة نتيجة جهود فطرية متعددة .. ووفقا لهذه النظرية يجب أن تكون للصحافة قاعدة كبيرة من الحرية كي تساعد الناس في بحثهم عن الحقيقة ، ولكي يصل الإنسان إلى الحقيقة عن طريق العقل ينبغي أن تتاح له حرية الوصول إلى المعلومة والفكرة وهو يستطيع أن يميز ..

وأن الحقيقة تظهر على المدي الطويل من خلال التمييز بين الحقيقي والمزيف ، وأن حرية التعبير تحمل في داخلها عوامل تصحيح أخطائها ، فلا يحتاج الأمر إلا إلى قليل من القيود

لأنها تفترض أن أغلب الناس مخلوقات أخلاقية تتعلم استعمال الحرية بمسئولية .. أما أهداف الصحافة عندها فهي الترفيه والتسويق ، والتنوير العام خدمة للنظام الاقتصادي والمحافظة على الحقوق المدنية .

مقابل ذلك وجدت النظرية الاشتراكية في الصحافة التي تري أن للصحافة طابعا طبقيا واضحا وأن هناك ثلاثة مبادئ أساسية للصحافة :

  • مبدأ الحزبية : بمعني أن الصحافة تصدر عن حزب وتعبر عن سياساته .
  • مبدأ الشعبية : الوصول للجماهير ومعالجة قضاياها بأسلوب واضح ومفهوم .
  • مبدأ القيادة الحزبية: ولتحقيقه يجب التركيز على تشكيل القناعات والدعاية .

وفي السنوات الأخيرة ومنذ ثمانينيات القرن الماضي بدأ التساؤل عند الإسلاميين عن مفهوم الإعلام الإسلامي والنظرية الخاصة به بعد أكثر من نصف قرن من التجارب ، ومع ظهور محاولات إيجاد ما سمي بالإعلام الإسلامي نشأ بعض التنظير لوضع أسس لفلسفة الإعلام الإسلامي .

وعلى الرغم من أهمية هذه المحاولات إلا أنها لم تنجح حتى الآن في وضع رؤية متكاملة تعالج العديد من الإشكاليات الإعلامية السائدة ، قد تتشكل مستقبلا رؤية أكثر دقة مع كثرة مؤسسات الإعلام الإسلامي وتطبيقاتها وتنوعها المختلفة لوجهات النظر ، وتقديراتها للمسائل الفقهية المختلف حولها .

وفي الحالة السعودية من الصعب أن تميز بين المدارس الصحافية التي تنتمي لها النخب الإعلامية أو الصحف سوى محددات الخطاب الإعلامي الرسمي فهي لا تحافظ على تقاليد صارمة لشخصيتها المهنية ، حيث تتغير تحت أى ظرف طارئ

وتتسم أحيانا بقدر من التعجل غير المدروس ، وبمجرد شعورهم أن نقدا لموضوع معين بات مسموحا ، فإن الصحف تندفع بصورة فيها مبالغة كبيرة ، ما يفقدها احترام القارئ لها

وإذا كان المراقب يتفهم عجز هذه الصحف عن نشر أو عرض ما هو غير مسموح به ، أو حتى غير محبب لقوى نافذة ومؤثرة ، فإنه لا يمكن فهم هذا الاندفاع مع ما هو مسموح به دون سبب مهني

لهذا يفاجأ القارئ كثيرا بما يشبه الحملات الصحافية بين فترة أخري حول قضايا متعددة من دوم تقديم رؤية أو سبب عقلاني لهذا التحول المفاجئ .

صحافتنا .. والمهنية

" لدىّ قناعة بأن التفرغ للعمل الصحافي، مثل الإذعان للمقصلة، سأتنازل مثلك شيئا فشيئا في سبيل العيش في النهاية، سأجد نفسي ملوثا بما يريدون " سعد الدوسري . (الرياض نوفمبر 1990 " رواية " ص 53).

لقد تطوّرت الصحافة السعودية كثيرا في الجوانب الشكلية والإمكانيات المادية وأصبحت في مقدمة صحافة الأقطار العربية في الطباعة والإخراج وذلك باستعمال أحدث الأجهزة ، ما غطي الكثير من العيوب المهنية ، كما أخفي النفط عيوب إدارة التنمية ..

فما العوامل التي أثرت في مهنية الصحافة السعودية وندرة الكفاءات المميزة منذ السبعينيات مقارنة بالنجاحات التي تحققت في بروز كفاءات وطنية في مجالات أخرى علمية وطبية وهندسية ؟

لقد هيّأ الحراك التنموى فرصا عديدة لأبناء جيل السبعينيات ، في الحصول على مكاسب ومكانة اجتماعية أفضل في مناصب حكومية أو قطاعات خاصة وتهمشت قيمة العمل الصحافي اجتماعيا في تلك المرحلة ، وتكدست في هذا النشاط أعداد كبيرة ممن لديهم ضعف في مؤهلاتهم وإمكانياتهم العلمية والثقافية ..

ويلحظ المتابع لهذه التطورات أن الصحافة في بعض المراحل أصبحت ملجأ لمن يتعثر في مجالات أخرى ، حيث لا تخضع الصحافة ومناصبها ومهامها لمعايير تقليدية فالقرب من القوى المؤثرة تحريريا وماليا يختصر المسافة والزمن ويرفع من مستوى الدخل

وهذا لا يعني عدم وجود مواهب صحافية أو أن النجاح العلمي ضرورة للنجاح الإعلامي فمهنة الصحافة حرفة وموهبة في جميع أقطار العالم وليست تخصصا أكاديميا و لكننا نصف الأجواء التي تشكلت فيها الصحافة في بدايات مرحلة الطفرة ، ودورها في توزيع الفرص وتوجيه الكفاءات .

في تلك المرحلة ولا تزال في أغلب مراحلها لم تكن الصحافة السعودية مكانا للإستقرار العملي ، ويبدو الاتجاه والتفرغ لها مغامرة غير محسوبة المخاطر فهي لا تخضع لحد أدني من المعايير المهنية ، لأنها من أكثر الجهات التي تؤثر فيها الشللية والصداقات والوساطات ..

وحسابات متنوعة ومعقدة يدركها المتابع لهذا المجال في غير مرحلة ،ولهذا تحدث تنقلات عشوائية وغياب مفاجئ لكفاءات متنوعة ، فنجد ندرة في الأعمال الصحافية التاريخية من أصحاب الخبرة حيث إن الحسابات كثيرة بين الرسمي والوسط الصحافي الذي تأخر انتظامه كبيئة عمل مناسبة للموهوبين والمبدعين .

في هذه الظروف لم تكن الصحافة ميدانا للإستقرار المهني ، وتراكم الخبرات كما هو موجود في صحافة العالم التي برز فيها صحافيون متخصصون في شؤون محددة سياسية أو فكرية أو اجتماعية .. وأنتج نشاطهم العديد من المؤلفات والتوثيق لتاريخهم وتطوراتهم التنموية .

إن العمل الصحافي له خصوصية في الحالة السعودية على الرغم من أنه قطاع خاص من المفترض أن يشترك مع هذا القطاع بكل إيجابياته وسلبياته في منظمة الاقتصاد المحلي وبيئة العمل لكن "صناعة الصحافة" التي ينطبق عليها نظام الشركات والمؤسسات في البلد ذات خصوصية قديمة بحكم أنها مجال محتكر ، وهذا الاحتكار لن تجده مكتوبا بالأنظمة

بقدر ما هو عرف وتقليد يعرفه الجميع ، الحالة السعودية مقيدة بأعراف أكثر مما هي مقيدة بأنظمة مكتوبة، ولا أريد مناقشة لماذا هذه الخصوصية واحتكار هذا النشاط وسلبياته وإيجابياته

فالصحافة لها علاق بتشكيل الرأي العام وتوجيهه، وهذا بالتالي يحتاج إلى هذه السيطرة من الناحية السياسية في أى نظام محافظ وهذا مفهوم ولذلك من غير الممكن المقارنة والقول لماذا لا تكون مثل أى نشاط تجاري آخر ؟!

هذه الخصوصية ليست مشكلتها في عدم وجود عدالة في ممارسة النشاط التجاري فهذا موضوع آخر ، لكن مشكلتها أنها أثرت سلبيا في نشاط الصحافة وطبيعة المهنة والفضاء الذي يصنع فيه الصحافي .

وإذا كان موظف القطاع الخاص في مجالات تجارية وصناعة متنوعة يعاني إشكاليات هضم حقوقه ، وكثيرا ما تطرح هذه القضية وتأثر هذا القطاع لسنوات طويلة ، فإن الصحافة تعاني هذا الإشكال إضافة إلى ضيق الخيارات المتاحة .

مقابل هذا الإشكال المبدئي الذي سيؤثر حتما في اتجاهات وقناعات الصحافي والكاتب ، وبالتالي مهنيته وصدقيته فإن الصحافة المحلية في مرحلتها الثانية منذ السبعينيات لم تعان من قضية "مهنة المتاعب " بالمعني الموجود في الصحافة العربية والعالمية

في القيام بأعمال صحافية تاريخية فعندما تردد هذه العبارة في صحافة عالمية وإقليمية ، وما يصاحب العمل الصحافي من جهود ومحاكمات وتهديدات ، وملاحقة للمعلومة والفضائح والتعرض للمخاطر

فإن هذا التعبير يبدو مفهوما لكن هذا ليس مما يوجد في صحافتنا حتى في أشد المراحل صعوبة ، وإنما كانت تردد كأسطورة ممتعة فلم توجد أعمال مهنية تاريخية في كشف فضائح أو مشكلات ، أو التسبب في تغيير بعض المفاهيم

لكن وجدت غلطات غير مقصودة أزعجت قوى مهمة تسببت في إخراج بعضهم من المهنة مؤقتا أو دائما على أن الحالة الأبوية من الكبار التي اعتاد عليها أهل هذا المجال قادرة على إزالة هذه المتاعب عند الكثير منهم

فالرضا الذي يحصل عليه الصحافي كفيل بأن يجعله يعيش في هذا المجال مدة طويلة ، ويحتل مكانه كبيرة ما دام التزم بشروط هذا الحضور ، بمعني أنهم ليسوا مخلصين لمبادئ المهنة والهم الرسالي الذي تفرضه على الصحافي بقدر ما أن الأمر عبارة عن أكل عيش كأى مهنة أخرى .

الصحافة ليست مقالة وتقريرا فقط ، أو منصبا ينتهي بمجرد إغلاق الأبواب ضد الإعلامي المخلص لفكرته ، فاخطر الكتب في وقتنا المعاصر بعضها بقلم صحافيين كبار ، ولهذا مسألة التباكي على قضية إتاحة الفرصة لا معني لها .

إن محدوية الخيارات في العمل الصحافي وجدت لأن الصحف المتاحة لا يتجاوز عددها أصابع الكفين ، وما هو مقنع لا يتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة .. فضلا عن مشكلات العمل الداخلية الطبيعية

وهذه الأجواء تجعل الصحافي عرضة للتنازلات ، فليس لديه أى مصدر للقوة في المفاوضة فإما أن يقبل بشروط الواقع بكل أخطائه التاريخية ويصبح مكرسا له ، أوي يخرج خارج اللعبة.

" هذه هي نظرة غالبية المنتسبين إلى الحركة الصحافية في السعودية ورغم التطور الكبير الذي شهدته خلال السنوات الخمس الأخيرة ، لكنها لم تتمكن من كسب ثقة السعوديين بشكل كامل
فالأمان الوظيفي غير موجود ويمكن بجرة قلم محو اسمك من قائمة الصحافيين ، وليس لك الحق في النقض أو الشكوى (..) وحتي العام 2003 م كان الحديث عن الفساد الإداري في الصحافة السعودية بشكل مباشر من المحرمات
رغم الخروفات الناجحة التي قادها رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية سابقا (قينان الغامدي) الذي حاول محاربة التجاوزات الإدارية من قبل صغار وكبار موظفي الدولة إلا أن هذه المحاولات انتهت بإقالته من منصبه ومنعه من تولي أى منصب إداري في ذلك الوقت " (فهد سعد ، إيلاف ، 23 تشرين الثاني نوفمبر 2007م)

الشكاوى الجزئية لا معني لها حول مشكلات الصحافي ، فالخلل ليس في تطبيقات أو تطوير بعض التفاصيل في العلاقة بين الصحافي والمؤسسات الصحافية ، كما يوجد في أى قطاع خاص وإنما الأشكال في طبيعة هذه البيئة العملية شديدة الخصوصية محليا بسبب تراكمات تاريخية .. لم يكسر حدة احتكارها إلا عالم الإنترنت ، ويعيد النظر لبعض الأمور .

هذا الواقع لا يقدم هنا على أنه محاولة تشويه لهذه الأجواء والمؤسسات الإعلامية أو أن هناك عالما فاسدا من الأشرار .. فلولا وجود بعض الكوادر والأسماء التاريخية في صحفنا التي تدبر الأمور بطريقة مسؤولة وتحتفظ بقدر من التعقل وعدم التسرع .. لكانت الأمور أكثر سوءا ، كما يبدو مؤخرا .

إن طبيعة المهنة محكومة بظروف خاصة تختلف عن أى صناعة وتجارة أخرى ، وهي ترتبط يوميا بالقرار السياسي ، ما يجعلها تدار بطريقة أقرب للسياسة منها للتجارة في حالات معينة ولهذا من غير الممكن طرح الكثير من الأفكار النظرية حول تطوير المهنة دون تفهم العامل السياسي في هذه القضية .

وعلينا أن نتفهم حساسية هذه الصناعة في استقرار البلد ، وأنها بالفعل تحتاج إلى عناية خاصة ولا يلام السياسي عندما تبدو عليه المركزية في التعامل معها لكن يلام من يخادع نفسه ، ويدعي أشياء وسلطة غير موجودة لصاحبة الجلالة ، لعدم وجود أهم أو حتى أدني شروطها .

وفي فصل العقل الثقافي تعرضت للكثير من الإشكاليات في هذا الشأن وفي ظل هذا الوضع من الإشكاليات المهنية يبدو الحديث عن الصدقية والأمان الوظيفي وغيرهما لا معني له .

وفي السنوات الأخيرة .. أخذت أخطاء التحرير مسارا مخالفا لأسس أخلاقيات المهنة ، ودون حرج من بعض المؤسسات الإعلامية ، ومن أبرز هذه الأخطاء التي تؤثر في صدقية الصحف واستقلاليتها خاصة في المجالات الاقتصادية هو تحويل الصحافي إلى موظف علاقات عامة يبحث عن المعلن في الوقت الذي يمارس مهنته الصحافية ، ويعتبر هذا إنجازا في نظرهم .

في السابق كانت تمارس بصورة محدودة ، وخفية يعاقب عليها الصحافي من داخل المؤسسة لكن مع الهوس بالربح المادي تم تجاهل الكثير من الأسس المهنية وأصبح الصحافي وحتى رئيس التحرير يمارس مهاما مزدوجة فتأثرت الحوارات والتغطيات الصحافية ،حيث يتداخل فيها العمل الصحافي مع الإعلان وحملة العلاقات العامة

ومع الطفرة النفطية الأخيرة وزيادة أرباح الصحف بسبب النمو الاقتصادي الذي حدث .. وقد بالغات الصحف العديدة في هذا الانتهاك.

ومن المفارقات أن هذه الممارسة انتقدها حتى وزير الإعلام في اجتماعه مع رؤساء التحرير الدورى ، وكنت أحد الحضور ، حيث طالب بأهمية التمييز بين المادة الإعلامية والمادة الصحافية

والأكثر غرابة أمام هذا الخطأ المعني الفاضح الذي وقعت فيه بعض الصحف ، كان أحد رؤساء التحرير يبرر لهذا الممارسة الخاطئة ، فأصبح الوزير ممثل الحكومة يدافع عن المهنية والقارئ ورئيس التحرير يبرر هذا الإنتهاك لأخلاقيات المهنة .

أما بخصوص الإدارة الداخلية لهذه المؤسسات فقد انتقد (عبد الله الجاسر) وكيل وزارة الثقافة والإعلام ، تسلط مديري العموم في المؤسسات الصحافية وأجهزة الإذاعة والتلفزيون "على مهنة التحرير" واعتبرهم السبب في ضعف العمل الإعلامي وقلة الإبداع فيه ..

ويعلق أستاذ الإعلام (فهد العسكر) على هذا التصريح بأنه يؤكد بجلاء "أن المؤسسات الصحافية في السعودية تعاني ضعف البنية المؤسسية .." (جريدة الحياة 6/7/1429هـ)

وقد شعرت بعض المؤسسات بتزايد النقد حول ضعف المهنية والاستقلالية ، فأعلنت المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق تأسيس مجلس أمناء في إطار نهج دعم الاستقلالية المهنية لمطبوعات الشركة في نظرهم (جريدة الشرق الأوسط ، 18/8/ 1429هـ)

ويلخص أحد الإعلاميين هذه المشكلة حول الصحافة المحلية بقوله:

".. فبموازاة قفزات الصعود في استخدام التقنيات الحديثة حدث هبوط عمودي لمستوى الطرح الصحافي ، وتحول كثير من المحررين وأحيانا رؤساء التحرير إلى مندوبي إعلانات ، وامتزجت الإدارة والتسويق والتحرير والإنتاج بشكل غير مسبوق
بما خلّف حالة من العشوائية أنتجت انهيارا في موضوعية الطرح ، وحالة من الفوضي حصرت التقييم في معيار اقتصادي يتيم ، وهو ما قاد في نهاية الأمر إلى رصد أرقام مخجلة لتوزيع الصحف المحلية ، وفقا لمصادر دولية محايدة" (سعد المحارب ،" ملتقي العربية : القفز على الأسئلة "العربية نت ، 3 تمور (يوليو) 2006م) .

المهنية الأولية موجودة في الصحافة السعودية منذ فترة مبكرة ، فهذه المبادئ موجودة حتى في مطبوعات متواضعة الإمكانيات ، والأخطاء التي تحدث هي في النوعية والدرجة

حيث لم تتشكل تقاليد صارمة تكشف أى تلاعب في هذه المعايير بين فترة وأخري ، إن رصد مثل هذا الخلل والتلاعب بهذه المعايير يتطلب تقارير شهرية أو أسبوعية لوصف نوعية كل خلل ، وهناك مادة كبيرة يمكن الحصول عليها في كثير من الصحف .

هذا التلاعب يكون سببه أحيانا ضعف الخبرة والكفاءة ، وأحيانا يكون بوعي مقصود من الصحافي لتمرير رغبات خاصة ، وخدمة مصلحة معينة ويحدث هذا بسبب غياب الرصد ، وإصدار نشرات من جهات نقابية ترصد مثل هذه التلاعب .

وفي السنوات الأخيرة كان صدور جريدة الوطن نقلة نوعية للمهنية في صحافتنا المحلية ، نتيجة ظهورها المخالف لتوقعات أفضل المتفائلين فكانت نموذجا جيدا أربك الصحف العريقة الأخري ،وجعلها تعيد حساباتها ، وقدمت الكثير من المظاهر المهنية المهمة ، فحتى الإعلان بالشعر لشخصيات ذات أهمية يكتب فوقها إعلان ..

وكانت الصحف تنشر مثل هذه المواد دون أن يعرف القارئ هل هذا إعلان أم مادة صحافية ؟ وأضافت نقلة نوعية لمدرسة الإخراج والتبويب

وعلى الرغم من ذلك فقد وقعت أحيانا في أخطاء مهنية صارخة دون حاجة ملحة إلى ذلك ، منها الخبر الشهير الذي نشر في صدر صفحتها الأولي عن سلمان العودة قصة ذهاب ابنه إلى العراق التي اتضح بعد ذلك عدم صحتها ..

فجاءت صياغة الخبر مخالفة للأعراف المهنية ، خاصة حين تم اختتام الخبر بعبارة (يا زمان العجائب) .. وأيضا مؤخرا أخذت تتخلي عن بعض الشروط التي ميزتها تحت مبررات وحيل متعددة .

صحافتنا .. والصدقية

" في صبيحة اليوم التالي بمكتب الجازيت ، دخل (رامي) غرفة محرري الصفحة الداخلية ترتسم على وجهه نظرة عابثة وقال :" حسنا لقد أصبحنا جميعا الآن من مؤيدي الأمريكيين " فسألته :" ماذا تعني بهذا ؟

فقال : " إن الأوامر صدرت لجميع رؤساء التحرير في السعودية بالتخلي عن خطهم المناوئ للأمريكيين " وفي اليوم نفسه ساعة الغداء ، سألت (خالد) باطرفي ماذا إذا كانت صحيفة المدينة ستقوم حقا بتغيير افتتاحياتها

فأجابني بإيماءة تنم عن استسلام :" لقد تم إبلاغ رؤساء التحرير بالآتي :" لا لصور القتلي من الأطفال الرضع وأيضا لا تصف ذلك بغزو " وبدلا من ذلك؛وبحلول صبيحة اليوم التالي تبنت الصحافة السعودية بأسرها خطأ معتدلا إزاء الحرب ، " كنت تلك تجربة غريبة بالنسبة لى وفي ضوء كل مواعظي حول الحاجة إلى صحافة حرة "

لكن هل تتأثر الصدقية بمثل هذه التوجيهات العليا، التي ليست غريبة على جمهور القراء فضلا عن العاملين في الصحافة ؟

فليست مشكلة الصدقية بمثل هذه التوجيهات أو الملاحظات المؤقتة بين فترة وأخرى من جهات رسمية ، فالجمهور لديه القدرة على وضع هوامش كثيرة يتفهم فيها حدود هذه الصدقية ، ودرجة الجرأة وجود مثل هذه التوجيهات ليست مشكلة بذاتها حول قضايا محددة في ظروف طارئة فالجميع يتفق أنه لا يوجد استقلال تام أو حرية إعلامية كاملة فلكل مجتمع خصوصيته .

إن مشكلة الصدقية والحرية والاستقلالية في الصحافة المحلية لا تتعلق بأحداث محددة أو موضوعات ذات حساسية ، وإنما مشكلتها في تراكمات تاريخية في بنية تكوين خطاب الصحافة المحلية فالقضية في إعلامنا ليس البحث عن صدقية بمستوى الصحافة الغربية أو حتى الخليجية القريبة منا .

إن إشكالية الصحافة السعودية ذات خصوصية مختلفة عن أقطار أخرى ومرتبطة أساس في خارطة قوى متشكابكة ما يصعب معه تصور المكانة الحقيقية للصحافة في الدولة والمجتع ولهذا يصعب تقييم أدائها في كل موضوع وحملة صحافية وأزمة دون خبرة طويلة متراكمة في فهم المؤثرات والتنبؤ بما يدور خلف كل نشاط إعلامي .

الإعلام من أخطر المجالات التي تنتهك فيه المعايير الأخلاقية . تحت إغراءات الشهرة والمال والمصالح السياسية وتبدو مشكلة الصدقية أنها تحتاج إلى شروط في البيئة السياسية والاجتماعية خارج المؤسسات الإعلامية ، تتعلق بالحريات وغيرها

مقابل ذلك فالجانب المهني للصدقية تتحمله هذه المؤسسا ت حيث ظل الضعف المهني سمة رئيسة في الممارسة الصحافية المحلية .

وفي تقدير (عبد العزيز الدخيل) أن

" أمثلة النفاق الصحافي المؤسسي والفردي للمشاريع الحكومية كثيرة، ولا أعتقد أنني بحاجة إلى الدلالات المادية لإثبات التهمة النفاقية التي أصبحت من صفات الصحافة السعودية ("ارحموا عقولنا من النفاق الصحافي" الوطن 26 / 6/ 2008م).

أما عبد الله الطويرقي وهو إعلامي وعضو سابق في الشورى ، مارس العمل الإعلامي ودرسه ، فقد كتب مقالة رأي فيها أنه

" في حالة بقاء الصحافة متطلبات حياتية ومعيشية صعبة وغير محتملة ومن غير الوارد أن نتحدث عن نظام إعلامي مسؤول اجتماعيا وسلطة رابعة تعمل على صيانة التوازنات الطبيعية لنظامنا الاجتماعي - السياسي - الاقتصادي ..
وما دام بقيت مؤسسات الصحافة مغلقة على مساهمين محدودين وباشتراطات وزارة الإعلام لقيادات العمل الصحافي تحريريا وإداريا ، فمن المتعذر تحقق مهنية احترافية "

(هذه المقالة قام بنشرها موقع العربية نت على الانترنت ولم تستغرق المقالة أكثر من أربع ساعات حتى قاموا بحذفها مرة أخري (صحافتنا المخترقة العربية نت، 1 آب / أغسطس 2008م)

ثم أشار إلى مشكلات في أداء وأخلاقيات هذه الصحف وفي استقطاب الكتاب:

" هذا يعني ليس فقط أن الصحف تعرف سلفا أن هؤلاء موظفون في أجهزة وجهات عامة وخاصة وإنما أيضا تستخدمهم كأدوات نفوذ الوصول للوزير أو الرئيس التنفيذي ، ولتمرير معلومات عن خطط وبرامج للجهاز وبشكل استباقي يمكن الصحيفة من صناعة مواد خبرية أو تحقيقات أو حتى كتابة رأي إن لزم الأمر ..
والصحف أيضا تستقطب معظم كتاب الرأي فيها إلى حد كبير بحكم مواقعهم الوظيفية أو مناصبهم العليا في الدولة ، أو علاقاتهم التي من الممكن للصحيفة الإفادة منها وقتما وكيفما شاءت أو حسب الحاجة .. فالمعيار هنا ليس الكفاءة والوعي والقدرات الكتابية ، وإنما المسمّى الوظيفي والمنصب والنفوذ داخل الجهاز ".

من عوامل هذا الضعف عدم وجود المنافسة، فالمؤسسات الصحافية منذ التحول من صحافة الأفراد إلى المؤسسات أصبح هذا المجال محتكرا واحتاج تأسيس صحيفة الوطن منذ أن كانت فكرة تحت مسمي صحيفة عسير .. إلى أكثر من عشرين عاما لتخرج إلى الساحة ، على الرغم من أن خلفها أسماء سياسية كبيرة ..

وحتى الصحافة السعودية الخارجية يتاح لها امتيازات خاصة لا يتاح لغيرها ، ما يؤكد أن هذا النشاط محتكر وليس للأنظمة الموجودة أى قيمة عملية ، فالفسح والترخيص كلاهما يخضع لمعايير أخرى يدركها المتابع لهذه القضايا .

ويكرر رؤساء التحرير في لقاءاتهم الإعلامية مقولة إنه لا توجد رقابة على الصحافة السعودية بمعني أن الصحف تذهب إلى المطبعة وتوزع دون أن تمر على مسؤول وزارة الإعلام .

وهذا الكلام من الناحية الشكلية صحيح منذ فترة أكثر من أربعة عقود ، ومع النظام الصادر بتاريخ 8/8/ 1378هـ ، الخاص بمراقبة المطبوعات الواردة من الخارج قبل توزيعها والترخيص بما يجوز طبعه ونشره

أما الصحافة الداخلية فقد أعلن الأمير (فيصل) ولي العهد في تلك المرحلة رفع الرقابة عام 1379 هـ عن الصحف (محمد القشعمي ، الفكر والرقيب ، ص 34).

لكن من الناحية الواقعية والتاريخية لم يكن هذا الرفع في صالح الثقافة والإعلام ، فقد تخلت الوزارة عن مسؤوليتها قبل النشر فقط ، مقابل ذلك يتحمل رئيس التحرير هذه المسؤولية أمام الجهات التي لابد أن توافق عليه تعيينه

لقد مرت الصحافة في هذه المرحلة الطويلة بأسوأ حالتها في قضية حرية التعبير وظلت الصحف التي تتعرض لرقابة ما قبل التوزيع أفضل حالا في كثير من مراحلها في تقديم مادة إعلامية أقوى ، كصحيفة الحياة منذ حرب الخليج .

إن الحديث عن الرقابة وحرية التعبير ليست أنظمة تكتب أو مواد يشار إليها في نظام معين .. " حرية التعبير مكفولة للجميع .." فالرقابة والحرية في صحافة العالم هما تاريخ وممارسة تتشكل فيهما القيم والأعراف فيما هو مسموح وما هو ممنوع .

ويكرر بعضهم حكاية الحريات الجديدة التي أتيحت لهم في مناقشة قضايا لم يكن متاحا تناولها ، بحجة أنه تقدم ، والواقع أن الإنترنت لم يترك شيئا من مشكلات المجتمع وفضائحه إلا وتناولها بعد ساعات من الحدث بالتفصيل وبلاحدود وتحرك الصحافة جاء متأخرا وظل حتى الآن متأخر فمنتديات كثيرة تفوقت على الصحف ، وأصبح الصحافيون يطرحون ما يقدم في الانترنت من موضوعات .

وهناك الكثير مما غير مسموح نشره أو تناوله لكنه غير مزعج ، وهناك الكثير مما يسمح نشره وتناوله ، لكن تناوله بطريقة غير مألوفة للذهنية التقليدية قد يجعله من المحظورات

وهذه التفصيلات تأتي من الخبرة في المتابعة لفهم المحظورات السعودية ،لا يمكن وضع قوائم لها هو مسموح به وما هو غير مسموح به ، ولهذا يلجأ الكثيرون من العاملين في الصحافة إلى مبدأ "سد الذرائع" خوفا من الوقوع في المحظور .

حضور مبدأ " سد الذرائع " كما هو أعاق الوعي الفقهي عند التيار الديني فقد أعاق الوعي الإعلامي عند الصحافي والرقيب الرسمي .

إن نقل مسؤولية الرقابة من الوزارة إلى رئيس التحرير مع الضريبة العالية لأى خطأ أو تجاوز يرتكبه ادي بمرور الوقت إلى رفع هامش الاحتياط لديهم والبعد عن ما كل هو مشكوك فيه ، تحت مبرر "بلاش وجع رأس"

ومع ذلك فهناك توجيهات متعددة من الوزارة للصحف حول الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والدينية يحظر تناولها أو السماح بها ، فلا معني للفخر في مسألة عدم وجود رقابة

وقد شهد الحظر في بعض المراحل حتى في استعمال بعض المفردات ، وأحيانا فرض بعض المصطلحات في معالجة بعض القضايا الاجتماعية والأمنية والسياسية ، فيظهر مثلا تعبير "الفئة الضالة" مع أحداث الإرهاب الأخيرة .

وللرقابة على الألفاظ تاريخ قديم ، فمثلا تم منع كلمة "المظاهرات" في الصحافة ، حيث كانت تستعمل في عام 1356 هـ ثم استبدلت الكلمة بـ "هياج" في العامين 1367 هـ - 1368 هـ إبان أزمة فلسطين (حصة القنيعير ، معجم المفاهيم الحضارية في المملكة ، كتاب الرياض ، ص 24) .

وحتى في الشأن الثقافي ، وفي عام 1988 م أصدرت وزارة الإعلام أمرا بمنع استخدام كلمة "حداثة" في كافة وسائل الإعلام من صحافة وتلفزيون وإذاعة وذلك بعد اشتداد الحملة ضد الحداثيين (الغذامي ، حكاية الحداثة).

صحافتنا .. والرسمية

هناك علاقة بين الرسمية والرقابة .. فشعور الجمهور بأن الصحافة مقيدة برقابة رسمية شديدة يضعف صدقيتها في تناول الأحداث ، حتى لو تناولها بقدر من الجرأة والإثارة والصدق فإن هذا لا يعتبر في نظرهم إنجازا لهذه الصحف بقدر ما أنه توجيهات من جهات عليا

أو سماح منهم ، وينظر إليه على أنه دلالة على رؤية للجهات الرسمية أو أنه تمهيد لقرار معين كما حدث حول كثير من التغيرات وكان آخرها دمج تعليم البنات أو التغيير في القضاء .. فلا يعتبر لهذه الصحف توجهات رئيسة من ذاتها ، وإنما هو مجرد أدوات بيد جهات لها صبغة رسمية .

ومع طفرة تعدد المصادر الإخبارية وانتشار المنتديات والصحافة الإلكترونية والفضائيات حافظت الصحافة على أهميتها القديمة منذ أكثر من ثلث قرن في التعبير عن رأي الدولة وتوجهاتها ، وليست معبرة عن نبض الشارع وهمومه .

ظل هذا الشعور الداخلي عند القارئ مبكرا ، ولن يؤثر فيه تقدم الحريات وتعدد المصادر في المنتديات الإنترنتية لأن الصحافة أهميتها الوحيدة في تعبيرها عن رغبات قوى رسمية أكثر من كونها نقدا حقيقيا يملك سلطة إعلامية .

أثر هذا الشعور العام داخليا وخارجيا في سمعة الصحافة السعودية واصبحت دائما متأخرة في ترتيبها عن الصحافة العالمية والعربية في مسصتوى الحريات في نظر المنظمات والهيئات التي تعني بشؤون الصحافة .

هذه الرسمية في صحافتنا ناتجة من تراكمات في الممارسة التاريخية ويصعب أن تتخلص منها ما لم يظهر تغيرات جذرية في خطابها يفصل بينها وبين الرؤية الرسمية

ولهذا السبب ترى الجهات الخارجية أن كل ما يكتب في الصحافة السعودية يمثل رأي الحكومة فالسعودية لم تتح في تجربتها الإعلامية لوجود صحافة ذات نزعة معارضة أو نقدية مقابل أخرى رسمية ، حيث يصعب تصنيف هذه الصحف إلا بالجهات التي تتبعها من قوى رسمية .

وحول هذه المشكلة يكتب (تركي السديري) لا أدرى من أين حصلت وكالة (اليونايتد برس) على معلومة أن جريدة الرياض جريدة رسمية ، ثم تضيف بعد كل بضعة أسطر في نقلها في افتتاحية عدد الرياض هذه الصفة .

موضحة أنها تعبر عن رأي الدولة الرسمي .. هذا الكلام غير صحيح إطلاقا مع أننا نعتز بالتفاهم مع الدولة في مرجعياتها المهمة ، وليس مع جهة إعلامية رسمية مثل ما هو شأن الإعلام الرسمي في الدول النامية

لأن الصحافة هنا تعمل وفق نظام المطبوعات الذي يحمي حقوق الآخرين من تجاوزات النش وفي الوقت نفسه يحمي حقوق الصحافيين من التهميش والتجاوز .. أعني أننا لسنا مثل صحف كثيرة في أقطار نامية كثيرة بما فيها عدد من الأقطار العربية تلك التي تنشر وتكتب بتوجيه وإشراف جهة إعلامية رسمية ..

هذا النظام ليس بالحديث ، فهو موجود منذ صحافة الأفراد ثم دعم استقلاليته وإمكانياته بإصدار نظام المؤسسات في عهد الملك فيصل رحمه الله .. والصحيفة الرسمية هي أم القرى ، أما بقية الصحف فجميعها مستقلة الإصدار والرأي .

إذا كان المطلوب شغب اجتماعي وتضاد مع سياسات الدولة في مثل ظروف منطقة الشرق الأوسط الراهنة ، فإن هذا أمر لن يحدث ، لأننا ننقاد خلف مصلحة مجتمعنا لا تغرينا الإثارات المبرمجة لتصاعدات المآسي في المنطقة " (تركي السديري ، لسنا صحافة رسمية " الرياض ، 12 / 8/ 2007م)

يحمل مثل هذا الطرح قدرا من الصدق في ظاهرة لكنه يخفي خلفه أزمة عميقة ، ليس المسؤول عنها تركي السديري مباشرة فمن غير الممكن أن نلوم الآخر الذي ينظر برسمية لصحافتنا أو حتى القارئ الداخلي في تصوره

لأن هذا ناتج من تراكم تاريخي ما زال محافظا على كثير من مظاهرة فالرسمية من الممكن أن تكون مباشرة كمؤسسات حكومية أو غير مباشرة كقطاع خاص مرتبط بجهات رسمية . فالرسمية من الممكن أن تكون مباشرة كمؤسسات حكومية أو غير مباشرة كقطاع خاص مرتبط بجهات رسمية .

وإذا كان يحق لنا أن نعتز بهذه العلاقة كصحافيين مع الحكومة ، فليس المشكلة في هذا الاعتزاز ، وإنما في نظر الآخر .. هل يمكن أن يكتب في هذه الصحف حول قضايا سياسية ما هو مخالف لرأي الجهات الرسمية ؟ فهل ما يهم الآخرين ، في التعرف على وجود صحافة أم لا !

من الخطأ تحميل الرسمي أو السلطة مسؤولية ضعف الصدقية لصحافته فقط والتذرع بالرقابة ، وضيق هامش التعبير ، فهذه مؤثرات حقيقية لكنها ليست كل شئ

فالصحافيون في السعودية يتحملون جزءا كبيرا من هامش المسئولية ولهذا نجد أن درجة الصدقية تختلف من صحيفة إلى أخرى ، وما صحافي إلى آخر وفقا لتجربته وخبرته واحترامه لذاته ولمهنته .

فمن الناحية العملية ما يطلبه المسئول من حملات معينة في مناسبات وأحداث خاصة ربما تكيف معها القارئ منذ عقود عدة كضرورة ضرورات الصحافة المحلية ومقابل ذلك هناك مساحة واسعة من الاجتهادات الصحافية لزحزحة عوائق ، وأوهام كثيرة وتوسيع فضاء خطاب الصحافة ولهذا كشفت تجربة (قينان الغامدي) التي بدأت قبل 11 أيلول (سبتمبر) هذه المساحات المهمة ورفع سقف المهنية بدرجة كبيرة .

على الرغم من أن الإعلام السعودي هو في أقوى مراحله التاريخية حيث الإمكانيات وسيطرته الإقليمية ، إلا أن هذه الذراع الكبري تكشف الأحداث مدى ضعفها في التأثير في الرأي العام العربي وأحيانا الداخلي حيث تستطيع وسائل أخرى متواضعة إرباك هذه الإمبراطورية ، بكتاب ومعلقية أو حتى معرفات في منتديات الإنترنت .

إن تطور الإمكانيات الإعلامية لخدمة السياسة حق مشروع لأى دولة لكن الذهنية التي تدير استراتيجيات هذا الخطاب ليست بمستوى التحدي الذي يواجهه إعلامنا

ولولا مكانة وقوة الدولة ماليا وسياسيا التي تفرض على الآخرين الطمع والتقرب إلينا لرأينا انهيارات كثيرة في خدمة مصالح الوطنية فالكتاب العربي أو السعودي عندما يبدأ الدخول في المجال الذي يجعله محسوبا على السعودية

يبدأ في فقد الكثير من حريته في كتابته وطريقة تعبيره عن رأيه ، تزداد هذه الصعوبة على الكتاب الكبار ، فيصبح الكاتب محاصرا بقدر كبير من المحظورات غير المباشرة التي ربما تكدر خاطر الجهات التي يتبعها ما يضعف صدقيته بمرور الوقت

فتضيق دائرة نقده لمؤسسات ودول ومنظمات وحتى قنوات إعلامية فلا يستطيع هذا الكاتب نقد كل ما هو محسوب على بلدنا من قناة أو جريدة أو مشروع . وما يبدو من محاولات تسامح لتوفي بعض الحرية للكتاب المحسوبين على ساساتنا كثيرا ما تتعثر لأسباب مزاجية .

هذا هو الخلل في مسألة الحرية المتاحة بوجه عام ، أما في ما يتعلق بالتوجيهات الرسمية للصحافة لتناول موضوعات معينة وبطريقة محددة فمن الناحية العملية لا توجد مثل هذه التوجيهات المباشرة للصحافي أو الكاتب السعودي على صورة خطاب ، لقد تشكلت آلية وأسلوب يدركهما من لديه خبرة ووعي بالتفاصيل

فمن المفترض واقعيا أن الصحافي يفهم المطلوب بالتلميح وبعض العلامات ، ويجب أن يكون لديه حدس في ما هو مرغوب وما هو مرفوض ، كلما كان الصحافي والإعلامي مسارعا في إرضاء هذا الجانب ، فإن احتمالات تقريبة تزداد .ومع ذلك تحدث أحيانا توجيهات مباشرة وصريحة ، فبعضها يمكن فهمه وبعضها غير مفهوم .

كما نشر في الكثير من منتديات الإنترنت صورة من خطاب وكيل الوزارة المساعد للإعلام الداخلي المكلف بتاريخ 16/ 5/ 1427م لجميع رؤساء التحرير جاء فيه : " تلقت الوزارة ما يفيد أهمية نشر المقالة " المرفقة " التي نشرت في موقع إيلاف على الانترنت بقلم (محمد بن عبد اللطيف آل شيخ) تحدث فيها عن الفكر الضال . نأمل نشر هذه المقالة لفائدتها وإيجابياتها ودورها في محاربة الفكر الدخيل على مجتمعنا .."

الكثير من الصحف التزمن بتنفيذ هذا التعميم و ونشر هذه المادة ، وهناك صحف لم تتقيد بذلم بغض النظر عن صحة هذا التعميم المسرب بالإنترنت الكثير من الصحف التزمت بتنفيذ هذا التعميم ونشر هذه المادة

وهناك صحف لم تتقيد بذلك بغض النظر عن صحة هذا التعميم المسرب بالإنترنت ، فالواقع ما حدث من نشر واسع لهذه المقالة في غير من صحيفة ، يدل على وجود توجيه بذلك والصدفة لا مكان لها هنا .

هذا المثال لم يحدث في السبعينيات أو الثمانينيات ، إنما في السنوات الأخيرة التي يتحدث فيها البعض عن تطور الحريات الإعلامية !

وأحيانا تأتي حملة إعلامية سياسية يريد منها المسؤول إيصال رسالة تعبر عن موقفه من دون التنبه لضررها على سمعة وصدقية إعلامه داخليا وخراجيا وقد كانت في السابق تأتي بصورة مستمرة مع كل أزمة وقضية وبشكل تقليدي ..

وكادت الصحافة تتجاوز هذا النوع من الممارسة البدائية في مرحلة ربيع الإصلاح ، إلا أن فترة الانتكاس عادت مرة أخرى بالصورة البدائية القديمة فمثلا في يوم الأحد 16 /12/2007م ، تفاجأ القارئ بردة فعل صحفنا في يوم واحد لتصريحات (فاروق الشرع)

على الرغم من أنه تحدث بها قبل أيام عدة من ردة فعل هذه المقالات ، وليس من باب الصدفة أن تنزل في يوم واحد ومتأخرة فر ردة فعلها عن الحدث !

وكانت العناوين في ذلك الصباح كما يلي :

  • "صورة المملكة وعقدة الشرع" يوسف الكويليت .. جريدة الرياض .
  • "ما هو شرع الشرع" تركي السديري .. جريدة الرياض .
  • " عبقرية الشرع " حمود أبو طالب ، جريدة المدينة .
  • " منطق الشرع الغريب " عبد الرحمن سعد العرابي، جريدة المدينة.
  • "الشرع غراب ناعق في فضاء الأحداث" كلمة جريدة الاقتصادية .
  • "من أضعف دور سوريا ووضعها في أزمات متتالية" المحرر السياسي جريدة الاقتصادية .
  • "الشرع والموقف المعادي للعلاقات السعودية السورية" سلطان سعد القحطاني، جريدة الجزيرة .
  • " فاروق الشرخ " طارق الحميد ، جريدة الشرق الأوسط .
  • "الشرع بأثر رجعي " عبد الله ناصر العتيبي ، جريدة الحياة .
  • " مغالطات فاروق الشرع" ميسر الشمرى .
  • " ضد من " الرأي في جريدة اليوم باسم مراقب .

يأتي هذا المثال في مرحلتنا الجديدة ، في وقت توقع الكثيرون أن الإعلام السعودي فيه تجاوز هذه الطريقة التقليدية في المواجهة ضد الخصوم ، وأن الكتاب يترفعون عن هذه الممارسة التي تضر بسمعة صحافتنا .

في هذه المعارك تبدو بعض الكتابات وكأنها تقوم بدور "ساعي البريد " أكثر منها رأيا شخصيا أو وجهة نظر ، فمن تاريخ الممارسة الإعلامية المحلية ضد أنظمة عربية في لحظة خصومة لم يعتد المتابع على الفصل بين هذه الحملات ورأي الجهات التي يمثلها الإعلامي خاصة عندما تشير إلى نقاط سياسية ذات حساسية .

على الرغم من هذا الواقع إلا أنه توجد بعض الفوارق في تطبيق هذه التوجهات الرسمية ، فبعض الصحف تحافظ على اعتدالها وصورتها المحترمة عند القارئ في مثل هذه الأزمات السياسية و كما هي جريدة الحياة الدولية مقارنة ببعض الصحف الأخري .

وليس هناك إشكال من ناحية المبدأ أن يوجد كتاب لهم صفة شبه رسمية تكون كتاباتهم معبرة عن الرؤية الرسمية ، ويقدمون آراءهم وفق التحولات السياسية في كل أزمة

فهذه ضرورة سياسية وإعلامية تمارس وفق تقاليد محددة في كل مجتمع ، ولا يوجد إشكال في أن يتعاطف الكتاب مع جهة ضد أخرى في أى حرب ، وأن يقفوا مع مصالح بلدهم ، فهذه مهمة الإعلام ، ولا أحد يريد تقديم مواعظ عن الحيادية

لكن الموقف في تلك الحرب أظهر مدي التخبط في تغطية الحرب ، والتعامل معها دون أدني حسن بالمسئولية الصحافية فالمحافظة على سمعة المطبوعة والدولة التي تمثلها لا يقل أهمية عن دفاعها عن مصالح بلدها

ولن تكون هذه المواجهة الأخيرة مع الخصوم حتى يعبث بالمهنية .. تلك الحرب كانت إسرائيل طرفا فيها ، وما يتطلب قدرا من العقلانية والوعي التاريخي والسياسي .

لماذا لم توجد صحافة مستقلة ؟!

في إحدى مقالاته طرح (عبد الله الطويرقي) عضو مجلس الشورى السابق ، فكرة محاسبة الإعلامي في مقالات عدة عبر جريدة الوطن وبعد ذلك توالت الردود المتعددة من كتاب وصحافيين تستنكر هذا الطرح خاصة أنه يأتي من إعلامي متخصص مارس العمل الصحافي .

أغلب هذه الردود أكدت أهمية الحريات الإعلامية وحقها في نقد أداء مجلس الشورى أو أى جهاز حكومي .. هذا الجدل والنقد اللذان قدمهما بعض الكتاب لم يتعمقا في حقيقة الأزمة في مجتمعنا الذي لا يزال يفتقر لأهم مقومات تشكل الوعي الاجتماعي المستقبل عن تأثير الجهات الرسمية في كل صغيرة ، وكبيرة ، فليست قضية إعلامنا الحديث الإنشائي عن الحريات الصحافية المتاحة

ومدي أهمية نقد بعض الجهات الحكومية بأسلوب مقنن وفق التقاليد المحلية التي يعرف حدودها كل مبتدئ في صحافتنا ، ولا يجرؤ على تجاوزها .

قد تقدم هذه الردود انطباعا بوجود حريات وصحافة حقيقة تجمل مشهد الحراك الإعلامي في هذه المرحلة .. لكن السؤال المغيب والأهم في ذهنية كل صحافي وإعلامي يحترم مهنته ودور الإعلام الرقابي هو :هل يوجد لدينا في السعودية صحافة مستقلة .. أو حتى شبه مستقلة .. كما يوجد عند غيرنا من أقطار العالم ؟!

لهذا يبدو التفكير في مثل هذه المحاسبة القانونية ، مثيرا للإستغراب ، وكأن وضع المؤسسات الصحافية جهات تملك الاستقلالية المفترضة في هذا المجال فالصحافة في السعودية وإن كانت تبدو كقطاع تجاري خاص ، فالواقع أنها صحافة غير مستقلة ، ولا حتى شبه مستقلة في أدائها المهني .

الإشكال ليس في مناقشة بعض بنود نظام المؤسسات الصحافية أو نظام المطبوعات وتعديلها لتكون مستقلة، فهذا لن يغير من الواقع شيئا طالما ظلت العقلية الرسمية والنخب الإعلامية تتجاهل هذا السؤال فصحافتنا كانت وما زالت حكومية في مضمون خطابها الإعلامي والفارق بين صحيفة وأخري هو في أيهما الأكثر حكومية ورسمية .

أما الاستقلال المتعارف عليه في المهنة والموجود في كثير من الدول ، فمع كل المتغيرات التنموية فإننا لم نحقق أى حراك يستحق الذكر في هذا المجال ، هذه الحقيقة لا يدركها النخب فقط ، بل حتى رجل الشارع في مجتمعنا .

ليست المشكلة في الجهات الرسمية التي نتفهم حقها وطبيعتها في المحافظة على سيطرتها وتوجيهها للخطاب الإعلامي ، وإنما في غياب الوعي والحماسة عند النخب الإعلامية في معالجة هذه القضية التي تؤثر في أدائها وصدقيتها في الإصلاح ومحاربة الفساد .

وعلى الرغم من كل ما يقال عن التغير في مستوى الحريات الإعلا مية وتطورها في السعودية ، فالواقع أن الهامش المحدود من الحرية الذي تحقق قبل سنوات نتيجة الضرورة المرحلية والارتباط السياسي مع تطورات أحداث العنف في الخارج والداخل تراجع مؤخرا إلى سقفه التاريخي المعروف

فقد عادت الصحافة المحلية إلى تقليديتها المعروفة التي توارثتها عبر أجيال عدة لتؤكد أن الحراك النقدي الذي ظهرت بعض ملامحه لم يكن سوى ضرورة مؤقتة لامتصاص الأزمة التي رافقت الأحداث والحريات التي جاءت متزامنة مع مشكلة منتديات الانترنت ، قبل العودة إلى حالة التوازن والسيطرة على تطورات تلك المرحلة .

وعلى الرغم من كل ما يقال عن التغير في مستوى الحريات الإعلامية وتطورها في السعودية فالواقع أن الهامش المحدود من الحرية الذي تحقق قبل سنوات نتيجة الضرورة المرحلية والارتباك السياسي مع تطورات أحداث العنف في الخارج والداخل

تراجع مؤخرا إلى سقفه التاريخي المعروف و فقد عادت الصحافة المحلية إلى تقليديتها المعروفة التي توراثتها عبر أجيال عدة لتؤكد أن الحراك النقدي الذي ظهرت بعض ملامحه

لم يكن سوى ضرورة مؤقتة لامتصاص الأزمة التي رافقت الأحداث والحريات التي جاءت متزامنة مع مشكلة منتديات الإنترنت قبل العودة إلى حالة التوازن والسيطرة على تطورات تلك المرحلة .

وعلى الرغم من وجود بعض المعارك والجدل حول العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، فإن مستوى الحرية الصحافية ليس كما هو بعد أحداث السنوات الأخيرة ..

ومن يمتلك خبرة كافية حول أسلوب التعامل الإعلامي مع قضايا الواقع والمتغيرات سيجد أن الصحافة لا تزال تحتفظ بمضمون رسالتها الإعلامية وفق التقاليد القديمة قبل عقود عدة .

في السنوات الأخيرة كانت خصومة طيف محدود من التيار الديني للصحافة حول قضايا ساذجة تعطي وهما بالنضال والجرأة الصحافية .. في جميع الدول من المعتاد أن تجد النخب الإعلامية مشغولة في الحفاظ بتوسيع حريات واستقلالية الصحافة ، واستغلال كل مناسبة من أجل ذلك

لكن هذه الهموم ليست موجودة وحاضرة في مجتمعنا ، ومع أن الصحافة تتطرق أحيانا إلى مسألة الفساد والأخطاء في بعض القطاعات والجهات الحكومية وفق معايير متعارف عليها في الخطاب الإعلامي المحلي إلا أن الصحافة المحلي لا تتحدث عن ضعف دورها الإصلاحي ، وفساد أدائها المهني الذي تتخلي عنه بسهولة لأى سبب .

ومن الخطأ ترتيب الأولويات الحديث عن الإصلاح في الداخل دون طرح موضوع إصلاح الصحافة والإعلام وتعزيز دورهما في النقد المحايد ، من خلال السعى لجعلهما مؤسسات مستقلة وغير محتكرة

وما لم توجد هذه الاستقلالية أو بعضها فإن كثيرا من الحقائق والأزمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ستغيب كما غيبت في الماضي فمع كل التحولات والتغيرات التنموية لم تتشكل حتى الآن مؤسسات صحافية تحقق الرسالة المهنية المطلوبة منها في خدمة المجتمع والدولة

وهذا الخلل لا تتحمله الدول فقط ، وإنما أيضا عدم تشكل نخبة من الإعلاميين والصحافيين الذين يحافظوا على أصول المهنة من العبث في صدقيتها .

لك تكتب حتى الآن قصة تحولات الصحافة السعودية وتقييم أدائها خلا أكثر من نصف قرن ، ووصف واقعها بدقة وموضوعية من دون تحيزا مجاملات شخصية وهذا الوصف سيقود لمعرفة الكثير من التحولات الاجتماعية والوعي بالتقاليد السياسية في تقديم الخطاب الإعلامي وأساليب التأثير في الرأي العام المحلي.

إن معرفة قصة الصحافة المحلية قد تساعد الباحثين على تصور كيف يتم التعامل مع جميع القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية وكيف نفرق بين آليات عمل الصحف السعودية التي تصدر في الخارج ، والصحف التي تصد في الداخل و ضوابط الرقابة وهوامش الحرية في ذلك ؟ ولماذا هذا الاختلاف ؟

وستعزز القدرة على تفسير كل ما طرحته الصحافة من قضايا حول المرأة ومشكلات التنمية والبطالة وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والتطرف والإرهاب .. وحتى قضية مزايين الإبل ..!

بالارتباك الذي يشعر به الكثيرون لفهم ما يحدث في الواقع المحلي، ومحاولة تفسير رغبات الحكومة ورأيها من خلال ما تطرحه الصحف هو ناتج عن الغموض في تقييم أسلوب الإعلام المحلي في أداء دوره المهني .

لقد مرت الصحافة السعودية بمراحل عدة وتغيرات محددة للأسف هذا التطور حدث فقط في الإمكانيات المادية ، ولم يظهر أى تقدم ملموس في مساحة استقلاليتها

بل إن الحريات الصحافية وقوة الطرح في بعض المراحل من عمر الصحافة كان أقوى قبل عقود عدة وما يعرض من نقد في قضاء الخدمة التي تقدمها الأجهزة الحكومية وضعف أدائها ليس جديدا فالصحافة كانت تقوم بهذا الدور بشكل أفضل منذ عقود عدة .

إن نقد مجلس الشورى وبعض الجهات معروف لدي الإعلامي أنه متاح في صحافتنا للتنفيس وإعطاء وهم بأجواء حراك سياسي لموظفين لا تنطبق عليهم مهمة البرلماني الحقيقي .

لقد تطورت الصحافة السعودية من الناحية التجارية وتحولت إلى مشروعات ربحية كبرى نتيجة الاحتكار المعتاد في بعض المجالات والمشاريع

ومع تضاعف ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة ، ومع ذلك فهذا التطور الربحي لم يترجم إلى صناعة صحافة مهنية ، بل إن الكثير من الصحف أخذ ينهار أمام إغراءات المال والربح السهل وحول مهمة الصحافي وجهاز التحرير إلى موظفين يبحثون عن الإعلام وتحول جهاز التحرير إلى موظفين علاقات عامة .

دون مراعاة لأدني مقومات المهنة وبإخلال بالأمانة الصحافية ،ولو كانت هناك نقابات صحافية محلية تكشف وتحافظ على المهنة لما توسع هذا الفساد الإعلامي .

ليس من مصلحة المجتمع والدولة عدم وجود صحافة محلية مستقلة تقدم الرأي الآخر بصدقية تتاح فيها المعارك الصحافية الشريفة لمصلحة المجتمع وفقدان هذه الاستقلالية لا يتيح للصحافة هامشا وطنيا لمواجهة المعارك ، الصحافية مع آراء أقطار وآراء أخرى معادية لأنه سيحسب على أنه رأي الحكومة السعودية كالمعتاد .

عندما نشير هنا إلى مشكلة عدم استقلالية الصحافة فهذا لا يعني الرغبة والتشجيع على وجود خطاب إعلامي غوغائي ، وإتاحة الفرصة للشتائم على طريقة الصحافة الصفراء وليست هي مطالبة بإيجاد صحف معارضة ورفع سقف الحريات بالطريقة التي توجد في الأقطار الغربية ، دون تقدير لاختلاف الظروف الاجتماعية والفكرية والتقاليد السياسية

و إنما هي مطالبة عقلانية ومعتدلة بتجاوز حالة هذا الجمود الطويل الذي جعل صحافتنا تحتل مراتب متأخرة جدا في ترتيب الحريات الصحافية التي تصدرها بعض المنظمات الدولية ، ومحاولة الاقتراب من نموذج صحافة أقطار خليجية وعربية قريبة في مستوى استقلاليتها .

ليست المشكلة في وجود صحافة قوية تمثل صوت الحكومة في أى بلد طالما مارسوا العمل بمهنية واحترام ، فهذا من حق أى حكومة لكن أزمتنا في عدم وجود هامش من الاستقلالية المفترضة لصحف أو كتاب يقدمون رأيا آخر لتقديم بعض مظاهر التعدد في الخطاب الإعلامي ليكون هناك أصوات آخري تمثل غير الحكومة .

إن الحرية المتاحة مهما كان سقفها ، والنقد في الصحافة مهما كانت قوته لن يتعامل معهما بصدقية دون وجود شعور عام وحقيقي في الداخل والخارج بهذا الاستقلال .

(عبد الله الطويرقي) شارك في صنع سياسة وقاموس تحرير جريدة الوطن السعودية التي تفوقت في بعض المراحل في سقف الحريات على صحف أخرى فبعد قائمة الردود عليه من الكتاب والصحافيين حول مقالات محاسبة الإعلامي اضطر مؤخرا لأن يعترف ببعض مظاهر الأزمة الإعلامية والصحافية لدينا

فكتب فيها أنه أراد:

"أن يتأكد من قناعته شبه المؤكدة عن غياب شئ اسمه نظام إعلامي صاحب مشروع حقيقي في البلد .. وأنه لا جسم إعلاميا حقيقيا موجود ولا وجود لأى شكل من أشكال المشاريع الحقيقية للماكينة الإعلامية الوطنية التي ما انفكت منذ طفرة السبعينيات تقتات على ما يقيم الأود من توزيع وإعلان ومداخيل مالية
دونما أدني شعور بمسؤولية تاريخية تجاه البلد والشعب ومستقبل الوطن وهكذا صار .." (الوطن ، 4/11/ 2007) .

الصحافي السعودي .. والمنظمات الدولية

" لهم حريتهم .. ولنا حريتنا " عبد الله القبيع، مدير تحرير جريدة الوطن

بدلا من أن يقوم الصحافي السعودي بدوره الرقابي في المجتمع والدولة أصبح جزءا من حالة التبرير الرسمي ، وبدلا من أن يناضل في سبيل زيادة حرية التعبير وتوسيع النقد ، فإن البعض منهم يتبرع في الدفاع عن الوضع الراهن .

من المقبول أن يعترض على هذه التقارير التي تصدرها منظمات دولية مسؤول رسمي ، لأن هذا دوره ، على الرغم من أن تقارير هذه المنظمات مليئة بالأخطاء وعدم الدقة ، ومن لديه متابعة تاريخية يجد أنها لا تخلو من تسييس في حالات معينة لكن هذا التحفظ الموضوعي شئ ، وترك الصحافي المحلي لمهمته شئ آخر والمطالبة بحرية أوسع ، ونقد مظاهر التضييق عليه .

منظمة " مراسلون بلا حدود " وهي منظمة دولية غير حكومية تتخذ من باريس مقرا لها ، في بيان حول حرية الصحافة أصدرته في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2006 م ، احتلت فيه السعودية المركز (161) وكانت في عام 2005 م في المركز (154) و2004 م في (159).

ليس في النتيجة ما هو مثير لمن يتابع تاريخيا مثل هذه التقارير الدولية التي تصدرها منظمات مختلفة ، حيث توجه العديد من المنظمات الصحافية مثل " الاتحاد الدولي للصحافيين " كأحد أكبر المنظمات الصحافية في العالم ويتخذ من " بروكسل " بيلجيكا مقرا له ، والمنظمة العربية للحرية الصحافية في القاهرة وغيرهما .

لم يكن في النتيجة ما هو لافت إلا الفارق الكبير بين صحفنا وصحف الخليج، فالكويت والإمارات في المراكز الستينية وقطر في المراكز السعبينية وكان المحرج أن تراجع السعودية جعلها قريبة من ذيل القائمة في العالم مع أقطار شهيرة في ديكتاتوريتها وشموليتها ومتخلفة في أنظمتها .

عندما أصدر هذا التقرير أذكر أنني قمت بإرسال هذه النتيجة إلى زملاء وكتاب صحافيين وإعلاميين في رسالة جوال ، وأشرت إلى أن هذا الترتيب المتأخر حتى عن سوريا وليبيا ! ففوجئت بتفاعل الوسط الصحافي مع هذه النتيجة وتزايدت ردود الفعل حتى أن بعضهم لم يصدق أن ننتقل من مركز سيئ إلى أسوأ فجاءتني استفسارات في لحظتها .

المفاجئ لى أن هيئة الصحافيين والفاعلين فيها لم يكونوا على علم بالنتيجة، على الرغم من أنها صدرت قبل أن أرسلها بفترة طويلة ، واللافت أيضا أن موقع منظمة "مراسلون بلا حدود" محجوب في السعودية..

حدث بعد ذلك تفاعل إعلامي مع النتيجة المخيبة ، فاستضافت قناة " العربية " أحد مسؤولي منظمة مراسلون بلا حدود (جان فرانسوا جوليار) مع رئيس هيئة الصحافيين في السعودية تركي السديري؛

فكان من الأسباب التي أشار إليها في تراجع السعودية بهذا الشكل إلى ذيل القائمة عدم السماح للمنظمة بالتواجد على الأراضي السعودية واستقاؤها للمعلومات بناء على استفتاءات أرسلتها إلى عدد من الصحافيين والإعلاميين .

وجاء في مقالة رئيس هيئة الصحافيين

"هل هذه الحرية تصميم جاهز يمكن أن يستقدم من أسواق بريطانيا أو اليابان ، أو كندا ثم يفرض بمستوى واحد يهم شعوب متباينة المشاكل والظروف؟ ولا ينبغي أن يكون رأيا نشازا لو أنا أشرت إلى صعوبة تطبيق حرية نشر كاملة في مجتمعات تنام داخلها محرضات التخاصم " وأن " لكل الحريات مهما كان نوعها سقفا مع حالة النمو في المجتمعات "

وقد وجهت السعودية دعوة لمنظمة "مراسلون بلا حدود" لزيارتها (قبول الهاجري ، إيلاف ، 12 كانون الثاني (يناير) 2007) وفي العالم التالي تحسنت النتيجة قليلا بعد الحوار ، ودعوة رئيس هيئة الصحافيين لزيارة السعودية .

لكن ما هو مثير للإنتباه هو ردود فعل الصحافة السعودية وانشغالها في الهجوم على هذه النتيجة ، فمن المعتاد أن يكون الصحافي وأهل الصحافة بمختلف مستوياتهم مشغولين في الدفاع عن حرياتهم الصحافية وطلب المزيد منها

وبالمقابل تقوم الجهات الرقايبة الرسمية في الدفاع عن نفسها في تقييدها للحريات هذا هو المألوف ويحدث في كل بلد في العالم لكن الذي يحدث لدينا هو العكس ، فقد كانت الأصوات الصحافية تقدم دفاعها عن مستوى الحريات الصحافية

لو استثنينا هذا الدفاع من رئيس هيئة الصحافيين بحكم مسؤوليته التي يدركها المتفهم للحالة السعودية لكن أن تنشط العديد من الأقلام في الدفاع عن مستوى الحرية المتاحة فهذه مفارقة غير مفهومة!

يمكن فهم الكثير من المبرّرات التي تساق حول إشكالية الحريات الصحافية المحدودة في مجتمعنا بحجة خصوصية كل مجتمع وظروفه ويمكن بهذه الطريقة التبرير لأى دول في العالم انتهاك هذه الحريات ما لم يكن هناك حد أدني من المعايير ، فحتى الولايات المتحدة جاء ترتيبها (48) ما يشير إلى طبيعة هذه المعايير .

وكثيرا ما يردد البعض مقولة أنه لا يوجد إعلام مستقل ومحايد ، ومع أن ذلك حقيقة لكن ليس على إطلاقها ، فهناك إعلام أكثر استقلالا وحيادية من آخر ومثل هذه المقولة يرفعها عادة من يريد تبرير انحرافه عن الحياد والاستقلالية .

إن مثل هذه الحجج انتقائية ولا تناقش معايير هذه المنظمات وطرق تقييمها ، فهذه المعايير ليست قائمة على درجة الحريات في مستوي الإباحية أو الشتائم أو الهرطقة حتى يحدثنا بعض الكتاب عن خصوصيتنا ، فالعمل الصحافي له أصول متفق عليها ، وهناك هامش للإختلاف في كل دولة وخصوصيتها .

ومرجعية هذا التقييم هو مفاهيم الصحافة العصرية والنظريات الحديثة كما في السياسة المعاصرة والديمقراطية وحقوق الإنسان فالبعض يحاول تصوير المخاطر بصورة أكبر مما هي فيما لو أتيحت الحرية الصحافية بصورة أفضل لكن ما قدمته تجربة الإنترنت التي وصلت إلى الحد الأقصي كان المفترض أن تهذب هذه المخاوف والمبالغات في تصوير هذه المخاطر .

وفي مجتمع بدأت فيه الكثير من القوى الأخرى تنهار وتفقد قيمتها الفعلية في أداء دور إصلاحي بسبب عوامل الخلل في توازنات القوى فالنخب التجارية لم تعد ذات قوى مؤثرة ومستقلة وبعد الطفرة النفطية وشيوخ القبائل ضعف دورهم وتهمش كثيرا

بالإضافة إلى مشكلات الشيخ الديني والمثقف التي تناولناها سابقا فلم تنشأ قوى أخرى بديلة خاصة أن النشاط السياسي محظور ، والإعلام هو الأكثر تأثيرا في المجتمعات الحديثة، ولمقدرته على التعويض في غياب هذه القوى ، وهو ما تحتاج إليه الحالة السعودية .

صحافتنا .. والرقابة الدينية

تواجه الصحافة السعودية إشكاليات رقابية متنوعة ليست سياسية فقط وإنما هناك الرقابة الاجتماعية والدينية ، فتظهر قوة هذه الرقابة فيما لو تناولت الصحافة مسائل اجتماعية ذات حساسية خاصة بين منطقة وأخرى أو عادات قبلية ..

أما الجانب الديني فهو الأقوى حضورا منذ بدايات الصحافة والإعلام وحتى الآن ، على الرغم من التغير في المعايير بين مرحلة وأخرى ومراعاة هذا الجانب تاريخيا يعتمد على مؤشر السياسي والحد الذي يسمح به لتجاوزه ، فلا يستثير التيار الديني إلا في أوقات معينة يظهر فيها ضوء أخضر لذلك .

والإشكال في الرقابة الدينية السعودية أنها في كثير من مراحلها لا تمثل الرؤية الإسلامية بمعناها الشامل ، فالمحظورات الفقهية أحيانا ليست آراء متفقا عليها ، وإنما تمثل رأي المؤسسة الدينية في بعض المسائل ، ولهذا لم يتح حتى لطلبة العلم الاختلاف في المسائل الفقهية إلا في السنوات الأخيرة .

يتداخل مع الرقابة الدينية الجانب السياسي خاصة في ما يتعلق بمناقشة أفكار الوهابية وتاريخها لنقد التطرف بين مرحلة وأخرى

لهذا يتاح أحيانا نقد الحركات الإسلامية الأخرى مقابل السكوت عن فكر الحركة الوهابية الإصلاحية والبعض من لانتهازيين في الصحافة يلجأ للمغالطات الفجة فبالقدر الذي يشتم فيه الإسلاميين في العالم وفكرهم تجده يتسامح مع إسلام المؤسسة الدينية .

ويزخر أرشيف الصحافة بردود العلماء منذ فترة مبكرة على أخطاء الصحافيين والكتاب ، وكان من أبرز هذه الأسماء التي لها حضور في غير مرحلة (ابن حميد ، وابن باز ، وعبد الرحمن الدوسري ، وسعد الحصين ، وصالح الفوزان) وغيرهم وقد يصل هذا الإنكار على وزير الإعلام نفسه ، كما نشرت مجلة الدعوة ردا للشيخ ابن باز على محمد عبده يماني .

تبدو الإشكالي في الرقابة الدينية أنه لا توجد جهة محددة مثل السياسي يمكن معرفة ردة الفعل ، وما هو محظور وما هو غير ذلك ، ولقد عانت الصحافة في مراحل متعددة من الرقابة الدينية غير المنظمة قانونيا

وأثرت في صدقيتها ولهذا يتجنب أهل الصحافة ما يمس المؤسسات الدينية أو الأفكار الدينية قبل حدوث تحول في السنوات الأخيرة عندما أتيحت في سياق صراع بين مراكز قوى داخلية ،أصبحت بعض هذه الصراعات مسرحيات مكشوفة .

كان وعي التيار الديني بطبيعة العمل الصحافي والإعلامي محدودا خاصة ما قبل مرحلة التسعينيات الماضية فدائما يظهر نقدهم لأخطاء الصحافة بصورة ضعيفة وساذجة للقارئ

ومقابل ذلك كان هناك وعي ديني ضعيف عند النخب الصحافية في مناقشتهم للتيار الديني ورموزه ، وكان على الصحافة أن تنتظر طويلا قبل ظهور الأصوات التنويرية التي لديها خبرة معقولة في الشأن الديني وخفاياه الداخلية ، ما شكل ظاهرة ما سمي بالخطاب التنويري قبل أيلول (سبتمبر) وبعده .

لقد كانت الصحافة في مرحلة الخمسينيات والستينيات أفضل حالا في النقد الاجتماعي والسياسي مقارنة في ما بعدها ، على الرغم من صعوبة الرقيب وضعف الوعي العصري عنده ولقد استعرض (عبد الله عبد الجبار) الكثير من الأمثلة والمواقف مع الرقابة في تلك المرحلة ، التي تسجل صعوبة تفهم الرقيب المحدود وعيه

فعندما شبه أحدهم بأن (ابن عباس) يشبه عدسه التصوير بالحفظ ، استنكروا عليه ، أو قصة (اجن للسباعي) الذي أراد أن يقدم نقدا اجتماعيا ، ولقد وجد حتى النقد السياسي ومنها مقالة عبد الله الطريقي الشهيرة " إلى أين نحن مسوقون ؟" التي نشرت في مجلة اليمامة .

لقد مرت الرقابة الدينية بعدة أطوار فقد كانت في البدايات تعتمد على جهود عفوية من بعض العلماء وغالبا ما تصل الشكوى للمفتي الذي يأمر بالرد على ما يراه خطأ أو مخاطبة المسؤول مباشرة

وكانت هذه المرحلة أقوى المراحل رقابيا وحضورا في عهد الشيخ (محمد بن إبراهيم) وبعد وفاته تأثر مستوى الرقابة كثيرا وتأثرت هيبة المؤسسة الدينية ولهذا كانت مرحلة السبعينيات من المراحل التي شهدت فيها الصحافة تحررا رقابيا لافتا ..

ولم يكن للردود الدينية التي وجدت خاصة في مجلة الدعوة حضورا وشعبية سوى عند التيار الديني الضعيف في تلك المرحلة ولقد استمر هذا الضعف حتى منتصف الثمانينيات فعاشت الصحافة أفضل مراحلها تحررا من الرقابة الدينية إلا أنها لم تقدم خطابا فكريا ذا أهمية؛

وإنما انشغلت في شكليات أدبية ورمزية وخواطر ساذجة قبل أن يقوى تيار الصحوة ويضرب بقوة أحد مظاهر هذه المرحلة ممثلا بتيار الحداثة .

مقابل ذلك جاءت الرقابة ما بين منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات من أقوى المراحل رقابيا سياسيا ودينيا واجتماعيا ، ومع مرحلة على الشاعر فتشكلت أسوأ مراحل الإعلام السعودي .

استعمل التيار الديني في هذه المرحلة استراتيجية مختلفة في الردع فتطور الجمهور وأصبح مشاركا فعالا في الرقابة ، وأصبح ما تتناوله الصحافة من قضايا يستحضر في الخطب والمحاضرات وما يبث في التلفزيون من مسلسلات وبرامج عرضة لنقد الخطاب الديني ..

وتطور الوضع في بعض الحالات إلى رقابة استباقية .. للأمور قبل النشر والعرض من خلال شكاوى نقد للعلماء ونجح تيار الصحوة في شحن الجمهور العام ضد الإعلام بوصفه مصدرا للفساد الأخلاقي .

لم تكن الصحافة في ذلك الوقت تنشر ما هو مصادم للتيار الديني ، لدرجة أن بعضها كان يخشي من نشر صور ذات علاقة بالأخبار السياسية الجادة مثل صورة تاتشر رئيسة الوزراء البريطاني في ذلك الوقت ، ومع ذلك فقد كان الخطاب الديني مستمرا في الحظر ، فيستحضر أخطاء الإعلام السابقة في النشر

ولهذا كثيرا ما يكرر الخطباء والمحاضرون قصيدة قديمة نشرت في منتصف السبعينيات : " مزقية ذلك البرقع .." التي أشرنا إليها سابقا لقد كانت صورة المرأة تظهر بصورة واضحة في السبعينيات في المجلات والإعلانات والأزياء ، وظهرت حتى في غلاف كامل صفحة أخيرة، كما العدد 176 /25 جمادي الآخر 1398 هـ من مجلة إقرأ .

أكبر نقطة تحول في الرقابة الدينية جاءت بأمر سياسي بعد أحداث الحرم وعندما حدث منع شامل لصور النساء والأغاني .. في تعميم بتاريخ 14 / 2/1400هـ ، أشرنا إلى مضمونه في موضوع المرأة السعودية .

واستمرت معارك التيار الديني مع الصحافة حتى عصر الإنترنت وأتاحت هذه الوسيلة حراكا عفويا في بعض مظاهرة ومنظما في حالات كثيرة بين أطراف متصارعة ولكل معركة قصة خاصة . لقد أربكت قضية الإرهاب مقاومة التيار الديني لخطاب الصحافة وخسر بعض المعارك فيها .

كتاب الرأي السعوديون

" .. وأمرني مدير الأمن وليس الأمير بأن أكتب تعهدا بألا أكتب في السياسة أو أخوض فيها فكتبت التعهد ، وأطلق سراحي .." أحمد عبد الغفور عطار

كتابة الرأى في الصحافة السعودية لها مسار خاص يمكن تحديد بعض تطوراتها ، مع أنها جزء من تجربة الصحافة إلا أنه يمكن فصلها في حالات كثيرة وتناولها في إطار محدد لأنه ليس كل كاتب رأي هو صحافي وبالعكس على الرغم من أن الصحافيين لدينا يتحلون بسرعة إلى كتاب رأي دون أن يكونوا مؤهلين لذلك .

من أبرز عيوب الصحافة السعودية التساهل في تقديم كتاب الرأي الذين يتطلبون خبرة ومهارة خاصة حيث تنشط المحسوبيات في فرض هؤلاء الكتاب على بعض الصحف .

وللأسف تستمر مثل هذه الأقلام في صحافتنا سنوات طويلة ، وبعضهم يمارس الكتابة أكثر من عقدين ويتأكد فشلهم ومع ذلك يواصل الكتابة ، وهنا كتاب الأعمدة الذين يتحولون فجأة إلى محللين سياسيين وخبراء اجتماعيين

أدي هذا التساهل في المعايير إلى ضعف تاريخي لصحافة الرأي في السعودية ، وقد تكون السعودية من أضعف الصحف في هذا المجال .. هذا الضعف التاريخي كان جزءا منه ندرة الكتاب والمثقفين المميزين في الكتابة ثم جاءت تجربة الأكاديميين التي أكدت هذا الضعف

وأصبح الكثير منهم من أسباب استمرار هذا الخلل لأنهم جاؤوا للبحث عن الوجاهة والمنصب وتفوق عليهم الكثير من الكتاب الهواة في معالجة القضايا الداخلية .

في تقدير أحد الإعلاميين " أن الصحافة السعودية تمارس تعديا على العمود الصحافي يستدعي تدخل الأمم المتحدة !"

وطالب رؤساء تحرير الصحف بوضع الأعمدة الصحافية الحالية في الميزان، وأن أغلب الأعمدة الموجودة حاليا تأتي بما لا يهم القارئ بالحديث عن القضايا الشخصية (داود الشريان في الرياض 13/ 4/ 2009م)

ومع ذلك فقد وجدت بعض النجاحات لأسماء معدودة إلا أن الأكثرية كانت فاشلة ، وخلقت انطباعا سيئا عنهم في الصحافة .لا أقدم هنا انطباعات متسرعة وإنما من متابعات قديمة وبصورة يومية تعرفت من خلالها على أهم مراحل كتاب الرأي والتحولات التي حدثت في الصحافة .

إن كتابة الرأي في السعودية جزء من المشكلة العامة الثقافية والإعلامية والتي خسر المجتمع بسبب هذا الخلل مصدر تنوير لمشكلاته الاجتماعية والسياسية والدينية ، بدلا من أن تكون نافذة للوعي التقليدي النفعي .

صحافة الرأي من أهم الصفحات في الجرائد العالمية وكثير من الصحف يأتي نجاحها بسبب قوة كتاب الرأي فيها ، وكان لنجاح تجربة جريدة الوطن في كتابة الرأي مع بداية صدورها دور في تنبه الصحف الأخرى المحلية لأهمية هذه الصفحات وليس من السهل توفر كتاب رأي بمواصفات قوية .

وفي الصحافة العالمية لا يصبح كتاب رأي إلا من يمتلكون مقومات احترافية في الكتابة والخبرة الصحافية .كان لفن المالة في البدايات الأولي للصحافة المحلية حضور كبير مع ضعف شديد في المهنية الصحافية من تقارير وأخبار وحوارات في تلك المراحل المبكرة وأخذت المقالة الأدبية والخواطر العامة حيزا كبيرا مع المقالة الاجتماعية التي تتحدث عن الظواهر الجديدة مع تطورات التنموية في الدولة والمجتمع

ووجدت العديد من الدراسات حول هذه الكتابات تاريخيا من أبرزها ما قدمه محمد بكري أمين لمرحلة الستينيات وما قبلها ، ثم محمد العوين " المقالة في الأدب السعودي الحديث " للمراحل التي بعدها لكن هذه القراءات تغلب عليها الرؤية النقدية الأدبية وشروطها ، وليس الرؤية الصحافية وفق معايير الإعلام وشروطه .

ومع تطورات عديدة مرت بها الصحافة المحلية ، كانت مقالة الرأي تتطور في معالجة مشكلات الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي مقابل ذلك تراجعت كتابات الخواطر والمقالة الأدبية القديمة واختفت تدريجيا .

أصبحت المقالة الأدبيةوالثقافية تأخذ وضعها في الملاحق الثقافية والدينية توضع في ملاحق دينية، وبدأت كتابة صحافة الرأي اليومية تتميز بمرور الوقت ، وأصبح لابد من وجود المقالة السياسية التي تعلق على القضايا الإقليمية والعالمية ..

وتأخر ظهور الكتاب في المقالة السياسية في الصحافة باستثناء أسماء محددة مثل (عبد الله مناع) في تلك المرحلة ، لقد حاول البعض في مراحل مبكرة أن يظهروا في هذا المجال ، لكن المحاولات ظلت محاولات متعثرة ولم تصل إلى حد الاحتراف إلى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات .

ظلت مقالة الرأي السياسي محدودة جدا ، نظرا إلى حساسية هذا المجال وتشدد الرقيب في تلك المرحلة ، ولهذا كان الكثير من الكتاب تغلب عليهم التقليدية

لأن المقالة السياسية عليها رقابة رسمية شديدة سواء أكان في قضايا دولية أم إقليمية ، أما في قضايا الداخل فلم توجد المقالة السياسية ربما حتى الآن ، سوى المقالة التي تؤيد الحنكة السياسية للحكومة في المناسبات الرسمية

حيث لا يوجد هامش نقد لموضوع سياسي داخلي ، أو قرار بعد صدوره ، أما نقد المجال الديني فلم يكن متاحا إلا في السنوات الأخيرة .

كانت افتتاحات الصحف تساعد المراقب على تصور الرؤى الرسمية ومبررات مواقف السعودية الأحداث الخارجية والداخلية ، كأنها بيانات يومية ويبدو أن دورها مؤخرا ضعف مع التفتت الذي حدث في الخطاب الرسمي وتعدد الرؤي .

ظلت افتتاحية (يوسف الكوبليت) لصحيفة الرياض ، بـ "كلمة الرياض" الأكثر تميزا، وقد تمكن من تقديم خطاب مستقر ذي ملامح محددة لأكثر من عقدين .

جاءت الافتتاحية في أقوى مراحلها في التسعينيات ، حيث تعرض تصورا لأهم السياسات والرؤى السعودية بكتابة عقلانية ، قبل أن تضعف في السنوات الأخيرة ويغلب عليها نمط التعبيرات العامة الإنشائية المكررة .

وبخصوص القضايا التي تتناولها مقالات الرأي ، من الممكن أن يؤرخ لبعض الفترات من خلال الحملات الموجة حول قضايا محددة في صحافتنا بواسطة كتاب "المناسبات" عند السماح الرسمي لتداول أى قضية .

لقد تحول هذا الخطاب المناسباتي إلى تقليد صحافي سعودي ممل وعلى الرغم من بعض تطوراته إلا أنه حافظ على حالته المكشوفة التي تؤكد أن الصحافة موجهة .

ومؤخرا هناك حالات تذاك مهني لتصوير ذلك بأنه شعور وحماس وطني ففي السابق كانت تأتي الحملات الصحافية مفاجئة وبأسلوب بدائي حول موضوع معين يغطي صفحات الجرائد لأيام متتالية

من خلال لقاءات مع المواطنين ، ومقالات متشابهة في مضمونها ، تأتي بعد مكرمة معينة أو يوم وطني ، أو بعد إعلان الميزانية ، أو بعد أخبار تتعلق بالقبض على مجرمين ، أو شعور المواطن بأن هناك حملة صحافية حول موضوع معين كأصحاب الجنسية البنغالية ..

فعندما تتوالي فجأة الأخبار عنهم ، يستغل بعض الكتاب هذه المناسبات لاستعراض نقدهم وصلاحياتهم الانتقائية والمحددة وحتى المعارك الأخيرة بين التيارات وضد الإرهاب أخذت مسارا انتقائيا في النقد .

من الأفكار السائدة في كتابات الرأي المحلي في تناول مشكلات التقدم والتخلف في التجربة المحلية ، تكرار فكرة أن الدولة أكثر تقدما ،استنارة من المجتمع ، عند ظهور أى حالة ممانعة ضد قضية من القضايا الاجتماعية والثقافية والدينية.

هذه المقولة ربما كانت مقبولة قبل عقود عدة .. مع بداية التأسيس وفي مرحلة كانت حالة المجتمع أقرب إلى البدائية .

أشارت إلى هذه الفكرة نخب عربية وغربية في مراحل مبكرة في بدايات تشكل الدولة ، ولكن هذه الفكرة أصبحت بحاجة إلى تحرير جديد ، لتقييم مختلف المتغيرات بعد أكثر من نصف قرن فبقدر ما قدمت الدولة من منجزات تنموية مشكورة في سبيل تطوير المجتمع ، وواجهت من أجل هذا الهدف قوي الرفض في قضايا كثيرة ..

إلا أنها تخلت في أوقات أخرى عن حسم مسائل كان من المفترض أن تحسم .. وفي حالات أخرى لم تكن راغبة في تطوير في خطابها وعقلنته حول الكثير من المفاهيم الحضارية .

جاءت هذه الفكرة من مثقفين عرب في مراحل معينة تعليقا على بعض الأحداث .. ثم تبناها بعض الرسميين لاحقا وأعجبتهم وأخذ يكررها المثقف التقليدي والرسمي عن طريق الاستشهاد بالإصلاحيات التي لقت معارضة من التيار المتشدد وأعجبت بعض الكتاب الجدد هذه الفكرة ما دام أنها تعزز مساره النفعي في الكتابة .

الغريب أن مثل هذه الفكرة على الرغم من أنها تم تناولها مبكرا منذ الخمسينيات إلا أن كتاب تلك المرحلة أكثر وعيا وإحساسا بالمسؤولية فعندما طرح الكاتب (فهد المارك) في 16 / 1/ 1478 هـ في جريدة البلاد هذه الفكرة حيث حمل المجتمع المسؤولية دون السلطة ، جاء رد (عبد الله بن خميس) أكثر عقلانية

حيث رأي أن طرح الموضوع بهذه الطريقة لا يفيد ما لم نحدد نوع المجتمع والسلطة التي نتكلم عنها .. والتمييز بينهما (ابن خميس ، جهاد قلم : فواتح جريدة الجزيرة ، 1404 هـ / 1984م ، ص 456).

الرأي السلفي التقليدي أكثر تقدما حول هذه الفكرة من بعض مثقفينا الآن لأنهم يتبنون مفهوم "كما تكونوا يول ّ عليكم" دون الحاجة إلى سرد المدائح للأقوى وهجاء الأضعف .

مما يلاحظ في صحافة الرأي أن الرؤية الإسلامية الحركية لم يكن لها حضور ، على الرغم من وجودها في المجتمع مبكرا ، فمع أن الإسلاميين انتشروا أفقيا في كثير من المجالات إلا أن الصحافة ظلت محصنة من اختراق وسيطرة نشاط التيار الإسلامي في التحرير والكتابة باستثناء وجود هامشي لا يذكر

وهذا يتعلق بموقف الصحافة المبكر من هذا التيار ، إضافة إلى أن السياسي لم يسمح بهذا كما حدث في مجالات أخري وتزامن مع هذا موقف التيار الإسلامي السلبي من الإعلام وعوائقه الفقهية .

لقد ظلت أهم المجالات التي استمرت مع تطورات الصحافة المقالة الاجتماعية الخدماتية فهي المجال الأكثر حرية ، وهو شبيه بالمجال الرياضي حيث المساحة الواسعة للنقد والتحليل وإبداء الرأي ، ثم إن رؤساء التحرير تحت مبرر التسويق وخدمة المجتمع يضعون لهذا المقالات أهمية لأنها الأسهل في الابتعاد مخاطر الدين والسياسة وهي لا تحتاج إلى مهارات كثيرة وعمق ، وإنما هي مجرد تعليقات على رسائل قراء ونقل شكاوى الجمهور .

المقالة الاجتماعية.. وهموم المجتمع

" وكثيرا ما سألت .. لم يندر لدينا وجود كتاب مستقلين ، فأكثرهم .. محسوب على اتجاهات متضاربة ، وأكثرهم إن انتقد هذا بخر ذاك .. وإن ابتعد من هنا دنا من هناك" (لطيفة الشعلان مجلة المجلة 9/10/2005م)

تجربة المقالة الاجتماعية هي الأهم والأكثر حضورا في جميع المراحل لدرجة أن بعض الصحافيين يتصورون أن الكتابة حول موضوعات أخري سياسية وفكرية ونوع من الترف الذهني وبعيدا عن هموم الناس لأن المقالة الاجتماعية تعزز دور الصحافة الاجتماعية والتنموى ..

ولا أحد يشك في أهمية المقالة الاجتماعية بمختلف القضايا التي تطرحها وأنها مكون أساسي لرسالة الإعلام ودوره في خدمة المجتمع والدولة .

لقد استعرضت بعض ملامح خطاب المثقف السعودي في بعض القضايا ولا شك في أن الكتابة الإجتماعية من أبرز المؤثرات في الذهنية السائدة في تشكيل العقلية الرسمية والشعبية ، ويعبر أسلوبها عن طبيعة كل مرحلة ومستوى الحريات فيها ..

ومن متابعة مبكرة ومعايشة لتفاصيل التفاعلات حول هذا النوع من الكتابة منذ مراحل مبكرة لا قراءة أرشيفية متأخرة ، أو على الطريقة الأكاديمية في الحصر والتبويب وفق فنون المقالة بل هي رؤية بمنظور إعلامي اجتمع فيها حس القارئ العادي ، والمراقب الإعلامي المهتم .

لقد أتاحت لى هذه المتابعة اليومية المبكرة التعرف على ملامح كثيرة حول رؤية السياسي وإداراته للتنمية وشؤون المجتمع واطلاعه على التغير في الذهنية البيروقراطية ومعرفة نوعية تفكير الجمعور والقراء ومقارنتها بين مرحلة وأخرى؛

والتطور في أساليب الكتاب الطارئين على هذه الكتابة أو المحترفين وخصائصهم الذاتية التي تميز بين " المتمصلح " من أجل علاقات عامة شخصية ، وبين الكاتب المحترم لقلمه والمدرك لدوره في خدمة مجتمعه.

ومن لم تتوافر له المتابعة اليومية سيجد صعوبة في تصور التطورات في هذا المجال فالصحف اليومية يغلب عليها هذا النوع من المقالات ، ولن تنفع الاختيارات الانتقائية لوضع تصورات حول طبيعة هذا الخطاب

في كل مرحلة تبرز قضايا معينة تأخذ حيزا كبيرا من النقاشات والجدل الاجتماعي حول قضايا كالصحة والتعليم والقبول في الجامعات ، ومشكلات التوظيف والسعودة وغيرها

هذه المشكلات أصبحت تؤرخ لطبيعة كل مرحلة وهمومها ففي أواخر السبعينيات والثمانينينات كان الطرح السائد مشكلات الحفريات والشركات المقاولة وساهمت أيضا الرسوم الكاريكاتورية في تصوير طبيعة المرحلة .

وهنا قضايا مثل انتشار ظاهرة الطلاق وظلم المرأة والطفل ، وظاهرة التفحيط والسفر للخارج ، وظهرت الشكوى من الخطوط البرية ، وظلت مشكلات الصحة الأكثر حضورا في كل المراحل ، ومشكلة المباني المدرسية والصند وق العقاري .

في التسعينيات تراكمت مختلف مشكلات التنمية بسبب التعثير في بعض مشروعات التنمية واستمرار العجز في الميزانية .. حتى أصبحت هناك مشكلات في الحصول على مجرد رقم لهاتف ثابت ، وتكونت سوق سوداء لذلك .

وهناك أيضا النقد لمشكلات الجوازات والاستقدام والعمالة والرسوم الخاصة بصورة غير مباشرة .. ومع صعوبة الظروف المعيشية للمواطن كثرت الكتابة عن الراتب المسكين والفواتير والاستهلاك .

وهناك مقالات الشكاوى والمعاريض الشخصية ، وكتابات تعالج مشكلات إدارية وقضايا بيروقراطية ، من خلال مشكلة مواطن تواصل مع الصحف حول مراجعاته للدوائر الحكومية أو مع شركات القطاع الخاص ووكلاء السيارات والأخطاء الطبية ، واحتكار التجار وارتفاع الأسعار .

وهناك المقالة التي تشبه المعروض المباشر وعندما يتجاوب معها المسؤول يأتي الشكر من الكاتب نفسه ، ما يزيد علاقاته مع المسؤولين وجمهور القراء .

الأخلاق والانحراف السلوكي من القضايا التي تعالجها الكتابة الاجتماعية وتؤرخ لمشكلات المجتمع وظواهر الانحرافات في كل مرحلة والتي حدثت مع متغيرات التنمية والتفاعل مع أخبار الجرائم بالقدر الذي يسمح به الرقيب .

وقضية المخدرات أخذ أيضا حيزا كبيرا منذ منتصف الثمانينيات وعلى الرغم من ذلك فالمتابع في مراحل سابقة يلمس التحفظ الرسمي الشديد على أخبار الجرائم مقارنة بالتسامح الحالي وهي مادة مفضلة عند جميع الإعلاميين في العالم لما تقدمه من خدمة تسويقية وإثارة .

لقد تزايدت مساحة الحرية في نشر أخبار السرقات والقتل وأنواع الجرائم بعد مراحل طويلة من التكتم والسرية ، حيث لا تتاح الإحصائيات إلا للخاصة وبعض الباحثين عن موضوع الجريمة وكان لهذا التكتم في نظر البعض إيجابياته التربوية

حتى لا يحدث تطبيع ذهني مع الجريمة وأخبار العنف بجعلها مادة للعامة وهناك آخرون يرون ضرورة نشرها لتوعية المجتمع بحقيقته ، بعيدا عن المثاليات وأن دور الإعلام هو كشف الواقع بما فيه من خير وشر وقد تأخر السماح لنشر هذه الموضوعات بعد أن رأس السياسي أن نشرها قد يسهم في توعية المجتمع ، ويزيد من مقاومته لهذه الظواهر .

الحريات .. في المقالة الاجتماعية

كثيرا ما يستشهد بعض الصحافيين وحتى رؤياء التحرير بالحريات المتاحة في الصحافة وإبداء إعجابهم بالتطور الذي حدث ، أما بعض الكتاب الجدد

فيرون أن ما يحدث قفزة كبرى في الحريات الصحافية هذا الطرح عندما يأتي من رجل الشارع ، فإنه يكون مقبولا لأنه لا يملك تصورا عن دور الإعلام ورؤية تاريخية له في مجتمعنا ولهذا دائما ما تتعجب الذهنية التقليدية من الاريحية الحكومية في نقد الخلل في الخدمات !

مشكلة الانبهار بهذه الحرية التي يرون أنها جديدة ليست فقط بأنها تصور خاطئ فمن الناحية العملية التاريخية تعتمد الصحافة السعودية بدرجة أساسية على هذا المجال في الحريات الإعلامية

وقد مرت الصحافة بمراحل نقدية في الشأن الاجتماعي أقوى منذ الخمسينيات ، ولم ينقطع هذا النقد في الخطاب الصحافي حتى في أسوأ المراحل حرية في الإعلام المحلي ما بين عامي 1985 م، 1995م .

وتكرار هذا التعجب يوحي بأن هناك أمرا جديدا لم يحدث من قبل في الحريات الإعلامية ، ويجعلها فرصة للتطبيل الفارغ من الحقائق التاريخية وكأنه كرم غير مسبوق من الرقيب .

ليست مشكلة مثل هذا الطرح أنه غير دقيق ، فهو أيضا نموذج للخلط بين خطاب الصحافة ، وخطاب الإذاعة والتلفزيون اللذين كان خطابهما مثاليا ومن الصعب أن يقدما جريئا بسبب رسميتهما الزائدة وهما يمثلان خطاب الدولة بعكس الصحافة الأكثر تحررا التي قدمت في مراحل عدة نقدا اجتماعيا .

من الناحية العملية .. لو تم منع هذه الحرية في الصحافة وهامش الخطاب فيه ، فإن العمل الصحافي لن يوجد في حده الأدني وبالتالي هذه الحرية ضرورة صحافية لابد منها فلا يمكن تصور أى قيام صحافة من دونها ، ولو تم تضييق هذه الحرية فلن توجد مجالات أخرى للكتابة خاصة في أجواء صحافية محظور فيها الشأن السياسي والديني تاريخيا في مراحل سابقة .

ومشكلة هذا الانبهار أنه لم يدرك تفاصيل ما يحدث من تطورات وتغيرات في الصحافة المحلية ، فالواقع أنه حتى في المجال الاجتماعي حدثت تراجعات نسبية كثيرة ليس بالضرورة بسبب الرقيب وإنما بسبب نوعية العاملين في الصحافة الذين كثر تمصلحهم الذاتي مقارنة بالسابق ، وأخذ خطاب النقد والمدح الخدماتي سبيل منافع شخصية !

إن المسؤول لا يستطيع أن يمنع هذا الطرح في حده الأدني ولا يمكن له عمليا وبمرور الوقت تشكل خطاب له سمات محددة بين الصحافة والمسؤولين وفق آليات خطابية عرفية يدرك المتابع لتفاصيل هذا الخطاب درجة التغير في الجرأة بين مرحلة وأخري .

سمات الخطاب الإجتماعي

المنع أو التشديد الرقابي الزائد غير ممكن عمليا وإلا فلن يوجد عمل صحافي يمكن القيام به التجربة السعودية أنتجت خطابا صحافيا خاصا بها في الشأن العام الاجتماعي يتناسب مع التقاليد السياسية المعتبرة في الدولة

حيث تشكلت لغة محددة في النقد المقبول عرفا في الصحافة ، لهذا عندما نصف المقالة هذه بأنها جريئة ومتجاوزة للعرف النقدي ليس في الموضوع وإنما في الصياغة، ومخالفتها للتقاليد الكتابية في هذا المجال

وعندما يبرز كاتب جديد في هذا الشأن ويبدأ تأثيره وإعجاب القراء به ، فإنه يتم ترويضه بسرعة إذا كانت لديه هذه القابلية أو إيقافه وبعد فترة من الترويض يبدأ يشكل هذا الخطاب مدرسة خاصة به على الطريقة "السماوية" قديما أو "الشيحية" حديثا !

ويمكن إيجاز هذه الخصائص في ما يلي:

  • نزع المضمون السياسي في النقد الخدماتي وهنا تبدو مهارة الكاتب في إبراز لغته الخاصة ،فبعضهم يغرق في النقد الفني البحث أو الشخصي لممارسات إدارية لجهات معينة غير حساسة
دون توجيه نقد للمنظومة الإدارية والسياسات العامة فيتم تحميل الخلل في بعض الجوانب الخدماتية على مديرين وعاملين صغار هذا الطرح النقدي الخالي من الوعي الفكري والسياسي التنموى في الإدارة يمارس في حالات كثيرة نوعا من التفريغ لمضمون المشكلات عن حقيقتها
عبر إثارة معارك هامشية مفتعلة ليست مصدر الخلل في الخدمات ، خاصة أن هؤلاء الكتاب يدرك بعضهم أن المسؤول الصغير هو الآخر لا يستطيع التصريح بأسباب التقصير الحقيقية هذا الخطاب النقدي كان له ما يبرره خلال مراحل عدة عند الكتاب والصحافيين بحجة أنه يتيح لهم تناول هذه القضايا الخدماتية والاجتماعية ، كأن الإعلامي يمارس هنا خدعته مع الرقيب الرسمي .
  • كان هذا الخطاب له ما يبرره في البدايات الصحافية لأن ذهنية المجتمع تقليدية في علاقتها بالجهات الحكومية ودورها ، فتبدو الحكومة كتلة واحدة تختزل بولي الأمر فيظن أن أى نقد موجه لها موجه للكل ، وبمرور الوقت تغيرت هذه الرؤية ، وأصبح هناك تمييز بين الخطأ الجزئي الفردي والخطأ العام للجهة الحكومية أو الدولة .
  • في إحدي حلقات برنامج طاش عندما طرحت أزمة أسعار الغذاء ، والإشارة إلى أن هذا النقد ليس كلاما في السياسة ،في نظر الكاتبة (إيمان القويفلي) بأن هذا يفيد المواطن حتى يحرر لسانه ويفيد المسؤول الكبير من المسؤولية ويعتبره شأنا إداريا بسيطا (كلام في السياسة ، الوطن ، 15/ 5/ 2008)م .
  • مثل هذه الرؤية التي تقدمها الكاتبة نادرة جدا في الصحافة وهي نوع من المتابعة الدقيقة للغش والتدليس الفكري المقصود أو العفوى !
  • إن فكرة فصل خطاب الخدمات عن السياسة تذاك في غير مكانة ، خاصة أنه من الناحية العملية يصعب فصلهما دائما لأن الخطاب التقليدي في النجاحات يمدح السياسي ، وفي الاخفاقات يحمل الصغار المسؤولية !
إن استمرار الفصل المبالغ فيه أضعف شخصية الصحافة وقيمتها كسلطة رابعة وتحولت إلى مطبوعة داخلية لبعض الجهات الحكومية وإشعار بالملاحظات الفنية وتحولت في نظر بعض رؤساء التحرير إلى دور خدماتي بحت!
مع الاعتراف بأن نزع الجانب السياسي في هذا الخطاب كان له بعض الفائدة في تخفيف حساسي الرقيب من بعض الموضوعات المهمة وأنه ساعد على الفضفضة الشعبية ، وصنع ضحايا لكل أزمة من المسؤولين ، كما يقوم أهل الرياضة بتحميل المدرب المسؤولية !

لا شئ أسوأ من التسييس المصطنع للقضايا الثقافية والدينية وحتى الاجتماعية ، في تدمير الوعي بالتحديات الحضارية لأى مجتمع ، لكن المبالغة في نزع المضامين السياسية هو تسييس من نوع آخر فكما يجب رفض التسييس الثورى فإن تسطيح القضايا يؤثر في الرؤية الواقعية للأزمات ، ولا يمكن أن ينمو الوعي من دون رؤية سياسية عامة لكل مجال .

ليس المطلوب الصدام وافتعال خصومات سياسية مع الجهات العليا بحجة الجرأة والإصلاح ، لكن هناك ضرورة لتفسيرات جادة لأسباب الخلل التنموي بصورة يدركها من تعايش مع بعض مشكلات العمل البيروقراطي دون مغالطات

فالخلل الاداري لا يعفي السياسة من مشكلاتها في الواقع ، فبعض الأزمات التنموية ليست قضيتها خللا إداريا فقط ، بقدر ما هي مشكلة في السياسات العامة .

إن غياب هذا الجانب يضعف الوعي الحضاري التنموي ، ولا يشكل ثقافة تراكمية إدارية جادة فالكثير من أخطاء تنمية الطفرة ومشروعاتها لم تقدم الصحافة رؤى جوهرية عنها يمكن الرجوع إليها لنستفيد منها في الحاضر .

لقد تطور الوضع إلى مراحل بدأت مربكة للبعض ، عندما دخلت الدراما في النقد الخدماتي الساخر جدا ممثلا بتجرية طاش المبكرة وما قبلها من دراما سعودية لكن طاش جاء بعد فترة انغلاق شديدة في مرحلة الوزير على الشاعر وقد فوجئ المجتمع بهذه النقلة و تصور أن هناك خدعة ما ، هو يشاهد السخرية المرة في خدمات الهاتف ، والمرور ، والبلديات ..

قبل أن يدرك الجمهور والمسؤول أن النقد الدرامي فعلا لا يضر ولا ينفع وأنه يجعل الناس يتكيفون مع مشكلاتهم عندما تتحول إلى مادة للسخرية .

وعندما شعرت الدراما المحلية بأن هذا النقد مرغوب جماهيريا وسهل التنفيذ ، فقد بالغت الدراما في التصوير الساخر بشكل ممجوج على حساب القيمة الفنية المطلوبة وقد أشار الكاتب (عبد الله بخيت) إلى " طغيان المفهوم الخدماتي للأعمال السعودية ، وفي نظره أن النجاح الخدماتي الذي حصل عليه طاش جعل معظم الأعمال السعودية مغازلة لهذا الجانب .." (الدراما السعودية ومحلية القضايا ، الجزيرة ،27/ 10/ 2007)

في حالات متعددة تحولت هذه المقالات إلى تمصلح شخصي ، فتأتي البداية في الكتابة الصحافية قوية ، مع الحماس الذاتي حول هموم المواطن ومشكلات المجتمع لكن مع تطوّر العلاقات الجديدة بسبب اتصالات ولقاءات المسؤولين تبدأ مرحلة جديدة فينسي الصحافي دوره ككاتب وصحافي عليه أن يحترم قلمه.

تتطور الحالة عند بعضهم في استعمال هذه المقالات ، ويصبح اهتمامه بمشكلات الكادحين مجرد شعارات ، مقابل ذلك هناك من يكتفي بهذه العلاقات الشخصية الجديدة فلا تؤثر في صدقية قلمه ومحتوى ما يطرحه .

وهناك من يتذاكي في حيله النفعية ، وتعتمد هذه الطريقة على أساليب عدة فيكتب مقالة لاذعة لإحدي الجهات ، ثم بعد أيام يقدم ثناء حارا بمجرد أن المسؤول اتصل به

وكأن المشكلات الخاصة بتلك الجهة مع المواطن تم حلها ، وبعد مدة تتطور لديه حاسة ما يريد المسؤول مع الاتصالات المتكررة والعلاقات الجديدة فيبدأ بتقديم هذا النقد بالطريقة الاستعراضية التي تبهر القارئ وتعجب المسؤول .

هناك الأسلوب الساخر جدا الذي يخفف من قدرة الرقيب على تقييم المسموح والممنوع ، وهذا الأسلوب لا يجيده إلا كتاب أصحاب خبرة موهوبون في هذا المجال وقد نجحت بعض الأسماء في صحفنا ويأتي في مقدمها (عبد العزيز السويد) خلال أكثر من عقدين ، أخذت مقالاته خطأ محددا ، مع قدرة على متابعة القضايا بحس صحافي حيث يتعرض قلمه أحيانا إلى مصادمات مع الرقيب

على الرغم من أن الكاتب ليس متهورا ولديه خبرة صحافية في تقدير المحظورات ويظل هذا الكاتب من أبرز الكتاب الذين أخلصوا لقلمهم ولم يتحول إلى التمصلح المكشوف للقارئ .

كان لـ (داود الشريان) قدرة في الكتابة الساخرة ، وقد نجحت أعمدته القديمة في هذا النوع من الكتابة بالطريقة الشعبية قبل أن يتحول في العقد الأخير إلى الكتابة السياسية .

ويجيد هذه الطريقة بأسلوب مسرحي الكاتب (عبد الله الفوزان) مع أنها لا تخلو من الاستعراضية ، وأفضل مقالاته وأجرؤها في المجال الاقتصادي وكثيرا ما يتناول الكاتب قضايا مهمة وذات حساسية في الاقتصاد ووزارة المالية ، لكن الفذلكة الزائدة أحيانا تفسد مضمون النقد الذي يقدمه ويفرغه من مضمونه ، ولا يجعله قابلا للنشر

وقد طرح أسئلة بحد ذاتها غير معهود تناولها حول البنوك ودخل النفط ، ومع أنه تعرض للإيقاف أكثر من مرة فكتاباته على الرغم من قيمتها الصحافية وجاذبية قلمه إلا أنه يسئ إلى هذا الجهد النقدي بالإشباع الكاذب للقارئ .

في جانب آخر هناك الكثير من النسخ "السمارية" على طريقة الكاتب (عبد الرحمن السمارى) في النقد الاجتماعي بأسلوب مطور قليلا، على الرغم من أن بدايتها الأولي كانت أكثر من ممتازة

فـ (صالح الشيحي) مثلا لفت الأنظار بقلمه الرشيق في البدايات قبل أن يتحول إلى خط كتابي آخر ، ولم يسعفه ذكاؤه في النجاح في المرحلة الثانية بعد أن اتسعت المصالح والعلاقات حتى روحه الخفيفة وجاذبية قلمه الأولي تحولت إلى كتابة باهتة ، على الرغم من محاولات بين فترة وأخرى ليظل مهموما بالكادحين .

رؤساء التحرير

" نتحول في بعض الأحيان إلى "رئيس للتبرير" وليس رئيسا للتحرير لأنه مضطر في كثير من المرات إلى تبربر ما ينشر في الصحيفة لصناع القرار " عثمان العمير (الشرق الأوسط ، 25 / 10/ 2002)

تميزت العقود الثلاثة الأخيرة حتى مرحلة ما بعد أيلول (سبتمبر) في صحافتنا المحلية بقدر الثبات الاستقرار الطويل ، فلا صحف جديدة ولا وجوه جديدة تظهر وفق المعدل الطبيعي المعتاد في إعلام الصحافة في العالم

كان استقرار رؤساء التحرير من أبرز ملامح هذه المرحلة منذ السبعينيات هذا الاستقرار جعلهم جزءا أساسيا من ثوابت المرحلة ومكوناتها خطابها السياسي والثقافي والاجتماعي وظهر تأثير منهجهم الصحافي ، وكانت اختياراتهم المفروضة واضحة في ترسيخ القيم والتقاليد الصحافية السعودية المرغوبة رسميا .

عندما نشير إلى بعض الأسماء هنا، فليس الهدف كتابة سير ذاتية لهم ولا تقييم إنجازاتهم وإخفاقاتهم بتفاصيلها ، إنما هي رؤية عامة من متابع قديم للتحولات في مشهدنا الصحافي ودور هذه الرموز الصحافية في بلورة الوعي المهني .

أدرك حساسية تناول الأسماء خاصة في المجال الصحافي ، لأن المعتاد أن تناولها لا يحدث إلا وفق خيارات محكومة بذهنية صراعات فكرية أو تمجيد نفعي ولم نعتد أجواؤنا الصحافية خلال أكثر من عقدين النقد العقلاني المتبادل بين المهتمين في الشأن الصحافي .. لاعتبارات وحسابات يعرفها أى متابع لأجواء الصحافة والسياسة المحلية .

يهدف هذا التناول الموجز إلى الخروج من إطار حديث العموميات والأفكار المبهمة إلى درجة من التحديد ، كما هو الحال في فصل العقل الديني والثقافي .. وغيره لتحديد مظاهر الأخفاق ومعالم الإنجاز ، والعيوب والمميزات عند هذه القيادات .

إن مجتمعنا بمختلف فئاته بحاجة إلى تسجيل الخبرات المتراكمة والانطباعات التي تشكلت ولن توفرها البحوث الجامدة وهذا التقييم ليس نتيجة متابعة مؤقتة لسنوات معدودة وإنما معايشة طويلة بتفاصيلها المملة لكل تطورات الصحافة التي سيكون لها وقفة أخرى في غير هذا الكتاب عن الإعلام .

تركي السديري .. بين الرسمية والمهنية

توافرت فيه العديد من المواصفات التي جعلته من أبرز الأسماء في الصحافة السعودية خلال أكثر من ثلاثة عقود ، وكان لنجاحه في نقل جريدة الرياض لتصبح في مقدمة الصحف السعودية خاصة في مرحلة التسعينيات دور في هذه المكانة جعلت منه مدرسة صحافية تجمع ما بين المهنية والرسمية الإعلامية وأصبح منهجية ورؤيته مؤثرين في الوسط الصحافي المحلي .

إننا أمام تجربة مهمة للأسف لم يكتب عنها ولم يقدم هو على كتابة مذكراته وهو الذي عاصر تحوّلات تنموية كبرى وهو في ميدان الصحافة

وكان (عبد الله الغذامي) محقا في رسالته للسديري في قوله:

" ستظلم نفسك وتظلم التاريخ معك إن اكتفيت بمقالك ولم تعقد النية على كتابة قصة العمل الصحافي وهذه الـ (450 ريالا) وما وراءها من ضعف البصر والمعدة المقصوصة ، كلها نداء عميق عن باقي الحكاية اشترك معك في ضعف البصر
وأحس أيضا بحكايتك من بين سطورها الأولي ، لابد أن تكتب حكايتك ، وأنا أدين كل إنسان ذي تجربة ثم يبخل بها على التاريخ ، في ثقافتنا العربية نقص كبير في ميدان السيرة الذاتية ، وفيها اكتفاء معيب بالقص الشفهي دون تدوين ..
دون نصك ودون نفسك .. وقل للناس كيف يبدأ الإنسان من الصفر ليصل بعد صبر وجلد إلى مواقع لم تكن في خياله حين بدأ ؟ مقالتك إغراء ثقافي.. وبما أنها كذلك فهي مسؤولية أخلاقية في أن تبوح وتكشف وتقول ما الحكاية .."

ويرد السديري :

" .. ليتني كنت أتوقع بعضا من أهميات ما حدث في الماضي .. أشياء كثيرة .. كثيرة لو كتبت من غير توقيع مؤلف لتم تداولها على نطاق واسع لأن فيها وضوحا لمراحل التحولات الهائلة جدا من مجتمع قرية الطين إلى مجتمع مدينة الأبراج وشوارع الثمانين مترا .. من مستشفي واحد يسميه العامة " الصحية " إلى محاولات الحاضر بنشر تواجد طبيب الأسرة ..
من حلقة الدرس حول مطوع المسجد إلى ما يزيد على العشرين ألف مبتعث علمي وعشرات الجامعات في المدن الثانوية (..) ليتني كنت أدرك نوعية ما سيحدث في البدايات .." (تركي السديري ، في:الرياض 14 / 4/ 2008).

لا أدري هل يستطيع السديري أن يكتب بعضا من هذه السيرة ؟ وما مساحة الحرية في أن يقول ما هو مهم لذاكرة الوطن ؟ فمع تميز أداء السديري الإعلامي وتميز قلمه فإن أهميته تكمن بأنه لا مزايدة على حكوميته بحكم مكانته ، فيما لو كان شفافا في بعض هذه الذكريات فهو منذ البدايات المبكرة كان يملك وعيا متقدما

لكن بمرور الزمن كان ثقل الرسمية يكبر ويفرض عليه أداء صحافيا وكتابة وفق شروطها خاصة في أهم مراحل ما سمي بالحقبة السعودية .

السديري ليس مجرد رئيس تحرير أو إدارى صارم بقدر ما أنه يملك رؤية تظهر بين فترة وأخرى في كتاباته التي تتفوق على العديد من كتاب الرأي ، ورؤساء التحرير الآخرين .. لقد تميزت كتاباته في أزمة التسعينيات في الدفاع عن الوطن ، بدأ وكأنه يقوم بدور "هيكل" سعودي في تلك اللحظة .

حافظت جريدة الرياض في عهده منذ نهاية الثمانينيات إلى نهاية مرحلة التسعينيات على تميز واضح ، بعد خروج المنافس التقليدي جريدة الجزيرة وأصبحت صفحات الرأي في تلك المرحلة من أقوى الصفحات تأثيرا في الساحة الفكرية ، مع وجود نحبة مميزة من الكتاب ، وساعد في تحقيق هذا النجاح مجموعة عوامل حقق من خلالها نجاحا إعلانيا

لافتا للقارئ العادي حتى أصبحت الجريدة تعاني من تخمة في الإعلانات حتى في أشد المراحل كسادا في الاقتصاد المحلي .

لقد جاءت أهمية "الرياض" كاسم لعاصمة الوطن ، ما يجعلها محكومة بمتطلبات هذا الإسم داخليا وخارجيا ، وللصحافة أيضا مرجعيات لقوى داخلية في كل منطقة يعرفها المتابع ، وجاءت أهمية الرياض في المرجعية المحسوبة عليها .

كانت كلمة الرياض ومقالات السديري في أهم المراحل تقدم رؤية للمتابعين والنخب التكنوقراطية ورجال الأعمال عن بعض ملامح الاتجاهات الرسمية في التعمل مع أزمات داخلية وخارجية .

لقد اشتهر في الوسط الصحافي بصرامته التي توصف أحيانا بالديكتاتورية إلا أنه يمارسها بقدر من الأبوية الإدارية ما يخفف من سلبيات هذه الشدة واستطاع صنع كفاءات صحافية وإبرازها .

جاءت قمة تميزه الصحافي ونجومية قلمه ما بين عامي 1990 ، 1995م وهي من أشد المراحل على السعودية في مواجهات داخلية وخارجية، حيث تألقت الرياض وأثرت في رؤية الكثيرين .

على الرغم من استقلاليته التي تظهر أحيانا إلا أنه يمثل الرؤية الرسمية في كثير من آرائه وأهم من يدافع عن وجهة نظر الدولة في كثير من الأزمات وأفضل ما يقدم مدائحه للرموز المهمة وهو أفضل من يمثل الرأي الرسمي والدفاع عنه وإقناع القارئ به ، بمواقف الدولة وعقلانيتها وأصبح من أهم المصادر في تصور استراتيجية الدولة ورأيها

وعلى الرغم من إنجازه اللافت في جريدة الرياض ، إلا أنه ظل جزءا من إشكاليات الصحافة السعودية في تأصيل تقاليد تعطل الصحافة عن أداء بعض مهامها التنويرية في الفكر والسياسة، وتجاوز بعض المعايير المهنية في الممارسة الإعلامية .

لم توجد تحولات جذرية في قلمه على الرغم من الفترة الزمنية الطويلة التي كتب فيها وتغير المراحل ، وكانت أقوى كتاباته السياسية في مرحلة ما بعد أزمة الخليج فقدم مقالات مميزة جدا وتاريخية بطرحها العقلاني في خدمة الرؤية الرسمية منها:"هنا بحث الإسلاميين عن الإسلام والأمن" (الرياض ، 26/ 4/1415هـ) .. وفيها يستعيد ذكريات قبل ثلاثة عقود عندما يسير في بيروت وينظر إلى بلده ..

ثم يشيد بتمسك الدولة بأصالتها .. وكيف استقبلت شخصيات إسلامية ذكر منها على الطنطاوي وعبد الرزاق عفيفي والصواف ومعروف الدواليبي ، ومناع القطان جاءت هذه المقالة بمناسبة ولحظة صدام الحكومة مع تيار الصحوة واعتقال رموزها وهو معالجة غير مباشرة لها حيث كان تناول هذه الأزمة في الصحف محظورا .

وفي (27/4/1415هـ) كلمة الرياض: "الاعتدال وسط الصخب والمنزلقات" .. ويكتب تركي السديري "النموذج الأرقي" امتدادا لمقالته السابقة واستعرض مرحلة الملك فيصل ومواجهته للتيارات القومية والثقة بإسلامه (لسنا مجتمع تسلط وقتل الرياض 14/ 5 / 1415 هـ)

كانت مقالات الخميس بعيدة عن السياسة وقضايا المجتمع ، تحلق في عالم الرومانسية كمؤشر على تفوقه في الكتابة عن زملائه من رؤساء التحرير في تلك المرحلة "نوافذ البلور" 23(مايو) 1991 م :

" قالت وماذا بعد ؟ حدثني أيها الرجل الخرافي .. إنك تعيدني إلى عصر الأساطير .. قل لى كيف تري الأشياء من خلالي ؟ وأخذت نظراتها تتقافز حول شفتيه كفراشتين تحومان على هامة زهرة فتية التفتح ..
قال .. فأنت أمامي تتناثرين كبلور سحري كلما أطل بي على سواعد مبهجة نقلتني نظرة أخرى من بعض تكويناته على عوالم اكثر ابهاجا وإثارة .. تتناثرين في مثل انتشار شمس استوائية تتقد بوهج أنوثة بغزو بالدفء الممتع كل مسامات البشرة "..

وفي مقالة "عصفورة البداوة" يكتب:

" لا تتهمي هذا العصر يا سيدتي .. صحيح لكم يلذ في حلم رومانسي ممتع أن نتخيل امرؤ القيس يغرس مرفقه في كثيب رمل ، وهو يجمع بنظراته الحادة امتدادات الأفق .. حوله مسارخ ظباء أجملهن فاطمة " (عصفورة البداوةى 12 / جمادي الآخرة 1414هـ)

في مثل أجوائنا الصحافية ، يبدو تركي السديري أفضل من يمثل النموذج الصحافي شبه الرسمي ، حيث قدم خطابا جذابا وذكيا في التسويق لسياسة الدولة في غير مرحلة ، والتأثير في ذهنية القارئ

مقارنة بما قدمه ويقدمه صحافيون آخرون، إنه يقدم ثناءه على الرموز والمنجزات الوطنية بصورة غير تقليدية قياسا على جمود وتقليدية كتاب تلك المرحلة .

خالد المالك .. تفوق الصحافي القديم على الجديد

كانت عودة للصحافة بعد انقطاع عقد ونصف منذ مغادرته جرية الجزيدة في منتصف الثمانينيات بعد نشره لقصيدة غازي القصيبي الشهيرة " رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة "..

خلال فترة الانقطاع الطويلة كسب خالد المالك سمعة كبيرة في الوسط الصحافي ، كنموذج لرئيس تحرير ناجح ، وأن له دورا في بروز نماذج صحافية أخرى مثل عثمان العمير ، وعبد الرحمن الراشد ، محمد التونسي ، ومحمد الوعيل .

كانت الجزيرة قبل خروجه منها في عصرها الذهني، قبل أن تبدأ مرحلة الانحدار الشديد، ولم يستطع المالك بعد عودته المتأخرة إنقاذها من الضعف الذي لازمها لأكثر من خمسة عشر عاما ، وقد استفادت جريدة الرياض كثيرا من غياب المنافس التقليدي لها خلال هذه المرحلة .

كان خروج المالك سابقا لمرحلة انحدار مستوى الإعلام والصحافة وزيادة الرقابة في عهد الوزير على الشاعر ، لقد كان جزءا من النجاح القديم الذي أحرزه المالك ، فالصحافة كانت في عصرها الذهبي ما بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات .

عاد المالك وهو أكثر تقليدية ، وبدأ يخسر شيئا فشيئا تلك السمعة القديمة التي ازدهرت في غيابه ، واختلطت فيها الحقائق بالمبالغات .

لقد كانت الأجواء مهيأة خاصة في مرحلة حرية ما بعد أيلول (سبتمبر) الطارئة والتحسن المالي في ميزانية الدولة ، الذي استفادت منه جميع الصحف مع طفرة النفط الأخيرة

إلا أن جريدة الجزيرة استمرت في مستواها المتواضع في التحرير، وأصبحت مدرسة يضرب بها المثل بين الصحافيين في الضعف المهني .. بعد جريدتي البلاد والندوة .مقارنة بالسديري .. فإن المالك يفتقد مهارة الكتابة الصحافية ، ولا تجد أعمدته التي يكتبها تفاعلا ، أو قيمة في صناعة الرأي المحلي .

هاشم عبده هاشم .. مدرسة الإثارة السعودية

استطاع أن يقدم خلال أكثر من عقدين مدرسة صحافية وتجربة خاصة في جريدة عكاظ ، وأصبحت في مرحلة التسعينيات هي المقابل لجريدة الرياض ، وصنع لصحيفة عكاظ شخصية مختلفة عن الصحف الأخرى ، وشكلت منهجا صحفيا في التعامل مع الأخبار

وأساليب الإثارة الشعبية ، ومناقشة القضايا المحلية ، عبر المانشيت والصورة والتعليق ، وعلى الرغم من النقد الكثير والملاحظات على مهنيتها ، إلا أنه استطاع جعلها صحيفة تنافس على المراكز المتقدمة .. في مواجهة مدرسة الصحافة في الوسطي .

لا يمتلك مهارات السديري الكتابية ولا مواصفات مكانته الإعلامية ، لكننا أمام نموذجين صحافيين أحدهما يمثل الدهاء النجدي التقليدي والآخر يمثل دهاء القادم من أقصي الجنوب، وما يحدث بينهما من مكر ومنافسة شخصية برزت في معركة المليون قارئ .

ارتباط الصحيفتين بمرجعيات سياسية قوية أدي إلى حضورهما المهم ، وأصبحت عكاظ أفضل ممثل للصحافة في المنطقة الغربية ، والرياض للمنطقة الوسطي لم تكن لديه جرأة السديري في التجديد الصحافي والرأي لاختلاف المستوى الفكري والمكانة وهناك عيوب لازمت مدرسة عكاظ في الإخراج والاهتمام بإثارة القضايا الاجتماعية دون جرأة حقيقية .

عثمان العمير .. مهنية التحرير .. وسلفية السياسة

أخذت شهرته في الوسط الصحافي اتجاها خاصا فيه منذ البدايات، متأثرة بطبيعته الشخصية مع أداء إعلامي يعبر عن حس صحافي تلقائي مبكر ، فصنع مدرسته الصحافية منذ مرحلته الرياضية على طريقته الخاصة ، وبهاراته الذاتية التي تلائم الحالة السعودية الصعبة .

تبدو مشكلة العمير في أن مدرسته غير قابلة للتقليد ، ولا يمكن لآخرين أن ينفذوها ، لأنها مدرسة ممزوجة بتلفيق معقد من السمات ، بين المهارة الصحافية

والانتقائية النفعية لتعايش الرؤية التحررية جدا ، تحت أوامر المحافظة الرسمية جدا ، إنه نموذج معقد لا يستطيع حتى هو إعادته مرة أخرى لو اختلفت السياقات التي مرت بها تناقضات الحالة السعودية .

بدأ موقفه النقدي مبكرا من التيار الديني والمحافظ والتشدد لكن هذا الموقف لا يؤخذ في سياق المواقف الفكرية الجادة ، ولا السياسية المؤدلجة في البدايات بقدر ما هو انعكاس لتجربة ذاتية مع التشدد الديني النجدي ، أما خصومه فصنفوه مبكرا بأنه لعوب وطائش .. قبل أن تتطور المواقف في مراحل تالية .

انتقل كغيره من الصحافيين من الوسط الرياضي الذي صنع الكثير منهم ، لأنه الأكثر حرية إعلامية في ذلك الوقت ، ويتيح للصحافي ممارسة إعلامية مرنة نوعا ما ، بعكس المجال السياسي الذي كان أكثر المجالات جمودا في تلك المرحلة .

لا يمتلك قلما أو وعيا ثقافيا لافتا ، لكنه صديق ممتاز للمثقفين والكتاب ويعتني بعمله الصحافي في الشأن الثقافي ، ولديه جرأة يحاول إظهار بعض ملامحها تحت مظلة إعلام محافظ ورسمي .

يحتفظ بعلامات قوية مع مسئولين كبار ، ويقوم بأدوار صحافية مهمة في بعض الأزمات .في أحد الحوارات مع برنامج "إضاءات" أشار إلى ليبراليته لكنه سلفي في السياسة ! كانت أهم نجاحاته وتجاربه في جريدة الشرق الأوسط ، التي استلمها وهي أصلا في قمة مجدها الذي صنعه (جهاد الخازن)

يحسب للعمير أن الجريدة لم تنهر تحريريا بعد توليه لإدارتها فقد حافظت على قوتها ، لكن وجود جريدة الحياة في المرحلة نفسها أثر في بعض مكانتها في التسعينيات ، فجريدة الحياة كانت أكثر مهنية وموضوعية في معالجة الشؤون العربية والدولية .

لقد انحرفت الشرق الأوسط عن بعض المهنية في أحداث كثيرة في مراحل سابقة ، لكن الانحرافات التي حدثت في السنوات الأخيرة جعلنا نترحم على تاريخ الصحيفة الخضراء .تجربته في إيلاف أعادته للساحة الإعلامية مرة أخرى ، وأكدت تميزه الصحافي فمارس الكثير من حرياته البارزة في العمود الأيسر من الموقع وأثار جدلا بين المثقفين بما فيهم كتاب إيلاف .

لديه مشاغبات متنوعة في حياته المهنية ، لكنه في السياسة يلتزم الأدب والحشمة ، إلا حينما تصبح هناك معركة رسمية ضد جهات أو حركات أو حكومات .على الرغم من النجاحات الإعلامية التي حدثت إلا أنها نجاحات ليست عبقرية ، إنه نجاح خاص بالقوة الإعلامية السعودية ورافعتها المالية التي ستنجح أى عمل بتوفير أفضل الصحافيين العرب .

هذه التجارب كأى نجاحات أخرى إدارية في مؤسسات الدولة ووزاراتها يصعب تقييم الأداء الاداري ما دام أن الصرف المالي يغطي العيوب .

إن الحكم على تجربة السعودية في الفضائيات العربية والصحف لتقييم مدى كفاءتها المهنية في خدمة السياسة السعودية يحتاج إلى تحديد الكثير من المعايير ..ظل العمير أكثر مهنية من الراشد ، بالتفريق بين موقفه الشخصي وبين الشروط المهنية في إتاحة الفرصة للتعبير عند مخالفيه .

الراشد أفضل قلما، إلا أن موقفه الشخصي من جهات ودول وأشخاص يؤثر كثرا في تحرير المطبوعة ، ويلمسها المتابع بسهولة وزادت هذه المواقف مع الوقت في كل مرحلة تتطور فيها مكانته وقربه من صانع القرار ، وبرز ذلك أيضا في إداراته للعمل التلفزيوني .

عبد الرحمن الراشد .. سجالات المهنية

ارتبط اسمه لسنوات طويلة باسم عثمان العمير ، بسبب التزامن الطويل في الشركة السعودية للأبحاث والنشر . ووجودها في لندن في عصرها الذهبي للصحافة العربية المهاجرة .العمير في الشرق الأوسط ، والراشد في مجلة المجلة . يتفوق العمير بكفاءته وحدسه المهني بمراحل ، في المقابل فإن الراشد يتفوق بقلمه الذي تطور بمرور الوقت .

لقد استمرت كتابته في المرحلة الأولي لأكثر من عقد ونصف بصورة عادية ، لكن أهميتها في السنوات الأخيرة تضاعفت بأهمية المنصب الذي هو فيه ، والتمثيل لقوى معينة في الدولة وفي السنوات الأخيرة أخذ عموده النحيل جدا والمقارب للثلاث منه كلمة يتطور في تقنيته الكتابية ، في تقديم التعليق السياسي المتداول للأحداث اليومية .

الكتابة اليومية والتعليقات السريعة تغسل يوميا بعضها بعضا ، فمن خمس محاولات في الأسبوع أو في الشهر تبرز مقالة (أو مقالتان) ما يجعلك حاضرا في الأحداث .

دون اكتشاف تماسك المنطق السياسي في الخطاب ، وتفصيل مضمون رؤيته ودورها في إدارة المعارك الإعلامية للقضايا السعودية .. وليس هنا مكانها ، خاصة في تجربته في قناة العربية ، كغيره من الكتاب السعوديين الذين خدمتهم "دعاية الإسلاميين" من خلال شيطنة آرائه ومواقفه دائما !

تحريريا لديه موقفه السلبي من صفحات الثقافة والأعمال الصحافية الجادة والطويلة ، فهو من عشاق الأعمال الصحافية القصية .. تحت ذريعة السرعة وأن القارئ ليس لديه وقت .

وهذا الموقف من الثقافة أثر في محتوى برامج قناة العربية أيضا في ما بعد ، احتفظ الراشد بالكثير من شخصية جريدة الشرق الأوسط بعد ذهاب العمير قبل أن تتغير كثيرا لعوامل مستجدة في طبيعة السوق الإعلامية وصحافة اليوم

ولأسباب أخرى لها علاقة بالأداء الأخير ، كانت مهنية الجريدة خلال غزو العراق أثارت جدلا في مواقفها من الغزو كما أن صحفا عربية في المقابل سقطت مهنيتها تحت ذريعة الموقف القومي والديني من أمريكا .

لا يقدم في مقالاته مدحا للرموز السياسية السعودية وفق الطريقة التقليدية والمباشرة عند رؤساء التحرير لصحف الداخل .. فقد تشكل تقليد مقبول رسميا منذ الثمانينيات في أن الصحافة الخارجية تختلف في خطابها لمدح السياسة السعودية .

مشكلة أو ميزة الراشد حضور وقوة شخصيته على الطاقم الذي يديره ما يؤثر في مهنية المطبوعة التي تجامل رغباته وهذه الشخصية حضرت حتى في قناة العربية حتى أصبحت بعض أسئلة البرامج السياسية في المساء شرح لبعض مقالاته الصباحية!!

على الرغم من كثرة هجوم المحافظين من الإسلاميين في الداخل على أدائه الإعلامي وكتاباته ، والتهم الكبرى التي توجه إليه ، إلا أنهم عجزوا عن تفسير طبيعة هذه المواقف ، وتحليلها بدقة وربطها في السياق الخاص بالأسلوب السعودي الرسمي والمؤثرات عليه ..

لا أريد التعليق على مواقفه الفكرية والسياسية في كتاباته وعمله الإعلامي وغيره من الإعلاميين السعوديين فلهذا قصة طويلة مرتبطة بتفاصيل أكبر الإعلام السعودي لا يمكن اختزالها هنا .

محمد التونسي .. صحافي الشعب

من جيل العمير والراشد والوعيل ، ويختلف عنهم في أنه جاء من الحقل الأكاديمي وكون مدرسة إعلامية خاصة به ، تشكلت مع تجربته الطويلة في جريدة الاقتصادية .

مع أن الكثير من صحفنا مغرق بالقضايا المحلية ، إلا أنها من دون منهج إعلامي ورؤية ولقد صنع التونسي مدرسته الخاصة في هذا المجال .. في الحوار والخبر والتحقيق وعناوين المانشيت وأسلوب الإثارة .

لم تكن مدرسة التونسي خالية من الأخطاء المهنية لكنها كانت هي الأفضل محليا في طريقة تناوله للهموم الاجتماعية .. التي جاءت من البوابة الاقتصادية فتفاعل مع مشكلات المواطن ووقف في صفه في كثير من الحالات ضد التجار

وفتح الجريدة للشكاوى ضدهم من المتضررين من المواطنين من وكالات السيارات وأخطاء البنوك .. وغيرها على الرغم من كلفتها الإعلانية التي جعلت هذه الجهات تقاطع الجريدة إعلانيا .

من أهم مميزاته الصحافية أنه لم ينشغل في حروب ومواقف أيديولوجية مع أو ضد في المعارك الدائرة .. وكان مشغولا في مهنته فقط أكثر من انشغاله بالتوجهات الأيديولوجية ، وعلى الرغم من انفتاحه الشخصي ، إلا أنه تلقائي من غير عقد نفسية فكرية أيديولوجية .

يتذرع الكثيرون من رؤساء التحرير بأهمية المحليات وتغطية أخبارها بحجة أن هذا ما يريده المواطن ، لكن الصحف الكثيرة ظلت تعالج المحليات دون رؤية إعلامية محددة

مقابل ذلك فإن التونسي عالج الشأن المحلي وفق رؤية ومنهج خاص به ، شكل كل ذلك شخصيته الإعلامية التي تأكدت تماما مع تجربته في قناة الإخبارية التي تحولت في مرحلته إلى قناة للمواطن ومتابعة لشؤونه اليومية .. وحققت في عهده نجاحا سحب الأضواء من قنوات أخري .

إنه قادر على تحويل الشعبي إلى موضوع إعلامي .. لم تصل تجربته إلى المهنية المحترفة المؤثرة ، لكنها حالة توفيقي بين أكثر من اتجاه فليست هي شعبية عشوائية تؤثر في قيمتها عند النخب ، وليست مهنية صارمة قد تبعد شرائح واسعة من المجتمع .

وعلى الرغم من تقليديته الإعلامية إلا أنه امتاز بالجرأة الصحافية في تناول الكثير من الموضوعات ، وانشغل بها بعيدا عن المعارك الفكرية

وحتى الحملة التي قدمها إسلاميون ضده في الانترنت بحجة أنه حول القناة إلى " مشغل نسائي " حسب بعض تعبيراتهم لكثرة المذيعات والعاملات فإن المتابع يدرك أن هذا التوجه بعد أيلول (سبتمبر) قبل مجئ التونسي لإدارة القناة ، وهو مرتبط بسياسة واستراتيجية عليا .

ومما يزيد من الإعجاب بأسلوبه الإعلامي أنه على الرغم من شدة هذه الحملات ضده وضد زوجته التي كانت تعمل مذيعة في القناة نفسها إلا أنه لم يشغل نفسه وصحافته التي أدارها في ما بعد في مواقف انتقامية ومشخصنة ضد التيار الديني .

فهد العرابي الحارثي .. بين اليمامة وعسير

ارتبط اسمه في تجربته الطويلة في مجلة اليمامة في الثمانينيات (1981 م – 1992 م) في عصرها الذهبي .. بحضورها الاجتماعي والثقافي والسياسي كان أفضل الأكاديميين الذين قدموا لميدان الصحافة في تلك المرحلة

في فترة كان الوسط الصحافي فيها يغلب عليه التعثر التعليمي عند الكثير من كوادره .. لهذا ظل يطمح لما هو أكبر من رئاسة تحرير اليمامة .لقد استطاع أن يجعل اليمامة تتفوق على بعض الصحف وأحيانا على جريدة المؤسسة ذاتها ، ما أوجد صراعات يعرفها المتابع للوسط الصحافي .

قدمت اليمامة موضوعات اجتماعية جريئة وحوارات تاريخية وتحقيقات ميدانية، على الرغم من وجود منافسة كبيرة من مجلات عربية شهيرة ومجلات محلية ..لم تكن مشكلة الحارثي في مؤهلاته وموهبته وإمكانياته المتعددة، وإنما في طموحاته التي تجاوزت حدود العمل الصحافي والمهني ، ما أثر في أدائه ومقالاته .

وفقد وسطنا الصحافي اسما مهما لفترات طويلة على الرغم من أنه كان حاضرا في تجربة جريدة الوطن ، التي كان هو من عوامل نجاحها حيث عاد تداول اسمه مع جريدة الوطن في تجربة تاريخية واستطاع مع فريق العمل وإمكانيات الجريدة الكبيرة صناعة مدرسة صحافية جديدة في مجتمعنا .

مارس الكتابة السياسية مبكرا ، فكان له حضور منذ السبعينيات عبر مقالاته المطولة عندما كان مقيما في فرنسا للدراسة .. لكن يغلب عليها الرؤية التي تسير خلف البوصلة الرسمية ، ما أضعف مكانتها في الرأي السياسي على الرغم من إمكانياته الكتابية المبكرة .

داود الشريان .. من الدعوة إلى المسلمون

على الرغم من خبرته الصحافية الطويلة منذ السبعينيات ، إلا أنه لم يأخذ فرصته كاملة في تكوين مدرسته الإعلامية ، إلآ في مجلة الدعوة وجريدة المسلمون التي لم تطل كثيرا .

المفارقة أنه استطاع أن يحقق نجاحا جديدا لمجلة الدعوة ، ومع التغير المفاجئ الذي حدث لطاقم تحرير المجلة ، وكان نائبه في ذلك الوقت عبد القادر طاش .. كان مجئ الشريان نتيجة ردة فعل بسبب قضية منشورات وزعت بمناسبة استضافة كأس العالم للناشئين . وكان ورد فيها أحد الأسماء المهمة في مجلة الدعوة .

لم يكن داود إسلاميا حركيا .. لكنه في تلك المرحلة كان ذا ميول إسلامية .. وجاءت كلمته الافتتاحية في موضوع "أحسنو الظن بنا" 20 نيسان (أبريل) 1989 م ما يشير إلى اعتراضات جاءت ونقد من بعض المحافظين للتطورات التي حدث للمجلة .

في الواقع شهدت مجلة الدعوة نقلة كبري أفضل مما كان يريده الرقيب الذي غير طاقم المجلة التحريري ، وأصبحت أكثر أهمية بعد أن نقلها من تحرير بدائي تقليدي ، إلى صحافة أكثر مهنية .. وجلب كتابا كان لهم مستقبل في أحداث التسعينيات.. كـ (سلمان العودة) و (محمد المسعري)

فيما بعد .. لم يكن داود مروضا بالصورة المطلوبة ما أفقده الكثير من الفرص العملية .اشتهر ككاتب محلي ساخر جدا في لهجة عامية ، ثم مع تجربة الحياة تحول للكتابة السياسية التي لم تفشل تماما .. لكنها لم تنجح أيضا .

قينان الغامدي .. تجديد الصحافة المحلية

ظل اسمه مغمورا في عالم الصحافة المحلية لفترة طويلة، على الرغم من التجربة المبكرة .. لفت الانتباه في تجربته المثيرة في رئاسة تحرير جريدة البلاد استطاع أن يبعث فيها بعض الحياة على الرغم من أنها جريدة ميئة لسنوات طويلة ، قبل أن يتم اختطافه لجريدة الوطن التي كانت تحت التأسيس حينها .

ومع هذه التجربة اللافتة مع جريدة ميتة .. لم يتوقع أفضل المتفائلين أن تستمر المغامرة والنجاح لتنتقل لبعث الحياة من " صحيفة البلاد " إلى " صحافة البلاد " في تجربة جريدة الوطن حيث قدم أفضل وأقوى تجربة صحافية شهد لها الكثيرون بالريادة واختصار الزمن ، نقل صحافتنا من ممارسات تقليدية باهتة .

وأعمد صحافية مؤجرة لسنوات طويلة إلى مرحلة البقاء للأفض وليس للأنفع في علاقته .لقد استفادت الوطن من 11 أيلول (سبتمبر) وحراك ربيع الإصلاح . وربما كانت الصحيفة الأولي في متابعة هذه التطورات ،تأكيد هذا الحراك وأصبحت من أبرز الصحف التي تتابع خارجيا.

في زمن قصير استطاع قينان صناعة مدرسة صحافية خاصة به تجمع بين الرسمية والتواصل مع المسؤول والثناء عليه في المقالة ، والجرأة بتمرير الأعمال الصحافية والمقالات الحساسة ..

كانت تجربته فيها قدر كبير من المهنية في الإخراج ، والشجاعة، والموضوعية والتنوع الكبير لكتاب الرأي ، ربما يمكن القول إن الوطن في سنواتها الخمس الأولي أصبحت أول صحيفة سعودية جمعت بتعادل وموضوعية مذهلة جميع أطياف الفكر السعودي ..

بشكل متوازن وثري ، وكان من أبرز نجاحات هذه التجربة .. صفحة الرأي التي سحبت الأضواء من جميع صفحات الرأي الأخرى قبل أن تبدأ الصحف الأخرى مرحلة التصحيح .

كانت تجربة قينان الصحافية متفوقة كثيرا على قلمه وكتابته .. وقد استفاد من هذا القلم في مديح المسؤول مقابل توسيع حرياته المهنية كنوع من المقايضة .. كنفعية من أجل المهنية .

جمال خاشقجي .. الاستخبارات والصحافة

بدأت سمعته الصحافية مع قصة الجهاد الأفغاني وتطوراته كصحافي ميداني نشط .. مع مهام أخرى غير معلنة في حينها يهمس بها البعض وعندما سئل في إحدي حواراته عن مسألة الاستخبارات افتخر بخدمة وطنه بأى مجال .. قدم أعمالا صحافية مهمة ميدانية ، لكنه في كتابة المقالة لا يزال أضعف من أدائه المهني .

خبرته الميدانية في مناطق ملتهبة ربما تجعله في مقدمة الصحافيين السعوديين الذين لديهم خبرة صحافية حقيقية .. وتدرج طويل .جاءت شهرته الأخيرة مع تحوّلات أيلول (سبتمبر) والإرهاب .. وقد ظل محسوبا على الإسلاميين والإخوان . قبل أن تنقله الغربلة السبتمبرية إلى خانة الليبراليين بالخطأ!

اتخذ التيار الإسلامي موقفا ضده خاصة بعد أحداث أيار (مايو) 2003م بسبب مقالاته المندفعة جدا ، حيث كانت سببا في خروجه المبكر منها و حققت له مسمي اقصر مدة رئيس تحرير في السعودية

وذلك بسبب توازنات قوى داخلية لابد أن تنتهي على الطريقة السعودية المعتادة .. وقد حقق له الخروج شهرة أخرى ، وأصبحت قصة خروجه حديث المنتديات والصحافة الخارجية .

عاد مرة أخرى ، وعاد لرسميته وتقليديته مع خبرة جديدة في الحذر المهني ، ليحتل مكانة في المدرسة التقليدية السعودية الكبيرة في الصحافة وتنحدر الوطن شيئا فشيئا

ويقدم أسماء رديئة من الكتاب مع قلة منهم جيدة فغير الكثير من شخصية الوطن التي تأسست سمعتها في كتاب الرأي ، والأعمال الصحافية ومستوى الحرية ،وأخذ يتطور خطابه في تبرير الواقع السعودي على الطريقة الجديدة بعد ربيع الإصلاح .

عبد الرحمن الرويشد .. الوهابي المستنير

لماذا يأتي هذا الإسم لمؤرخ محلي معروف في سياق موضوع عن رؤساء التحرير؟

لقد ترددت في استحضاره لولا أن تجربته القصيبرة في مجلة الدعوة في منتصف السبعينيات تمثل منعطفا فكريا وإعلاميا مهما للصحافة الإسلامية المحلية ، ولكثير من الأفكار المحافظة في ما بعد ..

أدهشتني هذه التجربة التي جاءت خلا منعطف وتحول تاريخي لمجتمعنا .. بين عامي 1395هـ ، 1397هـ ، حيث استطاع تقديم تجربة إعلامية إسلامية سبقت عصرها ، في الوعي الفكري والحرية والمسؤولية والجرأة في النقد .. وأداء مهني في بيئة تقليدية .

الكثيرون لا يعرفون عن هذه التجربة لأنها انقطعت مبكرا لكنها تركت تأثيرا كبيرا في فئة من جيل تلك المرحلة .لقد انتهت هذه التجربة في عامين لكنها قدمت الكثير من الآراء النقدية ، ووجهات النظر المحافظة بقدر من الوعي والاستنارة والمسؤولية والجرأة اللافتة .

لقد جاءت من أحد أبناء الوهابية ومن الذين ألفوا عن حركة الشيخ (الوهابية حركة الفكر والدولة الإسلامية)

كانت هذه التجربة في منتصف السبعينيات ، فسبقت عصرها في طرح أسئلة منتصف الثمانينيات لتحديات التنمية في مجتمع محافظ ، على الرغم من حساسية المرحلة والتحولات السعودية الكبرى التي بدأت تسير فيها التنمية في وقتها

لكنه قدم آراءه بقدر من التوازن الفكري اللافت والمحافظ ، ولفت نظري هذا الخطاب المحافظ جدا والمتعقل في تلك الفترة المبكرة .. وقد ساهمت جرأته في مواجهة ونقد الأمور ، حتى وصلت مجلة الدعوة ما بين عام 1975 م 1985 م إلى أن تكون هي المعبرة عن الرأي المحافظ في صحافتنا المحلية

والمواجهة لأطروحات الصحافة الأخري ،فاصبحت المجلة صوت المعارضة لأطروحات الصحافة الأخري ، وقد أشرت إلى بعض ملامح هذه التجربة في مكان آخر .كانت أهم ملامح تجربة الرويشد بارزة في موضوعات الغلاف التي عادة ما تكون هي كلمة رئيس التحرير .

بدت هذه الكتابات وكأنها بيانات محددة الموقف مما يحدث من تطورات وتغيرات في الدولة مع تطورات التنمية .. ولم توجد مهنية صحافية متقدمة، لكن وجدت جرأة ومسؤولية ، وجدلا عقلانيا محافظا في عرض الملاحظات .. ويمكن اعتبار تلك المرحلة هي عصر مجلة الدعوة الذهبي الذي لم يعد حتى الآن .

يصعب في هذه المساحة حصر الكثير من المواضيع التي ناقشتها المجلة، وهنا أريد أن أشير إلى دورها من خلال بعض الأمثلة لتأريخ بعض تحولاتنا :

  • في العدد 605 موضوع غلاف ، 4 رجب 1397هـ : كانت صورة الغلاف كاملة للملك خالد ، والعنوان تحت الصورة :" هل ينتهي عصر الميزانيات ؟!" مقابل مثل هذا العنوان تجد الصحافة والمجلات الأخري تقدن عناوين تقليدية في مثل هذه المناسبة في التمجيد المبالغ فيه .
  • في العدد 590، 17 ربيع الأول 1397هـ :" لمن يعرض التلفزيون برامجه ؟" موضوع مفصل حول برامج التلفزيون ، وتصنيف لها وللنسبة المخصصة لكل نوع من زمن البث .
  • في العدد 600، موضوع غلاف ، 28 جمادي الآخرة 1397هـ: "هذا الرجل ماذا يراد منه؟ ولماذا هو وحده"؟
  • في العدد 602 ، موضوع غلاف ، 23 شعبان 1397هـ " رأي آخر في التربية الإسلامية "
  • في العدد 602 ، موضوع غلاف ، 11 جمادي الآخرة 1397هـ :" رأي آخر في الحرمين .. والقدوة" وموضوع للشيخ حمد الجاسر يقوم مجلة الشرقية .
  • في العدد 606 موضوع غلاف ، 11 رجب 1397هـ : (عصر الوفاق : آداب الحوار) وكأنه عنوان من عناوين مرحلة ما بعد أيلول (سبتمبر) وفي العدد نفسه مقالة لـ (زيد بن فياض) تحت عنوان : " لمن هذه المعونة "؟
عن تبرع المملكة بخمسين مليون ليرة لمساعدة لبنان ، وهو نقد برؤية دينية ومن يستفيد من هذه المعونة ؟هل ستكون في رأيه مناصفة بين النصاري والمسلمين ؟

هذه المعالجات الجريئة جدا .. كان لابد أن تتوقف بعد العدد (619 -618) حيث جاء في عدد واحد الاثنين 13 شوال 1397هـ ، عنوان الغلاف كبير جدا :" المملكة ومفترق الطرق " وعنوان آخر صغير " عصر السكرتيرات وامتهان النظام "!

ويبدو أن الجرعة لم يتحملها الرقيب ، فقد كانت تلك الكلمة بقلم رئيس التحرير رؤية مبكرة لإشكاليات التحوّلات التنموية ، وهو سؤال المرحلة وسؤال ربع قرن بعدها .. والذي ظل مفتوحا حتى اليوم ..يدهشني ما كتب .. كنت أتامل مثل هذا التساؤل وظل عالقا في ذهني طويلا !

ليس بالضرورة أن نوافق على كل ما جاء فيه لكنه يحسب له أن يفكر بصوت محافظ مقروء في طبيعة المشكلة التي ستواجهها السعودية وخطأ تكرار تجارب فاشلة .

هناك العديد من أسماء رؤساء التحرير الذين لهم بصمة إيجابيا أو سلبيا في مسار صحافتنا ، فقد اشتهر (محمد بن عباس) القادم من مكتبة معهد الإدارة بقصة انهيار جريدة الجزيرة .. ماليا وتحريريا ، وأصبحت شهرته نموذجا لأسوأ رؤساء التحرير في تلك المرحلة . ونموذجا لخطورة التقليدية الزائدة والرسمية في قتل العمل الصحافي .

لقد نجح في نقل الجريدة من أقوى الصحف السعودية في عصرها الذهبي إلى المنافسة على الصحف الأسوأ !كان لعمله الإعلامي الإذاعي للمناسبات الوطنية السابقة دور في نقله إلى هذا المنصب ، والبعض فسرها بأنها مؤامرة على الجريدة لمصلحة جريدة أخري !

وهناك تجربة (عبد الله مناع) وهو قلم سياسي لافت في السبعينيات والثمانينيات ، كانت تجربته في مجلة اقرأ هي الأبرز صحافيا ، حيث صنع للمجلة عصرها الذهبي في متابعتها السياسية والمحلية وقد استفاد من هامش الشؤون السياسية الخارجية ، والصراعات الإقليمية ، لأنه أكثر مساحة للحرية الصحافية ، توفر مادة خبرية جاهزة من وسائل الإعلام العالمية ..

مقارنة بموضوعات الداخل ، وهي المرحلة التي كانت المجلات فيها غارقة في تفاصيل الصراعات الإقليمية .وتأتي تجربة عبد القادر طاش .. في أهم مراحل تحولات الصحوة ، وقد استطاع أن يكون أهم ممثل للإعتدال الإسلامي في أقوى مراحل التطرف في المواقف

ونجح في تقديم مدرسة إعلامية معتدلة لم يكن مهنيا متميزا جدا وجريئا لكن قيمة اعتداله أنه جاء في زمن مشحون بالتشدد وكانت له تجارب في عرب نيوز والمسلمون والبلاد وقناة اقرأ وملحق الرسالة في جريدة المدينة وعلى الرغم من اعتداله وتشدد الصحوة ، إلا أ،ه ظل مقبولا عند مختلف أطياف الصحوة .

الإعلام السعودي الخارجي

" لقد جرت السيطرة على الإعلام المكتوب في الأرض وعلى الإعلام المرئي في الفضاء ، وعلى الإعلام المسموع في الهواء ، وأصبح النفط رئيس تحرير كل هذه المؤسسات .. وبسبب تخلف الآخرين وعدم إدراكهم بني السعوديون خلال عشرين سنة مؤسسات إعلامية ، لاغين إمكانية المنافسة لأنه لا وجود للرأسمال البديل والقادر على المواجهة .." رياض الريس (آخر الخوارج ، ص 284)

كان مجرد الإشارة إلى حضور المال السعودي في الإعلام العربي من المحظور تناوله في صحافتنا .. قبل أن تخف تدريجيا هذه الحساسية مع متغيرات الواقع فالمعلومات الواقعية بخصوص حضور المال السعودي لم تعد معلومات سرية وخاصة فهي معلنة يعرفها الجميع في الصحافة والفضائيات والبث الإذاعي

ولهذا ليست هناك ضرورة لعرض هذه المعلومات التي أصبح الكثير منها منذ أكثر من عشر سنوات متاحا للجميع ، لكن الذي لم يكن متاحا وما زال القراءات الجادة لمثل هذا الملف الذي تتنازعه رؤى متعددة داخلية وخارجية ، ومتأثرة بدرجة خارطة الولاءات والتحالفات .

وقد وجد الكثيرون من المثقفين والكتاب العرب المنتفعين أو المعادين للسياسة السعودية في هذا المجال مساحة كبيرة للمناورات في كتاباتهم ومؤلفاتهم وتعليقاتهم .

هذه القضية يتداخل بعض جوانبها مع إشكاليات الخطاب حول النفط الذي تنمط وفق أدبيات محددة في الموقف منه !لذا بمجرد تناول مثل هذا الموضوع فإنه قابل لإساءة الفهم بسهولة لتداخل الشأن السياسي بالإعلام والثقافة .

من الناحية الواقعية فقد تداخلت في البدايات الأهداف السياسية مع الأهداف التجارية البحتة مؤخرا مع تغير الظروف والأجواء الإعلامية في المنطقة وتعدد الأثرياء السعوديين

وفي السابق كان التأثير السعودي يتم عبر صحافيين أو صحف ذات علاقات جيدة لخدمة الرؤية السياسية ، والآن تعملق الإعلام السعودي مع تنوع كبير للملاك واتجاهاتهم في جميع المجالات في الفن والسياسة والدين والرياضة ما أفرز كرها من الآخرين لهذه السيطرة .

على الرغم من وجود منافسات خليجية أخرى أيضا دخلت كالإمارات وقطر والكويت .. هذه السيطرة ولدت كراهية تلقائية حتى من دون أسباب محددة لأنه من الطبيعي أن يكره الأقوياء في كل شئ .

وعلى الرغم من تعدد ظاهرة الانزعاج من الأداء لهذا الإعلام ، خاصة من الرؤية المحافظة في بعض الكتابات والحوارات ، ولم تعد القضية في السنوات الأخيرة جدلا حول مشاهد ساخنة لرقص فني ، أو لقطات الإغراء في السينما أو مشكلة تسويق الثقافية الأمريكية

وإنما ظهرت علامات التعجب عند بعض حالات الأداء الإعلامي في تغطية ما تقوم به إسرائيل في المنطقة من قتل وتدمير .. وأصبح هذا الأداء في أزمات المنطقة يساعدعلى سهولة الرواج الشعبي لاتهامه في خدمة المشروع الصهيوني والإساءة لتاريخ ومواقف السعودية .. ولن نتوسع هنا في كثير من التفاصيل لكنها إشارات أولية في سياق الوعي بالعقل الإعلامي .

ليس الهدف من طرح هذا الموضوع البحث عما هو مثير أو الادعاء بكشف مؤامرات خفية ، أو استنكارا لمبدأ أحقية أى قطر في أن يبحث عما يخدم مصالحه وأن يملك من الوسائل الإعلامية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ما يري أن ما مردودا إيجابيا عليه سياسيا واقتصاديا وعالميا وإقليميا ، فالأقطار الأخري تبحث عن مصالحها ، وهذا المجال كأى مجال آخر ، ليس نشاطا خيريا ، وإنما تحكمه مصالح محددة تكتيكية واستراتيجية .

لكن أمام هذا الواقع يبرز العديد من التساؤلات والقضايا التي تثار محليا وعربيا ، وعند بعض الأجانب الذين يقدمون آراء سياسية وإعلامية تشكل في مجملها رأيا أو انطباعا عاما عند الآخرين في نظرتهم لنا ولإعلامنا .

من النادر أن تناقش هذه الآراء بقدر من المعقولية ، فالمعتدلون من مثقفينا يخشون طرح مثل هذه القضايا خوفا من سوء الفهم .. مقابل ذلك يشتد تركيز المناهضين والمعارضين للسياسة السعودية على هذه الموضوعات للإثارة والتشويش وإثارة المؤامرات !

والواقع أن هناك العديد من المحاور التي يجب أن تطرح حول التجربة الإعلامية السعودية الخارجية بعد مرور مراحل طويلة وتبلور منهجها .

يشير بعض الكتاب الغربيين إلى تغير في الاستراتيجية السعودية في التعامل مع الإعلام منذ بداية أزمة الخليج 1990 م أن السعوديين مقارنة بمراحل سابقة لا يشترون الصحافيين فحسب بل الصحف والمؤسسات الإعلامية حيث شكلت إمبراطورية إعلامية سعودية ، ما يثير ذعر البعض في المنطقة (مجلة تايم الأمريكية ، حزيران (يونيو) 1992 م)

وهو بالفعل تغير تاريخي ملموس لكن هؤلاء يخفقون في إدارك أسباب ومبررات هذا التغير فهم يقرؤونها من ناحية سياسية فقط ، والواقع أن هذا التغير ارتبط بتغيرات تقنية في واقع الإعلام والاتصال .

يرى الصحافي البريطاني (بال كوشرين) الذي قدم ورقة حول النفوذ السعودي في الإعلام السعودي (مركز الصحافة الالكترونية التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة) وقدم رؤية تاريخية

واستعرض أهم الوسائل المكونة لهذه الإمبراطورية والمالكين لها منذ انطلاقه الـ (إم ، بي . سي) في لندن ، وما تلاه من (إى . آر . تي) و (إل . بي . سي) ثم أشار إلى تجربة أوربت مع (البي . بي . سي) العربية التابعة لمجموعة موارد السعودية

عندما تم قطع إذاعتها على الهواء بشكل مفاجئ حيث نقل من مقالة لـ (إيان ريتشاردسون) الذي كلف بتأسيس قسم أنباء تلفزيون BBC ، بأنه اتضح لأوربت ومواردها أنها خلقت وحشا غير معد للإمتثال للأوامر السعودية

وأشار إلى تجربة الوليد بن طلال الذي يعتبر في نظره (روبرت مردوخ) الملكية الإعلامية ، وأشار إلى أهم النقاط التي دائما تثار حول هذه القضية في الشرق الأوسط وتجربة قناة الجزيرة ثم العربية .

ونقل عن (هيومايلس) مؤلف:

(الجزيرة .. كيف تتحدي أبناء التلفزيون العربي العالم ؟) ،، أنه يتم تأسيس القنوات لأسباب متعددة ولكن السبب الوحيد الذي لا يمكن تأسيسها من أجله هو الحصول على المال .
القناة هي طريقة اقتصادية للتأثير في الناس ، وأشار هيومايلس إلى حصة الإعلان، حيث إن ما بين 40 إلى 70 بالمائة من إجمالي ما ينفق على الإعلان في المنطقة يأتي من السعودية ، وهو ما سيجعل القنوات الأخري تخضع لهذا الضغط الإعلامي .

ثم يشير (باول كوشرين) بقوله:

"السعودي على الإعلام أثر سلبي في الأخلاق الصحافية والتقارير والتحقيقات والتغطية المتوازنة وتزويد معلومات وافرة للعامة عن القضايا المهمة في المنطقة".

هذا بعض أهم ما يقال من أفكار يتم تداولها في اللقاءات الصحافية بين أهل المهنة في العالم العربي، وقد تجنبت الإشارة إلى الكثير مما يقال لأنه ذو حساسية نقدية لا تخلو من مبالغات غير موضوعية أحيانا .

خطأ هذه الأطروحات أنها تتجاهل المتغيرات العالمية في تقنية الاتصال والإعلام وتغير الأوضاع السياسية فتغير الاستراتيجية السعودية في التسعينيات فرضته ظروف مستجدة لا علاقة لها بالتجربة الماضية

فالإعلام العربي في مراحل سابقة يغلب عليه الملكية الحكومية بما فيها الصحف، قوة تأثيرها حقيقية تفرض عليها واجبات وأدوارا قيادية جديدة في السياسة والإعلام في أقوى مراحل بروز الحقبة السعودية .

وخلال أكثر من عقدين حدثت متغيرات جديدة في ظهور الكثير من الأثرياء والمستثمرين السعوديين في جميع المجالات بما فيها الإعلام ، مع بروز الرقم السكاني المغري للإعلام الإعلاني وارتفاع معدلات الدخل في المجتمع والظروف المحلية التي فرضت على المجتمع السعودي أن يستهلك أوقاتا كثيرة أمام الشاشة لمحدودية بدائل الترفيه .

ما يبدو مهما عند المثقفين هو منافشة أداء هذا الإعلام في تحقيق الأهداف المفترضة لهذه السيطرة والحضور منذ عقدين !

يمكن القول إن السعودية على الرغم من انتشار هذه الإمبراطورية .. لم تتخل مطلقا عن أسلوبها المحافظ سياسيا، فلم تستعمل هذه القوة الإعلامية للدعاية الفجة لنظامها، والتسويق الأيديولوجي لفكرها عبر الشعارات

وإنما أقصي استعمال هو فقط التستر على بعض الحقائق حول مسائل معينة والسيطرة على موضوعات لا يتم طرحها ويهدف لإعاقة بعض مفردات الخطاب السياسي العربي والشعبي وتفسيراته في الأحداث والحروب .

يبدو هذا المنهج مخالفا لطبيعة الأشياء ، فالقوى جدا يلجأ دائما لتوظيف قوته والاستفادة منها إلى أقصي حد، فليس هناك ضغوط على حلفائها من الإعلاميين العرب لتسويق سياساتها بصورة فجة ومبالغ فيها ..

هذا مما يحسب للسياسة الإعلامية السعودية الخارجية ، ويدل على تقدير ووعي جيد في عدم إساءة استعمال هذه السيطرة ما قد يزيد من الكراهية لها بصورة أكبر .

على الرغم من ذلك فهذا الذكاء ليس نابعا من وعي اختياري ، ونبل أخلاقي مثالي بقدر ما أنه ناتج من توازنات كثيرة تفرض هذا الأسلوب فالسعودية تدرك هذا الواقع

وأن تجاوزها للحد في الدعاية قد يحقق عكس ما أريد منه في غير صالح الهدف المراد تحقيقه ، وأى تجاوز للحد ليس لصالح جميع الأطراف خاصة أن الأنظمة العربية جميعها تعاني من أزمات داخلية ، وثغرات كثيرة تؤثر في الاستقرار ويفسد الأمور على القوى والضعيف

ولهذا فالأداء المحافظ سياسيا أسلوب أكثر حكمة مع ترك هامش للآخر للتنفيس في بعض الأشياء وصنع شروط اللعبة وفق الرؤية السعودية وإتاحة مساحة مقبولة للأداء الإعلامي .

ومع ذلك فيبدو من اللافت أن يبدي بعض الكتاب السعوديين حساسية زائدة من أى نقد عربي ضد السعودية ، ما يتعلق بها في الأعلام كفرصة لإظهار الوطنية المتكلفة والواقع أن هذه المرونة ضرورة لابد منها ، ويري بعضهم أن هذا تنازل مع أننا نملك القوة ونحن الأفضل ، فلماذا لا نستعمل قوة الردع الإعلامي ضد هذا النقد ؟!

عمليا .. السعودية حتى لو أرادت توظيف هذه القوة الإعلامية إلى أقصي حد على طريقة الأنظمة الثورية فإنها لا تستطيع ، وذلك لاعتبارات عديدة فالنظام المحافظ سيكون محافظا حتى في معاركه الإعلامية ومتحفظا إلى أقصي حد .

ثم إن أغلب العاملين في هذه الإمبراطورية تحت إدارة إعلاميين عرب ، ومن الناحية العملية يصعب إقحامهم في مثل هذه المعارك التي قد تفسد الجو الإعلامي العربي ما ينعكس بآثار سلبية غير مرغوب فيها .

إن سياسة عدم الإساءة للأنظمة العربية ، حتى تلك التي يحدث معها اختلاف حاد ، هو مظهر الأداء المتعقل للإعلام السعودي ولا يلجأ لهذا النقد والهجوم إلا بقدر محدود ومتحفظ ومؤخرا بدأت تظهر حالات أداء مخالفة لهذا المنهج.

هذا الترفع والمحافظة على التعقل في الخطاب الإعلامي بعيد عن الردح الغوغائي ، في مواجهتنا الإعلامية هي فلسفة ناجحة في السابق ، وتكون أكثر نجاحا عندما يري الآخر أنك الأقوى في إمكانياتك بفوارق ضخمة

لكن بعض الإعلاميين والكتاب السعوديين مؤخرا لم يدركوا بعد قيمة هذا التحفظ بل استغربوا من هذه الأخلاقيات الزائدة وكأنه نوع من التنازل وإبداء الضعف في غير مكانه ، وكأن الآخرين يتوهمون بأننا ضعفاء في مواجهتهم .

ولهذا يشير مثلا الكاتب عبد الله بخيت :

"إن الإعلام السعودي ما زال رهينة التاريخ .. يتصرف وكأن العالم العربي ما زال على ما كان عليه قبل أربعين سنة .. مايكروفونات عبد الناصر ما زالت تلعلع (أمجاد يا عرب أمجاد) وحزب البعث يتحدث مع الأشقاء بمسدساته واغتيالاته .. وسالمين بحكم جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية والوحدة العربية آتية لا ريب فيها ..
عندما تندلع مواجهة بين مواطن سعودي معزول وبين أجهزة دولة أجنبية كالقضاء والإعلام وغيرها ، يستعيد الإعلام السعودي مخاوف الماضي وضعفه واستكانته والعلاقات السائدة في حقبة التردي ، وترتفع في صوته نبر اللغة القديمة (الأشقاء ، الوطن العربي أمة واحدة .. الخ) ..
لم يقوّ الإعلام السعودى حتى الآن على فهم المتغيرات التي طرأت في العالم وخصوصا في المنطقة ، وما زال رد فعله يأتي وفقا لمعادلات القوة الوهية في حقبة الستينيات
وما زال يتصرف على أن هذه الدولة هي زعيمة العرب وهذه الدولة مفتاح الحل والعقد في المنطقة ، وتلك لا يكون السلام من دونها إلى آخر الأساطير السياسية التي تلقيناها وتشربناها في الستينيات .. لم ينظر الإعلام السعودي إلى ما يجري حوله ويعرف جيدا كيف تتحرك الأحداث ومن يحركها" (جريدة الجزيرة ، 14/ 1/ 2008) .

ثم يشير إلى الأزمة اللبنانية وقوة السعودية فيها، وحادثة لفتاة سعودية في مصر وردة فعل الصحافة لدينا، وأخيرا يقول:

" لم يدرك بعد الإعلام السعودي المغمي عليه في الستينيات أن اقتصاد عاصمة أكبر دولة عربية لا يعادل اقتصاد حي النسيم بالرياض ".

مثل هذا الرأي يؤيده الكثيرون من الإعلاميين محليا كنوع من الحماسة الوطنية ويأتي عادة في مناسبات عدة وطرق مختلفة .قيمة ما طرحه ابن بخيت هنا تتمثل في أنه تناول الفكرة بصراحة كما يدور الحديث فيها بين الزملاء الكتاب والصحافيين .. بأن الآخرين يجب أن يدركوا أنه تغير الزمن ، وموازين القوى .

هذا الشعور الوطني يمكن احترامه ، لكن في عالم السياسة تقدم المصلحة على أى عواطف ومشاعر أخرى ، فهذا المنطق يتجاهل الكثير من الحقائق شروط الدبلوماسية تفرض هذا المنهج المتحفظ في الصراع مع الآخرين ، وأن تكون قويا دون استعماها بإفراط هو أكثر فعالية من استعمالها.

والآخرون يدركون هذه القوة وحضورها إعلاميا واقتصاديا ، ولهذا عندما نقارن الوضع الآن وما كان يقدم من نقد للسعودية في الستينيات والسبعينيات سنجد الفارق ، وما يبرز أحيانا من صحف معارضة في بعض الأقطار العربية لا تعدو أن تكون في الإطار المقبول حتى في نقدها لأنظمتهم .

إن المبالغة في محاولة إسكات كل صوت وقلم مخالف لطبيعة الأشياء وإن الهدف الاستراتيجي للسعودية تحقق ، وقد تكون هذه الاستراتيجية ارتبكت مع خروج قناة الجزيرة في السنوات الأولي

لكن الهدف تحقق بصورة كبيرة وليس هناك داع لاستحضار مرحلة الستينيات والتهديد بأثر رجعى، فما زال هناك أشياء مزعجة يمكن تحريكها ، خاصة أن الإعلام ما زال بأيد غير سعودية وإن كان بأموال سعودية في الخارج .

ويجب إدراك حقيقة أخرى أن الصحافة الأخري لن تهاجم كتابنا ومثقفينا وعنترياتهم الوطنية ، في مثل هذه المعارك فيما لو تم تصعيدها ، وإنما ستنتقل لمشكلات سياسية أخرى وشخصيات أهم وقضايا ذات حساسية يدرككها المهتم بالأزمات العربية .

الكتاب العرب والسعودية

كصحافي اليوم لا يمكنك انتقاد سعودي .. أين " ستعمل " ؟؟ أسعد أبو خليل

للسعودية تجربة تاريخية مميزة مع الكتاب والمثقفين العرب منذ وقت مبكر وهذا ملف يستحق قراءة خاصة في مؤلف آخر ، لأنه يحتوى على تفاصيل لافتة في غير مرحلة فقد مرت هذه الإستراتيجية بعدة تطورت فلكل كاتب قصة تختلف عن الآخر في بداياتها ونهايتها ويمكن تقسيم هذه التحالفات وفقا لظروف كل مرحلة ، وإمكانياتها ، والأوضاع السياسية التي مرت بعالمنا .

بصورة عامة حققت السعودية الكثير من المكاسب والمصالح السياسية في هذا المجال .. وينتقد بعض المثقفين والإعلاميين السعوديين في حواراتهم الخاصة هذه الاستقطابات ، ويتداولون الأسماء التي كانت تقبض وهو نقد لمصلحة وطنية بحجة أن السعودية لا تستفيد منهم ، وأنها حالات ابتزاز ومتاجرة .

والواقع أنه لا توجد طريقة محددة ومثالية في تقييم هذا الموضوع ، فمن ناحية المبدأ عمل السياسي هو استقطاب أى قوى وأصوات مؤثرة في الداخل والخارج ، لكن الآلية التي يتم التعامل بها هي التي تختلف من قطر إلى آخر ..

والتعامل مع الكتاب الغربيين يختلف عن العربي، فالصحافي الغربي لا يستقطب من أجل الثناء وإنما لتخفيف حدة نقده .. وتتميز الأقلام الغربية بصعوبة استقطابها ، وحتى عندما تكون محسوبة على أقطار معينة فإنه يحتفظ بقدر كبير من الصدقية لأنهم يقدمون نقدا لهذه الأقطار .

من النادر أن يتأثر الكاتب الغربي مقارنة بالعربي في التكريم الذي يحدث له عند الزيارة ، وإن كان بعضهم أمكن استقطابهم وجعلهم قريبين من تعقيدات الوضع الاجتماعي والديني والسياسي وتزويدهم بالمعلومات الخاصة التي تضفي على كتاباتهم قيمة أخرى ، لكنهم يحتفظون بقدر من المساحة الكبيرة للنقد بعكس الكتاب العرب .

وأذكر أن (فريد زكريا) عندما زار السعودية والتقي بالكثيرين من المثقين والرسميين ، توقع البعض أن تأتي كتابته القادمة عن السعودية في النيوزويك إيجابية دون نقد .

عاد وكتب حكايته وأشار إلى قصته مع المرافق الرسمي في 29 حزيران (يونيو) 2004 م وأشار فيها مسألة الحل الديني والسياسي وإلى جولته في السعودية ومشهد القصور ..

وعندما علق على المشهد:

" قال لى مسؤول حكومي بتوتر:الفرنسيون لديهم قصر فرساى ". لم يسعني سوى القول: " نعم لكنهم أطلقوا ثورة بعد ذلك " .

بعض الكتاب العرب يغالط الكثير من الحقائق ، ويتظاهر بمثالية ليس في مكانها، فكثيرا ما يشير جهاد الخازن مثلا إلى أنه لم يسبق أن طلب منه في رئاسة التحرير أو الكتابة أن يتحدث ضد أحد ..

(برنامج أجندة مفتوحة ، بي . بي ، سي ، 15 آذار (مارس) 2008) هذا الرأي في ظاهره حقيقي ، لأنه لا أحد يطلب منك ذلك ، لكن هذا الكلام تذاك في غير محله ، لمن يدرك كيف يدار الخطاب الثقافي والإعلامي .

إن تملك السعودية لأهم وسائل الإعلام العربية والتوسع مؤخرا في ذلك ، أدي إلى أن يأخذ الاستقطاب والاحتواء أبعادا جديدة ، فبدلا من أن يكون بالمفرد أصبح بالجملة بحكم إغراء هذه المؤسسات للكتاب والمثقفين العرب على الرغم من المصلحة السياسية التي تتحقق في احتواء الكتاب والمثقفين إلا أن لها سبليات كثيرة في واقعنا الداخلي في معرفة أخطائنا

حيث يمارس هؤلاء نقدهم للحالة العربية وأخطاء أنظمتهم ومجتمعاتهم بجرأة لكنهم في المسألة السعودية يتهربون من تقديم نقدهم وآرائهم ، ولا يجرؤون على النقد للقضايا السعودية إلا بعد أن يكتب السعوديون عن أنفسهم كما حدث حول قضايا إرهاب ما بعد أيلول (سبتمبر).

ولا شك أننا نخسر آراءهم الفكرية والنقدية ووجهة نظرهم في تقييم بعض مشكلاتنا بسبب المجاملات والمغالطات التي يقدمها بعضهم ، وأيضا لضعف صدقيتهم عربيا فالكثير منهم لا يحتفظون بقيمة شعبية بعد أن يحسبهم الجمهور العربي على السعودية بعكس مثقفين آخرين ، تظل شعبيتهم مستمرة على الرغم من أنهم محسوبون على أقطار وأنظمة أخري .

الصحافي (رياض الريس) يقدم بعض آرائه عن تجربته في الخليج ، فينقل عن زميل صحافي أنه أسدي إليه نصيحة منذ اليوم الأول الذي جاء فيه إلى الكويت صحافيا

إذ قال له :

" هناك قاعدة ذهبية لا تخطئ أبدا في التعامل مع الكويت ودول الخليج ، أنت وحدك تستطيع فرضها .. إذا أردت أن تعامل معاملة الأمراء ، فكن أميرا
وإذا أردت أن تعامل معاملة المنافقين والمتملقين فكن منافقا ومتملقا ، وإذا أردت احترامهم فكن محترما وإذا صادقتهم فكن ودودا واحفظ مسافة معينة بينك وبينهم .. فكما تعامل نفسك يعاملونك .." (الريس ، آخر الخوارج ، ص 352).

ثم يشير إلى أن العديد من الصحافيين قد بدؤوا يتوافدون إلى دول الخليج في مهام لا علاقة لها بالصحافة ، حتى اختلط على الكثير من المعنيين في تلك الدول التمييز بين الاحتراف المهني والتجارة العامة .

هناك إشكال آخر يتعلق بالرقابة خاصة مع الذين يكتبون عن الشأن الخليجي .. فـ (رياض الريس) المهتم بشؤون الخليج العربي ، ويعتبر هذه المنطقة عنصرا تكوينيا في السياسة العربية وجاء غزو العراق للكويت وحرب الخليج ليضاعف أهمية هذه المنطقة

ولهذا تركزت معظم كتاباته حول هذه المنطقة لسببين يذكرهما :

الأول: أنه ليس هناك من يكتب عنها بالمعلومات والحرية التي أكتب بها .. " كما يشير " .
والثاني: أن معظم الصحافة العربية مضطرة لمراعاة دول الخليج وعلى رأسها السعودية لأسباب واعتبارات عديدة أهمها المساعدات المالية (مرجع سابق ، ص 184) .

ويشير في مذكراته إلى تأثير الرقابة السعودية العابرة للحدود ، وعرض قصة توقفه عن الكتابة في جريدة النهار ، بسبب العرض الذي قدم لها لطباعة جريدة الشرق الأوسط لكن هذا العرض ارتبط بشرط واحد هو توقف رياض الريس عن الكتابة .

وما كتبه (دايفيد هيرست) في الغارديان 21 نيسان (أبريل) 1995م حول هذا الموضوع .ويعتبر ما حدث صفقة سياسية من دون شك أكثر مما هي تجارية وخطورة ذلك في نظره شديدة فالنهار، مع بقية الصحافة اللبنانية الجيدة كانت تمثل آخر المعاقل الليبرالية التي تحتضن وتقبل تعدد الآراء والأصوات باختلافها .. (مرجع سابق ، ص 186) .

وهو لا يري نفسه معاديا لأى نظام عربي ، ولم يمتنع يوما في نظره عن تصحيح خطأ في معلومة وردت في مقالة له أو إبداء وجهة نظر مخالفة لرأيه لكنه يقول إن الإعلام الخليجي السعودي والكويتي تحديدا هو إعلام معلب ! الدنيا بالنسبة إليه هي أبيض أو أسود ، فإذا لم تكن معه فأتت ضده وهو إعلام اعتاد على مساومة ومفاوضة الكتاب .

إذا خطورة ما حدث تتمثل في أن السعودية سيطرت نهائيا على الصحافة في لبنان ولم يبق خارج سيطرتها إلا بعض البؤر المعزولة التي يمكن لها أن تضعها تحت سيطرتها بجهد قليل .

وفي نظره : أنه لا يستطيع كصحافي موجود في المهنة نحو خمس وأربعين سنة أن يتقبل سيطرة جهة سياسية عربية واحدة على الإعلام العربي المكتوب والمسموع والمرئي وإنهاء ما يمكن تسميته بـ "التعددية" التي كانت قائمة في الصحافة اللبنانية إلى زمن قريب .. إذ ليس في مصلحة الدول التي تسعي إلى السيطرة الإعلامية إلا في المدي الآني .

إن خطورة ذلك عربيا أن الصحافي محاصر تماما ، فإما أن يفقد منبره ورزقه أو يصبح مطواعا داخل المؤسسة، وفي وضع مثل هكذا يصبح جميع الكتاب مثل بعضهم البعض؛الفارق فقط في أسمائهم وليس ما يكتبون وهذا ينطوى على احتقار للقارئ العربي الذي على الرغم من كل شئ لا يزال يملك القدرة على التمييز بين كاتب وآخر (مرجع سابق ، ص 187)

فرص السعودي .. في إعلامه الخارجي

من الأشياء اللافتة أن السعودية في إعلامها لا تستعمل العنصر السعودي بإفراط وإنما بحدود ضيقة ، وفي مجالات إدارية أكثر منها مهنية إعلامية و لو كانت هذه المؤسسات الإعلامية الكبري مملوكة لعرب آخرين لكان من شبه المستحيل أن تجد فيها موظفا سعوديا .

إن هذا الجانب لافت في الكثير من المؤسسات ومن المفترض أن ينظر العرب إلى هذه الممارسة بإيجابية كدلالة على عدم تعصب وإتاحة الفرص للآخرين .إزاء هذه المشكلة يطرح بعض الكتاب الوطنيين مشكلة السعودة في هذه المؤسسات الإعلامية ويشيرون بمرارة إلى هذا الوضع غير العادل !

هذا النقد له ما يبرره ما ناحية المبدأ لأن السعوديين هم الأولي بهذه المؤسسات لكن الإعلام متداخل مع السياسة ، والأمور لا تقيم بهذه الطريقة ، ولو كان حضور السعوديين أكبر لأدي إلى مشكلات أخرى ولن تتحقق الأهداف في احتواء الآخرين .

لا يوجد ترحيب بزيادة نسبة السعودة إلا في نطاق أعمال محدودة فالآخرون يسهل استبدالهم بغيرهم والسيطرة عليهم ، ووجود السعودى في الإعلام يتم التعامل معه بحساسية وحذر شديد من توجهه ، خاصة عندما يكون لديه مقومات النجاح المهني

لأنه ربما يتمرد عن الرسالة المفترض أن يقوم بها ، وقد يكون هذا التمرد مكلفا وبالذات لو جاء في مراحل متأخرة ، ولهذا يقدم ممن لديهم إمكانيات تمشي الحال ولا تنتظر ممن لديهم قدرات لافتة مشابهة لإعلاميين عرب أتيحت لهم الفرصة .

وحتى الأعمال الصحافية المهمة من حوارات وتصريحات خاصة ذات القيمة تتاح للصحافي من الخارج أكثر من الداخل ولهذا مبررات مفهومة سياسيا وإعلاميا .

لهذا فالتوجه للسعودة في هذا المجال يتم بوعي خاص ، والبعض عندما يري تجربة الإعلام السعودي مع اللبنانيين يظن أن الملاك بلهاء ، وكأنهم مخدوعون من اللبنانيين ..!

بسبب هذه الاستراتيجية الإعلامية ، فإن هذا التوسع السعودي لم يشعر الإعلاميين العرب بالضرر وبأنهم غير مرغوبين ما دام أنه متاح لهم العمل في ذلك وبمبالغ مغرية وربما أكثر من السعوديين .

فبالقدر الذي تبدو فيه هذه السيطرة مصدر فخر وطني إلا أن هناك ما يبدو مقلقلا ، فهذا السيطرة رأينا أنها لا تضر بالمصالح العربية ، أو حتى مصالح الإعلاميين العرب لكن هذه السيطرة أفرزت بعض السلبيات بخصوص شؤوننا المحلية التي يجدها المراقب في هذه المرحلة

فقد تضرر الحراك السياسي والإعلامي المهني ، هو ما يزعج الذين لديهم ميول إصلاحية نقدية لهذا كانت الفرحة بوجود قناة الجزيرة كبيرة بالنسبة للإصلاحيين منذ عام 1997م وغيرت بعض الموازين وأتاحت لأصوات عربية نقد بعض أخطائنا السياسية والاجتماعية والدينية والإعلامية ، حيث قبل الشئ الكثير

قبل أن تأتي قناة العربية لتمارس دور المقاومة على الطريقة السعودية وقبل أن تأتي المصالحات الأخيرة مع "الجزيرة" التي كانت أولي ضحايا غياب هذا الهامش من النقد .

تساؤلات المحافظين

من المفارقات التي تثار ضد الإعلام السعودي في الخارج مسألة أخلاقيات البث والنشر ، وهذا التساؤل يأتي من الفئات المحافظة في العالم العربي ، والتيار الديني في السعودية وعدم قدرتهم على فهم مبررات هذه الازدواجية اللافتة

فالسعوديون الذين يمثلون أكثر دول العالم محافظة وسلفية دينية وتصديرا لهذا الفكر هم في الوقت نفسه في هذا الإعلام الفضائي والنشر بإمكانياته الضخمة يصدرون خطابا لا يمثل قيما ولا فكر الدولة والمجتمع

حيث اشتكت من مضمونه حواضر عربية وجمهور عاش انفتاحا وأزمنة طويلة من التحولات الاجتماعية بما لا يمكن مقارنته في الحالة السعودية! هذا التساؤل الكبير مصحوب بعلامات تعجب وحس مؤامراتي عند المعارضين لكل ما هو سعودي باعتباره دلالة على تأصل الفساد ونشره عند هذه الجهات .

كان هذا التساؤل موجودا مبكرا عند الإسلاميين في السعودية قبل عصر الفضائيات ولم تجد الشخصيات الدينية المعتدلة في نظرتها للدولة تفسيرات الفضائيات ، ولم تجد الشخصيات الدينية المعتدلة في نظرتها للدولة تفسيرات مقنعة له .

كانت تثار في الثمانينيات مسألة المطبوعات السعودية التي تأتي من الخارج بمعايير رقابية مختلفة خاصة في مسألة صورة المرأة وقد واجهت مجلة سيدتي هجوما كثيرا في تلك المرحلة في منابر الخطاب الديني .

وفي آ واخر الثمانينيات وما بعد حرب الخليج تطور عداء مطبوعات الشركة ضد التيار الحركي الإسلامي لأسباب سياسية على الرغم من أن هذه الشركة الإعلامية هي التي أصدرت كتاب الشرق الأوسط " لماذا أعدموني "؟ لسيد قطب "

ولم تكن هذه العداوة بشراستها التالية عندما كان على رأس جهاز التحرير أسماء عربية قبل أن تتحول إلى سعودية ويحدث تغيرات داخلية فيها .بعد أزمة الخليج زادت الجرعة الاستفزازية للتيار الإسلامي و انتشرت في ذلك الوقت صورة لفاكس يحرض (غازي القصيبي) على الإسلاميين !

هذا تاريخ له قصة طويلة ، وهذه لمحات حول تطور العداوة بين الإعلام السعودي الخارجي ، التيار الإسلامي في الداخل الذي بدأ من إعلام الشركة السعودية .

مصطلح "خضراء الدمن" الذي شاع بالخطأ لم يكن لجريدة الشرق الأوسط وإنما لجريدة المسلمون أطلقه عليها داعية غير مشهور ، وهو الأقرب للمنطق في النظرة الدينية ومفهوم الحديث عن المرأة الحسناء في منبت السوء .

من المهم أن نلاحظ أن هذه العداوة لم يحدث مع جريدة الحياة التي تدار بأغلبية لبنانية ، بل ينظر إليها التيار المحافظ بقدر من الاحترام الكبير والتقدير لكونها أقرب للمهنية في التعامل مع الأحداث منذ حرب الخليج .

تأتي هذه الحملات من التيار المحافظ في السنوات الأخيرة بأسماء دعاة وناشطين تغلب عليهم الحماسة الدينية ، دون أهمية لهم رسمية أو شعبية على الرغم من أنهم اكتسبوا هذا الهجوم والموقف من دعاة ورموز الصحوة في السابق ، الذين بدات مواقفهم تأخذ صبغة رسمية ومنفعية أكثر من المواقف الطهورية .

أخذت هذه الإزدواجية السعودية طورا جديدا مع زيادة حضور الإعلام السعودي الخارجي ، تضخمت هذه الحملات والتساؤلات حولها ،وبدأت تحقق انتشارا واسعا لهذا السؤال الحرج محليا وعربيا وزاد الأمر سوءا عندما تغير الخطاب السياسي الإعلامي في طريقة تغطيته للتدمير الذي أحدثته إسرائيل في لبنان وغزة ، ودون تقدير لحساسية مسائل الصراع مع إسرائيل ..!

فحققت هذه الحملات غير المحترفة قدرا من التشويه على نطاق شعبي عربي واسع ، وموقفا اجتماعيا ودينيا منها وشوه الموقف السعودي المبدئي من قضية الصراع مع إسرائيل ..

لقد تطور الموقف من هجاء تيارات محافظة تقليدية ، إلى تساؤلات حول تخوين هذا الخطاب في الموقف من العدو الصهيوني حت بعض المثقفين يبدون تحفظهم من هذه القوى العربية الإعلامية المتخصصة في تسويق التفاهة من فن وأغنية وسينما هابطة ، وحتى الإعلانات التجارية وما فيها من صدام مع الذوق العام .

في قناة المستقلة يسأل (محمد الهاشمي) في شهر تموز (يوليو) 2008م ، الأمير (خالد بن طلال) في حوار تليفوني من حسن الحظ أن الهاشمي ليست لديه مواقف سلبية من السعودية ، ثم هو يوجهه لأمير محافظ ، ،أخ الوليد بن طلال كأهم الأسماء التي تستثمر في الإعلام .

عرض الهاشمي هذا السؤال الذي يطرح بين الناس ، لماذا يحسب كل المجون العربي في فضائيات العرب على الأموال السعودية ، أنها أصبحت حقيقة يصعب تجاهلها ؟!

الأمير خالد هنا ليس مسؤولا عن غيرها ، لكن توقعت أن يقدم إجابة تفسر بعض الشئ هذا الإشكال ، أو عدم التعليق والإجابة عليه كخيار آخر لكنه بدلا من ذلك قدم قصة مشهورة تزيد من مساحة الإحراج حول هذا الموضوع ، وهو ما أثار محمد الهاشمي !

عندما أشار الأمير خالد إلى قصة تدخل السياسي السعودي في موضوع (البي . بي . سي) والأوربت .. هنا أشار المذيع إلى أن هذا ما يزيد الأمر إشكالا بمعني أن السياسي لا يتدخل إلا عند الأمور السياسية التي تعنيه فقط !

في مواجهة .. تفسيرات المؤامرة !

على الرغم من أن هذا التساؤل كثيرا ما يطرح خاصة في منتديات الإنترنت ، وعلى الرغم من وجود الكثير من الأسماء والمعرفات التي تدافع بقوة عن الرؤية الرسمية ، أو هذه القنوات ومنهم صحافيون وإعلاميون ..

فإنهم غير قادرين على الإجابة عن هذا التناقض لدولة تشهر خطابا سلفيا وتسوقه وفي الوقت نفسه تنشط الأموال السعودية المقربة من المسئوولين الكبار في نشر ما يراه جمهور عربي أنه لا علاقة له بما هو مفترض أن تمثله السعودية .

لا أريد الإجابة عن هذا الإشكال وتفسيره بصورة مفصلة هنا ، لأنها ستفرض علينا الدخول في تفاصيل مطولة حول قصة الإعلام السعودي ليس هنا مكانها وإنما سأشير إلى بعض النقاط التي تؤسس لتفكير موضوعي ، حتى لو كان هناك إصرار من بعض العرب والمحافظين على استحضار الرؤية المؤامراتية ، فالمهم أن يكون التفكير صحيحا ، حتى لا تشطح الرؤي في مبالغات غير واقعية ..

ويمكن تحديدها في ما يلي :

أشرت سابقا إلى مشروعية أى جهة في البحث عن مصالحها ، ومنها الاهتمام بالفضاء الإعلامي ومشروعيته لأى فرد يملك الإمكانيات أو حتى دول وحكومات ، ولا أدري أين هو المؤامرة خاصة أن أغلب هذه الملكيات أصبحت معلنة وليست سرية ؟
حول إشكالية مضمون الرسالة الإعلامية والمعايير الرقايبة والأخلاقية، وبأن المضمون يشوه مظهر السعودية ويضعها أمام العرب في وضع متناقض وهي التي تقدم نفسها على أنها أرض الرسالة ، وفي خدمة الحرمين وتطبق الشريعة
خاصة أن الخطاب الرسمية والشعبي يكرر هذه الخصوصية الروحانية في كل مناسبة حتى أصبحت ركنا أساسيا من أركان الخطاب الإعلامي والسياسي والديني ثم في الوقت نفسه تكون أكبر شركات إعلامية في بث الفن الهابط محسوبة على الأموال السعودية ومن أسماء ليست مهاجرة أو في حالة خصومة مع النظام حتى لا تحسب عليه

إنما يحظي بعضها بامتيازات واحتكارات خاصة به:

قد يقول البعض من المهم أن نفرق هنا بين ما يحسب على الدولة رسميا وبصورة مباشرة ، وبين ما يحسب على أحد أفرادها ، أو حتى أحد المسؤولين في الحكومة ..
هذه حقيقة بدهية من المفترض أن يدركها أى فرد ، لكن المشكلة أن هذا المبرر ليس مناسبا لكثير من الدول النامية والأقطار العربية مقارنة بالدول المتقدمة لوجود استقلالية واضحة المعالم بين ما هو خاص وما هو عام
وبين ما هو محسوب على الدول وما بين ما هو محسوب على أحد أفراد المجتمع ولهذا فالمبرر ليس مناسبا للأقطار العربية ، والآخرون يدركون عدم وجود هذه الاستقلالية حتى لو كانت رسميا مستقلة لأنهم يدركون حجم التداخل في هذه الأمور ، وهذا يزيد من تأكيد هذه المسؤولية على السعودية .
اللغة الأهم في عالم السياسة والإعلام والاقتصاد هي لغة المصلحة بمعناها الواسع والضيق ، وتوازنات القوى .

إن مطالبة أى دول ونظام بمثالية محددة المعايير ، فرض ما يجب عليها وما لا يجب وفق ما تراه داخليا وخارجيا ليس من السياسة في شئ ، ولا يوجد هنا ما يخجل منه أو محاولة اختراع حجج شكلية ، والتذاكي بخلق تفسيرات يدرك زيفها أى مطلع

لهذا فحكاية أن الدولة غير مسؤولة عن هذا الإعلام ولا تستطيع التدخل لحماية سمعتها لا يمكن تصديقها ، لكن الذي يمكن فهمه في عالم السياسة أن الدول والأنظمة الحريصة على مصالحها تفتح علاقاتها مع جميع القوى الضعيفة والقوية المتشدد و المتسامحة وجميع الجماهير فلا تغامر في مسار واحد فقط ، ورؤية واحدة فقط وتكتيك واحد ، إلا تلك الدول والأنظمة المتطرفة والشمولية.

السعودية تبدو أكثر محافظة وتشددا في سياسات الداخل لأنها نجحت عمليا في كثير من المراحل في هذا المسار وربحت فيه ، وحققت العديد من الأهداف الاستراتيجية في إدارة الدولة

وهذه المحافظة نشأت وفق عوامل تاريخية يصعب إلغاؤها بأى متغير بسهولة ، وحتى محاولات التقليل من هذه المحافظة ظلت ضعيفة وغير جادة فما زال الخطاب الإعلامي الداخلي مع أى حالة انفتاح يعود للمحافظة لأسباب متعددة .

مقابل ذلك فالسياسة السعودية تجاه الخارج ظلت دائما مرنة في ما يحقق مصالحها وتحاول الظهور بصورة متحضرة وليس متشددة ولسنا بحاجة إلى تأكيد هذه الحقيقة بوجود سياستين مختلفين بين الداخل والخارج

فطالما أن هذا أكثر فائدة للدولة واستقرارها فليس في هذا الاختلاف عيبا لكن بالنسبة لجمهور العامة في وطننا العربي لن يستحضروا هذا البعد المصلحي لما يبدو متناقضا بقدر ما أنهم يشاهدون صورتين متناقضتين بين تشدد داخلي وتسامح خارجي

ولهذا أضراره السياسية والاستراتيجية فمن أهم مصالح أى نظام محافظ على سمعة جيدة عند الشعوب العربية والسعودية ستربح في ظهورها محافظة أكثر من الانفتاح تاريخيا وهذا الواقع يفرض بأن يكون الاختلاف بين السياستين الإعلاميتين محدودا وغير متناقض جدا ما يتطلب معه قدرا من الاتزان في الممارسة الإعلامية الخارجية ، وهذا ما فشلت فيه بعض القنوات والصحف .

هنا نفسر بما هو فعل سياسي أكثر منه صوابا أخلاقيا ورساليا لفهم ما يحدث من تناقض ، فمن الناحية الرسالة ، والأخلاقية والرؤية السلفية التي تمثلها السعودية ، فإن هذا النوع من الإعلام مناقض للخطاب السلفي ومخالفة صريحة لأهم تعاليمه .

بالنسبة إلى ما يري البعض بأنه ازدواجية معايير ، فإن الدولة تستطيع بسهولة ضبط الاستقرار في الداخل وتسيره وفق إطار محدد وفق أيديولوجيتها السياسية ومشروعيتها التاريخية، وأى تغيرات يفرضها الواقع فإن استجابة النظم المحافظة تكون بطيئة .

أما العالم الخارجي الإقليمي والدولي فإنه يصعب على أى دولة التحكم فيه، وتوجيهه وفق أيديولوجيتها ومنهجها الفكري والإعلامي ، حتى لو كانت دولة عظمي .إن المطالبة بأن تكون الرقابة والشروط الإعلامية في الداخل كما هي في الخارج للإعلام السعودي غير ممكنة من الناحية العملية فالإعلام الخارجي يخاطب دوائر أوسع وهدفه الوطن العربي .

البعض من إسلاميي الثمانينيات في الصحوة كانوا يرون أن هذه الازدواجية حيلة من حيل العلمانيين ، بعدم توحيد معايير الرقابة الإعلامية بين الداخل والخارج ، من أجل البعد عن الحرج أمام العلماء والمؤسسة الدينية بحجة أنه إعلام خارجي

لكن السماح بدخول هذه الصحف والمجلات في مرحلة ما قبل الفضائيات هي رقابة داخلية ومسؤولية الدولة والحكومة وبالتالي لا معني لهذه الحيلة القول بأن الدولة محرجة من العلماء الرسميين فمعايير الدخول خالفت الأخلاقيات السلفية

والقيم السائدة في الداخل التي تتعارض بصورة مباشرة مع الرؤية السلفية ومن مفارقات تلك المرحلة ، بأن يسمح لهذه المطبوعات وفي حالات كثيرة لا تفسح كتبا لإسلاميين مستنيرين ومؤلفات ذات طرح عقلاني .

إن عالم السياسة يخالف دعاة المثل والقيم ولو تصورنا أن السعودية بأيديولوجيتها الإعلامية الداخلية واجهة الوطن العربي والإسلامي الأكثر انفتاحا وفق ضوابط الرؤية المحافظة المحلية لفشلت في تحقيق هذا الهدف من الحضور الإعلامي والتأثير

إن ما يجب الإشارة إليه هنا هو أن السعودية عمليا مضطرة للبروز أمام العالم بكونها دولة منفتحة وليست متشددة في الغرب والشرق ، وهذا يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية وحتى الدينية ..

فأنشطة الدعوة السلفية أيضا استفادت من هذه السمعة بصورة غبر مباشرة وأتاحت لها الوصول إلى كل مكان في العالم قبل أن تحدث ردة الفعل المعاكسة ضد الوهابية بعد 11 أيلول (سبتمبر) .

ويجب الإشارة إلى أن المعايير الخاصة بالإعلام السعودي في الخارد ليست من صنع إعلامه الداخلي ، وإنما هي معايير أغلب الأقطار العربية في إعلامها الداخلي وخاصة في ما يتعلق بظهور المرأة ولباسها في الأفلام السينمائية فهذه المعايير من صنع الإعلام العربي في الشام ومصر ، حيث تأسست هذه المعايير في المسرح والسينما والغناء والرقص وأعراف إعلامية سائدة ..

على الرغم من أن المحافظين يستنكرونها ، لكنها وجدت منذ الأربعينيات والخمسينيات ، مع موجة التغريب في الوطن العربي ولهذا لا تحسب هذه المعايير السائدة في أغلب الإعلام العربي الرسمي على السعودية التي يحسب لها أن وضعت ضوابط متشددة في إعلامها الداخلي ولهذا من الناحية العقلانية لا أفهم مزايدة بعض الإعلاميين والكتاب العرب على السعودية والادعاء وكأنها صنعت وأسست هذه القيم الإعلامية السائدة .

لكن هل هذا الواقع يبرر للسعودية وللمالكين لهذا الإعلام مسايرة هذا الإعلام العربي في معاييره ؟ فالمفترض في نظر المثاليين أن تكون قدوة .

إن محاولة تصور أن السعودية قادرة على مواجهة هذا العالم بمعاييرها التقليدية وخصوصا في قضية المرأة هو تصور غير ممكن من الناحية الإعلامية والسياسية لأنه سيضر بمصالح جوهرية مناقضة للهدف من السيطرة على هذا الإعلام وتجنب الدخول في هذا المجال من البداية أقل كلفة من إصلاحه ويحقق مصلحة سياسية أفضل

ثم إن معايير الإعلام الداخلي بعيدة جدا عن معايير الإعلام السائدة ، ويصعب التفكير في نقطة تقارب بين رؤيتين !من الممكن أن يطرح سؤال لماذا هذا التسامح في الاستثمار الضخم في هذا المجال ما دام أنه لا يمكن صناعة إعلام محافظ ، أو على الأقل أفضل من معايير الإعلام العربي ؟

لقد أشرت في البداية إلى الأهمية الاستراتيجية لهذه السيطرة والتحكم في معظم أنواع الإعلام السياسي والفني والرياضي والديني حتى لو لم يوجه تماما وفق أيديولوجيتي المحافظ’ لأن هذا سيحقق فائدة بأن يكون محصنا لاستقطاب الكفاءات العربية والإعلامية

ثم إنه يمنع أضرارا متعددة في عدم وجود آراء ضد مصلحة السعودية ، وهذا مكسب سياسي كبير ، تحقق بصورة واضحة ، وأصبح هذا التوسع يمنع الإعلاميين العرب من مخاصمة السعودية .لكن السؤال الأهم : هل ما يقدمه هذا الإعلام المحسوب على السعودية ما زال تحت ما يمكن تبريره سياسيا وعقلانيا وفق مفاهيم الحد الأدني من الضرورة ؟

كما حاولت هنا أن أعقلته سياسيا ، وأحصر أهم المبرّرات العقلانية في نظري الخاص لتفسير هذه الازدواجية وإعطائها مشروعية سياسية قبل أن أقدم نقدي لهذه الإعلام على الرغم من تفهمي للظروف السياسية والإعلامية .

وإذا كنا لا نختلف على مشروعية المبدأ لدولة كبيرة تريد أن تحافظ على مصالحها في الداخل والخارج ، فهل ممارستها في تفاصيل الأداء الإعلامي دائما صائبة؟ وأين الخطأ ؟إن ما يجب قوله بأن هناك أخطاء كثيرة في أداء إعلامنا السعودي الخارجي في كثير من الأحداث وللأسف بأنها تحسب على السعودية

وأدت إلى الإضرار بسمعة البلد أمام الشارع والرأي العام العربي بصورة كبيرة وبسبب قابلية هذا الجمهور للتصديق بفكرة المؤامرات والخيانة .

وإذا كان إعلامنا الخارجي غير مسؤول في صنع معايير الإعلام القيمية في عالم المرأة والفن عربيا فإنه في الخطاب السياسي ومواقفة يقدم خطابا إعلاميا محيرا ، في السنوات الأخيرة ومواقف بدت في بعض الحالات مربكة حتى لأكثر الرسميين رسمية في الداخل

حيث انتهك هذا الإعلام أسسا كثيرة بحجج ضعيفة وأداء غير مقنع وإذا أمكن تفهم ضرورات الأمركة السياسية والإعلامية لعوائدها الكبيرة عمليا وتاريخيا فلا أفهم العبث بمواقف السعودية من القضية الفلسطينية وإسرائيل ، حتى عندما تدك غزة ، بحجة إيران وحماس وحزب الله !!

هذه الأخطاء غير المدروسة في التعامل مع الأزمات تكررت أكثر من مرة ..ولا أحد يطالب بعدم مراعاة مصالح البلد الاستراتيجية ، حتى لو كان في الموضوع إسرائيل وأمريكا لكن هذا التذاكي الذي مورس يبدو غير مفهوم من إعلام محسوب على السعودية مباشرة

وفي قضية من أهم القضايا العربية تحت إغراء تكتيك إعلامي مؤقت ، وللأسف اختلط في هذه الممارسة الموقف السياسي مع سوء التقدير والأداء الإعلامي لموازنة التغطية للأحداث والمواقف .ولست أطالب بمواقف غوغائية ونضالية في هذه المسائل ولكن أن يتدهور هذا الإعلام في مهنيته ويصبح مستفزا لأى مراقب موضوعي وفي الوقت نفسه يدعي المهنية .. هنا يبدو الأمر غير مفهوم .

البعض من النخب الإعلامية يسخر من حكاية الشعوب والرأي العام ، وما دام أنك تقدر بمالك واقتصادك ، ودعم الخارج لك فلا يهم رأي الشعوب هذا الكلام صحيح إذا استطعت أن تضمن بأن لا يحدث تغير في الظروف العالمية والسياسية من حولك وفي موازين القوى وهذا هو المستحيل في عالم السياسة ، فلا يوجد سياسي يهتم بمصلحة بلده البعيدة والقريبة ، ويتهاون بمواقف وآراء الشعوب .. بحجة أنها غير مؤثرة الآن .

الفصل السابع:عقل التنمية

"فالثروة النفطية قادرة على صب المؤسسات في قوالب معينة صبا محكما فاق مخيلات ومدارك أفضل الاختصاصيين ويصح ذلك بوجه خاص على الدول التي يقترن فيها استغلال النفط بمرحلة بناء الدولة الحديثة " تيري كارل

لا يمكن الحديث عن التنمية والاقتصاد من دون تقديم رؤية حول النفط ، تأثيره في حياتنا السعودية بكل مجالاتها ، على الرغم من أنه كان حاضرا في كثير من القراءات التي قدمتها منها ، في التحولات الدينية والسياسية والاجتماعية

لكن هذه القراءة ستكون ناقصة من دون وضع تصورات عامة حول طبيعة التطور الاقتصادي وآليات انسياب الثروة في المجتمع وتشكل طبقاته ، وإشكاليات النفط في تأسيس التنمية .

ليس الهدف هنا أن نقدم "هجاء للنفط" والحديث عن لعنة النفط على الطريقة الثورية العربية بل العكس ، أكتب ولدي تصور مبكر للعاهة العربية في رؤية النفط عند النخب منذ عقود .. وللأسف فإن هذه اللغة التي سادت في الثقافة العربية عن النفط ، والحديث عن الثروات النفطية هما اللذان صنعا حالة التردد من الكتابة بشفافية ومسؤولية عن هذه الثرون

إن نوعية الخطاب التي سادت هي جزء من " لعنة النفط " إذا جاز لنا استعمال هذا التعبير فأصبح تناوله بلغة نقدية موضوعية بعيدا عن اللغة الثورية عربيا ، أو اللغة الوعظية التنموية محليا ، محاطا بشبهة الموافقة على خطاب هجاء النفط السائد .

أحدث النفط انقطاعا حقيقيا مع السعودية القديمة، ومع ذلك فالنخب السعودية لم تطوّر رؤيتها للمسألة التنموية والاقتصادية وفق رؤى وتصورات منهجية فكرية لفهم مشكلات التنمية والتحولات الاقتصادية من خلال خبرتها في الواقع المحلي وتفاصيله .

هذه الرؤية لن يقدمها زائر عابر ، أو دارس أجنبي توفر له بعض الأرقام والمعلومات لأنه فاقد للكثير مما يجب استحضاره في طبيعة الإدارة في التجربة السعودية التي تتطلب معايشة لأجوائها بذهنية منفتحة راصدة ، ولن يكون لهذه المعلومات والأرقام حيويتها وصدقيتها والقدرة على تفسيرها .

هناك عجز حقيقي في تقديم فكر وخطاب تنموي واقتصادي عن حالة مجتمعنا وتشخيص تجربته ، بعد عقود عدة من النجاح والإخفاق ، على الرغم من أن قضية التنمية من أكثر الموضوعات استهلاكا في الإعلام والصحافة .

وأحاديث السعوديين والمسؤولين ، فقد تحول المنجز التنموى الكبير بعد السبعينيات إلى مكون رئيس في خطاب الإعلام الرسمي والسياسي .كثيرا ما تطرح الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة هموم التنمية عبر الحوارات واللقاءات والمناسبات العامة ، وبين مختلف الطبقات تعبر عن قضاياها

من خلال الحديث عن مشكلات الطرق والمواصلات، وعمل البلديات والمخططات في المدن والقرى وقضايا الصحة وشؤونها ،وعن أسعار النفط وميزانية الدولة الخطط الخمسية ، والمؤسسات الحكومية والمدارس ومشكلات المياه والزراعة .. وهموم المواطن المتنوعة المتصلة بصورة كبيرة بمسألة التنمية .

فالصحافة المحلية هي بعكس ما يحاول البعض بأنها ظلت بعيدة عن هموم التنمية ، فهذه القضايا أصبحت جزءا من ثقافة الأفراد في المجتمع لكثرة الحديث عنها في المجالس ولهذا تجد أفرادا من عامة المواطنين وكبار السن لديهم الكثير من التفاصيل عن المشاريع التي ستنفذ مستقبلا ، أو نفذت في الماضي ، ويسردون العيوب والمميزات بسبب خبرة اكتسبوها من هذه الأحاديث .

ما تفقده هذه الأحاديث في الرسالة الإعلامية في طرح الصحافة منذ زمن مبكر هو "الرؤية " ولهذا بعد العقد الثالث من هذا الشوط التنموى الكبير تحولت هذه الأحاديث والهموم إلى مهرجان شكاوى فقط ، وطرح مكرر ، وحديث عن الفساد والسرقات .. وأيضا من دون " رؤية" لهذا الخلل !

في البدايات التنموية كنا نقرأ في أحاديث الكبار ومجالسهم ردود فعل عفوية ومباشرة لما يطرح من مشاريع ويتناوله الإعلام من قضايا حول هذه المنجزات .

بعد ثلاثة عقود فإنه يمكننا أن نتحدث عن تشكل ثقافة شعبية محلية وقناعات تراكمت حول حيل البحث عن مصالحها وحقوقها عبر تعبيرات سائدة " خليك ذيب .. وشف لنا أحد .. وفلان واصل .. وما لقاها إلا فلان .. ودبر لك واسطة ".

كل هذه التعبيرات وغيرها ، والتي أصبحت شائعة في مجالسنا الحميمية ، هي جزء من ثقافة الوعي التنموي والذي تشكل .

لقد تجاوز المجتمع ردة فعله العفوية وأصبح محكوما بأنماط ثقافية سادت صنعتها النخب المحلية ، والذهنية الحكومية في مناصب كبيرة وأصبحنا أمام ظواهر بحاجة إلى قراءات خاصة لحالتنا وتأثير النفط ، وذهنية الفساد، وملامح تشكل البرجوازية السعودية ودورها في الشأن السياسي والديني والاقتصادي .

لا تهدف إلى التشعب في عرض تأثير النفط والنمو الاقتصادي في الفرد والمجتمع بقدر ما نحاول عرض تصورات عامة لطبيعة الحراك الذي حدث والآليات التي يعمل بها الآن .

في مرحلة مبكرة كان لدى اهتمام بقراءة ما يتعلق بالتنمية خاصة في السعودية فأنا من جيل تفتح وعيه على ثورة تنموية كبرى ، وعايش في سن مبكرة انبهار كبار السن بأرقام الميزانية والمشاريع التي يعلن عنها وإعلاما غارقا في عرض هذه المنجزات؛

لهذا لا أقدم هنا مجرد تصورات انطباعية إنشائية عابرة بقدر ما هو تأمل مبكر نظري وعملي وقد عملت أيضا في الدولة وأشرفت شخصيا على مشاريع بمبالغ كبيرة فوق الخمسين مليونا؛

ولهذا أدرك عمليا المسار الذي يبدأ فيه المشروع وينتهي إليه في الدولة وتفاصيل علاقة وزارات ومؤسسات الدولة بوزارة المالية وطبيعة عمل الأجهزة الرقابية وتفاصيل هذه الإجراءات .

المجتمع الهيدروكربوني !

"ما النفط إلا براز الشيطان .. إننا نغرق في فضلات الشيطان".. بيريز ألفونسو وزير النفط الفنزويلي السابق

جاءت تسمية المجتمع الهيدروكربوني مستمدة من حقيقة أن معظم الدول التي تمارس هيمنة مطلقة على شؤونها الداخلية والخارجية اعتمادا على إنتاج سلعة أولية واحدة هي دول نفطية .

وهذا يؤدي إلى سيطرة الدولة على الإنتاج بشكل عام ، ويمكن القول إن أوجه التشابه الأساسية بين هذه النوعية من المجتمعات تتلخص في عدم وجود حد فاصل بين ملكية الدولة أو ميزانيتها ، وملكية الحكام وميزانيتهم ، وهذا يؤدي إلى عدم الحاجة إلى التمثيل السياسي (نصر عارف ، النخبة السياسية في العالم العربي) .

لقد تشكل مفهوم الاقتصاد الريعي في هذه الدول،وأدري إلى كسل النخب الاجتماعية يري (سمير أمين) أن اكتشاف النفط أدي إلى إغراق المنطقة بالرأسمالية العالمية، وتكون نظام لا مثيل له من حيث التخلف والثراء (مفيد الزيدي، التيارات الفكرية ص 29 -30) .

ومن أفضل الدراسات التي التي رصدت مخاطر الدولة النفطية هي التي قدمها (تيري كارل) حول مخاطر الدولة النفطية ، كانت الدول الصناعية ترتعد هلعا من مغبة تحول منظمة الدولة المصدرة للنفط "أوبك" إلى أكبر صير في جبار في العالم

فقد كان مصدرو النفط في حالة انتشاء ، ويعتقدون أن الرخاء سيوفر لهم قاعدة مستديمة لاقتصاد ما بعد النفط (تيري كارل ، مخاطر الدولة النفطية ، ص6).

وقد اتضح أن هذه التنبؤات والتكهنات ليست سوى صيغة جديدة من "أسطورة ميداس" فبعد مرور ربع قرن على الفورة النفطية لعقد السبعينيات نجد أن أغلب الدول المصدرة تتمرغ في أزمة (مرجع سابق ، ص 76) .

إن النفط يلقي بظلاله القاتمة أو "يبترل" كل شئ فهو "يبترل الاقتصاد" ويبترل " السياسة ، و" يبترل" كل شئ في هذه البلدان ولا يعني هذا أن البلدان النفطية أسوأ حالا من نظيزاتها غير النفطية فقد يكون الحال على هذا النحو أو لا يكون تبعا للظروف والمقارنات (مرجع سابق ، ص 9) .

" إن اقتصاديات البلدان المعتمدة على النفط ونظمها السياسية تتشكل جوهريا بفعل دفعة الدولارات النفطية على نحو يفردها ويميزها عن باقي الدول فالثروة النفطية قادرة على صب المؤسسات في قوالب معينة صبا محكما فاق مخيلات ومدارك أفضل الاختصاصيين

ويصح ذلك بوجه خاص على الدول التي يقترن فيها استغلال النفط بمرحلة بناء الدولة الحديثة (مرجع سابق ، ص 13) هذه الأفضلية المالية تميل إلى تقوية نزعات الاستهلاك بحيث تطغي على نزعات الإنتاج .

إن مشكلة الخطر الأخلاقي ومخاطر نشوء رأسمالية المحاسيب تطفح تماما، وإن ما يميز الدول النفطية عن غيرها من الدول هو هذا الإدمان على عوائد النفط ، وبالطبع فإن "هوس النفط" لم يقتصر على الحكام

ذلك لأن يسر الحصول على الأموال السهلة يضعف أخلاقيات العمل التلقيدية ويضعف محفزات تنظيم العمل في السوق كما يضعف الانضباط المالي (في الصرف داخل أجهزة الحكومة) (مرجع سابق ، ص 14) .

كما أن الدولارات النفطية تشجع أسلوبا في السياسة يتميز بالميل المفرط لإلقاء المال على المشكلات أو عند تعذر ذلك إرجاء الخيارات النفطية الصعبة لحين مجئ فورة نفطية جديدة فتحل الدولارات النفطية محل الحنكة السياسية لإدارة الدول (مرجع سابق ، ص 15 -17) .

أما مؤشر الفساد الذي بلورت منظمة "الشفافية الدولية" يضع أعضاء في (الأوبك) في موقع الدول الأكثر فسادا في العالم (ص 21).

ويشير (ت. كارل) إلى أن المعدل الوسطي للنمو الفعلي الإجمالي الناتج المحلي في دول الأوبك ، وخلال فترة العشرين سنة الماضية التي أعقبت الفورة النفطية في السبعينيات كان أقل بكثير من المعدل الوسطي لهذا النمو قبل الفورة ، ولقد أرسي كل نظام من أنظمة الحكم هذه عجلات التأبين السياسي على زيت الثروة النفطية (ص 23) .

وليس من المستغرب أبدا أن يذهب ما بين 65 إلى 75 بالمائة من جمالي الناتج المحلي بعد عام 1974م إلى الاستهلاك العام والخاص ، مستهدفا قبل كل شئ إرضاء الجماعات الأساسية التي تساند حكام دول النفط (ص 26) .

إن عقلانية الدولار النفطي هي عقلية ريعية بلا موارية ، ولا يوجد ما يسعف لوأد هذا السلوك في إنشاء الأتباع والمحاسيب ، وإن مشكلات دول النفط تنبع جزئيا من "المرض الهولندي" الذي لوحظ خلال فترة فورة الغاز في الستينيات

وهو يبين كيف أن العائدات الوفيرة المتأتية عن تصدير سلعة أولية يرفع من القيمة الفعلية للعملة ما يحطم من القدرة التنافسية لسلع التصدير الأخري .حذر (آدم سميث) من مخاطر ريوع المعادن، وقد وصفها بأنها " دخل الذين يحبون أن يجنوا ثمار ما لم يبذروه" (ص 28 -29) .

إن وفرة إيرادات النفط تغير حسابات حتى أكثر السياسيين حكمة وحصافة ما يجعل القدرة على "تعلم" الدروس أصعب ليس فقط بين بلد وآخر ، بل حتى داخل البلدان ويصح هذا بدرجة أكبر إذا كانت إيرادات النفط وفيرة جدا ، وكانت النظم السياسية شديدة المركزية وكانت السلطة السياسية مندمجة بالسلطة الاقتصادية ، وكانت الهياكل الإدارية ضعيفة

وكانت الدولة لا تتوفر على قاعدة ضرائب بديلة من عائدات النفط ، وفي ظل مثل هذه الظروف نري أن الجهود التي تبذل لتفادئ الوقوع في "مفارقة الوفرة" قد تبددت هباء .

"وإن الأسعار المتدنية اليوم في خريف 1999 م تؤلف فرصة مناسبة لخلق دينامية تنمية مغايرة تماما ، ولكن لما كانت الأسعار مرشحة للإرتفاع فإن هذه الفرصة لن تعمر طويلا ، لكن المفارقة أن الأسعار المرتفعة تميل إلى غلق نافذة الإصلاح" (ص 33-38) .

هذه الأعراض المرضية عامة ، وليست خاصة بدولة دون أخرى حتى لا يلقي اللوم على ثقافة دون أخرى ،أم نظام دون آخر ، وهذا يتيح لنا رؤية القضية بعيدا عن الآراء المتحاملة وتهم التخوين التي يوجهها خطاب الشتم للنفط .

على الرغم من وجود دول نفطية متعددة في مناطق مختلفة من العالم ، وتحصل على ثروات ضخمة من إنتاج النفط ، إلا أن السعودية من أكثر دول العالم تأثرا بالعامل النفطي لأن الفوارق بالأرقام كبيرة جدا بينها وبين دول أخرى ، وما يعرض من أرقام ليست مبالغة بقدر ما هي حقائق باتت معروفة منذ عقود عدة .

النفط ثروة ونعمة . لكنه أيضا له أمراضه ومشكلاته ومخاطره التنموية ومن الأخطاء السائدة أن يتوهم بعض النخب المحلية والخليجية أن الحديث عن لعنة النفط يعني استهداف دول بعينها لكن من يطلع على أدبيات ما يكتب في الشأن الاقتصادي من دراسات للدول التي تتوافر فيها هذه الثروة النفطية ستقل لديه هذه الحساسية من هذا الخطاب النقدي

وسيتعامل مع الموضوع بقدر من العقلانية في تقييم هذه الثروة التي شكلت سمات خاصة في الدول النفطية لاحظها كثير من الدارسين ، بسبب مظاهر التنمية السريعة التي عززها النفط ومع إيجابية ها الجانب إلا أنه لا يخلو من مخاطر في ثقافة الإنتاج والاستهلاك والإدارة ودوره في الفساد .

ولحسن الحظ أن هذه السمات التي رصدها دارسون لا تتعلق ببلد دون غيره ، حتى لا يظن البعض أن هذا موجه للخليج والسعودية أو فيه تحامل مسيس عندما نتأمل هذه الظواهر السلبية التي تفرزها الثروة النفطية في البنية الاقتصادية والادارة السياسية ، فان هذا التشابه بين دول كثيرة وفي قارات مختلفة

وثقافات متنوعة يعزز وعينا بطبيعة الإشكاليات التنموية التي تسببها هذه الثروة وستطور رؤيتنا لتحديد حجم الأضرار التي أحدثها النفط في جهازنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .

إن وجود هذه الأمراض النفطية في دول عدة وفي ظروف مختلفة يصنع رؤية موضوعية هادئة لظاهرة تبدو طبيعية في عالم الاقتصاد وتطور المجتمعات .

ومن المؤكد أن هذه الأعراض النفطية ستختلف من دولة إلى آخري بالدرجة والنوع وفقا لحجمها وطبيعة المجتمع والنظم السياسية وإن استعراضها بوعي لا يهدف إلى شتائم للواقع وإدانة وعظية عن الفشل التنموي

فلن تكون السعودية استثناء، ومع إيماننا بوجود الكثير من هذه الأمراض إلا أن هذا لا يعني إنكار المنجزات التنموية التي تمت ودور هذه السلعة الحيوية فيها .

وحول عائدات النفط كما يري (نداف سافران) قبل أكثر من عقدين ، بأن الفوائض المالية الهائلة حمت وحفظت الكيان السعودي من تواترات التنمية

ووفر ت درعا واقية لمواجهة الأخطاء ونقص الفعالية ، فالقدرة المالية مكنت النظام من تلبية المطالب والتوقعات المادية لكل شرائح المجتمع ، بما فيها الطبقة الوسطي الجديدة ومن ثم تخفيف حد المزاحمة على الكوادر التي كانت في معظم الأحيان تقود إلى سقوط الأنظمة في دول أخرى في طور التحديث .

فقد حررت هذه الثروة دولة أكبر مصدر للنفط ومالك للإحتياطات من الارتباكات الاقتصادية بكل ما لذلك من آثار سياسية متشعبة ، ومنذ منتصف السبعينيات أصبحت السعودية قادرة على توجيه طموح الطبقة الوسطي

ومع أن هذه الثروة موضع حسد من أنظمة تحديثية أخرى ، إلا أن ذلك ليست ضمانة ضد أى اضطراب اجتماعي وسياسي في المستقبل .بعد مرور عقود عدة ، ومرور أسعار النفط بتقلبات كثيرة حتى اقترب عام 1999م من العشرة دولارات ، ثم بعد سنوات عدة يصل إلى ما فوق المائة دولار!

فقد تأكد أن للسعودية سمات خاصة في السعودية ، كمظام مركزي مستقر وذي مشروعية قوية قبل النفط وبعده ، في مجتمع غير ثورى لم يتعرض لعملية تسييس ثورية وعسكرية من قبل ويدار بمركزية تقليدية فمع كثرة المؤسسات والجهات المختصة ، إلا أن المجتمع بمختلف فئاته يدرك أين الصلاحيات الحقيقية موجودة .

وعندما نشير إلى هذه المركزية فإن ذلك لا تعني هنا الذم أو المدح بقدر ما هو وصف للواقع ،فأحيانا تكوى المركزية أفضل وبالعكس كما هي المفاهيم التقليدية في علم الإدارة لهذا تبدو عدم معقولية بعض الأصوات الغربية التي تحذر وتبالغ في تصوير أمر أى اضطراب ، وكأن البلد سينهار بمجرد حدوث تفجير أو ظهور معارضة جديدة !

النخب الاقتصادية .. وخطابها الغائب

من أساسيات أى رؤية تنويرية وجود رؤية حول المجال الاقتصادي ، فمن غير الممكن أن نتحدث عن المجتمع المدني أو حقوق الإنسان وقضايا الفساد ومشكلات الحضارة وهموم التنمية

من دون أن تكون المسألة الاقتصادية في مقدمة هذه الاهتمامات لأى مثقف يحاول فهم تكوينات مجتمعة وتشكلات القوى المؤثرة فيه ، فالشأن الاقتصادي متداخل في المجال السياسي ولا يمكن التفكير بأحدهما من دون الآخر ، وبخاصة في الدول الريعية .

الوعي بالمسألة التنموية ، وارتباط الاقتصاد بهذا الوعي ضرورة لأي مثقف بغض النظر عن شعارات الاهتمام بمصالح الشعب والمجتمع ، وأهمية عدم عيش النخب في بروج عاجية فحتى الخطاب الديني عندما تتطور رؤيته للتنمية ومشكلاتها ، والوعي بأشكال الفساد الجديدة ، فإن آراءه الدينية ومواقفة وفتاواه ستدرم ما هو مهم وما هو غير ذلك

فلا يمكن للخطاب الثقافي المهتم بتفسير الظواهر والتحوّلات في المفاهيم والقيم أن يطور إدراكه إلا من خلال وعيه بطبيعة تجربة بلده التنموية ، وتصوره لأشكال القوى الجديدة التي ظهرت والقوى التي تلاشت ، والوعي بأنماط الفساد التي كان المثقف جزءا منها .

في كثير من دول العالم الحديث توجد نخب اقتصادية لها سمات ومدارس خاصة في رؤيتها التنموية والاقتصادية ولديها العديد من الكتابات والدراسات عن اقتصاد دولها وسياستها التنموية لتصف مجتمعها بصورته الواقعية ، وفق مفاهيم اقتصادية حديثة .

استعراض تعريفات مطولة عن التنمية الحديثة ومفاهيمها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتعليميا ، يستهلك قدرا كبيرا من المراجع الخاصة بالتنمية لدينا ثم عرض للمدارس التنموية والاتجاهات المختلفة في العالم من خلال مجموعة من الاقتباسات ، ثم بعد هذا العرض المتكرر الذي تختلف مساحته من دراسة إلى أخري

يأتي طرحهم لمفهوم التنمية في الإسلام من خلال عموميات شهيرة لأى مطلع على أدبيات الثقافة الإسلامية .ومع أن هذه الاستعراضات المطولة لمفهوم التنمية لا علاقة له بالموضوعات التي يتم اختيارها ، إلا أنها تستهلك غالبية صفحات هذه المراجع

ولا تقدم جهودا في ربط هذه المفاهيم النظرية في الواقع المحلي الذي تدرسه ، فهو مجرد عرض نظري معزول عن الواقع ، حيث يتحدث عن التنميو الإسلامية دون أن يتطرق إلى مشكلات عملية وجدت بين المحافظين وغيرهم وتأثيرهم في هذا المفهوم .

يبحث القارئ عن توصيف التنمية التي تمت في وطنه ، وليس تنظيرا ومدائح لتنمية الإسلام مقابل الآخرين ، ويأتي بعدها الفخر بالنموذج النظري دون أن يوضح كيف تمت عمليا مواجهة بعض التناقضات بين متطلبات التنمية والتحديث ومسألة القيم .

إن جزءأ من عجز التوفيقية الخاصة بالسعودية بين الرأسمالية واتجاهنا الإسلامي غير محدد التفاصيل ، فهي تجربة ينقصها الوصف الدقيق نتيجة تخلف الخطاب الفقهي، وأيضا عجز النخب الاقتصادية والثقافية في معالجة مثل هذه القضايا .

هذه الدراسات إما أنها لم تدرك طبيعة المشكلة بعد ، أو أنها تتهرب من تحديات مثل هذه القضايا التي تحتاج إلى خبرات وتأمل طويل .

في الحالة السعودية لم تظهر كتابات عن التنمية ومنجزاتها وفق رؤي فكرية عصرية لتحديد فلسفتنا التنموية ومميزاتها وعيوبها ، وما وجد من كتابات هو عرض وفق قوالب محددة في الخطاب المحلي دون رؤية فكرية نقدية

وهذا لا يعني عدم وجود مقدرة ، فالنخب الاقتصادية أكثر حيوية ووعيا من غيرها ، وأكثر دقة في تصور الأزمات التنموية ومستقبلها ، لكن تمنعها المصالح الشخصية المتشابكة والمعقدة في المبادرة لتأسيس مثل هذا الخطاب .

فعلي الرغم من تزايد عدد الأقلام التي تظهر في صحافتنا وقنواتنا الفضائية في السنوات الأخيرة بصورة لافتة ، لا نجد طرحها إلا في تفاصيل تجارية محددة، ومشكلات انتقائية ، من دون معالجات لرؤى كلية في الفلسفة الاقتصادية والتنموية

والذين اهتموا بالكتابة عنها لا يملكون خلفية فكرية عميقة، ولهذا كان الطرح الإعلامي بخصوص التنمية مجرد مواعظ ، ومديحا وتعبيرات صحافية سائدة لا تحمل فكرا تنمويا ، حتى في حالة تقديمها نقدا لأخطاء في مشاريع كثيرة كما يحدث في الصحافة .

في هذه المرحلة لا نحتاج إلى الكتابة المدرسية التعليمية من المراجع الكلاسيكية في الاقتصاد ، أو تحديد منهد التجربة التنموية السعودية وفق الشعارات الرسمية التي تقدمها جهات رسمية أو إعلامية مستهلكة في الخطاب منذ عقود عدة ، فالحديث عن الخطط الخمسية مهم لفهم الرؤية الحكومية ، وهو متاح لأى مطلع وباحث .

إن مهمة هذه النخب الغائبة هي عملية تقييم ما حدث ويحدث على أرض الواقع ، ومقارنته بالرؤى الاستراتيجية العامة ، وأين مكمن الخلل في بعض ملامح التجربة

إننا بحاجة إلى رؤى تمزج الخبرة العملية بالتنظير الواعي بأسس ونظريات التنمية الحديثة ، مع خبرات في طبيعة الإشكال المحلي دينيا وسياسيا واجتماعيا هذا النوع من الكتابة فقدته الحالة السعودية في صحافتها وإعلامها وندواتها .

ولهذا كانت تجربة (غازي القصيبي) المبكرة في الكتابة عن التنمية ومحاضراته أثناء مرحلته الذهبية ذات قيمة تاريخية وفكرية مؤثرة ..

وأذكر في سن مبكرة ، وكيف كان تأثير مثل هذه الكتابات في الوعي ، حيث تحولت قضايا الكهرباء والصناعة إلى موضوعات فكرية في بعض جوانبها ، لكنها تجربة وحيدة فالقصيبي ظل محاصرا في ظروفه الملية ، فلم توجد مدارس في خطاب التنمية المحلي .

ثم بعد عقدين جاء كتابه الشهير حباة في الإدارة في عام 1998م، كملخص لتجربته العملية والنظرية للواقع السعودي ، ولهذا كان الكتاب من أهم كتبه ، ورأينا كيف نجح ، لأنه قدم الأحداث والتطورات مع رؤيته الخاصة وتفسيرها ، وعرض رؤية المسؤول في الدولة في كثير من الأمثلة .

ومع أهمية اقتصادنا محليا وخارجيا في التأثير إلا أنه لم يوجد خطاب اقتصادي يعبر عن أوضاعنا وتطوراتنا التاريخية والحالية ولهذا بدأ الجميع يشعر في السنوات الأخيرة بحجم التخبطات الإدارية والآراء العشوائية الانطباعية حول تجربتنا التنموية الكبري .

لقد كتب "جوريس" في تاريخه الاجتماعي:

"نحن نعلم أن الشروط الاقتصادية وأنماط الإنتاج والملكية هي أساس التاريخ نفسه" (ألبير سوبول ، تاريخ الثورة الفرنسية ، ص6) .

بدايات تشكل الوعي بالتنمية والمواطنة

" الله يعز الحكومة .."

إن التنمية التي حدثت منذ بدايات الخطط الخمسية ، خلال عقود عدة قدمت مشروعية للحكم تفوق الكثير من المؤثرات الأخري ، فالتطور التعليمي والصحي ونشوء المدن الكبري ..

وغيرهما من المنجزات الحقيقية، واكبها خطاب إعلامي وشعور شعبي عام بأهمية الدولة والحكومة في حياة الأفراد الخاصة ، وتأثيراتها الإيجابية، حيث بدأ المواطن والفرد يشعران وكأن الحكومة الأم الحنون التي يلجأن إليها في كثير من المشكلات الحياتية .

لقد تشكل وعي المواطن بالعالم من حولنا بالمرحلة الذهبية من التنمية، حيث رأي على أرض الواقع منجزات وطنه ، والحديث عنها في كل مكان ، فما تم إنجازه ما بين عامي 1975 ، 1985 م على مستوى البنية التحتية ، وظهور الطبقة الوسطي كان تاريخيا ويستحق الإشادة .

لن أستعرض مفهوم التنمية في هذا العصر وفق معايير تتطور باستمرار وتعبر عنها التقارير السنوية الدولية لتصنيف مستوى التنمية في جميع الدول حيث تتغير وفق معطيات كل مرحلة

تقدم الكثير من المراجع في شأن هذه المعايير وتطبقها على الواقع ، استعراض وضع السعودية التنموي بالأرقام متوفر لأى باحث من خلال تقارير سنوية عدة

والتفصيل هنا سيأخذ مساحة كبيرة لسنا بحاجة إليها هنا ، فالوضع التنموى والاقتصادي العام للسعودية يمكن تصوره ووضعه في سياق النمو دول العالم المختلفة، وما نحن بحاجة إليه هو تسجيل ورصد بعض تطورات الذهنية السعودية في رؤيتها للتنمية

من خلال معايشة مبكرة لتطور تفاصيل هذه الرؤية من داخل المجتمع ، متزامنة مع اطلاع ومتابعة للمتغيرات التنموية ، لأن تدوين هذه الرؤية سيعزز وعينا السياسي والفكري في تغيرّات مجتمعنا .

لقد كانت التنمية عند الجيل السابق وظروف مرحلتها ينظر إليها على أنها " مكرمة " حكومية حيث يتكرر دعاء "الله يعز الحكومة" في كثير من المجالس ، ونستمع لهذا الدعاء بكل صدق وعفوية من كبار السن رجالا ونساء مع كل خبر إيجابي لمشروعات جديدة .

فقد كانت تعزز الولاء الشعبي للحكومة بقوة ، حيث لم تكن مفاهيم الوطنية الحديثة حاضرة في شعاراتها كما هي اليوم ، فقد كانت وطنية الآباء من نوع مختف ، وانتماؤهم صادقا غير إعلامي نفعي .

أحاديث الكبار التي أسمعها من معارف وأصدقاء والدي حينها لم تكن لدديها الرؤية للتنمية وفق مفاهيم العصر الحديث على الرغم من أن أغلبهم متعلمون ومنخرطون في التعليم والقضاء فلم يكن هناك وعي بمفهوم الدول الحديثة وواجباتها ، وأنه من واجبات الدولة وليس مكرمة ، وحتى عندما يشير

المسؤول كثيرا في الإعلام إلى أن هذا واجب علينا ، فقد كانوا يفهمون منه أنه تواضع منه! وعندما سمعت ذات مرة من أحد الكبار من معارفنا أن أمريكا تضغط على السعودية من أجل التنمية لم أفهم لماذا في تلك السن المبكرة خاصة أنه هو نفسه الذي يتحدث عن دعم أمريكا لإسرائيل !

من المؤكد أن التعبير بكلمة " مكرمة " كان من نحت الإعلام الرسمي والصحافة لكن المجتمع تقبلها بكل صدق وعفوية ، دون تفسيرات سياسية ذات خبث نقدي لكن تطورت الذهنية المحلية بمرور الوقت ، فأصبح هذا التعبير جزءا من السخرية والنكت والتعليقات عليه مع تزايد مشكلات التنمية وكان للإعلام وخطابه غير الذكي دور في كره هذه المفردات .

لقد حدث تداخل في ذهنية الجيل السابق وهو ينتقل إلى عصر الحداثة لمادية ، فلم يدرك أن جزءا كبيرا من التطورت التي حدثت في مجتمعه كانت جزءا من تطور عام للبشرية في التقنية والعمران واستهلاك مختلف المنتجات الحديثة فأصبحت التطورات العالمية وتغير العالم منجزا للحكومة أيضا ، قبل أن يبدأ الوعي بالتمييز.

معدلات التنمية منذ السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات كانت نقطة تحول في بنية التفكير الشعبي ، فلم تكن المشاريع المنجزة في تلك المرحلة مجرد أخبار كما في مرحلة التسعينيات وما بعدها لأن المشاريع الكبري كانت جديدة على المجتمع من جامعات ومطارات وطرق سريعة ومشاريع زراعية كبري وغيرها .

وأذكر كيف كان انبهار المواطن البسيط عندما افتتحت هذه المشاريع ، ثم جاءت مشروعات الحرمين وتطويرهما التي تأخرت إلى ما بعد منتصف الثمانينيات إلى بداية التسعينيات ، وأصبحت جزءا من مفردات الخطاب الإعلامي المكثف في تلك المرحلة .

منذ التسعينيات بدأت بالظهور مشكلات التنمية بعد مرحلة طويلة من نزول أسعار النفط وحرب إيران ثم غزو الكويت .. حيث أصبحت مرحلة التسعينيات عقد الشكاوى حول القبول في الجامعات ، والحصول على وظيفة ومنزل وهاتف .. الخ .

تبدو مشكلة خطاب التنمية السعودي أنه تأسس على ذهنية المقارنة بين الماضي والحاضر ، ونحن والآخرون ، هذه المقارنة في السبعينيات والثمانينات سهلة مع العدم التنموى ، حيث لا جامعات ولا مطارات في السابق .

كان هذا يؤثر في الرؤية النقدية لمشروعات التنمية ، لأن الحاضر (فيه شئ) أفضل من الماضي (لا شي) ففي السابق لم يكن لدينا كذا ، والآن لدينا كذا. في السابق الأرقام متواضعة والأن كبيرة ..!

تغيب هذه الآلية القدرة على تقييم كفاءة الأداء الإداري وكشف الفساد .. ومقارنة أرقام هذه المشاريع وتقييم الجدوى والتكلفة الاقتصادية .

بعد نهاية نشوة الطفرة ظهرت نغمة خطابية أخرى، بأن الطفرة انتهت وبدأت المواعظ الإعلامية منذ نهاية الثمانينيات ومرحلة التسعينيات الميلادية في محاولة لتعديل الذهنية الشعبية لتتكيف مع المشكلات التي بدأت تظهر مع أن التنمية لا علاقة لها بطفرة تأتي أو لا تأتي !

جاء الحديث في تلك المرحلة عن دور القطاع الخاص وواجباته ، وأن الدولة ما قصرت ، وعلى الرغم من التحول المبكر في الخطاب التنموى لتأكيد أهمية دور القطاع الخاص منذ العقد الماضي فإنه حتى الآن لم يقدم رؤية دقيقة عن مفاهيم اقتصادية للتفريق بين القطاع العام والخاص ، والتثقيف في تجارب دول عديدة ، وهل القطاع الخاص لدينا " خاص "

على الرغم من كونه قطاعا خاصا قانونيا إلا أن النخب التجارية تربت على الأبوية المفسدة لدورهم ، ثم لاحقا التبعية التي صنعتها مركزية القوى المؤثرة ولهذا يتحول الخطاب إلى مجرد مطالبات ونصائح أكثر منه خضوعا لمنطق القوانين والأنظمة المفترض أن يحددها نوعية نظامك الاقتصادي والسياسي .

الدول وخطاب التنمية

لقد نشأ الخطاب الاقتصادي المحلي بكتابات أقرب إلى العامية في الإنشاء ومديح المنجزات التي كانت حقيقية وتستحق الإشادة لكنها تطورت إلى لغة جامدة ومملة للوعي الشعبي .

وهذا الخطاب نشأ في مرحلة كان مسار التنمية في أقطار عربية كبري يتراجع وينهار ، مقابل ذلك كانت السعودية تواصل صعودها التنموي القوى وقد خدمت هذه الفكرة الخطاب الإعلامي كثيرا في توجيه الرأي العام ، لكن مع بداية ظهور المشكلات الإدارية ، والضعف في مسار التنمية في التسعينيات

حيث طغت الأخبار السلبية من بطالة ومشكلات تعليم وصحة على الأخبار الإيجابية ، في هذه المرحلة كان هذا الخطاب استهلك صحافيا في المقالات في الحديث عن فشل الثورات العربية ، أصبح المدلا الزمني لا يسمح بتكرار هذه اللغة دائما ..

ومقابل ذلك كانت هناك تجارب خليجية تنموية تبرز على السطح ، وأصبح نجاح الأقطار الخليجية الصغيرة في أى شئ محرجا للشقيقة الكبري ويغطي بريقها منجزنا التنموى خاصة أن هذه الدول أصبحت بعد حرب الخليج أكثر تحررا .. فالجميع اعتمد على الولايات المتحدة للدفاع عن الوطن في تلك الحرب .

كانت الكويت أسبق الأقطار التنموية ، لكن المجتمع السعودي تكيف تاريخيا مع التطورات الكويتية بوصفها حالة خاصة ، بعكس التطوير المتأخر للإمارات وقطر ..

ومع ذلك فقد كانت هناك ضغوط نشرت في بعض المذكرات لشخصيات كويتية من أجل إعاقة نمو الديمقراطية فيها ، وأخذ بعض كتابنا بالتركيز على فكرة أن الديمقراطية تعيق التنمية وهي نصائح غير بريئة لمن يمارس لعبة انتقاء الأفكار النفعية المؤقتة !

من أبرز التناقضات السائدة في خطاب بعض النخب أنهم يريدون من المجتمع أن يتطور ويتحول إلى مجتمع عصري في التنمية .. وفي الوقت نفسه يريد أن تبقي العلاقات والقوى السياسية والاقتصادية والمفاهيم نفسها للدولة حاضرة ، وذهنية الراعي الرعية .

إنهم يريدو تحديثا شكليا في التفاصيل وطريقة الاستهلاك والإنتاج من دون تحديث قوى لطبيعة المؤسسات والقوى المؤثرة واستقلاليتها .

لقد أصبح لدينا أكثر من جيل عاش تنمية الطفرة وما بعدها ، وشهد التطورات الاقتصادية المختلفة . الجيل الحالي لا يملك عقلا تنمويا على الطريقة التقليدية القديمة السابقة في رؤيته للحكومة ودورها ..

ولم ينتقل بعد إلى مفهوم الحكومة وفق لغة العصر السياسية ، والوعي الحديث بالتنمية ومتطلباتها ، ولهذا سيكون هذا الجيل تائها بين رؤيتين :

رؤية تم تجاوزها زمنيا ولا يمكن إعادة فعاليتها لجيل مختلف في تعليمه ووسائل اطلاعه ، وحتى لو اجتهد الإعلام مرة أخرى في إعادة تفاصيل تلك المرحلة ، فلن يتمكن من إعادة الظروف التي صنعت رؤية ذلك الزمن .
ورؤية عصرية وفق مفاهيم عالم اليوم ومتطلباته السياسية والاقتصادية وهي رؤية تواجه ممانعة طبيعية من رواسب الرؤية الماضية .في مراحل مبكرة كنت حريصا على متابعة جميع تفاصيل الخطاب الرسمي ، وكان هذا الخطاب في عصره الذهبي من خلال كلمات الملك فهد .

فقد كان متحدثا بوعي كبير وخطابه يتضمن رؤية واضحة لفكر الدولة وتوجهاتها في كل مرحلة .كانت المناسبات العديدة والمتنوعة التي ألقي فيها كلماته التاريخية لسياسي محنك ذات قيمة كبري للوطن والمواطن ، ومن حسن الحظ أني عايشتها بكل تفاصيلها ، وتفاعلات الإعلام معها .

تكمن أهمية تلك الكلمات أنها وفرت لنا كمتابعين رؤية تعبر عن منهج الدولة وتفكيرها حينها في كل مجال ، ومع أنها تأتي في الغالب كلمات ارتجالية غير مكتوبة ، فقد كانت كلمات ناجحة وشاملة في محتواها في صناعة الوعي بالدولة .

لقد تكرر مثل هذا الخطاب والكلمات من أعلي مسؤول في الدولة في مناسبات متنوعة اقتصادية وتعليمية وسياسية ودينية .. ولسنوات طويلة ، حيث تربي عليها المواطن وشعر بأن الوطن يتحدث إليه

وبأن أكبر مسؤول يخاطبه مباشرة وهو ما بدأ يتلاشي في السنوات الأخيرة فأصبحت الرؤي العامة غير واضحة للنخب والإعلاميين المراقبين ، وشعر المواطن بالتيه !

في تقييم أداء التنمية

عندما نتحدث عن التنمية في السعودية فإننا أمام واقع حقيقي يشهد بوجود تغيرات ضخمة نقلت مجتمعنا إلى العصر الحديث ، لكن كيف يمكن قياس كفاءة الأداء وتقييم هذا المنجز بعد عقود عدة؟

هل بطريقة المقارنات العامة مع أقطار عربية عديدة فشلت في تحقيق استمرارية تنموية و صناعة اقتصاد قوى كالعراق ، ومصر وسوريا الجزائر .. وغيرها أو المقارنة مع أقطار متقدمة في الشرق والغرب !؟

بكنالقراءة لهذا المنجز التنموى من خلال تقييم معدل الإنفاق عليه ، وبمشاريع مماثلة في دول أخرى ، هو الأكثر موضوعية وفائدة اقتصادية .

فكرة المقارنة مع الأقطار العربية تبدو في بعض الكتابات الصحافية وما زالت ، مع أنه لا توجد مقارنة من حيث الأرقام في تصدير النفط لأى قطر عربي حتى للأقطار النفطية فالفوارق في الإمكانيات كبيرة ، مع ضرورى استحضار أنها أنظمة ثورية فاشلة مقارنة مع نجاحنا في تحقيق الاستقرار بحنكة الأداء السياسي

لكن هذا يجب ألا يخل بالوعي الاقتصادي والتنموى واحترام لغة الأرقام فدخلها لا يقارن بدخلنا من النفط ، ويستطيع أى متابع لأخبار النفط معرفة هذه الأرقام بسهولة .

قدرت تكلفة الخطة الخمسية الأولي 1970 م بـ 18 مليار دولار ، وفي المقابل وصلت أرقام الخطة الثانية إلى 170 مليارا ، والثالثة إلى 250 مليارا. ستعزز هذه القراءة وعينا بكفاءتنا الإدارية ، ومستوى الفساد حيث إنه في ظروف تنمية الطفرة الكبري في السبعينيات توجد مبررات كثيرة لأخطاء متعددة .

لحداثة التجربة في إدارة ثروات ضخمة ، ثم محاولة اختصار الزمن أدت إلى هذا الارتفاع في التكاليف ، وأيضا ظروف كل مشروع ومدى توفر المنفذ المناسب له لهذا من الخطأ أن نفكر فيها بمنظور إدانة سياسية أو الشغف باكتشاف الفضائح والحديث عن الصفقات دون تقييم عقلاني لظروف المرحلة .

لاشغف باللغة الفضائحية دون منهج عقلاني سيفرض علينا مزيدا من اللامعقولية في رؤية الأخطاء والفساد ، فيفرض اتجاه الصمت والحديث عنه في المحالس الخاصة

وآخر نضالي يبحث عن أرقام خرافية يعزز بها صدقيته دون تصور لظروف كل قضية، وجميعهما معالجات فاسدة تم تجريبها لواقع كان ولا يزال يحتاج إلى مساحة فهم ، وتعقل ، استبعاب للفساد المعقول والمقبول بشريا لتمييزه عن الفساد غير العقلاني بأرقام مزعجة .

المقارنة مع أقطار عربية أخرى بعد انهيار مشاريعها التنموية وأوضاعها الصعبة عزز مشاعرنا بالنحاح تلقائيا ،والواقع أنها مقارنة مشروعة في بعض أوجهها خاصة من الناحية السياسية ، حيث يتضح دور عامل الاستقرار ، والحكمة في إدارة السياسة .

لهذا من حقنا الفخر عندما نتجاوز الآخرين في نجاحات محددة عندما تكون أقطار كانت تسخر من تخلفنا في أزمنة سابقة وتتهمنا بالرجعية !

لكن المبالغة في هذه المقارنة ستخفي خلفها عددا من المغالطات فهذه الثروة حتى الآن لم تؤثر في معدل إنتاج وكفاءة الفرد السعودي ، ما يعني أننا ما زلنا في مسار متأخر ، ولم يتغير سوى المقدرة المالية .

إننا نفتقد الرؤية الحقيقية لمعدل كفاءة الإنتاج وكفاءتنا الإدارية ، والمسألة ليست مجرد أرقام يمكن عرضها بأكثر من طريقة مضللة ، بقدر ما أنني حتى الآن غير قادرين على معرفة مستوى هذه الكفاءة ومعاييرها لتقييم مسارنا التنموى

لهذا من المفترض أن يعقد العديد من النداوات والمؤتمرات لتطوير معرفتنا بمعايير التقييم الحقيقي لمستوانا في التنمية ومعرفة كفاءة القطاع العام والخاص .

وقبل المطالبة بهذه الدراسات والمؤتمرات فإن الإشكالية ظلت تكمن في طريقة هذه الدراسات وكيفية وضع الأرقام في الخطط التنموية في وزارة التخطيط مثلا ، حيث سيصاب بالإحباط من قدر له المشاركة في تعبئة هذه الخطط من جهات عدة !

من الممكن تصور الأداء الحكومي وظروفه كجهاز بيروقراطي ضخم ججدا، حيث لا تزال الميزانيات الكبرى التي توفرها الثروة النفطية تخفي تحتها معضلات إدارية كبرى

وحتى القطاع الخاص والشركات التي تبدو ناجحة من بنوك ومصانع عملاقة لا نعرف بدقة حقيقة كفاءتها بمعزل عن عامل النفط ، والأمور المؤثرة التي تفسد قوانين المنافسة العادلة باحتكارات وتسهيلات خاصة .

وللأسف يبدو قياس هذه الكفاءة بمعزل عن هذه العوامل صعبا جدا فليس لدينا شركة من الشركات الكبرى ، التي تفتخر بقوتها ومتانتها إلا متأثرة بهذه العوامل التي تخفي الخلل والعيوب ، لهذا فالتحدي الرئيسي الذي يواجهنا ، هو كيفية قياس كفاءة أدائنا الاداري

الدولة والتنمية

" الشاهات الصغار يلوذون بالتطوير للحيلولة دون الثورة" محمد حسنين هيكل (صنداي تايمز ، 30 / 12 / 1979).

في مرحلة الثمانينيات ظهرت أدبيات تحاول ربط التنمية بالثورة الإيرانية والواقع أن التنمية السعودية والخليجية انطلقت خطواتها الكبيرة قبل الثورة الإيرانية بسنوات

فالخوف من عدم الاستقرار كان مبكرا منذ الخسمينيات ، حيث مرت السعودية خاصة في المرحلة الفيصلية بتحولات جذرية ، أدت إلى تقوية أسس الدولة في المرحلة الثانية ، وقد كانت أولي هذه الخطوات إصلاح النظام النقدي مبكرا

ففي عام 1951م ، وصلت بعثة مالية أمريكية لدراسة وتطوير النظام النقدي السعودي ، وأسست وكالة النقد السعودي التي ترأسها الأمريكي (د. بلاوزر) (أ . ي . باكوفليف ، السعودية والغرب ، ص 25)

ظل النظام النقدي السعودي قويا و مع ارتباط مبكر مع بنوك عالمية من جميع دول العالم ، حيث كانت الأرباح النفطية تودع بتلك البنوك (الأمريكية والانكليزية والهولندية واليابانية والفرنسية .. الخ)

واندفع البنكيون السعوديون المحميون بجرأة ليس فقط لامتلاك العقارات في الغرب وإنما المشاركة في الاتحادات الصناعية والبنوك (مرجع سابق ، ص 123) . في عام 1964م تم تأسيس اللجنة العليا للإصلاح الإداري برئاسة الملك فيصل ، ودعا الملك فيصل الخبراء من صندوق فورد لإعداد الإصلاحات الإدارية .

وفي عام 1970 م كان يوجد في جهاز الدولة عشر وزارت ،وعشرات من الإدارات المركزية والمحلية ، والمؤسسات الاقتصادية ونتيجة لذلك تأسس بمرسوم ملكي معهد الإدارة لإعداد الكوادر من مختلف المستويات ، وكذلك لبحث مشاكل الإدارة (مرجع سابق ، ص 83) .

في برنامج الملك فيصل المعروف "بالنقاط العشر" في 1962 م أعلنت هذه النقاط عن تغيّرات جذرية في البنية الاجتماعية والاقتصادية وكان من أهم النقاط من الناحية الاقتصادية هي التي نصت على مبدأ عدم خرق الملكية الخاصة

وفي مقابلة صحافية لاحقة، قال الملك فيصل :

" نزمع السير إلى الإمام بفضل التخطيط الواسع على أساس عقيدتنا وقوانيننا الإسلامية .. وقد اخترنا النظام الاقتصادي القائم على الأعمال الحرة ، ونحن على قناعة مطلقة بأنه يتلاءم مع قوانيننا الإسلامية وظروف بلدنا بتقديمه للأشخاص المبادرين
وأى مجموعة لديها إمكانية العمل للمنفعة العامة .. وهذا لا يعني نموهم اللامحدود لأننا سنتدخل عندما ترى الحكومة ضرورة لكن دون أن تخرق المبدأ الأساسي ".

وهكذا فإن المحتوى الأساسي للفترة الثانية من تاريخ السعودية هو التحولات البرجوازية ، وفي ظروف البلد القروسطية (وفق تعبير باكو فليف)

فإن ذلك كان برنامجا إيجابيا وخطوة إلى الإمام ، حيث رحبت الدوائر الغربية بسياسة "الآفاق الجديدة" ورأت فيها مجالا واسعا لنشاط رأسمالية الدولة الاحتكارية في السعودية خاصة أنه وضع البلاد على طريق التطور الرأسمالي (ص 63).

كانت تلك التوجهات المبكرة خيارات ناجحة على المستوى الاستراتيجي لدولة ناشئة نقلتها إلى مراحل جديدة ، حيث بدأت بوادر هذا النجاح منذ السبعينيات التي دشنت ظهور الحقبة السعودية

حيث تأكد بعد أربعة عقود فعالية هذه الخيارات ودورها في النجاح الاقتصادي السعودي ، وخلال هذه السنوات الطويلة كانت تظهر سلبيات كثيرة كأة تجربة تنموية تنحرف عن بعض أهدافها فبدأ يؤثر هذا الخلل بصورة كبيرة عندما بدأت التنمية تشيخ في بعض جوانبها والمجتمع يزداد وعيه ، واطلاعه على الآخر ، فتزايدت حالات النقد .

لقد واجهتنا ما سمي بالجلطة النفطية التي روي تاريخها (جوزيف ستورى) في الثمانينيات ،وأوشكت أن تنتهي بكارثة لدول الخليج ، ففي سنة 1986م عجزت السعودية عن نشر ميزانيتها السنوية ، وأخرتها

كذلك تأجل نشر ميزانية 1987 م ، وقد أشارت السعودية إلى أن إيراداتها من النفط انخفضت بنسبة 80 بالمائة ما بين (1980 -1986م) (محمد جواد رضا ، صراع الدولة والقبيلة، ص 62) .

لكن ما يجب استحضاره في هذه المرحلة أن كثيرا مما طرحه الكتاب الغربيون عن مجتمعنا وتحولاته في ذلك الوقت لم يكن دقيقا ، وأكد الواقع حجم هذه المغالطات فقد كان الإعلام الغربي كثيرا ما يسخر في كتابات ومؤلفات مرحلة الثمانينيات في مطبوعاتهم حول العديد من المشاريع الكبري لدينا بأنه لا داعي لها كالمطارات الكبيرة والجامعات

ولهذا لا يؤخذ نقد الغرب على إطلاقه ، كما أن نقدهم للتجربة الزراعية كان منطقيا لأنها مليئة بالأخطاء وبإهدار الثروة المائية .

لكن هذا الإعلام نفسه الذي صدم من هذه القفزة التنموية الهائلة ، فمثلا كانت له سخرية شهيرة، أذكر منها مطار "جدة" وهم يرون أنه أوسع من مطارات نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس وحركة النقل تزيد عنها مائة مرة فالكثير من المشاريع انتقدت بحجة أنها فوق الحاجة، والواقع أن مرور سنوات قصيرة كشف مدى الحاجة إليها .

ولأننا لم نطور خبراتنا في نقد أخطاء تلك المراحل ، فإن الطفرة النفطية عادت مرة أخرى بعد عام 2003 م ، وبفائض كبير جدا، دون أن نستفيد من تجربة وأخطاء الماضي حيث ما زال خطابنا التنموى غير فعال حتى مع تزايد حضور مصطلحات "الشفافية" و"تنمية الإنسان" و"دور القطاع الخاص" والدعوة لها في السنوات الأخيرة .

لقد حدث لدينا بعض الأخطاء التنموية المؤثرة في مسارنا التنموى كما في المجال الزراعي الذي تنبهت له الدولة في أواخر الثمانينيات على الرغم من أن هذا الخيار أخذ حيزا دعائيا إعلاميا كبيرا في ذلك الوقت في بداية الثمانينيات ، وأنفق عليه الكثير .

هذا النقد لأخطاء التنمية الزراعية ، والتنبه له بسبب القلق على إهدار الثروة المائية ، لم يتنبه فيه لخطأ آخر وهو القضاء على المزارع الحقيقي ومنافسته عبر قروض ضخمة لشخصيات ليس لها خبرة تاريخية في هذا المجال وإنما بتأثير المحسوبيات التي قضت على فرصة المنافسة للمزارع التقليدي التاريخي وأخرجته من اللعبة .

في هذه المرحلة لم يعد التعذر بالفترة الزمنية القصيرة مجديا ، حيث كانت هذه الفكرة حاضرة في الخطاب الإعلامي والسياسي لعقود عدة ، بأننا مجتمع ناشئ ويطرحها الكتاب في مناسبات مختلفة من أجل الفخر بما حدث من تنمية في زمن قصيرة لكن هذا الزمن القصير أصبح طويلا جدا الآن ، ولم يعد من المناسب تكراره بعد أكثر من نصف قرن

فالحديث عن الزمن القصير للفخر بالمنجز لم يعد نافعا ، ولم يعد مبررا لأى تقصير في الحاضر والمستقبل ، إن التنمية العمرانية المعاصرة إذا توفر المال لها فإنه يمكن اختصارها بسرعة

كما حدث لأقطار عديدة ومنها الإمارات وقطر ، بسبب وجود شركات مقاولات عالمية تحول الصحاري إلى مدن كبري في زمن محدود ،ولهذا لم يعد هذا الإنجاز مبهرا ، بعد وجود تجارب أخري مماثلة .

التنمية .. القيم والإنسان

تحققت في المجتمع نهضة عمرانية ضخمة ، وتحول إلى مجتمع عصري في استهلاكه منتجات الحضارة، وفي الوقت نفسه تحققت فيه يقظة دينية كبري بما سمي بالصحوة الإسلامية في مجتمع محافظ ومع ذلك فالمجتمع ما زال يواجه أزمة قيم اجتماعية متعددة فأخذت تنهار قيمة التقليدية ولم تنم قيم حضارية حديثة ، ولم تنم قيم تعبر عن تأثير الصحوة الدينية التي مر بها المجتمع

وعلى الرغم من وجود تغير حقيقي في مستوى السلوك الديني من خلال تأدية الشعائر والواجبات ، لكن البعد الأخلاقي الإنساني والحضاري ظل دون المستوى بالتكيف ، ولهذا حدثت حالات تناقضات حادة في الوعي داخل المجتمع .

لم تقدم التجربة السعودية خطايا حضاريا محدد المعالم فمع أن الإسلام هو المرجع والأساس في خطابنا الإعلامي والسياسي إلا أن الجانب الحضاري منه لم يقدم صياغات ذات خصوصية سعودية يعبر عن تجربتها فالتجربة السعودية على الرغم من نجاحها في محاولة الجمع بين الحياة العصرية والمحافظة على التقاليد

إلا أنها لم تؤسس لها خطابا يميز تجربتها ويتعرف عليها الآخر ، وما قدم من جهود في بلورة خطاب حضاري إسلامي كان في أقطار إسلامية وعربية أخري ، من خلال مفكرين ومثقفين أسسوا لخطاب إسلامي مستنير .

النجاح الذي تحقق عمليا في محاولة التوفيق بين متطلبات التحديث ومفاهيم الإسلام منذ عقود كان يخلو من خطاب وخبرات فكرية قادرة على تأسيس وعي توفيقي نظري . وقد أشرنا إلى هذا في بعض إشكاليات العقل الديني والعقل الثقافي .

ومن المفارقات في تجربتنا التنموية أن الوعي بالتاريخ والفولكلور والعمران والآثار وفق مفاهيم العصر كان ضعيفا وفي أسوأ حالاته منذ مرحلة مبكرة فقد دمرت الخطط التنموية الكثير من معالم المدن والقري بما فيها مكة والمدينة ،حيث تأخر التنبه لأهمية هذا المجال .

والمفارقة أنه في الوقت الذي حافظ المجتمع فيه على بنيته التقليدية في كثير من الجوانب إلا أنه قطع صلته بشخصيته التاريخية العمرانية والتراثية وشعر المراقب في بعض المراحل كأن هناك حالة عدائية مع القديم والماضي ، لا أريد الاستطراد في تقديم تفسيرات لهذا الخلل ، خاصة عندما كان ذلك متعمدا في بعض المراحل المبكرة

فليست فقط الرؤية الدينية هي السبب في ذلك ، فالرؤية الدينية كانت محصورة في اشياء ومعالم أثرية محدودة ذات بعد ديني ، وليس التيار الديني مسؤولا عن التغيير الكامل لهوية المدن .

لقد أثر هذا الخلل في شكل التنمية العمرانية ونوعها مبكرا ، ولم تعد هناك شخصية عمرانية لمدننا ، أو ملامح تميزها عن غيرها سوى مشروعات محدّدة اشتهرت بتميزها العمراني ، ومحافظتها على هوية تحاكي العمران القديم كحي السفارات أو تطوير وسط مدينة الرياض .

وفي مجال التنمية الإنسانية اهتمت خطط التنمية منذ البدايات بتنمية الإنسان ، وأصبحت في الثمانينيات جزءا أساسيا من الخطاب السياسي والإعلامي ، لم يتم تجاهله منذ البدايات

كما يحاول البعض تصويره ، من خلال تكرار الحديث التقليدي أننا قصرنا في بناء الإنسان وأسرفنا في بناء العمران ، حيث تعاد هذه الفكرة في كثير الكتابات واللقاءات والندوات والحوارات دون تحر وتقييم لصحتها

ففي مجال تطوير القدرات البشرية قد حققت التجربة السعودية قفزة كبيرة تعليميا ، لا تعاني من مشكلة في توفر الكثير من القيادات والمتخصصين في مجالات الطب والهندسة والعلوم العصرية ، من حملة الشهادات العليا

حيث إن التنمية حققت في هذا المجال نجاحات مشهودة ، واستطاعت الجامعات المحلية تخريج مئات الآلاف من الكوادر المتخصصة في معظم المجالات ، وأصبحنا بعد زمن قصير تعاني فعلا عدم وجود وظائف لهذه الكوادر الجاهزة من عملية التنمية !

ولذلك لا نعاني كثيرا من عدم توفر الكفاءات في كثير من المجالات في القطاع الخاص أو العام بقدر ما بدأنا نشهد عدم توفر الوظائف للإستفادة منها ، والبطالة

وليس من المبالغة عندما يقال إن التعليم في المجال الطبي والهندسي مثلا لا يقل عن مستوى التعليم في جامعات شهيرة، واتضحت كفاءة الكوادر في ميدان العمل في الشركات الكبري والمصانع والمستشفيات.

وإذا كانت هناك معاناة حقيقية ، فإننا نعاني من سوء إدارة لهذه الموارد البشرية المميزة ، وعدم تدوير لها ، إتاحة الفرصة بسبب المحسوبيات والمصالح الضيقة ، واحتكار طويلة لهذه الأماكن العملية في كثير من المجالات .

ولا أهداف هنا للإطالة في مشكلة الكوادر البشرية في ميدان العمل الذي حققنا فيه تخمة ، وبدأنا نطالب بالاهتمام بالعمل اليدوى والمهن البسيطة من أجل التنويع لكن الضرورة فرضت هذه التنبيه ، لأن البعض هنا يخلط بين القضايا والإشكاليات في موضوع التنمية الإنساني .

إن تأخر الكفاءة الانتاجية ليس بسبب سوء كفاءة الفرد ، وإنما بسبب عوامل فساد معروفة في ثقافة المجتمع التي أسست لفساد في مجالات متعددة اقتصادية وسياسية

وهو فشل يمكن معالجته من خلال سياسات وقوانين صارمة ، ورقابة قوية وشفافية ، فالفشل الذي نعيشه في تنمية الإنسان يكمن في عدم وجود ثقافة حضارية ، ووعي مدني ، وذهنية واعية بفكر العصر بالحقوق والواجبات المدنية ، لتصحيح العادات الخاطئة والأفكار غير الحضارية .

لم ينشأ بعد الإنسان الذي يحمل وعيا حضاريا بواجباته وحقوقه السياسية وتطويرا لرؤيته المدنية وثقافته السياسية ليدرك مفهوم الوطن والانتماء .. حتى وإن كان يحمل تخصصا مهنيا علميا متفوقا فيه ..

ولا نحتاج إلى التأكيد على فشل التجربة في هذا المجال من خلال سيطرة حضور الأفكار التقليدية التاريخية في ذهن الفرد والجماعة ، وعدم وجود برنامج تصحيحي للأفكار .

ليست مشكلتنا في عدم وجود توعية بهذه المفاهيم فقط ، إنما محاربة للأفكار العصرية من خلال ما أشرت إليه في مجال الخطاب الإعلامي والثقافي والديني .

وما زال لدينا خلل كبير في الالتزام بالأنظمة الأوروبية مثلا ، والسلوك الحضاري في الحياة اليومية في الاستهلاك سلبيا ، ومفهوم المواطنة على الرغم من أهميته لا يزال يعاني ثقوبا لا يريد البعض أن يراها

فمع كثرة الوعظ الإعلامي والمدرسي ، وعلى الرغم من أن المواطن يعيش حياة أفضل بكثير من أقطار متعثرة تنمويا ، فإننا نجد انتماءهم الوطني أفضل منا .

التنمية .. ومشكلة الإقليمية

هذه المسألة تزايد ظهورها في الخطاب الإصلاحي في السنوات الأخيرة ، ومن خلال الشكوى من تفاوت التنمية بين مدينة وأخري ، وهذا الطرح كان له وجود مبكر لكن بعد أحداث أيلول (سبتمبر) جاءت القضية بمبررات أخري

وخاصة مسألة الجنوب وتورط بعض أبنائه في أحداث العنف ، وتطرح هذه القضايا أحيانا من خلال نقد وزارة المالية أو البلديات في الصحافة دون ذكر مباشر للمحاباة التي تجدها منطقة دون أخرى

ثم بدأت بالظهور بعض الكتب والدراسات التي تقوم بمقارنات تنموية لتصور ما تراه خللا وعدم عدالة في نظرها .

تتطلب مناقشة هذه الدراسات تفصيلا آخر ليس هنا مكانه .. هناك دراسة تحليلية للمخصصات المالية ، قدمها (حمد الوردي) كأطروحة دكتوراه نشرها مركز دراسات الوحدة العربية (البيروقراطية والتمثيل البيروقراطي والتكافؤ في المملكة العربية السعودية : دراسة تحليلية للمخصصات المالية)

تقديم :(متروك الفالح) وبدأت مشكلة هذه الدراسة في مقدمتها الطويلة التي تلخص أزمة الوعي بهذه القضايا .

وفي قضية النخب السعودية ، قدم (محمد بن صنيتان) دراسة خاصة ومزودة بإحصائيات ، على الرغم من أنه لا يوجد اختلاف حول وجود بعض حالات التفاوت في التنمية بين منطقة وأخري من ناحية المبدأ

لكن المشكلة التي نلمسها في مثل هذه الكتابات أنها نقد للمحاباة الإقليمية بذهنية شبه إقليمية وليس من خلال رؤية متماسكة في تحديد معايير النقد لهذا الخلل

يمكن الإشارة هنا إلى تفسيرات غائبة عن بعض هذه الأطروحات في فهم لماذا حدث هذا التفاوت قبل التفكير بمؤامرات ذات بعد سياسي ، فهل توجد مبررات موضوعية وتاريخية ؟ وما معايير الصوات والخطأ هنا في تحديد مستوى التنمية المفروض لكل منطقة ؟ مع أن أى مشروع تنموي في أى منطقة هو للجميع في وطن واحد .

ومناقشة هذه المسألة تحتاج إلى استحضار ما يلي :

إن هذا الاختلاف التنموى بين منطقة وأخرى له أسباب موضوعية عدة وأهمها الجانب البشري فالخلل في التمثيل البيروقراطي سيقود إلى خلل في المشاريع والمخصصات المالية ، وأن الاتجاه والقرار يأخذ مسارا متداخلا بين الحاجة الفعلية ، وبين المحاباة الإقليمية ..

فهناك بعض الشخصيات المهمة من بعض المناطق والمؤثرة في صناعة القرار تجتهد في التأثير لتطوير مسقط رأسها ، ومنطقتها .

وهناك آخرون من مناطق لا يهمهم إلا مصلحتهم الفردية وليس مدينتهم ، ولدينا العديد من النماذج ،فبعض المدن يشتهر وجهاؤها بالمطالبات بما يخص مدنهم ومجتمعهم ، وبعضهم يهتمون بما يخص مصالحهم الشخصية منذ زمن مبكر ، حتى في المنطقة الواحدة .

هذه حقيقة مؤثرة جدا ، وأعرف نماذج لمدن في منطقة مثل القصيم ودور وجهاء هذه المدن ومدى تصنيف المجتمع لهم من حيث اهتمامهم بمصلحة مدنهم ، وبين آخرين يهتمون بمصالحهم الخاصة على حساب مدنهم.

المطالبة بالمشروعات وأسلوب الضغط في التقليد والعرف المحلي له أساليب عدة ، ولا شك أن هناك حضورا لأهل بعض المناطق وفعاليتهم أكثر من مناطق أخرى نتيجة خبرات سابقة ، ورحلات أجداده ، فعاليتهم التجارية والسياسية وقدرتهم على التحرك ، كما أن التأثير السياسي يعتبر عاملا مؤثرا .

هذه خصائص يدركها المطلع على طبيعة الكثير من المناطق والمدن المهمة وخصائص أهلها ولهذا هناك مناطق لا تستحق بعض المشروعات التنموية بسبب الموقع غير الجيد وقلة الكثافة السكانية لكن تأثير وجهائها كان له دور في وجودها لهذا يجب ألا تحضر الواعظ هنا في ما يجب أو لا يجب ففي عالم السياسة الكثير من المؤثرات .

هناك جانب آخر يجب استحضاره ، وهو أن الرؤية للمشاريع التنموية يجب أن تأخذ منطقا عقلانيا ، فليس فقط معيار الكثافة السكانية هو الأهم فالموقع الجغرافي واختلاف التكاليف الحالية والمستقبلية

كما أن هناك اعتبارات تجارية وصناعية وزراعية تفرض نفسها ، ولهذا انتقل كثير من المشاريع الزراعية في مرحلة لاحقة إلى أماكنها المناسبة ، مع أن ملاك هذه المشاريع قد يكونون من مناطق أخرى

كما في منطقة الجوف ، ولهذا أسباب أخرى تتعلق برأس المال وتمركزه في نخب من التجار التاريخيين في السعودية ، ومع ذلك فهذه المشاريع ستنفع أبناء المنطقة وتوفر لهم الوظائف ، ستعزز الكثافة السكانية .

وهناك مناطق سيئة ونائية ، وتكلفة المشاريع فيها كبيرة وغير مجدية فالقضية ليست توزيعا ماليا بالتساوى ، فتطور المدن له مسار تاريخي خاص ولكل مدينة قصة في نموها وتراجعها .

وقد لاحظت بعض الكتابات والمؤلفات التي لا تفرق بين الكتابات البحثية التي تقوم بهذه المقارنات وضرورة موضوعيتها وصدقيتها في رؤية الأمور ، وبين حق المطالبات من خلال النشاط السياسي

ففي المطالبات وتقديم العرائض ليس مطلوبا منك أن تكون موضوعيا وعقلانيا ، أما في الدراسات التي لها علاقة بتشكل النخب والمدن فإن تجاهل العامل البشري ، وكفاءة أبناء بعض المناطق عن غيرها

كما هو في هذه الدراسات ذات التوجه الإقليمي ، هو تجاهل لواقع مشهور ، وليست هي تفرقة بين منطقة وأخرى بقدر ما أن هذه الخصائص النسبية بين منطقة وأخري تتأثر بظروف تاريخية وبيئية واجتماعية

وتصنع لكل منطقة شخصيتها بسلبياتها وإيجابياتها ، وأحيانا المكان يكون مؤثرا حول منفذ بحري مناسب كما اختيرت مدينتا الجبيل وينبع .

البرجوازية السعودية .. والتنمية

" إن الفلاحين معدومي الأراضي أو أصحاب القطع الصغيرة وشبه الرحل الفقراء أو الذين يمتلكون القليل وصغار الحرفيين يحملون على أكتافهم كل عبء التحول الرأسمالي للمجتمع ، وقد أرتفع مستوى حياتهم إلى درجة أقل بكثير مما تنتجه عائدات الدولة المتزايدة " أ . فاسيليف

كثيرا ما ينتقد ضعف الخطاب الديني والثقافي في التعامل مع متغيرات المجتمع التنموية لكن الخلل الأكبر في هذا المجال هو في خطاب النخب الاقتصادية في السعودية ، فمع حضورها ونشاطها في مجال الأعمال لم يواكب ذلك خطاب تحليلي للتحوّلات الاقتصادية وتأثيرها في المجتمع.

هناك مبررات كثيرة تعوق وجود خطاب علمي في هذا الشأن منها أن الاقتصاد السعودي منذ نشأته الحديثة ظل مرتبطا بمعلوما مالية حساسة حول الإنفاق على المشاريع، تحديد دخل الدولة وتفاصيل كثيرة حول الميزانية حيث الصعوبة في تقديم أى طرح شفاف

لكن هذا المبرر ليس كافيا فالخطاب الاقتصادي أمامه مساحة كبيرة من الرؤى النقدية التي تؤسس لفكر تنموى يمكن تقديمه دون الاضطرار لكشف تفصيلي لقضايا الفساد ، وإنما تأسيس رؤى كلية منهجية لتجربتنا الاقتصادية.

إن عجز اقتصاديينا كان واضحا منذ مرحلة مبكرة ، ليس فقط في استيعاب الاقتصاد الرأسمالي ، وتطوراته المتسارعة إنما في تطبيقه على وضع تقليدي كالحالة السعودية ، ومجتمع محافظ وإسلامي ، للخروج برؤية نظرية توفيقية .

في الفترة المستفرة التقليدية كان يدور النسق الاقتصادي حول ثلاثة محاور أساسية:

وهي الزراعة والتجارة والحرف الشعبية ، وفي الفترة المتغيرة بدأت تعتمد على البرامج والدعم الحكومي أكثر من اعتمادها على الأقارب أو بقية فئات المجتمع
حيث استفاد المزارعون من الفرص الزراعية عن طريق البنك الزراعي ، ترتب على هذا التغيير في المحاور الأساسية للنسق الاقتصادي وبعد أن أصبحت البرامج والمشروعات الحكومية محورا أساسيا يعتمد عليه النظام الاقتصادي في هذه الفترة (السيف، مدخل إلى دراسة المجتمع السعودي ، ص 86-88) .

ويري (محمد الرميحي) أن القطاع الحديث في الخليج قضي تماما على أنماط الإنتاج السائدة قبله ، فطبيعة الدخل النفطي عززت من جوهر العلاقات القبلية السائدة ذات المضمون الأبوي والتشكيل القبلي والعائلة التقليدية إلى درجة تحكمت في طريقها إنفاقها لمدة طويلة (الخليج ليس نفطا ، ص 66 -67)

في كتابه السعودية والغرب قدم المؤرخ الروسي البروفيسور (ألسكندر باكو فليف) رؤيته في "تطور الجهاز الاجتماعي السعودي ":

" بدءا من الستينيات كان تأريخ المملكة السعودية هو تأريخ عصر الانقلاب الاجتماعي البرجوازي ،وكانت السمة المهمة المميزة له في المملكة هي مشاركة الغرب فيه الذي مهد لاختيار التوجه الرأسمالي لتطوير اقتصاد البلد وتثبيت هذا التوجه وبتفاعله مع جزء منه ، ساعد الغرب لا إراديا على تطور كل الجهاز الاجتماعي – الإنتاجي .
وفي نهاية المرحلة الثالثة نرى تطور قوى الإنتاج وبداية تغير بنية الاقتصاد وظهور طبقات وشرائح جديدة في المجتمع ، وكان ذلك نتيجة موضوعية لنشاط رأسمالية الدولة الاحتكارية في البلاد .

وإذا استخدمنا كلمات (غ . بليخانوف):

" فإن التاريخ لا يقوم بقفزات غير محضر لها، ولا يمكن أن تحدث قفزة دون أسباب كافية ، كامنة في المسار السابق للتطور العام " (السعودية والغرب ، ص 89) .
" فقد دفعت العوامل الخارجية التي تتمثل في دور الغرب في بناء قوى الانتاج العصرية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية بضربة واحدة للجهاز الاجتماعي الانتاجي الذي بدأت فيه للتو عمليات الانتقال إلى الإقطاع ، إلى تناقض جديد لم يعه المجتمع السعودي بعد .."

وهو يري:

" أن الثورة الاجتماعية هي المظهر المكشوف والأكثر حدة للصراع الطبقي . إلا أن تنفيذها في السعودية قد جري من فوق ، وأسهم النفط في تخفيف العديد من المصاعب والصدامات الطبقية القوية ، ولم يع لا الخصوم ولا دعاة التغيير بصورة كاملة مهامهم ".
" وأن السمة المميزة للتحولات الجذرية في المجتمع السعودي تكمن في أن تغيير طابع المؤسسات الحكومية والعلاقات الاجتماعية قد جرى من دون كسر البني التقليدية ، لم يع النظام الملكي أن مثل هذه السياسة المزمنة ستعوق فقط مسار التحولات النوعية في المجتمع " (ص 90 -91).

أول من حاول تعريف المجتمع السعودي المعاصر في الأدبيات السوفياتية هو (د. بنزين) حيث سماه "تعايش بين الإقطاعية المتحفظة قصدا والرأسمالية المتطورة".

وبعد ذلك حدد (د. أندرسيان) هذا المجتمع كتعايش بين القاعدة المتعددة الأنماط والبنية الفوقية الإقطاعية ، خيث سماه " الرأسمالية الإقطاعية " ويمتلك الحكم المطلق السعودي العديد من السمات المميزة فقد برز في ظرف "انطباق العصور"

عندما يفترش (أو ينطبق) العصر الجديد بأهدافه ومهامه على القديم بمشاكله غير المحلولة وعندما سقط مجتمع شرقي تقليدي بقفزة واحدة على درجة جديدة للتطور الاجتماعي متجاوزا عددا من الدرجات الفاصلة ، حيث تم تلطيف هذا الانقلاب " بالعامل النفطي " (ص 185).

ويري أن السمات المميزة لبنية ووضع الطبقة العاملة في السعودية في نهاية السبعينيات هي التالية : انقسام الطبقة العاملة إلى سعودي وغير سعودي ، التركيز البروليتاري ، التأهيل المهني المتدني نسبيا للعمال السعوديين وشروط الحياة الجيدة .

وفي النصف الثاني للسبعينيات تزايد نشاط البرجوازية السعودية الصغيرة والمتوسكة وأحد الأدلة على ذلك .. المقالة التي ظهرت في بداية (1978) في الأسبوعية سعودي بيزنس (ص 156)

ويري أن

" السعودية ما زالت في المرحلة الأولي ، أى موت الاقطاعية والحكم المطلق ، وبداية نمو النمط الرأسمالي ، ومن المعروف نمو النمط الرأسمالي في هذه المرحلة يأخذ شكل التغريب ..
وأن السمة الأهم لنمو الرأسمالية السعودية هي أن تطورها لم يأخذ إلى الآن شكل الثورة السياسية ولذلك سيمتد الجمع بين التقليدي والمعاصر والصراع بينهما فترة طويلة مع توطد مواقع المعاصر أكثر فأكثر . والذي يمكن ملاحظته بالقفزة الاقتصادية الاجتماعية الكبيرة التي شهدتها السعودية التي لم ترافقها قفزة سياسية مطابقة (ص 2) .

ومن وجهة نظر القضية المطروحة ، يمكن اعتماد التقسيم الزمني التالي للتأريخ المعاصر للعربية السعودية .

الفترة الأولي: وهي المرحلة الأولي، وكانت من نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات ، والمحتوى الأساسي لهذه المرحلة هو نشوء وتوطد الدولة، ومحافظة المجتمع السعودي الاقطاعي المبكر على تقوقعه ، مع عدم وجود اتصالات منتظمة مع الغرب .

المرحلة الثانية: الأربعينيات والخمسينيات .. يجرى تغلغل نشيط للرأسمال الغربي وتتوطد مواقعه في المملكة ويتحول البلد إلى شبه مستعمرة وإلى "ملحق للخامات" وللإقتصاد الرأسمالي العالمي .

المرحلة الثالثة: أساسا أن الستينيات (1962 -1973) هي بداية التطور الرأسمالي للمجتمع السعودي ، ونتيجة للعوامل الخارجية والداخلية تضع السعودية برنامجا للإصلاحات الاجتماعية - الاقتصادي ، وتنتقل إلى استقلالية محدودة في السياسية الاقتصادية وتتغير العلاقات شبه الاستعمارية مع رأسمالية الدولة الاحتكارية .

المرحلة الرابعة: السبعينيات .. والتطور المتسارع للعربية السعودية في الطريق الرأسمالي، والتغيير الجذري لطابع العلاقات مع رأسمالية الدولة الاحتكارية" (ص 4-5) .

"وحيث إن الاقتصاد السعودي في تلك السنوات لم يتطور على حساب استخدام المصادر الطبيعية للتنمية الوطنية ، وإنما على حساب العائدات المالية ، التي حصل عليها من هذه المصادر فإن ذلك نفسه أضعف النمط الرأسمالي الوطني تجاه الغرب، وأبقي جملة ممثليه لوقت طويل في مرحلة الكومبرادور .
في الوقت ذاته ، اكتمل في نهاية الفترة الأولي تحول ممثلي الرأسمالي التجاري – الربوي والكومبرادور إلى متعهدين من النموذج الرأسمالي واستمرت سيادة القوى التقليدية (..) في الحياة السياسية للبلد ، وكانت نقطة تلاقي هذه المجموعات هي السعي لتوطيد قوية " (ص 48) .

هذه الاقتباسات المطولة لوضع نموذج أمام القارئ لرؤية مدرسة مختلفة عما هو سائد محليا في تصور طبيعة تجربتنا التنموية ،وليس بالضرورة أن تكون هذه الرؤية دقيقة لتحوّلاتنا الاقتصادية

لأنها رؤية متأثرة بالرؤية الكلية لحركة اقتصاديات الدول التي توفرها الإحصاءات الدولية ويفتقد الكثير من التفاصيل الداخلية لهذا التحولات ، ومعرفة وإدراك ما يسميه (جوزيف . إ . ستيغليتز) " رأسمالية المحاسيب" مؤلف كتاب التسعينات الهادرة .

ولم يتمكن (باكوفليف) من وصف إشكالية هذه الرأسمالية في بلد إسلامي محافظ ، وكيف استطاع التوفيق أو التلفيق هنا ، فهذه من مفارقات الحالة السعودية التي قدمت ممانعات في مجالات متعددة .

بعض سات النفطقراطية السعودية

عرض (باكوفليف) السمات الجديدة لهذه الطبقة، فهو يري أن البرجوازية السعودية الكبيرة تتميز بالسمات الجديدة التالية :

  • شبابها لحد الآن ينشط جيلها الأول .
  • صلاتها الوثيقة بالعائلة المالكة والشركات والجهاز الحكومي في الغرب .
  • تقليد إجراء العمليات في إطار عائلة واحدة .
  • احتكار فروع كاملة من الاقتصاد .
  • ضعف التخصص: فالعائلة الواحدة تعمل في 10 -12 قطاعا اقتصاديا ، الرأسمال التجاري أو الصناعي أو البنكي الخالص .العمل في فروع اقتصادية جديدة غير تقليدية ، والمشاركة المباشرة في قيادة الإنتاج .
  • توظيف رأس المال في مجالات الاقتصاد التي تدر أقصي الأرباح وبأسرع ما يمكن .
  • النزعة لتدويل الأعمال وبهذا الخصوص فإن الخاشقجي يعتبر "مؤشرا لتطور البيوت التجارية" في السعودية .

إن اختلاط عصرين تاريخيين (الإقطاع والرأسمالية) حدد التطور (غير الصحيح) للرأسمال السعودي الخاص الكبير ، ويمكن تفسير نزعته للإحتكار والتدويل وغياب التخصص العتيق بتأثير رأي مال الدولة الاحتكاري الذي يعمل بمشاركته ..

وفي الوقت ذاته فإن سمات إقطاعية مميزة ما زالت قوية مثل استخدام الصلات مع النخبة الحاكمة والعمل في إطار عائلة واحدة وسمة أخرى مهمة تكمن في أنه يعيق إمكانية نمو الرأسمالي الوطني المتوسط والصغير وستزاد هذه العملية لاحقا (ص 177)

تأخر العائلات التجارية في الاهتمام بالصناعة لأن هناك عوامل عدة مهدت لزيادة دور الدولة في الاقتصاد والصناعة وهي :

  • ضعف البرجوازية الوطنية ، وعدم امتلاكها الإمكانيات المطلوبة .
  • عدم امتلاكها للمعارف والخبرة لتنظيم وإدارة المشاريع الصناعية الحديثة .
  • عدم رغبتها في العمل في مجال الصناعة (سمة إقطاعية خالصة)
  • وهكذا لم تستطع النخبة الحاكمة أن تجبر البرجوازية الوطنية على الاهتمام بالصناعة وما دفعها إلى تنمية التجارة ومجال الخدمات والمضاربة بالأراضي فقط ، بالتالي محتفظة بالتركيبة التقليدية للإقتصاد (ص 78).

"من الحقائق السابقة يمكن القول إن للبرجوازية السعودية الكبيرة "النفطقراطية" حسب تعبير (ر. آندرسيان) الموفق مصلحة في تطوير السعودية بالقدر اللازم لأعمالها وقد أصبحت الملكية المتنامية للقطاع الحكومي، من جهة الأساس المادي للإستقلال النسبي للعائلة المالكة والبرجوازية السعودي عن المجتمع السعودي

ومن جهة أخري تهديدا بالانقطاع عن المجتمع إجمالا ، وهذا ما يفسر خطط النظام الملكي لتحويل الشركات الحكومية الكبيرة " سابك " و" السعودية " غيرهما إلى القطاع الخاص وتوسيع نشاط البرجوازية الوطنية (وهو بذلك يكرر التجربة الفاشلة للنظام الملكي الإيراني)" (ص 180) .

وفي تصويره لحالة المقتدرين في التكيف في مجتمع محافظ وشروطه الصارمة وقدرتهم على السفر المستمر ، ير (باكو فليف) بأنه في الوقت ذاته تتزايد الحالات التي تتعارض بدرجة أقل مع قواعد الوهابية .. فإن "السعوديين الميسورين غالبا ما يقضون من ثلاثة إلى ستة أشهر خارج البلد ، حيث يستطيعون بالكامل التخلص من كل القواعد الوهابية" (ص 159) .

ما زالت الكتابة المفصلة عن السير الذاتية للعوائل التجارية بقدر من الشفافية والصدقية ميدانا خصبا للباحثين ، وما وجد من مراجع ما زال محدودا .هناك كتاب (مايكل فيلد) المتخصص في السير الذاتية لبعض الأسماء التجارية في عام 1983م .

وهناك العديد من العائلات تجارية الكبيرة ، بعضها كان له حضور تاريخي تجاري قبل التأسيس وتوحيد الدولة وبعضها بعد طفرة النفط ، وبدأت تبرز مؤخرا محاولات إظهار السير الذاتية لأهم رجالاتها وإن كان يغلب عليها الدعائية أكثر من الهم الموضوعي لرصد هذا التاريخ فهم يمثلون جانبا مهما للتاريخي السياسي والاقتصادي محليا

ويمكن تصنفيها إلى ما يلي:

  • عائلات قبل وبعد النفط بأسماء غير تجارية وغير مشهورة .
  • عائلات قبل وبعد النفط تراجع دورها واسمها التجاري .
  • عائلات وتجار ما بعد الطفرة النفطية .

ولكن منهم قصته المتداخلة مع تحوّلاتنا التنموية أو التي سبقت هذه التحولات ، فمثلا عائلة القصيبي نجحت تجاريا كبيرا في العشرينيات حيث أصبحوا في أغني عائلة في الجزيرة العربية ففي سنة 1931 م ذكر المعتقد البريطاني في البحرين

في تقرير له أن العائلة تملك ما يساوى مليونا ونصف المليون دولار ومثلها عقارات في البحرين (إبراهيم المسلم، عبد العزيز بن سعود: شخصيات في الذاكرة ، ص 141).

كثيرا ما يتم تداول قصص النجاحات لأسماء تجارية تاريخية في مجالس السعوديين حيث تعرض مثل هذه القصص للفائدة ، وكيف صار فلانا ثريا قبل النفط أو بعده فتروى بهدف الحديث عن الفرص التاحة كقصص النجاح ، أو تروى لحكاية أهمية العلاقات مع فلان وفلان من المسؤولين ..

وكيف أتاحت لهم البروز التجاري ، وأحيانا حكايات من أجل تفسير هذه القفزات المفاجئة في معرض الحديث عن الفساد ، لأن هذه الطبقة في العقود الأخيرة تعيش مباشرة أو غير مباشرة على مشروعات الدولة

بدلا من أن تكون هي نفسها مصدرا أساسيا للعائدات لخزينة الدولة عن طريق الضرائب ، حيث لا تزال تفتقر إلى الدفع الذي دفع البرجوازيات الغربية إلى العمل على المشاركة في السيطرة على القوى والسلطة السياسية ما جعلها دائما غائبة عن الإصلاح الذي يعود مردوده للمواطن وهذا يجعل الحديث عن ذهنية الفساد قصة أخرى .

عقل الفساد

" إن وجود الوساطة والمحسوبيات في تعاملاتنا الرسمية شئ للأسف أشعر به .. وأعرف عنه الكثير لما يصلني من شكاوى وتظلمات .." الملك عبد الله بن عبد العزيز (جريدة الشرق الأوسط ، 28/2/ 1423هـ)

يري (هانتنغتون) أن الفساد:

" يكون أكثر تفشيا في الدول التي تفتقر إلى وجود الأحزاب السياسية الفاعلة وفي المجتمعات التي تهيمن فيها مصلحة الفرد أو العائلة أو الزمة أو العشير" (النظام السياسي ، ص 92) .

تطور الفساد في المجتمعات المعاصرة ، لهذا تطورت أدوات قياسه في الدول المتقدمة لأن الفساد تعددت أشكاله ، وفقا لتطور المجتمع في مساره الحضاري .لكل مجتمع وبيئة ثقافية فسادهما الخاص ، تحدده ملامحهما التركيبية والاحتماعية والظروف الاقتصادية ونوعية الثقافة السائدة .

الحالة السعودية كغيرها لها فسادها الخاص ، ولن نتحدث هنا عن الفساد بلغة الواعظ للتحذير منه ، وأو بلغة ناشط ومعارض للتظاهر بعنتريات نضالية ضده ، أو تناوله على الطريقة التقليدية (القدرية) الحكومية) .

لا أطالب هنا بمثاليات وشعارات فارغة تحت عناوين مختلفة ، ومن أجل (واقعية) أكبر ، فأنا لا أدعو حاليا للقضاء الكامل على الفساد إذا كان وفق النسبة المقبولة في الحياة البشرية لكنني ضد طريقة الوعي بالفساد محليا وخطابه السائد ، الذي صنع ثقافة استثنائية سأحاول هنا تسجيل بعض ملامحها .

منذ مرحلة مبكرة أحرص على قراءة ومتابعة التقارير الدولية التي تصدرها منظمات تعني بالتنمية والشفافية والدول الأكثر فسادا ، وقضايا الرقابة والإعلام ، من خلال بعض المطبوعات الرصينة وأحرص على معرفة ترتيب الدول العربية والسعودية تحديدا ..

مع أن هذا الترتيب في كثير من الحالات غير مشجع لكنه تطور في الوعي في معرفة أين الخلل في تجربتنا على الرغم من المنجز التنموي الكبير في مجالات عدة .

إن الفساد هو أكبر عائق لأى تجربة تنموية ونحن في منطقة عربية محاطون بمختلف أنواع الفساد فقد كانت هناك أقطار عربية مرشحة أن تتجاوز دول شرق آسيا ، قبل أكثر من نصف قرن !

وهي الآن في ذيل القائمة مشكلة السعودية ليست بالأرقام وضخامتها والميزانيات الكبيرة بقدر ما أن مستوى الشفافية ظل كما هو دون تحسن يذكر لهذا تبدو الحاجة إلى وضع تصورات عامة حول آلية هذا الفساد

وفق المعايير الدولية التي تصدرها المنظمات الدولية المتخصصة والتي رغم أهمية تقاريرها إلا أنه ينقصها أحيانا القدرة على معرفة المجتمعات التقليدية التي تعيش ثراء وتنمية عمرانية كبيرة .

إن تحديد الفساد مع وجود الإنجاز بسبب الثروة الكبيرة المتوافرة في أعصب من كشفه في حالة التقشف وضعف الإمكانيات حيث يتضح أى تسرب مالي ومع أننا نعيش منجزا تنمويا كبيرا أخذ شكلا مقبولا في كثير من مظاهرة ، إلا أن هذا التطور لم يواكبه تقدم في المجالات التي تعزز قيمة الفرد وإنسانيته ، وتقضي على مظاهر الفساد من أى نوع

من خلال تطوير الإعلام واستقلاليته وتشجيع الحريات في التعبير التي تقلل بدورها من مساحة الفساد ، ورفع كفاءة المؤسسات الرقابية لمشاريع الدولة ، وإتاحة الفرصة لظهور شبه مؤسسات مجتمع مدني مستقلة .

الفساد .. والتفكير الشعبي

الخطاب الشعبي الذي يدور في المجالس واللقاءات الاجتماعية وحوارات الأصدقاء والمناسبات الخاصة والعامة ، ربما لا يكون دقيقا في نقل المعلومات وتسريبها والتعبير عن الأفكار والأخبار وتفسيرها لكن هذه الأحاديث لها أهمية خاصة في مجتمع شفهي لا يتاح فيه نقل بعض المعلومات بحجة أنها غير صالحة للنشر ..

وضعف صدقية وسائل الإعلام والصحافة المحلية هو ليس فيما تنشره فقط وإنما الشك في المسكوت عنه غير المنشور .

هذا الخطاب الشعبي له أهمية وحيوية وصدقية من نوع خاص فقد ظل المجتمع شفهيا قبل انتشار التعليم وبعده ومن يرصد ويدقق في تفاصيل هذا الخطاب (السواليفي) ويرصد تعليقاته وتطوراته وطرائق تفكيره

وآلية تعامله مع الأخبار والمعلومات وتقييمه للأشخاص والمسؤولين، والمؤسسات، فإنه سيجد أنه مصدر مهم لمعرفة ليس نبض الشارع كما يقال ، وإنما تصور ما هو خفي من معلومات ! كيف تنتقل الأخبار الشفهية وتفسيراتها السرية ؟!

تكمن أهمية هذا الخطاب في أنه يعبر عن رأيه بتلقائية وخصوصية في كثير من الحالات ويعرض أفكاره من دون تحسينات ومجاملات وتصنع فهو ناقل جيد للأفكار والمعلومات غير المتاحة للإعلام والحساسة ولهذا نجد الرأي السائد حول قضايا كثيرة له وصف في الرؤية الشعبية مختلف عما يقال في الإعلام والصحافة .

وفي رأيي أن أحاديث المجالس في السعودية ظلت أهم من النت وأكثر صدقية ، فالنت اخترقته مصالح متعددة ، وأصبح موجها في كثير من الحالات .

ومن خلال الرصد والتأمل لفترات طويلة وحالات متنوعة وبيئات مختلفة يمكن تحديد بعض ملامح وشخصية هذا الخطاب ، فهو عندما يخطئ يصحح نفسه حول بعض الأخبار ، والإشاعات غير الصحيحة تنتهي وتصحح بعد فترة .

فكيف يستقبل المجتمع قضية الفساد ويتعامل معها ؟!

يطرح الخطاب الشعبي قضية الفساد بصور متعددة ، إما بروح النقد والتذمر والإنكار والشتم لأهله ، أو روح البحث عن فرصة أتيحت لغيره ولم تتح له ففي حالة النقد نجده ليس مشغولا في كيفية الحد من الفساد والحديث عن دور المجتمع في مواجهة هذا الفساد أو دور السلطة ، بقدر ما يمارس عادة (سواليفية) تذمرية في كل مجلس للإستعراض

من خلال تناقل أخبار الصفقات والشرهات والأراضي .. مع استعمال مفردات .. (الحرامية .. اللصوص .. الوصولي ..ز وخوى عند فلان ،.. يعرف منين توكل الكتف .. شاطر ..)

وفي حالة الرغبة في المشاركة بهذه الأجواء والانتفاع من هذه الفرص ، يكون الحديث عن فلان وفلان .. (والله ما لقاه إلا فلان .. "الرجال واصل" بنوع من الثناء على ما يراه أنه شطارة) !

يتميز الخطاب الشتائمي المتذمر بالتكرار الممل أحيانا، مع اختلاف في مستوى الطرح ، فبعضه يأتي من شخصيات مهمة لها حضورها وقيمتها في المجتمع من رجال أعمال أو مسؤولين في جهات حكومية أو الفضاء أو العسكرية وبعضهم أفراد شعبيون .

مثل هذا النقد جزء كبير منه للتظاهر بتقديم المعلومات الحساسة ، بحيث تعطيه أهمية في المجالس التي يرتادها ، وجزء كبير من أحاديث المجالس مجرد تنفيس ولهذا لا تؤخذ ألفاظ الشتائم بجدية وحرفيتها وأنها تعبر عن موقف سياسي نقدي ، ولهذا بعضهم يشتم شخصيات يعمل معها .

هذا النقد لا يقدم من منظور معارضة ، وكأنه سيقود إلى حراك سياسي مزعج لهذا لا تؤخذ هذه الأحاديث إلا في إطار الجلسة ، وليس لها أى آثار سلوكية وتغير في قناعتهم المعلنة لهذا لن تفاجأ بأن من يقدم هذه الشتائم في الجلسات يقدم مدائح علنية في مناسبات رسمية أو في حديثه للإعلام على الطريقة السعودية في الازدواجية الصارخة .

هذا الخطاب السواليفي ضد الفساد هو في أغلبه (للإستهلاك) وتمضية الوقت ، ولو لم تشارك في هذه السواليف النقدية ضد الفساد ، فإن عليك الاستماع لها دون مناقشة واعتراض ودفاع وإلا ستصبح غير مرغوب فيك تبدو ثقيل الدم وأحيانا يشك فيك أمنيا

فلذهنية أفراد هذه المجالس ذكاء فطري خاص ، عندما تحوى شرائح مختلفة ، فبمجرد وجود شخص جديد وغير معروف بالنسبة إليهم فإنهم يكونون حذرين في البداية حتى يعرف اتجاهه في الكلام والنقد .

وحتى يبعد البعض الشك فيه ، فقد تفاجأ بحفلة المزايدات في النقد حتي من شخصيات تبدو رسمية جدا وأحيانا يبادر هو في هذا النقد ضد الفساد في البلد !

منذ فترة طويلة واختفاء التنظيمات المسيّسة والأحزاب الثورية في مرحلة المد القومي لم يعد هناك قلق كبير من الدبابيس كما تسمي في المجتمع حتى مرحلة الثمانينيات ولم يعد الرقيب المكلف يأخذ هذه الأحاديث كما كان سابقا ، فبدأ الجميع يأخذ راحته في (الحكي) وعدم الحوف بعكس الجيل الذي قبلنا عندما كان للجدران آذان ، فقد كان يأخذ احتياطاته في الحديث عن السياسة ، ولا يعرض رأيه إلا عندما يكون اللقاء بين القرابة الموثوق بها .

ولكل جلسة حديثها الخاص عن الفساد فإذا غلب على الحضور فئات تجاري ومن رجال الأعمال ، أو أصحاب مناصب وظيفية مهمة ، والمهتمين بشؤون السياسة فإن الحديث عن الفساد يكون في مجال الاقتصاد ، وإذا كان الحضور شريحة من طلبة العلم والدعاة والمشايخ ، فالحديث في الغالب عن الفساد الأخلاقي وانحرافات المجتمع في نظرهم .

مع أنه حدث بعض التطور في العقدين الأخيرين في أحاديث المجالس السعودية ، وبدا للمراقب ارتفاع مستوى حرية النقد ، ليس من الشباب فقط وإنما حتى من كبار السن الذين كانوا في الماضي يتحفظون جدا في المشاركة بها بحجة آذان الجدران .. لكن هذا التقدم الذي حدث لم يصاحبه أى إيجابية وتغيير في الرأي العام للحد من الفساد وخطورته على المجتمع .

وليست المسألة أنه لم يفرز تنظيمات وحراك نشط ومركز ضد الفساد، فهذا له مخاطره وحساسيته السياسية وفق أنظمة البلد وأعرافه ،ومجرد التفكير فيه لا يزال غير ممكن وحتى الحراك بطرق جماعية تقليدية تنزع الحساسية السياسية لحل مشكلة الفساد ، وتضر منه الكثيرون من خلال تقديم شكوى وتظلم حول قضية فساد ، كما حدث في المساهمات العقارية ، أو سوق الأسهم فإنه لم يحدث بالقدر المؤثر ..

ووفق الأعراف المحلية يجب أن يكون هذا الحراك تقليديا بعكس لو حدث وفق التنظيمات المعاصرة في التجمعات والتنسيق فإنها قد تواجه حساسية سياسية ولهذا حدث أحيانا أن الكثير من التجمعات العشوائية والخطابات جاءت وفق النمط التقليدي للشكاوى .

لم يحدث أى تقدم يذكر في الوعي ضد الفساد ومواجهته ، سوى نوعية الشتائم التي ينفس بها هؤلاء عن أنفسهم في جلسات عابرة بمعني أنها لا تفرز وعيا جادا في الإحساس بالمسؤولية الجماعية والأخلاقية والشعور الوطني لمصلحة مستقبل بلده ، وضرورة التحرك ، ولهذا لا تنتج هذه السواليف قلقا سياسيا منها .

حدث تقدم في هذه نوعية هذه السواليف ومحتواها ، بحيث تعرض في هذه المجالس أحيانا حالات (عمرية) جديدة من الشفافية والعدالة لشخصيات وزعامات غربية ، بل حتى شخصيات إسرائيلية للمقارنة بأوضاعنا العربية وكيف تتم محاسبتهم من متابعتهم للأخبار العالمية .

ولهذا ما يجب قوله إن هذه الأحاديث لم تشكل إزعاجا سياسيا مؤثرا في القرار في كثير من الحالات بقدر ما كانت عاملا مساعدا للسياسي لفهم لفهم انطباعات الشارع ولهذا تشيع عند بعضهم أثناء نقدهم وشتائمهم حالة من نشر اليأس من أى تغيير وتحسن وبأنه (ما فيش فايدة) .

ولهذا تبدو فكرة أن التغيير يبدأ من القاع دون رواد لهذا القاع ، لصناعة وعي عملي وطرق تفكير جديدة ليس لها أى معني ، فستظل هذه الأحاديث جزءا من السمر اليومي الذي لا يضر ولا ينفع وفي أحيان كثيرة تكون هي جزءا من الفساد الكبير مع رائحة الهيل والقهوة والبخور ! كيف تتحدث النخب بمختلف اتجاهاتها عن الفساد في الدولة والقطاع الخاص والمجتمع ؟!

فنظرا إلى أهمية النخب في صناعة الوعي وتوجيه الرأي العام ، والتأثير في القرار ، وعلى وجود الفساد سلبا وإيجابا ، فنحن بحاجة إلى الإشارة إلى مستويين من خطابها أحدهما علني ، والآخر شخصي ، وحديث المجالس يتضمن بعض العفوية مختلطا بالوعي السائد في الخطاب العلني في الصحافة والإعلام والمناسبات الرسمية .

وعلى الرغم من أن بعض هذه النخب له علاقاته الخاصة مع قوى مهمة وعالمه الخاص في اصطياد الفرص في أجواء غير عادلة ، إلا أنه يمكن أن يشارك في حفلات السمر في النقد ضد الفساد وتبدو المفارقة المفاجئة أن يقدم هذا الطرح من أفراد معروف عنهم الانتهازية من الدرجة الأولي وأحيانا يكونون روادا ومشاهير في عالم الفساد ومدرسة فيه هذه المشاركة منه في النقد هي أسلوب

ليس من أجل التصحيح للأخطاء ونشر الوعي بقدر ما هي (فن كلامي) ينتقل بالخبرة ويعزز علاقاته التجارية على الطريقة السعودية فاستعراضه هنا يوسع فرص زيادة علاقاته لكن بمجرد ما تكون هناك مناسبات رسمية

فإنهم يتحولون إلى شخصيات أخري لا علاقة لها بشخصيتهم السابقة ، ولا أحد يطالب أو يتوقع أن يكون الحديث الخاص كالحديث العام والرسمي في أى مجتمع لكن تلك الشخصية

عندما تبدو في حالة تناقض صارخ فإن الذي لا يعرف فلسفة هذه السلوكيات وأهدافها في تححقيق طموحاتها الخاصة ، فإنه سيخفي عليه الكثير من خريطة الفساد ، حيث تخلط الشطارة الفردية باللصوصية .

المعارضة والفساد

من أقوى مبررات خطاب أى معارضة ، هو الحديث عن الفساد ، فعندما يكون الفساد مكونا رئيسيا لخطابها فإنها تؤسس لخطابها مشروعية .. ستترك الحديث عن المعارضة إلى فصل قادم لكن سنشير هنا إلى قضية الفساد في ذهنية المعارضة وهل قدمت رؤية أو مشروعا لتحسين الأوضاع ووعي الرأي العام

فمع أن المعارضة هي أكثر الجهات اهتماما بموضوع الفساد فإنها فشلت في تقديم رؤية للفاسد فخطابها منذ عقود عدة ينتقل من عموميات ومبالغات إلى تهويلات وفضائحيات وإثارة لواقع لا يحتاد إلى هذه الإثارة المفتعلة

وبعد مرور عقود عدة لم يتمكن هذا الخطاب بمختلف توجهاته من كشف بنية الفساد فكثيرا ما تشتغل المعارضة بإدانة الفساد والبحث عما هو مثير من الأخبار ، أكثر من الاشتغال بالبحث عن رؤيتها للفساد ، وتفكيك أسبابه الإنسانية والاجتماعية

فلم يقدم مثقفون محسوبون على المعارضة قراءات اجتماعية وسياسية وثقافية لفهم الفساد المحلي وتطوراته لأن المعارضة ظلت مشحونة ضد شخصيات وجهات معينة لتشويه سمعتها اكثر من اهتمامها بالفكر .. وبغض النظر عن أخلاقية ما يكتب من تهم فإنه يبدو خطابا مملا وغير فعال في اكتشاف أسباب الفساد ومظاهرة .

ليس الإشكال في هذا الخطاب أنه غير علمي ، وإنما في خلطه بين ما هو حقيقة وما هو مبالغ فيه ، مما يحمي الفساد الحقيقي لأنه سيبدو خطابا فاقدا للصدقية

ولأن الفساد لا يمكن الحصول عليه رقميا وبدقة في كل حالة ، لأنه يستحيل كشفه عمليا ، فيلجأ هذا الخطاب أحيانا إلى الخيال لتعويض ذلك فيتورط في أخطاء غير منطقية في وصف الفساد لهذا لا يزيد خطاب المعارضة الرأي العام إلا إحباط وعجزا في مواجهة الواقع .

لا يوجد مبرر لسوء طرح المعارضة طالما أن لديها الحرية الكاملة فليس لديها محذورات سياسية لكنه يتجاهل المحذورات العقلاني والموضوعية .

يتحمس بعض الجمهور في البدايات مع هذا الخطاب النقدي ثم يصاب بالملل لأنه خطاب مكرر وممل في إدانة الواقع ، وبمرور الوقت يكون حالة تبلد وعدم إحساس بقيمة النقد .

الصحافة .. والفساد

للصحافة دور في نقد الكثير من شؤوننا المحلية وبعض مظاهر الفساد كما أشرت سابقا فهي تسلط الضوء منذ زمن بعيد على ما تسميه التقصير في خدمات التنمية أو الأخطاء ، في حالات نادرة تستعمل كلمة الفساد ولم يكثر استعمالها إلا مؤخرا منذ بدايات محاولات إصلاح الاقتصاد مع نهاية التسعينيات وحضور مصطلح الترشيد مع نزول أسعار النفط عام 1999م.

نقد الصحافة لجهات ومؤسسات حكومية أو خاصة في تقصيرها عن خدمة الوطن أو المواطن ، هو في حقيقته نقد للفساد واعتراف به أيا كانت اللغة المستعملة

فلا يكاد يخلو يوم من خبر أو مقالة أو تقرير إلا ويشير إلى خطأ ما هنا أو هناك ، وتقصير لجهات حكومية في الصحة والبلديات والطرق والمرور والتجارة .. إلخ ، وهذا أمر طبيعي ومقبول حضاريا . فلا تخلو أى تجربة إنسانية من أخطاء .

لقد تشكلت مادة كبيرة من المواد الصحافية و بالصور والتقارير المتنوعة فتعرض الخلل وفق العرف الإعلامي التقليدي السائد منذ عقود حيث هناك لغة متعارف عليها في طريقة توجيه التهم للجهات المختصة

وهناك حد معين من التركيز على الخلل أو الفساد بحيث لا يتم تضخيمه ، بصورة كبيرة على شكل حملة إلا في حدود مسموح بها ومؤقتة ، ولا يتم توجيه النظر إلى فساد هذه الجهات بخصوص أرقام مهمة في الصرف والميزانيات ،والمشاريع بشكل مفصل

وإنما تظهر مقالات عامة وانطباعية في أعمدة قصيرة تفرغ فيها الشحنات .. ويبدو فيها الكاتب وكأنه مناضل ، والمسؤول متواضع في تجوابه ورده حول استفسارات عن بعض المشاريع !

ليست مشكلة الخطاب الصحافي عن الفساد في مقدار الحرية المتاحة له والضوابط على صياغته بقدر ما هي عدم وجود رؤية ومنهج لهذا النقد فلا يوجد تتبع تراكمي للأخطاء ، ولا صحافيون متخصصون يملكون معلومات دقيقة عن القضايا التي يتحدثون عنها ، ولا ثقافة أو خبرة في عمل الحكومة ومشاريعها وأنظمتها

حتى إن أحدهم انتقد صندوقا مخصصا لدعم الخارج لبناء مشروع في الخارج ، ولماذا لا يكون في الداخل ، ولهذا لا يتصدر لمثل هذه القضايا صحافيون كبار وأصحاب خبرة ، وذوو مهنية من حيث تفاصيل التغطية وهو ما يحدث في كثير من دول العالم

أما نحن فقضايا الفساد مخصصة لصحافيين مبتدئين عاديين وكتاب أعمدة سطحيين يستخفون دمهم أحيانا ، ما يفقد نقد الفساد قيمته وجدية التعامل معه ..!

وتبدو عملية تسطيح الفساد .. معضلة صحافية وأذكر أن إحدى صحفنا المحلية تضع صورة تحت اسم "حديث الكاميرا" منها صورة (فتحة بيارة) لم تغط جيدا ثم تشير إليها بسهم وكتبت "الفساد" وتبدو عندما تستعمل الصحافة هذه الموضوعات بالإثارة الممجوجة، يتذكرها الراصد لصحافتنا في غير مرحلة ، فتركز أحيانا على جوانب تافهة في القضايا وتحمل الصغار من المواطنين الخطأ

فلاحظ مثلا كيف يتم التغطية الإعلامية لمشكلات العمالة والتشدد في استقدامها وممارسة لعبة "الاستغماية" فيتم تسطحيها بحملات إعلامية مع أن الرأي العام في أحاديث المجالس يدرك أين هي المشكلة!؟

لم يحدث تقدم صحافي في مواجهة الفساد بمختلف أنواعه سواء أكان من النوع الثقيل أم الخفيف ! وما يطرح مثلا من قضايا مؤخرا كموضوع بطاقات " سواء " أو مشكلات المساهمات العقارية ، أو سوق الأسهم ، فإن تناولها ليس سوى مجرد عناوين وتحقيقات صحافية دون مضمون يكشف تفاصيل ثقافة الفساد ، ويساعد القانونيين والمحامين في ملاحقة الفساد .

إن الكتابة الصحافية عن الخلل في مشروعات التنمية ، وكشف الفساد بحاجة إلى خبرة وممارسة عملية طويلة للتعرف على عمل الحكومة والقطاع الخاص وأنظمة البلد ، وإن لم تتوفر لصحافي هذه الخبرة فيجب أن توفرها له بأن تدربه على طبيعة ما يقوم بتغطيته .

مغالطات .. قضية الفساد

" والحقيقة أن ظاهرة الفساد الإداري والمالي تضخمت وأصبحت قضية لا يلمسها إلا من يتغلغل فيها ، إن إثبات هذه التهم أمر صعب جدا على الإنسان العادي أو المواطن البسيط ،وهو أكبر المتضررين" . عبد الله صادق دحلان (الوطن ، 6/7/ 2008)

ونظرا إلى غياب المفاهيم المؤسساتية والمعايير العلمية للوعي بظاهرة الفساد وأساليبه نجد أن الجدل يتضمن مغالطات حتى عند المفترض أنهم يحاربون الفساد وهي مغالطات شائعة

وتكرر في مناسبات مختلفة، في بعض الكتابات الصحافية منها :

أن الفساد في كل مكان في العالم ، ونحن جزء من هذا العالم ، وحتى في الدول المتقدمة ، وهو منطق يردد في قضايا كثيرة وهذه الفكرة صورة من الاستغفال المتعمد أحيانا ،والسذاجة في حالات أخرى
فهي فكرة بدت منقذة وجاهزة في كل جدل يستعمله الرسميون والمقربون منهم لكن هذه الفكرة التبريرية المسروقة من إطارها يمكن مواجهتها بأن الفساد موجود في كل مكان ، وأيضا الشفافية موجودة ومحاسبته موجودة عند آخرين ، وهنا الفارق بين مكان وآخر .

وخلال هذا المنطق تأتي أحيانا عبارات مثل لسنا "مجتمعنا ملائكيا"، وكأن القضية هل نحن ملائكة أم شياطين ؟ أو هل نحن جزء من العالم أم لا ؟ الأهم في موضوع (الفساد) ليس هل هو موجود أم لا ؟ وإنما شكله وحجمه بالأرقام ، وكيفية محاسبته .

هناك حيلة أخرى يمكن استعمالها في كل وقت ، وهي المطالبة في الإثبات لذلك عندما كتب (عبد الله الطويرقي) عضو مجلس الشورى ، مقالة عن الفساد في إحدي الوزارات وعلاقة ذلك بفساد الصحافة طالبة بعض الكتاب بالإثبات فاختلط الأمر على القارئ .. هل هي فزعة مع الفساد أم دفع للشبهة ؟!

بحجة أنه لا يجوز (البرلماني) على حد قولهم أن يقدم هذه التهم بلا إثبات .رفع شعار الإثبات والبرهان يقدم أصحابها بأنهم موضوعيون وقانونيون ، وكأن الفساد سيأتي بطريقة مباشرة ليدين نفسه .

إن الأنظمة الكثيرة مهما بلغت من الحيطة في مواجهة الفساد فإنها ستعجز أحيانا في كشفه لأنه يتكيف مع ظروف كل بيئة ، ومجرد عدم وجود أى عقاب منذ عقود عدة لمسؤولين يثير الشبهة لدي الجمهور ، خاصة ممن اشتهروا به في المجتمع .

وهناك فساد من نوع خاص ، وليس بالضرورة أن تعرف تفاصيل الأرقام المفقودة بدقة ، لكن طالما أن الداخل لا يساوي الخارج حتى في الأرقام المعلنة ، فضلا على أن الداخل نفسه لا يعرف أحيانا ولا يستطيع المتابع معرفة كيف يتم حسابه بدقة ..

مشكلة البعض أنه لا يتصور الفساد إلا بأنه حركة يدوية أو شيك برقم ، والواقع أن الفساد أصبح خفيا ، فأحيانا يكون في تسريب معلومة خاصة توفر الملايين لأصحابها كما يحدث في أسواق المال !

وهناك الوعظ التقليدي في الحديث عن الممتلكات العامة وضرورة المحافظة عليها وعدم تحضر المواطن ، وأهمية توعيته للحفاظ على منحزات الوطن كالمدارس ، والشوارع والحدائق ، وهي مطالبة مشروعة

لكن مشكلة هذا الوعظ أنه يطالب القاعدة والشرائح الشعبية بعدم الفساد ، وفي الوقت نفسه يسمع المواطن أن هناك فسادا كبيرا في التعدي على هذه الممتلكات العامة بحيث تتحول إلى ممتلكات خاصة

ولهذا يأتي التبرير السائد عند أصحاب الفهلوة والشطارة غير المشروعة بأن الناس تأكل أو (تلهط) وفق تعبيراتهم الدارجة ، ولا تستثني أحدا من قضاة ومشايخ ومسؤولين ورجال أعمال .. ويرون أن من لم يأخذ لم تتح له الفرصة أصلا !؟

وعندما لا يكون لديك قابلية في المشاركة في أى درجة من الفساد فإنه ينظر إليك على أنك مسكين وطيب وعلى نياته ، وهي صفات تحقير دونية بعكس لو قيل لك بأنك " ذيب " ليست المشكلة أن تستمر أمورك كما هي ، وإنما صناعة أوهام فاسدة بضرورة "المرونة" وفق المنظور الشعبي حتى يمكنك الوصول إلى مراتب متقدمة .

ووفق هذه الرؤية السائدة عند بعض الفئات تصبح النزاهة نوعا من الطيبة والسذاجة غير المرغوب فيها .ليس كل مرونة وحيوية هو مؤشر على الفساد ، فالواقع أن بعض الجهات تحتم طبيعتها قدرا كبيرا من المرونة في تجاوزها لحرفية الأنظمة لرفع كفاءة الإنتاج

وهناك نماذج لمؤسسات لا يمكن أن تسير جدون هذه المرونة ، حتى لو صاحبها بعض الخلل في الانضباط ، الجمود والحرفية ، وربما ينظر إليه البعض على أنه التزام في نص النظام لكنه في نظر أهل الخبرة أنه فساد من نوع آخر في تعطيل العمل ، وهذا نوع من الفساد البيروقراطي السائد الذي قد لا يستفيد منه حتى أحصابه .

وهناك مغالطات متنوعة سائدة يشير إليها بعض الكتاب في صحافتنا كقضية المحسوبية والواسطة وهو هم يؤرق منذ فترة مبكرة البعض ، وممنهم (مرزوق بن تنباك) حيث قدم في كتيب له منذ أكثر من عقد ونصف بعنوان (المحاضرة).. "النخب بين أدعياء الوطنية وممارسة التميز".. انتقد فيه المحسوبية (والواسطة) بتفاصيل عديدة

وناقش بعض هذه المغالطات السائدة حيث تساءل عن مشكلة يطرحها البعض لتبرير فساده في مجتمعنا بأنه عندما يتساوى القريب في الكفاءة مع الغريب فإنه سيقدم القريب في الدائرة التي يعمل بها !

ويرد على هذه المغالطة بأنه لا يطبق هذا في شركاته وأعماله الخاصة فلم يستعينوا بأبناء عمهم وأهل قريتهم (ص 16 -17)

ويعلق على أحد المسؤولين الذي يتحدث عن الأجر والثواب في العناية بالعمل بأن هذا الكلام جميل ، لكن الموظف ومن في الجهاز يعرفون أن هناك طريقا للجنة آخر ، وطريقا غير طريق الوظيفة ، ثم إن هذه الخواطر الإيمانية التي يطالب بها المسؤول لماذا لا تنمو في ذهنه فيعدل ويساوي ؟ (ص 23)

ومن أشهر المغالطات السائدة بين النخب في مجالسهم تحت شعار " أعط الخباز خبزه .. ولو أكل نصفه " من باب إعطاء الأهمية للكفاءة !

فقد شاعت هذه الفكرة منذ فترة مبكرة مع بدايات الطفرة ، وهي أن المسؤول الفلاني "شغيل" و"عملي" بغض النظر عن سمعته في الفساد في المال العام ويتم تناقل الحكايات عن مثل هذه الشخصيات ومنجزاتها ، وأنه أفض من فلان النزيه ، الذي لم ينجز شيئا ، وأعاد الأموال إلى وزارة المالية !

تكمن خطورة هذه الفكرة في أنها تفرض أن الانجاز ليس واجبا على المسؤول وأن التقصير في العمل له أوجه ومنها مسألة المحسوبيات والفساد المالي والرشوة ، وإذا كان المسؤول النائم ميزته أنه نزيه

فالواقع أنه ليس نزيها إذا قصر في عمله ، لكن الكثيرين يخلطون بين طبيعة البيروقراطية وصعوبتها أمام أى مسؤول ، وصعوبة صرف المبالغ المخصصة من وزارة المالية

فخطأ هذه الفكرة أنها تفترض أن المال المتبقي في الميزانية مباح للأخذ منه والتحايل عليه بمشاريع أخرى غير ضرورية وكمالية لهذه الجهات هذه الثقافة تبدو مشكلتها أنها ربطت بين السرقة والفساد والقدرة على الإنجاز !

فلا يكون مرنا وعمليا إلا هذه الفئة ، هذه الفكرة تسربت من بعض الكبار ورجال الأعمال الذين يمدحون فلانا مع اعترافهم بأنه حرامي .

في إحدى المقالات كتب عن هذه الفكرة (على الموسي) عن حيرته أمام مثل هذا السؤال الذي قدمه له زميل ، ويبدي دهشته فيقول :" هل سياتي الزمن – لا قد رالله – الذي تجد به مسؤولا يسرق "

وأشار إليها أحد القراء في تعليق أسفل المقالة في موقع الجريدة ، بأنها تدل على سذاجة أم براءة الكاتب ويقول :

" أنا هنا لا أوجه للمسؤول دعوة مفتوحة للسرقة، ولكني سأقبلها إذا كانت مقرونة بالإنجاز وكان الأخير شرطا للأولي .. " (بين مسئولين : سارق مجتهد أم نزيه نائم") الوطن 15/ 1/ 2008).

حكايات الفساد .. وسوق الأسهم

يرى البعض أن الفساد تطوّر من سرقة المال العام إلى سرقة جيوب المواطنين ، كما حدث في مساهمات أعلن عنها في التلفزيون ، الصحف السعودية كما في المساهمة العقاري الشهيرة المسماة (جزر البندقية) والتابعة لشركة الدريبي

حيث تم حجز أموال المساهمين بعد دفعهم للمال مباشرة وهذا لم يحدث في مساهمات السبعينيات الميلادية عندما كانت هذه الأفعال تبرر بأن المجتمع جديد وخبرته ضعيفة .. وإنما عام 2006م!.. ومع ذلك لا يوجد أفضل من قصة سوق الأسهم في السعودية والذي كشف بشفافية حجم الفساد بمختلف أشكاله ، وأصبح حديث المجالس السعودية .

وفي كثير من المجالات تحتاج إلى رصدها ملفات طويلة ومتابعات لعدة جهات لجمع البيانات ، وكثير منها غير متاحة فمثلا العقار الذي يثقل كاهل المواطن العادي يعرف الكثيرون سيرة وصوله إلى هذه القمة من الأسعار منذ عقود عدة ، والتي وصل فيها في حالات كثيرة سعر الأرض إلى ما بين ثلث إلى نصف تكلفة البناء في صحراء شاسعة .

للعقار قصة ، يعرف المختصون تاريخ سيرة كل مخطط ومتى بدأ وكيف انتهى ؟! وللأسف فإن قصة العقار في السعودية ، وعدم وجود أنظمة لا نقول عادلة ، بل منطقية ..أديا إلى أن يدفع المواطن ضريبة كبرى من دخله للحصول على قطعة أرض .. ولا نريد أن نستعمل تعبيرات حساسة كما ترويها بعض المجالس

ولو أن هذه المبالغ المرتفعة جاءت مع مسار التضخم الطبيعي للأسعار كمفهوم اقتصادي لكان الأمر مقبولا ، وللعقار حكايات طويلة في ذاكرة المجتمع إذا كنت ممن يسجل هذه القصص التي تحكيها ذاكرة الناس ..

ثم جاءت قضية المشاريع الزراعية وقروضها وفشلها ، لكن البعض يتغاضي عن ذلك لأن الإهدار الذي حدث في الزراعة هو من المال العام فيستفيد البعض ولا يتضرر الآخر ويرون أنه من طرق توزيع الثروة .

وقضية سوق الأسهم ملف كبير وتبدو هناك صعوبة في إنجازه لمن ليس لديه وعي وثقافة حول فكرة الأسواق المالية (البورصات) وآلية عملها وقوانينها والخلفية التاريخية لكل نظام ودولة .

على المستوى الشخصي هنا أنا لا أتحدث من منظور مثقف فقط يعرض تنظيرا مثاليا عما يجب أو لا باسم الدفاع عن مصالح الناس ، بل بعض ما أقدمه هنا من خلال تعايش مفصل مع الأزمة ومتابعة دقيقة لكل تفاصيلها وأحداثها وتحليلاتها وكثير من التفاصيل ربما لا يكون من المناسب عرضها هنا ولا تحقق هدف هذا الكتاب .

للأسواق المالية مفهومها التاريخي ، وعملها الذي بدأ قبل أكثر من قرن وتوفر الكثير من المراجع المختصة هذه المعلومات عنها وطرحنا هنا سيفترض أن القارئ لديه خلفية عن طبيعة الأسواق لعرض أهم المغالطات التي تقال حولها في خطابنا الاقتصادي المحلي .

تعتبر أسواق الأوراق المالية مزادا كبيرا ، حيث يوجد مالكو الشركات أو المؤسسات الذين يبحثون عن وسيلة ملائمة لجمع المال لتوسيع أعمالهم وهناك مستثمرون يشترون هذه الأسهم ويعتمد سوق الأسهم بأكمله على النظرية الاقتصادية للعرض والطلب " (مايكل سينسير، ديليل التعامل في سوق الأسهم ص8 -9) .

الاتجاه للإستثمار في الأسهم إحدي الوسائل لتنمية رأس المال ويتيح الاستثمار في الأسهم للمستثمر العادي الدخول في أى مجال ، وبأى مبلغ، ليس المهم هنا أن نتحدث عن النتيجة بأنه يوجد فساد وإهمال وعدم شفافية ولوم هيئة سوق المال .. إلخ

لأن هذا الطرح موجود على نحو شبه يومي في أعمدة الصحف والفضائيات والتحقيقات علي الطريقة السعودية في إعلامنا التي تنجح في صناعة الملل والتطفيش من التكرار غير المؤثر على حركة الواقع ، فالسعوديون يتداولون قضاياهم بصورة مكثفة لحد الملل

بل إن هناك موجات وموضات في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية لكن بمجرد أن تهدأ القضية وتبرد فإن كل شئ يتبخر ، وذلك بسبب ضعف عملية التدوين وضعف أساليب التأثير العملية .

في سوق الأسهم كثير من المعلومات متاحة ويمكن الحصول عليها مباشرة من خلال حركة السوق اليومية واللحظية ، وتحليل الأداء الإعلامي وتسريب المعلومات وتفسير قرارات هيئة السوق وتوقيتها ، وسلوك المتداولين ، ورأي المجتمع ، وبما أن الأداء على الشاشة مباشرة ومشاهدة لحظية يومية فإنه من السهل مشاهدة كيف يحدث التلاهب وكذلك تأثير المعلومات المسربة .

السعوديون والاستثمار

بما أن السعودية ذات ثروات كبيرة ، واقتصاد دائما يتغني بقوته ، فالمفترض أن يجد المواطن فرصة عادلة للإستفادة من قوة هذا الاقتصاد، وبخاصة أن الدخل الشهري تآكل بعد ثلث قرن من التضخم

وخلال هذه المدة لم تحسب زيادة إلا بما يعادل 15 بالمائة لا يمكن تواجه تضخم ربع قرن ولهذا بدأت الطبقة الوسطي تتآكل في السعودية وقد كانت من أهم إيجابيات التنمية التي حدثت .

استطاع الجيل السابق تكوين قاعدة نتيجة توفر فرص كثيرة مع الطفرة ومع بداية ما سمي بالجلطة النفطية .. فقد واجه الجيل التالي أصعب أمراض التنمية ومشكلاتها !

ولنتجاوز الوعظ الصحافي والإعلامي في الحديث عن أهمية العمل وقضية البطالة التي تحمل على أجيال الشباب ، فهي نصائح يمكن القبول بها بصورة فردية لكن لا علاقة لها بفهم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والخلل في التطور التنموى وهو خلط معتاد

فمع الأزمات الاقتصادية ترتفع نسبة البطالة عند أكثر الشعوب عملية واجتهادا ولا أحد يتهم الشباب في الكسل في تلك الدول.

لقد حدثت حالة اختناق لجيل مواليد أواخر الستينيات والسبعينيات ، وما بعده الذي عاش طفولته في ذروة الاستهلاك التي تأثرت بالطفرة الاقتصادية والتمتع بها ، ثم واجه في شبابه ورجولته صعوبات الحياة في الحصول على وظيفة ومسكن .. الخ .

ومع تراكم اليأس من وجود مجالات استثمار خاصة أن موظفي الدولة محظور عليهم امتلاك أى ترخيص لمشروع تجاري ، فإن الحلول الاسثمارية محدودة جدا .. وكانت منها هذه السوق .

لا نريد أن نفصل في مسار تطور سوق الأسهم الذي بدأ عام 1985م ، لكنه خلال أكثر من عقدين لم يحدث أى تطوير يذكر ليواكب حجم الدول الاقتصادي ومع نهاية التسعينيات وبدأت مشروعات الإصلاح الاقتصادي من أجل الانضمام لمنظمة التجارة العالمية .

بدأت الحاجة إلى تطوير سوق المال مع نزول شركات جديدة ، ومع هذا التأخر فإن نظام سوق المال وهيئة سوق المال لم يصدر إلا في عام 2004 وهو مؤشر على الحراك (السحلفاتي) في ما يخص المواطن للإستفادة من اقتصاد بلده يعكس المشروعات الكبري الاقتصادية للدولة التي بدأت مبكرا منذ السبعينيات !

لم أجد تفسيرا منطقيا لهذا التأخير الشديد جدا ، والذي لا يتناسب مع النمو الاقتصادي السعودي الذي يشكل أبرز نجاحات الدولة منذ نصف قرن

ولهذا لم يستفد المواطن من الحراك الاقتصادي بسبب هذا التأخير ،ولو عودة كثير من رؤوس الأموال بعد أيلول (سبتمبر) وبعضها لأسماء كبيرة وحاجتها إلى مكان لاستثمار أموالها فيه لربما استمر هذا التأخير ومع ذلك ما زالت السوق تعاني مشكلات كثيرة .

الكارثة .. ومغالطات سائدة

لم تكن المشكلة الأساسية أن السوق ارتفعت بشكل غير منطقي ، ثم نزلت بصورة غير منطقية ، فالخطأ هنا في تحديد معني كلمة "منطق" فاستعمال هذه المفردة لا يعبر عن الواقع وحقيقته وللأسف وقع بها حتى بعض المحللين لأنه يجب أن يعلم الفرد العادي ماذا تعني كلمة "منطق" هنا ؟ فالمنطق في لغة الأسواق المالية وسلوكها يختلف عن المنطق في المجالات الأخري .

ولأن هناك منطقا وأساسا لسلوك الأسواق المالية بمختلف حالاتها ، لم تكن المشكلة أن المجتمع فقط لم يدرك منطق الأسواق ومخاطرها ،إنما حتى منظرو البورصة ومحللوها تأثروا بالعقلية التقليدية

فلم ينجحوا في تحديد ما هو منطقي ، وما هو غير منطقي في هذه الأسواق ، وما هو من قوانين الكسب المشروعة وما هو فساد ، فليس الارتفاع الشديد أو النزول الشديد في الأسواق هو القضية مهما كانت نسبة الارتفاع ، لكن الطريقة التي حدثت في الحالة السعودية ، وتكررت كثيرا هي المختلفة ، وغير المفهومة بأى منطق سوى ما دام أن الشفافية كانت غائبة .

هناك عوامل عدة مشتركة وأسس بين البورصات مهما اختلف النظام الاقتصادي والقوة المالية والحجم ، وهذه الأسس هي التي تجعل البورصة (بورصة) أو سوق مال "مزادا لتداول الأسهم"

وبالتالي لا يهم الاختلاف بين سوق وأخري ، وأن تلك السوق لديها مائة عام من الخبرة فتقديم هذه الفوارق مشكلة في حد ذاتها ، حيث استغلت من أجل أن تكون للبورصة السعودية خصوصية ، ويتشكل فساد لم يستوعبه أحد من الاقتصاديين .

هذه الفوارق التاريخية معتبرة في خبرة المتداولين وليست في تأخير الشفافية حيث تستغل هذه الحجج في إطالة أمد سوء التنظيم ، فتبدو مثل حكاية تطبيق الديمقراطية في عالمنا العربي ..

والواقع أن هناك شبكة من التعقيدات الاقتصادية نمت وفق مصالح ضيقة لفئات ، وهي تكسب من استمرارية هذه الضبابية يعززها خطاب اقتصادي (لحظي) استهلاكي لتفريغ شحنات الغضب .

مع كثرة ما طرح من أسباب حول مثل هذه الأزمة ومبررات ما حدث للسوق ، وإدانة البسطاء فالواقع أنني أجد أن الخسارة أى خسارة مهما كان حجمها جزء كبير منها يتحملها الفرد نفسه لكن هذا اللوم لا علاقة له بالخلط الذي يحدث عند البعض ، فعندما نتحدث عن بيئة استثمار ومشكلاتها ، فمن الخطأ أن نتحدث عن سلوك أفراد بعضهم يربح وبعضهم يخسر ونقدم لهم النصائح

وحتى لو كانت السوق في قمة شفافيتها وعدالتها فيمكن للمستثمر الفرد أن يخسر مدخراته بسهولة ، ولهذا لا علاقة لهذه القضايا الفردية بمسألة مناقشة أوضاع وبنية السوق المالية .

يلخص الكثيرون أسباب أزمة سوق المال التي حدثت في أبرز ما تم تداوله هنا في كثير من وسائل الإعلام :

  • حداثة تجربة المملكة في مجال التنظيم الهيكلي والقانوني لأسواق الأوراق المالية .
  • قصر عمر هيئة السوق المالية وقصر تجربة وخبرة الهيئة
  • عدم وجود سوق للأوراق المالية (بورصة)
  • الافتقار إلى وجود الكثير من الآليات لحسن إدارة السوق وحماية المستثمر مثل مكاتب الوسطاء والسماسرة والمؤسسات والشركات المؤهلة في تقديم النصح والمشورة .
  • ضعف مستوى الإفصاح والشفافية في ما تنشره الشركات المساهمة .
  • عدم إيضاح بصورة كاملة لأدوار ومهام بعض الجهات الحكومية في مجال إدارة السوق مثل وزارة المالية ، وهيئة السوق ، ومؤسسة النقد .
  • بطء إجراءات تخصيص الشركات الحكومية .
  • قلة الشركات المساهمة في سوق الأوراق المالية وارتفاع نسبة السيولة الموجهة للإستثمار في سوق الأسهم .
  • عدم توفير صانعين للسوق وفقا للمفهوم المتعارف عليه في أدبيات ومفاهيم أسواق المال .
  • قلة وتواضع البرامج التوعوية والتدريبية الموجهة للمستثمر .
  • عدم وجود برامج ونظام تأهيل للمحللين والباحثين في مجال إجراء التحليلات الأساسية والفنية للأسهم وعدم وجود معايير لتصنيف المحللين والترخيص لهم بممارسة مهنة التحليل .
  • هيمنة البنوك على العديد من الأدوار والنشاطات في السوق .
  • اندفاع الملايين من المواطنين السعوديين للمساهمة في الأسهم متأثرين بالجو الإيجابي للإقتصاد السعودي (حمدي الجهني ، أزمة سوق الأسهم السعودية ، ص 114 – 118) .
  • وهناك مبررات عدة ذكرتها أشارت إليها الصحف بأن هذه طبيعة أسواق المال الشديدة المخاطرة ، وأن السوق السعودية تدار بأفراد وليس مؤسسات ، والأرقام تؤكد ذلك في نظرهم والإشارة إلى ضعف ثقافة الاستثمار عند الجمهور
واتهام النت وخفافيش الظلام في منتديات الأسهم بتوريط المواطنين بتوصياتهم المشبوهة ، وأن المواطن لم يجبر على دخوله السوق ، وعله أن يتحمل مسؤولية قراره ودخوله
وأن الدولة لا تتدخل في الأسواق فهي حرة إضافة إلى تقديم النصائح العامة بأن الاستثمار يحتاح إلى صبر ، والنصح بعدم متابعة الشاشة ، وتردد مقولة إن الجميع تركوا أعمالهم واتجهوا لسوق الأسهم .
  • القول بأن هذه طبيعة سوق المال مكسب وخسارة هو قول صحيح ولا جديد فيه ، ولم يطرح أحد قضية المكسب والخسارة ، ولكن هل الذي حدث وبالسيناريو الذي شاهدناه سلوك مقبول في أى سوق؟
خاصة أن السوق ضربت بعنف في مرحلة كانت الشركات فيها في قمة أرباحها ولم توجد أخبار سلبية ، أو كوارث مالية كما هو في نزول الأسواق العالمية في نهاية 2008م ، حيث وجدت مبررات مالية لذلك النزول ، ولهذا يجب عدم الخلط بين مرحلة وأخري .

يكثر الحديث عن النسبة العالية لتداول الأفراد في السوق السعودية ، وأنه هو السبب في هذا التذبذب الشديد في كثير من المراحل ، وأنه لا توجد مؤسسات وصناديق كافية

وهذا يتضمن مغالطة على الرغم من أنه قدمت خطوة جيدة من الهيئة فيما بعد بعرض بعض البيانات عن السوق السعودية ونسب التملك فوق 5 بالمائة ، ولكن هذه المعلومات ينقصها ما هو أهم

إذا عجزت عن أن تذكر الأسماء بصورة أفضل ، فالأسهم الكبيرة والمؤثرة جدا بحركة المؤشر تمثل الـ 5 بالمائة رقما ماليا ضخما لا يمكن مقارنته بالشركات الصغيرة والتلاعب المؤثر هو الذي يتم بالشركات الكبري .

لقد أعلنت هيئة السوق في كانون الثاني (يناير) 2008م (الموافق 28 محرم 1429م) أن إجمالي قيمة التعاملات بلغت 305 مليارات حيث استحوذت تداولات الأفراد على نسبة 92،6 بالمائة من إجمالي قيمة التعاملات مقابل 2،8 بالمائة شركات ، 6،9 بالمائة خليجيين .

توضح هذه الأرقام نسبة حجم محافظ الأفراد في تعاملات السوق ، وبدلا من أن يكشف النقاب عن حقيقة الأزمة ، وإذا بالتحليلات تعتبر هذه الأرقام دليلا على تحميل الأفراد العاديين .. لكن السؤال الذي لم تجب عنه هذه الأرقام .

وهو الأهم لمعرفة وتصور حركة السوق كل شهر ، عن طريق تقسيم هذه المحافظ الفردية إلى فئات ، ووضع تقييم لها فبعض المحافظ لمجموعة أفراد أكبر من صناديق البنوك ومن شركات

وكونها فردية لا يعني أنها صغيرة ، ولو صنفت هذه الأرقام حجم المحافظ الفردية الكبيرة دون ذكر أسمائهم لأنها لا تستطيع وكم تمثل تعاملاتها من الرقم المذكور فتقسيم هذه المحافظ إلى شرائح سيوفر تصور عن حركة السوق بصورة أفضل ، دون ذكر هذه الأسماء فإعلان نسبة التملك لم يحل المشكلة بالطريقة التي وضعتها الهيئة .

ومن أكثر الأفكار التي تكررت في الحوار حول هذه الأزمة القول بأن أحدا لم يجبرك على الدخول في السوق ، هذه مشكلة سائدة في طريقة تفكير بعض السعوديين من المسؤولين فهم لا يفرقون بين قضايا الشأن العام ، والنصيحة الفردية لأنه يمكن استعمال هذا المنطق في كل شئ ، فعندما تتحدث عن خلل في مدرسة ما ، أو جامعة معينة وأنه يجب معالجة وضعها

فإنه سيقول لك هذا المنطق ابحث عن غيرها ، ولم يجبرك أن تدخل فيها أو أحد أبنائك ، وعندما تتحدث عن مخاطر أمنية في ذلك الشارع يقول لك لم يجبرك أحد على المرور به وعندما تتحدث عن مشكلات السفر يقول لك لماذا تسافر ؟

وهناك العديد من المبررات التي توضح أن الدولة لا تتدخل في السوق وهو من أغرب الأفكار التي تدل على وعي اقتصادي مبتور وانتقائي

أو اتهام الإنترنت وخفافيش الظلام بقضية الأسهم ، وهي لا تختلف عن قضية الإرهاب لربط مشكلات فسادنا بعدو خفي لا أحد يعلم من هو .. مع أن الإعلام الاقتصادي قام بدور أسوأ من الإنترنت .

فالواقع أن انهيار النزول كان فوق تصورات أى خبير في أسواق المال فالقضية ليست أن يقص المؤشر إلى نصفين في أيام معدودات إلى مستوى9500 نقطة بعد أن وصل فوق العشرين ألف دون وجود خبر سلبي اقتصادي ، حيث تم هذا الانهيار خلال شهرين ونصف تقريبا ، والقضية لم تكن تصحيحا بالطريقة المعتادة لحركة أى سوق مال .

فقد كانت السوق خلال ثلاثة أسابيع متتالية تنزف بكاملها بنسب دنيا دون وجود مشترين .. مع بعض الارتدادات اللحظية والوقتية إلى أن خسر المؤشر نحو 70 بالمائة من قيمته خلال ستة أشهر

وبعض الأسهم فقدت 95 بالمائة من قيمتها ، هذا النزول الإجباري لشركات قيادية ليس له علاقة بأزمة مالية ، فقد كانت شركة (سابك) والبنوك تحقق أرباحا ضخمة وزيادة نمو أثناء هذا النزول وحتى بعده في عام 2006 ، 2007 ، 2008 م إلا الربع الأخير منه

الذي انهارت فيه الأسواق العالمية مع أزمة الرهن العقاري وتداعياته وأيضا خسرت فيها السوق السعودية مرة أخرى بصورة أشد من الأسواق التي أفلست فيها بنوك وشركات كبري !

ليست المشكلة في هذا النزول مهما كانت درجته ففي الأسواق العالمية شاهدنا ما هو أشد لكنه مبرر ومفهوم ماليا ففي السوق الأمريكية مع الأزمة كان سهم قيمته 32 دولارا يوم الجمعة ثم يفتتح يوم الاثنين على سعر دولارين ، نتابعه مباشرة على شاشات التداول حيث خسر ثلاثين دولارا في جلسة واحدة لكن عندما يحدث هذا فهناك سبب يخص هذه الشركة بسبب إفلاسها .

ليست المشكلة أن يفقد سهم 99 بالمائة من قيمته بسبب قاعدة العرض والطلب ، لكن السوق السعودية ضربت فيها بعنف شركات قيادية تربح أكثر من رأس مالها هو قمة النجاح في أى شركة .. بصورة خاطفة وكأن هناك قرارا مؤقتا لهذا الضرب .

لنأخذ نموذجا سوق دبي التي تعرضت لحركة تصحيح قبل السوق السعودية في شباط (فبراير) بفترة طويلة ، فهي الأخري خسرت بقوة مع أن هناك فوارق كبيرة بين السوقين من حيث حجم السيولة والشركات .

ولنقارن في تلك المرحلة مقارنة بين سهم سابك وإعمار الإمارتية ، فمثلا وصلت إعمار إلى أعلي قمة للسهم 27،75 درهم ثم نزلت إلى أن وصلت إلى 12،52 درهما

سنلاحظ أن الفترة لهذا النزول استغرقت أكثر من عامين ونصف لتخسر قريبا من نصف قيمتها أما سابك ففي هبوط شباط / فبراير من قيمة 291،2 ريال 23/ 2/ 2006م كقمة إلي 145 ريالا 18/ 5/ 2006 م فقد تم خلال شهرين ونصف فقط

بمعني أن رحلة ثلاثين شهرا في دبي اختصرت في السعودية في ثمانية أسابيع دون وجود خبر سلبي عن الشركة ، ثم نزلت هذه الأسواق مرة أخرى بسبب الأزمة المالية وهو مفهوم طالما أن هناك سببا اقتصاديا.

ومع الإشكال لهذا الضرب العنيف دون رحمة تأتي تصريحات أهم شخصية مالية (وزير المالية) سيئة .. ولهذا نقل (محمد القنيبط) في حوار له على قناة الحرة في 26 شباط (فبراير) 2008م " عن زميل له في مجلس الشورى حضر مجلس الاقتصاد الأعلي مع وزير المالية

كيف أن الملك خطأ وزير المالية وقال :

" الكلام اللي قلته مهو بزين " والملك كان كلامه منطقيا ، كيف تقول إن السوق تنزل مثل ما ارتفعت وهي تنزل منذ شهر ..!"

وكثيرا ما يتكرر هذا العبث بالسوق ، ولم يعد شباط (فبراير) إلا ذكري بسيطة فقد مر بالسوق العديد من الانهيارات بصورة مقاربة لما حدث في شباط (فبراير)

ويعلق (عبد الرحمن بن ناصر الخريف) في جريدة الرياض 19 تموز (يوليو) 2008م في إحدي المرات التي ضربت بها السوق :

  • " قد تكون هذه هي المرة الأولي التي لم نسمع بها محللي ومديري المحافظ الكبري يلقون باللوم على صغار المتداولين بأنهم السبب في النزول الكبير لأسعار الأسهم خلال الأيام الماضية بالبيع الجماعي
فسابقا كان يتم ضرب السوق لاقتناص أسهم المحافظ الممولة من البنوك ، ويبررون ذلك بكثافة البيع من المحافظ الصغيرة إلا أن الذي حدث أثناء نزول السوق الأخير كان يمثل فضيحة كبري شاهدها الجميع عدة مرات
وفي أكثر من شركة فليس بالإمكان أن نتصور "متداولا صغيرا" يرش دفعة واحدة أكثر من 500 ألف سهم بـ(سابك) قبيل الإغلاق وعلى طلبات بـ 132 ريالا ، وحتى 130 ريالا ومن ضمنها طلبات أفراد ، أحدها بـ 200 ألف سهم ! ليتسبب في انهيار سعر سابك وباقي السوق ، فما هو الهدف من بيع تلك الكمية دفعة واحدة وما علاقته بمن جهز طلبه بالكمية الضخمة
ويطلب واحد قبيل الرش بلحظات لاقتناص تلك الكمية ، وما حدث في سابك التي تربح سنويا ما يعادل رأس مالها حدث في معظم الشركات الكبري التي تستدفها عادة المحافظ الضخمة والصناديق !
وهو ما يجبرنا على المطالبة بإيضاح من قام ببيع الكميات الضخمة بطريقة " رش الطلبات " لإيقاف الشائعات "!
" إن ما حدث بالسوق مؤخرا من نزول عنيف ومتعمد لأسعار الأسهم ثم الارتداد بقوة ثم معاودة النزول بقوة أكثر خلال دقائق يؤكد السيطرة التامة على تداولات السوق وأن السوق مسيرة بشكل دقيق وليس تخبطا كما يردد البعض فهناك فئة تنفذ سيناريو وضع لتحقيق أهداف معينة لا تعنيها أى مخالفات بالعروض والطلبات !"

وفي مقالة للكاتب (تركي الثنيان) يشير إلى ملامح التسرب في المعلومات ..

" يقول أحدهم وصلتني رسالة على جوالي يوم السبت قبل انخفاض (انهيار) سوق الأسهم السعودية تقول ما نصه : "السوق خروج" أجاب برسالة تستفسر لماذا ؟

فكان الرد : "مهو بشغلك" ليس من طبعه الإذعان بسهولة و فتمسك برأيه "الأعوج" خسف السوق 2000 نقطة تقريبا .. يمضي في صمته فيقول ركضت إلى صاحبي بعد أن أدمتني الخسارة ، أستفسر مستسلما لقدراته الخارقة .. سألته

هل انهيار سوق الائتمان العقاري الأمريكي له تأثير ، أم تراه التضخم ، أم أنها موجه ركود اقتصادي عالمية ، فأعاد على نفس إجابته السابقة : مهو بشغلك !!

بعد فاصل توبيخي على عدم سماع الكلام ، قال أخيرا ، إن هناك عصفرة تسقط الأخبار ، أخبرته بالرسالة وربما أنها تعرف أكثر من واحد .هذه قد تكون رواية حقيقة أو تكون قريبة من الحقيقة أو ربما خرافة تحتاج إلى من يدحضها ".

" لا أجادل أن هناك فنا في الاتجار في الأسهم .. لا أجادل أيضا في حرية السوق ، لا أجادل أخيرا في حق من يحصل على معلومة أن يستغلها .. مشكلتي الوحيدة تكمن في احتمال استغلالية من يتبوأ مركزا وظيفيا في مفصل حساس يخوله الحصول على المعلومة المؤثرة بشكل غير مشروع ليستغلها على حساب البقية من المستثمرين ".
" هل هي صعبة جدا معرفة من خرج من السوق يا هيئة سوق المال قبيل الانهيار ؟ هل النظام الجديد لشركة تداول لا يخولكم معرفة هذه الجزئية .؟ أيعقل أن مئات الملايين لا توفر آلية لمعرفة من باع ومن اشترى في اللحظات الحرجة ؟ بالطبع ، انخفاض الأسعار حدث غي مستغرب فقد حدث في بعض أنحاء العالم
وأن يخرج من السوق البعض أيضا غير مستغرب ، وحتى خروج القطط السمان من السوق بثوان معدودة قد يكون طبيعيا .. ولكن في كل بلدان العالم المتقدم تفتح التحقيقات وتنشر الملفات لو أن أحد كبار المساهمي قام بعملية بيع أو شراء إذا تلاها نشر خبر مؤثر ، أو حدث حادث مؤثر في سعر السهم " (التحقيق في انهيار الأسهم "الوطن 29 / 1/ 2008) .

الفصل الثامن: عقل المعارضة

" لا غرابة إذا أن ينعدم في بلاد المجال التقليدي وبخاصة منطقة الخليج وجود معارضة سياسية بالمعني العصري للكلمة ، ما خلا بلدين هما الكويت والبحرين" عبد الإله بلقزيز

في الحالة السعودية لم يوجد حضور شرعي للمعارضة بأى صورة من الصور في أحزاب أو تنظيمات أو نشاط إعلامي ، أو تكتل اجتماعي سياسي حيث لا تفهم المعارضة إلا وفق رؤية تقليدية سائدة كجزء من الشر والفتنة

لهذا انعكس هذا الوعي على خطاب النخب الدينية والثقافية والإعلامية ومواقفها في مراحل عدة لأن التثقيف السياسي أو التربية السياسية في بيئة التعليم وخطابنا الإعلامي والديني أخذ بعدا تقليديا في التوعية بمضمونها

حيث ما زالت تحضر في هذا الخطاب مفردات الراعي والرعية ، وولي الأمر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع المفاهيم الدينية في السياسة مستويات عدة

وبالذات في الخطاب الديني العلمي والشعبي ، حتى في الخطاب الإعلامي المفترض أن يكون مدنيا فإنه يستعمل هذه المفاهيم التقليدية في العديد من المناسبات والكتابات والتعليقات في دولة ذات تنمية حديثة وتطور اقتصادي واتصال بالعالم !

فكيف سينظر المجتمع إلى مفهوم المعارضة، ما دام الإعلام خلال أكثر من نصف قرن لم يقدم أى مشروعية لكلمة "معارضة" والتطبيع معها كمصطلح سياسي يمكن تداوله حتى في أفضل مراحل ربيع الإصلاح والحوارات الوطنية ؟ وإذا وجدت فإنها لا تأتي إلا في لحظات خاطفة من أجل تحقيرها وشتمها .

يتناولها الكاتب الرسمي بحذر شديد حتى في حاله هجومه عليها خوفا من وضع أرضية للتطبيع مع هذه الكلمة . ولا يستطيع الكتاب الجدد التعامل مع لا هذه المفدرة وفق تقاليد التعامل مع هذا المفهوم تاريخيا في السعودية الذي يحتاج إلى خبرة من نوع خاص !

وحتى حالات النقد والهجوم على " المعارضة " لا تكتب في الصحافة من خلال تحليل وفق المفاهيم السياسية فالمسألة تبدو ليست فقط لتشويه " فلان " الضال بل إن مفردة " معارضة " في حد ذاتها تظهر في مثل هذه الكتابات بأنها لا يصدق وكريه وغير معقول ، وهذه الرؤية أخذت مسارا تاريخيا له ظروفه المحلية والإقليمية .

في مرحلة ما بعد أيلول (سبتمبر) جاءت مفردتا "الإصلاح" و"إصلاحيين" بديلا من حساسية تلك المفردة التي لم يحن الوقت لحضور مشروعيتها في المجتمع ، وتقبلها كأى شئ في الحياة في الخير أو الشر .

ليست هذه المفردة هي التي تعاني من مشروعية وجودها وتداولها في الحالة السعودية . فقد عانت قبلها مفاهيم أخرى مثل حقوق الإنسان ، والكثير من المشكلات الاجتماعية والدينية والتنموية تواجه في البدايات صعوبة في الاعتراف بوجودها ، حتى يتم تكييفها وفق الذهنية المحلية .

لهذا كانت متابعة وقراءة خطاب المعارضة حتى ولو بشكل فردي لهدف بحثي واطلاعي محفوفة بالمخاطر الأمنية قبل أن تتراجع هذه الخطورة مع انفتاح الإنترنت والفضائيات .

وبدأ يتم تداول مفردة " معارضة " سعودية دون ذكر مثيري الفتنة أو الفئة الضالة والمنشقة أحيانا ، هذه الظروف التاريخية في استعمال هذه المفردة صنعت هذه الرؤية المشوشة وليست هي المفردة الوحيدة بل حتى كلمة " وطن " لم تؤصل في الرؤية الشعبية وفق مفاهيم العصر ، وهي وليست واضحة المعالم .

الدولة .. والمعارضة

تاريخيا لم تكن الدولة ديكتاتورية وقمعية على الطريقة العسكرية الثورية العربية التي كانت موجودة في بعض المراحل ، ولم توجد رغبة في تفعيل هذا الاتجاه بالقبضة الحديدية مع أن إمكانياتها المالية تفوق تلك الأنظمة

وهذا الوصف حقيقة وليس مجرد كلام للإستهلاك الإعلامي ، فالمجتمع يعرف هذه الحقيقة وينظر إلى الدولة بصورة أبوية في مراحل مبكرة قبل أن تتأثر قليلا في السنوات الأخيرة عند الجيل الأخير !

وفي الوقت نفسه يعرف المجتمع قوة الدولة وهيبتها ، لأنه يري أن هذه الأبوية ليست ضعيفة ومتساهلة مع أى خروج عن الأعراف والتقاليد السياسية المعتبرة ، ولهذا تواجه كل صورة من صور التمرد لفظا أو فعلا بحزم وصرامة .

النقد الذي يوجه للمؤسسات الحكومية له أصول ونمط معين في الخطاب الإعلامي لهذا فإن حرية التعبير فضلا عن حرية الحركة غير ممكنة لأى خطاب معارضة وحتى تبدو الأمور أقرب إلى الواقعية في الوصف فإن علينا تقييم الأمور بشئ من الاعتدال والنظر إلى سياقات تاريخية لموقف الدولة من المعارضة ، بحيث لا يمكن الحكم على أى مواجهة إلا من خلال ظروفها الزمنية في كل مرحلة .

ففي مرحلة البدايات والتأسيس ، كان الموقف يتجه للإستقطابات التي نجحت في حالات كثيرة مع الحزم ضد أى تمرد ، وعدم تهيئة أى شرعية له وهذا الاتجاه له مبرراته المتعددة في بدايات توحيد الدولة وبيئة لا تفهم إلا المصطلحات التقليدية التاريخية

ولهذا كان الموقف من حركة ابن رفادة والإخوان في السبلة حازما ، مقابل ذلك استقطبت تلك المرحلة أسماء معارضة أعلنوا تراجعهم وتابوا ، وبعضهم تسلم مراكز حساسة ومهمة في ذلك الوقت

ومنهم رموز شهيرة مثل (طاهر الدباغ) الذي كان مناصرا للبيت الهاشمي ، وهو سكرتير الحزب الوطني الحجازي ، والذي عفا عنه الملك عبد العزيز وأسندت إليه مديرية المعارف ، (محمد عبد الله صادق) مدير إحصاء النفوس (إبراهيم بن عبيد ، تذكرة أولي النهي ، ج 3 ، ص 231).

أما في مرحلة الخمسينيات والستينيات ، فقد كانت مرحلة إقليمية حرجة للسعودية مع بدايات عصر الانقلابات العربية وظهور النظم الثورية والهجوم على ما سمي بالنظم الرجعية والملكية .

ومع أن السعودية لم تقف سلبيا مع خيارات وظروف كل دولة كما في بداية الناصرية ، إلا أن الأوضاع تطورت في ما بعد ، حيث تزايد حضور أيديولوجيات متعددة ضدها وهي المرحلة التي كانت بداية اتصال المجتمع بالعالم الخارجي وخطاباته عبر المذياع أدي دورا كبيرا ، وتأثرت شريحة من أبناء المجتمع بهذا الخطاب ، ثم تأثر المبتعثون في الخارج .

لقد كانت مرحلة حساسة جدا على السياسي السعودي ، حيث تأثرت بهذه الأصوات بعض أبناء الأسرة الحاكمة وظهر في حينها ما سمي بالأمرار الأحرار

لكن حزم العهد الفيصلي والأداء السياسي المميز له كان لهما دور في امتصاص هذه الأزمة ،فقد حدث نجاح كبير في استقطاب العديد من هذه الأصوات المعارضة وأصبحت في ما بعد نواة للكثير من النخحب التكنوقراطية في البلد ، وأيضا كانت هناك مواجهة حازمة مع الذين استمرت معارضتهم .

أما مرحلة السبعينيات التي بدت في عام 1975 بخطوة مصالحة وعفو كبير في الداخل والخارج ، حيث عاد الكثير من الأسماء إلى الوطن، وانحرطت في أكبر مشروع تنموى في ذلك الوقت فقد تميزت تلك المرحلة بأشياء كثيرة منها تحرر الصحافة نسبيا ، وتشكل طبقة وسطي ، وانفتاح المجتمع مع ارتفاع مستوى المعيشة .. وكانت هناك مرونة كبيرة في التعامل مع المعارضة

بما فيها المعارضة الدينية كقصة تطورات جماعة جهيمان على الرغم من أن الدولة كانت تعرف عن أفكارهم ونشاطهم الكثير وتقبلت شفاعة بعض العلماء فيهم قبل حادثة الحرم .ثم حدث حزم وتشدد جديد بعد مرحلة مرونة سياسية ، هي المرحلة التي بدأت تتزايد فيها مشكلة الشيعة في المنطقة الشرقية .

لقد كان لأحداث بداية الثمانينيات دور كبير في عودة الحساسية من مسألة المعارضة بصورة لا تختلف كثيرا عن مرحلة الستينيات ، مع أن هذه المرحلة هي قمة ما سمي بالحقبة السعودية ، حيث انحسرت المخاطر الخارجية وأصبحت السعودية قوة سياسية واقتصادية كبري في المنطقة .

لقد كان للثورة الإيرانية دور في حساسية أوضاع المنطقة الشرقية والمعارضة الشيعية التي لها قصة أخرى ، لا يمكن تناولها بالتفصيل هنا وسأتركها لبحث آخر .

في هذه المرحلة أيضا كان هناك بقايا من الفكر المعارض السري في مواقفه غير المعلنة بمن فيهم أسماء معروفة في الوسط الثقافي ، وقد تعاملت الحكومة معها بأبوية واستقطاب ما دام أنها تخلت عن العمل التنظيمي .

أما في مرحلة التسعينيات ، فقد كانت الدولة في وضع حرج مع مضاعفات غزو العراق للكويت وأمام خيارات مصيرية ، ففي الداخل ما زالت آثار الجلطة النفطية قائم تأثيرها السلبي في مسار التنمية

ثم فوجئت بتطور إقليمي غير متوقع تمثل في تهور نظام صدام حسين لسوء الحظ في هذه المرحلة تجمعت ملفات عديدة حيث إنه لم ينجز في الثمانينيات أى شئ في مجال تطوّر مؤسسات الدولة ، فلم تصدر أنظمة الحكم

ولم يكن مجلس الشورى موجودا فجاءت هذه التحسينات والتطّورات تحت ضجيج الأزمة و ثم كانت المفاجأة الجديدة مع نشوء معارضة من تيار الصحوة التي استمرت إلى منتصف التسعينيات قبل أن تبدأ بالتراجعات ، بعد المواجهة الحازمة ضدها .

لقد تعاملت الدولة هنا بأسلوب يجمع بين الحكمة وعدم العجلة وقدر من الأبوية في البداية وبين الحزم المبالغ فيه أحيانا في نهاية التطورات حيث كانت هناك تفاصيل عديدة في ما حدث بين السياسي والصوت الإسلامي المتمرد الجديد .

وأخيرا في مرحلة أيلول (سبتمبر) وما بعدها ومع أجواء الضغط الخارجي نح الإصلاح ، عادت للظهور معارضات سابقة إسلامية وقومية واتجاهات مختلفة تحت عناوين إصلاحية من الداخل أكثر تعقلا واعتدالا عند الكثير منهم دون ميول ثورية وقد كان التجارب في البداية مشجعا لهذه الأصوات قبل أن تتراجع النزعة الإصلاحية بعد أرتفاع أسعار النفط الكبير .

المثقف الديني .. والمعارضة

الشيخ وعالم الشريعة والواعظ في الخطاب السائد محليا ظل يقدم آراءه السياسية وفق منظومة المفاهيم الشرعية و لم يكيف فقهيا مفهوم المعارضة كما هو في الفكر السياسي الحديث

فما زالت في وعيه أنها مشروع فتنة وإثارة شغب ، ويتم استحضار أحداث تاريخية من الوعي السلفي في آثار الخروج على الأمة حتى لو كان الخارج معه الحق فالمعارضة لديه هي المقابل لفكر الخوارج في الفقه ، وليس لها معني آخر لديه ، لهذا فهي منهي عنها في نظر الفقيه المحلي .

لقد استمر في الخطاب الفقهي حضور طاعة ولي الأمر وأهميته ، والدعاء لهم وفق الرؤية السلفية السائدة ، حيث ظل هو المكون الرئيسي لوعي المجتمع في رؤيته السياسية ويبدو ذلك مفهوما لدولة تعلن تطبيق الشريعة دائما ، لعلماء الدين مكانتهم فيها ، ولهذا تبدو المعارضة هنا ليست مخالفة للدين فقط ، وإنما للعقل في نظره .

ظل التيار الديني محكوما بهذه الرؤية على الرغم من تعدد الاتجاهات والمسميات الداخلية لبعض الأطياف ، إلا أن هذه المواقف متشابهة في مقدماتها الفقهية الأساسية .

وإذا كان هناك تمرد أو ممانعة لمواجهة أخطاء الدولة في رأي الشيخ أو الشيخ الداعية ، فإن ذلك يأتي من خلال مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة وضوابطه مع استحضار تفاصيل خاصة حول علنية هذه النصيحة أو سريتها ، وكلما كان الشيخ علنيا في إنكاره منكرات الدولة كما يراها فإنه يكون أقرب إلى المعارضة

هناك تفاصيل فقهية كثيرة وخلافات طويلة حول شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وضوابط طاعة ولي الأمر ونصيحته وتنشأ عادة من هذه الخلافات الفرعية تيارات وأحزاب تحت الرؤية السلفية العامة .

لم يقدم (الشيخ) أى تجديد سياسي حتى في حالة تمرده ، إنما استحضار كامل لكل مفاهيم السياسة الشرعية التاريخية التقليدية ليستعملها في الواقع دون النظر إلى مفاهيم عصرية كمفهوم الوطن والمواطنة .

وهناك إشكاليات فقهية تظهر بين فترة وأخرى أكثر حساسية ، هذه الرؤية تبدو في لحظات الصدام مع الدولة ، وتمرد الجيل الديني الجديد على تقاليد شيوخهم الكبار في السن

فتحضر مسائل كالحكم الديني على شرعية الدولة ومسألة كفر الحكم بغير ما أنزل الله ومسائل الخروج على الإمام ، وهذه القضايا من المسائل الشائكة في الوعي الفقهي التقليدي وفيها تفاصيل ضخمة في كتب التراث وقد تشكلت رؤية للمدرسة السلفية الحنبلية ذات ملامح وأسس في الموقف من هذه القضايا استقرت عليها الرؤية الفقهية المحلية .

وتعلن السعودية دائما تطبيقها للشريعة وأنها ضد أى مخالفة لها ، لكن في الوسط الديني كانت تثار مشكلات بين فترة وأخرى حول بعض المعاملات والمحاكم خارج القضاء الشرعي والعلاقات الدولية ، وبعض القوانين التي يرون أنها وضعية

ومن خلال تتبعي للسجالات حول هذه المسائل فإن المشايخ الكبار ليست لديهم قدرة على اتقان محاجة هؤلاء الشباب من طلبة العلم المتمردين ، ولأن الأمور الفقهية هنا بذاتها شائكة وغير محسومة عمليا

وتنتهي الأمور في الحالة السعودية عادة دون إجابات حاسمة في هذه الحوارات ، فإما أن يستمروا في طريق تمردهم فيصبحون مغررا بهم ومن الفئة الضالة ،أو يهدأوا ويسكنوا من تلقاء أنفسهم مع تقدمهم بالعمر وإغرائهم ببعض المصالح .

لقد ظل الكثير من المفاهيم الفقهية في السياسة الشرعية مشوشا على الشباب ، لأن تلك المفاهيم لم تحسم بإجابات متماسكة فلا يمكن حسمها نظريا لمن يدرك طبيعة الإشكال الفقهي ، وفق أدبيات تراثية يتم تناقلها من جيل إلى آخر .

وقد كانت من مشكلات التيار الديني الموقف من (تحكيم القوانين الوضعية) التي كان للشيخ (محمد بن إبراهيم) مفتي الديار السعودية آراء واضحة وصريحة في كتيب يتم تداوله ووزع على نطاق واسع في مرحلة الصحوة

وهناك مواقف فقهية من البنوك للعلماء الرسميين على الرغم من حساسياتها السياسية والاقتصادية وهذه القضية أحرجت العلماء التقليديين كثيرا في مراحل سابقة أمام طلبتهم المتحمسين .

لقد ظلت الرؤية السلفية تحتفظ بمرونتها في تقبل أخطاء الدولة ومخالفاتها ، ولديهم شواهد وقصص من السلف الصالح طالما أن هذه المخالفات لا تؤثر في شرعية الدولة في نظرهم ، لكن بعض القضايا الفقهية كالربا كان الجدل حوله أكثر تعقيدا ، وهل يقع في نطاق إباحة ما حرم الله !

ونظرا إلى حساسية هذه القضايا وصعوبة حسمها كان خيار بعض ناشطي تيار الجامية في التسعينيات مواجهة بعض أصول مفاهيم السلف لضبابيتها وإظهار مؤلفات لتأكيد عدم كفر بمن لم يحكم بما أنزل الله من خلال الاستفادة من مفهوم " كفر دون كفر " للوقوف أمام التكفير وإغلاق أى مدخل في الجدل مع خصومهم

وتزايد السجال في هذا الباب ، ولم تنجح هذه المحاولة حيث جاءت ردود ضدهم حتى من علماء رسميين لأن هذه المحاولة تتضمن مغالطات في صياغات السلف الشرعية حول هذه المسائل .من هذه الخلافات تنشأ المعارضات الإسلامية السنية عادة لتقديم مشروعية لمعارضتهم .

بالنسبة إلى التيارات الأخري من قومية ويسارية التي كان لها توجه معارضة ، فقد كان موقف التيار الديني وعلمائه شديدا في خصومتهم ، فهم يرون أن من واجب الحكومة قمعهم وسجنهم

وهذه الرؤية تبناها أيضا تيار الصحوة فكانت أخبار التضييق عليهم تزيد من مشروعية الدولة في نظرهم ، ولهذا عندما بد التضييق على رموز الصحوة فرح خصومهم حتى من توجهات معارضة الأخري ، ما يدل على الانتهازية وضعف الوعي السياسي عند كل اتجاه .

المثقف العصري .. والمعارضة

في البدايات كان المثقف العصري قد تغلب عليه الروح التقدمية ، ونزعة المعارضة والنقد في مجتمع تقليدي ، مع انتشار خطاب القومية والاشتراكية التي أصبحت من مكونات لغة المثقف العصري في ذلك الوقت .

لقد تشكلت منذ الخمسينيات إلى الثمانينيات الماضية أهم أطياف معارضة المثقف لكن الدولة في غير مرحلة نجحت في استقطاب أسماء كثيرة وتحولوا إلى مشروع الدولة في التنمية والتحديث وفق رؤيتها

ويمكن وصف حالة المثقف في مسألة المعارضة بما يلي:

البعض استمرت لديه نزعة المعارضة غير العلنية أو الصامتة ، إنما في الرأي والموقف الذاتي و دون المشارممة في تنظيمات حركية سرية انتشرت خلال عقود سابقة تلاشت بذهاب رموزها

فبعضهم انشغل بمشاريعه الخاصة والاستفادة من الطفرة وهذا النوع لم يقدم أى خدمة ، فقد تلاشي إرث الكثير منهم ، فلم يتعرف المجتمع على تفاصيل أفكار تلك المرحلة وطبيعة المواقف السياسي ومبرراتها لأن مصالحهم التجارية في ما بعد فرضت عليهم الصمت التام باستثناء ومضات تأتي في سواليف عابرة .

لم تنجح الأعمال الروائية المتعددة في تسريب شئ يذكر من هذه الأفكار ، وتحديد ملامح رؤيتها السياسية وتجربتها الصامتة خوفا من البدايات وطمعا في النهايات .

وهناك آخرون تحولوا بسهولة إلى الرسمية بعد أول منصب توفر لهم ، وأصبحوا جزءا من التكنوقراط في البلد، وتفكير الدولة السياسي حتى الآن مع الأخذ في الاعتبار المصالح الفردية الخاصة بهم التي غيرت مواقفهم

إلا أن بعض الأسماء من هذه الفئة حققت جزءا من أفكارها في الواقع ، وساهمت في دعم التنمية العصرية ، وقد كانت جزءا من مطالب المعارضة في ذلك الوقت ، والمفارقة أن هؤلاء حققوا إنجازا عمليا على أرض الواقع خاصة القدامي منهم

وذلك بانخراطهم في مشروع الدولة الذي هو أفضل من المعارضة الصامتة السلبية التي حافظت على مواقفها لكنها لم تقدم تراكما معرفيا نقديا يكون مادة للوعي بقضايا تاريخية وتحوّلاتها

وفي المقابل تبدو مشكلة بعض الذين تحولوا إلى مشروع الدولة أن الكثيرين منهم تخلوا عن رؤيتهم العصرية للأمور ،أصبحو تقليديين في الوعي العام بالأمور الوطنية ومنهم من يستعمل خبراته السابقة في المعارضة لمواجهة أى رؤية تحديثية في الوعي السياسي والرؤية الدينية والسياسية والاجتماعية .

هناك المثقف العام بمختلف توجهاته – وهو يشكل أكثرية – وهو ليس لديه موقف معلن ولا مشكلة له مع الدولة ومشروعيتها ، ولا تشغله فكرة التفاصيل السياسية المعاصرة وقضايا الحقوق والواجبات ، والحداثة السياسية ، وهو التيار الأغلب في الخطاب الثقافي

لأنه لم يتطرف في أحد الإتجاهات وحافظ على بعض الصدقية لكن تبدو مشكلة الكثير من أفراد هذه الفئة في أن ضعف الوعي السياسي أدي إلى ضعف وعيهم بالقضايا الكبري وكذلك الوعي بالأيديولوجيات ، فقد ظن هؤلاء بما أنهم لا يكتبون في السياسة فهذا يبرر لهم تهميش الوعي بها ، حتى مثقف الحداثة لم يكن حداثيا في وعيه

كما هو عند رموز الحداثة العربية الذين يرون أنه "لابد من التأكيد على أن العمل الثقافي لا ينفصل عن العمل السياسي ، وأن النضال الثقافي ، إنما هو في جوهره نضال سياسي" (أدونيس ، مواقف ، العدد 34 شتاء 1979 م ، ص 160) .

وبمرور الزمن أخذ وضع المثقف العام يستقر وفق ثلاثة نماذج :

اتجاه يتذاكي مع الحكومة، ويمارس النقد بطريقة استعراضية معينة، ثم يمسحه يمدح مقابل أمل في استقطابه.واتجاه آخر سلبي في مساهماته الثقافية وينعزل ويتشكي ويتباكي في السر دائما من عدم إعطاء المثقف حقوقه وتهميشه .
وثالث يمارس ازدواحية صارخة : نقد وإدانة ثورية في الجلسات واللقاءات الخاصة ، لكنه في العلن يظهر بصورة الحكومي المخلص .

المجتمع .. والمعارضة

تبدو كلمة " معارضة " مخيفة في الوعي السائد ، وتعبر عن سلوك مغامرة وانتحار ولا يمكن للعامة النظر إليها في بعض مستوياتها كموقف نقدي عقلاني أو اختلاف في الرؤية السياسية في إدارة مشكلات المجتمع

وأنها ليست بالضرورة رغبة في خروج مسلح أو انشقاق ولغربة هذه المفردة في الوعي الشعبي ربما يحضر معني "المعارضة" في الشعر النبطي وتسبق إلى الذهن قبل "المعارضة بالمعني السياسي" .

وينظر إلى أى محاولة نقدية جادة بأنها اتجاه نحو المعارضة والنضال السياسي ضد الحكومة ، فتأتي مفردات اجتماعية معتادة كنصائح من المقربين (وشو له تتكلم بالدولة) ؟

دون أن يدري ماذا قيل وماذا كتب؟ وما هو النقد؟ ودون أى يشغل بقراءة هذه القضايا.. ثم يتبرع بالنصيحة الكبرى (ودك الواحد يعرف حدوده) !.. بعدها يأتي قمة الوعي العامي الشعبي (هذه دولة .. ما أحد يقدر عليها ..)

من الصعب أن تدرك هذه الفئات في المجتمع طبيعة المشكلة فهناك مفارقات لافتة فقد تجد من يعدب بالطرح النقدي في الجلسات ويتحدث عن جرأة وشجاعة فلان بإعجاب وهو يري الرغبة التمردية لهذا المثقف أو ذاك في برنامج فضائي أو شيخ في خطبة جمعة و أو كاتب في صحيفة .

ثم يقول :" والله يعجبك فلان ".. وآخر يعارضه آخر ليتحدث عن أهمية " الركادة وعدم التعرض للفتن.هذه أنماط من ردود الفعل التقليدية والعفوية جدا داخل المجتمع عندما يقدم المثقف نقده حول الشأن العام .

لكن موقف المجتمع من خطاب المثقف الديني ( الشيخ ) يختلف كثيرا فعندما يتحدث الواعظ والداعية فالرأي الشعبي تختلف رده فعله هنا ، فهو في حالات كثيرة يبدي تعاطفا أوليا معه ، لأنه في نظره آمر بالمعروف وناه عن المنكر

وأن الشيخ هنا يصدع بالحق ، ولا يخاف في الله لومة لائم .. وتستحضر قصص رموز السلف ، وذكر للعلماء المجاهدين ، من الذين تعرضوا للإيذاء مثل (ابن تيمية ، وابن حنبل ، والعز بن عبد السلام)

وحتى لو اختلف العامة مع رأي الداعية فإنهم يرونه على خير ومأجورا ، لكن عندما يتحدث المثقف العصري ، والكاتب الصحافي فإن ردة الفعل تختلف ، بأسئلة استنكارة "وشوله" "وش دخله بها الأمور" !؟

أما الناشط السياسي المجرد فهو في الغالب لا يجد أى تعاطف ولا حتى تفهم للدور الذي يقوم به ، وكثيرا ما يفسر عند العامة ببعد شخصي ، وبأنه ناقم لموقف خاص به ، أو بعد قبلي .. ولهذا يأتي تساؤلهم الاستنكاري بقولهم "وش يبي فلان "؟

السياسي .. والخطاب النقدي

العرف التقليدي للنقد أن يأتي على شكل نصيحة سرية بالنسبة إلى الشيخ والداعية وله أسلوب خاص في كتابة النصيحة هذا النوع بالنسبة للديني منهج مقبول وسائد

ويعتبره السياسي نوعا من الولاء والمناصحة الإيجابية من هذا الداعية مهما كان الأمر طالما أنه لم يعلن عنه عند طلابه وجمهوره ويتحدث عنه في المنابر ويتفهم السياسي ظروف الداعية والشيخ بأن التزامه الديني يفرض عليه واجب النصيحة .

لكن بالنسبة للمثقف العصري فالأمر أكثر صعوبة ويثير تساؤلات محيرة عند السياسي قد لا تفهم بصورة بريئة وعفوية ، حتى لو قدمت هذه النصيحة سريا

لأن السياسي لا يري أن للمثقف وازعه الديني في تقديم النصيحة كما عند الشيخ وليس عنده طلاب علم يتواصلون معه حول واجب النصيحة ، ثم إن الشيخ عادة ما يكون مشغولا في نقده حول ما يراه منكرات دينية ، ولا يسأل عن أى قضايا مدنية وحقوقية ..

في المقابل قد تكون نصيحة المثقف العصري في مجالات أخري ! والمثقف لا يتاح له التجمعات والأنشطة العامة من خطب ومحاضرات وحلق علمية في المساجد ولقاء مستمر بالجمهور ولهذا ينظر إلى سرية الشيخ أنها تقدير واع منه بعد الحديث العلني والمتاح له في منبره ، وفي المقابل لا ينظر إلى سرية المثقف بقدر من التقدير سوى أنها اشتغال في ما لا يعنيه .

وحتى عندما يقدم الشيخ نصيحته على المنبر حول أمور ومحرمات كثيرة في نظره بطريقة تقليدية فإن السياسي كثيرا ما يتحمل هذا الطرح بل إن آراء وفتاوى الكثير من العلماء التقليديين ناقدة لأشياء كثيرة موجودة في المجتمع ومسموح بها لكن لأن خطابهم من دون إثارة وأسلوبهم بسيط في النصح فإنه يقبل منهم .

لهذا عندما تطوّر الخطاب الديني مع الصحوة وبدأ يتحدث بلغة حديثة كما في تجربة سلمان العودة في التسعينيات بأشرطته المشهور ، فقد خرج عن اللغة التقليدية في تناول المشكلات الدينية ، ومع حدوث تجمعات في محاضراته وتزايد للجماهيرية ..

وتصعيده المستمر في خطاب "النهي عن المنكر" فقد تحول هذا النقد إلى خطاب "معارضة" دون أن يشعر جمهوره بذلك ، وربما الشيخ نفسه لم يدرك ذلك ولهذا كان صغار الصحوة فعلا لا بذلك وربما الشيخ نفسه لم يدرك ذلك ، ولهذا كان صغار الصحوة فعلا لا يدركون أنهم انخرطوا في نشاط سياسي وحركة معارضة من دون وعي منهم !

هناك الخطاب النقدي "للمحليات" في الصحافة ومعالجة الخدمات الحياتية اليومية فهذا نقد جزئي لا علاقة له بنقد البنية الكلية للإدارة السياسية ولهذا لا يوجد حساسية ما دام قدم وفق طريقة الخطاب السائد إعلاميا .

وهنا النقد المشاكس .. ويأتي من بعض الأقلام أحيانا في الصحافة عند موضوعات معينة ، بطريقة قد تزعج المسؤول بأسلوبها ، حيث يري أنه اجتهاد خاطئ في تقديم النصيحة ..

والإجراء المعتاد هو منع مقالاته مؤقتا ، ثم يعود مرة أخرى بعد أن يستوعب الطرق المناسبة ليطور أسلوب نقده حتى يصل لمرحلة يمارس فيه مشاكسته الصحافية بطريقة استعراضية ونضالات بهلونية دون أن يزعج الرقيب .

وهناك النقد العلمي .. من خلال بحوث ومقالات جادة ومؤلفات ذات رؤية علمية موضوعية معتدل ، بعيدة عن فكرة الاستفزاز المقصود لذاته ، فهو مجرد رؤية وتشخيص لمسائل محلية بقدر من الاستقلالية واحترام لذهنية القارئ ، وهذا النقد هو الأكثر نفعا لمعالجة مسائلنا الداخلية والموقف منه يعتمد على نوعية المسائل وطريقة معالجتها !

ينتقل بعض الباحثين إلى مرحلة النشاط السياسي ، والعمل الجماهيري والبيانات وعندما يحدث له تضييق فإن البعض يختلط عليه السبب هل لأنه قدم رأيا علميا نخبويا ، أم لأنه تحول إلى ناشط ومعارض ؟

نقد خطاب المعارضة

هناك حاجة إلى نقد خطاب المعارضة وتقييمه بعيدا عن أجواء الصراعات اللحظية والأزمات في مراحل عدة التي تتداخل فيها النفعية الشخصية بالوطنية والتخوين .. ولا يمكن تقييم أدائها وإنما خطابها وفكرها ومنهجها أما الأداء العملي والنشاط السياسي فلا يمكن تقييمهما سياسيا لأن ذلك يعتمد على ظروف كل مرحلة وتوازناتها .

لم ينجح خطاب المعارضة بمختلف توجهاته ومراحله في تأسيس رؤى نقدية متماسكة متراكمة وواضحة المعالم لقضايانا المحلية ورفع مساحة الوعي السياسي حتى لخصومها وأنصارها

ولم تسهم في رفع مستوى الجدل الفكري ، فقد سيطرت لغة الفضائح والشتائم والمبالغات على الخطاب زمنا طويلا والرؤية السوداوية لكل شئ هي الأكثر حضورا ، وطغيان التفسيرات المؤامراتية في قراءة الأحداث والأخبار ما أضعف صدقيتها

ولا تختلف هذه اللغة عن أى نوع من أنواع المعارضة ، فقد وجدت في المعارضة القومية العلمانية والإسلامية بمختلف أطيافها ومراحلها ، هذا الخلل أضعف كثيرا صدقية خطاب المعارضة وأخبارها ووثائقها ، لهذا كثير من البيانات والمنشورات تفقد صلاحيتها سريعا .

تطغي مسألة الشخصنة في حالات كثيرة وحضور لغة الفضائح ، من خلال استهداف شخصيات معينة وقضايا محدّدة وتتطور لتصبح موقفا شخصيا في الفعل ورد الفعل هذه الشخصية ربما تكون ضد شخصيات سياسية أو دينية وغيرها ، تتطور إلى نوع من المرض في الخطاب وتغيّب الاهتمام بالقضايا العامة ، وهموم الوطن .

هناك الضعف الشديد في الانتاج العلمي ، وهو مظهر لافت على الرغم من ظهور بعض الدراسات الجادة والأطروحات التاريخية بين فترة وأخرى إلا أنها لم تشكل تراكما معرفيا مؤثرا

وتعاني من خلل في موضوعية التحليل السياسي والثقافي ، ما عزز الضعف الفكري العام في ثقافة المجتمع ونخبه ، وإذا كان البعض يشكو من التأثيرات السلبية لخطاب المثقف الرسمي والتقليدي على الوعي

فإن المعارضة أيضا بخطابها أساءت إلى النقد لأنها تخلط عادة بين الموقف السياسي والرأي والتحليل .

وهناك الضعف المستمر في إنتاج خطاب نقدي إعلامي محترف ومهني حتى في المقالات الصحافية وفي السابق كان هذا العجز يبرر بعدم وجود إمكانيات وصعوبة ذلك عمليا وكلفتها الكبيرة للوصول إلى المتلقي ، والواقع أن هذه الأعذار تلاشي الكثير منها في مرحلة الإنترنت .

حافظت المعارضة على السمعة السيئة في الداخل ، فالمعارضة لم تحقق سمعة داخلية جيدة ، وتعاطفا شعبيا ، لأن الكثير من التجارب جاءت عشوائية وردود أفعال مراهقة ومتسرعة

ثم تراجعات بالطريقة نفسها ، ما جعل المجتمع ينظر إليها بقدر من الريبة والشك ، لقد تحولت مفردة " معارض" في الوعي العام والرسمي إلى تنميط محدد ومضر بالوعي الثقافي والسياسي ، وهذا التنميط السائد يلغي الاستفادة من الأفكار التي تطرح في مراحل مختلفة .

يقدم خطاب المعارضة أحيانا حماقات لا معني لها في الرؤية السياسية العقلانية فبعضهم ينتقد مثلا أهم رمز سياسي في تاريخنا الوطني ، ممثلا في شخصية المؤسس لهذه الدولة وفي الوقت نفسه يتحدث عن الوطن الذي لا معني له سياسيا من دون شخصية المؤسس ..

فكيف يسخر من المؤسس ولا يحترم إنجازه التاريخي ، ويجعله رمزا بغض النظر عن أى شئ آخر ؟ لأن هذه المعارضة هي نفسها لا معني لها من دون وجود هذا الوطن

لهذا لا تجرؤ المعارضات في العالم على نقد الزعماء التاريخيين والمؤسسين لبلدانهم ، فهذا يخرق أى صدقية لعملهم السياسي ، إلا إذا كان عند بعضهم دعوات انفصالية .. أو دعوات ثورية أممية فهنا يختلف الحال .

هذه المعارضات ليس لها أى قيمة دون هذا الكيان من الناحية السياسية ، ولهذا لا يمكن الفصل هنا بين الوطنية واحترام المؤسس ، هذا الاحترام الواجب ضرورة سياسية وعقلية لا علاقة لها بالمجاملات أو النفاق الرسمي فأى معارضة لا تحترم الرموز السياسية المؤسسة للأوطان هي تناقض صراحة مضمون رسالتها وخطابها السياسي .

ومن القضايا التي يلمسها المتابع لخطاب المعارضة في نقده للفساد ضعف الوعي بكيفية الإدارة الحكومية وصنع القرار ، وقيام المشروعات ولهذا يخلو نقدها من الدقة والموضوعية والقدرة على التأثير في الرأي ، لأن أغلبه انطباعي متسرع ، واستغلال شكلي للأرقام المعلنة في المزاينات السنوية .

بين الخطاب النقدي .. وعمل المعارضة

وعندما نتجاوز ظروف وتحولات مفهوم " المعارضة " محليا ، ونصل إلى أين انتهت نجد أنه لقد فشلت المعارضة، التاريخية بمختلف توجهاتها في تطبيع هذه المفردة بالوعي العام

حيث لا تزال فكرة " المعارضة " وفق الوعي السياسي العام بعيدة عن إطارها العصري في عالم السياسة الحديث تتحسس منها النخب الدينية والسياسية والثقافية و فهل يمكن إقرار مبدأ حق الاعتراض وحرية التعبير والنقد دون أن يتعرض أصحابها للضرر ؟

في أقطار عربية متخلفة في السياسة وحريات التعبير والديمقراطية على الرغم من ذلك توجد بعض مظاهر السياسة الحديثة ، من أحزاب ونقابات ونشاط سياسي وانتخابات وتجمعات ووسائل إعلامية تمثل رأي الحكومة ووسائل للمعارضة ودور ذلك في امتصاص الغضب الشعبي ، والتقليل من أخطاء الأداء السياسي .

من السهل عند زيارة هذه الأقطار معرفة رأي المعارضة عبر صحفها أو رموزها من الكتاب حول أدراء حكوماتهم ، مع الإقرار بوجود فوارق كبيرة بين قوة وحضور الحزب الحاكم في الإمكانيات وبين المعارضة التي تهمش وتتعرض إلى كثير من المضايقات والاعتقالات في مناسبات كثيرة بسبب الفساد والديكتاتورية .

أشرت سابقا إلى استراتيجية نزع المحتوى السياسي في أى نشاط وفكر في الحالة السعودية هذه استراتيجية تشكل أساسا في كل عملية تطوير وتغيير تحدث تحت تأثير ضغط الواقع ، فحتى الحوار الوطني.. تم تدريجيا تفريغه من مضمونه السياسي .

لقد نجحت هذه الاستراتيجية طويلا في تفريغ حتى الأشياء السياسية بذاتها من السياسة .. وهنا يجب الإشارة إلى أن هذا المنهج كان له الكثير من الإيجابيات في عقود مضت في بيئة عربية كانت مغرقة في السياسة وتسييس كل شئ

فقد حقق هذا النهج الكثير من الإيجابيات ، وجعل المجتمع والفرد ينشغلان بما هو مهم بعيدا عن الصراعات السياسية الفارغة مقارنة بدول كانت مشبعة بالجو السياسي والحديث السياسي ، دون أن تحصل على نتيجة سياسية إيجابية

وواجهت تعثرا في استقرارها ، وكردة فعل محليا أخذنا نفرغ كل شئ من بعده السياسي لعقود طويلة ، لكن النجاح الذي حدث كان يناسب ظروف مجتمعنا في مراحل سابقة وفي الحاضر بدأنا نشهد العديد من الظواهر التي تحتاج إلى تربية سياسية حديثة وقد نشهد في المستقبل ما هو أشد تعقيدا بعد أن تحرر الجيل الجديد من الإعلام التقليدي الموجه .

لقد أسهمت المحافظة على المصطلحات الشرعية في السياسة في الخطاب الديني والإعلامي والرسمي في نزع هذا المحتوى في الوعي العام واستطاعت الدولة أن تتحول من حالة بسيطة إلى دولة مؤسسات وبيروقراطية معقدة كأى دولة عصرية كبيرة دون المرور بحالة التسييس للمجتمع

وبنظرة عقلانية معتدلة فإن هذ التوجه قبل عقود يمكن قبوله والترحيب به خاصة أن هناك جزءا كبيرا من جوانب التنمية يمكن القيام به مع نزع الأبعاد السياسية في الادارة والتعليم والإعلام في ذلك الوقت .

لكن بمرور الوقت وتزايد متطلبات العصرية السياسية في العالم وضرورة إشراك المجتمعات في القرار السياسي ، أصبحت هناك معايير أخري لها أهميتها في نظر العالم حول حرية التعبير وحقوق الإنسان ، والشورى والديمقراطية ، والانتخابات وأحزاب المعارضة وتشكيل الأحزاب ، والدستور وفصل السلطات .. الخ .

وهناك أقطار عربية على الرغم من تخلفها التنموي والسياسي ، إلا أن هناك توجد نقابات وانتخابات وحرية تعبير ومظاهرات أنجزت في المرحلة الليبرالية من وطننا العربي .وتبدو عملية نزع المحتوى السياسي ذات إغراء خاص ، لأنها قادرة على تثبيت الوعي التقليدي بوسائل حديثة شكليا ، ولهذا فالشورى قد نزع البعد السياسي منه منذ تأسيسه وحتى الآن .

هناك جوانب يصعب عمليا نزع المحتوى السياسي منها ، لأنها بطبيعتها سياسية ولا يوجد هامش آخر يمكن إبرازه فيها غير سياسي ، ولهذا ظلت المعارضة غير قابلة لنزع المحتوى السياسي منها

فهي ممارسة نشاط لا معني له من دون السياسة ، بعكس المفاهيم الأخري التي يمكن العبث بمحتوياتها ، حتى عمليات التمثيل الاستعراضي المسموح به في الفضائيات والانترنت كأصوات إصلاحية ظلت بحاجة إلى ممثلين بارعين لا يحترقون سريعا

فيفقدون قيمة الدور الذي يشغلونه مبكرا ، ومقابل ذلك تتشكل فئات أخري مسيسة وذات نزعة معارضة لم تدرك منذ البداية الفكرة وهدف المسموح به .. فتتورط في عملية تسييس مضللة .

ولندع الشعارات التي تشير إليها البعض بأن النقد مسموح وحرية التعبير متاحة ، فمن المؤكد أنه سيكون هناك قدر من حرية التعبير و حرية النقد وهناك مساحة واسعة لتناول الكثير من القضايا لكننا نبحث هنا عن المتاح في النقد السياسي

وتناول المسائل التاريخية والدينية والاجتماعية والاقتصادية ذات الأهمية في تحديد طريقة تفكيرنا في الأمور .. فهل هذا المجال متاح عندما يكون الطرح علميا وعقلانيا وبقدر من الاعتدال ، وبعيدا عن المزايدات والغوغائية والفضائحية ؟

قد لا يدرك البعض ماهية هذه القضايا ، إلا من قبل نخب فكرية ذات اهتمامات تاريخية وسياسية واجتماعية .. فهل يمكن للمثقف أن يقدم رؤية معتدلة وناقدة وبقدر من العمق والشفافية لقضايا مجتمعه وتحديد طبيعة المشكلات وأسبابها بعيدا عن المجاملات والتلاعب الفكري بالموضوعات لمصالح ضيقة مؤقتة ؟

كثيرون في المجتمع وحتى بعض المسؤولين يخلطون بين الخطاب النقدي العلمي الذي يمكن أن يقدمه أى مثقف أو شيخ وداعية أو إعلامي وعمل المعارضة

ومقابل هذا الخلط يأتي خلط بعض المثقفين بين دورهم القندي وعمل المعارضة فالبعض منهم يريد أن يمارس النشاط السياسي بأدواته المعروفة من خلال تنسيق وتجمعات وتصريحات مستفزة لوسائل إعلام خارجية ولقاءات بأى درجة من التنظيم

دون أن يحاسب عليه وفق العرف أو القانون ثم يتباكي على الخطاب والبحث العلمي ، هنا ينتقل الباحث أو المثقف إلى درجة الناشط أو المعارض السياسي حتى لو لم يعلن أنه معارض ويقصد ذلك وأتعجب كثيرا ممن يمارس هذه الأعمال والأنشطة ثم يقول أنا لست معارضا إن أى نشاط سياسي غير مسموح به سينظر إليه المسؤول على أنه تمرد وعصيان ويجب أن يتوقع مواجهة لهذا العمل ..

ولا يهم هنا الحديث عما هو أخلاقي وما هو واجب ، أو الحديث عن حقوق الإنسان، في السياسة عليك أن تفكر بشروط السياسة التي تحكمها موازين أخرى وفق ظروف كل مرحلة ، فلا يوجد احترام لهذه القيم إلا بقدر ما توجد أشياء تفرض حضورها .

ما أهداف إليه هنا التمييز بين النقد الفكري المجرد من أى نشاط سياسي وبين العمل السياسي الذي تقوم به المعارضة ، لأن مشكلة هذه الخلط أنه أضر بالعمل النقدي ولم ينفع المعارضة فتخلس الباحث والمثقف عن دورهما الفكري .

المعارضة لها شروطها العملية وآلياتها الخاصة ، وبمجرد انتقال الشيخ أو المثقف أو الناشط إلى المعارضة فإنه سيتخلي عن دور الباحث وصدقيته والعقاب الذي سيواجهه هو نتيجة الصراع السياسي واختلاف موازين القوى ولا يعنينا ما هو صواب هنا

فليست هناك مشكلة عندما ينتقل الباحث إلى مسار المعارضة فهذا خياره ورؤيته لكنه يجب أن يدرك أنه انتقل إلى مجال آخر .. هذا ما حدث عندما تباكي البعض مثلا على دعاة الصحوة في مراحل سابقة بحجة الدعوة والدين

عندما ينخرط المرء في فعل المعارضة حتى لو كان لا يدري فإن أى خطاب يقدمع سينظر إليه من هذه الزاوية ، وستتأثر صدقية طرحه كما تتأثر صدقية الباحث الرسمي والحكومي لا فرق في الصدقية .

هل يجوز للمعارضة القيام بأعمال غير مسموح بها ، من خلال القيام بتجمعات وتوزيع منشورات .. هذه ممارسة سياسية ، لا يوجد فيها هل يجوز قيميا ، ولا يطرح مثل هذا السؤال في السياسة .. وإنما يسأل عن مدى جدواه عمليا ، وقدرة الآخرين علي تحمل ذلك وتصور العقاب الذي ستواجهه وهو كمن يقول هل يجوز للمعارض أن يعترض على اعتقاله عند ارتكابه هذه المخالفة ؟

إن المعارضة أن تتحمل مسئولية ما تقوم به ومقابل هذه الأسئلة التي تدل على خلل في الوعي هل يمكن للدولة في حالة وجود فوارق كبيرة بينها وبين خصومها من المعارصة أن تتبراع للآخرين بالحركة ضدها ، تتيح لهم فرصة الإضرار بها !؟

ومع هذا الخلط الذي يحدث فهل يمكن للباحثين الجادين أن يقدموا آراءهم بقدر من المسؤولية والصراحة حول قضايا الشأن العام ومسائل سياسية وتاريخية واجتماعية .. ولا يحسب بحثهم على نشاط المعارضة وظروفها ؟

بالتأكيد علينا أن ندرك أن المسؤول كأى إنسان وحتى المثقف نفسه لا يرحب بالنقد ولا يتقبله عندما يكون لغير مصلحته ، مهما تظاهر بالمثالية ومن غير الممكن أن نطالب المسؤول بأخلاقيات مثالية وخاصة أنه يملك القوة ولا يري أى مبرر يجعله يتقبل هذا النقد ويسمح به .

ليس المطلوب أن يتحمل النقد وإنما في كيفية تفهمه للنقد ووضعه في إطاره الصحيح . هناك فكرة يتم اقتراحها أحيانا، وتناسب البيئة المحلية وأعرافها ، يقدمها البعض طالما أن لدي الباحث والمثقف آراء نقدية صادقة ، وليس لديه موقف سياسي معارض أو مشاغبة

فلا داعي لأن يقوم بنشرها ، إنما يتواصل بهذه الأبحاث والآراء النقدية مع المسوؤلين بهذه الأبحاث والآراء ، وأن المسؤولين سيسنقبلون ذلك بصورة أفضل واحترام وتقدير للباحث ، وسيتحقق الهدف الذي ينشده الباحث في نقد الواقع ، وإيصال الحقيقة !

والطريق أن من يقدم هذه النصيحة هو الذي يحذرك من العمل المسيّس .. بأى اتجاه ، لأنه يحضر البعد النفعي المادي مباشرة ، ويتهمش البعد الفكري ، مهما حاول المثقف استحضار المثاليات وادعاءها .

ونظرا إلى أن الباحث إنسان ضعيف في موازنة القوى ، ويتأثر بكثير من المعطيات خاصة المادية ، فإن هذا التواصل سيضعف لديه قوة التحقيق والإدراك لنقد الواقع ومع التواصل المستمر تتحول هذه الملكة تدريجيا لدي بعضم إلى مهارة أخري في كشف الحيل العلمية التي يبرر فيها أخطاء الواقع ، وإيجاد لغة تبرير تسويغية جديدة للحاضر والمستقبل

ومع هذا قد توجد استثناءات محدودة عندما يكون المسؤول على قدر من الوعي والإدراك لأهمية ما يطرح بشفافية والمثقف نفسه مدركا لدوره التاريخي ومهمته الأساسية في الحياة .

ومهما وجد من إيجابيات من التواصل بين المسئول والمثقف ، فإن للنشر ضرورة مستمرة لا علاقة لها بالسياسة الآنية فجزء من دور المثقف التاريخي نقل المعرفة كضرورة للإنسانية وتبادل الخبرات ، بعيدا عن الاحتكار والسرية ثم إن الوطن يستفيد في حاضره ومستقبله من وجود نوافذ للوعي متنوعة .

هل المعارضة ضرورة في مجتمعنا ؟

تبدو مشكلة المعارضة مثل مشكلات الأحزاب والتيارات .. فهي جزء من مكونات النظم السياسية الحديثة حيث تتحسن صورتك السياسية في العالم بالقدر الذي تعيش فيه " المعارضة " علانية داخل المجتمع .. وهي تحدث قدرا من التوازن السياسي في تصحيح أى تجاوزات .. فهل في التجربة السعودية تعتبر المعارضة " ضرورة " أم مشكلاتها أكبر ن منافعها في الحاضر ؟

وما المدى الذي يمكن أن يقبل فيه المسئول حركة معارضة داخلية علانية ؟ يتطلب وجود المعارضة العديد من الخطوات التطويرية السياسية ووجود المعارضة يمثل آخر خطوات التطوير السياسي ويمثل مرحلة النضح السياسي الحديث فالمعارضة تتطلب مقدمات ومجتمعا حديثا في تفكيره ووعيه والتحديث السياسي لكل دولة يأخذ مسارا خاصا بها وفق ظروفها وتوازناتها الداخلية .

يمكن تصنيف درجات المعارضة عادة إلى درجات مختلفة يجب تصورها فهناك معارضة (نقدية) خطابية لا تريد إحداث انقلاب وثورة ، وإنما تبحث عن تطوير وتعديل ونظام أكثر شفافية .. وشورى وديمقراطية .. وهذا يمكن اعتباره تحت مسمي الإصلاح وقد بدأ البعض يتقبله بالفعل بدرجات مختلفة .

وهناك المعارضة (الثورية) ذات المشاريع السياسية الضارة من انفصالية وانقلابين ومحاولة هدم أسس تشكل عليها هذا الوطن ، وهذا في الأغلب مرفوض من المجتمع أما السياسي فهو يواجهه بحزم ويعذره المجتمع في هذه المواجهة ، وجميع دول العالم الحديث ترفض هذا النوع من المعارضة .

إن أهم مظاهر التجربة السعودية الغياب الكامل لأى نشاط سياسي ، فأى تجمع أو لقاء ذي بعد سياسي من أى تيار أو جهة محظور ، وفق أنظمة البلد ولا يهم أن يكون هذا الحظر مبررا أم لا وإنما فهم كيف أثر هذا الوضع التاريخي في المجتمع وطريقة تفكيره لذا تبدو الثقافة السياسية شحيحة جدا فلا يوجد حتى التجنيد الاجباري للشباب !

وإذا كان المهتم غير مطلع على أوضاع سياسية متنوعة في العالم فإنه قد لا يدرك درجة هذا التأثير في مجتمعنا في هذه الأوضاع كيف سيتحرك السعوديون ؟ وما المتاح لهم عمليا ؟ ولهذا شهدنا حالة إغراق في فضاء الانترنت تعبر عن حالة عطش للحكي السياسي

إن عدم وجود أى نوع من أنواع العمل التنظيمي المسموح به أدي إلى ضعف مواهب العديد من الأجيال في وعيهم السياسي ، وضعف قدراتهم العامة ، فلا خطابة مميزة ولا مهارات قيادة لأنه لا توجد فرصة للتجربة عند الكثيرين .

وإزاء هذا الواقع كان التيار الإسلامي من أكثر التيارات حظا في توفر الأعمال التنظيمية المشروعة لهم بسبب طبيعة المجال بعكس التيارات الأخرى، أو حتى المواطن العادي ، وهذا لا يعني أن (العمل السياسي) متاح للتيار الإسلامي وإنما العمل التنظيمي نظرا إلى طبيعة العمل الدعوى الإسلامي ، والأعمال الخيرية ..

وبالتالي توفر لقاءات جماهيرية شعبية من مختلف تكوينات المجتمع ، فتكون بحاجة إلى تنظيم وإدارة أعمال كبيرة فلا يمكن إدارة أعمال حلقات القرآن ، والجمعيات خيرية ، والمراكز الصيفية واللقاء بالعلماء من محاضرات والدعاة إلا بقدر من التنظيم تحت الرؤية الرسمية إلا أن التفاصيل الدقيقة للعمل ستظل تحت صلاحيات لا يمكن للجهات الرسمية السيطرة عليها ، نظرا إلى طبيعة العمل .

هذه الأنشطة لها مبرر ديني فخطبة الجمعة الأسبوعية والتجمع الذي تتيحه والدروس العلمية الأسبوعية على مدار العام ، وخطب الوعظ والإرشاد وأنشطة متنوعة يصعب حظرها عمليا ، وإلا أصبحت الجهات الرسمية في نظر العامة ضد الدعوة إلى الخير والدين ..

ولهذا نشأت خلال أكثر من عقدين كوادر تنظيمية إسلامية قيادية بارزة لديها خبرة في هذه المجالات في الحشد والتنظيم وتوجيه الرأي العام تتفوق أحيانا على وسائل الإعلام الموجهة رسميا .

ويجب التنبيه إلى أن هذه التجمعات والتنظيمات ليست سرية وخاصة وإنما علانية لجميع الناس ، فلا أحد يمنع من حضور الدروس العلمية أو المحاضرات ، أو الندوات ، صغيرا أو كبيرا ، مواطنا أو مقيما حتى الاشتراك في حلق القرآن فهي متاحة لجميع أفراد المجتمع وترحب بأى ملتحق بها حتى لا يتذاكي بعض الكتاب البسطاء كما يحدث أحيانا ويعتقد أنه يكتشف خلايا سرية في البلد !

ولا يوجد ما يمنع التيارات الأخري من المشاركة بهذه الأنشطة الدينية ولذلك تعددت الاتجاهات داخل تيار الصحوة ، وتوزعت سيطرتهم على هذه المحاضن وفق ظروف كل منطقة .

وعلى الرغم من وجود هذه التنظيمات المتعددة للتيار الإسلامي ، إلا أنه يلحظ الضعف الشديد في وعي هذه النخب السياسية والفكرية التي مارست أنشطتها خلال أكثر من عقدين بسبب الانشغال بالهم الدعوى على حساب الهموم الأخري

فتبدو في الغالب وعظية تعيش في الآخرة أكثر من الدنيا فلا تسبب قلقا للسياسي ، ولهذا على الرغم مما يقال عن هذه الأنشطة والتحريض ضدها في بعض الكتابات فالواقع لو أنها سيست كما يصورها خصوم التيار الإسلامي لكانت النتيجة شيئا آخر .

والكثير من هذه النخب التي تدربت مع حراك الصحوة خلال أكثر من عقدين تتميز بالسذاجة والعفوية .. حتى إن بعض هذه الكوادر التي تراجعت عن أنشطتها ..

كانت لا تعرف أنها تمارس عملا منظما له أبعاده المختلفة ، فبعض الذين تمردوا على التيارات الدينية و كتبوا قصصهم فقد أكدت سذاجتهم وبعضهم تسلم أعمالا قيادية دون أن يتصور الإطار الكلي الذي يعمل فيه ولهذا يبدو مضحكا عندما قدموا مذكراتهم وكأنها أسرار كبري وخطيرة ..!

وبالنسبة إلى التيارات الأخري فلديها أيضا مناسباتها الخاصة و من خلال الصالونات الثقافية والجمعيات والأندية الأدبية والصحافة .. لكنها تختلف عن طبيعة النشاطات الإسلامية الأكثر قربا من المجتمع والفئات الشعبية .

بين القوى التقليدية (علماء شيوخ القبائل ، تجار) والمعارضة ربما يقال إن المعارضة ليست ضرورة في منظومة تقليدية محافظة ، فهذه البيئة لديها بدائل أخرى للتصحيح الذاتي والداخلي

فليس لوجودها مبرر سياسي والحالة السعودية تاريخيا لديها بدائلها الخاصة منذ بدايات التأسيس ونجحت في مراحل متعددة في الاستغناء عن المعارضة كضرورة سياسية في المجتمعات العصرية .

بعد أكثر من سبعة عقود فإن هذا المجتمع التقليدي ربما لم يتطور كثيرا في نظر البعض لكن من المؤكد أن موازين القوى تغيرت في تركيبتها فجميع القوى التقليدية السابقة من علماء الدين وشيوخ القبائل والتجار المؤثرة في المجتمع تراجع دورها بصورة كبيرة

وأصبحت موجودة باسمها التقليدي ، لكن ليست لها قوة التأثير والمكانة والقدرات نفسها كما في البدايات حيث تراجعت حاجة السياسي إليها كثيرا فأصبحت قوى شكلية وهامشية أمام قوة واحدة ممثلة بالدولة ومؤسساتها .

في الواقع توجد جميع المظاهر التقليدية السابقة من الناحية الشكلية حيث ما زالت اللقاءات والتواصل ومسمي المناصب والزيارات والتكريم في المناسبات قائمة لكن أى راصد للتحولات المحلية سيجد أن جميع هذه القوى تغيرت حقيقتها على أرض الواقع حيث تراجع دور النخب الاجتماعية التقليدية المهمة في مجتمعنا

وأصبحت قوى شكلية غير مؤثرة مقابل قوة الدولة ومؤسساتها ، مع غياب أسماء من أجيال مؤثرة بحضورها وقيمتها السياسية في مرحلة التأسيس وما بعدها من عائلات تجارية ورموز اجتماعية ورجال قبائل ومشايخ وعلماء دين

جاءت أجيال ليس لها إلا التمثيل والإسم ، أما قدراتها على التأثير النقدي والإصلاح وإحداث قدر من التوازن فشبه معدومة لأن الدولة الحديثة ابتعلت جميع القوى التقليدية ، وأصبحت عمليا لا قيمة لها حتى لم تم الاحتفاظ بصورتها الخارجية تقليديا .

ولهذا فإن إبداء الملاحظة والاعتراض ، وتقديم النصيحة لولي الأمر أمور مرهونة بحالات فردية تخص شؤونهم الخاصة وليست شأنا اجتماعيا عاما للدولة والمجتمع وغالبا ما يتم حل مشكلاتهم الخاصة ولذك جزء من المشكلة التي يواجهها المواطن في الحاضر ، حيث غابت القوى التي تمثله وتوصل رأيه ..

والتجاوب الذي يبديه المسؤول مع مطالب تلك القوى في شؤونها الخاصة مرهون بمدى كرم وأريحية المسؤول وتقديره للأمور وحساباته المرحلية ولا علاقة لها بقوة هذه الأطراف .

نحت إذا أمام أشكال قديمة في السياسة نحافظ على مظاهرها دون أن توجد حقيقة على أرض الواقع ، فأصبحنا لا ننتمي لموازنات الدولة الحديثة سياسيا ، من خلال أحزاب مؤثرة، ولا الدولة التقليدية بسبب غياب القوى التقليدية حقيقة وبقاء مسماها ،

وهذا الخلل جاء نتيجة أن تأثير النفط وتطورات الدولة بإمكانياتها الضخمة ، ألغي عمليا جميع القوى ،ومن الصعب المغالطة حول هذه الحقيقة ..!

وكمتابع وراصد فقد احترت كثيرا في تحليل هذا الواقع والبدائل الممكنة عمليا والمفيدة للمجتمع والدولة مستقبلا فهناك صعوبة في استعادة القوى التقليدية لمركزها لأن قوتها ناشئة من عوامل تاريخية يصعب استحضارها مرة أخرى ، وهناك عدم ارتياح في الدخول إلى عالم السياسة الحديثة وشروطها ومتطلباتها .

لقد تصاغرت القوى الأخرى ، وأصبحت عديمة الفائدة ، بل تحولت إلى طفيلية في الجسم السياسي ومصدر قوة له فقط ، ولم تعد تخدم المجتمع وهذا قد يراه البعض أقوى علامات الاستقرار ما دام أنه لا يوجد أى مخاطر من قوى أخري ، وفي السياسة يبدو القلق من هذا المظهر غير الطبيعي عندما تختل موازين وشروط إدارة السياسة بهذه الصورة .

ومع تزايد حالات التمرد في العقود الأخيرة وظهور معارضات ذات صبغة جديدة ، معارضات فردية ذات بعد ديني أو قبلي وإقليمي ومذهبي إلا أنها ظلت قوى تافهة أمام قدرة الدولة .. وأى تنازل من الدولة ومرونة ينظر إليهما على أنهما مكرمة وحكمة سياسية .. وليس قوة ضغط من هذه القوى .

دعاة الإصلاح في كل مرحلة من أجل إقناع الحكومة بضرورة تسريع خطوات الإصلاح السياسي يلجأون أحيانا إلى لغة التخويف مما يحدث من تطرف وعنف .. وبعضهم يشير إلى قلقه على الاستقرار إذا جمدت الخطوات الإصلاحية . إن الخطر الوحيد يتمثل في عدم وجود أى خطورة مرئية الآن لتجعل الجسم السياسي حيا ، ويصحح ذاته ، فهذه الفوارق الكبيرة في القوى تلغي قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل

وعلى الرغم من أن التجربة السعودية ليست ديكتاتورية ، وليست بحاجة إلى ذلك ما دامت القوى المالية تقوم بالهدف .. فإن السؤال الأهم الذي سيواجه المفكر الذي يتأمل في الشأن العام يظل قائما .. كيف ستعيش الأفكار النقدية الحية في هذه البيئة ؟!

كيف سيظهر النقد المفيد والمؤثر .. مع انعدام فعالية جميع القوى ، واختفاء دور المثقف الحديث ؟ وهل يستطيع المستشارون الخاصون القيام بهذا الدور ، وهم من جميع التخصصات ، ولديهم قدرات على تقديم مختلف الدراسات ، وتتاح لهم جميع المعلومات ؟

وهل يمكن قيامهم بالدور الإيجابي الذي تحدثه الآراء النقدية الأخري والمعارضة ، فيللغي ذلك ضرورة وجودها ؟ من يظن أن هذا ممكن فإن لديه مشكلة في الوعي بأسس سياسية جوهرية ، ودور المصلحة في توجيه الرأي .. وهناك آراء في حياة البشر لا يمكن أن تصدر إلا من تضارب المصالح وتناقضها ، ومن الحكمة أن يتاح لها ذلك !

إن خطورة عدم وجود مخاطر ونقد تبدو أكبر من خطورة وجود النقد. فما الخيارات المتاحة ؟ لقد استطاعت الأنظمة الحديثة استيعاب المعارضة في جسم الدولة حتى أصبحت جزءا من الحكم المتداول ، وفي أقطار أخري ظلت المعارضة موجودة من دون أن تتمكن من الوصول إلى الحكم مطلقا .

إن إلغاء المعارضة وعدم وجودها لا يحققان الهدف المطلوب إلا في زمن مؤقت ، ولهذا فالمعارضة ضرورة تلجأ بعض الدول إلى صنعها ولو شكليا ، من خلال تفريغها من مضمونها ووضع معارضة وهمية لإشعار المجتمع بوجود صوت آخر ..

وهذا الإحساس يقوم بدور تنفيسي مهم .. ويسمح للفكر النقدي أن يبرز حتى إن كان هناك تنسيق سري بين المعارضة والحكومة ، وأحيانا يكون دون تنسيق مباشر ، لكنه تفاهم بين طرفين على أداء اللعبة بهذه الصورة ما دام الجميع يستفيد .

كيف ينظر المجتمع إلى الحكومة

" قبل سنوات .. استضاف التلفزيون أحد المواطنين لسؤاله عن مشاعره حول ربيع ذلك العام ، فكان تعليقه :" أشكر الدولة على هذا الربيع الجميل ". هايل العبدان (جريدة الوطن 16/ 10 / 2007م)

إذا كان مثل هذا الموضوع يمثل حيزا من اهتمامك المبكر منذ أكثر من عقدين ، فإنك ، ستجد الكثير من الملاحظات التي يمكن تسجيلها بالخبرة والملاحظة مثل هذه المتابعة ليست بالضرورة أن تكون معبرة بدقة عن الواقع ، فحتى الاستطلاعات تخفق كثيرا في وصف الواقع ، لكن من يعيش فترات طويلة في مجتمعه

ويهتم بقضايا معينة ويرصدها فسيدرك طبيعة التفكير الاجتماعي حول القضايا التي يهتم بها ، ويتطور لديه الحدس بإدراك ما يحدث من تغيرات في هذه المشاعر .

لا يمكن وصف الولاء ودرجته في بدايان التأسيس وخلال العقود الأولي من خلال معايشة شخصية لكن يمكننا تسجيل هذه المشاعر من خلال الآباء والأمهات وكبار السن الذين عاصرناهم في مناسبات كثيرة وتعبيراتهم التلقائية وماذا تعني لهم الحكومة أو الدولة وولي الأمر والأسرة .

الذين عاصروا ما قبل مرحلة التوحيد وبعدها ، حيث كانت التطورّات التي حدثت كتنمية السبعينيات والرخاء الذي غير حياتهم شكل ذلك بصمة واضحة عليهم في رؤيتهم للدولة وشعورهم القوى بالولاء لها .نحن هنا نشير إلى الشعور العام وهو الذي يمكن تسجيله ويشعر به الطفل والكثير والمتعلم ، ويعبر عنه بتلقائية في البيت والمدرسة والشارع .

إنمعدل التسارع في التنمية وتغير حياة الناس في المجتع ، والتحولات المتتالية خلال العقود الأولي أمور كانت تؤثر في أبناء ذلك الجيل الذين يشعرون بالنعمة الجديدة بعد حياة الفقر الشديد .. وهذه التغيرات ترفع من مستوى الولاء للحكومة لأنهم يعيشون التغير دون حاجة إلى خطب عصماء عن الوطنية ..

وقد اختلط في ذهن بعض أبناء ذلك الجيل أمران : التطور الذي يحدث الصادق ، وتأسس بعدها استقرار طويل ، لأنهم عايشوا التغير في حياتهم نحو الأفضل بعد أربعة عقود ، ولهذا تراجعت المعارضة كثيرا بعد طفرة النفط .

لكن هذا الولاء الشعبي الذي تشكل لم يطور إلى وعي وطني عام ورؤية يمكن نقلهما للأجيال التالية فقد حافظ الخطاب السياسي على أدائه الأبوي فقط أصبحت الحكومة كأنها الأم الحنون .. بعد الجلطة النفطية في مرحلة الثمانينيات كان الجيل الثالث يتشكل وحافظ الخطاب الإعلامي على تقليديته ولم يتكيف مع ظروف المرحلة ونوعية الجيل الجديد وهو الذي عاش طفولة مترفة

مرحلة التنمية بكل عنفوانها الأول في الوقت الذي بدأت فيه الأحوال المعيشية أمام أبناء هذا الجيل ويواجه أصعب المشكلات في تعليمه وتوظيفه .وأنا أسجل هنا بعض انطباعات تلك المرحلة في حينها ، وهو ما لا يظهر في الإعلام والصحافة ، لكن هذه المشاعر كانت تبدو في جلسات الطلاب في الجامعات والأصدقاء والأقارب ..

فقد بدأنا نلمس في هذه المرحلة أن درجة الولاء تضعف وتزيد حدة النقد بمرور الوقت ، وأخذ الشعور الإيجابي نحو الحكومة يقل ، وكثيرا ما يتصادم الشباب مع آبائهم الكبار في هذه الحوارات ..

عندما ينتقد أحدهم الوضع بقوة ، لكن هذا التأثر لم يصل إلى درجة المعارضة الحادة أو الكراهية الشديدة فقد ظل هناك اعتراف بالإيجابيات لكن النقد ضد الفساد أخذ في التزايد بصورة مستمرة ولا يكاد يخلو مجلس منه .

عند الجيل الأول والثاني كان نقد الدولة من أشد الأمور حساسية ولهذا كان النقد سريا ومحصورا جدا بين الخاصة ، وكانت مقولة " للجدران آذان " تعبر عن هذا القلق، وهذه الأجواء جاءت تحت تأثيرات مرحلة الخمسينيات والستينيات ..

ووجود نشاط معارضة انقلابي ما جعل السياسي يتعامل مع هذا النقد بحزم .. لكن في الثمانينيات بدأت هذه الشدة تخف بعد أفول هذه التنظيمات وانتشار التعليم ، وفي هذه المرحلة بدأ الأبناء يعلقون على آبائهم عندما يتحدثون عن آذان الجدران ويسخرون من هذه المقولة !

وقد كان لتخفيف الدولة من شدتها ضد هذه الحوارات النقدية في المجالس ،و عدم حدوث اعتقالات طالما أنها تعبر عن آراء فردية وليست تنظيمات نشطة ، ما يوفر لها فرصة التعرف على الرأي العام حول بعض الأحداث والقضايا .

كان عجز المالية يؤثر في مشروعات التنمية وعدد السكان يزداد وتيضيق الفرص على جيل الشباب فكان النقد للدولة في كثير من المجالس يصبح عادة سواليفية والامتعاض من الأداء الإعلامي والسخرية . وكانت مقولة أحد الوزراء أن كل مواطن لديه مليون ريال مستفزة للمجتمع ، وتم تداولها في المجالس والسخرية منها .

لم يصل هذا النقد إلى حد المعارضة أو الخصومة السلبية فقد ظل هناك شعور بالولاء لدي الأغلبية والإحساس بأهمية الاستقرار ولهذا كان خلال هذه الأحاديث النقدية الحادة عن الفساد كثيرا ما تجد أصواتا في هذه المجالس تستدرك في كلامها فتقول لك " يا بن الحلال .. الله يخليهم لنا ، وإلا كان يجيك منه أسوأ منهم .. وقد يذكر أسماء قبائل ..!"

وبدأ يظهر الامتعاض الاجتماعي مع ارتفاع الرسوم وأسعار البنزين ، ولا يكاد يخلو مجلس من ذكر لهذا الموضوع في التسعينيات ، ويذكر البعض أنه في إحدي المباريات الختامية ..صرخ الجمهور بعبارات " بنزين .. بنزين "!

ومع بداية التسعينيات كان جزءا من الغضب الشعبي يختلط بموقف أيديولوجي ديني ، فتحولت نظرة البعض مع موجة خطاب الصحوة وكأن الدولة ضد التيار الديني مع تكرار حوادث إيقاف الدعاة والخطباء ، صدام السياسي مع الصحوة أحدث حالات ارتباك اجتماعي في تقييم ما يحدث ، وقد اهتزت حتى قيمة العلماء الرسميين .

بعد تراجع تأثير أزمة الصحوة في منتصف التسعينيات ، استمرت المشكلة الاقتصادية قائمة .. وفي عام 1999 م كان العجز المالي في أسوأ حالاته مع النزول الشديد لأسعار النفط والدعوة للترشيد

ثم جاء ارتفاع النفط الكبير بعد عا 2003 م وقد استمر الامتعاض الشعبي وأظهرت الإنترنت ، ورسائل الجوال بعض هذا المظاهر ، حيث توفرت وسائل جديدة لقراءة الرأي العام .

وقد يتحول هذا السخط إلى رأي عام ضاغط عندما تنتقد بعض القرارات عبر رسائل شعبية بالـ (sms) فتبدو كمظاهرة احتجاجية على الطريقة السعودية وتنشر على نطاق واسع بين أفراد المجتمع لتشكل رأيا عاما يعجز الإعلام عن مواجهته

كما حدث عندما صدر قرار زيادة " بدل علاء المعيشة " 5 بالمائة في 19 محرم 1429 هـ الذي جاء بعد أشهر عدة من الإشاعات بالزيادة المرتقبة لأنه حدثت زيادات في أقطار عربية وخليجية لمواجهة التضخم ، لكن المفاجأة للمراقب والمسئول أن المجتمع استقبل هذه الزيادة بعد ساعات معدودة بسخط شديد عبرت عنه رسائل الجوال

والنكت المتبادلة والعبارات الساخرة ، ما اضطر معه السؤول ، وزير المالية ، لمحاولة التعديل في تصريحاته حول الموضوع وتغيير كلامه ، كمحاولة للتخفيف من حدة هذا السخط

ومن هذه النكت الساخرة التي تم تبادلها:

" أزمات مرت بالمجتمع السعودي:سنة الجراد .. سنة الجوع .. سنة الجدري .. سنة 8 ألمانيا .. سنة 5 بالمائة "..

وانتقلت هذه الرسائل والتعليقات الساخرة إلى منتديات الإنترنت .. وقد حاولت المعرفات الرسمية الدفاع ، لكن الرأي العام كان باتجاه ساخط على القرار . هذه التقنية سهلت للمسؤول معرفة رأي المجتمع .. ووفرت للمجتمع وسائل للتعبير عن رأيه مباشرة بين معارفه وأصدقائه ، ومهما كانت ردود الفعل غاضبة

فإنه لا يوجد ما هو مخيف سياسيا على الاستقرار ، لأن كثيرا من هذا الغضب لا يتحول إلى فعل ، وعمل تنظيمي حتى في أمور الأفراد الخاصة بهم ، كمن تعثرت أموالهم في مساهمات .. وسوق الأسهم .

كيف يتواصل المجتمع مع المسؤول

أشرت سابقا إلى بقاء كثير من أسس الجسم التقليدي السياسي للدولة حتى مع وجود مؤسسات ووزارات .. وتطورات تنموية فقد ظلت العلاقة مع صانع القرار والقريبين منه محكومة بالتقاليد منذ بداية التأسيس وحتى الآن فمع أن المركزية القديمة قد تغيرت في تسيير أمور المجتمع مع تطور مؤسسات الدولة حافظ التواصل بين الشعب والقيادة على شكله التقليدي كـ (بروتوكول)

ولحل المشكلات التي تحتاج إلى تدخلات خاصة في القضايا المهمة والطارئة ، وبالفعل ينجز الكثير من المهام هذه اللقاءات ، وتعرض نشرات الأخبار بعض الصور من هذه اللقاءات فتسهم في فك بعض المشكلات والتعرف على بعض هموم المواطن ، وبعض القضايا يحمل تناقضات معقدة يصعب على المسئول حلها بسرعة فتأخذ وقتا طويلا .

هذا المظهر من التواصل يطلق عليه في الإعلام سياسة الباب المفتوح ، ومن المؤكد أن هذا التقليد كان ناجحا في البدايات بسبب بساطة الحياة وقلة السكان لكن مع كثرة المشكلات وتعقيدات الأمور

أصبحت هذه أيضا محاطة ببيروقراطية معقدة وتحتاج إلى محسوبيات خاصة للوصول إلى المسؤول ، ويرى (محمد بن صنيتان) أن

" كثيرا من المطالب تقضي عن طريق العرائض من خلال المجالس المفتوحة؛وهي غير المجالس التي يروج لها الإعلام الرسمي في الوقت الحاضر إذ أن مجالس أعضاء المجلس العائلي الحاكم في الوقت الماضي تمكن صاحب الحاجة من عرض مشكلته للمسؤول وجها لوجه وفي مجلس أشبه بمنتدي عشائري أو مجلس عمدة حارة
بعكس المجالس الرسمية اليوم التي هي للدعاية الإعلامية والاستعراضية السياسية ، ثم تذهب العرائض إلى المخانق البيروقراطية من خلال اللجان والمستشارين .." (النخب السعودية ص 161 -162) .

سيرة المعارضة

" لماذا أعيش معدما ؟ هناك ليبراليون أثرياء واعتقلوا مثلي .. وهاهم يملكون أضخم الشركات " سعد الدوسري (الرياض نوفمبر 1990 ، ص 54)

تاريخ المعارضة السعودية بكل تحولاّته وتطوراته وخفاياه وعلانيته لم يكتب بصورة منهجية ولم يقدم من خلال قراءات سياسية رصينة هادئة ، ولم يرصد بروح صحافية مهنية ، بوعي وخبرة في ما وراء كل معلومة متاحة .

ما توفر من معلومات تاريخية ، وما يوجد من كتابات متناثرة في الكثير من المؤلفات والدراسات والمقالات الأجنبية ينقصه الشئ الكثير لإيجاد تصورات عامة ومنظمة للأجيال القادمة عن سيرة هذا الخطاب وتاريخه.

والأكثر إشكالا أن هناك أجيالا انخرطت في المعارضة في بعض مراحل عمراها لم تتبرع بكتابة مذكرات مطولة عن تفاصيل مهمة حول غير مرحلة وما قدمته بعض الكتابات الروائية قد يضلل أكثر مما ينير الوعي بهذا التاريخ

كما نري في الثمانينيات والتسعينيات أن هناك حساسية وصعوبة في كتابة هذه التجارب الشخصية أو حتى الإشارة إليها .. هذه المحاذير اختفي الكثير منها مع تطورات الانفتاح الإعلامي .

لقد فقدت الكثير من الأسرار والمعلومات المثير لسير شخصيات مهمة وهو جزء من تاريخنا المحلي .. وأصبح هذا التاريخ مجرد معلومات ولقطات متناثرة هنا وهناك ، تأتي في حوارات صحافية أو تلفزيونية مكررة وبعضها كتابات من باحثين أجانب تنقصهم الخبرة في طبيعة الأوضاع الداخلية

الكتابة عن هذا التاريخ هو مشروع ثقافي مهم لرؤية تحولاتنا الفكرية لأنه يمثل تشكلاتنا السياسية والثقافية ، وليس الهدف البحث عما هو مثير أو مشاغبة سياسية على الرغم من أنه سيكون مزعجا للبعض الذين لم يعتادوا على تناول مثل هذه القضايا كجزء من الثقافة والفكر السياسي .

منذ مرحلة مبكرة كنت متابعا لأدبيات خطاب المعارضة وما زالت على الرغم من عدم وجود أى نزعة ثورية ذاتية ، أو شغف في المعارضة في توجهي الشخصي لكنها الرغبة في الفهم والوعي بتحوّلاتنا السياسية والفكرية

وقد كنا نعاني كثيرا في الاطلاع على مقولات وآراء هذا الفكر قبل عصر الفضائيات والانترنت حيث تحتاج إلى فترات طويلة لمتابعة الآراء المخالفة للرؤية الرسمية وتفسيراتها لأى حدث ، وأصبحت هذه المشكلة جزءا من الماضي بعد مرحلة الإنترنت .

هذه المتابعة المبكرة أتاحت لى الوعي بهذا الخطاب وأدبياته عند كثير من الأحداث والقضايا في حينها ، وليست أحكاما متأخرة عشوائية وردة فعل انطباعية متسرعة .كثير من كتب المعارضة في الخارج عند غير مرحلة عن السعودية ، تبدو مشكلتها إما أن تكون متعاطفة مع المعارضة جدا ، أو من المعارضة نفسها مما يفقدها صدقية مهمة ..

فيعتمد بعض المتعاطفين على معلومات المعارضة ويسوقها ، أحيانا يكون هناك كتاب كبار من الخارج كتبوا عن السعودية لكن تأثرت معلوماتهم بالمصادر الرسمية واللقاءات مع المسؤولين أو مصادر المعارضة وبياناتها دون أن يملكوا القدرة على الفرز والتدقيق في هذه التحليلات والآراء وخاصة للمؤلفات التي صدرت في التسعينيات عن المعارضة الإسلامية .

إن عدم وجود تنظيمات متماسكة ومستمرة لأزمنة طويلة أدي إلى ضبابية تصور المعارضة ، وأنها مجرد نزعات شخصية عشوائية ومع أن المعارضة لم تبلغ في أى مرحلة من مراحلها خطورة مؤثرة باستثناء الصدام مع تيار الصحوة .. وانتشاره الشعبي الذي أربك المسؤولين في حينها إلا أنها لم تنشأ كمعارضة إلا كسلوك طارئ ، فتم احتواؤها .

فالمعارضة ذات النزعة المذهبية كالمعارضة الشيعية أو المعارضة التي لها بعد إقليمي في الحجاز مثلا هذا النوع يعد الأكثر تماسكا ، وفيه تراكم أجيال حيث لم تنقطع في أى مرحلة على الرغم من سريتها الشديدة في بعض المراحل ، ويختفي ظهورها أحيانا لكنها تبرز في مراحل أخرى ، وهذا ملف طويل

وهو على العكس من المعارضات الأيديولوجية مثل القومية واليسارية والإسلامية ، حيث تعرضت المعارضات الأيديولوجية لتحولات جوهرية و انقطاعات مبكرة بين الأجيال ، وتطورات مختلفة في كل مرحلة .

كثير من المراجع التي تشير إلى بعض تاريخ المعارضة ، لا يوجد بها سوى مجرد إعلان عن أسماء التنظيمات ، وتوجهاتها العامة ومطالبها دون تفاصيل إنسانية كثيرة حولها

وتفاصيل الأفكار التي يحملونها وغياب لقصص شخصية ستبدو مفيدة ومحركة لوعينا بالفكر المحلي وتحولاته ، وستكشف لنا خارطة محددة المعالم بذلك الماضي ، خاصة في الخمسينيات والستينيات التي تشكلت بعدها معالم الدولة .

خلال بدايات التأسيس الأولي كانت هناك ممانعة ومعارضة مناطقية مفهومة بعد توحيد البلاد وفي البدايات فقط ، وأشهرها " ثورة بن رفادة " حيث كانت جماعة من الحجازيين قد ألفت حزبا سياسيا يسمي "حزب الأحرار الحجازيين" ..

وجعلت رياسته للسيد (طاهر الدباغ) وأقام فيها فرعا للحزب وهناك اجتمع بـ (حامد بن رفادة) شيخ قبيلة بلي سابقا ، اتفق معه على القيام بثورة عام 1351 هـ وذكر (عبد الله بن عبد الجبار) أسماء عديدة ممن شاركوا فيها ومنهم حسن عواد (ص 112 -113).

انتهت تقريبا مثل هذه المعارضات المرتبطة بظروف التوحيد في ذلك الزمن ، وحتى معركة السبلة التي كتب عنها الكثير ، ولا يوجد حاجة لتكرار الكتابة عنها هنا .. ما يعنينا أن جميع أشكال تلك المعارضات وأفكارها قد انقطعت وتلاشت فالرؤى الانفصالية قد تجاوزها الزمن ، ولم يعد بها ما هو مغر للدعوة لها مجددا . أما الرؤى الأيديولوجية فما زالت تظهر بين مرحلة وأخري .

بعد ذلك جاءت المرحلة الثانية في الخمسينيات ، وكانت الأهم ، حيث غلب عليها المطالب التحديثية وفق لغة العصر والعالم في ذلك اليوم كالدعوة للدستور والانتخابات والحريات، والتطوير الاقتصادي والتنموي وإلغاء الرق و تحديث التعليم ،وتعليم البنات وغيرها .

وقد استعرض (ريتشارد هرير دكمجيان) في كتابه (الأصولية في العالم العربي ص 205).. " أهم التنظيمات التي تشكلت في ذلك الوقت ، والتي تتكون من تنظيمات يسارية وقومية ذات اتجاه علماني :

  • اتحاد شعب الجزيرة العربية عام 1961 م.
  • الجبهة القومية لتحريرالجزيرة العربية – شيوعية
  • حزب البعث – اشتراكي عربي 1959م.
  • الاتحاد الديمقراطي الشعبي – ماركسي مؤيد للفلسطنيين .
  • جبهة التحرير العربية – قومية عربية .
  • حزب العمل الاشتراكي العربي – قومي اشتراكي .

أما النوع الثاني فيتكون من تنظيمات إسلامية منها :

  • منظمة الثورة الإسلامية بالجزيرة العربية – شيعية .
  • حزب تحرير الجزيرة – شيعي .
  • جمعية الدعوة – سنية .

أصبحت المجموعات اليسارية والقومية العلمانية على الرغم من كثرتها عديمة التأثير تقريبا في العقد الأخير (أى الثمانينيات).. ولقد نجحت إلى حد كبير السياسة التي اعتمدت على احتوائهم عبر المكافآت المالية التي تم التوسع في استخدامها مع المناوئين المبعدين ..واستعرض (أنور عبد الله) في كتابه العلماء والعرش (ص 8- 9) القوى والتنظيمات السياسية حسب التسلسل الزمني .

* منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي 1959م
  • منظمة الثورة الوطنية – حركة القوميين العرب 1961م.
  • اتحاد شعب الجزيرة العربية 1961م .
  • الحزب الديمقراطي الشعبي 1970م
  • حزب العمل الاشتراكي 1975م
  • منظمة الثورة الإسلامية 1978م.

وقد شجعت الأحوال المتوترة في تلك المرحلة على تشكيل ما عرف بـ " الأمراء الأحرار " وحظيت الأفكار بتأييد المثقفين والتجار والطبقة الوسطي ، وكانت أهم المطالب في العام 1958م.

(أ‌) تحديد دستور للبلاد .

(ب) إحياء مجلس الشورى .

(ج‌) تطوير الشورى داخل الأسرة .. ووضع نظام للمقاطعات .. ووضع خطط تنموية .. إلخ (الزيدي ، التيارات الفكرية ص 120) .

وفي تلك المرحلة كان هناك تنظيم " نجد الفتاة " وهو تجمع من المثقفين السعوديين في خارج البلاد ظهر في الستينيات ، وكان هدفه تنفيذ الإصلاحات الدستورية والمطالبة بدور أكبر للشعب في إدارة الدولة وفرض الرقابة على الأموال العامة والحد من الفساد ..

ومن أبرز أعضاء هذا التنظيم : عبد الله الطريقي ، وعبد الله بن معمر ، فيصل الحجيلان ، ناصر المنقور ، وناصر السعيد و الزعيم الفعلي لهذه الجماعة هو محمد أبا الخيل أما جبهة التحرير العربية السعودية :

فهي تجمع من المثقفين والأاديميين وضباط الجيش في سلاح القوة الجوية في المنطقة الشرقية والحجاز جمعتهم الرغبة في إقامة الحكم على أساس الشورى وإلغاء الملكية وإعلان النظام الجمهور (الزيدي ، التيارات الفكرية ، ص 129) .انتقل النشاط القومي إلى السعودية منذ أوائل الخمسينيات ، عززه مجئ الوافدين للعمل في ظل الثروة النفطية (حكيم الثورة ، قصة الدكتور جورج حبش ، ص 63)

وكذلك عودة الطلاب السعوديين الدارسين في الجامعات العربية الذين تأثروا بأجواء الحركة القومية ، ولا سيما حركة القوميين العرب التي شكلت لها فرعا في السعودية

وشاركت في الأحداث السياسية المحلية والعربية من خلال الاضطرابات العمالية ، وتنظيم المظاهرات ، توزيع المنشورات والبيانات وأيدت القضايا العربية كالقضية الفلسطينية ، ووقفت إلى جانب جمال عبد الناصر في مواجهة الغرب (الزيدي ، التيارات الفكرية ، ص 183) .

ثم ضعفت هذه الحركة مع أحداث أيلول الأسود 1970 م في الأردن، وحدثت هناك انقسامات متعددة ، بالإضافة إلى الملاحقة والمطاردة من السلطة .

أما حزب البعث العربي الاشتراكي فقد

" مر الحزب بمرحلتين في مسيرة نشأته وتكوينه في العربية السعودية تمثلت المرحلة حتى نهاية الخمسينيات ، ثم بدأت المرحلة الثانية بالالتزام الفكري والتنظيمي معا .." (الزيدي، التيارات الفكرية ، ص 186) نقلا عن (على غنام) في محاضرة عن نشأة الحزب ومساره في الجزيرة العربية .

وفي عام 1961 م صدرت أول جريدة سرية للحزب باسم صوت الجماهير ووزعت بشكل محدود ، تم إصدار عدد من البيانات السياسية والنشرات الداخلية

وفي عام 1962 م أسس الطلاب البعثيون، وبعض القوى الوطنية منظمة طلابية ثورية باسم "الطليعة الطلابية الثورية " وأصدرت منشورها الأول في تشرين الأول (أكتوبر) 1962 م ووزعته في بعض المدن السعودية ..

وأصدر تنظيم عرف بـ " شباب الطليعة العربية السعودية " وهو تجمع من البعثيين والناصريين وكان في آذار (مارس) 1964 م في الرياض ، حيث أصدروا بيانا عن الأوضاع التي تعيشها البلاد وقدموا عريضة (الزيدي ، التيارات الفكرية ، ص 188)

وبعد نكسة 1967م أصاب تنظيم البعث في السعودية بشكل خاص شئ من الجمود والضعف وتوقف الدعم الناصري للقوى القومية ماديا ومعنويا لكن قيام بعث العراق في 1968م بثورة تموز (يوليو) وتسلمه السلطة أديا إلى عودة نشاط الحزب في السعودية ، إذ تلقي الدعم والتأييد من العراق

وخصص برنامج من إذاعة بغداد كان موجها إلى أبناء الجزيرة العربية ، وأصدر تنظيم البعث مجلة سياسية وفكرية خملت اسم صوت الطليعة ، (مرجع سابق ، ص 189)

واستمرت في الصدور حتى مطلع الثمانينيات ، وتحول أعضاؤها للإقامة في العراق بشكل دائم .. وفي الثمانينيات بدأ عزوف الناس عن النشاط السياسي، وانشغلوا بالتطور الاقتصادي والتنمية والرفاه .

أما التيار الناصري .. فقد استأثرت شخصية جمال عبد الناصر بمكانة بارزة في أوساط الناس بالسعودية وعند المثقفين خاصة ، وكذلك عند ضباط الجيش والعمال

تصاعد الوعي بالفكر الناصري في النصف الثاني من الخمسينيات ، وكن تأثير إذاعة صوت العرب و الصحف المحلية ذات التوجه الوطني والقومي مثل الفجر الجديد ، وأخبار الظهران كبيرا ..

وفي عام 1955 م تم استدعاء جميع الطلاب من الخارج وصدر قرار الحرمان من الجنسية لكل من يتخلف عن العودة (ص 196 -197) وظهرت تنظيمات قومية عدة تأثرت بالناصرية من أبرزها " اتحاد شعب شبه الجزيرة " بزعامة ناصر السعيد ، وهو بدأ مرحلة الكفاح المسلح 1967م نفذ خلالها عمليات تفجير .

في عام 1975 م غيرت جبهة التحرير الوطني اسمها ليصبح " الحزب الشيوعي السعودي العربي " وهو حزب محدود العضوية لا يزيد على ثلاثين ومن دون فاعلية تذكر وأصبح الجناح البعثي السعودي الموالي للعراق أكثر فعالية وتأثيرا في أوساط الطلاب الدارسين في الخارج ، وأصدرت جريدة صوت الطليعة عام 1978م.

أما الحزب الديمقراطي الشعبي الذي تأسس عام 1970 فكان أكثر جماعات المعارضة السعودية راديكالية ، ودافع الحزب عن السياسة الاقتصادية الماركسية والنضال المسلح (أيمن الياسيني ، الإسلام والدولة)

لا توجد في المراجع أى تفاصيل مهمة داخل كل حزب ، لا من ناحية العدد ولا الطريقة العملية التي بدأت بها التنظيمات والمصاعب ، والإنفاق ولا مستوى القوة والحضور والتأثير

ولا الأسماء باستثناء أسماء مشهورة جدا ولا شرح لآلية عملها ، ثم إن المصادر محدودة وتدور حول بعضها فلم توجد مذكرات خاصة صادرة من كل تنظيم .. لذا لا نعرف نوعية خطاب هذه التنظيمات وأفكارها .

وحتى الأعمال الروائية التي حاولت إعطاء إشارات عن هذه التنظيمات ، فقد ظلت محدودة ومجرد بهارات للعمل التنظيمي دون تفصيل لخفايا تلك المرحلة فتأتي في سياق الحوارات عن هذه الأعمال

وبدأت تظهر منذ التسعينيات ، وكان أولها لـ (سعد الدوسري) لروايته المخطوطة التي لم تنشر ، فقد تضمنت إشارات لهذا النزعة عند بعض شخصيات الرواية :

(لا تكن مثاليا يا سليمان .. لقد تخرجنا مثلك من أمريكا ، وعند عودتنا كنا نحمل آمالا وأحلاما ، بأننا سنغير كل شئ .. شيئا فشيئا تغيرنا نحن .. وصارت أمريكا ذكري من ذكريات الشباب ".." لماذا أعيش معدما ؟ هناك ليبراليون أثرياء ، واعتقلوا مثلي ، وهاهم يملكون أضخم الشركات " (الرياض نوفمبر 1990 ، ص 54 ، 1616) .

أما (تركي الحمد) فقد كان أكثر تفصيلا من غيره:

" هذه مجموعة من المنشورات وزعت اليوم في المدرسة إنها تدعو إلى معارضة الدولة ، وهي موقعة باسم "الجبهة الديمقراطية "

وصمت المدير لبرهة وهو يراقب هشام لمعرفة أثر الخبر عليه ، فلما وجده صامتا وأن الأمر لا يعنيه أضاف قائلا :" إن أسلوبها يشابه الأسلوب الذي تكتب به مقالاتك الحائطية ..يبدو أن لك يدا في الموضوع .."( العدامة ، ص 16 ) .. "

لم يثر اكتشاف الطلبة للمنشورات أى رد فعل غير عادي ، فقد كان وجود المنشورات شيئا عاديا تلك الأيام ، مثل وجود التنظيمات الكثيرة في كل مكان .. فهو نفسه وقبل أن ينظم للحزب قرأ منشورات "الجبهة التحرر الوطني" و"اتحاد شعب الجزيرة"، "الجبهة الديمقراطية" (ص 213).

المعارضة الإسلامية

تأخر كثيرا نشوء معارضة إسلامية سنية حزبية بالمعني السياسي وفق العمل السياسي الحديث وشعاراته مقارنة بالمعارضة العلمانية القومية المبكرة وهذا التأخر يبدو مبررا ، فالدولة شعارها الإسلام ، وقامت على أساس ديني ودعوة إصلاحية سلفية ، ولعلماء الدين مكانة بارزة في كل مرحلة .

مع بداية تشكل الوعي الإسلامي الحديث محليا من خلال وجود فكر حركات إسلامية كبري معاصرة ، جماعات متعددة في مقدمتها حركة الإخوان المسلمون، وجماعة التبليغ ..

بالتأكيد ستكون هذه الحركات مناهضة وضد المعارضات العلمانية السائدة في ذلك الوقت من قومية وشيوعية وغيرها .. وستكون مع الدولة في حربها لهم ، فقد كان جزءا من مطالب هذه المعارضات تهميش بعض المظاهر الإسلامية في البلد ،كوجود الهيئة ، وتحرير المرأة .

وظهور حركات تمرد مختلفة لها ظروفها كما في " معركة السبلة " وحادثة الحرم ، والهجوم على التلفزيون التي تعتبر في سياق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد

ولست معارضات بالصورة الحديثة للعمل السياسي ، بقدر ما هو تمرد ، فحركة الإخوان السلفية المحلية التي نشأت في 1910م ووصلت ذروتها في العشرينات وانتهت مع مطلع الثلاثينيات

فقد تعددت الدراسات والكتابات عنها والقراءة لها ومن أهمها الإخوان السعوديون في عقدين 1910 م 1930 م لجون س حبيب وهي من أبرز الدراسات التي تعاملت مع المسألة بقدر معقول من الموضوعية

واستعرضت أصول حركة الإخوان وخصائصها وبداية المشاكل مع الإخوان وزعمائها وتمردهم ، فالواقع أنها حالة تمرد انقطعت لها ظروفها وسياقها التاريخي خلال مراحل التأسيس ولا يمكن وضعها في إطار المعارضة المعاصرة بعد تأسيس الدولة بأكثر من نصف قرن .

وستظل بعض الإشكاليات الفرعية قائمة ولها امتدادت ولو محددة في التداخل بين الرؤية الدينية والبعد القبلي ، هذا الإمتداد قد يكون حقيقيا أو مبالغا فيه كما في " حادثة الحرم " فالبعض قرأها على أنها امتداد لإخوان السبلة على الرغم من وجود فوراق كبيرة .

فمع أن حادثة الحرم ما زالت قريبة ، مع بداية القرن الهجري ، وعاصرها أبناء هذا الجيل بوعيهم ، وجاءت في مرحلة حيوية من التنمية إلا أنها ظلت معزولة في إطارها الخاص جدا ، نتيجة أسلوبها ومنهجها التغيري الشاذ .

لقد انقطعت فكريا قبل أن تبدأ حتى في التيار الديني السائد وتطوراتها المعزولة في السبعينيات يشير إلى هامشيتها مبكرا وانتهت مع نهاية الصدام ولا شك أن حكاية "المهدي" التي دعت إليه الحركة كانت عاملا مهما في تدمير سمعتها .

ومع أن البعض من الكتاب العرب والغربيين حاولوا المبالغة في تصوير هذه الحركة وجعلها علامات على تحديات سياسية صعبة إلا أنها مبالغات أكد الواقع خطأها حيث اختلطت الأمنيات في التحليل السياسي بخطاب المعارضة ما أفقدهم القراءة الصحيحة للحدث ووضعه في إطاره المعقول ولهذا فقدت الكثير من هذه القراءات أهميتها بعد الحدث بسنوات .

ومع أن الصحوة أخذت في النمو والانتشار بقوة بعد هذه الحادثة بسنوات فقد ظلت هذه الحادثة معزلة ، ولم يكن لها أى بعد إلهامي ، وهناك انقطاع حقيقية بين فكر الصحوة وحركة جهيمان وهو انقطاع يصعب التشكيك فيه وليس تكتيكيا ، باستثناء فئات ظلت معزولة من بقايا هذا الفكر فلم يكن اتباع الصحوة وجمهورها معجبين به .

والذين حافظوا على بعض إلهام الفكر الجهيماني فئات محدودة ، ولم ينخرطوا في أجواء الصحوة والحركة الإسلامية الجديدة في الساحة السعودية لأن لديهم تحفظات كثيرة نشأ بعضها من الموقف من الدولة والحكومة والصحوة متصالحة مع الحكومة في بداياتها .

هذه الفئة شكل بعضهم نواة للفكر التكفيري في ما بعد ولم يعترف بعد الذين كان لهم اتصال بهذا الفكر في تقديم الكثير من الحقائق حولها مع أحداث الإرهاب وحتى مع دخول الملف الأفغاني في فكر الصحوة ، وما أتاحه من ثقافة عسكرية فقد ظلت أفكار هذه الحركة معزولة .

لقد أغلق ملف حادثة الحرم سريعا وتمت محاولة تجاوزه ونسيانه وأصبح تناوله في الإعلام والصحافة محظورا في ما بعد خلال الثمانينيات والتسعينيات لكن حادثة الحرم كانت من أهم الأسباب التي غيرت مسار الرؤية التنموية للسياسة السعودية والاتجاه نحو المحافظة ما عزز ظهور ونمو الصحوة الإسلامية السعودية في نظر المراقبين .

كان الحادث يمثل إشكالا خاصا في الموقف من هذه المعارضة الجديدة والخروج المسلح العنيف ، بعد أن اعتاد السياسي على أن تكون المعارضات علمانية منذ الخمسينيات لكن هذه المرة جاءت معارضة تزايد على إسلامية النظام ما أحدث ارتباكا في خطاب المواجهة لهذا حدث تجاوب في ما بعد وتراجع عن خطوات الانفتاح الإعلامي حتى لا تثار مشاعر المحافظين .

وحتى مع بدء تشكل نواة فكر معارضة من تيار الصحوة أثناء أزمة الخليج فإن فكر حركة جهيمان لم يحضر بل إن الموقف النقدي منه استمر حتى عند معارضي الصحوة الجديدة في التسعينيات ، ولم تسوق رسائل جهيمان داخل الفكر الصحوى المحلي وتنتشر ، ولم يقرأها وإنما اطلع عليها من لديه اهتمامات بحثية ..

معارضة الصحوة

نمو الصحوة الكبير في مطلع الثمانينيات جاء بتأثير من دعم الحكومة للأنشطة الدينية ، حيث نشأت الصحوة برعاية أبوية من الحكومة والعلماء الرسميين ..

ولهذا فإن نشوء معارضة من هذا التيار يبدو غير مفهوم .. إلا أن متغيرات كثيرة صنعت مناخا لنشوء معارضة إسلامية من تيار الصحوة ، لتكون أهم تجربة معارضة حديثة بعد انقطاع طويل جدا من المعارضات القومية والاشتراكية .. منذ السبعينيات وما قبلها ..

وهذا يعني أن أبناء هذا الجيل في التسعينيات الماضية لم يعاصروا مراحل المعارضة السابقة وليس لديهم أى وعي أو تأثر بها سلبا أو إيجابا ومن الواضح للمتابع أن المعارضة الإسلامية نشأت بصورة الفعل وردة الفعل الشخصي أكثر منها وعيا سياسيا منظما منذ البداية كحركة وليس كأفراد ، إلى أن تطورت إلى فعل معارضة

حيث لم تكن هناك نية مسبقة ومنظمة مبكرا لفعل المعارضة ، ولهذا فشلت حركة المعارضة في المحافظة على جماهيريتها من تيار الصحوة في مراحل تالية .

ومن المهم أن نستحضرها هنا بعض المسائل حول إشكالية معارضة الصحوة:

إن فكر الصحوة الذي تشكل في الثمانينيات لم يكن يحمل بعدا سياسيا أو رؤية واضحة المعالم في القضايا السياسية ، ولهذا لم تظهر أى روح معارضة في خطابه في تلك المرحلة وحتى ما سمي بالتيار السروري في بعد ، شكل أقوى وأهم أطياف حركة الصحوة لم تبرز لديه هذه النزعة بعكس ما يحاول تضخيمه البعض ..
ولوصف أكثر دقة يمكن القول إنه لم تكن توجد عند هذا التيار نزعة تعزيز الولاء للحكومة ، فبدأت هذه المسألة كأنها مهمشة في خطابهم لكن من المؤكد بأنه لم يوجد تحريض سري ضدها في البدايات ، أو أى طرح في محاضن الصحوة التربوية ضد السياسي
وما يتم تناوله من منكرات وأخطاء للدولة يتهمون فيه العلمانيين ، مؤامراتهم في داخل الحكومة ، بمعني أنها البطانة السيئة وفق المنظور السلفي التقليدي .
وهذا يعزل الموقف السياسي المعارض ، وهذا لا يمنع من وجود نزعات معارضة ذاتية داخلية عند بعض رموزهم وما يعنينا هو النشاط الفكري والخطاب الذي وجد في تلك المرحلة .
ظهرت ملامح الموقف السياسي مع طرح مشكلة الدعاء لولي الأمر على الطريقة السلفية بشكل متأخر ، وأصبح عدم الاستطراد في الدعاء ونوعية صياغته دلالة على موقف سياسي عند المترصدين ضد بعض رموز الصحوة بعد أن كان ينظر للموضوع بصورة عفوية
حتى بالغ البعض في دعاء القنوت لولي الأمر ، كي لا يتعرض لهذه التهمة ، حتى الذين يتحفظون في دعائهم لم يكن يعني معارضة سياسية بقدر ما أن الداعية لا يرغب في أن يحسب بأنه حكومي ليعزز درجة استقلاليته .
من الأمور التي لم تحسم فكريا وظلت ضبابية عند النخب وأتباعهم من تيار الصحوة والسلفيين مسائل شائكة في الحكم الشرعي على الأنظمة العربية التي تري أنها لا تحكم بما أنزل الله ، وقضية تحكيم القوانين
ومع أنها مسألة فقهية جدلية لا علاقة لها بالحركة ونشاطها الوعظي ، لكنها ظلت مشكلة فكرية عند بعض شرائحها تظهر وتختفي حسب الحالة وهم يعتمدون على أقوال من رموز سلفية رسمية .
لقد حاول التيار السلفي الجامي متاخرا معالجة هذا الموضوع الفقهي السلفي بطريقة مختلفة ، لتخفيف أضراره على الحكم بشرعية الأنظمة ولكنهم فشلوا ولم يستقطبوا معهم أهم رموز المدرسة السلفية بمن فيهم الرموز الرسمية ، في إنجاز مهمتهم في وضع شروط أصعب لتكفير الأنظمة ، بما يخالف الرؤى السلفية السائدة للمدرسة المحلية
ولهذا جاءت الردود على كتابات (خالد العنبري) الذي ألف عن (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) لتؤكد فشل هذه المحاولة وردت عليه اللجنة الدائمة ولهذا قصة طويلة ليس هنا مكانها .. تعبر عن إشكاليات فقهية متشابكة لكن هذا الرد كان صدمة كبيرة لأصحاب هذه المحاولة التي جاءت في زمن نشاط تيار الجامية .

ويجب أن نشير إلى أن المعارضة الصحوية خلال أزمة الخليج لم تنشأ فكرتها من مبدأ تكفير الدولة في البداية على طريقة " جهيمان " وإنما من خلال ردود فعل متعددة أشرنا إليها .. والتكفير جاء متأخرا بعض الشئ عند بعض الفئات .

قضايا التكفير من الناحية العلمية والفقهية يصعب حسمها في الثقافة الدينية تاريخيا ، وقد قرأت الكثير من الدراسات والأطروحات السلفية في هذا الشأن ووجدت متناقضات منهجية كثيرة منذ بداية تأسيس هذه الآراء التراثية ،حيث اختلطت فيها الأحكام الدينية بالممكنات السياسية .

السرورية وهي الطيف الأكبر في تيار الصحوة ، من الواضح أنها لم تملك نزعة معارضة حادة أو انشقاقا على الطريقة التي وجدت عند التيار الجهادي ، والحث على التمرد وليست مشغولة بهم العداء للدولة والوطن في ذلك الوقت

كما يحاول تصويره البعض لكنها أيضا لا تملك ولاء المؤسسة الرسمية وعلمائها ، وهذه حقيقية واقعية فلم تنشغل في تربية الجيل على مواقف سلبية أو إيجابية مع الدولة وسياستها ، ظل الموضوع مهمشا في كثير من المراحل

والرأي هنا ليس مجرد انطباع بقدر ما هو اطلاع طويل على مضمون هذا الخطاب وخفاياه ، وهذا لا يمنع من وجود استثناءات فردية ، لكننا نتحدث عن مضمون النشاط الفكري لهذا التيار .

مع أن البعض يقدم دعاوى فارغة تدل على ضعف تصوراتهم حتى وإن كانوا كوادر في هذا النشاط قبل أن تنقلهم رياح التغيير إلى محطات أخرى فلأن أذهانهم كانت خالية من الوعي السياسي ولم يكن لديهم قدرة على التمييز بين ما هو دعوى وما هو سياسي فمن يدقق كمراقب في مضمون المناهج التربوية عند مختلف المراحل المبكرة إلى ما بعد الجامعة

سيجد أن التوعية السياسية كانت مهمشة إلى حد كبير ويسيطر عليها الهم الدعوى ، وبعض خصوم هذا التيار في ما بعد لأنهم لا يجدون ما هو مغر للتحريض أمنيا ضد خطاب هذا التيار فقد سيطرت على قراءتهم الاستنتاجات الغيبية بأنهم يربون الشباب واحتضانهم وفق منظور ديني محدد، من أجل الانتشار الأفقي حتى الحصول على القوة ، للتغير من أسفل فيستفيدون من حلق القرآن والمراكز الصيفية كمخطط لهم .

لكن بعد أكثر من ثلاثة عقود أكدت الكثير من الأحداث أن تيار الصحوة في فترات قوته واختراقه للكثير من المؤسسات أنه كان ضد نزعة المعارضة الثورية إلا أن خصومهم حاولوا تضخيم دورهم ولكن الوقائع تؤكد أن القيادات السرورية كانت ضد انخراط أبنائها في مشاريع العنف والتمرد السياسي

وأقل تطرفا ضد الدولة ويبدو أن تصعيد (محمد بن سرو) في الخارج التي دشنها في مجلة السنة أدي إلي تداخل الرؤية عند البعض وعدم التفريق ، فقد ظل الهم الدعوى مسيطرا على أولويات هذا التيار .

وتبدو مشكلة بعض خصوم هذا التيار أنهم لا يريدون أن يكون لأى جهة طموحات ولعبة سياسية مطلقا ! وهذا تفكير ساذج ومخالف لقوانين الحياة قبل قوانين السياسة .

إن أى نشاط تحت مسمي ديني أو تجاري أو انتشار جماهيري سيؤثر في مجال السياسة لكن هذا التأثير شئ ومسألة سرد المؤامرات من دون معطيات واقعية شئ آخر وكل تيار عندما يقوى وينتشر ويصبح لديه قوة جماهيرية ومالية سيكون له تأثير سياسي ، وهذه النتيجة ليست بحاجة إلى ذكاء في التحليل السياسي ..

وتبقي المشكلة الأساسية حول الموقف السياسي أن البعض لا يريد أن يكون هناك ولاء تام وفق معاييرهم فإن هذا يعني بالضرورة نزعة ثورية انقلابية !.

وهناك من سيحاسب الحركة السرورية على أنها لم تتخذ موقف الولاء التام للحكومة في مرحلة الصحوة ، لكن أيضا يجب أن يحسب لها عدم انزلاق كل أبنائها إلى حركة معارضة وتمرد ولو حدث هذا لتغير مجري تاريخ الأحداث

وللأسف فإن بعض الذين يكتبون عن هذه الحركة تخفي عليهم الكثير من التفاصيل وأى مراقب ذو نظرة سياسية ربما كان سيستغرب من عدم استغلال الصحوة لهذه القوة التي كانوا يملكونها على أرض الواقع

والتي لو ملكها غيرهم لرأينا حالة الصراعات الداخلية لربما يشكل أسوأ مما كانت ولا أريد هنا تحويل الموضوع عن السرورية ، فالتيارات تحتاج دراسة أخرى أكثر تفصيلا .

جاءت مشكلة الانشقاقات التي حدثت بعد ذلك ، وهي مشكلة تحدث لأي تنظيم وحركة لوجود متغيرات عدة فتظهر حالات ترحال من مرحلة إلى أخرى وتحولات للرموز والشخصيات المؤثرة .. كما حدث مع حركة الإخوان الأم في مصر ، وحتى في الحركات العلمانية وفي المدرسة السلفية حدثت هذه التحولات والانشقاقات ..

لذلك فمن الطبيعي أنه عندما ينحرف أحد أبناء الأسرة فإن أسرته وعشيرته لا تتحمل خطأه ، كما أن هذه التحولات من تيار إلى آخر لا تلغي مشكلات التيار الأولي

ولكن في الوقت ذاته لا ينبغي أن يتحمل التيار الأم كامل التبعات الناتجة عن تغير أحد كوادرها ، كما حدث عندما صعد بعض دعاة الصحوة في منتصف التسعينيات خطابهم السياسي ضد الدولة على الرغم من اعتراض قيادات هذا التيار .

المعارضة الإسلامية .. وأزمة الخليج

تشكلت ملامح المعارضة الإسلامية من تيار الصحوة خلال أزمة الخليج ، ولم تنشأ من خلال تنظيم دقيق أو حزب معارضة في البداية وإنما جاء نشوؤها عبر تطورات وردات فعل في حينها بمعني أنه لم ينشأ مسبقا حزب معارضة وتنظيم كما هو في حركات المعارضة التقليدية بسبب عدم تصور التحولات في الرؤية السياسية لتيار الصحوة فالرؤية السياسية طارئة عليهم في أغلب ملامحها .

هناك فارق كبير بين تيار إسلامي عام وبين حزب محكوم بتنظيم وهرمية فالتيار العام انتمي له العديد من النخب والجماهير وجزء كبير من أبناء المجتمع لهذا ظهر في الخطاب الأول (خطاب المطالب) الذي تطور في ما بعد إلى مذكرة نصيحة عدد كبير من التوقيعات لأسماء ونخب رسمية متنوعة قبل أن يحدث انسحاب للكثير منهم عندما تأزم الوضع سياسيا .

ويجب التنبه إلى أن المعارضة التي تشكلت في البداية لم يكن لها علاقة بقضية التواجد العسكري كما أختزله البعض وقد استعرضت في فصل سابق هنا ، الموقف الفقهي وتطوراته وعدم وجود رأي موحد وأنه لم يصل إلى حد المواجهة والمعارضة والصدام حول القضية .

إن مجرد الرفض الفقهي للمسألة لا يدل على معارضة بالمعني السياسي المنظم ، وكان الموقف في البداية أقل حساسية سياسية ، فلم يكن هناك تصور لتطورات الحدث وعدم تقدير له

لكن كان اجتهاد الدولة في مواجهة الأصوات الخارجية المتزايدة في ما بعد أدي إلى حساسية هذا الموقف الفقهي الذي أشغل الرأي الإسلامي في الخارج ، بينما كان ما يشغل الرأي الإسلامي المحلي أمورا أخرى في ترتيب الأولويات الإسلامية .

لقد بدأ بعض نخب التيار الإسلامي في تلك المرحلة في التفكير بنقلة نوعية لنشاطهم من صورته الدعوية الوعظية ، في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنشاط الخطابي من محاضرة أو خطبة ..

إلى محاولة تأسيس نقلة منظمة كنشاط سياسي ، تحت تأثير ردة الفعل من المذكرة المدنية التي رفعت من نخب فكرية في المجتمع ، ومع كل انتقال جديد يحدث تصعيد أو صدام مع السياسي و كانت الفئة التي قامت بهذا النشاط تصعد هي الأخري بحيل وطرق أخرى

وعلى الرغم من كثرة الخطب والمحاضرات واللقاءات الدعوية منذ الثمانينيات وبداية التسعينيات ، التي فيها جرأة في النقد ، فإن الكثير منها يؤخذ في سياق الحسبة والجرأة في إنكار المنكر ، وليس فكر المعارضة المنظم ، فيحدث إيقاف مؤقت لهم ثم يعودون مرة أخرى .

كان من أهم نقاط الضعف في العمل الإسلامي المحلي وعيه السياسي المحلي والخارجي ، ومحدوية الخبرة في الأداء والخطاب السياسي فعلي الرغم من كثرة الكوادر المتعلمة عصريا والناشطين في التيار

وعلى الرغم من التجمعات وعدد الأنشطة الكثيرة والرحلات والجمعيات الخيرية فالواقع أنها لم تزودهم بالخبرة السياسية الكافية بقدر ما زودتهم بقدر ما هو الاحتساب الديني الأقرب للتقليدية ولهذا كان أداء التيار الإسلامي مع الأزمة ضعيفا ولا يتناسب مع إمكانياته الضخمة وشعبيته الجارفة التي تحققت له !

التسيّس الذي حدث فجأة في الأزمة جاء كردة فعل ، ولم يأت من وعي حركي مبكر واستعدادات مسبقة ولهذا حدثت تراجعات سريعة في حينها فقد كان الكثيرون منهم وحتى الذين انخرطوا في توزيع منشورات ، لم يكونوا يدركون أنهم يقومون بنشاط معارضة بقدر ما هو نشاط احتسابي على طريقتهم السابقة ،.

وحتى مع بداية تواجد القوات الأمريكية لم تحدث تمردات سياسية معارضة ، أو محاولة مواجهة مسلحة ، بقدر ما أنه تزايد حدة الخطاب الديني وقلقه المعتاد من المنكرات الأخلاقية

حيث تستثيرهم مسائل المشروبات والمرأة ووجود لحم خنزير ، أكثر من مسائل الإصلاحات السياسية الأساسية التي أيقظت وعيهم المذكرة المدنية المحسوبة على التيار الآخر .

بداية العمل التنظيمي السياسي للمعارضة الإسلامية

ونعني به الحراك الذي يتم بوعي وأهداف سياسية وإدراك بأنه نشاط محظور وليس نشاطا دعويا ، فالنشاط الذي يتم عند المشايخ التقليديين عبر تزويدهم بمعلومات عن المنكرات في المجتمع أو الصحافة أو الإعلام والأسواق ..

أثناء الدروس العلمية والمحاضرات وتقديم القصص لدعاة الصحوة ، فهذا ليس نشاطا " سياسيا " بالمعنى المباشر ، فالمشايخ الذين يستقبلون هذه الشكاوى ليسوا زعماء حزب

حتى لو كانت لديهم دائرة ضيقة من خاصتهم يثقون فيها وبأخبارها ومعلوماتها .. في جلسات خاصة لكن هؤلاء المشايخ يتحدثون لجمهور المجتمع في أماكن علنية ، وتنشر في الكاسيت وليست محاضرات سرية .

العمل التنظيمي السري كان محدودا جدا ، ولم ينتشر إلا في ما بعد ، وبعضه كان امتدادا للفكر الجهادي الأفغاني الذي أخذ يتشكل ، مع أنه موجود بصورة أو بأخري منذ الثمانينيات واستمر بعد ذلك

وله أجياله الخاصة وكان ملهمه هو "ابن لادن" ولهذا الفكر تحوّلاته الدقيقة محليا ، التي لم تقدم عليه درسات راصدة للظاهرة ، على الرغم من انتشار فكر " القاعدة " كامتداد له في ما بعد ..

ومع كثرة ما كتب عن الإرهاب فإن هذه الكتابات عجزت عن تحديد كثير مما هو جوهري لفهم تحولاتنا الدينية وخلطت كثيرا من المسائل من أجل تكتكات مؤقتة .

يصعب الفصل بين تيار الصحوة والمدرسة السلفية والعلماء الرسميين بسبب الكثير من المشتركات حتى في أمور سياسية من خلال مبدأ الاهتمام بأمر المسلمين والجهاد في حينها .. أفغانستان .. الشيشان .. البوسنة والهرسك .. وكشمير .. إلخ.

لكن العمل التنظيمي السري الذي تشكل في تلك المرحلة لم يكن له امتداد كبير محليا ، أى الامتداد لمن سموا بالجهاديين ولفكرهم .. ويبدو الأمر غريبا أن بعض الذين كتبوا عن ذكرياتهم في تلك المرحلة

وذهابهم إلى أفغانستان ، أنهم قفزوا وغيبوا الكثير من الحقائق ، وانخرطوا في حفلات النقد الغوغائي التي خلطت الأمور الفكرية بالسياسية .

بعد الحراك الجهادي تحت تأثير القضية الأفغانية ، جاء حراك آخر للصحوة السياسية في الساحة المحلية ، وهو حراك سلمي ، فقد تطّور نشاطهم بتأثير من العريضة المدنية التي قدمت .. فبعد تسرب البيان الذي قدم إلى الملك فهد في كانون الأول (ديسمبر) 1990م ، من قبل نخب مثقفة للمطالبة ببعض الإصلاحات وبخطاب عقلاني هادئ سنتناوله لاحقا

حيث جاء فيه موضوعات عن المرأة ، والهيئة والقضاء ، وهي مسائل ذات حساسية مبكرة عند تيار الصحوة ، فكان الشعور عند تيار الصحوة حينها أنها جزء من المؤامرة العلمانية ومخطط لتغيير منهج البلد ما أشعر نخب الصحوة بأهمية التحرك وتقديم خطاب مماثل لمواجهته

وهو ما حدث ، ولهذا أشرنا إلى تفسير كثرة عدد الموقعين من الرسميين وانتشار الخطاب بشكل واسع بين طلاب الجامعات في حينها ..وعرف حينها باسم خطاب المطالب .هذا الاتجاه الإصلاحي يعتبر "ردة فعل" أكثر منه مبادرة ذاتية من الصحوة أو دلالة على وعيها السياسي والوطني ، كما يحاول أن يصورها بعض الذين شاركوا في هذه الأنشطة .

لقد تم عرض هذا الخطاب على عدد من طلبة العلم والمشايخ وكان منهم سلمان العودة وسفر الحوالي وعبد الله الجلالي ، وعبد الله بن جبرين ، فسلم الخطاب في 20 شوال 1411هـ الموافق 6 أيار (مايو) 1991 م أى بعد نحو ستة أشهر من الخطاب المدني .

إذن يجب القول إن النخب المدنية هنا بمبادرتها السياسية حرضت نخب الصحوة الحركية ، فبادرت بهذا الاتجاه ، وهذا ليس قراءة متأخرة انطباعية منى ، بقدر ما أن هذا معلن عن الناشطين الإسلاميين في حينها لتحريض الكثيرين على التوقيع على خطاب المطالب .

لقد تعاملت الدولة في البداية بقدر من الحزم ، وأحيانا باللين مع هؤلاء الناشطين الذين كان لهم دور في خروج هذا الخطاب ونشره على نطاق واسع لكن زخم الأزمة وتطوراتها حدوث مظاهرة قيادة المرأة جعل الأمور تتأزم بأكثر من اتجاه وأخذت بعض النخب الإسلامية تتمرد على الممنوعات بصورة أكبر بعد أن استفزتهم المظاهرة .

لقد كان التصعيد بناء على قرارات فردية واجتهادات شخصية بمن فيهم بعض رموز الصحوة ، بالخصوص سلمان العودة الذي أخذ خطابه مسارا تصاعديا منذ عام 1990 حتى 1994 م بعكس سفر الحوالي الذي حافظ على درجة كبيرة من الهدوء ، والنصيحة بأسلوب مرحلة الثمانينيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق في نظره .

فلم يكن هناك إجماع على هذا التصعيد الذي بدأ يظهر واختلف مع توجه سلمان العودة الجديد نخب حركية عديدة لكنه أصر على الإستمرار على الرغم من أن السياسي حاول كثيرا بالتي هي أحسن أن يثنيه عن هذا التصعيد وذلك قبل مرحلة الإيقاف النهائي ،واستمرت هذه المفاوضات لسنوات وهو في السجن ، ليخرج بعدها شخصية أخرى في بعض أرائه !

ما يجب الإشارة إليه .. أن الذين رفضوا هذا التصعيد من تيار الصحوة الواسع وهم أكثرية من دعاة وناشطين في التيار ولم ينكروا على زملائهم هذا التصعيد علانية وهو المتوقع فمن ينكر علانية فإنه سيحسب مباشرة على تيار الجامية ذي السمعة المحترفة في المجتمع ولهذا كانت كل التحفظات غير معلنة .

وصار كثير من أبناء المجتمع الذي انتموا لفكر الصحوة بعد أزمة الخليج يلاحقون الخطاب التصعيدي ، دون أن يدركوا الكثير من تفاصيل التشكلات التي تحدث لأن هذه الخلافات والتباينات لم تظهر علانية .

ومن كان يراقب تطورات الأوضاع في حينها فإنه سيلفت نظره أن الدولة تعاملت مع هذا التصعيد وبالذات مع الشيخ سلمان العودة بقدر من الهدوء والتأني في البدايات لكن في ما يبدو أن سلمان العودة أغرته القوة الجماهيرية التي اكتسحت الساحة و الحضور الكبير بالآلاف لدروسه ومحاضراته فشجعته على المضي بخطاب تصعيدي وظن أن السياسي سيتردد كثيرا بسبب هذه الجماهير والشعبية الكاسحة ..

والسياسي كان مترددا بالفعل إلى أن جاءت اللحظة التي قررت فيها الدولة إنهاء اللعبة وتفريق اللاعبين !؟ ليعودوا بعد سنوات لممارسة لعبة أخرى ومشايع مختلفة !

كان ذلك التصعيد من بعض دعاة الصحوة ، وخاصة سلمان العودة يعتبر تصعيدا مخلوطا بين السياسة والوعظ الديني باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست حركة معارضة محددة الهدف والمطالب .. لقد حدث التأزم نتيجة خليط معقد بين جوانب عدة يشاهدها المراقب تختلط هذه الجوانب لتسهم في تعقيد رؤية الصحوة وفكرها العام في ذلك الوقت .

لكن دخول محمد المسعري وسعد الفقيه في هذه الأجواء وأثناء لحظة الصدام لتغطية الحدث إعلاميا ، والتعليق بحماسة معها ، ومتابعة جماهير الصحوة لهذه المنشورات ، أدي إلى تداخلات أكثر وتشوشت الرؤية على الجميع ، بما فيها الرؤية الرسمية ذاتها .

وتيار الصحوة مع متابعة المنشورات انخرط في المعارضة دون أن يشعر الكثير من أفراده بذلك .. ومع أن سلمان العودة كان قد أثني في أحد أشرطته على مشرع " لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية " في بدايتها الأولي

إلا أن هذا الثناء كان قبل أن ينتقل نشاط هذه اللجنة إلى الخارج في لندن ويأخذ مسارا آخر في خطابها .. فالبيانات القادمة من هناك عبر الفاكس في ذلك الوقت جاءت مفاجئة للجميع بنوعية خطابها

وصارت معارضة صريحة وثورية في رؤيتها للأمور وكان الشيخ في بداية دخوله السجن ، فلم يتح للمتابع معرفة رأيه عنها في تلك الفترة الحرجة .

تطورات لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية

ما أشرت إليه هو استنتاجات راصد عايش تفاصيل لحظية لجميع هذه الأحداث ، وتابع جميع المنشورات في لحظتها ، وردود الأفعال الرسمية وغير الرسمية فكثير من الكتاب الغربيين والعرب الذي تعرضوا لهذه المعارضة وأحداث منتصف التسعينيات لم يدركوا عددا من التداخلات وظروف المرحلة التي أثرت في تطورات مسار الأزمة

والكثير من التفاصيل كان غائبا عنه في وصف ما حدث من الداخل وردود الفعل العفوية، وحديث المجتمع وبعضها اعتمد على مصادر غير محايدة ، على منشورات اللجنة وبياناتها وبعضها على آراء شخصيات محلية شبه رسمية ، ولم يأت من خلال رصد ذاتي منهم ومتابعة ، وكانت استنتاجاتهم فيها مغالطات كثيرة .

لم يتمكن هؤلاء من فهم التطّورات في حينها ، وبدأت تختزل هذه المراجع أحداث التسعينيات ما بين عام 1990 ، 1995 م بصورة مشوهة للواقع اعتمادا على البيانات وفي الحالة السعودية ما يحدث شفويا ويؤثر أكثر مما تسجله الصحافة، أو المراجع ،ولهذا ظلت الرؤية ناقصة ، فمن يقرأ الأمور من الخارج سيظن أن هناك تنسيقا متكاملا بين علماء ودعاة حركة الصحوة ، ولجنة الحقوق الشرعية

والواقع أن هناك اختلافات مهمة ، فبداية اللجنة لم تكن بتلك الحساسية المتوقعة عند الكثيرين ودعاة الصحوة ولم ينظر إليها على أنها حركة معارضة

ولم يتوقعوا رد الفعل القوى من الجهات الرسمية ولهذا نجد أن (كيشيشيان) وغيره عندما كتب عنها لتقييم الموقف من اللجنة لم يتمكن من التفريق بين أطياف التيارات الداخلية لحركة الصحوة حول هذا النشاط .

كان إنشاء " لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية" ، أبرز حدث بلور فكر المعارضة في تيار الصحوة الإسلامية فبعد كثير من الأخطاء والصدامات في إدارة الصحوة لخطابها الديني في تلك المرحلة وكثرة الإيقافات ، جاءت فكرة إنشاء هذه اللجنة

وكان اعتقال الشيخ إبراهيم الدبيان والمعروف بشراسته وصراحة خطابه في قول ما يراه منكرا .. في كانون الأول (ديسمبر) 1992م دافعا لها . وهذا مؤشر على أنها ردود فعل واقتراحات آنية أكثر منها تخطيطا مسبقا ومبكرا لتنظيم قائم ، وهذا ما جعل ردة فعلها فيها قدر من العشوائية في الاجتهادات

فأعلن تأسيس لجنة الدفاع في أيار (مايو) 1993م في وثيقة تأسيس وقع عليها أربعة من ستة ، عبد الله المسعري وعبد الله التويجري ، وعبد الله بن جبرين وسليمان الرشودي ثم فيما بعد عبد الله الحامد وحمد الصليفيح وقد تراجع بسرعة الشيخ عبد الله بن جبرين ، خلال أقل من شهر وهو ما مثل نكسة وإحراجا للجنة في بداياتها .

ونلاحظ أن هناك خلطا بين حركة الصحوة ونشاطها الدعوى ، وبين حركة اللجنة عند باحثين عرب وغربيين ، والواقع أن الأحداث كانت تأخذ مسارات عدة داخل التيار الإسلامي ومواقف متنوعة وردود فعل مختلفة من الدولة لكل حالة .

ولأن بعض الباحثين يكتبون آراءهم بعد الحدث بسنوات ، دون أن يكونوا قد عايشوا الحدث لحظة بلحظة في مكان الصراع في الداخل السعودي وحيث لا توجد صحافة محلية متنوعة لتغطية القضية أو بيانات رسمية أو لقاءات وتحقيقات فقد وجدت الكثير من الأخطاء في التصور حولها .

وهنا يجب الإشارة إلى سياق بعض تطورات الأحداث في قضية اللجنة في ما يلي:

على الرغم من أن فكرة " لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية " ذكية جدا للدخول إلى العمل السياسي من بوابة المحاماة والتي جعلت هناك تناقضا في الآراء حولها
حتى من الأفراد العاديين غير المنخرطين في نشاطات الصحوة وعلى الرغم من النقلة التاريخية التي أنجزها هذا الإعلان كفكرة أذهلت البعض لكن ردة فعلها في إدارة الصعوبات لم تكن بالحنكة السياسية ، ما جعلها تخسر في ما بعد جميع ما كسبته في البداية من جماهيرية .
وكان للإرتباك الرسمي في إدارة الملف وطريقة معالجته للأمر وتهميشه للإعلام والصحافة تماما دور في تعقيد المسألة في ذهنية المجتمع وكأن هذا الحدث يجري في بلد بعيد باستثناء بيانات رسمية معدودة تخرج في الإعلام ما جعل الأمور تفهم في داخل المجتمع من مصادر مختلفة ليست الصحافة منها ،ولم يستوعب المواطن فكرة ردة الفعل الحادة لأنه لم تتح كتابات تشرح وجهة نظر الجهات الرسمية ..
وكان نشر الصحافة يأتي محددا بصورة حرفية دون أى مجال للإجتهاد الصحافي وفي الوقت نفسه كانت إذاعة (BBC) تغطي بعض التطوّرات بصورتها الرصينة المعروفة .

أما صحافتنا فبعد إعلان تأسيس اللجنة وتفاعلاته نشرت مثل هذه الأخبار : السعودية: فصل أعضاء "لجنة الحقوق" من وظائفهم (14 /5/1993م) كان الخبر صادرا من وكالة الأنباء السعودية الرسمية (واس)

ونشرته جريدة الشرق الأوسط في الصفحة الأولي بعنوان بارز وكان هذا جزءا من أخطاء المعركة الإعلامية ، فالفصل من الوظائف بهذه الطريقة ، مع نشر الخبر بهذا الشكل أساء لصورة السياسي وكان تأثيره سلبيا في رؤية المواطن للأمور حيث لم يدرك الكثيرون مستوى الخطأ الذي ارتكب في ذلك الوقت ، وكان هذا جزءا من عملية سوء التقدير والارتباك التي حدثت خلال هذه السنوات .

وفي هذا الموضوع نشرت صحيفة الشرق الأوسط نص بيان هيئة كبار العلماء عن اللجنة .. الذي لم يتم صياغته بحكمة ووعي سياسي .. وفيه العديد من الملاحظات التي لا تخدم الهدف السياسي الذي نشر من أجله

(فالمجلس يقرر بالإجماع : عدم شرعية قيام هذه اللجنة ، وعدم جواز إقرارها ، لأن السعودية بحمد الله تحكم بالشريعة ، والمحاكم الشرعية منتشرة في جميع أرجائها ولا يمنع أحد من رفع مظلمته إلى الجهات المختصة في المحاكم أو ديوان المظالم ..)

وكان استنكار هذه الهيئة الرسمية يمكن أن يتم صياغته بصورة أفضل .. بأن يقال إن هؤلاء أعلنوا قيام لجنة دون ترخيص رسمي لها من الجهات المسؤولة ، وهذا مخالف للأنظمة .

كان لتنوّع الأسماء في اللجنة دور ناجح في لفت النظر لها بسرعة ، لكنه سياسيا غير ناجح على المدي البعيد ، فإدخال ابن جبرين أعطي المشروع صدقية مؤقتة ، ووجود عبد الله المسعري ، رئيس ديوان المظالم سابقا أضفي صدقية عملية للفكرة لكن هذا الفعل لا علاقة له بالعمل السياسي التنظيمي الدقيق والحزبي وإنما هو خليط بين مدارس مختلفة في الرؤية والفكر .

كان موضوع اللجنة بعد فصل أعضائها وإيقافهم عن العمل ، وخروج بيان من كبار العلماء عن اللجنة ، تهمش فعلا لعدة أشهر ، وفي الوقت نفسه كانت تطورات قضية إيقاف الدعاة تسير وفق المنهج التقليدي بين الرؤية الحكومية ورأي العلماء الرسميين

وكانت تعالج بصورة غير علنية ، لكن المتابعين يعرفون تطورات ما يحدث في وقتها ، لكن في ما يبدو أن الأمور وصلت إلى نقطة الحسم ولحظة الاعتقال الشهير الذي جاء بصورة سينمائية جاءت معها أحداث مدينة بريدة والمسيرة الجماهيرية إلى مبني الإمارة والشريط الذي تم توزيعه للشيخ سلمان العودة .

مع هذه الأحداث عاد بريق اللجنة بقوة مرة أخرى ، وبصورة مفاجئة للجميع وذلك من خلال استفادتها من أحداث مدينة بريدة التي جعلتها في قلب أهم أحداث الصحوة ..

في تلك المرحلة ، كانت اللجنة أهم مصدر إعلامي خارجي يوزع كمنشور أسبوعي يلخص ما حدث ، وتابعه الكثيرون في ظل غياب أو تغييب كامل للصحافة المحلية عن الحدث فكانت هي المصدر مع الأخبار الشفهية الداخلية المتداولة ، وما تبثه بين فترة وأخرى إذاعة لندن من أخبار ولقاءات مع الناطق الرسمي باسم اللجنة .

لقد تبنت لجنة الدفاع عن بدأت تحدث تطورات يومية مختلفة ، وأصبح الرأي العام في تلك الأسابيع تقوده اللجنة بمنشوراتها ، حيث استمرت البيانات لعدة أشهر بعد حادثة اعتقال دعاة الصحوة .

أصبح لها شعبية واسعة ، واشتهر اسم محمد المسعري في المجتمع كأشهر معارض سعودي ، وأصبح المجتمع بكل شرائحه يعرف من هو المسعري ، ويطلق على المنشورات التي توزعها اللجنة اسم (منشورات المسعري) بدلا من اسم اللجنة

ولم يكن محمد المسعري معروفا من قبل في المجتمع ، فلم يكن داعية من تيار الصحوة أو خطيب جامع ، في تلك اللحظة لم يكن يدرك جمهور واسع من تيار الصحوة أنهم أصبحوا تيار معارضة بهذه المنشورات وانتهي مفهوم الاحتساب والنشاط الخيري الدعوى .

كانت الأخبار الأسبوعية تنتشر بصورة واسعة عن طريق الفاكس ووصلت للدوائر الحكومية والجامعات مع شدة المخاطر الأمنية ،كانت تمثل (مصدر أخبار) بعد انقطاع محاضرات المشايخ

وكان توظيف اللجنة لتقنية الفاكس بهذه الصورة نقلة مدهشة محليا للمتابعين في اختراق المجتمع وتحدي الرقابة وإيصال المعلومة على نطاق واسع ، وأربكت هذه الطريقة الرقيب لفترة طويلة حيث تحولت آلة التصوير وجهاز الفاكس لـ (أجهزة مشبوعة) قد تورط المرء في مشكلات أمنية في حينها .

كانت هذه الشعبية والنجومية الخاطفة للجنة الحقوق وشهرة المسعري لافتة ومربكة في لحظتها حيث لم تعد تنفع معها ، فتاوى الشيخ صالح الفوزان أو الشيخ صالح السدلان أو بيانات كبار العلماء التي تنشرها الصحف بين فترة وأخري ..فقد خرجت الأمور عن نطاق السيطرة في حينها .

لافتة ومربكة في لحظتها حيث لم تعد تنفع معها فتاوى الشيخ صالح الفوزان أو الشيخ صالح السدلان ، أو بيانات كبار العلماء التي تنشرها الصحف بين فترة وأخري .. فقد خرجت الأمور عن نطاق السيطرة في حينها . كانت البيانات تأتي وتنتشر أسبوعيا ،ويحدث حول مضمونها الكثير من الحوارات الخاصة ، حول ما تقدمه من أخبار ومعلومات وتطورات ..

وما يبدو مدهشا للمطلع و الراصد هو كيفية توفر هذه الأخبار والمعلومات ، فقد توفر للجنة في البداية مراسلون متبرعون .. وهذه المرحلة تبدو مغرية لدراسة إعلامية في ابتكار الحيل الطارئة .

وأشارت الإيكونومست في حينها إلى أن اللجنة ترسل قرابة 800 نسخة من الفاكسات (1994:71) ويتم تناسخها ويطلع عليها الكثيرون .. أما محمد المسعري فكان يقدر بأن نحو 150000 شخص في المجتمع السعودي كانوا يقرأون بيانات اللجنة .

ومع ذلك لم تطل كثيرا مدة الوهج ، فقد بدأت بيانات اللجنة مع برودة الأحداث والنشاطات الدينية وعدم وجود أخبار لافتة ، وتخرج عن إطار أخلاقيات المعارضة ، وأخذت تدمر نفسها بنفسها بارتكابها لحماقات كبري وشعبيتها بدأت بالخفوت شيئا فشيئا ، حتى مل المتابعون هذه البيانات ، خاصة بعد أن أخذ خطابها منحي الشخصنة للقضايا .. ومنهجا فضائحيا ، وهجوما غير أخلاقي يرفضه القارئ المحترم .

وبالدرجة نفسها للإرتفاع الصاروخي لشعبية اللجنة ووهجها حدث انهيارها وتراجعت مبكرا ليس بسبب فقط عوامل خارجية فقط ، وإنما أيضا بسبب تخبطها السياسي وأسلوبها الذي خرج عن أخلاقيات المعارضة في مجتمع يحتفظ بالكثير من القيم والعادات والشهامة ، فأصبح كثيرون ممن كانوا يتحمسون لها ينتقدون تصرفاتها .

لكن وهج الانهيار جاء بصورة واضحة مع الانشقاق التاريخي من داخل لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية التي فتحت لها مكتبا في لندن ، وهو الذي أعلن عن وفاتها معنويا ، حيث حصل خلاف بين القطبي اللذين يديران عمل " مكتب اللجنة في لندن"

وهما : سعد الفقيه ومحمد المسعري، وأثر هذا الخلاف كثيرا في بقايا شعبية هذه اللجنة وبدأت تمسح تدريجيا من ذاكرة المجتمع وكتب رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط في حينها عثمان العمير في صدر الصفحة الأولي مقالته الشهيرة التي كانت بعنوان " خوش معارضة "

وقد حاول استعمال أسلوب السخرية الحادة والمبالغات في وصف ما حدث ، فبدأ بتصوير التفاعلات التي حدثت في لندن وفي الإعلام وعند بعض العرب بصورة مسرحية ليسخر منها .

لم تكن هذه الحركة ذات خطورة أمنية كما في أحداث الإرهاب فيما بعد ، ولم يكن هناك دعوة لذلك، ولا أى تسلح لأفرادها ومناصريها .. ومحاولة تصوير هذه الخطورة عبر مبالغات من بعض المراقبين العرب في لندن تدل على جهل بالواقع المحلي ، وبإمكانيات الدولة واستقرارها ،والتي ربما تجاوزت إمكانيات مجموعة دول فكيف بمنشورات لجنة .

لكن المعركة لم تكن أمنية في لحظتها، وإنما كانت إعلامية بالدرحة الأولي . وكمتابع فقد نجحت بشكل أولي في إرباك الإعلام السعودي في طريقة مواجهتها في الخارج والداخل ، وسببت قلقا لإمبراطورية إعلامية كبرى في كيفية التعامل معها بعض الوقت

نظرا إلى التكتيك الجديد ونوعية الخطاب الإسلامي السياسي المختلف ، والتحول المفاجئ نحو المعارضة المعلنة ولهذا وقع عثمان العمير تحت هذا الضغط في فترة سخونة الصراع ، خاصة أنه كان يعيش في أرض المعركة الإعلامية " لندن " وتطلب ذلك منه الكثير وعبرت مقالته عن حالة بهجة كبيرة في نهاية ما سماه بالمسرحية ..

والعمل الإعلامي هو مسرحية بطبيعته وكمراقب للحدث في وقتها ، أول ما يتبادر للذهن هو هذا التخبط الإعلامي الذي حدث ، وعدم قدرة القيادات الصحافية على المواجهة والسماح لها بذلك ، فلا يزال الإعلام يرتبك في إدارة مثل هذه المعارك لأنه موجه بقوة ولا يمتلك حرية الحركة في إدارة هكذا معارك مع دول أو أحزاب أو شخصيات .

ومع أن مقالة العمير كانت قوية ،مكتوب بصورة متقنة وربما تكون من أفضل ما كتبه العمير في مشواره الصحافي ، وقدم إشارات منطقية سياسيا وإعلاميا وأخرى ليست كذلك ، ومنها إشارته الوعظية لهم : (.. وسوف نظل نشعر بالشفقة على رجلين ضلا طريقهما الصحيح ، طريق تخصصهما المهني ، ليخوضا بحرا لا يجيدان السباحة فيه)

وهذه من الحجج التقليدية والنصائح الوعظية في السياسة ، فالمعارضة والعمل السياسي ليس لهما تخصص معين ، لقد كان تخصصهم العلمي وليس الديني في الطلب والفيزياء هو الذي أضفي على نشاطهم السياسي وهجا وقدرا من المدنية ، وبأنهم ليسوا علماء دين ، محاولة استعمالهم خطابا مدنيا يفهمه الآخر الغربي ، على الرغم من تشددهم الديني .

لقد تطورت المعارضة في تيار الصحوة بصورة غير مخطط لها ، واستفادت لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية من ذلك بأن تحولت إلى منبر إعلامي للصحوة في تلك الأحداث .. لم تكن فكرة البداية تتضمن ما هو خطير سياسيا ، طالما أنها نوع من المحاماة المجانية في نظر البعض ، لكن المزعج سياسيا أنها جاءت من دون إذن ، وطريقة الإعلان عنها في الإعلام الغربي والتصريحات في إذاعة (bbc) فتحولت إلى نوع من التحدي السياسي .

كانت اللجنة تمثل قفزة جديدة في الوعي السياسي لبعض أفراد الصحوة ، ولفتت النظر إلى مسائل الحقوق بالمنظور الديني ، وقد أحدثت هذه المطالبة تحولا جذريا سياسيا في تفكير فئات من تيار الصحوة ، وجمهور من المجتمع التقليدي في النظر إلى قضايا الظلم والفساد

بعد أن كان الذي يشغل الصحوة جوانب دينية محددة كمنكرات شرعية ، وكان مسمي اللجنة فيه حيلة ذكية " فالحقوق " توحي للمثقف المدني والعلماني بمطالب مدنية وعصرية ، و" الشرعية " ترضي التيار الإسلامي الحساس من مفردات الحقوق والقوانين في ذلك الوقت

ولم تستعمل هذه اللجنة مصطلح " حقوق الإنسان " لحساسيته عند العلماء التقليديين وتيار الصحوة في ذلك الوقت ، فقد كان الموقف سلبيا من مفهوم حقوق الإنسان بما فيه موقف أعضاء اللجنة أنفسهم .. خدم هذا الإسم اللجنة كثيرا في نشاطها في لندن ، وفي رؤية الإعلام الغربي لها كنشاط سياسي عصري، على الرغم من تشدّدها الديني .

وبالقدر الذي أعجب البعض بهذه الحيلة التوفيقية التي حدثت فإن كلمة "الشرعية" ليس المقصود بها في تلك المرحلة كرادف للقانون بمعناه المدني وإنما المقصود هو أحكام الشريعة الإسلامية وفق ما يراه تيار الصحوة في حينه ، أى أنها لا تعبر عن مفهوم حقوق الإنسان المعاصر .

لذا بدا غريبا من بعض الناشطين السابقين في هذه اللجنة حين تحدثوا مؤخرا في حوارات فضائية وصحافية عن ذكرياتهم في بداية تأسيس هذه اللجنة عندما اعتبروها امتدادا للجان حقوق الإنسان التي تشكلت في السنوات الأخيرة ، بل وتحدثوا أنهم سجنوا من أجل " حقوق الإنسان "

لقد كان التيار العام في المجتمع يفهم أن هذه الحقوق التي يتم الدفاع عنها هي فقط للتيار الإسلامي أما التيارات الأخري فهم يؤيدون منعهم من حرية التعبير وربما مضايقتهم وأحيانا يحرضون عليهم الحكومة ، ولم تظهر دعوة للدفاع عن الفرد بصفته إنسانا أو مواطنا

ولم يكن لتيار الصحوة مواقف إيجابية تذكر عندما تعرض العديد من المثقفين لمشكلات حقوقية بل كانت في نظرهم جزءا من شرعية الدولة وواجبها في التضييق على من تسميهم علمانيين أو حداثيين ، والأمانة تقتضي أن نسجل هذه المشاعر التي كنا نلمسها من دعاة الصحوة أو من جمهورها في ذلك الوقت ولا يعيب هذه اللجنة أنها قامت للدفاع عن تيارها وعن المنتمين لفكرها ، وعلى الآخرين أن يقوموا بتكوين لجانهم الخاصة .. لكن العيب هو تطريز ادعاءات ليست دقيقة من بعض رموز وناشطي الصحوة .

فهناك فارق بين الرؤية العصرية لحقوق الإنسان ، والرؤية الدينية في ذلك الوقت بمنظور الصحوة للحقوق الشرعية ، ومن رصد تفاصيل هذا الخطاب فلن يجد أى أثر للإنسان بمفهومه المدني العصري ، وكان هذا متوقعا من الخطاب الإسلامي كانت مشكلة الصحوة في ذلك الوقت أنها غير مستنيرة ، وبعيدة عن الخطاب الإسلامي العصري ، وأقرب إلى التشدد الديني .

وهذا لا يعني الإساءة لجهودها و إنما هو سعي لوضع الأمور الفكرية في إطارها الحقيقي وحتى " جمعة حقوق الإنسان " التي أسست رسميا بإذن الحكومة ورعايتها هي الأخري لا تمثل الرؤية المدنية المفترضة

فهناك ممارسات تفعلها هذه الجمعية تجعلها مفيدة في قضايا كثيرة بين " لجان الدفاع عن الحقوق الشرعية " و" جمعية حقوق الإنسان السعودية " ومفهوم " حقوق الإنسان " وفق المفاهيم المدنية ، لكن أيضا هناك فوارق جوهرية لا يمكن أن يتجاهلها من يملك وعيا فكريا في أسس كل فكرة ومبدأ وليس الموضوع هنا للمقارنة بأيهم أفضل في تحقيق هذا الحقوق .

حدثت تطورات في مسار المعارضة بعد الانشقاق الذي حصل في لندن فظهرت " الحركة الإسلامية للإصلاح" و" تنظيم التجديد الإسلامي " لكن ليس لهذين التنظيمين أى شعبية تذكر في الداخل السعودي بعد احتراق صدقيتهما في ذلك الوقت .

وبعد تفجيرات العليا والخبر التي حصلت في 1994م و1996م على التوالي وبغض النظر عمن وقف خلف هذه التفجيرات وطبيعتها ، إلا أنها أثرت في مسار وفكرة المعارضة وأيضا الإعلام الرسمي الذي صمت كثيرا أتيح له بعد هذه التفجيرات مجال للحديث عنها لفترة محدودة جدا من خلال بعض التحقيقات الصحافية والمقالات وساهمت هذه التفجيرات بتراجع الكثيرين عن تأييد هذا الخط والتخوف من التورط بأعمال عنفية .

ثم حدثت حالة سكون طويلة نسبيا لصوت المعارضة داخليا وخارجيا إلى بداية ظهور عصر الإنترنت عام 1998م ، حيث دشنت هذه المرحلة مسارا جديدا من الجدل السياسي بين المعارضة وخصومها ، وقد ظهر جدل آخر إسلامي – إسلامي بين التنويريين وخصومهم سرق الأضواء من خطاب المعارضة .

" لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية " تم حلها في 1 آيار (مارس) 2004 م واستبدلها المسعري بحزب سياسي "تنظيم التجديد الإسلامي" ولم يوجد له أى حضور طوال هذه المرحلة ، وكانت " الحركة الإسلامية للإصلاح " لـ (سعد الفقيه) أكثر نشاطا منه عبر إذاعته ثم قناته التلفزيونية وموقعه الإلكتروني وحاول غير مرة تقديم ما يلفت إليه النظر جماهيريا حتى في أوج ربيع الإصلاح ، إلا أن هذه الحركة كانت تنتقل من فشل إلى آخر !

إذا كان محمد المسعري كحالة فكرية لا يمكن وضعه ضمن نسق الصحوة التقليدي والسائد في مجتمعنا في الثمانينيات بحكم تأثره المباشر بأدبيات حزب التحرير ، فإن سعد الفقيه يمثل الفكر الصحوى بكل تفاصيله في مرحلة الصحوة

وهو من الناشطين مبكرا في هذا التيار وموقفه من الفكر الجهادي وعمليات العنف شبيه بموقف المسعري ،وإن كان أشد حذرا منه ، حتى لا يتورط في إشكاليات قانونية ، ولهذا يقطع الطريق على محاولات من يريد منه أن يحدد رأيه وهو في الوقت نفسه لم يهاجم التيار الجهادي والعنفي ولا يريد أن يخسره .

أيلول سبتمبر .. والمعارضة المشتركة

على الرغم أن أحداث أيلول (سبتمبر) كانت في أمريكا إلا أنها سلطت الضوء على الحالة السعودية ، وظهر العديد من الأسئلة حول إدارة ملفات مهمة سياسية ودينية واقتصادية فما حدث هناك كان مرتبطا بوجه أو بآخر بهنا ليس فقط كون أغلبية المنفذين الذين أعلن عنهم من السعودية ، وإنما بسبب تداخلات كثيرة فرضت أسئلة جديدة .

لهذا أوجد مناخ ( أيلول سبتمبر ) بيئة أخرى لتطور المعارضة وخطابها وأولوياتها وتحالفاتها كانت غالبية التيارات المعارضة سنية وشيعية وعصرانية وصحوية أو ممن لديها وعي نقدي خاص

حيث وصل الكثير من هذه الاتجاهات إلى نضج جديد ومختلف واستفاد من التقمية بقدر من المسؤولية في في خطابه النقدي حيث تجاوز الكثير منهم نزعاتهم الثورية ، ونقدهم المتطرف إلى مطالب تبدو عقلانية ومعتدلة ، في رؤى مدنية .

بدأت هذه الظاهرة من شبه التحالفات العامة دون تنظيمات حزبية جديدة ، إنما كانت الإنترنت والمنتديات والصالونات تجمعهم في حوارات ذات عناوين وطنية ، ونقد لأخطاء بين تيارات مختلفة في اتجاهاتها الفكرية ومدارسها

وكان ظهور العديد من البيانات والعرائض المشتركة أول إفرازات هذه التحولات الجديدة في مرحلة ربيع الإصلاح وعلى الرغم من تعدد هذه اللقاءات وحيويتها في البداية إلا أنه غلب عليها الواجهات الشخصية لأسماء محددة محمد سعيد طيب ، عبد الله الحامد على الدميني ، متروك الفالح .. إلخ .

عصر البيانات

كثيرا ما يحدث تداخل بين أنواع البيانات ودرجة تسييسها ومستوى نزعتها الإصلاحية ودرجة معارضتها عند السعوديين .. في التجربة السعودية هناك دائما فرق بين البيانات أو العرائض المعلنة التي تنشر في الإعلام مباشرة ، وبين السرية التي توجه للمسؤول بصورة غير علنية

وهذه السرية يمكن أن تأتي بدرجات مختلفة إما كمعروض تعارف عليه السعوديون في علاقتهم بالمسؤول عبر شكوى خاصة أو تظلم ، أو طلب مساعدة ، وتأتي غالبا بصورة شخصية ومن أعيان ، وأحيانا من مجموعة أسماء .

هذا العمل ليس فيه حساسية سياسية ، عندما يكون غير معلن وسريا ، وهو ما يعجب المسؤول به ويراه معبرا عن الولاء للدولة وغالبا لا تطرح هذه المعروضات شأنا عاما ، وإنما هموما خاصة بهم ، وهذا يجعلها غير مسيسة في نظر المسؤول

وعندما تنتقل إلى الشأن العام فإن الموضوع ينتقل إلى درجة أخري أكثر حساسية ما لم يكن له علاقة مباشرة به ومع ذلك لا توجد مشكلة طالما هو نوع من النصيحة السرية ، من علماء أو دعاة وإصلاحيين كما أشرنا سابقا ..

لكن عندما تنتقل إلى العلن المقصود من أصحابها ، وتنشر في الوقت نفسه الذي تقدم فيه دون تسريب من جهة خصم لهم ، هنا يتحول المعروض إلى عمل سياسي مباشر ينقله إلى وضع المعارضة أو الإصلاح ، ولكل خطاب أسلوب درجته الخاصة .

يتفق الكثيرون على أن استعمال البيانات والعرائض للإعتراض وطلب الإصلاح هو سلوك مدني متحضر ، ونوع من النشاط السياسي السلمي في التعبير عن الرأي ، بالرفض أو التأييد أو المطالبة .

وقد كتب الكثير عن هذه البيانات التي تصدر بين فترة وأخري وستلاحظ غياب الدقة في وضع هذه العرائض في سياقاتها الحقيقية ، ودرجة تسييسها واتجاهاتها نظرا إلى أن بعض هذه القراءات من خارج البيئة ، لهذا ستفقد القدرة على التمييز حول تفاصيل كثيرة .

لن أستعرض طويلا مضمون هذه البيانات والمذكرات لأن ذلك سأخذ حيزا كبيرا في الكتاب، لكن سأتوقف حول ملاحظات لم تذكرها الكثير من القراءات والمراجع التي كتبت عنها منذ عام 1990م

تمثل العريضة المدنية في كانون الأول (ديسمبر) 1990م التي اشتهرت باسم العريضة " المدنية " أو " العلمانية " في وقتها عند التيار الإسلامي وقد حررها الدكتور عبد الله مناع ، وساهم معه أيضا محمد سعيد طيب نقلا عن لقاء معه في قناة إل بي سي أيار (مايو 2009م) .

جاءت المذكرة في أجواء حرب الخليج وبعد أحداث ساخنة جدا كمظاهرة قيادة المرأة التي كانت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990م، ولهذا نظر إليها التيار الإسلامي (الصحوة) بنظرة مريبة مع أجواء التوتر والقلق والخوف من حدوث تغيرات تغريبية في البلد .. مع وجود قوات أجنبية في الخليج .

وأذكر أو ما سمعت بهذه العريضة في ذلك الوقت ، توقعت أنها مجرد مطالب سياسية حول الشورى وبعض الإصلاحات ، ولم أفهم لماذا كانت سمعتها سيئة عند نخب وتيار الصحوة في حينها وقلقهم منها

ثم عندما قرأتها لاحظت أنها تعرضت أيضا لقضايا حساسة عند التيار الإسلامي ، حول الإفتاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاحهما ، ومسألة المرأة وإتاحة الفرصة لها في المشاركة في الحياة العامة ، وهذا يفسر الإحساس بالمؤامرة عند التيار الإسلامي ، وهو ما دفعهم للبدء بمشروع خطاب المطالب ، ثم مذكرة النصيحة .

وهذه أبرز الملاحظات على محتوى هذه العريضة:

  • أن من قام بصياغتها لديه خبرة وحنكة في الكتابة السياسية ، فقد جاءت المطالبات في سياق مؤدب وراق من الولاء المحترم ، والتقدير للشريعة والأسرة الحاكمة ، وكانت جميع المطالب عقلانية وغير مستفزة ، حتى لأصحاب الرؤية المحافظة ، وكانت أكثر وضوحا ودقة من خطاب المطالب الذي قدمه الإسلاميون ، والذي تطوّر إلى مذكرة النصيحة .
  • بالنسبة إلى الأسماء الثلاثة والأربعين الموقعة على العريضة ، فلم تكن كثيرا جدا ومجرد تجميع عشوائي ، ما يفقدها رصانتها، وليست قليلة جدا، فكانت الأسماء مختارة بعناية ، وهناك عدة توجهات يغلب عليها الاعتدال في منهجها، وفيها أيضا كتاب وأسماء إسلامية مستنيرة، ومشهور عند تيار الصحوة (كأحمد محمد جمال ، وصالح محمد جمال) وفيها تنوع مناطقي معقول ، وكان ينقص هذه العريضة شيخ تقليدي قريب من المؤسسة الرسمية .

كان من مميزات هذه العريضة أنه لم يتم نشرها على نطاق واسع أو كمشور بعكس خطاب المطالب الذي انتشر وأصبح مستفزا للسياسي في حينها ، والمفارقة اللافتة أن بدايتها كانت تتضمن آيات وأحاديث أكثر من خطاب المطالب الذي وقع عليه علماء التيار الإسلامي !

خطاب المطالب .. ومذكرة النصيحة

سلم خطاب المطالب في 6 أيار (مايو) 1991 م ، أى بعد نحو ستة أشهر من خطاب العريضة المدنية ، وكان أهم اسم فاعل في إعداده هو الشيخ (عبد الله التويجري) حيث جمع نحو مئتي توقيع ، فجاء الخطاب بأسلوب رسالة شخصية

ولن البعض انتقد عموميته وعدم وجود أى مطلب محدد وواضح ، فقد تطور الخطاب في ما بعد إلى " مذكر نصيحة " وقد اشتغل على إعداد هذه المذكرة عدد من الشخصيات الإصلاحية منهم محسن العواجي وعبد العزيز القاسم ،وسعد الفقيه ، وقد تم عرضها بعد ذلك على عددمن طلبة العلم والدعاة ، كان منهم سلمان العودة ، وسفر الحوالي وعبد الله الجلالي . ىوعبد الله بن جبين

وأبرز ما جاء في مذكرة النصيحة من محتويات:

  1. الباب الأول: حديث عن دور العلماء ودورهم في الحياة وضرورة استقلالهم .
  2. الباب الثاني: تحدث عن أنظمة الدولة مع بعض التفاصيل حول أنظمة ذات أساس علماني في نظرهم .
  3. الباب الثالث: عن القضاء
  4. الباب الرابع : عن حقوق العباد (لم يحضر مفهوم المواطن في المذكرة)
  5. الباب الخامس : عن الاقتصاد .
  6. الباب السادس : في الجانب الاجتماعي ومظاهر الظلم والعنصرية .
  7. الباب السابع : حول الجيش .
  8. الباب الثامن : الإدارة .
  9. الباب التاسع : عن الإعلام
  10. الباب العاشر : عن السياسة الخارجية.

وأهم الأفكار في مذكرة النصيحة تدور حول إنشاء مجلس شورى وعرض اللوائح والأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية على أحكام لشريعة من خلال لجان شرعية ،وأنه يجب توفر في مسؤولي الدولة استقامة السلوك مع الخبرة في الاختصاص وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع في أخذ الحقوق وأداء الواجبات

كذلك الجدية في المتابعة ومحاسبة المسؤولين خاصة المناصب الفعالة ،وإقامة العدل في توزيع المال ،وإلغاء الضرائب وتخفيض الرسوم وإنشاء جيش قوى وإعادة بناء الإعلام بكافة وسائله وفق السياسية الإعلامية الإسلامية وأخلاقيات المجتمع

وبناء السياسة الخارجية لحفظ مصالح الأمة بعيدا عن التحالفات المخالفة للشرع .وتطوير المؤسسات الدينية والدعوية ودعمها وتوحيد المؤسسات القضائية ومنحها الاستقلال الفعلي ، وقد نشر ملخص لها في شريط انتشر اسمه " المدفع العملاق " لتسهيل نشره على نطاق واسع ، ونشرت مذكرة النصيحة في مجلة باريسية وقبل إنها سربت .

جاءت كثرة التوقيعات في خطاب المطالب من اسماء ذات مناصب رسمية حساسة بمن فيهم بعض أئمة الحرم ، نظرا إلى التزكية الأولية الشفهية التي قيلت في وقتها من الشيخين ابن باز وابن عثيمين ، وقبل أن تتطور الأمور ويتحول إلى منشور يوزع على نطاق واسع وتزداد حساسيته السياسية ، حدثت تراجعات سريعة ، وبغض النظر عن التطورّات في الحركة الإسلامية في حينها ،وأهدافها وردة فعل الدولة

فإنه يمكن تسجيل بعض النقاط هنا :

  • المتابع يستنتج مدى ضعف الحس والوعي السياسي عند تيار الصحوة لا في إدارة الأمور فقط ، حيث يبدو مجرد تأثر وردود أفعال في كل خطوة ومع كل مرحلة يحدث تصعيدا واستفزازا للسياسي وكان الناشطون يشعرون بالنشوة لإحراجهم للسلطة بصورة لا تدل على وعي ومسؤولية ، فلم يمارس هذا التصعيد وفق أداء عقلاني ومحدد الملامح وفق مطالب يمكن حصرها والتعامل معها كما هو في المذكرة المدنية التي تلمس فيها قدرا من المعقولية وإشعار السياسي بمسؤوليته التاريخية ، وقد تأسس مجلس الشورى بعد هذه المرحلة وبعض أعضائها من المطالين بذلك .
  • خطاب المطالب كانت مشكلته أنه ضعيف في محتواه ، وموجز جدا وليست المشكة في عمومياته ، وإنما في مضمونه السياسي ، حيث ظهر عدم قدرة محرر الخطاب على تقديم مضمون سياسي مؤثر ، فمقدمة الخطاب تخلو من أى توطئة سياسية لفكرة الخطاب والرؤية ، ويبدو أنه صيغ بعجلة كرد فعل على (الخطاب المدني) ثم إن المراقب يلحظ اللغة العمومية المبالغ فيها ، حيث كانت حريصة على ذكر كل شئ من مجالات البلد دون تحديد مطلب أساسي في المذكرة وله الأولية فبدا الخطاب وكأنه (انقلابي) ، وهو متأثر باللغة الدينية بطبيعتها الشمولية الهلامية السائدة.
  • ومن الواضح أنهم استمعوا لهذا النقد في حينها والملاحظات التي قيلت فتمت توسعته جدا بما يسمي " بمذكرة النصيحة " وحتى المذكرة المطولة التي اطلعت عليها في ذلك الوقت كانت ديللا آخر على ضعف الفكر السياسي وما قدمته هو مجرد " تمطيط " لمحتويات خطاب المطالب دون معالجة جوهرية ، نظرا إلى ضعف الثقافة السياسية عند نخب الصحوة من علماء ودعاة ومثقفين يغلب على المذكرة الصبغة الإسلامية .. وفي مجال المطالبة بإصلاح القضاء فإنه يختلف عن رؤية الإصلاح المدني المفترض ، وإنما معالجة تحفظات التيار الديني المبكرة على وجود محاكم ولجان قانونية .. مفصولة عن القضاء الشرعي .
  • إن محتويات خطاب المطالب والمذكرة كثيرة ، تلخص مشكلة الخطاب الإسلامي حول مفهوم الدولة والأنظمة السياسية حتى مع وجود من اشتغل منهم بالمحاماة ، أو حتى المتخصصين في العلوم السياسية من التيار الإسلامي .
  • فالواقع أن الضعف شديد في أرضية هذا الفكر سياسيا من نخب تيار الصحوة ومن المهم أن نشير هنا إلى مطلب اشترك فيه الخطاب "المدني" و"الإسلامي" في المذكرة المدنية ، ومذكرة النصيحة .

صيغة الخطاب الإسلامية جاءت كما يلي:

(إنشاء مجلس للشورى في الشؤون الداخلية والخارجية.. يتكون من أعضاء من أهل الاختصاصات المتنوعة المشهود لهم بالاستقامة والإخلاص ، مع الاستقلال التام من دون أى ضغط يؤثر في مسؤولية المجلس الفعلي) .

في المذكرة المدنية:

(الشروع في تكوين مجلس للشورى يضم نخبة أهل الرأي والكفاءة والعلم ، من المشهود لهم بالاستقامة والنزاعة ، المعروفين بالحيدة والخلق القويم ، ومتابعة العمل المتجرد للصالح العام في البلاد من مختلف مناطق السعودية ، ويكون من ضمن مسؤولياته دراسة وتطوير وإقرار النظم والقواعد المتعلقة بكافة الشؤون الاقتصادية والسياسية والتعليميةوغيرها ، والرقابة على أعمال وواجبات الأجهزة التنفيذية) وهنا نري كيف أن صياغة المذكرة المدنية في موضوع مجلس الشورى أكثر اتقانا وتحديدا للمهام .

لم يتحدث التيار الديني عن الانتخابات ويشير إليها وهي من القضايا التي كانت تمثل وعيا متقدما لم يصل إليه التيار السلفي وتيار الصحوة بعد في ذلك الوقت ، كما أنه حدث توقف للمطالب الإصلاحية منذ منتصف التسعينيات إلى ما بعد أحداث أيلول (سبتمبر) فلم يوجد حراك إصلاحي سياسي في هذه الفترة إلى 28 / 1/2003م حيث ظهر "خطاب الرؤية" وتم رفعه إلى ولي العهد .

جاء هذا الخطاب بعد أكثر من عشر سنوات ، ومرور العديد من المتغيرات وتأخر ظهوره بعد أحداث أيلول (سبتمبر) لأكثر من عام وهي مدة أطول بين تفاعلات حرب الخليج وظهور المذكرة المدنية التي جاءت بعد غزو الكويت بأربعة أشهر ، فقد أخذت أحداث أيلول (سبتمبر) تفاعلات سياسية خارجية وداخلية مع وجود الإنترنت والفضائيات مسارا أكثر حيوية ونضجا من مختلف الاتجاهات ، وارتفع الإحساس بالمسؤولية والوعي الوطني بصورة عامة.

قد تكون البيانات الأولي أنجزت مباشرة وجود مجلس الشورى فيما بعد ، والأخير أفرز مركز "الحوار الوطني " وأهم ما تميزت به هذه المرحلة هو التطور الذي حدث لأن مختلف التيارات الثقافية والمذهبية والمعارضة حدث بينها الكثير من التفاهم والتحاور والتنسيق في البدايات ، ما جعل السياسي يتعامل مع هذه الموضوعات بصورة أكثر تفهما وجدية .

في هذه المرحلة ظهر العديد من البيانات بل تحولت إلى موجة استخدمتها جميع التيارات بمن فيها تيار الصحوة ، والاتجاه السلفي حول المناهج ،وأيضا ظهرت بيانات تتعلق بمسائل خارجية كـ " غزو العراق ، أو بيان التعايش للحوار مع الآخر".

قبل غزو العراق وقبل أحداث 12 أيار (مايو) السعودية جاء بيانا " رؤية لحاضر الوطن ومستقبله " في 28 / 1/ 2003م ثم خطاب " دفاعا عن الوطن " في أيلول (سبتمبر) 2003 م بعد أحداث أيار (مايو) وإدانة للعنف وتأكيدا على مطالب " الدستورية " وهنا حدث انسحاب لبعض الموقعين في خطاب الرؤية وفسر ذلك بوجود اختلافات في التوجهات الفكرية أو ضغوط سياسية .

وبعد نحو عام جاء بيان " نداء إلى القيادة والشعب معا : الإصلاح الدستورى أولا " 16 كانون الأولي (ديسمبر) 2003م، حيث يشكرون فيه ولي العهد على استقبال العديد من دعاة الإصلاح في خطاب " الرؤية "

وفي هذه المرحلة قدم خطاب إلى وزير العمل في طلب ترخيص لإنشاء اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان وأهم الموقعين .. منهم : محمد سعيد طيب ، فايز صالح جمال ، عبد الله مناع ، عبد الله الجفري .

ثم مذكرة "شركاء في الوطن" وهي خطاب من المواطنين الشيعة وجهتها (450) شخصية من شيعة السعودية في عريضة رفعت إلى ولي العهد الأمير عبد الله في المطالبة بالاعتراف بالمذهب الشيعي ، والتمثيل السياسي .

أما "خطاب الرؤية " فتكمن أهميته أنه جاء في وقت ذهبي في أجواء الإصلاح ودشن ما سمي بربيع الإصلاح بعد سنوات من النقد الفكري ، ولم يظهر بسبب ردود فعل عاطفية

حيث جاء بعد وقت معقول نسبيا من الجدل والحوارات واللقاءات الفكرية من مختلف المناطق ،الأقاليم ، وكانت ذهنية السياسي متفهمة كثيرا لهذا الأجواء ، وسماع الآراء النقدية في الداخل والخارج .

وتميز خطاب الرؤية أنه واضح الملامح والمحاور ، ومرتب بصورة عقلانية ، وقد جاء قبل تفجيرات أيا (مايو) ولهذا لم يعتبر استغلالا لأحداث العنف ويربط سياسيا بالتفجيرات .

وقدم في هذا البيان أربعة محاور رئيسة وتحت كل محور بعض التفاصيل:

فالمحور الأول (والأساسي) : المطالبة بمزيد من الخطوات في بناء دولة المؤسسات الدستورية .
المحور الثاني: في سبيل حل المشكل الاقتصادي
المحور الثالث: في تقوية التفاعل بين المجتمع وقيادته .
المحور الرابع: حول إطلاق مبادرات إصلاحية .
المحور الخامس: دعوة إلى مؤتمر حوار وطني .

كان هناك تنوع كبير في الأسماء فكريا وسياسيا ودينيا وإقليميا ،وهو نادرا ما يحدث في موضوع سياسي حساس ، ففي أغلب البيانات تطغي فئة على أخرى ،فيصبح التنوع شكليا لا أكثر .

استفادت العريضة كثيرا من البيانات السابقة في التسعينيات كامتداد لها ، وقدمت مطالب ذات سقف أعلي . وكان أهم المطالب التي لم تذكرها مذكرات التسعينيات هي الدعوة لانتخابات مباشرة لمجلس الشورى ، ومجلس المناطق

وهذا المطلب على الرغم من أنه يمكن الاختلاف حول جدواه ، لكنه ليس صعبا في الذهنية السياسية الحالية بعد العديد من المتغيرات العالمية وانفتاح العالم فمن الصعوبة أن تتجاهل أى دولة أى نوع من الانتخابات مستقبلا ، ولهذا فعلا بدأت التجربة في الانتخابات البلدية .

وهذا الطلب ليس مثاليا أو غير عملي خاصة في مجلس الشورى الذي مهما حدث له من تطور في أدائه ، فإن قضية الانتخاب ستظل هاجسا مستقبليا لابد منه لتحسين صورتنا السياسية أمام العالم ، حتى لو لم تحدث ضغوطات داخلية

وبعد أكثر من عقد ونصف تبدو تجربة مجلس الشورى تحتاج إلى تطورات أخرى غير زيادة العدد ، ومن الأفضل أن تحدث دون ربطها بأحداث كبرى ، تفرض على المسؤول كما حدث في السابق ، حيث ربطت المتغيرات بأحداث مهمة .

أهم المسائل حساسية التي تناولها هذا البيان وكانت نقطة خلاف حتى بين بعض الموقعين ، وأدت إلى تراجع البعض منهم ، هي المسألة "الدستورية"

وهو مطلب اعتبر في نظر كثير من المراقبين بأنه متقدم جدا، وشبه انقلابي ويصعب تحقيقه ، في مثل هذه الظروف وبغض النظر عن تفاصيل الفكرة ، إلا أنها أثارت العديد من الآراء ، حتى إن الخطاب اشتهر بهذه المفردة "الدستوري" والموقعين "بالدستوريين"!.

وهو مطلب متقدم في الخطاب والمأسسة السياسية ، ويري البعض أنها أفسدت التدريجية المفترضة ،وأثارت قلق المسؤول من مسار الدعوات الإصلاحية وآخرون يرون أن رفع السقف سيتيح تطبيق ما دونه كتكتيك سياسي !

ولا أريد هنا تناول تفاصيل مطولة حول هذه القضية وفكرتها ، ورؤية معاصرة حول هذه الفكرة السياسية وكيفية تطبيقها في الحالة السعودية ، وهي حتى في أدني درجات تطبيقها ستكون ذات حساسية سياسية ، ستؤثر في مستقبل النقد الإصلاحي ، وربما تؤدي إلى تراجعات سلبية .

في المحور الخامس جاءت المطالبة بمؤتمر حوار وطني ، وهو ما تم إنجازه سريعا ، وقد نجح اللقاء الأولي إعلاميا والثاني في مضمونه قبل أن يفرغ من محتواه السياسي فيما بعد .

كانت مرحلة البيانات في الحراك الإصلاحي الذي حدث تعويضا عن فقدان الحالة السعودية أى مظاهر للعمل السياسي أو الاعتراض :

من مقاطعة أو تجمعات ، أو إضرابات ، أو مظاهرات في الشوارع ، أو انتفاضات ، أو وجود أحزاب ونقابات ، فقد تأكد حظر هذه الأنشطة من مرسوم صدر بتاريخ 11 حزيران (يونيو) 1956 م يحظر بموجبه تأسيس الأحزاب السياسية .
وفي هذه المرحلة بعد تزايد عدد البيانات بعد أيلول (سبتمبر) وتساهل الكثيرين في التوقيع عليها ، جاء التأكيد على قرار حول حظر المشاركة في هذه البيانات للموظف الحكومي

السياسي والاصلاح

" وقد تطابقت " نقاطه العشر " إلى درجة كبيرة مع مشروع الغرب القائم على مقولة " إعاقة " ، " وقطع الطريق " على الثورة .. " باكلوفليف

كيف تعاملت السياسة السعودية مع المعارضة ، منذ بداياتها ، ومع مختلف تياراتها الفكرية وتطوراتها !؟ سؤال على الرغم من أهميته إلا أنه لا توجد إجابات جاهزة يمكن الاتفاق عليها لكن هناك تصورات وملامح عامة وطبيعة ردة فعل كل مرحلة؛

ولقد كانت غالبية ردود الفعل للسياسي ناجحة في امتصاص هذه الأزمات ، والآثار السلبية التي أفرزتها ،وهناك بعض حالات الفشل والأخطاء التي أدّت إلى تطرات أسوأ كان يمكن تجاوزها .

يمكن الإشارة إلى أهم آليات التعامل مع تيارات المعارضة ، والمطالبات بالإصلاح أيا كان منهجها:

التجاوب مع بعض الأفكار والمطالب وفق المنهج والسياسة السعودية والتي شكلت أهم تقاليدها ،وخصائصها داخليا ، وخارجيا وهي درجة من المرونة الضرورية لأى سياسي ، لتجاوز الأزمات والمنعطفات التاريخية ..
وعندما نشير إلى الاستجابة هنا فهذا لا يعني التجاوب الفورى تحت الضغط والتهديد من أى قوة فالمعارضة لم تصل في جميع مراحلها إلى القدرة على فرض قرار أو منهج سياسي محدد بل كثيرا ما يحدث العكس ، فيتأخر أمر معين أ و يرفض مؤقتا خوفا من هذا التصور عند المجتمع .

نحن هنا نشير إلى ما حدث تاريخيا بعكس ما قد يتصوره بعض التقليدين من أن المعارضة دائما تقدم أفكارا فاشلة وغير جيدة ، أو أنها آراء مستحيلة التطبيق ، بل إن كثيرا من الآراء النقدية المبكرة ، كانت ضرورية لنقل المجتمع والدولة إلى مرحلة أخرى من حالة متأخرة إلى دولة حديثة

ومع أنه يعاب على كثير من تلك الآراء والأفكار أنها تطرح بصورة ثورية ، ما يشوه مضمونها مع أهميتها التحديثية في تنمية المجتمع ، ولهذا نلاحظ الكثير من الأشياء التي تم تعديلها وتطورت في الدولة منذ الخمسينيات والستينيات مرورا بالسبعينيات تم مراعاتها والتسريع بإنجازها لأهميتها

وأشياء أخرى تم تأجيلها ، وهناك مطالب أخري تأخرت وما زالت وذلك لظروف كل مرحلة ، لأن كل مرحلة لها حساسية سياسية أو دينية أو اجتماعية ولهذا السبب تراكم الكثير من المؤجلات .

أعلن الملك فيصل عام 1382 هـ 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1962م برنامجه المشهور "بالنقاط العشر" ويمثل هذا البرنامج في النقاط التالية

مما جاء فيه :

  1. العمل على إصدار نظام أساسي للحكم .
  2. إصدار نظام للمقاطعات .
  3. العمل على إصدار نظام يضمن استقلال القضاء مع إنشاء مجلس أعلي للقضاء ووزارة العدل ونيابة عامة للضرب على ايدي الظالمين والدفاع عن المظلومين .
  4. تأسيس مجلس للإفتاء يضم نخبة من خيرة الفقهاء والعلماء
  5. تقرير واجب السعودية في الدعوة لنشر الإسلام والدفاع عنه قولا وعملا .
  6. إصلاح أوضاع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
  7. النهوض بالمستوى الاجتماعي للأمة، وتكفل الدولة بالعلاج والتعليم وإعانات الاستهلاك ، وتوفير الضمان الاجتماعي وإحداث نظام للعمال ، وألا تطغي الدولة على الحريات الفردية والحقوق مع توفير وسائل التسلية للمواطنين .
  8. إصدار مجموعة من الأنظمة لتنظيم النشاط الاقتصادي بما يتفق مع الشريعة الخالدة .
  9. وضع برامج إصلاحية لإنعاش الحركة الاقتصادية كالطرق والمياه والزراعة والسدود والصناعة والمرافق العامة واستثمار المعادن .
  10. تحرير الرقيق وإلغاء الرق إلغاء مطلقا .
  11. (عبد الرحمن الزنيدي ، تطبيق الشريعة الإسلامية ، ص 307 -308) .

وقد تم تنفيذ الكثير من هذه النقاط بصورة أو بأخرى ، ولقد استطاع الملك فيصل تنفيذ الكثير من هذه المطالب في تلك المرحلة ، وهي مطالبات عصرية ، ومن ضرورات تشكل أى دولة حديثة .

كانت السياسة الفيصلية تمثل نهجا خاصا ومدرسة مميز ، حيث تأثرت به السياسة السعودية في ما بعد ، لفعاليته في الموازنة بين التحديث والمحافظة على التقاليد المحلية .. " فقد استهل الملك فيصل عملية التغيير الموجه عام 1962 م ببرنامج النقاط العشر ، الذي برر بمفاهيم إسلامية .." الياسيني ، الإسلام والدولة ، ص 123).

ونجحت السعودية أيضا في أهم سياسة وهي السياسة النفطية وعزلها عن حالة التسييس النضالي السائد في ذلك الوقت ، وحققت رغبات ومطالب بعض الآراء النقدية حول السياسة النفطية .

يري (باكو فليف):

" أن الثورة الاجتماعية هي المظهر المكشوف والأكثر حدة للصراع الطبقي ، إلا أن تنفيذها في السعودية قد جرى من فوق ، وأسهم النفط في تخفيف العديد من المصاعب والصدامات الطبقية القوية لم يعي الخصوم ولا دعاة التغيير بصورة كاملة مهامهم ، وهو ما نراه في نقاط فيصل العشر "
" وأن تناقض نظرة فيصل ذاته إلى الإصلاحات التي قام بها ، يؤكده ما قاله في عام 1973 م من " أن الثورة من الممكن أن تأتي من العرش ، بالضبط مثلما تأتي من تآمر المتآمرين "

نحن بحاجة إلى الكثير في بلدنا ولكن حاجتنا إلى الاستقرار أكبر لقد بدأنا من الأسفل ويجب علينا أن نبني ببطء .. لا يمكننا أن نصنع معجزة في ليلة واحدة "إن المغزي الموضوعي لحركة فيصل هو انتقال البلد إلى طريق التطور الرأسمالي " (ص 91) والكثيرون بدؤوا يدركون حكمة الفيصل وأهميته سياسته في نقل الدولة إلى مرحلة عصرية .

من المهم الإشارة إلى أن التجاوب للإصلاحات الضرورية يأتي كله وفق طريقة وأسلوب وتوقيت الحكومة ، وليس المعارضة بل في أحيان كثيرة يؤدي أسلوب المعارضة إلى توتير الأمر لقضية معينة ، وتأجيلها كثيرا فحقوق الإنسان كانت من المفاهيم شبه المحظور الحديث عنها في الثقافة التقليدية ، والإشارة إليها تتم أحيانا باعتبارها أفكارا قادمة من الغرب ، لقد كانت ذات حساسية زائدة ، وأحداث التسعينيات ونشأة لجنة الدفاع أضافت إلى القضية حساسية أخرى .

ولأن مسألة حقوق الإنسان من أساسيات الخطاب السياسي المعاصر ، ولا يمكن للدولة تأجيله إلى ما لا نهاية ، فقد أنشأت جمعية لحقوق الإنسان في آذار (مارس) 2004 ومن فوائد هذه الجمعية أنها خففت حساسية تداول مصطلح حقوق الإنسان في الصحافة والإعلام

وهو أهم منجزات هذه المرحلة ، مع أنها فرغت من مضمونها السياسي لدي الرؤية الشعبية والعامة فأصبحت الصحف تنشر مثل هذا النوع من الأخبار ، و" حقوق الإنسان " ترصد تعثر خدمات النقل الجوى في مناطق سعودية ، وتنصح " الطيران المدني " بدراسة الأمر وتقديم حلول ملائمة (جريدة الرياض ، 10 / 8/ 2008م) .

وبالنسبة إلى التعامل مع شخصيات المعارضة ،فالمنهج هو الاستقطاب والاحتواء للمعتدلين منهم أحيانا ، حيث كان هناك العديد من حالات الاحتواء والاستقطاب منذ الخمسينيات إلى مرحلة السبعينيات ، وإشراكها في مسيرة التنمية وأى مطلع على تاريخ الكثير من النخب الرسمية فإنه سيجد أن بعضها كان في مراحل مبكرة منخرطا في تنظيمات معارضة ومع ذلك استلم مناصب حساسة بعد احتوائه

كان لذلك أثر إيجابي في مسيرة التحولات والاستفادة من هذه الكفاءات ، وهو منهج يدل على مرونة سياسية واعتدال في توظيف الكفاءات التي احتاج إليها البلد في ذلك الوقت ، ولهذا شهدنا الكثير من الأفكار التي طرحت قد تحققت .

على أن مبررات الاحتواء والاستقطاب انتهت الآن ، للإستفادة ممن لديهم نزعات معارضة سياسية في العقود الأخيرة ، وبالذات منذ الثمانينيات ولم يعد ذلك موجودا إلا بصورة محدودة جدا .

ويمكن تفسير ذلك بأنه في مرحلة الخمسينيات والستينات كانت نسبة النخب المتعمة في المجتمع محدودة ، والدولة بحاجة إلى كفاءة الكثير من أبنائها ،وبالإضافة إلى وجود أنظمة أخرى قوية تنافس السعودية ،قد تستغل أبناءها وتستقطبهم وكانت في وضع أفضل من السعودية في جوانب تنموية واجتماعية في ذلك الوقت

لكن منذ الثمانينيات تراجع الكثير من قوى المعارضة وسقطت أنظمة وقوى كانت تدعمها ، وفي بالمقابل أصبحت الدولة في أقوى مراحل ما سمي بالحقبة السعودي إضافة إلى توفر أعداد كبيرة من المتعلمين والمتخصصين في كافة المجالات فأصبح العرض كبيرا .

إن السياسي لا يريد أن يجعل مثل هذا الأسلوب النفعي طريقا لتحقيق الأهداف الشخصية فكل من لم يحصل على منصب مناسب يلجأ إلى هذه الطريقة ولهذا راجت هذه الفكرة عند البعض بأن المعارضة في البداية قد تختصر الطريق لمنافعك الشخصية ،والتهديد بذلك

وبعد الشعور مؤخرا بفشل هذا الأسلوب عند بعض النخب ساد الخطاب النفاقي بطرق حديثة في التحايل ، وفي هذه الأجواء تضرّر الكثير ممن لديهم نزعات نقدية جادة وأدي ذلك ليس فقط إلى خسارة من يقدم خطابا نقديا ، وإنما تضخم لغة النفاق الفارغ ،وانخفاض مستوى النقد والرؤى الإصلاحية في الصحافة والإعلام .. وهو ما رفع من مستوى الأخطاء الإدارية والفساد .

الحديث عن المعارضة في ثقافتنا المحلية ما زال محكوما بالموقف السياسي أكثر من الرؤية الموضوعية فمن لديه موقف سياسي ضد المعارضة من حقه أن ينتقد خطاب المعارضة وشخصياتها لكن الذي يحدث لدينا أن الأسماء المنتمية للمعارضة ورموزها تكتسب حصانة خاصة حيث تواجه صعوبة في تناولها وتقييم أدائها !

فلا يتاح نقدها أو هجاؤها إلا بالطريقة السياسية المنمطة والتقليدية، وبحدود معينة ، ويواجه المثقف الناقد مشكلة حقيقية في التعامل مع شخصيات وإنتاج المعارضة الفكري والأدبي ونشاطها حيث يبدو الأمر مخالفا للشهامة عندما تنتقد هذه الشخصيات ، وأنه عمل انتهازي ونفعي حيث ستفسر في إطار المواجهات السياسية فقط !

ربما يكون هذا الموقف مفهوما للمثقف العقلاني بخصوصية التعامل مع شخصيات المعارضة في بداية ظهورها كمعارضة لكن عندما يمر زمن طويل على تجربتها وتتحدد ملامح شخصيتها وخطابها ،والموقف منها ، وفق رؤية شعبية ورسمية وثقافية ، فإن تقييمها وفق ظروف الحالة السعودية يبدو ضروريا لفهم واقعنا الفكري والاجتماعي والسياسي وتقيم كحالات ونماذج للوعي بأي ظاهرة .

ولا نجد منذ الخمسينيات إلى نهاية السبعينيات كحقبة تاريخية مهمة لشخصيات وأسماء قراءات نقدية لتلك التي تراجعت وانخرطت في مشروع التنمية أو التي استمرت في معارضتها ، ولا نجد المذكرات الشخصية التي تنقل حقيقة هذه التجارب الشخصية فالذين تراجعوا حذفوا هذا الجانب من حياتهم بحيث لا يتم المرور عليها إلا بصورة موجزة والذين استمروا فشلوا في تدوين التجربة .

هناك جانب معرفي وفكري في قراءة الشخصيات الناجحة أو الفاشلة أحدث تأثيرا إيجابيا أو سلبيا ، فيتم التعامل وتقييم تجاربها بوعي وعقلانية مع تهميش الموقف القيمي أو السياسي الشخصي منها ،وعندما نتناول شخصيات انخرطت في العنف السياسي على سبيل المثال ، وأصبحت قيادية في تيارات وأحزاب ..

كشخصية بن لادن ، فإن موقفنا الشخصي من العنف وإدانته يجب ألا يؤثر في علميتنا في تقييم سيرة وتحولات مثل هذه الشخصية وغيرها وللأسف أختفي من إعلامنا المحلي هذا الجانب فهمش الجانب الفكري والمعرفي في دراسة وتأمل النجاحات والانحرافات لبعض الشخصيات تحت تأثير الموقف منه على الرغم من أنه يمكن توظيفه لزيادة الوعي في مجتمعنا وتحصين الأجيال من المراهقات العبثية .

في العقدين الأخيرين ظلت المعارضة الإسلامية هي الأقوى حضورا بعد تراجع الاتجاهات القومية واليسارية ،وهناك نماذج كثيرة لشخصيات المعارضة في التيارات الأخري خاصة من الشيعة ربما نتوقف عندها مستقبلا ، ما لا حظته كمتابع أن المعارضة السنية والنجدية لا تنطلق وتتطور إلا من خلال تجربة شخصية وظروف فردية خاصة بها ، بعكس المعارضات الأخري مذهبية أو إقليمية التي تنطلق من تراكمات غير فردية !

إن عملية الإصلاح والتغيير ضرورة متفق عليها عند العقلاء والمعتدلين ، حتى إن كان هناك اختلاف في الدرجة والنوعية والتوقيت والاتجاه الفكري .. إلخ .. ولو وجد هناك تعارض في المصالح والحسابات ، ولهذا فمن حسن الحظ أن هناك نجاحات كثيرة في السياسة الداخلية تجمع بين المرونة والحزم ساعدت على الاستقرار الطويل ونجاح مسار التنمية في السعودية حتى مع وجود بعض الأزمات الداخلية والإقليمية .

كثيرون يتصورون أن السعودية تجاوزت الكثير من الأزمات بالقوة الأمنية فقد وليس التكيف والمرونة السياسية ، وقدر من التغيير الحقيقي الذي حصل وساعد على هذا الاستقرا الكبير كان نتيجة التجاوب مع مطالب الإصلاح ، وبما أن هناك أهمية للأصوات التي تدعم وتشيد بهذه النجاحات فإن الأصوات الناقدة كانت أيضا ذات فائدة من زاوية أخري .

إن بعض النخب الرسمية تحاول تصوير النجاح على أنه جاء من خلال الثبات فقط ، وليس المرونة والتغيير السياسي مع متطلبات كل مرحلة ، قد نتأخر وقد تتغير بحدود ضعيفة لكن التغيير يحدث في مجالات متعددة وهذا من أهم عوامل نجاح التجربة السعودية في امتصاص الأزمات ، وضرورة التحولات مع المتغيرات العالمية .

لم نعد مثل هذه المسائل بعيدة عن القارئ بعد مرحلة الانترنت فهناك جيل كبير من أبناء جوجل (Google) كثيرا ما تطلع على آراء المعارضة والتطرف بكل أنواعه في معرفات المنتديات وفي الموقف منها ، فلم تعد هذه الآراء سرية

ولهذا فهي تتسرب وتنشر أكثر من السابق دون أن يعي الكثيرون الإطار التاريخي لها فبعضهم يكرر أخطاء سابقة وفاشلة ، وآخرون يتورطون في اتجاهات سرعان ما يكونون ضدها بعد أن يغرر بالكثيرين من شباب المجتمع ، ولهذا وجدت أن من الضروري تناول بعض هذه القضايا هنا .