د. توفيق الواعي يكتب: الجواسيس أحبابنا!!
د. توفيق الواعي
عشنا ونحن صغار إذا سمعنا كلمة "جاسوس" اقشعرت أجسادنا هلعًا من هذا الاسم البغيض، واشمأزت نفوسنا احتقارًا لهذا المجرم الأثيم، وأخذت مخيلتنا تسبح في آفاق التصور، تجسد لنا مخلوقًا أشبه بالشيطان، وأقرب إلى الأبالسة، كريه المنظر، مشوَّه الخلقة، يُرمز به إلى ذلك اللعين الذي يسمَّى جاسوسًا.
وأذكر في حرب فلسطين سنة 1948 م أن الناس رأوا رجلاً أشقر يسير في كفر النحال في مديرية الزقازيق، ونحن طلاب في المعهد الديني وقتها، وكنا نسكن في هذا (الكَفْر)، فظن رجل من البلدة أن هذا الرجل الأشقر جاسوس؛ لأنه يسير بجانب محطة السكة الحديد، ويلتفت يمينًا وشمالاً، فنادى بأعلى صوته: جاسوووس، فما كاد ينطَق بتلك الكلمة حتى كأن السماء أمطرت رجالاً ونساءً وأولادًا، يجرون وراء الرجل، ويصيحون به: جاسوووس، وما كاد الرجل الأشقر المسكين يسمع تلك الكلمة حتى هرول يجري مسرعًا من الخوف والذعر، ولكن أنَّى له أن يفلت من هذا السيل الجارف من الناس؟!
وصار الناس يرمونه بكل ما يقع تحت أيديهم، فأحدهم يرميه بحذائه، ومن لم يكن يلبس حذاء يرميه بما يقع في يده، حتى رأيت رجلاً يرميه بصحن الفول الذي في يديه، وامرأة تبيع الطماطم ترميه بكفة الميزان، وأخرى بـ(السنج)، وثالثة بالمشنة، ورأيت شرفات المنازل كلها، وقد مُلِئت بالناس تمطره بكل ما يقع تحت أيديها بالقلل (القناوي) وبالقباقيب، وكان يومًا مشهودًا، ما رأيت مثله حماسًا أو هياجًا حول إنسان.
وبعد جهد جهيد دخل المسكين إلى محلِّ بقالة، فكاد المحلّ أن يهدم فوق صاحبه، لولا أن الشرطة سارعت لتدارك الموقف وأخْذ الجاسوس لاستجوابه؛ علَّها تعثر من ورائه على أعوانه، وأفهمت الناس أن أخْذَه حيًّا أفضل للبلد من موته، واقتنع الناس بعد ذلك بصعوبة؛ على شرط أن يروا هذا الإنسان ويبصقوا في وجهه، ولو بصقت هذه الألوف، بل الملايين التي تجمَّعت في منظر غريب، في وجه هذا الرجل وعلى جسده لسبح في بركة من البُصاق، وفعلاً أخرجت الشرطة الرجل ليركب عربتها، ورأيت البصاق ينطلق من الساحات التي تموج بالناس، وكأنه رمي الجمار عند إبليس، لا بل يدانيه أو يماثله.
وبعد أن حقَّقت معه الشرطة وجدته رجلاً مسكينًا من مديرية الغربية القريبة من الزقازيق؛ ضاع منه ولده وهو يبحث عنه، ويلتفت يمينًا وشمالاً عله يعثر عليه، وشاء حظُّه العاثر أن يقع له ما وقع، ولكنه وجد ولده الذي كان يبحث عنه يجري مع الناس وينادي كما ينادون على الجاسوس الذي لم يتمكَّن من رؤياه في وسط الزحام، حتى رآه في يد الشرطة، فعقدت الصدمة لسانه، وانطلقت دموعه، ولكنه نادى بعد الصدمة صائحًا: (أبويا يا ناس، أبويا يا ناس)، فكان منظرًا لا يُنسى.
كانت وطنية.. وكانت حِمية.. وكان شرف.. وكانت تضحية، وكانت رجولة وشهامة طبيعية فطرية، لا يتكلَّفها الناس، ولا يحاول أحدهم أن يتصنَّعها، أو يزايد بها، أو يمثلها ليخفي جرائمه وآثامه، وكان يستحيل أن يوجد بين الناس خائن لبلده، أو بائع لوطنه، أو صنيعة لعدو أو مستعمر، كان الشعب سليمًا من هذه الأمراض، معافى من هذه العلل، وكان معظم الجواسيس الذين تضبطهم الدولة من الأجانب والغرباء عن العرب والمسلمين، فضلاً عن أهل البلدة أو القطر، ومن يُضبط من هؤلاء يكون مصيره معلومًا، وهو الإعدام للخيانة العظمى.
ولكن ويا للحسرة.. قد تغيَّرت الأحوال، وتبدَّلت الأيام عن سالف العصر والأوان، فانقلبت بعض الأنظمة، وقد انشغلت بالشعوب التي لم تستطع أن تتفاهم معها على خطة للإصلاح، أو حتى كلمة سواء يُسمع فيها لقصير أمر إلى مرتع للجواسيس.
ولم تستطع تلك الأنظمة أن تكتشف في العصر الحديث جاسوسًا واحدًا (حقيقيًّا) أو مخربًا واحدًا (أجنبيًّا) يدان بهذه التهم البشعة لصالح "إسرائيل" أو أمريكا أو حتى روسيا، برغم آلاف السياح.. عفوًا (الجواسيس) والخبراء، عفوًا (المخربين) الذين يتسكعون في العواصم العربية، وحتى في أعماق الريف والبوادي والنجوع تحت سمع السلطة وبصرها، وأعين مباحث أمن الدولة ومخابراتها العامة والعسكرية، مع العلم أن الجميع يعلم وعلى أعلى المستويات أن "إسرائيل" ومن وراءها لا تنقصهم المعلومات عن أي الجيوش تسليحًا وعددًا وعدةً، بل أكثر من ذلك أن بعض هؤلاء الجواسيس وصل بهم الأمر إلى إلقاء القبض على من يريدون من أبناء البلد، ويديرون معه التحقيق بل ويقتلونه إذا لزم الأمر، أو يأخذونه إلى ديارهم، يفعلون به ما يشاءون، ويتهمون به من يشاءون بالحق أو الباطل، ولا يحرِّك هذا نخوة في أحد، أو وطنية وحمية في إنسان!!، بل قد نطالب نحن بمطاردة أبنائنا هنا وهناك والتحذير منهم واتهامهم والتحريض عليهم.. إلخ.
وقد رأينا وسمعنا وما كان يخطر ببالنا هذا أن كثيرًا من أبناء البلاد يعمل الآن علنًا لصالح دول أجنبية، ويأخذ بهذا حظوة، ويتقلد المناصب، عملاً بقولهم: (اذكرني عند ربك)، بل لا نكون مبالغين- وهذا أمر قد نشر واستفاض- إذا ذكرنا أن بلدة واحدة في فلسطين المحتلة كان فيها 4 آلاف جاسوس لـ"إسرائيل" من أهلها، وقد ضمنت لهم "إسرائيل" بعد أن آلت البلدة إلى حكم عرفات المناصب والحماية والمراكز الرفيعة، وانقلب الجاسوس إلى شريف وسيد ومتحكم وحامٍ للذمار، ووطني، لأن وراءه ظهرًا وبطنًا وصدرًا، وهو "إسرائيل".
أما الوطني المجاهد الشريف العظيم الحر، فإنه الإرهابي الجائع المحارَب المسجون المطارَد، المقتول الذي هو شغل الدولة الشاغل، وسلعتها التي تُباع وتُشترى لإرضاء "إسرائيل" وكل ما هبَّ ودبَّ، وليس له ظهر، فقد قصم ظهره، ولا بطن، وقد بُقِرت بطنه، ولا صدر، وقد مُزِقَ بالرصاص صدره، في دنيا صارت الجواسيس أحبابًا وأصحابًا، وصارت العمالات والتبعيات قربات ووطنيات، ودرجات وتجليات وحظوات.
المصدر
- مقال:د. توفيق الواعي يكتب: الجواسيس أحبابنا!إخوان أون لاين