كيف تسهم الأعمال التجارية بالمستوطنات في انتهاك إسرائيل لحقوق الفلسطينيين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
كيف تسهم الأعمال التجارية بالمستوطنات في انتهاك إسرائيل لحقوق الفلسطينيين


(يناير/كانون الثاني 19, 2016)

ملخص

في أعقاب احتلال إسرائيل العسكري للضفة الغربية في يونيو/حزيران 1967، ومباشرة تقريبا، شرعت الحكومة الإسرائيلية في إنشاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن البداية كانت الشركات الخاصة ضالعة في سياسات إسرائيل الاستيطانية، بالاستفادة منها والمساهمة فيها. يستعرض هذا التقرير بشكل تفصيلي أساليب مساعدة شركات إسرائيلية ودولية في بناء مجتمعات الاستيطان وتمويلها وخدمتها وتسويقها. وفي حالات عديدة تقوم الشركات هي نفسها بالاستيطان، إذ تنجذب لاتخاذ مقرات داخل المستوطنات، لأسباب منها انخفاض الإيجارات والشرائح الضريبية المواتية، والدعم الحكومي، والنفاذ إلى العمالة الفلسطينية الرخيصة.[1]

بل إن البصمة المادية للنشاط التجاري الإسرائيلي في الضفة الغربية هي في الواقع أكبر حجما من المستوطنات السكنية، فعلاوة على المراكز التجارية داخل المستوطنات، يوجد في الضفة الغربية ما يقرب من 20 منطقة صناعية ذات إدارة إسرائيلية، تغطي نحو 1365 هكتارا من الأرض، ويشرف مستوطنون إسرائيليون على زراعة 9300 هكتار من الأراضي الزراعية. أما المساحة المبنية للمستوطنات السكنية، بالمقارنة، فهي تغطي 6000 هكتار (رغم أن حدودها البلدية تشمل مساحة أكبر بكثير).



تنتهك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية قوانين الاحتلال. فاتفاقية جنيف الرابعة تمنع دولة الاحتلال من نقل مواطنيها إلى أراض تحتلها، ومن نقل أو تهجير سكان الأرض المحتلة داخل البلاد أو خارجها. نصّ نظام روما الأساسي، وهو المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، على ولاية المحكمة على جرائم الحرب، بما فيها جرائم نقل جزء من السكان المدنيين لدولة احتلال إلى أرض محتلة، والنقل القسري لسكان الأرض المحتلة. وتختص المحكمة الجنائية الدولية بالجرائم المرتكبة على تراب دولة فلسطين أو انطلاقا منه، الدولة التي هي الآن عضو في المحكمة، بدءا من 13 يونيو/حزيران 2014، وهو التاريخ الذي حددته فلسطين في الإعلان المصاحب لانضمامها.

كما أن مصادرة إسرائيل للأراضي والمياه والموارد الطبيعية لصالح المستوطنات وسكان إسرائيل تشكل انتهاكا للائحة لاهاي لسنة 1907، التي تحظر على دولة الاحتلال مصادرة موارد الأرض المحتلة لمصلحتها الخاصة. يضاف إلى هذا أن مشروع إسرائيل الاستيطاني ينتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبوجه خاص سياسات إسرائيل التمييزية تجاه الفلسطينيين التي تكاد تحكم جميع جوانب الحياة في المساحة الخاضعة لسلطة إسرائيل الحصرية من الضفة الغربية، والمعروفة بالمنطقة "ج"، والتي تعمل على تهجير الفلسطينيين بالقوة بينما تشجع نمو المستوطنات اليهودية.

كما يوثق هذا التقرير ترى هيومن رايتس ووتش أن الشركات تساهم في واحد أو أكثر من تلك الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني والانتهاكات الحقوقية، بحكم نشاطها التجاري مع المستوطنات أو بداخلها. وتعتمد شركات المستوطنات على مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي وغيرها من الموارد الفلسطينية، أو تستفيد منها، فتسهل عمل المستوطنات وتناميها. كما أن الأنشطة المتصلة بالاستيطان تستفيد استفادة مباشرة من سياسات إسرائيل التمييزية في تخطيط المناطق الحضرية، وتخصيص الأراضي، والموارد الطبيعية، والحوافز المالية، والنفاذ إلى الموارد والبنى التحتية. وتؤدي هذه السياسات إلى التهجير القسري للفلسطينيين، ووضعهم موضع الاستضعاف في مواجهة المستوطنين. لقد أضرت قيود إسرائيل التمييزية المفروضة على الفلسطينيين بالاقتصاد الفلسطيني وتركت كثيرين من الفلسطينيين معتمدين على العمل في المستوطنات ـ الاعتماد الذي يعود مؤيدو الاستيطان للاستشهاد به لتبرير النشاط التجاري الاستيطاني.



ينتظر من الشركات، وفق المعايير الدولية المصاغة في مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، أن تولي حقوق الإنسان العناية الواجبة في التعرف على ما يساهم في الانتهاكات الحقوقية والتخفيف منه، لا في أنشطتها فقط بل أيضا في أية أنشطة ترتبط بها مباشرة من خلال علاقاتها التجارية. وينتظر منها أيضا أن تتخذ خطوات فعالة لتجنب الأضرار الحقوقية المحتملة أو جبرها ـ وتدارس إنهاء النشاط التجاري حيثما تعذر تجنب العواقب الحقوقية السلبية الجسيمة أو جبرها.

بناء على نتائج هذا التقرير، ترى هيومن رايتس ووتش أن من شأن أية عناية واجبة أن تبين أن الأنشطة التجارية التي تتم في المستوطنات الإسرائيلية أو في اتصال بها إنما تساهم في الانتهاكات الحقوقية، وأن الشركات عاجزة عن تجنب أو جبر المساهمة في تلك الانتهاكات طالما مارست تلك الأنشطة. وترى هيومن رايتس ووتش أن سياق تلك الانتهاكات الحقوقية التي تساهم فيها الأنشطة التجارية في المستوطنات هو من التفشي والحدة بحيث يتوجب على الشركات التوقف عن ممارسة الأنشطة داخل المستوطنات أو لصالحها، من قبيل بناء الوحدات السكنية أو البنى التحتية، أو القيام بجمع المخلفات وخدمات دفنها. وعليها أيضا التوقف عن تمويل المستوطنات أو الأنشطة والبنى التحتية المتعلقة بالاستيطان، أو إدارتها أو الإتجار معها أو دعمها بأي شكل آخر.

لا تدعو هيومن رايتس ووتش إلى مقاطعة المستهلكين لشركات المستوطنات، وإنما إلى أن تلتزم الشركات بما عليها من مسؤوليات بمجال حقوق الإنسان، وأن تكفّ عن الأنشطة المتعلقة بالمستوطنات. كما يجب أن تُتاح للمستهلكين المعلومات التي يحتاجونها، من قبيل من أين يأتي المُنتج، لكي يتخذوا قرارات الشراء عن علم وبيّنة.

يستعين هذا التقرير بدراسات حالة نموذجية لتسليط الضوء على 4 مجالات رئيسية تساهم فيها شركات الاستيطان، في رأي هيومن رايتس ووتش، في انتهاك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتستفيد من تلك الانتهاكات: التمييز؛ ومصادرة الأراضي وفرض القيود عليها؛ ودعم البنى التحتية للاستيطان؛ والانتهاكات العمالية. ودراسات الحالة المذكورة لا تمثل بالضرورة أسوأ نماذج للنشاط التجاري الاستيطاني، لكنها تدلل على كيفية ارتباط الشركات العاملة في المستوطنات، على نحو لا فكاك منه، بواحد أو أكثر من تلك الانتهاكات.

كيف تساهم الشركات في التمييز وتستفيد منه

تمارس إسرائيل في الضفة الغربية نظاما ثنائي الطبقات يقدم معاملة تفضيلية للمستوطنين الإسرائيليين اليهود، بينما يفرض شروطا قاسية على الفلسطينيين. وتطبق المحاكم الإسرائيلية القانون المدني الإسرائيلي على المستوطنين، فتقدم لهم تدابير الحماية والحقوق والمزايا القانونية التي لا يتمتع بها جيرانهم الفلسطينيون، الخاضعون للقانون العسكري الإسرائيلي، رغم أن القانون العسكري، بموجب القانون الدولي الإنساني، يحكم أية أراض محتلة بصرف النظر عن الجنسية. وتنسحب معاملة إسرائيل التفضيلية للمستوطنين على جميع جوانب الحياة في الضفة الغربية تقريبا، فمن جهة، توفر إسرائيل للمستوطنين، ولشركات الاستيطان في أحيان عديدة، الأرض والمياه والبنى التحتية والموارد والحوافز المالية، لتشجيع نمو المستوطنات. ومن جهة أخرى تقوم إسرائيل بمصادرة الأراضي الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين قسريا وتفرض القيود على حريتهم في التنقل، وتمنعهم من البناء في كامل مساحة الضفة الغربية عدا 1 بالمئة منها، بموجب السيطرة الإدارية الإسرائيلية، كما تفرض قيودا صارمة على حصولهم على الماء والكهرباء.

في 2010 نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرا بعنوان "انفصال وانعدام للمساواة"، يوثق التمييز الإسرائيلي الممنهج بحق الفلسطينيين لصالح المستوطنين. وجد التقرير أن أثر تلك السياسات على الفلسطينيين كان في بعض الأحيان يرقى إلى مصاف النقل القسري للسكان المقيمين تحت الاحتلال، حيث يضطر العديد من الفلسطينيين، العاجزين عن بناء منزل أو كسب العيش، للانتقال إلى مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية، أو للهجرة خارج الضفة الغربية برمتها. ويبني هذا التقرير الجديد على نتائج هيومن رايتس ووتش السابقة، فيدرس كيفيات الارتباط العميق بين شركات المستوطنات وسياسات إسرائيل التمييزية.

في رأي هيومن رايتس ووتش، تساهم شركات المستوطنات، بحكم تسهيلها لنظام الاستيطان، في النظام التمييزي الذي تتبعه إسرائيل لصالح المستوطنات. كما تستفيد تلك الشركات بشكل مباشر من هذه السياسات بطرق يتخطاها الحصر. يصف التقرير اثنتين من تلك الطرق: إحداهما هي الحوافز المالية والتنظيمية التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية لشركات المستوطنات، ولكن ليس للشركات الفلسطينية المحلية، بغرض تشجيع التنمية الاقتصادية للمستوطنات، أما الأخرى فهي النهج التمييزي الذي تتبعه الإدارة المدنية، وهي وحدة الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن الشؤون المدنية في الضفة الغربية، في إصدار تصاريح البناء والتشغيل لشركات المستوطنات، في كثير من الأحيان على أراض تمت مصادرتها أو نزعت ملكيتها من فلسطينيين في خرق للقانون الدولي الإنساني، بينما تفرض قيودا مشددة على تلك التصاريح للشركات الفلسطينية. ومن ثم ترى هيومن رايتس ووتش أن الشركات التي تعمل في المستوطنات أو معها ترتبط على نحو لا فكاك منه بمعاملة إسرائيل التمييزية والتفضيلية للمستوطنات على حساب الفلسطينيين، وتستفيد من تلك المعاملة.

يقارن التقرير، كمثال دال، بين ظروف تشغيل مقلع حجر في الضفة الغربية تمتلكه وتديره شركة أوروبية، وظروف تشغيل مقالع فلسطينية الملكية في بلدة بيت فجر بالضفة الغربية. فبينما أصدرت إسرائيل تصريحا للشركة الأوروبية للعمل في مقلع على مساحة من الأرض كانت إسرائيل قد أعلنت أنها ملك الدولة، رفضت إسرائيل إصدار تصاريح لجميع مقالع بيت فجر التي يبلغ عددها 40 أو نحو ذلك تقريبا، أو لأي مقلع فلسطيني الملكية في منطقة الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة إسرائيل الإدارية. ويقدر البنك الدولي أن الحظر الفعلي الذي تفرضه إسرائيل على إصدار تصاريح المقالع لفلسطينيين يكلف الاقتصاد الفلسطيني ما لا يقل عن 241 مليون دولار أمريكي سنويا. لكن إسرائيل رخّصت لـ 11 مقلعا استيطانيا في الضفة الغربية، رغم انتهاك هذا الاستغلال لموارد في أرض محتلة للقانون الدولي الإنساني.

تنص المادة 55 من لوائح لاهاي لسنة 1907 على إخضاع الأراضي المحتلة لقواعد الانتفاع. والتفسير المقبول عموما لهذه القواعد لا يسمح لدولة الاحتلال بالاستيلاء على موارد الأرض المحتلة إلا لصالح السكان المحميين أو إذا بررته الضرورة العسكرية. ومع ذلك فإن مقالع المستوطنات تسدد لبلديات المستوطنات والإدارة المدنية رسوما لا يمكن الدفع بأنها تفيد الشعب الفلسطيني، وتبيع 94 بالمئة من المواد التي تنتجها لإسرائيل أو لمستوطنات إسرائيلية، في انتهاك لتلك القواعد.

كيف تساهم الشركات في مصادرة الأراضي والقيود المفروضة عليها أو تستفيد منها

يصف هذا التقرير أيضا كيفية اعتماد شركات المستوطنات على مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنات، ومساهمتها فيها واستفادتها منها، إذ أن بعض شركات المستوطنات تعمل في مستوطنات سكنية، أو توفر لها الخدمات، بينما تعمل أخرى في "مناطق صناعية" مبنية خصيصا لشركات المستوطنات.

تعتمد مثل هذه الشركات ابتداء على مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي الفلسطينية لبناء المستوطنات. بناء على نتائج هذا التقرير، ترى هيومن رايتس ووتش أنه من خلال تسهيل التنمية السكنية للمستوطنات، تساهم تلك الشركات أيضا في مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية وفرض القيود على وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم، وتهجيرهم القسري من تلك الأراضي. ويسلط التقرير الضوء على حالة "آرييل"، المستوطنة التي بدأت إسرائيل في إنشائها في 1978. لقد صودرت الـ 4615 دونما من الأرض (462 هكتارا) التي بنيت عليها آرييل في البداية بأمر عسكري لأغراض أمنية مفترضة. وفي العقود التالية شيدت إسرائيل 3 جدران أمنية حول المستوطنة، يضم كل منها المئات من الدونمات الإضافية من أراضي الفلسطينيين الزراعية الخاصة.

يفحص التقرير دراستي حالة دالتين – مصرف وشركة عقارات – ناشطتين في آرييل؛ للتدليل على كيفية قيام الشركات بتمويل سوق الإسكان في المستوطنات غير المشروعة، وتنميتها والتربح منها، على أراض صودرت من الفلسطينيين. تنشط مصارف وشركات عقارية أخرى كثيرة في المستوطنات، وتركيزنا على هاتين الحالتين هو لغرض التوضيح فحسب وليس اختيار الجهتين مقصودا بصفته ينطوي على إشكاليات تقتصر عليهما.

تبحث دراسة الحالة الأولى في دور مصرف إسرائيلي يموّل إنشاء مجمع من 6 مبان في آرييل باسم "آرييل الخضراء". يموّل المصرف المشروع ويوفر الرهن العقاري للمشترين الإسرائيليين هناك وفي مستوطنات إسرائيلية أخرى. يعلن موقع البنك الإلكتروني أيضا عن البيع المسبق لشقق في عدة مبان أخرى تحت الإنشاء في مستوطنات. هذا مثال واحد لنموذج تتبعه عدة مصارف في تمويل الإنشاءات والبناء في المستوطنات أو توفير الرهن العقاري للمستوطنين.

أما العمليات الخاصة بشركة عقارية عالمية (مقرها الولايات المتحدة) فهي دراسة حالة أخرى تبرهن على ضلوع الشركات التجارية في سوق الإسكان الاستيطاني. مثل شركات العقارات الأخرى، فإن الفروع الواقعة داخل إسرائيل تعرض للبيع والإيجار عقارات في آرييل ومستوطنات أخرى، كما أن لها فرعا في مستوطنة معاليه أدوميم.

من خلال المساهمة في مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي والاستفادة منها، تعمل عمليات التمويل والبناء والتأجير والبيع والاستئجار الخاصة بأعمال تجارية مثل المصارف والشركات العقارية على مساعدة الاستيطان غير المشروع في الضفة الغربية على العمل كسوق إسكان مستدامة، وتمكين الحكومة من نقل المستوطنين إليها.[2] وبهذا – في تقدير هيومن رايتس ووتش – فالشركات التي تضطلع بأدوار في سوق الإسكان بالمستوطنات تساهم في انتهاكين منفصلين للقانون الدولي الإنساني: الحظر المفروض على قيام دولة احتلال بمصادرة أو نزع ملكية موارد الأرض المحتلة لمصلحتها الخاصة، والحظر المفروض على نقل سكانها المدنيين إلى أراض محتلة. وعن طريق الاستفادة من النفاذ التفضيلي إلى الأرض والحوافز المالية، مقابل ممارسة نشاط تجاري في المستوطنات، تستفيد هذه الشركات أيضا وعلى نحو مباشر من تمييز إسرائيل غير المشروع تجاه الفلسطينيين.

تعتبر مصادرة إسرائيل للأراضي لصالح المستوطنات وشركاتها انتهاكا القانون الدولي، بغض النظر عن كون الأرض فيما سبق مملوكة ملكية خاصة، أو من "أراضي المتغيبين" أو ما يسمى بـ"أراضي الدولة". والشركات العاملة على هذه الأراضي المصادرة دون وجه حق ترتبط على نحو لا فكاك منه بالانتهاكات المستمرة التي تؤبدها تلك المصادرات.

في حين تدّعي إسرائيل أن التزاماتها الخاصة بحقوق الإنسان لا تمتد إلى الأراضي المحتلة، فقد دحضت "محكمة العدل الدولية" – تصديقا على موقف "لجنة حقوق الإنسان" بالأمم المتحدة – الموقف الإسرائيلي بناء على أسانيد مفادها أن التزامات الدولة تمتد لأية أراضي تخضع لسيطرتها الفعلية. كما تؤكد إسرائيل – بالخطأ – أن نهي الاتفاقية سلطة الاحتلال عن "ترحيل أو نقل بعض سكانها إلى الأراضي التي تحتلها" لا ينطبق على الانتقال الطوعي. المعنى المباشر للمادة 49 من اتفاقية جنيف – التي تشير فحسب إلى "النقل" لكن تشير إلى "النقل القسري" في سياق حظر مختلف ورد بنفس المادة لكن في فقرة مغايرة – وتعليق "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" عليها، يناقضان هذا الموقف.

كيف تدعم الشركات البنى التحية للمستوطنات غير المشروعة

تؤدي الشركات أيضا دورا حيويا في إدامة المستوطنات، ولذا فهي تسهل الانتهاكات الإسرائيلية لما يفرضه القانون الدولي من حظر على قيام دولة احتلال بنقل مدنييها إلى أراض محتلة وتستفيد منها، وتساهم في سياسات إسرائيل التمييزية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية. إن الشركات توفر الخدمات للمستوطنين على اختلاف أنواعهم، وتساهم في الوقت نفسه في التنمية الاقتصادية للمستوطنات من خلال توفير الوظائف للمستوطنين وعوائد الضرائب لبلديات المستوطنات.

يسوق التقرير مثالا دالا هو شركة تقدم خدمات معالجة النفايات في المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية، بما فيها آرييل ومنطقة بركان الصناعية القريبة. تدير الشركة مدفن قمامة في غور الأردن على أراض صادرتها إسرائيل في خرق لقوانين الاحتلال، وتساعد في إدامة وجود المستوطنات. كما تستفيد الشركة من شروط إسرائيل التمييزية للموافقة، التي تحابي الشركات الإسرائيلية التي تخدم المستوطنات، لكنها تميز ضد الشركات الفلسطينية الخادمة للفلسطينيين. في 2004 استثمرت إسرائيل في ترقية المنشأة الواقعة في غور الأردن، ومنحتها الإدارة المدنية ترخيصا للعمل هناك، رغم أن الموقع يخدم حاليا النفايات الإسرائيلية والاستيطانية على نحو حصري.

في تلك الأثناء كان الفلسطينيون يعانون للحصول على تمويل وتراخيص لمدافن القمامة. وتحصل جميع مدافن القمامة التي تخدم الفلسطينيين على تمويلها من مانحين دوليين. في إحدى الحالات رفضت إسرائيل الموافقة بأثر رجعي على موقع فلسطيني، وفي حالة أخرى أرغمت أحد المدافن الفلسطينية على قبول مخلفات المستوطنات المقامة بالمخالفة للقانون الدولي.

وبوجه أعم، تعمل شركات المستوطنات على توفير الوظائف للمستوطنين، وهو عنصر محوري في جذب المستوطنين واستبقائهم. فيعمل نحو 55440 مستوطنا ـ أو نحو 42 بالمئة من قوة العمل في المستوطنات ـ في وظائف بالقطاعين العام أو الخاص في المستوطنات الإسرائيلية. كما أن شركات المستوطنات تسدد ضرائبا لبلديات المستوطنات، مما يساهم في إعالتها. ورغم أن الشرائح الضريبية غالبا ما تكون أقل مقارنة بمثيلاتها داخل إسرائيل إلا أنها تظل تشكل حصة لا يستهان بها من دخل تلك البلديات.

على سبيل المثال، كانت الموازنة التقديرية لعام 2014 لمستوطنة بركان، المرتبطة بالمنطقة الصناعية الحاملة للاسم نفسه، تتوقع ورود نحو 6 بالمئة من موازنتها ـ أو 350 ألف شيكل من أصل 6 مليون شيكل (87500 دولار أمريكي من أصل 1,500,000 دولار) ـ من ضرائب الشركات، وهي الحصة التي ستدفعها مصانع المنطقة الصناعية. وفي 2014 سددت الشركة التابعة لشركة إسمنت أوروبية، التي تمتلك مقلع الحجر في الضفة الغربية، مبلغ 430 ألف يورو (479000 دولار أمريكي) كضرائب لمجلس منطقة السامرة، عن تشغيلها لمقلع نحل رابا.[3]

بدون مساهمة ودعم تلك الشركات الخاصة التي تخدم المستوطنات الإسرائيلية، فإن من شأن الحكومة الإسرائيلية أن تتكبد نفقات أكبر بكثير لإعالة المستوطنات واستبقاء سكانها بها. وعلى هذا النحو تساهم الشركات في احتفاظ إسرائيل بالمستوطنات غير المشروعة وتوسعها فيها.

كيف تساهم الشركات في الانتهاكات العمالية وتستفيد منها

رغم مخالفة جميع الأنشطة التجارية المتعلقة بالاستيطان للمعايير الدولية بشأن المسؤوليات الحقوقية للشركات، وبغض النظر عن الظروف العمالية، فإن غياب تدابير الحماية العمالية الواضحة للفلسطينيين العاملين في مستوطنات يخلق مخاطرة عالية من حيث المعاملة التمييزية وغيرها من الانتهاكات العمالية. وكما أسلفنا فإن المحاكم الإسرائيلية تطبق القانون المدني الإسرائيلي على المستوطنين، بينما يخضع الفلسطينيون للقانون الأردني كما كان عند بدء الاحتلال في 1967، باستثناء ما أدخل عليه من تعديلات بأوامر عسكرية. في 2007 أيدت المحكمة العليا الإسرائيلية الحكم القائل بأنه في غياب قوانين العمل، فهذا النظام القانوني مزدوج المسار يعد تمييزيا، وأنه من الضروري أن يضبط القانون الإسرائيلي ظروف العمل الخاصة بالفلسطينيين في المستوطنات، مع منح العاملين الفلسطينيين الحق في مقاضاة أصحاب عملهم في المحاكم الإسرائيلية إذا خالفوا قوانين العمل الإسرائيلية. لكن لم تنفذ الحكومة هذا الحُكم، وتزعم أن ليس بإمكانها التحقيق وفرض الامتثال لهذه القوانين.

الغياب شبه التام للإشراف الحكومي، واعتماد العمال الفلسطينيين على تصاريح العمل التي تصدرها إسرائيل، يؤدي إلى تهيئة بيئة تمكّن أصحاب الأعمال المستوطنين من دفع أجور تقل عن الحد الأدنى الإسرائيلي للعمال الفلسطينيين، وتحرمهم من المزايا التي يقدمونها لموظفيهم الإسرائيليين. بغض النظر عن القانون الدولي الإنساني الذي يحظر فرض القانون الإسرائيلي على الأراضي المحتلة، فإن إسرائيل مُلزمة بمقتضى القانون الدولي لحقوق الإنسان بضمان تمتع جميع المدنيين الخاضعين لسلطتها الفعلية بحقوق الإنسان كلها دون تمييز بسبب العرق أو الجنسية أو الأصل الوطني، ومن ثم عليها تهيئة ظروف للعمال الفلسطينيين في المستوطنات، متسقة مع الظروف المُتاحة للمستوطنين.

وبحسب منظمة الحقوق العمالية "كاف لأوفيد" فإن ما لا يقل عن نصف شركات المستوطنات تدفع للعمال الفلسطينيين أجورا دون الحد الأدنى الإسرائيلي الذي يبلغ 23 شيكل (5.75 دولار أمريكي) في الساعة، ويحصل معظم هذا العمال في المستوطنات على 8-16 شيكل (2-4 دولار أمريكي) في الساعة، بدون أيام راحة ولا إجازات مرضية ولا غيرها من المزايا الاجتماعية، وبدون قسائم دفع. تحدثت هيومن رايتس ووتش مع أحد العمال، هو هاني أ. (اسم مستعار) الذي يعمل في أحد مصانع بركان المنتجة لشموع الحنوكة والأوعية البلاستيكية، فقال إنه يعمل في مناوبات ليلية مدتها 12 ساعة، ويحصل على فترة راحة واحدة طولها نصف ساعة، وعلى أجر قدره 8.5 شيكل (2.12 دولار أمريكي) في الساعة. وقال آخر، هو مجاهد الذي كان يعمل في بركان حتى سبتمبر 2014، لـ هيومن رايتس ووتش إنه كان يحصل على 16 شيكل (4 دولارات) في الساعة ويعمل 12-15 ساعة يوميا. وقد تذكّر أسبوعا اضطر فيه للعمل من الثالثة صباحا حتى الثامنة مساءً.

يسلط التقرير الضوء على الحالة الدالة لمصنع نسيج في بركان كان يزود أحد المتاجر الأمريكية المتخصصة في مستلزمات المنازل الفاخرة بأغطية الأسرة. في 2008 قام 43 من العاملين، نصفهم تقريبا من النساء، برفع دعوى على شركة التصدير بزعم حصولهم على أجور تتراوح بين 6 و10 شيكل (1.5-2.5 دولار) في الساعة وعدم الحصول على المزايا الاجتماعية، كما زعمت العاملات حصولهن على أجر يقل بنحو 2 شيكل في الساعة عن نظرائهن من الرجال. قامت شركة التصدير بتسوية جميع الدعاوى خارج المحكمة، ويزعم أحد الشركاء في المصنع أن جميع العاملين يحصلون حاليا على الحد الأدنى للأجور ومزايا كاملة بموجب القانون الإسرائيلي. قامت شركة التصدير بنقل منشآتها من المناطق المحتلة في أكتوبر/تشرين الأول 2015.

يتذرع مؤيدو شركات المستوطنات بأنها تفيد الفلسطينيين من حيث أنها توفر لهم فرص التوظيف والحصول على أجور تزيد على أجور الوظائف المماثلة في المناطق التي تنازلت فيها إسرائيل عن سيادة محدودة للسلطة الفلسطينية. كما يثيرون المخاوف من أن وقف النشاط التجاري الإسرائيلي في المستوطنات قد يتسبب، في بعض الحالات، في الإكراه على فصل العمال الفلسطينيين من العمل. بل إن البعض وصف شركات المستوطنات بأنها نماذج للتعايش أو مسار بديل نحو السلام من خلال التعاون الاقتصادي.

لكن توظيف الفلسطينيين في شركات المستوطنات لا يمثل جبرا، في أي حالة، لمساهمات شركات الاستيطان في انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. والأثر التراكمي للتمييز الإسرائيلي، كما يوثقه هذا التقرير والعديد من التقارير الأخرى، هو ترسيخ لنظام يساهم في إفقار العديد من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية بينما يمثل فائدة مباشرة لشركات المستوطنات، مما يجعل حاجة الفلسطينيين الماسة إلى الوظائف أساسا واهيا لتبرير مواصلة التواطؤ في هذا التمييز.

وبحسب تقدير البنك الدولي فإن القيود التمييزية الإسرائيلية في المنطقة "ج" من الضفة الغربية، التي يرتبط معظمها على نحو مباشر بسياسات إسرائيل في الاستيطان والأراضي، تكلف الاقتصاد الفلسطيني 3.4 مليار دولار سنويا. إن تلك القيود تمارس ضغطا تصاعديا على البطالة وانحداريا على الأجور في مناطق الضفة الغربية. ويتأثر مزارعو المنطقة "ج" بصفة خاصة بسياسات إسرائيل التمييزية وغير المشروعة في الأراضي والمياه، التي تدفع الكثيرين إلى فقدان أرزاقهم التقليدية. وبالتالي لا يبقى للعديد من الفلسطينيين من خيار سوى التماس العمل في المستوطنات، موفرين لشركات الاستيطان موردا ثابتا للعمالة الرخيصة.

قال رئيس المجلس القروي لمردا، القرية الزراعية التي فقدت معظم أراضيها لصالح آرييل، قال لـ هيومن رايتس ووتش: "كنا نمتلك 10 آلاف رأسا من المواشي، والآن لا تكاد تجد 100 منها، حيث لا يوجد مكان ترعى فيه. وهكذا انهار الاقتصاد وتزايدت البطالة". ونتيجة لهذا لم يبق لدى الكثيرين من سكان القرية خيار سوى العمل في المستوطنات، كما قال.

وكما أوردنا فإن العديد من الانتهاكات الموثقة في هذا التقرير، تحت العناوين الأربعة المذكورة أعلاه، تنبع من صلب السياسات والممارسات الإسرائيلية طويلة الأمد في الضفة الغربية. ولا يمكن للشركات التي تعمل في المستوطنات أو معها أن تجبُر تلك الانتهاكات أو تتجنبها في عملياتها الخاصة. ولهذا السبب توصي هيومن رايتس ووتش، في غياب تحول جذري في السياسات والممارسات الإسرائيلية يتيح للشركات العمل وفق مسؤولياتها بموجب القانون الدولي، أن تتوقف الشركات عن ممارسة أي نشاط متعلق بالاستيطان، بما في ذلك العمل داخل المستوطنات أو تمويلها أو إدارتها أو دعمها على أي وجه آخر، وكذلك الأنشطة المتعلقة بالمستوطنات وبناها التحتية.

تنص المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة على أن تقوم الشركات بإيلاء حقوق الإنسان العناية الواجبة للتعرف على الأثر الحقوقي السلبي وجبره، لا فقط لأنشطتها الخاصة بل أيضا للأنشطة التي ترتبط بها مباشرة من خلال علاقاتها التجارية. وفي الحالة الأخيرة يتعين على الشركات أن تضمن ألا تشوب سلاسل توريدها أية انتهاكات جسيمة. ولا ينتظر من أية شركة بالضرورة أن تقطع كل علاقاتها مع طرف آخر يعمل في المستوطنات، لكن عليها أن تتأكد من أن علاقاتها لا تساهم بذاتها في الانتهاكات الجسيمة أو ترتبط بها على نحو لا فكاك منه.

علاوة على هذا فإن على الدول التزامات معينة بالنظر إلى طبيعة الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية. فاتفاقية جنيف الرابعة تلزم الدول بضمان احترام الاتفاقية، ومن ثم لا يجوز لها الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مد يد العون أو المساعدة لأنشطتها غير المشروعة هناك. وفي رأي استشاري، خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن تلك الالتزامات تقع على عاتق الدول أيضا لأن نظام الاستيطان الإسرائيلي ـ إضافة إلى جدار الفصل، الذي كان البؤرة الرئيسية لرأي المحكمة ـ ينتهك القوانين الدولية المتعدية للكافة، بمعنى أن لجميع الدول مصلحة في حمايتها.

ونتيجة لهذا توصي هيومن رايتس ووتش بأن تراجع الدول تجارتها مع المستوطنات لضمان اتفاقها مع واجبها من حيث عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة. فعلى سبيل المثال، ينبغي للدول أن تشترط وتنفذ الإشارة الواضحة إلى المنشأ على سلع المستوطنات، وأن تستبعد تلك السلع من الحصول على التعريفات [الجمركية] التفضيلية المخصصة للبضائع الإسرائيلية، وألا تعتمد أو تعترف بأية شهادات (من قبيل شهادات المنشأ العضوي أو الشهادات الصحية والمتعلقة بالسلامة) التي تصاحب بضائع المستوطنات وتكون صادرة عن سلطات الحكومة الإسرائيلية من خلال ممارسة اختصاص غير مشروع في الأراضي المحتلة.

إضافة إلى التزامات الدول بموجب القانون الدولي الإنساني، تطالب مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية الدول باحترام المبادئ وإعداد التوجيهات الخاصة بتنفيذها. تعكف بعض الدول حاليا على إعداد خطط عمل وطنية لهذا الغرض. على الدول تقديم التوجيهات والإرشاد للشركات العاملة في مناطق متضررة من النزاعات، بما يشمل حالات الاحتلال العسكري، مثل الأراضي الفلسطينية المُحتلة.

وفي ضوء انتهاكات المليشيات الموالية للحكومة العراقية، الموثقة في هذا التقرير وغيره، على الولايات المتحدة وإيران والدول الأخرى التي تقدم المساعدات العسكرية للعراق أن تحث وتدعم العراق لأجل تنفيذ إصلاحات ملموسة ويمكن التحقق منها لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة، ودمج الميليشيات الموالية للحكومة ضمن هيكل قيادة مركزي يخضع لمراقبة وسيطرة مدنية، وضمان التزام هذه القوات الكامل بالقانون الدولي الإنساني. كما وعلى هذه الدول أن تطلب من العراق أن يبلغ علنا في غضون عام واحد عن التقدم المحرز باتجاه تنفيذ هذه الإصلاحات، وأن يقوموا بعد ذلك بتعليق المساعدات والمبيعات العسكرية بما يتناسب مع الفجوات في التزام العراق بهذه الإصلاحات.

التوصيات

للشركات العاملة في المستوطنات الإسرائيلية

  1. يجب التوقف عن الأنشطة التي تتم داخل المستوطنات، من قبيل بناء وحدات الإسكان أو البنى التحتية، أو استخراج الموارد غير المتجددة، أو توفير خدمات رفع النفايات ودفنها.
  2. تتجنب تمويل المستوطنات أو الأنشطة المتعلقة بها أو بناها التحتية أو إدارتها أو دعمها بأية وسيلة أخرى، من قبيل التعاقد على شراء منتجات مصنعة داخل المستوطنات أو منتجات زراعية، لضمان عدم مساهمة الشركة على نحو غير مباشر في تلك الأنشطة أو استفادتها منها.
  3. ممارسة العناية الحقوقية الواجبة لضمان عدم اشتمال سلاسل توريدها على بضائع منتجة في المستوطنات.

لإسرائيل

  1. يجب التقيد بالتزاماتها كدولة احتلال، وتفكيك المستوطنات، بما فيها المناطق الصناعية والعمليات التجارية، في الضفة الغربية المحتلة، ومن ضمنها القدس الشرقية.
  2. رفع القيود التمييزية غير المشروعة المفروضة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتي تساهم في إفقار الفلسطينيين وبطالتهم، بما فيها القيود على الأراضي الفلسطينية، واستخراج وتنمية الموارد الطبيعية، وأن تنهي أية سياسات متعلقة بتشغيل الشركات في الأراضي المحتلة تنتهك القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما فيها تلك التي تسمح باستخراج الموارد الطبيعية إذا لم يكن فيها نفع لسكان الأرض المحتلة، أو إذا لم تتطلبها الضرورة العسكرية.
  3. التوقف عن توفير الحوافز المالية، بما فيها دعم تكاليف التطوير في المستوطنات وتخفيض الشرائح الضريبية، للشركات الإسرائيلية والدولية الواقعة في الضفة الغربية المحتلة.
  4. التوقف عن تسجيل تأسيس الشركات الإسرائيلية أو الدولية في الضفة الغربية المحتلة أو السماح لها بالعمل فيها ما لم يكن الغرض من العمل هو إفادة الشعب الفلسطيني ووفق القانون الدولي الإنساني.

للدول الثالثة (الدول الأخرى)

  1. يجب تقييم تجارتها مع المستوطنات وتبنى سياسات تضمن اتفاق تلك التجارة مع واجب الدول من حيث عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويشمل هذا أن تشترط على المصدرين الإشارة الواضحة على السلع المنتجة في المستوطنات إلى صفتها هذه، وأن تستبعد تلك السلع من المعاملة التفضيلية بموجب اتفاقيات التجارة الحرة مع إسرائيل، وأن تمتنع عن الاعتراف بسلطة الحكومة الإسرائيلية في إصدار شهادات بشأن ظروف إنتاج سلع المستوطنات (من قبيل الامتثال لاشتراطات المنتجات العضوية أو اشتراطات أخرى).
  2. تجنب تحمل تكاليف الإنفاق الحكومي الإسرائيلي على المستوطنات عن طريق حجب التمويل المقدم للحكومة الإسرائيلية بمقدار مساو لإنفاقها على المستوطنات وبناها التحتية ذات الصلة في الضفة الغربية.
  3. تقديم إرشادات حول تنفيذ مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية الخاصة بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان، للشركات الناشطة في المناطق المتضررة من النزاعات، بما في ذلك في سياق الاحتلال العسكري، مثل الأراضي الفلسطينية المُحتلة.


منهجية البحث

يتولى هذا التقرير فحص شركات إسرائيلية ودولية تنخرط في أنشطة متعلقة بالمستوطنات الإسرائيلية، وكذلك فحص الطرق التي تساهم بها في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في الضفة الغربية المحتلة وتستفيد منها. لا يشمل نطاق التقرير مرتفعات الجولان، رغم أن بعض التحليلات قد تنطبق عليها، كما لا يشمل قطاع غزة، حيث أن إسرائيل أزالت مستوطناتها منه في 2005.

دراسات الحالة الخمس للشركات المنتقاة من أجل هذا التقرير تسلط الضوء على الطيف الواسع من الشركات الضالعة في المستوطنات الإسرائيلية، وطيف انتهاكات المحظورات التي يفرضها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في كل قطاع تم فحصه. دراسات الحالة تمثل حالات دالّة وموضحة لمشكلة أعمّ، ولا تشير أي منها لأن الشركات التي تتناولها هي الحالات هي الأكثر إشكالا.

وقد قامت هيومن رايتس ووتش عند إجراء أبحاث هذا التقرير بمراجعة أحكام صادرة عن محاكم، وبيانات قدمتها الإدارة المدنية ومسؤولون عن السلطة الفلسطينية ومنظمات غير حكومية، وتقارير صادرة عن المراقب المالي لدولة إسرائيل، ومحاضر لاجتماعات لجان الكنيست، ووثائق أخرى.

أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلات مع 20 فلسطينيا تمت مصادرة أراضيهم أو نزع ملكيتها أو إخضاعها لقيود مشددة بسبب الاستيطان وبناه التحتية ذات الصلة، ومع 25 فلسطينيا سبق لهم العمل في مستوطنات إسرائيلية، ومع 8 من رجال الأعمال الفلسطينيين. كما قابلت هيومن رايتس ووتش اثنين من المحامين الفلسطينيين واثنين من المحامين الإسرائيليين المتخصصين في القضايا المتعلقة بتوظيف الفلسطينيين في المستوطنات، ومع محام فلسطيني إضافي متخصص في قضايا الأرض. وقام مترجم عربي بتسهيل العديد من المقابلات مع الفلسطينيين. كما تشاورت هيومن رايتس ووتش بشكل عام مع نقابات عمالية فلسطينية وإسرائيلية، ومع منظمات عمالية وحقوقية.

وقد قدم جميع من أجريت معهم المقابلات موافقتهم الحرة على ذلك، وشرحت لهم هيومن رايتس ووتش الغرض من المقابلة، وكيفية استخدام المعلومات التي سيتم جمعها، ولم تقدم أية مكافأة مالية. في بعض الحالات طلب من أجريت معهم المقابلات حجب هويتهم أو الإشارة إليهم بالأسماء أو الحروف الأولى فقط، ويشير التقرير إلى مواضع استخدام الأسماء المستعارة.

أجرت هيومن رايتس ووتش بعض المقابلات مع الفلسطينيين في سياق مجموعات صغيرة، بما فيها مجموعة واحدة كبيرة مكونة من 7 مزارعين فلسطينيين، يمتلكون أراض صادرتها إسرائيل أو أخضعتها لقيود. وقد التمس الباحثون ردودا على أسئلة تتعلق بكل حالة من الشركات صاحبة الشأن، علاوة على الإدارة المدنية. كما أننا نقلنا معلوماتنا عن المستوطنات، كلما أمكن، من مصادر حكومية إسرائيلية. وقد أجرى باحثو هيومن رايتس ووتش الأبحاث الميدانية لمدة 3 أسابيع في ديسمبر/كانون الأول 2014، و10 أيام في مارس/آذار 2015.

قامت هيومن رايتس ووتش بمكاتبة جميع الشركات الظاهرة كدراسات حالة في هذا التقرير، إضافة إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية، فأطلعتهم على نتائجها المبدئية وطلبت المعلومات ذات الصلة. وردت شركتان كتابةً، هما "هايدلبرغ" وصاحب مصنع نسيج، وتنعكس ردودهما في هذا التقرير كما تم نسخها دون تنقيح في ملحقاته، باستثناء حذف بعض الأسماء. التقت هيومن رايتس ووتش أيضا بشريك في ملكية مصنع النسيج، وأجرت عددا من المحادثات الهاتفية مع ممثل لتاجر التجزئة الأمريكي الذي يستورد من المصنع، وتنعكس هذه المحادثات في التقرير. ولم تقم أية شركة أخرى بالرد علينا.

نبذة عن تحويل العملات: يعتمد هذا التقرير سعر صرف قدره 4 شيكل إسرائيلي جديد، و0.90 يورو، لكل دولار أمريكي.

الأثر الحقوقي الإشكالي لنشاط المستوطنات التجاري

مباشرة في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، في يونيو/حزيران 1967، بدأ مدنيون إسرائيليون، بدعم من الحكومة الإسرائيلية وفي حماية قوات أمنية إسرائيلية، في التحرك عبر حدود إسرائيل الشرقية بغرض "استيطان" الأرض للادعاء بأنها جزء من "الدولة اليهودية".[4] واليوم تنامى الوجود المدني الإسرائيلي حتى صار شبكة مما يزيد على نصف مليون مستوطن يعيشون في 137 مستوطنة تعترف بها وزارة الداخلية رسميا، وأكثر من 100 بؤرة استيطانية لا تتمتع بتصريح رسمي لكنها مع ذلك تحصل على دعم رسمي كبير.[5] تنامى سكان المستوطنات بمقدار 23 بالمئة من 2009 إلى 2014، سابقين بشوط بعيد معدل النمو الإسرائيلي الإجمالي، الذي قل عن 10 بالمئة في الفترة نفسها.[6]

لقد تم استيعاب هذه المدن والبلدات والقرى، اليهودية على نحو حصري تقريبا، في اقتصاد إسرائيل وبنيتها التحتية بسلاسة تامة، لدرجة أنها لا تختلف عن إسرائيل في شيء.[7] كما قامت إسرائيل في 1967 بضم القدس الشرقية مباشرة، وهي مساحة تبلغ 72 كيلومترا مربعا من الضفة الغربية. وتظل هذه المنطقة أرضا محتلة بموجب القانون الدولي الإنساني.[8]

تنتهك المستوطنات الإسرائيلية، بما في ذلك في القدس الشرقية، التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني، وهي جزء مركزي في سياسات إسرائيل التي تفقر الفلسطينيين وتميز ضدهم وتهجرهم قسريا في انتهاك لحقوقهم الإنسانية.[9] ورغم أن الحكومة الإسرائيلية مسؤولة عن السياسات التمييزية غير المشروعة التي تتيح التوسع في الاستيطان وتشجع عليه، إلا أن الأطراف الخاصة، ومنها الشركات الإسرائيلية والدولية من جميع القطاعات، تقوم بدور حاسم في تنمية الأرض التي تصادرها السلطات الإسرائيلية وتحويلها إلى مدن وبلدات إسرائيلية.

الشركات الإسرائيلية والدولية التي تختار التمركز في المستوطنات ومناطق الاستيطان، ومن ثم التحول بذاتها إلى "مستوطنين"، تشكل قسما معتبرا من الوجود الإسرائيلي المدني على الأرض. تدير إسرائيل ما يقرب من 20 منطقة صناعية تغطي 13650 دونما (1365 هكتارا) في الضفة الغربية، كما يشرف مستوطنون إسرائيليون على زراعة 93000 دونم (9300 هكتار) من الأرض الزراعية، وتقوم شركات استيطانية بتشغيل 187 مركزا للتسوق داخل المستوطنات إضافة إلى 11 مقلع أحجار تغطي نحو 25 بالمائة من سوق الحصى الإسرائيلية.[10] يتجاوز الامتداد الجغرافي لنشاط إسرائيل التجاري في المستوطنات المساحة المبنية في المستوطنات السكنية، المقدرة بنحو 60000 دونم (6000 هكتار).[11] وتعكس هذه الأرقام ضخامة نصيب النشاط التجاري في الوجود المدني الإسرائيلي داخل الضفة الغربية.

تساهم الشركات، من خلال تمركزها في المستوطنات وإنشائها وتوسعتها ودعمها، في الانتهاكات الحقوقية الإسرائيلية. وتعتمد تلك الشركات على مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي الفلسطينية وغيرها من الموارد، وتساهم فيها، وتسهل عمل المستوطنات ونموها. كما تستفيد الشركات من تلك الانتهاكات، وكذلك من سياسات إسرائيل التمييزية التي تحابي المستوطنات على حساب الفلسطينيين، من قبيل التربح من النفاذ إلى أراض ومياه فلسطينية مصادرة دون وجه حق، وأوجه الدعم الحكومي، والتراخيص الإسرائيلية بتطوير أراض تفرض عليها إسرائيل قيودا مشددة في وجه الفلسطينيين.

يصف هذا التقرير نوعين من الشركات المنخرطة في أنشطة الاستيطان، ليبين كيف تقوم شركات بعرض طيف كامل من القطاعات، وبدرجات مختلفة من الضلوع في الاستيطان، بالمساهمة في الانتهاكات الحقوقية.

يضم النوع الأول من شركات الاستيطان شركات تتولى إدارة المطالب العملية لإنشاء المستوطنات وصيانتها. فتندرج 3 من دراسات الحالة في التقرير تحت هذا النوع: مصرف يمول منازل المستوطنات ويوفر لها الرهن العقاري، وشركة تنمية عقارية تبيع تلك المنازل، وشركة تصرّف في النفايات تقوم بتعميل قمامة المستوطنات. ولعل المساهمة المباشرة التي تقدمها تلك الشركات لنظام الاستيطان الإسرائيلي غير المشروع أن تكون واضحة بذاتها. وكما نناقش بتفصيل أكبر أدناه في الفصل المتعلق بالالتزامات القانونية، فإن نقل المدنيين بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الأراضي المحتلة من قبل دولة الاحتلال يشكل جريمة حرب. ويتمركز العديد من تلك الشركات أيضا داخل المستوطنات، وتعتمد على أراض وموارد أخرى صادرتها إسرائيل دون وجه حق من فلسطينيين، ومن ثم فإنها تساهم في انتهاكات حقوقية إضافية. ثم أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ترسخ الانتهاكات الحقوقية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وتستفيد منها، ويخضع هذا أيضا لنقاش أكثر تفصيلا في الفصل المتعلق بالتمييز.

أما النوع الثاني من شركات الاستيطان فيضم شركات لا تنخرط في نشاط يقدم خدمات مباشرة للمستوطنات السكنية، ومع ذلك فهي تتمركز في مستوطنات أو مناطق استيطان صناعية. وتشكل تلك الشركات، التي قد تجذبها أسباب اقتصادية مثل الوصول إلى العمالة الفلسطينية الرخيصة، وانخفاض الإيجارات أو الشرائح الضريبية، الوجود التجاري الأكثر بروزا في المستوطنات.[12] وهي في المقام الأول شركات تصنيع تتمركز في مناطق الاستيطان الصناعية، ومنتجون زراعيون، لكن هذا النوع يضم أيضا شركات تدار من إسرائيل وتنخرط في استخراج موارد الضفة الغربية، مثل مقالع الأحجار.

في رأي هيومن رايتس ووتش، تساهم تلك الشركات بدورها في الانتهاكات الحقوقية الإسرائيلية وتستفيد منها. فهي أولا تدعم المستوطنات السكنية بتوفير الوظائف للمستوطنين وتسديد الضرائب لبلديات المستوطنات. وثانيا فإن امتدادها الجغرافي الكبير، واستهلاكها غير المتناسب للموارد، يساهمان إلى حد بعيد في مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي والموارد الطبيعية الفلسطينية. وثالثا، يستفيد المصنعون والمزارعون الإسرائيليون من سياسات إسرائيل التمييزية وانتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني ـ بل إن العديد منهم قد يختار التمركز في المستوطنات لاستغلال المزايا التي تضفيها تلك السياسات والانتهاكات.

يعتمد الكثيرون من المصنعون والمنتجون الزراعيون في المستوطنات بشكل مكثف على التصدير، لدرجة أن شركات في أنحاء العالم قد تتورط في الانتهاكات الموصوفة في هذا التقرير من خلال سلاسل توريدها. وتعمل تلك الصادرات أيضا على توريط دول ثالثة على نحو لا تمارسه شركات النوع الآخر من أنواع شركات الاستيطان، بما أن بضائع المستوطنات تمر عبر حدودها، وعليها في أغلب الأحيان ما يفيد بتصنيعها في إسرائيل، وتستفيد من الاتفاقيات الجمركية بين تلك الدولة المستوردة وإسرائيل.

ويشمل التقرير دراستي حالة اثنتين لهذا النوع الثاني من الشركات: فحالة المقلع تلقي الضوء على كيفية استفادة شركات المستوطنات من السياسات الإسرائيلية التمييزية بحق الفلسطينيين، وحالة مصنع النسيج تفحص الظروف العمالية للفلسطينيين العاملين في شركات استيطانية. وبسبب أهمية المناطق الصناعية والزراعية الاستيطانية بالنسبة للتجارة الدولية والدول الثالثة، فإن ملحق هذا التقرير يقدم تحليلا معمقا لحجم تلك القطاعات وأثرها الحقوقي.

تنص مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان على ضرورة أن تقوم الشركات بإيلاء العناية الحقوقية الواجبة والتعرف على الضرر الحقوقي وجبره، لا لأنشطتها الخاصة فقط بل أيضا للأنشطة التي ترتبط بها مباشرة من خلال علاقاتها التجارية. فعلى الشركات أن تضمن أن علاقاتها مع سائر الشركات، بما فيها تلك الواقعة ضمن سلاسل توريدها، غير مشوبة بانتهاكات.

يقوم العديد من الانتهاكات التي تسهلها وتستفيد منها الشركات العاملة في المستوطنات أو معها في صلب السياسات والممارسات الإسرائيلية طويلة الأمد في الضفة الغربية، ومن ثم فهي تتجاوز قدرة تلك الشركات على تجنبها أو جبرها. ولهذا السبب فإن هيومن رايتس ووتش توصي بامتناع الشركات عن أي نشاط يتعلق بالاستيطان.

يجب على الشركات ألا تتمركز في المستوطنات وألا توفر لها التمويل أو الخدمات أو غير ذلك من أشكال الدعم، وعليها أن توقف المتاجرة مع شركات المستوطنات. ولا ينتظر من أية شركة بالضرورة أن تقطع كل علاقة لها بطرف آخر يعمل في المستوطنات، لكن عليها أن تضمن أن علاقاتها لا تساهم بذاتها في الانتهاكات الجسيمة أو ترتبط بها على نحو يتعذر الفكاك منه.

علاوة على هذا فإن على الدول أن تضطلع بالتزامات معينة، في ضوء انتهاكات إسرائيل في الضفة الغربية. إن اتفاقية جنيف الرابعة تلزم الدول بضمان احترام الاتفاقية، ومن ثم فإنه لا يجوز لها الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مد يد العون والمساعدة لأنشطتها غير المشروعة هناك. وفي رأي استشاري، خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن تلك الالتزامات تقع على عاتق الدول أيضا لأن نظام الاستيطان الإسرائيلي ـ إضافة إلى جدار الفصل، الذي كان البؤرة الرئيسية لرأي المحكمة ـ ينتهك القوانين الدولية المتعدية للكافة، بمعنى أن لجميع الدول مصلحة في حمايتها.

ونتيجة لهذا توصي هيومن رايتس ووتش بأن تراجع الدول تجارتها مع المستوطنات لضمان اتفاقها مع واجبها من حيث عدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية المحتلة. فعلى سبيل المثال، ينبغي للدول أن تشترط وتنفِذ الإشارة الواضحة إلى المنشأ على سلع المستوطنات، وأن تستبعد تلك السلع من الحصول على التعريفات [الجمركية] التفضيلية المخصصة للبضائع الإسرائيلية، وألا تعتمد أو تعترف بأية شهادات (من قبيل شهادات المنشأ العضوي أو الشهادات الصحية والمتعلقة بالسلامة) التي تصاحب بضائع المستوطنات وتكون صادرة عن سلطات الحكومة الإسرائيلية من خلال ممارسة اختصاص غير مشروع في الأراضي المحتلة.

الالتزامات القانونية الدولية

القانون الدولي الإنساني

تنتهك المستوطنات المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، الحاكمة للأراضي المحتلة: "لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها".[13] كما تحظر اتفاقية جنيف التهجير القسري الفردي أو الجماعي للأشخاص المحميين في أرض محتلة، أو ترحيلهم من تلك الأرض.[14] وفي 2004 استشهدت محكمة العدل الدولية باتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من مصادر القانون الدولي، فأكدت أن "المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (بما فيها القدس الشرقية) أقيمت بالمخالفة للقانون الدولي".[15]

أما نظام روما الأساسي، وهو المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، فهو يضم ضمن قائمته لجرائم الحرب الداخلة في اختصاص المحكمة " قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها".[16] ورغم أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن فلسطين انضمت إلى نظام روما الأساسي في 2 يناير/كانون الثاني 2015، وسرى انضمامها في 1 أبريل/نيسان 2015 على أراضي دولة فلسطين. وأودعت الحكومة الفلسطينية إعلانا يمنح المحكمة الاختصاص بالتحقيق في الجرائم المرتكبة على التراب الفلسطيني أو انطلاقا منه بأثر رجعي حتى 13 يونيو/حزيران 2014. منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين وضع الدولة المُراقب غير العضو في 2012، فسمحت لها بالدخول طرفا في الاتفاقيات الدولية، لكن هذا لا يغيّر من الوضع القانوني للاحتلال.

في جميع الحالات تقريبا تنطوي المستوطنات على انتهاك إضافي للقانون الدولي الإنساني: ألا وهو مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية وغيرها من الموارد، في انتهاك للوائح لاهاي لسنة 1907.[17] والمادة 55 من لوائح لاهاي تخضِع الموارد العامة في الأراضي المحتلة، بما فيها الأرض، لقواعد الانتفاع. والتفسير القانوني المقبول عموما لتلك القواعد هو أنه "لا يجوز لدولة الاحتلال التصرف في موارد الأرض المحتلة إلا بالقدر اللازم للإدارة الحالية للأراضي، ولتلبية الحاجات الضرورية للسكان [الواقعين تحت الاحتلال]".[18] وبحسب الباحث القانوني الإسرائيلي إيال بنفنيستي فإنه "لا مجال للشك اليوم في أن هذا الشرط ملزم في أي استخدام للممتلكات العامة غير المنقولة".[19]

أما الممتلكات الخاصة فتخضع لقيود أكثر تشددا بموجب القانون الإنساني الدولي، وتقرر لوائح لاهاي أن "الممتلكات الخاصة لا يمكن مصادرتها" وتفرض اتفاقية جنيف الرابعة حظرا على تدمير الممتلكات الخاصة ما لم يشكل هذا "ضرورة مطلقة" للأغراض العسكرية.[20]

حقوق الإنسان

أقر القانون الدولي لحقوق الإنسان المبادئ الأساسية لعدم التمييز والمساواة منذ زمن طويل.[21] ويقوم التمييز حيثما عملت القوانين أو السياسات أو الممارسات على معاملة الأشخاص في مواقف متماثلة معاملة مختلفة بسبب العرق أو الأصل أو الديانة، ضمن معايير أخرى، بدون مبرر كاف. والدول ملزمة بعدم اتخاذ أية خطوة "تستهدف أو تستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، علي قدم المساواة" استنادا إلى العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني.[22] ويعد الحظر المفروض على التمييز العنصري من أسس القانون الدولي لحقوق الإنسان ـ فينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تحديدا على أن الإجراءات التي تتخذها الدول، حتى في أزمنة الطوارئ العمومية، للانتقاص من الالتزامات الحقوقية الأخرى "لا ينبغي أن تنطوي على التمييز على أساس وحيد من العرق ... أو الدين".

ورغم أن إسرائيل ترى أن التزاماتها الحقوقية لا تنسحب على الأراضي المحتلة، إلا أن لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهي الهيئة المكلفة بتفسير وإنفاذ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، خلصت مرارا وتكرارا إلى أن "بنود العهد تنطبق لصالح سكان الأراضي المحتلة".[23] كما أيدت محكمة العدل الدولية هذا الرأي في رأيها الاستشاري المتعلق بجدار الفصل الإسرائيلي: فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية "ينطبق على الأعمال التي تقوم بها دولة ما عند ممارسة اختصاصها خارج ترابها".[24]

أما عن معاملة الموظفين فإن مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان تحدد أن الشركات عليها مسؤولية احترام القوانين الوطنية، إضافة إلى الحقوق المبينة في إعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في مكان العمل، كحد أدنى. وتتضمن تلك المبادئ الأساسية حظر التمييز، المعرّف بأنه المعاملة المختلفة والأسوأ لأفراد إحدى الجماعات استنادا إلى أسس محظورة من قبيل الاثنية أو الأصل القومي. وينتظر من الشركات اتخاذ تدابير فعالة في معرض العناية الواجبة للمساعدة على ضمان عدم ممارستها هي نفسها للتمييز.[25] ويتعين على العناية الواجبة أيضا أن تجتهد لتضمن أن الكيانات الأخرى، ومنها موردو الشركة وشركاؤها، لا ينخرطون في التمييز المرتبط مباشرة بعمليات الشركة التجارية أو منتجاتها أو خدماتها، من خلال علاقاتها التجارية.[26]

والنظام القانوني الإسرائيلي "مزدوج المسار" في الضفة الغربية، الذي يطبق تركيبة من القانون الأردني والأوامر العسكرية الإسرائيلية على الفلسطينيين والقانون الإسرائيلي على الإسرائيليين، ينتهك الحظر الحقوقي المفروض على التمييز. بغض النظر عن حظر القانون الدولي الإنساني لقيام إسرائيل بسحب قوانينها الوطنية وسلطتها الإنفاذية على الأراضي المحتلة وكأنها صاحبة السيادة فيها، إلا أن القانون الدولي لحقوق الإنسان، مع هذا، يلزم إسرائيل بتجنب التمييز بين المستوطنين الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية ـ أو بعبارات لجنة القضاء على التمييز العنصري "بغية ضمان تمتع جميع المدنيين تحت سيطرتها الفعلية بحقوق الإنسان كافة دون تمييز يستند إلى الاثنية أو الجنسية أو الأصل القومي".[27] وكما لاحظت اللجنة فإن إسرائيل تنكر امتداد التزاماتها الحقوقية إلى الأراضي المحتلة، لكن قالت إن هذا الموقف لا يتفق مع طبيعة الاحتلال الممتدة. [28]

يفرض كل من القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان قيودا مشددة على حق أي دولة في نقل أو تهجير أشخاص بالقوة من منطقة إلى أخرى. وتسمح اتفاقية جنيف الرابعة بإجلاء المدنيين فقط لتأمينهم أو "لأسباب عسكرية قهرية"، وفي تلك الحالة يتعين على الدولة أن تزود الأشخاص المهجرين بوسائل الإعاشة "لأقصى حد ممكن" وأن تسمح لهم بالعودة إلى منازلهم فور الإمكان.[29] ويمتد الحظر المفروض على النقل القسري أبعد من حالات قيام قوة عسكرية، مباشرة وماديا، بنقل تجمع سكاني خاضع لسيطرتها، إلى الحالات التي تقوم فيها القوة العسكرية بتعقيد وزيادة مشقة حياة السكان لدرجة اضطرارهم فعليا للرحيل.[30] وقد ارتأت غرفة الاستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن "النقل القسري... لا يقتصر على [حالات استخدام] القوة المادية" بل إن "عوامل أخرى بخلاف القوة نفسها يمكن أن تحيل الفعل قسريا، من قبيل استغلال الظروف الإكراهية".[31]

يُلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي صدقت عليه إسرائيل في 1991، السلطات الإسرائيلية باحترام الحق في السكن اللائق. وقد أوضحت اللجنة المسؤولة عن تفسير العهد أن الحق في السكن اللائق يتضمن حماية المرء من طرد الدولة له من منزله على كره منه (ما يعرف بالإخلاء القسري بموجب قانون حقوق الإنسان) إلا إذا برهنت الدولة على أن هذه الخطوة معقولة ومتناسبة وتمتثل لسائر المبادئ الحقوقية.

علاوة على هذا فقد ورد في الفقه الحقوقي بشأن الحق في الممتلكات أو المتعلقات أن المحاكم الإقليمية، ومنها المحكمة الأوروبية ومحكمة الأمريكتين لحقوق الإنسان، قد خلصت إلى أنه على الدول الاعتراف بالاستخدام التقليدي للمباني وشغلها من جانب أفراد أو عائلات أو جماعات على أنه ملكية، حتى إذا لم يتم تسجيل حقوق الملكية هذه رسميا في السجلات العينية، ما دام الشاغل قد عومل معاملة صاحب حقوق الملكية لمدة زمنية طويلة. ولا يجوز التعدي على جميع حقوق الملكية إلا في حالة وجود قانون وطني واضح، وكان التعدي لغرض مشروع، واتصافه بأنه أقل الإجراءات الممكنة تقييدا، ودفع تعويض كاف. أما المصادرة النهائية أو تدمير الممتلكات فلا يمكن تبريرهما إلا إذا تعذرت أي وسيلة أخرى وتم دفع تعويض كاف.

الشركات التجارية والتزامات الدول الثالثة

رغم أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الحكومات من حيث تعزيز حقوق الإنسان وضمان احترامها، إلا أن الشركات أيضا عليها مسؤولية تجنب التسبب في انتهاكات حقوقية أو المساهمة فيها. وتقع على عاتق الشركات مسؤولية التعرف على المشكلات الحقوقية المحتملة المرتبطة بعملياتها، وجبر تلك المشكلات، وضمان وصول ضحايا تلك الانتهاكات إلى الجبر والانتصاف المناسبين. تعارض هيومن رايتس ووتش العمليات التجارية التي تسبب انتهاكات حقوقية جسيمة، أو انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، أو تسهلها أو تفاقمها أو تساهم فيها، ما لم تتمكن تلك العمليات من إزالة ذلك الارتباط أو ضمان الجبر أو الانتصاف الجدي للإساءات أو الانتهاكات المعنية.[32]

ينعكس هذا المبدأ في إطار "الحماية والاحترام والانتصاف" الخاص بالأمم المتحدة، ومبادئها التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، المقبولة على نطاق واسع من جانب الشركات والحكومات. فبموجب المبادئ التوجيهية، تقع على عاتق الشركات مسؤولية "تجنب التسبب في آثار حقوقية سلبية أو المساهمة فيها عبر أنشطتها الخاصة"، علاوة على "السعي إلى منع أو جبر الآثار الحقوقية السلبية المرتبطة مباشرة بعملياتها أو منتجاتها أو خدماتها من خلال علاقاتها التجارية، حتى إذا لم تساهم هي نفسها في تلك الآثار". وينتظر من الشركات أيضا أن تولي العناية الواجبة للتعرف على الآثار الحقوقية السلبية المحتملة الناشئة عن أنشطتها وأنشطة مورديها، وأن تساعد في ضمان وصول الضحايا إلى سبل الانتصاف اللائقة من أية انتهاكات تقع على الرغم من تلك الجهود. وعلى الشركات الامتناع عن ممارسة النشاط التجاري حيثما تعذر تجنب الآثار الحقوقية السلبية.

يضاف إلى هذا أن شركات المستوطنات المتربحة من الأرض والموارد التي صادرتها إسرائيل دون وجه حق من فلسطينيين قد يخالف أحد محظورات القانون الدولي ـ وهو حظر قائم أيضا في العديد من النظم القانونية الوطنية ـ ضد استفادة فرد أو شركة عن علم من ثمار نشاط غير مشروع. ويتكرس هذا المبدأ في المادة 6 من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الجريمة المنظمة عبر الوطنية، التي تحظر "اقتناء أو حيازة أو استخدام ممتلكات عند العلم في توقيت تسلمها بأن تلك الممتلكات من عوائد الجريمة". وقد قام مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بوضع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، في تقريره عن الشركات المتربحة من المستوطنات الإسرائيلية، بتحليل مسؤوليات تلك الشركات بموجب القانون الدولي الجنائي، فوجد أن الشركات التي تؤدي دورا مسببا في نقل إسرائيل لمواطنيها إلى المستوطنات "قد يكون [هذا الدور] في بعض الحالات كافيا لإشراكها في تلك الجريمة".[33]

وتقع على عاتق الدول الثالثة أيضا التزامات بموجب القانون الدولي الإنساني. فالمادة الأولى من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال". ويخلق هذا، في حده الأدنى، التزاما على الدول بألا تتصرف بما يخالف الاتفاقية، ومن ثم فهو يحظر على الدول الاعتراف بسيادة إسرائيل على الأراضي التي تحتلها.

وقد وجدت محكمة العدل الدولية، في رأي استشاري متعلق بقانونية جدار الفصل الذي شيدته إسرائيل في الضفة الغربية، أن نظام إسرائيل الاستيطاني ينتهك التزامات مترتبة بموجب القانون الدولي الإنساني، "ذات طبيعة متعدية للكافة في جوهرها"، بمعنى أنها تنطبق على الدول جمعاء، ولجميع الدول مصلحة قانونية في حمايتها.[34] وعلى هذا الأساس، إضافة إلى واجب الدول في ضمان احترام بنود اتفاقية جنيف الرابعة، تخلص المحكمة قائلة: "ومن ثم فإن على جميع الدول التزام بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناشئ عن بناء الجدار في أراضي فلسطين المحتلة، بما في ذلك في القدس الشرقية وحولها. كما أنها ملزمة بألا تمد يد العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناشئ عن هذا البناء".[35] ورغم انصباب بؤرة القضية على جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل حول المستوطنات بدلا من المستوطنات نفسها، إلا أن المحكمة أكدت عدم مشروعية المستوطنات بموجب القانون الدولي، ومن ثم انطباق نفس الالتزام بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناشئ عن المستوطنات الإسرائيلية، أو مد يد العون أو المساعدة لانتهاكات إسرائيل.[36]

كيف تساهم الشركات في التمييز و تستفيد منه

تساهم الشركات في النظام الثنائي من القوانين والقواعد والخدمات الذي تطبقه إسرائيل على المناطق الخاضعة لسيطرتها الحصرية في الضفة الغربية، كما تستفيد من ذلك النظام الذي يقدم خدمات وتنمية ومزايا تفضيلية للمستوطنين اليهود بينما يفرض شروطا قاسية على الفلسطينيين. وتساهم شركات المستوطنات في سياسات إسرائيل التمييزية من خلال تسهيل إيجاد المستوطنات، لكنها تستفيد أيضا على نحو مباشر من السياسات الاقتصادية التمييزية التي تشجع شركات المستوطنات، من جهة، بتوفير الدعم والشرائح الضريبية المنخفضة، على سبيل المثال، في حين أنها تخنق الشركات الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني، من جهة أخرى عن طريق فرض قيود تمييزية.

وقد عمل اتفاق أوسلو المؤقت في 1995 على منح إسرائيل سيطرة حصرية على ما أسماه الاتفاق المنطقة "ج"، التي تغطي 60 بالمئة من الضفة الغربية، بينما تنازل عن قدر من السيطرة للسلطة الفلسطينية حديثة الإنشاء، في المنطقتين "أ" و"ب". وتحتوي المنطقة "ج"، وهي المنطقة الوحيدة المتصلة ببعضها البعض في الضفة الغربية، على جميع المستوطنات الإسرائيلية ونسبة كبيرة من الموارد المائية وأراضي الرعي والزراعة في الضفة، وكذلك أراضي الاحتياط اللازمة لتنمية المدن والبلدات والبنى التحتية.[37] أما المنطقتين "أ" و"ب" فتتكونان من 227 كنتونة تضم معظم المدن والبلدات الفلسطينية. وقد كان الاتفاق المؤقت بمثابة مرحلة وقتية في التمهيد لإقامة الدولة الفلسطينية في غضون 5 سنوات، لكنه ما زال ساريا، وتحتفظ إسرائيل بسيطرة إدارية وعسكرية كاملة على المنطقة "ج".[38]

وقد عمل تقرير هيومن رايتس ووتش في عام 2010، "انفصال وانعدام للمساوة"، على توثيق القوانين والممارسات الإسرائيلية التمييزية التي تحابي المستوطنين في المنطقة "ج:" على حساب الفلسطينيين، فسلط الضوء على 4 مجالات رئيسية من التمييز ـ البناء والتخطيط والهدم، وحرية التنقل، والماء، ومصادرة الأراضي ـ وهي المجالات التي يبدو أن الغرض الوحيد منها هو تعزيز الحياة في المستوطنات مع خنق نمو المجتمعات الفلسطينية في كثير من الحالات، بل وتهجير سكانها الفلسطينيين قسرا.[39]

ولا تعد الطبيعة التمييزية لنظام الاستيطان الإسرائيلي وجها عرضيا من أوجه القصور، بل هي أحد الملامح الرئيسية للاحتلال. والواقع، بحسب تعليق اللجنة الدولية للصليب الأحمر سنة 1958 على اتفاقية جنيف، هو أن واضعي الاتفاقية اختاروا منع دول الاحتلال من نقل مواطنيها إلى أراض محتلة بسبب وثاقة الارتباط بين هذا الفعل وبين التمييز والضرر الاقتصادي بحق السكان المحليين: فيلاحظ التعليق أن "بعض الدول نقلت جزءا من سكانها إلى أراض محتلة لأسباب سياسية أو عرقية، بغرض استيطان تلك الأراضي على حد زعمها. وقد أضر هذا النقل بالوضع الاقتصادي للسكان الأصليين، وهدد وجودهم المنفصل كجنس بشري".[40]



تشجيع شركات المستوطنات: الحوافز المالية الحكومية

نشطت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تشجيع هجرة الشركات الإسرائيلية والدولية إلى المستوطنات من خلال تقديم تشكيلة من الحوافز المالية التي لا تقدمها للشركات الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية الخاضعة لسيطرتها. ومن القنوات الهامة للدعم الحكومي تصنيف معظم المستوطنات اليهودية وكل مناطق الاستيطان الصناعية تقريبا على أنها "مناطق ذات أولوية وطنية"، وهو التصنيف المنسحب أيضا على المناطق التي تواجه مصاعبا اقتصادية أو تقع قرب الحدود داخل إسرائيل.[41] كما تقدم الحكومة الدعم بالاستثمار في مشروعات البنية التحتية للمساعدة على جذب الشركات إلى المنطقة.


ويحق لمناطق الأولوية الوطنية الحصول على سلسلة من المزايا المالية، التي تحقق 4 أهداف بحسب وزارة البناء: "(1) تخفيف أزمة الإسكان التي تمس العديد من سكان إسرائيل، (2) تشجيع الهجرة الإيجابية إلى تلك المجتمعات، (3) تشجيع التنمية في تلك المجتمعات، و(4) تحسين قدرة تلك المجتمعات على الصمود الاقتصادي".[42] في الفترة من 1998 حتى 2002 كانت إسرائيل تصنف جميع المستوطنات كمناطق ذات أولوية وطنية.[43] ثم رسمت الحكومة خريطة جديدة لمناطق الأولوية الوطنية في 2002، تضم 104 مستوطنات، إلا أن منظمة "عدالة"، وهي منظمة إسرائيلية للحقوق المدنية، طعنت فيها على أساس التمييز، حيث كانت 4 مجتمعات فقط من المجتمعات الـ553 المصنفة على أنها مناطق أولوية وطنية هي مجتمعات عربية (وكلها داخل إسرائيل).[44] وفي 2006 وجدت المحكمة العليا أن الخريطة تميز ضد المجتمعات العربية في إسرائيل فأمرت الحكومة بوضع خريطة جديدة خلال عام واحد. وبعد سبع سنوات من أمر المحكمة، وافقت الحكومة على خريطة معدلة لمناطق الأولوية الوطنية، مقبولة من جانب المحكمة، تضم 90 مستوطنة. وتنتمي جميع المناطق الصناعية الاستيطانية تقريبا إلى فئة المناطق ذات الأولوية الوطنية، مثلها مثل 23 مستوطنة في وادي الأردن ومنطقة البحر الميت، حيث تقع أغلبية الزراعة الاستيطانية.[45]

بالنسبة للمستوطنات المصنفة كمناطق أولوية وطنية، تشمل المزايا الحكومية تخفيض أسعار الأراضي، والقروض والمنح التفضيلية لشراء المنازل، ومنح للمستثمرين لتنمية البنى التحتية للمناطق الصناعية، والتعويض عن الدخل المفقود نتيجة الرسوم الجمركية المفروضة من جانب دول الاتحاد الأوروبي، وتخفيضات في ضريبة الدخل للأفراد والشركات.[46]

في مناطق الأولوية الوطنية "الحضرية"، وهو تصنيف معظم مناطق الأولوية الوطنية الاستيطانية، يمكن للحكومة أن تدعم ما يصل إلى 50 بالمئة من كلفة التنمية، حتى 107000 شيكل (26750 دولار) لكل وحدة إسكان، تبعا لتضاريس المنطقة الطبوغرافية.[47] وفي مناطق الأولوية الوطنية "الريفية"، التي تضم المستوطنات الزراعية في وادي الأردن، يمكن للحكومة دعم ما يصل إلى 70 بالمائة من كلفة التنمية، بحد أقصى 150 ألف شيكل (37500 دولار) لكل وحدة إسكان تبعا للواقع الطبوغرافي.[48] كما يستفيد مشترو المنازل للمرة الأولى في مناطق الأولوية الوطنية من أسعار الرهن العقاري المدعمة، وشريحة رهن عقاري تفضيلية بواقع فائدة تبلغ 4.5 بالمائة فقط. وتستفيد الشركات الواقعة في المستوطنات استفادة مباشرة من أوجه الدعم هذه ـ مثل دعم التنمية والبنية التحتية التجارية. ففي 2013، على سبيل المثال، وزعت الحكومة منحا تنموية بمقدار 2.17 مليون شيكل (543000 دولار) على شركة للأثاث في بركان، وبمقدار 937000 شيكل (234000 دولار) على مصنع للبلاستيك هناك.[49]

علاوة على هذا فإن شركات المناطق ذات الأولوية الوطنية التي تتأهل لمرتبة "المشروعات المصدق عليها" تستحق مزايا خاصة من وزارة الاقتصاد، تتجاوز ما كان من شأنها تلقيه بدون تلك المرتبة، إذ أن المصانع المصدق عليها يمكنها الاستفادة من حزمتين ماليتين: المنح المباشرة ومزايا ضريبية وطنية.[50] ويمنح المسار الأول للشركات دعما قدره 20 بالمائة لأي استثمار عقاري. أما مسار الضرائب فهو يقدم سعرا مخفضا لضريبة الشركات بواقع 6 بالمائة في بعض المناطق ذات الأولوية الوطنية (في مقابل 12 بالمئة في مناطق أخرى) اعتبارا من 2015.[51]

تشجع إسرائيل أيضا الشركات على الانتقال إلى المستوطنات بالاستثمار في البنية التحتية العامة دعما لها. وتكشف التصريحات السياسية من الأعوام الأولى لشروع إسرائيل في تنمية اقتصاد المستوطنات عن أن إسرائيل قصدت تزويد شركات المستوطنات بحوافز مالية، بما في ذلك من خلال تصميم المستوطنات على أنها مناطق أولوية وطنية، والاستثمار في البنى التحتية الضرورية، بغية تشجيعها على التمركز في الضفة الغربية. ففي اجتماع للكنيست من سنة 1982، قال جدعون بات، وزير الصناعة والتجارة، إن وزارته أنشأت 6 مناطق صناعية في الأراضي المحتلة، علاوة على مباني صناعية صغيرة. وقال: "إننا ندفع المصانع أيضا إلى هناك، فهي لا تسقط من السماء. إنها تأتي بسبب التشجيع".[52]

وبعد عامين أفصح الوزير بات عن أنواع التشجيع التي تقدمها وزارته، فأفاد بأن الحكومة نجحت في جلب 300 مصنع إلى سبعة مناطق صناعية استيطانية حديثة الإنشاء، من خلال تشييد البنية التحتية الضرورية، وتصنيف تلك المناطق كمناطق أولوية وطنية، ومنح بعض المصانع المقامة هناك صفة "المشروعات المصدق عليها"، ومن ثم تأهيلها لحوافز مالية سخية. كما قال إن وزارته تعمل على إنشاء مراكز صناعية إقليمية لخدمة المستوطنات مركزية الموقع وكذلك صناعات مرتبطة بالمستوطنات الصغيرة لتوفير "مراعاة الاحتياجات التوظيفية لتلك المجتمعات".[53]

وتستفيد شركات المستوطنات الزراعية من نوع آخر من أنواع الحوافز الاقتصادية: اخفاق الحكومة المتعمد على ما يبدو في تحصيل رسوم الأراضي المستحقة لها. فبحسب تقرير مراقب الدولة المالي في 2013، فإن الإدارة المدنية لا تنفذ القانون الذي يلزم المستوطنات بأن تدفع لها رسوم استئجار عن 83 مستوطنة ريفية مقامة فوق ما يسمى بـ"أرض الدولة"، مما يؤدي إلى ضياع 50 مليون شيكل (12.5 مليون دولار) كل عام.[54] وبعبارة المراقب المالي فإن " هذا إخفاق أساسي من جانب جميع الأطراف الضالعة، استمر طوال سنوات". وقد اعترفت الإدارة المدنية بالقضية منذ 2005، وعزتها إلى غياب الأيدي العاملة، ومع ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية لم تقم حتى اليوم بتخصيص موارد إضافية لتحصيل رسوم الاستئجار. وفي 2011 قررت وزارة المالية أخيرا إنشاء وحدة تحصيل، لكنها لم تنفذ القرار حتى الآن فيما يبدو.[55]

خنق الشركات الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني: القيود التمييزية

في مقابل المستوطنات وشركاتها، لا تتأهل أي من المناطق الفلسطينية في المنطقة "ج" لوضع المنطقة ذات الأولوية الوطنية رغم أنها أفقر من المستوطنات وأقل تنمية منها. كما لا تحصل على معظم الخدمات الحكومية الأساسية الأخرى، التي توفرها إسرائيل للمستوطنات بغض النظر عن وضعها كمناطق أولوية وطنية. وتعتمد العديد من المجتمعات الفلسطينية في المنطقة "ج" على التمويل الدولي لتوفير البنى التحتية الأساسية، من قبيل ألواح الطاقة الشمسية، والمدارس، وخزانات المياه.[56] بل إن السياسات الإسرائيلية المتمثلة في التقييد الشديد لوصول الفلسطينيين إلى تصاريح البناء، وتقييد وصول المزارعين إلى أراضيهم، السياسات الموصوفة بتفصيل أكبر فيما يلي، لها أثر تراكمي يضطر العديد من الفلسطينيين إلى مغادرة المنطقة "ج".[57]

كما أن بعض تلك السياسات الإسرائيلية ينتهك القانون الدولي الإنساني المتعلق بمصادرة الأراضي وتصاريح البناء والتخطيط والهدم، والمياه، وحرية التنقل.[58] إن تلك السياسات وغيرها لا تقوض التنمية الاقتصادية الفلسطينية فحسب، بل إنها أيضا توفر ميزة اقتصادية واضحة لشركات المستوطنات مقارنة بالشركات الفلسطينية.

ومن الأساليب الرئيسية التي تتبعها إسرائيل لتقييد التنمية الفلسطينية رفضها في جميع الحالات تقريبا منح الفلسطينيين تصاريح للبناء على الأرض أو تنميتها أو استخراج الموارد منها.[59] ويقدر البنك الدولي أن إسرائيل إذا رفعت القيود الإدارية من قبيل القيود على البناء واستخراج الموارد من المنطقة "ج" فقد يولد هذا 3.4 مليار دولار للاقتصاد الفلسطيني سنويا، بزيادة قدرها 35 بالمائة في ناتجه الإجمالي. ومن شأن العائدات الإضافية أن تولد 800 مليون دولار من حصيلة الضرائب الحكومية، تساوي نصف ديون السلطة الفلسطينية.[60] لكن إسرائيل بدلا من هذا ترفض أن تصدر لأي فلسطيني تصريحا باستخراج المعادن مثل البوتاس والبروم من البحر الميت، في خسارة تكاد ترقى إلى مليار واحد من الدولارات سنويا.[61] كما تقيد إسرائيل وصول الفلسطينيين إلى مساحات واسعة من الأراضي التي تخصصها كمساحات بلدية للمستوطنات، ومناطق لإطلاق النار، ومحميات طبيعية، وتفرض قيودا مشددة على مقادير المياه التي تخصصها للفلسطينيين، وهو ما يكبد القطاع الزراعي 704 مليون دولار سنويا، بحسب تقدير البنك الدولي.[62] وقد وجد تقرير من إعداد مجموعة من رجال الاقتصاد الفلسطينيين والإسرائيليين والدوليين أنه إذا أتيحت 100 ألف دونم إضافية (10 آلاف هكتار) من الأراضي للفلسطينيين لتنميتها في وادي الأردن، فقد تخلق 150-200 ألف وظيفة.[63]

إن الكثير من السياسات الإسرائيلية الضارة بالشركات الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني مرتبطة على نحو مباشر بالمستوطنات. خصصت إسرائيل 70 في المائة من المنطقة "ج" لمجالس الاستيطان الإقليمية (ولا يُسمح فيها بإنشاءات فلسطينية) ووافقت على الخطط الرئيسية للاستيطان اليهودي، وتغطي 26 في المائة من المنطقة "ج".[64] كما تشيد إسرائيل البنى التحتية الاستيطانية، مثل الطرق ونقاط التفتيش وجدار الفصل، على أراض فلسطينية مصادرة، فتزيد أحيانا من التأخير في انتقال الفلسطينيين وترفع تكلفته.[65]

علاوة على هذا وضعت إسرائيل خطط البناء للفلسطينيين على 1 بالمائة فقط لا غير من مساحة المنطقة "ج"، التي بني أكثرها بالفعل، ومن ثم فإن إسرائيل تكاد ترفض فعليا جميع تصاريح البناء الفلسطينية بغير مبرر. وبحسب الإدارة المدنية، تقدم فلسطينيون فيما بين 2002 و2012 بـ 3565 طلبا لتصاريح البناء، فلم يقبل منها إلا 210.[66] كما عدلت إسرائيل قانون التخطيط الأردني المعمول به في الضفة الغربية بحيث تستبعد الفلسطينيين من عملية التخطيط، بينما تخلق الأوامر العسكرية مسارا تخطيطيا منفصلا للمستوطنين، الذين يشاركون في تخطيط مجتمعاتهم الخاصة.[67]

تعد خبرة السكان الفلسطينيين في قرية حارس، المتاخمة للطريق السريع بين مستوطنتي بركان وآرييل، مثالا على القيود التمييزية التي يرزح تحتها الفلسطينيون ممن يحاولون العمل والعيش في المنطقة "ج". أمين داود هو أحد سكان حارس، ويمتلك 500 دونما (50 هكتارا) من الأرض على مشارف القرية مباشرة. قال داود إنه في 1978 افتتح شركة لمستلزمات البناء على أرضه، تبيع للفلسطينيين والإسرائيليين على السواء.[68] ويقول إنه تلقى منذ افتتاح الشركة 18 أمرا بالهدم من الجيش الإسرائيلي، لأنه يفتقر إلى تصاريح البناء اللازمة، فأرضه تقع ضمن المنطقة "ج"، الخاضعة مباشرة لسيطرة الجيش الحصرية. قال داود إنه اضطر، بغية الامتثال لأحد الأوامر العسكرية، إلى إزالة سقف الملحق الذي أضافه إلى منزله، وفي واقعة منفصلة قامت السلطات الإسرائيلية بنفسها بتدمير حاوية كان يستخدمها لتخزين المواد. وفي سبتمبر/أيلول 2014 تلقى داود حسب قوله أوامر هدم لمتجره ولأكشاك المتجر، ولـ 50 دونما من أشجار الزيتون، وشرفة حجرية، بل حتى مقابر العائلة، وكل ما هو قائم على أرضه في واقع الأمر، عدا المنزل الذي بني قبل احتلال إسرائيل للضفة الغربية في 1967. وأشار إلى منزل تحت الإنشاء على البعد، يقع في المنطقة "ب"، حيث تنازلت إسرائيل عن سلطتها على استخدام الأرض للسلطة الفلسطينية، قائلا إنه يبنيه لعائلته بتكلفة تبلغ 100 ألف دولار. "تمتلك العائلة 500 دونما [في المنطقة "ج"] لكننا نعجز عن البناء عليها".

على جانبي شركة داود قام فلسطينيون من قرية حارس بإنشاء مغاسل للسيارات. هدمت السلطات الإسرائيلية بالفعل واحدة من تلك المغاسل، لافتقارها إلى التصريح، وتلقت المغسلة القائمة على الجهة الأخرى أمرا بالهدم لنفس السبب، بحسب داود.[69] وفي موضع قريب، عند مدخل القرية، قام شخص آخر من سكان حارس بعرض بعض مواد البناء للبيع في قطعة أرض صغيرة، لكن مسؤولي الإدارة المدنية الإسرائيلية هددوا بتدمير المواد إذا لم يزلها مالكها.[70] وأزالها المالك كما قال حسام س.، أحد سكان حارس، لكنه غرس ثلاثة من شتلات الزيتون كفعل احتجاجي صغير. وقال: "حتى تلك الشتلات تخالف القانون. فلنرى إن كانوا سيقلعونها".[71]

وبما أن معظم الأراضي الفلسطينية فقيرة التنمية تقع في المنطقة "ج" فإن القيود الإسرائيلية المفروضة على استخدام الأراضي تعرقل قطاعات البناء والتصنيع الفلسطينية، التي تحتاج الأرض للمصانع، وتمنع الفلسطينيين من الاستفادة من السياحة قرب البحر الميت أو المواقع التاريخية لعجزهم عن بناء الفنادق أو المتاجر أو غيرها من البنى التحتية السياحية.[72]

تخلق السياسات والممارسات الإسرائيلية عسرا اقتصاديا لكثيرين من الفلسطينيين الـ 300000 الذين يعيشون في المنطقة "ج"، حيث يستحيل عليهم تقريبا الحصول على تصريح ولو لمتجر بسيط. وتزيد احتمالات هدم الإنشاءات الفلسطينية بدون تصريح كثيرا عن احتمالات هدم المستوطنات غير المرخصة، التي غالبا ما تحصل على الترخيص بأثر رجعي.[73]

تتأثر أرزاق الفلسطينيون في المنطقة "ج" بصفة خاصة بالقيود المفروضة على الأرض، حيث أن الكثيرين منهم مزارعون ورعاة. وبحسب دراسة من 2014 أجراها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 24 بالمائة من الفلسطينيين في المنطقة "ج" يعملون حاليا في المستوطنات.[74] قال عدد من الفلسطينيين المقيمين بالمنطقة "ج" لـ هيومن رايتس ووتش إن كثيرين من الفلسطينيين العاملين في المستوطنات كانوا مزارعين أو رعاة فقدوا المنفذ إلى أراضيهم. وفي 2011 أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بأن العائلات تهجر 10 مجتمعات من الـ 13 التي زارها في المنطقة "ج" لأن "الممارسات والسياسات الإسرائيلية المطبقة هناك تصعّب على السكان تلبية الاحتياجات الأساسية أو الحفاظ على وجودهم على الأرض".[75]

وفي أحيان عديدة يتعين على مشروعات البنية التحتية الفلسطينية العامة، مثل الطرق وخطوط الماء والصرف الصحي وغيرها من المرافق التي تربط كبرى البلدات والمدن في المنطقتين "أ" و"ب"، أن تمر عبر المنطقة "ج".[76] وبالتالي فإن رفض الجيش الإسرائيلي لتصاريح البناء في المناطق الخاضعة لسيطرته يضر أيضا بالفلسطينيين في المناطق الخاضعة اسميا للسلطة الفلسطينية، مما يعمق الاعتماد الفلسطيني على المنتجات والخدمات الإسرائيلية. فروابي، وهو مشروع سكني وتجاري بقيمة مليار دولار تم استكماله جزئيا في شمال غرب رام الله، ويقع بالكامل تقريبا في المنطقة "أ"، لا يصلح للسكنى بعد لأن الإدارة المدنية أخرت طوال سنوات الموافقة على التصاريح اللازمة لربط البلدة ببنية المياه التحتية في المنطقة "ج"، وفي مارس/آذار 2015، أفادت تقارير بأنها وعدت على ما يبدو بالموافقة على الوصلة المائية.[77] كما تعرضت منطقة أريحا الصناعية في المنطقة "أ" لتأخيرات كبيرة لأن المسار الأمثل للطريق الواصل إلى المنطقة يخترق المنطقة "ج"، ولم توافق السلطات الإسرائيلية على البناء.[78]

كما مارست إسرائيل سيطرتها على حدود فلسطين بطرق ترفع تكلفة الصادرات والواردات الفلسطينية، وتميز ضد الشركات الفلسطينية وتضر بها في جميع مناطق الأراضي المحتلة المنخرطة في تصدير السلع واستيرادها. ففي أحيان كثيرة تُخضع السلطات الإسرائيلية السلع القادمة إلى فلسطينيي الضفة الغربية لتأخيرات، مما يؤدي إلى تكاليف إضافية للتخزين وغيره.[79] وفي حالات عديدة تلزم إسرائيل المنتجين الفلسطينيين، ولكن ليس الإسرائيليين، بتفريغ بضائعهم المارة عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية وإعادة تحميلها، في الطريق إلى ميناء التصدير، مما يضيف إلى تكاليف النقل والوقت اللازم له.[80] وتبرر إسرائيل تلك الإجراءات باعتبارات أمنية، لكنها تمييزية مع ذلك بما أنها تستهدف أصحاب الأعمال على أساس وحيد من أصلهم القومي.

القيود الإسرائيلية على وصول الفلسطينيين إلى الأسواق الدولية تحافظ بدورها على تبعية الفلسطينيين للاقتصاد الإسرائيلي. فقد قال رجل الأعمال الفلسطيني أمين داود، على سبيل المثال، إنه توقف عن استيراد مواد البناء مباشرة من الخارج في 2012 بسبب التأخيرات الطويلة التي لا يمكن التنبؤ بها في الميناء، ورسوم التخزين المرتبطة بها.[81] وهو الآن يشتري كل شيء من المستوردين الإسرائيليين، كما قال، رغم أن هذا يخفض هامش ربحه ويقلل من تنافسية تسعير بضائعه. ولا يعد وضع داود فريدا من نوعه، فبحسب مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التجارة والتنمية (الأنكتاد)، يتم استيراد 39 بالمئة من صادرات إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من بلدان ثالثة وإعادة بيعها إلى المستهلكين الفلسطينيين.[82] ويقدر الأنكتاد أن هذه الظاهرة، المعروفة باسم "الواردات غير المباشرة"، تكلف السلطة الفلسطينية 115 مليون دولار سنويا من رسوم الجمارك المفقودة، بما أن إسرائيل لا تحول رسوم الجمارك إلا عن البضائع التي تكون وجهتها الأصلية هي الأراضي الفلسطينية المحتلة.[83]

دراسة حالة: نشاط مقالع الحجر الضفة الغربية

تعد حالة المقالع في الضفة الغربية من الأمثلة الدالة على معاملة الدولة الإسرائيلية التمييزية للشركات الفلسطينية بالقياس إلى معاملتها للشركات الإسرائيلية والدولية. في بعض الأحيان يوصف الحجر الطبيعي بأنه "نفط فلسطين الأبيض" بسبب قيمته الاقتصادية المحتملة، وتوافر موارده.[84] وبحسب الاتحاد الفلسطيني للحجر والرخام فإن هذه الصناعة توفر حاليا 15-20 ألف وظيفة، وتضيف 250 مليون دولار إلى الناتج القومي الفلسطيني.[85] وهي إلى حد بعيد أكبر مصدّر في فلسطين، إذ شكلت 17 بالمئة من جملة الصادرات في 2011، ووصلت إلى 60 بلدا.[86]

إلا أن القيود الإسرائيلية تمنع الشركات الفلسطينية من استخلاص الإمكانيات الكامنة في تلك الصناعة، فمعظم الأراضي الصالحة لنشاط المحاجر، نحو 20 ألف دونم (2000 هكتار) بقيمة محتملة تصل إلى 30 مليار دولار، تقع في المنطقة "ج".[87] وبحسب الاتحاد الفلسطيني للحجر والرخام فإن إسرائيل رفضت إصدار أية تصاريح جديدة لشركات فلسطينية لممارسة نشاط المقالع في المنطقة "ج" منذ 1994، رغم أن اتفاقيات أوسلو تنص صراحة على نظر إسرائيل في طلبات هذه التصاريح "بحقها".[88] ولهذا السبب فإن 9 مقالع فلسطينية فقط كانت تعمل "بشكل قانوني" في المنطقة "ج" ومعها التصريح العسكري الإسرائيلي اللازم، حتى يوليو/تموز 2012.[89] قال مدير أحد تلك المقالع لـ هيومن رايتس ووتش إن الإدارة المدنية رفضت تجديد تصريحه بعد انقضاء أجله في 2012، إضافة إلى تصاريح المقالع المرخصة الأخرى.[90] أما الشركات الفلسطينية التي تشغل مقالع غير مرخصة فهي عرضة لمصادرة معداتها، التي لا تعيدها إسرائيل إلا بعد دفع غرامات باهظة، وإجراءات أخرى تقلل الإنتاجية الاقتصادية للشركة إلى حد بعيد.[91]

وفي مثال واضح على المعاملة التمييزية، قامت الإدارة المدنية، في المقابل، بالترخيص لـ 11 مقلعا وكسارة ذات إدارة إسرائيلية في الضفة الغربية، تنتج 10-12 مليون طن سنويا.[92] لم ترد الإدارة المدنية على خطاب أرسلته هيومن رايتس ووتش للاستعلام عن مبررات الفارق في المعاملة. وعلاوة على هذا فإن استخراج إسرائيل للحجر لمنفعتها الخاصة ينتهك القانون الدولي الإنساني المنطبق على الاحتلال، وقد يرقى إلى مصاف جرائم الحرب، كما نناقش بتفصيل أكبر أدناه.

المادة 55 من لوائح لاهاي لسنة 1907 تخضع موارد الأرض المحتلة لقواعد الانتفاع، التي تقصر تصرفات دولة الاحتلال على استخدام الموارد لحاجاتها العسكرية أو لصالح السكان الخاضعين للاحتلال. وبحسب الباحث القانوني الإسرائيلي إيال بنفنيستي فإنه "من المقبول عموما أنه لا يجوز للمحتل استخدامها لأغراضه المحلية الخاصة".[93] واعترافا بهذا القيد، أنشأت سلطة الائتلاف المحتل في العراق صندوق تنمية العراق، في عام 2003، لتحصيل أرباح بيع النفط العراقي واستخدامها لصالح العراقيين.[94]

وفي انتهاك لهذا الالتزام، تقوم مقالع المستوطنات بتحويل 94 بالمائة من ناتجها إلى السوق الإسرائيلية، وبحسب خطة وطنية إجمالية للتعدين والمحاجر من إعداد وزارة الداخلية الإسرائيلية فإنها توفر ما يقرب من ربع الاستهلاك الكلي من مواد المقالع للاقتصاد الإسرائيلي.[95] وتحصل إسرائيل رسوما بواقع 1.20 دولار عن كل طن تقريبا، من أصحاب المقالع الإسرائيليين، كما تحصل بلديات المستوطنات الضرائب.[96] وفي 2009 بلغ إجمالي الرسوم المسددة بواسطة أطراف إسرائيلية عن استخدام المحاجر 25 مليون شيكل (6.25 مليون دولار).[97] ووفق دراسة من 2015 بطلب من هيئة الأراضي الإسرائيلية، تعتمد سوق الحصى في إسرائيل بشكل مكثف على مقالع الضفة الغربية ذات الملكية الإسرائيلية: "فلولا نشاط المقالع في الضفة الغربية لعلقت الصناعة في أزمة بسبب نقص الموارد منذ سنوات، مما كان من شأنه أن يؤدي إلى عواقب وخيمة تتجاوز ارتفاع الأسعار (من قبيل الإضرار بالقدرة على تنفيذ مشروعات البناء و/أو مشروعات البنية التحتية بسبب نقص المواد الخام)".[98] وكان من الممكن أن يعوض الإنتاج الفلسطيني هذا العجز، لولا غياب الوصول إلى التصاريح وغير ذلك من القيود. وتبين بيانات جمعها اتحاد الحجر والرخام الفلسطيني أن المقالع المملوكة لفلسطينيين في الضفة الغربية، نتيجة للقيود الإسرائيلية، تنتج نحو ربع كمية الحصى التي تنتجها المقالع ذات الإدارة الإسرائيلية في الضفة، ويأتي معظمها من مقلع عمره 50 عاما سيتوقف عن الإنتاج في وقت قريب.[99]

وإضافة إلى استخراج موارد طبيعية فلسطينية لصالح إسرائيل، تتيح مقالع المستوطنات لإسرائيل التملص من الأثر البيئي لعملية الاستخراج. ففي مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، شرح إيتامار بن دافيد، كبير المخططين البيئيين في جمعية حماية الطبيعة في إسرائيل، أنه يرى أن السبب الأول لـ "ضخامة الحصة [من مواد المقالع] التي تتزود بها إسرائيل من الضفة الغربية.. هو بوضوح أن لوائح التخطيط والتقييمات البيئية في الضفة الغربية أضعف منها في إسرائيل. في إسرائيل، لا يوجد من يقبل بوجود مقلع قرب عقاره السكني".[100] وفي 2013 وجد المراقب المالي الإسرائيلي أن إخفاق الإدارة المدنية في تنظيم المقالع المهجورة على نحو سليم في المنطقة "ج" قد أدى إلى "أضرار بيئية خطيرة".[101]

يقع مقلع نحل رابا على الحافة الشمالية الغربية للضفة الغربية، على الجهة المقابلة لمدينة روش هايين (راس العين) الإسرائيلية من خط وقف إطلاق النار لسنة 1949. وتمتلك المقلع شركة هايدلبرغ للإسمنت الألمانية متعددة الجنسيات، من خلال شركتها التابعة "هانسون". يغطي المقلع، المفتتح في 1983، مساحة 600 دونما (60 هكتار) من الأرض الخاصة بقرية الزاوية الفلسطينية القريبة.[102] استولت الإدارة المدنية على الأرض من خلال إعلانها كأرض للدولة بموجب تفسيرها التعسفي لقانون عثماني يقرر أن الأرض، ولو كانت مملوكة ملكية خاصة، ترتد إلى الدولة إذا لم تزرع لثلاث سنوات متتالية.[103] وباتباع هذا النص أعلنت إسرائيل، منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين، أن 1.3 مليون دونم (130 ألف هكتار) هي من أملاك الدولة.[104] وفي 2004 شيدت إسرائيل جدار الفصل في المنطقة المشتملة على المقلع من الشرق، فحولت طريق الجدار دون وجه حق إلى أرض محتلة من خط وقف إطلاق النار لما قبل 1967.[105] ونتيجة لهذا يرتبط المقلع بأرض إسرائيل دون فواصل، في حين يفصل الجدار قرية الزاوية عن أراضيها. ولا يبدو أن ثمة وجودا إسرائيليا آخر بين حدود إسرائيل وجدار الفصل، مما يوحي بأن مصالح أخرى وليس المخاوف الأمنية هي التي أملت تعدي الجدار على الأراضي الفلسطينية.[106]


مقلع نحل رابا، تديره شركة هنسون، وهي شركة تابعة لهايدلبرغ للإسمنت. يعد المقلع واحدا من 11 مقلعا آخر تديره شركات إسرائيلية ودولية في المنطقة "ج" بالضفة الغربية ومرخص لها من الحكومة الإسرائيلية. هذه الشركات تبيع جميع الأحجار المستخرجة من المقالع تقريبا في أسواق إسرائيلية أو استيطانية. وهذا خرق للقانون الدولي الإنساني الذي يتطلب ألا يستخدم الموارد الطبيعية غير السكان (الفلسطينيين) في الأراضي المحتلة.


ويقوم المقلع باستخراج الدولوميت وكسره لإنتاج نحو 4000 طن من الحصى يوميا، ويستخدم الحصى في إنتاج الخرسانة والأسفلت، المخصص معظمهما للسوق الإسرائيلية.[107] وكانت مجموعة "بيونير" الأسترالية تتولى تشغيل المقلع من 1986 حتى 2000.[108] وفي 2000 قامت هانسون، التي كانت آنذاك إحدى أبرز منتجي مواد البناء في بريطانيا، بشراء بيونير.[109] ثم استحوذت هايدلبرغ للإسمنت، وهي شركة ألمانية متعددة الجنسيات وثالث أكبر منتج للإسمنت في العالم، على هانسون، بما في ذلك شركتها التابعة الإسرائيلية، التي كانت تشغل المقلع في 2007. وتواصل هايدلبرغ للإسمنت امتلاك وتشغيل مقلع نحل رابا، رغم تقارير أفادت في 2009 بأنها تسعى إلى بيع عملياتها في الضفة الغربية (أو ربما هانسون إسرائيل برمتها).[110] تمتلك هانسون أيضا مصانع للخرسانة في مستوطنتين أخريين: مودعيني إليت وأتاروت.[111] وقد تقدمت مجموعة مشاب الإسرائيلية، الشركة الأم لـ "نشير"، منتج الإسمنت الوحيد في إسرائيل، بعرض في يوليو/تموز 2009 لاقتناء هانسون إسرائيل، لكن هيئة مناهضة الاحتكار الإسرائيلية عارضت الصفقة على أساس أن هانسون واحدة من أكبر عملاء نشير.[112]

وفي خطاب إلى هيومن رايتس ووتش كتبت هايدلبرغ أن هانسون قامت في 2014 بدفع ما يقرب من 3.25 مليون يورو (3.6 مليون دولار) في شكل رسوم للإدارة المدنية الإسرائيلية، و430 ألف يورو (479000 دولار) إضافية في شكل ضرائب بلدية لمجلس السامرة الإقليمي الاستيطاني عن عملياتها في مقلع نحل رابا.[113] دافعت هايدلبرغ في الخطاب عن أنشطتها بدعوى أنها تمتثل بالكامل للقانون الدولي بما أن الأرض لم تكن مملوكة ملكية خاصة، وشددت على أن الرسوم التي تسددها لإسرائيل تحول للإدارة المدنية "لصالح سكان المنطقة "ج"". كما لاحظت أنها توظف 36 فلسطينيا من سكان الضفة الغربية يحصلون على نفس المزايا والرواتب التي يحصل عليها نظراؤهم الإسرائيليون، وأن 25 فلسطينيا آخر يعملون في الموقع يوميا عن طريق مقاول آخر.

كما نجح القائد العسكري الإسرائيلي في الدفاع عن ترخيص محاجر في الضفة الغربية على أسس مماثلة في دعوى رفعتها منظمة "يش دين" الإسرائيلية غير الحكومية أمام المحكمة الإسرائيلية العليا في مارس/آذار 2009، ضد المقالع ذات الإدارة الإسرائيلية في الضفة الغربية. استشهد المدعون برأي سابق للمحكمة العليا للدفع بأن المقالع ذات الإدارة الإسرائيلية العاملة في الضفة الغربية تنتهك القانون الدولي. وكان القاضي أهارون باراك قد قال في الرأي السابق:

لا يجوز للقائد العسكري أن يضع في اعتباره المصالح القومية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لبلاده، بقدر ما لا تتعدى تلك على المصالح الأمنية في المنطقة، أو على مصالح السكان المحليين، حتى ولو كانت احتياجات الجيش هي احتياجاته العسكرية وليس احتياجاته المتعلقة بالأمن القومي بالمعنى الواسع. فالأراضي المستولى عليها بالقوة الحربية ليست ميدانا مفتوحا للاستغلال الاقتصادي أو غيره من أشكال الاستغلال.[114]

ومع ذلك فقد رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا دعوى يش دين في 2011، رغم توصيتها العامة بامتناع الإدارة المدنية عن الموافقة على المقالع. واستندت المحكمة جزئيا في رأيها إلى النظرية التي تقضي بأن "قوانين الاحتلال التقليدية تتطلب التكيف مع تطاول مدة الاحتلال"، واستشهدت بتوظيف الفلسطينيين كميزة يحصل عليها السكان الخاضعون للاحتلال.[115] وارتأت المحكمة أيضا أن الإدارة المدنية التابعة للجيش الإسرائيلي، التي تعهدت بتحصيل رسوم من مشغلي المحاجر، تعمل هي أيضا وعلى نفس المنوال لصالح الفلسطينيين.

بيد أن توفير الوظائف للأشخاص المحميين لا يضفي المشروعية على الانتهاكات الأخرى للقانون الدولي الإنساني في الأراضي المحتلة، بما فيها تسهيل الاستيطان من خلال تسديد الضرائب للمستوطنات. علاوة على هذا فإن الإدارة المدنية، كما لاحظ المدعون، تفرض في الواقع سياسات إسرائيل غير المشروعة في المنطقة "ج"، التي تقيد استخدام الفلسطينيين للأرض وتهدم ممتلكاتهم بغير ضرورة عسكرية، وتخصص الموارد والأراضي للمستوطنين.[116] أما ادعاء هايدلبرغ في خطابها بأن أنشطتها مشروعة حيث أن الأرض التي يقع فيها المقلع لم تكن مملوكة ملكية خاصة فهو من قبيل ذر الرماد في العيون، لأن قوانين الاحتلال تمنع السلطة المحتلة من استخدام أي موارد في الأرض المحتلة لمصلحتها، بصرف النظر عن ملكيتها العامة أو الخاصة. وثمة مشكلة إضافية لا تتطرق إليها المحكمة ولا هايدلبرغ، ألا وهي استفادة المقالع ذات الإدارة الإسرائيلية من قيام إسرائيل بخصها بالتصاريح دون الفلسطينيين.

طالبت يش دين بمراجعة التماسها أمام كامل الهيئة، وهو إجراء لإعادة النظر في القضايا المتميزة بصعوبة أو أهمية أو جدة خاصة من قبل 5 قضاة على الأقل.[117] كما قام 7 من أبرز الباحثين الإسرائيليين في القانون الدولي بإيداع مذكرة ودية لتأييد التماس يش دين، وانتقاد تفسير المحكمة للمادتين 43 و55 من لوائح لاهاي لسنة 1907، على أساس أنه "يقف على النقيض التام من قوانين الاحتلال في ضوء صياغتها وروحها والغرض منها".[118] لكن المحكمة العليا رفضت التماس يش دين بالمراجعة أمام كامل الهيئة، وارتأت مع ذلك أن الحكم لا يشكل سابقة.[119]

مقالع بيت فجر

تعد بلدة بيت فجر، الواقعة على بعد 10 كيلومترات إلى الجنوب من بيت لحم، بعدد سكان يبلغ تقديره 13500، أحد أكبر مراكز إنتاج الحجارة في فلسطين.[120] ويعمل نحو 80 بالمئة من قوة العمل في صناعة الحجارة، في الأغلب داخل إحدى ورش الحجارة التي يبلغ عددها 150، أو المقالع التي يبلغ عددها 40 في المنطقة.[121] يقع معظم مصانع التقطيع في المنطقة "ب"، الخاضعة للسلطة الإدارية الفلسطينية، لكن معظم المقالع في المنطقة "ج"، ومن ثم فهي تتطلب تصريحا إسرائيليا للعمل.[122] وبحسب أربعة من مديري وملاك المقالع في المنطقة فإنه لا يوجد مقلع واحد يحمل في الوقت الحاضر تصريحا بالعمل.[123]

في حالات قليلة واصلت الإدارة المدنية الإسرائيلية تجديد تصاريح المقالع التي رخصت لها بالعمل في تسعينات القرن العشرين. وفي مارس/آذار 2015 قامت هيومن رايتس ووتش بمراجعة وثائق تبين أن إسرائيل رفضت تجديد ترخيص واحد من هذه المقالع، كان قد انقضى أجله في 2012. وقال نجل صاحب المقلع، وهو جمال ت. (اسم مستعار) وهو مدير التسويق، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن إسرائيل توقفت على ما يبدو حتى عن تجديد تلك التراخيص في 2012.[124] قال جمال: "لقد واظبت على الذهاب إلى [مكتب الإدارة المدنية الإسرائيلية في مستوطنة] بيت إيل مرة أو مرتين شهريا منذ 2012، ومع ذلك لم أحصل على ترخيص. كانت هناك بعض المقالع القليلة المرخص لها في هذه المنطقة ـ ربما 5 أو 6. لكن منذ 2012 لم يتمكن أحد من تجديد ترخيصه".[125]

وتحدثت هيومن رايتس ووتش مع صاحب مقلع آخر، هو سامر ت.، الذي قال إنه يعمل في نشاط المقالع منذ 2000، ويمتلك في الوقت الحاضر 3 مقالع في المنطقة "ج" قرب بيت فجر.[126] رفضت الإدارة المدنية منحه ترخيصا، رغم أنه يواظب على تقديم الطلب كل عام، بحسب قوله. أما نايف، وهو صاحب مقلع ثالث، فقد قال إنه بدوره لم يتمكن من الحصول على ترخيص لمقلعيه الاثنين.[127]


مقلع مملوك لفلسطينيين يعمل بدون تصريح في المنطقة "ج" بالضفة الغربية. لم تصدر الإدارة المدنية الإسرائيلية تصريحا واحدا لفلسطينيين بمقالع جديدة منذ 1994، بحسب الاتحاد الفلسطيني للحجر والرخام. يمكن مصادرة معدات المقالع العاملة دون تصاريح من قبل السلطات الإسرائيلية.


وقال موسى عيسى زيادة، الذي يمتلك مساحة 10 دونم من أراضي المقالع، لـ هيومن رايتس ووتش إنه يقوم بتشغيل مقلع على أرضه منذ 1973، لكن الإدارة المدنية رفضت تجديد رخصته منذ 1998. قالت له الإدارة المدنية إن سبب الرفض هو قرب الأرض من إحدى المستوطنات. وقال لـ هيومن رايتس ووتش: "قلت لهم اعطوني ترخيصا وسوف أبني جدارا حول أرضي، لكنهم رفضوا مع ذلك".[128] لكن الإدارة المدنية في معظم الحالات لا تقدم سببا لرفض طلب الترخيص، بل إنها في أغلب الحالات لا ترفض الطلب رسميا، وإنما تتركه معلقا دون أجل مسمى.[129]

كثيرا ما تصادر السلطات الإسرائيلية معدات رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يشغلون مقالعا بدون تصريح. وفي تلك الحالات تضطر الإدارة المدنية رجال الأعمال إلى دفع غرامات باهظة مقابل استعادة المعدات. قال سامر إن المرة الأخير التي صادرت فيها السلطات الإسرائيلية معداته كانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وفي ذلك الوقت سدد سامر للإدارة المدنية مبلغ 17 ألف شيكل (4250 دولار) على سبيل الغرامة لاستعادة المعدات، إضافة إلى 200 دولار من أتعاب المحامين، بحسب قوله.[130] وقال إنه ينام الآن في مكتبه 6 ليال أسبوعيا لحراسة معداته. "لو لم تكن هناك منطقة "ج" ولا [احتلال] إسرائيلي لبت في بيتي كل ليلة" مع عائلتي، كما قال.

قال نايف إن السلطات صارت معداته 4 مرات، آخرها في 2012. وفي مواجهة غرامة قدرها 110 ألف شيكل (27500 دولار)، قال إنه اضطر لبيع نصف المعدات المتبقية لجمع المبلغ اللازم لاستعادة معداته المصادرة.[131] وقال جمال إن عائلته تمتلك 4 مقالع غير مرخصة، إضافة إلى المقلع الذي كانت إسرائيل تصدر له ترخيصا حتى 2012. وفي 2013 عاودت السلطات الإسرائيلية مصادرة معداتهم من أحد المقالع غير المرخصة، وصاروا منذ ذلك الحين لا يعملون إلا يوم السبت،[132] وهي ممارسة شائعة وسط مالكي المقالع غير المرخصة الفلسطينيين، كما قال هو وآخرون، حيث أن الأفراد المكلفين بمصادرة المعدات لا يعملون في عطلة السبت اليهودية.[133] وقال موسى لـ هيومن رايتس ووتش إنه في 2010 بدأ يعمل أيام الخميس والجمعة والسبت فقط، لخوفه من مصادرة السلطات لمعداته. ولم ينقذه تخفيض ساعات العمل:

في 2011 بعد ظهر أحد أيام الخميس، جاءوا وأخذوا كل معداتي. خزنوها في [مستوطنة] كفار عتصيون. واضطررت لدفع 51 ألف شيكل على مدار 51 يوما كغرامة ورسوم تخزين. وواصلت العمل، لكنهم عادوا ثانية بعد نحو عام. لم يأخذوا معداتي، لكنهم أرغموني على الرحيل وأغلقوا الموقع. يساهم رفض إسرائيل أن تمنح التراخيص للشركات الفلسطينية التي تشغل المقالع، وممارسة مصادرة المعدات من شركات المقالع العاملة بدون ترخيص، في التمييز ضد الفلسطينيين وإفقارهم، كما تقف على النقيض من معاملة إسرائيل للمقالع ذات الإدارة الإسرائيلية. قال سامر إنه ينقل بعض معداته جيئة وذهابا بين المناطق "أ" و"ب" و"ج" لتجنب المصادرة. وقال: "الوقود وإهلاك المعدات والوقت، كل هذه تكاليف. كنت لأتمكن من الإنتاج على نحو أكثر كفاءة لو لم أضطر للاختباء. كنت لأتمكن من تعيين 30 أو 40 شخصا إضافيا على الأقل". وقال نايف إنه كان يوظف 6 أشخاص، لكن منذ مصادرة إسرائيل الأخيرة لمعداته صار يعمل وحده. وهناك أيضا الإنتاجية المفقودة من المقالع التي لا تعمل إلا في العطلة الأسبوعية. "إننا نذهب إلى معارض تجارية في الخارج، فيطلبون خاماتنا، لكننا لا نستطيع إنتاج ما يكفي" بسبب محدودية الوقت الذي تعمل فيه المقالع، بحسب قول جمال.

تحدثت هيومن رايتس ووتش مع أحد سكان بيت فجر، هو إبراهيم الذي قال إن غياب فرص التوظيف اضطره للعمل في مستوطنة إسرائيلية قريبة. وقال لـ هيومن رايتس ووتش: "لو وجدت عملا في بيت فجر لتركت المستوطنة من الصبح".[134]

تأثير السياسات الإسرائيلية على الاقتصاد الفلسطيني

من اللازم أن ننظر إلى السياسات الاقتصادية التمييزية الموصوفة في سياق سياسة إسرائيلية أوسع نطاقا، ظل هدفها طيلة عقود جعل الاقتصاد الفلسطيني معتمدا على اقتصاد إسرائيل، كوسيلة للاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي المحتلة. ففي السنوات التي تلت 1967، كانت السياسة الاقتصادية الإسرائيلية السائدة تجاه الضفة الغربية هي دمج الاقتصاد الفلسطيني في اقتصاد إسرائيل. لقد فرضت إسرائيل عملتها على الأراضي الفلسطينية في 1967 ومنذ ذلك الحين ظلت تعمل في أغلب الأحيان على زيادة البنى التحتية المشتركة، وتصدير البضائع الإسرائيلية إلى فلسطين، واستيراد العمالة الفلسطينية إلى داخل إسرائيل.[135] ورغم أن الأجور الأعلى التي تحصّل عليها الفلسطينيون من العمل في إسرائيل ساعدت على تحسين مستويات المعيشة الفلسطينية، إلا أن الأدلة تشير إلى أن سياسة "الدمج" الإسرائيلية هي جزء لا يتجزأ من سياساتها التمييزية التي تقيد المنافسة الفلسطينية المحتملة وتولد التبعية الفلسطينية للاقتصاد الإسرائيلي ـ بما في ذلك، وعلى نحو حاسم، التوظيف في إسرائيل ومستوطناتها.

وكان المؤيد الرئيسي لتوجه الدمج هو موشيه ديان، الذي صرح في 1968 أثناء شغله لمنصب وزير الدفاع:

يمكننا إيجاد اندماج اقتصادي ـ مثل الشبكة الكهربائية، ومنظومة المياه، وإنشاء نظام مشترك للمواصلات ... ومن الممكن تنظيم هذا اقتصاديا ضمن إطار واحد. بل إن بوسعنا السماح للعرب من الخليل بالعمل في بير السبع لأن الخليل تعاني من البطالة وبير السبع بحاجة للعمالة. ينبغي أن نربط بين الكيانين إذا كنا نحن، من جهتنا ولصالحنا الخاص، لا نريد فصم روابطنا مع تلك المناطق.[136] لا يدل هذا الدمج على المساواة. بل إن الاقتصاد الفلسطيني، بدلا من هذا، وصف بأنه سوق أسيرة للبضائع الإسرائيلية، الوضع الذي تعززه الحكومة الإسرائيلية من خلال تقييد المنافسة المحلية المحتملة.[137] وفي اجتماع للكنيست من سنة 1987، شرح وزير الصناعة والتجارة آنذاك أرئيل شارون، ردا على سؤال بشأن الخطوات التي تتخذها وزارته لتجنب تهديد الاقتصاد الإسرائيلي بفعل احتمالات تنمية الاقتصاد الفلسطيني، أن سياسته هي عدم الموافقة على طلبات رجال الأعمال الفلسطينيين في الضفة الغربية إلا عند اتفاقها مع المصالح الاقتصادية الإسرائيلية:

تخضع طلبات بناء المصانع التي يتقدم بها سكان يهودا والسامرة [الاسم الإسرائيلي الرسمي للضفة الغربية باستثناء القدس الشرقية] وقطاع غزة [الفلسطينيين] لفحص صارم، كما تخضع الطلبات الإسرائيلية، بحيث تؤخذ في الاعتبار الصناعات الإسرائيلية، واحتياجات السوق الإسرائيلية، وإمكانيات التصدير.[138] أضاف شارون أن تهديد المنافسة الفلسطينية "يعني ضرورة إنشاء صناعة [استيطانية إسرائيلية] في يهودا والسامرة وقطاع غزة".[139]

وخلصت لجنة مكلفة بالتحقيق في سياسة إسرائيل الاقتصادية في قطاع غزة، كان قد عينها وزير الدفاع موشيه أرينز في 1991، وترأسها الاقتصادي عيزرا سعدان، إلى أن سياسة إسرائيل تقصر النمو الاقتصادي لغزة على الأجور المتحصلة من شركات إسرائيلية:

في ما يتعلق بالعمال بأجر، تم منح الأولوية لزيادة دخلهم من خلال توظيفهم في الاقتصاد [الإسرائيلي] ضمن الخط الأخضر. وفي أحيان نادرة فقط اختارت تلك السياسة تنمية البنية التحتية وتشجيع إنشاء مصانع والتوظيف داخل [[[قطاع غزة]]] نفسه (على سبيل المثال إنشاء منطقة إريتز الصناعية). لم تعط أية أولوية لتعزيز مباشرة المشروعات المحلية [الفلسطينية] أو قطاع الأعمال في غزة. بل إن السلطات أحبطت مثل تلك المبادرات كلما هددت بالتنافس مع شركات إسرائيلية قائمة في السوق الإسرائيلية.[140] لكن هذه السياسات المتوجهة نحو الدمج تغيرت على نحو ملحوظ بعد 1994. أثناء المفاوضات التي توجت ببروتوكول العلاقات الاقتصادية ("بروتوكول باريس") في 1994، استغلت إسرائيل الاعتماد الفلسطيني على التوظيف في إسرائيل لانتزاع تنازلات اقتصادية من السلطة الفلسطينية.[141] وفي ذات الوقت بدأت إسرائيل متابعة سياسة فصل الأراضي المحتلة عن إسرائيل، فقيدت أعداد العمال الفلسطينيين المسموح لهم بالعمل في إسرائيل والمستوطنات.[142] ومع ذلك فإن تقريرا جديدا من بنك إسرائيل يجد أن إسرائيل عادت للتراجع عن هذا التوجه، وأنه بين 2010 و2014 تضاعفت أعداد فلسطينيي الضفة الغربية العاملين في إسرائيل والمستوطنات إلى نحو 92 ألفا.[143]

تبقى فلسطين معتمدة اقتصاديا على إسرائيل في الوظائف والسلع على السواء، كما تظل إمكانياتها التصديرية متراخية.[144] في 2011 استوردت فلسطين 6 أضعاف ما قامت بتصديره على وجه التقريب، وذهب نحو 86 بالمائة من صادرات فلسطين (بقيمة نحو 600 مليون دولار) إلى إسرائيل، كما جاء نحو 70 بالمائة من وارداتها (بقيمة نحو 3 مليار دولار) من إسرائيل.[145] ووثق تقرير أخير للبنك الدولي أن "قطاع التصنيع [الفلسطيني]، وأحد المحركات الرئيسية للنمو المعتمد على التصدير، عانى إلى حد كبير من الركود بين 1994 واليوم، كما انحدر نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار ملحوظ".[146]

كيف تساهم الشركات في مصادرة الأراضي في الضفة الغربية وتستفيد منها

تنتهك المستوطنات بالضرورة اثنين من قوانين الاحتلال: الحظر المفروض على قيام دولة الاحتلال بنقل مدنييها إلى الأرض التي تحتلها، والحظر المفروض على مصادرة الأراضي وغيرها من الموارد الطبيعية في الأرض المحتلة لمنفعتها الخاصة. بناء على نتائج التقرير، ترى هيومن رايتس ووتش أن شركات المستوطنات تعمل على تسهيل نمو المستوطنات، كما نناقش في القسم التالي، لكنها تعتمد أيضا على مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي الفلسطينية على نطاق واسع، وتساهم في تلك المصادرة. في رأي هيومن رايتس ووتش فإن جميع الشركات المتمركزة في مستوطنات وفي مناطق الاستيطان الصناعية تعتمد على مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية وتستفيد منها، مما ينتهك القانون الدولي الإنساني بغض النظر عما إذا كانت الأرض مملوكو ملكية خاصة أو مما يسمى بـ "أراضي الدولة".

يتولى هذا القسم فحص الشركات الضالعة في سوق الإسكان في المستوطنات، مثل شركات التنمية العقارية، والمصارف، والوكلاء العقاريين، لأنهم يؤدون دورا مركزيا في توطئة الأرض للمستوطنين، ومن ثم، في رأي هيومن رايتس ووتش، فهم يديمون البصمة المادية للمستوطنات ويوسعون من نطاقها. العديد من المصارف والشركات العقارية تنشط في المستوطنات، لكن باستخدام آرييل كدراسة حالة، يسلط القسم الضوء على حالة بنك إسرائيلي يمول إنشاء 6 مبان على أطراف المستوطنة، وحالة "ريماكس"، وهي شركة تنمية عقارية تسوق المنازل في آرييل. وتنشط الشركتان أيضا في مستوطنات أخرى.[147] التركيز على هاتين الشركتين ليس مقصودا به اختيارهما دون غيرهما لما يسببان من مشكلات، إنما الاختيار لتوضيح كيف تسهم الشركات الضالعة في سوق الإسكان بالمستوطنات في الانتهاكات والخروقات لقوانين الاحتلال.

يفحص القسم كذلك كيفية استحالة الفصل بين تنمية آرييل وسياسات إسرائيل في مصادرة الأراضي، بما في ذلك المصادرة المستمرة للأراضي الفلسطينية الخاصة. ويلقي أحد ملاحق التقرير نظرة على القيود ذات الصلة، المفروضة على وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم المحيطة بآرييل، وتكلفة هذا على أرزاقهم.

آرييل

تتربع آرييل على طرف عنقود من المستوطنات يمتد بطول 12 ميلا إلى الشرق من خط وقف إطلاق النار لسنة 1949 (المسمى أيضا بالخط الأخضر)، في عمق الضفة الغربية. وتعد آرييل، المنشأة في 1978، واحدة من أكبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وتمتد مساحتها المبنية بطول 5 كيلومترات، ولكن بعرض 700 مترا فقط، إذ تم بناؤها على نحو استراتيجي لكي تشق طريقها المتعرج بطول سفح جبلي محاط بالبلدات والقرى الفلسطينية من جميع الجهات.[148] أما مساحتها البلدية، بواقع 13346 دونما (1335 هكتارا) فهي تزيد عن مساحتها المبنية بنحو 4 أضعاف.[149] وتعمل آرييل من جنوبها على عرقلة تمدد بلدة سلفيت الفلسطينية، وهي أكبر بلدة فلسطينية في محيطها، وتقوم بمثابة مركز تجاري وإداري للقرى الفلسطينية المجاورة.[150] وتقع آرييل في مركز 4 من هذه القرى: حارس إلى غربها، وقيرة ومردا إلى شمالها، وإسكاكا إلى شرقها.

تعمل آرييل وبعض البنى التحتية المتصلة بها على فصل بعض تلك القرى عن سلفيت وعن بعضها البعض. قال أحد الأشخاص لـ هيومن رايتس ووتش إن عليه قطع 20 كيلومترا ليصل من مردا، حيث يقيم، إلى قرية قريبة، تقع على مسافة كيلومتر واحد، وهذا بسبب آرييل وعمليات الإغلاق المتصلة بها.[151] وقال شخص آخر من مردا إن الجيش قام مؤخرا بفتح الطريق من القرية إلى سلفيت بعد إغلاقه طيلة 10 سنوات، تحولت خلالها مسافة تقل عن 6 كيلومترات إلى رحلة قوامها 27 كيلومترا.[152]

ويحيط جدار الفصل، الذي شيدته إسرائيل في 2004، بآرييل وغيرها من المستوطنات القريبة، فيفصل الفلسطينيين عن 9000 دونما أخرى من أراضيهم. ونتيجة لهذا فإن إسرائيل تقوم فعليا بحرمان عشرات المزارعين من القدرة على زراعة أراضيهم التي التهمتها حدود آرييل الملتفة، أو تكاد. وبحسب منظمة "السلام الآن" فإن 31 بالمائة من الأرض المتضمنة داخل جدار الفصل المحيط بآرييل هي أراض فلسطينية خاصة.[153]

تروج آرييل لنفسها على أنها مدينة إسرائيلية كأية مدينة أخرى: فهي "مدينة مزدهرة" تقع "في قلب إسرائيل"، بحسب الموقع الإلكتروني لبلديتها.[154] ويشدد تاريخ آرييل الرسمي على إنشائها "بموافقة ودعم الحكومة الإسرائيلية" في 1978، حينما قامت "40 عائلة، بقيادة رون نحمان، بالسكنى فوق تل صخري أجرد، تحول فيما بعد إلى مدينة آرييل".[155] ويستوطن آرييل حاليا ما يقرب من 20 ألف مقيم دائم، علاوة على 10 آلاف طالب إضافيين، يدرسون بجامعتها.[156] لكنها تقع خارج حدود إسرائيل المعترف بها دوليا، ولا يمكن فصل تنميتها عن تاريخ من السلب المستمر للفلسطينيين، وحرمانهم من أرضهم وفرض القيود على حريتهم في التنقل. وتواصل الشركات الخاصة القيام بدور كبير في تنفيذ خطة الحكومة والاستفادة من تاريخ آرييل المتمثل في مصادرة الأراضي.

دراسة حالة: تمويل البناء في المستوطنات

يجري بطول الحافة الجنوبية لآرييل صف من الإنشاءات الجديدة، التي تسد آخر ثغرة من المساحات المكشوفة المتاخمة للطريق المحيط بالمدينة. وفي توقيت زيارة هيومن رايتس ووتش في سبتمبر/أيلول 2015، كانت إنشاءات 6 بنايات قد أوشكت على الانتهاء. تضم البنايات ما مجموعه 96 شقة سكنية، يصفها المطور العقاري بأنها مجمع سكني مركزي الموقع يتمتع بالوعي البيئي، باسم آرييل الخضراء (آرييل هايروكا).[157]

بحسب منشور إعلاني على الإنترنت فإن مصرفا إسرائيليا يمول آرييل الخضراء من خلال "اتفاق مُصاحب" مع المطور الإسرائيلي.[158] هذه الاتفاقات التي تحكم أغلب مشاريع البناء في إسرائيل، توفر قرضا للإنشاءات وتحمي المشترين أثناء مرحلة البناء.[159] المصرف المصاحب يعطي مشتري الشقة ضمانا ويودع مدفوعاته في حساب مصرفي مخصص لذلك، في حين يراقب الوضع المالي للمشروع وتطوره. في بعض الحالات يضمن المصرف المصاحب العقار إلى أن يبيع المطور كل وحدات الإسكان في المشروع. لا المصرف ولا المطور ردّا على رسائل هيومن رايتس ووتش إليهما التي كان بها نتائجنا الأولية وطلبات بمزيد من المعلومات.

لكن يقع موقع البناء، مثله مثل آرييل بأكملها، على أراض صادرتها إسرائيل في خرق للقانون الدولي الإنساني. يُرجح أن السكان هم مدنيون إسرائيليون أتيح نقلهم إلى أرض محتلة من قبل الدولة الإسرائيلية، في انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة.

قام نظام س.، وهو مزارع من سلفيت، باطلاع هيومن رايتس ووتش على وثائق يقول إنه جمعها وتخص 173 قطعة أرض مملوكة لفلسطينيين من سلفيت حول آرييل، استنادا إلى مقابلاته مع أصحاب الأراضي، وقال إن إسرائيل صادرت بعض القطع بالكامل، بينما قيدت الوصول إلى القطع الباقية.[160] وبحسب خريطة نظام فإن الأرض المخصصة لآرييل الخضراء تتاخم أرضا تخص مزارعا من سلفيت باسم عبد الغني عفانة، وقد توفي. لا تمتد خريطة نظام إلى المساحة المبنية من آرييل، لكنه قال لـ هيومن رايتس ووتش إن أرض عفانة كانت تمتد حتى مساحة آرييل الخضراء.

بحسب شقيق عبد الغني، إبراهيم عفانة، ونجل عبد الغني، ضرار عفانة، فإن إسرائيل صادرت نحو 70 دونما من أرض عبد الغني في أواخر سبعينات القرن العشرين. وقال إبراهيم عفانة: "كنا نستغل هذه الأرض في زراعة الخضر. كنا نزرع القمح والحمص والطماطم والخيار. كانت مصدر دخل للملاك وغيرهم في القرية. إذا كان لدى شخص أرض لا يزرعها فإنه يؤجرها لآخرين يزرعونها، ويستفيد الاثنان". ما زال ضرار عفانة يمتلك 15 دونما من الأرض، التي تزوده بما يقرب من نصف دخله، لكن إسرائيل قصرت وصوله على دونمين اثنين فقط منها حينما شيدت جدار الفصل حول آرييل في 2004. ويعمل نجل إبراهيم عفانة في مصنع بمستوطنة بركان.

كما تعمل الشركات، مثل هذا المصرف، على ترويج خرافة آرييل كمدينة إسرائيلية (لا مستوطنة في أراضي محتلة)، وتسهل اندماج المستوطنة بسلاسة تامة في الاقتصاد الإسرائيلي. وقد شرح المطور العقاري لآرييل الخضراء في مقابلة مع صحيفة هآرتز قائلا إن "آرييل من منظوري العقاري ليست جزءا من يهودا والسامرة، فآرييل اليوم مدينة إسرائيلية من كل وجه من الوجوه".[161] وفي المقابلة نفسها نسب نجاحه في آرييل إلى استباقه لبقية المطورين، من خلال استعداده للعمل، على حد تعبيره، "في بيئة من انعدام اليقين". من وجهة نظر الأعمال يتجلى انعدام اليقين على هيئة مخاطرة مالية. في رأي هيومن رايتس ووتش فهناك عنصر واحد على الأقل من انعدام اليقين قد يعكس تبعات البناء على أرض مستحوذ عليها عن طريق انتهاك التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي.

كما سلف الذكر فإن التوسع الاستيطاني من خلال بناء مساكن يخرق القانون الدولي الإنساني. والشركات التي تستثمر في عقارات آرييل، مثل المصرف والمطور الإسرائيليين المشاركين في آرييل الخضراء، لا تسهل انتهاكات إسرائيل فحسب، بل إنها أيضا، في رأي هيومن رايتس ووتش، تتربح منها. ففي الأعوام الستة حتى 2013، ارتفعت أسعار المنازل في آرييل بأكثر من الضعف، مما وضع المستوطنة ضمن أعلى 10 بلدات إسرائيلية من حيث تصاعدت أسعار المنازل في الفترة نفسها، بحسب إحصائيات وزارة الإسكان والبناء.[162] وقال المطور في مقابلته مع هآرتز: "كل مطور قام بالبناء في آرييل ربح كثيرا من المال هناك".

إنها مدينة جيدة للمطورين. إن المكونات الثلاثة التي تحدد العائد ـ الأسعار والموقع والتوقيت ـ كانت تعمل لصالحنا. منذ 3 سنوات اشترينا الأرض في المدينة بسعر زهيد، والمسافة بينها وبين تل أبيب مماثلة لبعد هود هاشارون [وهي مدينة داخل إسرائيل] عن تل أبيب. المنزل المكون من 4 غرف في آرييل، الذي كان منذ عامين يتكلف ما لا يزيد على 800-900 ألف شيكل [200-225 ألف دولار]، يتكلف اليوم 1.05 مليون [262500 دولار].[163] صنفت إسرائيل آرييل على أنها منطقة أولوية وطنية من الفئة "أ"، مما أدخل تخفيضات إضافية على تكاليف المطورين بسبب الدعم السخي الذي تخضع له كلفة البناء.

بحسب وثائق متوفرة في المجال العام، يمول المصرف عدة مشروعات إنشائية كبيرة الحجم في المستوطنات، فبالإضافة إلى تمويل آرييل الخضراء، مول البنك ما لا يقل عن 247 شقة سكنية أو منزلا خاصا، ومركزا تجاريا ومنتزها في مستوطنة معاليه أدوميم، إلى جانب 38 شقة سكنية في فسغات زئيف، و273 في حار حوما.[164] وقد توسعت وسائل الإعلام في نشر التقارير عن التوسعات المقررة في مستوطنتي جبعات هاماتوس وحار حوما، بسبب حساسية المنطقة بالنسبة لحل الدولتين على نحو مستدام.[165] ويقدم موقع مزراحي تفحوت الإلكتروني شققا "للبيع المسبق" في مستوطنات حار حوما وجبعات هاماتوس ومودعيني إليت وفسغات زئيف الشرقية، مما يشير على الأرجح إلى أن البنك يمول إنشاءاتها.[166] كما يدير 18 ماكينة صراف آلي (أيه تي إم) و23 محطة خدمة في المستوطنات.[167]

دراسة حالة: عقارات المستوطنات

كما هو حال أسواق الإسكان في كل مكان، تلعب الشركات العقارية دورا مهما في تسويق وبيع العقارات في المستوطنات. في حالة المستوطنات، فهي تسوق عقارات تقع على أراض تمت حيازتها في مخالفة لقوانين الاحتلال، إلى مشترين محتملين يمنعهم القانون الدولي الإنساني من الانتقال للعيش بالمستوطنات. يتناول التقرير حالة شركة عقارات على هذه الشاكلة، كنموذج دال وشارح لا أكثر: تعمل "ريماكس"، وهي سلسلة للسمسرة العقارية الدولية متمركزة في كولورادو، في أكثر من 95 بلدا حول العالم، وتزعم أنها تستحوذ على أكبر حجم من أعمال العقارات في العالم. كما أن لها امتيازا في إسرائيل، فهي تُعد أكبر شبكة سمسرة عقارية في البلاد، بحسب موقعها الإلكتروني. تضم السلسة أكثر من 100 فرع.[168] ويقع واحد من تلك الفروع في مستوطنة معاليه أدوميم، بينما توفر عدة فروع أخرى عقارات للبيع أو الإيجار في مستوطنات.[169] ويتباين عدد المنازل التي تطرحها "ريماكس" للبيع أو الإيجار في المستوطنات، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على سبيل المثال، كانت تدرج 80 عقارا في 18 مستوطنة على موقعها الإلكتروني الإسرائيلي.[170] تشمل هذه القوائم 12 عقارا في آرييل، للبيع بقيمة إجمالية تبلغ 13 مليون شيكل (3.25 مليون دولار).[171]

وقد بنيت معاليه أدوميم وآرييل، مثل جميع المستوطنات، على أراض صادرتها إسرائيل وتستخدمها في الوقت الحاضر في مخالفة للقانون الدولي الإنساني. ومثل آرييل، التي ناقشناها بالتفصيل أعلاه، شيدت الحكومة الإسرائيلية معاليه أدوميم على أرض صادرها الجيش بزعم "الاستخدام العسكري"، رغم استغلال الأرض على الفور لأغراض مدنية. وقد بدأت إسرائيل في إنشاء المستوطنة كمكان لسكنى موظفي ميشور أدوميم، وهي منطقة صناعية أنشئت في 1974.[172] استولت إسرائيل على معظم الأرض التي تشغلها معاليه أدوميم حاليا من خلال أوامر عسكرية في 1975 و1979، لكنها وسعت الحدود البلدية للمستوطنة في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، مؤدية في كل حالة إلى إجلاء البدو المقيمين حول معاليه أدوميم.[173] ويظل الآلاف من البدو المقيمين في المنطقة، والذين انتقلوا إليها من جنوب إسرائيل في خمسينات القرن العشرين، مهددين بالطرد، كما هدمت إسرائيل العديد من منازلهم وممتلكاتهم.[174]

من خلال الدعاية، وبيع وتأجير المنازل في المستوطنات، يقوم امتياز "ريماكس" الإسرائيلي، و"ريماكس إل إل سي" صاحبة السلسلة العالمية، بالتسهيل والاستفادة من نقل المدنيين الإسرائيليين إلى أراض محتلة، وما يصاحبه من انتهاكات حقوقية تناقض مسؤولياتهما الحقوقية.

كما أن إسرائيل تحظر فعليا على فلسطينيي الضفة الغربية الشراء أو الاستئجار في المستوطنات، حتى في حالة مصادرة إسرائيل لأراضيهم لبناء المستوطنة. هناك أمر عسكري يحظر على غير الإسرائيليين دخول المستوطنات بدون تصريح، وبالتالي يلزم الفلسطينيين في الضفة الغربية بالحصول على إذن للعمل فيها.[175] الفلسطينيون الحائزون على الجنسية أو الإقامة الإسرائيلية مسموح لهم قانونا بالعيش في المستوطنات، لكن بحسب الإحصاء السكاني الأحدث، فإن 400 فقط يعيشون في مستوطنات بالضفة الغربية وعدد أكبر بقليل يعيشون في مستوطنات القدس الشرقية.[176] حتى 2008 كان الفلسطينيون المقيمون في القدس الشرقية – بعد ضمّ إسرائيل لها بشكل أحادي الجانب في 1967 – قد أصبحوا سكانا للقدس، لكن ليس مواطنين إسرائيليين، ويحتاجون موافقات خاصة لشراء ممتلكات في المستوطنات. تم تعديل النظام القانوني المعني بذلك فيما بعد.[177]

وبالنظر إلى طبيعة المستوطنات، اليهودية على نحو شبه حصري، والقواعد التي تحظر على السكان الفلسطينيين بالضفة الغربية فعليا أن يعيشوا هناك، فإن الوكلاء الذين يبيعون العقارات فيها يسهمون فعليا في ممارسة التمييز ضد الفلسطينيين. وقد قام فرع الاستيطان بالمنظمة الصهيونية العالمية، وهو كيان تموله الحكومة الإسرائيلية بالكامل ويتبع مكتب رئيس الوزراء مباشرة، بإنشاء معظم المستوطنات والسيطرة عليها، بهدف معلن هو "إقرار وتقوية الاستيطان اليهودي على حواف البلاد من خلال تشديد قبضته على أراضي الدولة التي منحته الحكومة إياها".[178]

ولا يدرج موقع "ريماكس" الإلكتروني، المنشور بالإنجليزية والعبرية حصريا، أي وكلاء من متحدثي العربية في القدس ومعاليه أدوميم، وهي المنطقة التي يتركز فيها معظم عقاراته في المستوطنات. تحدثت هيومن رايتس ووتش مع أحد وكلاء "ريماكس" وكان لديه عقاران مدرجان بمستوطنة في القدس الشرقية، فقال: "لا أشتري من العرب ولا أبيع لهم. ليست عنصرية، لكنني أفضل عدم التعامل معهم".[179] وقال إنه لا يعرف ما إذا كان في هذا مخالفة لسياسات "ريماكس"، وأضاف: "إنني أقتسم الأرباح معهم فقط، فنحن مثل الشركاء. لا يمكنهم إجباري على البيع لأي شخص".

لم ترد "ريماكس" إسرائيل ولا "ريماكس إل إل سي" على خطاب من هيومن رايتس ووتش لاطلاعهما على نتائجنا المبدئية وطلب معلومات إضافية. لكن المقر الرئيسي للشركة، في بيان صحفي يرد على حملة من منظمة "كود بينك"، وهي منظمة للمناصرة مناهضة للاستيطان، انتقدت مبيعات "ريماكس" في الأراضي المحتلة، أوضح أنه باع حقوق الامتياز عن أوروبا، التي كانت تضم إسرائيل، في 1995.[180] ثم قامت ريماكس أوروبا ببيع علامة ريماكس التجارية في العام نفسه إلى مالكها الحالي، برنارد راسكين.[181] ونتيجة لهذا زعم المقر الرئيسي لريماكس أنه "ليس على علاقة تعاقدية مع ريماكس إسرائيل".

ومع ذلك فإن ريماكس تحتفظ بسيطرتها على أي امتياز يعمل تحت العلامة التجارية لريماكس. وبحسب الوثائق التنظيمية المقدمة إلى لجنة السندات المالية والتداول الأمريكية فإن ريماكس القابضة، وهي الشركة التي تخضع للتداول العام في البورصة، وتعتبر الشركة الأم لريماكس إل إل سي، تحتفظ بالسيطرة النهائية على الترخيص لأصحاب الامتياز باستخدام علامتها التجارية وموادها الدعائية والتشغيلية ومفاهيمها.[182] ولريماكس القابضة الحق في اقتناء أي امتياز وإعادة بيعه أو تشغيله إذا أخفق في الأداء بموجب اتفاقية منح الامتياز.[183] وبالنظر إلى ما تمارسه ريماكس من تأثير فإن مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية تلزم الشركة باستخدام هذا التأثير في إيلاء حقوق الإنسان العناية الواجبة على امتداد سلاسل توريدها، بما في ذلك من خلال فحص أنشطة أصحاب امتيازها بغض النظر عن خضوعهم لعلاقة تعاقدية أعرض معها من عدمه.

كما أن تأثير ريماكس إل إل سي ومسؤوليتها عن ريماكس إسرائيل تنعكس في ردها على كود بينك. في ذلك الخطاب قالت ريماكس إل إل سي إنها "تدرك الطبيعة الجدية للجدل المحيط بشركات العقارات في الضفة الغربية، وهي تعمل للتوصل إلى حل مقبول لجميع الأطراف". ومن غير الواضح كيف يمكن للحل الذي اقترحته في الخطاب، ألا وهو وضع الضفة الغربية تحت اختصاص صاحب الامتياز الممثل للشركة في دولة الأردن، أن يحل المشاكل المشار إليها في هذا التقرير، لكنه مع ذلك يبرهن على تأثيرها على أصحاب الامتياز الممثلين لها.

علاوة على هذا فإن ريماكس إل إل سي تحصل على مزايا مالية من قيام ريماكس إسرائيل ببيع عقارات في المستوطنات. وبحسب وثائقها المودعة لدى لجنة السندات والتداول فإن ريماكس إل إل سي "تولد عائدات من رسوم الامتياز المستمرة، ومن المستحقات السنوية، ومن رسوم السمسرة، ومن مبيعات الامتياز وغيرها من عوائد الامتياز والسمسرة".[184] وقد حسبت هيومن رايتس ووتش أن القيمة الإجمالية للعقارات المعروضة للبيع في المستوطنات يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 كانت تبلغ نحو 145 مليون شيكل (36.25 مليون دولار).[185] ومن المفترض أن ريماكس لن تبيع هذه العقارات كلها، لكن هذه العقارات تقتنص لحظة زمنية واحدة، وهناك عقارات استيطانية جديدة تضاف إلى الموقع الإلكتروني بانتظام. ولم يتضح تماما مقدار العوائد المتحصلة من تلك المبيعات، أو من رسوم السمسرة أو غيرها المتحصلة من فرع ريماكس الواقع في مستوطنة معاليه أدوميم، لصالح ريماكس إل إل سي، كما لم ترد الشركة على طلبات هيومن رايتس ووتش لتلك المعلومات.[186]

ويخلص مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالوضع الحقوقي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 إلى استنتاج مماثل في تقرير قدمه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2013، بغية تقييم مسؤوليات الشركات العاملة في الأراضي المحتلة بموجب القانون الدولي. يخلص التقرير إلى أن ريماكس الدولية (ويبدو أن هذا اللفظ يشير إلى ريماكس إل إل سي) توفر "الانتساب والاعتراف المرتبطين بعلامة تجارية دولية، والتدريب المبدئي والمستمر، والموارد التقنية، والدعاية والتسويق" للامتياز الإسرائيلي، وقد تربحت من تلك المبيعات، وهي بصفة عامة "على تفاعل مستمر ونفوذ متصل على صاحبة امتيازها".[187] وبهذه الصفة فقد وجد المقرر أن ريماكس الدولية وريماكس إسرائيل "تساهمان مساهمة مباشرة" في انتهاك القانون الدولي الإنساني والآثار الحقوقية السلبية، ومن ثم فإن عليهما التوقف عن بيع أو تأجير العقارات في الأراضي المحتلة. وإذا لم تكن ريماكس إل إل سي على علم مسبق بنشاط الشركة صاحبة امتيازها في المستوطنات فإن هذا التقرير بمثابة إخطار رسمي لها، يعزز مسؤوليتها عن اتخاذ إجراءات تصحيحية.

مصادرة الأراضي

إن تاريخ إنشاء آرييل وتوسعها يبرهن على كيفية ترافق سياسات إسرائيل الاستيطانية يدا بيد مع سياساتها في مصادرة الأراضي الفلسطينية وتقييد حرية الفلسطينيين في التنقل، بما في ذلك قدرة المزارعين على الوصول الحر إلى أراضيهم. بما أن التوسع صعب دون شركات تمول وتشيد وتؤجر وتبيع العقارات، ففي رأي هيومن رايتس ووتش تعد الشركات الضالعة في بناء منازل جديدة في المستوطنات، أو اجتذاب سكان جدد، مُساهمة في الانتهاك الحتمي لحقوق الفلسطينيين الذي ينطوي عليه توسع المستوطنات، أو تستفيد من ذلك الانتهاك.

خلفية: خرافة أراضي الدولة

في سبتمبر/أيلول 1967، بعد 3 أشهر من بدء الاحتلال الإسرائيلي، قدم ثيودور ميرون الذي كان وقتذاك يشغل منصب المستشار القانوني لوزارة الخارجية الإسرائيلية ثم أصبح رئيسا للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، قدم رأيا قانونيا يقرر أن المستوطنات تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة، وأوصى بإتمام أي نقل لمواطنين إسرائيليين إلى الأراضي المحتلة "عن طريق كيانات عسكرية وليست مدنية ... في إطار المعسكرات، وأن يكون للوهلة الأولى ذا طبيعة مؤقتة وليست دائمة".[188]

وطوال عقد السبعينات من القرن العشرين، صادر الجيش مساحات واسعة من الأراضي الخاضعة لسيطرته، بما فيها أراض فلسطينية خاصة، متعللا بأغراض أمنية، وخصصها لإنشاء مستوطنات يهودية. وقد سعت مجموعة من العاملين في صناعة الطائرات، كانت تطلق على نفسها اسم "مجموعة تل أبيب"، سعت للمرة الأولى إلى بناء مستوطنة حضرية كبيرة في "قلب السامرة" في 1973، لكن الحكومة لم توافق عليها إلا بعد وصول الليكود إلى السلطة في 1977.[189] وفي 1978 و1979، أصدر الجيش 3 أوامر بمصادرة ما مجموعه 4613 دونما (461 هكتار) لإنشاء آرييل.[190] في البداية عرّفت إسرائيل موقع المستوطنة بأنه قاعدة جوية، حتى بينما كانت وزارة الإسكان والبناء تبني المنازل للمستوطنين المدنيين هناك، ثم أعلنت الحكومة عن آرييل كمجلس بلدي محلي في 1981.

تغير أسلوب إسرائيل في السيطرة الأراضي الفلسطينية لصالح توسعة المستوطنات في أعقاب قرار من المحكمة العليا في أكتوبر/تشرين الأول 1979، يعرف باسم حُكم "إيلون موريه"، وقضي بأن ممارسة الحكومة لتخصيص الأراضي الخاصة المصادرة لأسباب أمنية لصالح المستوطنات ينتهك القانون الدولي، بما أن دولة الاحتلال لا يجوز لها مصادرة الأراضي إلا لأغراض أمنية أو لصالح السكان الخاضعين للاحتلال. ردت الحكومة الإسرائيلية على هذا الحكم بقرار إجماعي بالاستمرار مع ذلك في توسعة المستوطنات في الأراضي المحتلة.[191]

اتبعت إسرائيل مجموعة جديدة من القواعد لتمكينها من مصادرة الأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنات اليهودية. ففي مطلع ثمانينات القرن العشرين، أحيت إسرائيل قانونا من الحقبة العثمانية يجوز بموجبه للحكومة أن تعلن عن الأراضي التي لا تعتبر مملوكة ملكية خاصة، أو التي لم تزرع لمدة 3 سنوات متصلة، كـ"أراض للدولة".[192] وفي العقود التي تلت تنفيذ إسرائيل لهذه السياسة، قامت الإدارة المدنية بتخصيص مساحات هائلة من الضفة الغربية، تصل إلى نحو 1.3 مليون دونم (130 ألف هكتار) كأراض للدولة، وخصصت حوالي نصف تلك المساحات للمستوطنات أو للمصالح التجارية الإسرائيلية، وقسما ضئيلا منها فقط للفلسطينيين.[193] في 2013 قامت المحكمة العليا بإرغام الإدارة المدنية على الإفراج عن وثائق تكشف أنها منذ إنشائها في 1981 خصصت 0.7 بالمائة فقط لا غير من الأراضي المصنفة كأراضي دولة للفلسطينيين، وفي المقابل خصصت 400 ألف دونما (30 بالمئة) من تلك الأراضي لفرع الاستيطان بالمنظمة الصهيونية العالمية، المسؤول عن إنشاء المستوطنات السكنية والزراعية، و160 ألف دونما (12 بالمائة) لشركة ميكوروت للمياه، وشركة بيزيك للاتصالات، وشركة إسرائيل للكهرباء، وكلها شركات مملوكة للحكومة، و103 ألف دونما (8 بالمئة) لشركات الاتصالات المحمولة وأفرع الحكم المحلي.

وقد تداخلت بعض الأراضي التي أعلنت إسرائيل عن ملكيتها للدولة مع أراض سبق لها مصادرتها بأوامر عسكرية منذ سبعينات القرن العشرين. ويبدو أن إسرائيل قامت بإعلان كهذا في آرييل في منتصف سنوات الـ 2000، إذ صنفت منطقة متداخلة مع أراض مصادرة في سبعينات القرن العشرين كأراضي دولة.[194] ومع ذلك فإن هذا الإعلان لم يضم مساحة كبيرة من الأرض التي سبقت مصادرتها وتنميتها، وتبين صور فوتوغرافية ملتقطة في سبعينات القرن العشرين أن مزارعين فلسطينيين استزرعوا جزءا من تلك المساحة على الأقل.[195]

تتسبب مصادرة إسرائيل للأراضي الفلسطينية لصالح الاستيطان في انتهاك القانون الدولي بغض النظر عما إذا كانت مملوكة ملكية خاصة. ومع ذلك فقد امتنعت محكمة إسرائيل العليا عن البت في مشروعية السياسة الإسرائيلية المتمثلة في بناء المستوطنات على أراض مصنفة كأراض تملكها الدولة، على أساس أنها مسألة سياسية تتجاوز اختصاص المحكمة، فسمحت لتلك السياسة بالمضي قدما دون عوائق في الممارسة الفعلية.[196]

وقال رئيس مجلس مردا القروي، أسامة خفوش، لـ هيومن رايتس ووتش إن الخسارة التراكمية التي تكبدتها القرية لصالح آرييل كان أثرها مدمرا. فالقرية التي تعود للعصور الرومانية بحسب سكانها، تقع على الحد الشمالي الشرقي لآرييل، وتروي الأسطورة المتداولة عن القرية أن اسم مردا، المشتق من التمرد في العربية، يشير إلى تأييدها لإعادة فتح فلسطين على يد صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر.[197] ويقع مركز القرية، الذي يبلغ عدد سكانه 3000 نسمة، في المنطقة "ب"، ومن ثم فهو يخضع للسلطة الإدارية الفلسطينية، لكن جميع الأراضي المحيطة تقع في المنطقة "ج" وقد صادرت إسرائيل معظمها لصالح توسعة آرييل، أو فصلتها عن القرية بجدار الفصل المقام حول آرييل في 2004. تقليديا، كان سكان مردا يكسبون عيشهم على نحو شبه حصري من الزراعة أو الرعي، ولذا فإن ضياع الأرض أرغم السكان على البحث عن وظائف بديلة، كما قال خفوش.[198] "كان لدينا 10 آلاف رأس من المواشي، والآن لا تكاد تجد 100 منها، فلا يوجد مكان ترعى فيه. وهكذا انهار الاقتصاد وتزايدت البطالة".

مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة

رغم قرار المحكمة العليا لسنة 1979، تواصل الحكومة الإسرائيلية، التي تعمل في أكثر الأحيان في تعاون وثيق مع المستوطنين، تحويل أراض فلسطينية خاصة إلى مستوطنات. وتقدر المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية "السلام الآن"، باستخدام بيانات قدمتها الإدارة المدنية، أن نسبة المستوطنات المبنية على أرض فلسطينية ظلت بدون تغيير تقريبا بعد قرار "إيلون موريه".[199] تعتبر مصادرة إسرائيل المستمرة لأراض فلسطينية مملوكة ملكية خاصة انتهاكا لقوانين إضافية منتمية إلى القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ومواصلة لإفقار الفلسطينيين. تفرض لوائح لاهاي حظرا قطعيا على مصادرة الممتلكات الخاصة، وتحظر اتفاقية جنيف الرابعة تدمير الممتلكات الخاصة ما لم يشكل هذا "ضرورة مطلقة" لأغراض عسكرية. وفي سياق متصل، تفرض إسرائيل قيودا مشددة على وصول آلاف المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم الواقعة قرب مستوطنات، مما يسلب الأرض معظم قيمتها الإنتاجية ويكلف المزارعين أرزاقهم.

تستخدم إسرائيل عددا من الأساليب لمواصلة مصادرتها للأراضي الفلسطينية الخاصة لصالح توسعة المستوطنات. فلدى معظم أصحاب الأراضي الفلسطينيين، في المنطقة المحيطة بآرييل، وثائق ضريبية تثبت ملكيتهم، لكنهم لا يملكون الحجة الرسمية التي تسمى "طابو"، بما أن وثائق الضرائب كانت تعد كافية بموجب القانون الأردني.[200] لكن بحسب الممارسات والسياسات القضائية والعسكرية الإسرائيلية، يمكن الإعلان عن أية أراض غير مسجلة رسميا كأراضي دولة. ويقع العبء آنذاك على كاهل صاحب الأرض لإثبات ملكيته من خلال عملية طويلة ومكلفة تتضمن في المعتاد إبراز الوثائق الضريبية وجمع شهادات من الجيران والمسؤولين المحليين، وتسديد مقابل عملية مسح جغرافي للأرض بإذن من المحكمة.[201] وفي أحيان كثيرة تحكم المحاكم الإسرائيلية ضد صاحب الأرض.[202] وحتى إذا تسنى إثبات الملكية فإن على أصحاب الأراضي أن يكونوا قد زرعوا ما لا يقل عن 50 بالمائة من مساحة القطعة خلال السنوات الثلاث المنقضية وإلا ارتدت الأرض لملكية الدولة دون تعويض لأصحابها.[203]

قال يوسف محمد واني، وهو مزارع من قرية مردا، لـ هيومن رايتس ووتش إن والده كان يمتلك ما يزيد على ألف دونم (100 هكتار)، لكنه خسرها كلها تقريبا على مر السنوات لصالح آرييل.[204] قال واني: "لقد أخذوها قليلا بقليل". وأضاف:

في البداية [في 1978 و1979] أخذوا 100 دونم ووضعوا هناك منازلا متنقلة. وفي ثمانينات القرن العشرين أحاطوا المزيد من الأرض بسياج من السلك الشائك. لم يصادروا الأرض، لكنهم أعلنوها منطقة عسكرية مغلقة. ثم شرعوا في البناء عليها. وفي كل مرة كانوا ينقلون السياج [بحيث يضم المزيد من الأرض]، ويقولون إن هذا لأسباب أمنية. وبحسب واني كان والده، في كل مرة تصادر فيها إسرائيل المزيد من أرضه، يتقدم بشكوى في المحكمة الإسرائيلية العسكرية المحلية، ويبرز جميع الأدلة المطلوبة على الملكية، ومع ذلك كان يخسر في كل مرة. ولم يبق سوى 60 دونما تقع خلف جدار الفصل المشيد في 2004، ولا يمكنه الوصول إليها سوى مرتين في العام، بحسب قوله.

تحدثت هيومن رايتس ووتش مع سليمان شملاوي، من قرية حارس القريبة، فقال إن عائلته كانت تمتلك 215 دونما (22 هكتارا) من الأرض، وأقيمت عليها أجزاء كبيرة من منطقة بركان الصناعية الملاصقة لآرييل.[205] وبحسب سليمان فقد كانت هناك عدة منازل على أرض عائلته، بالإضافة إلى مقلع تشغله العائلة قبل مصادرة الجيش الإسرائيلي للأرض في 1981. أعلنت إسرائيل عن الأرض كأرض للدولة في 2 فبراير/شباط 1981، بزعم أنها أجرت تحقيقات وتأكدت من أنها غير مملوكة ملكية خاصة.[206] ولم يكن سليمان، مثل أكثر أصحاب الأراضي الفلسطينيين في تلك المنطقة، قد قام بتسجيل ملكيته رسميا قبل 1967، رغم امتلاكه لسجلات ضريبية تم الاعتراف بها كأدلة على الملكية من جانب السلطات الأردنية في ذلك الوقت. وبعد معركة قضائية طويلة، وافقت إسرائيل في أثنائها على إنشاء مصانع على الأرض، وقدمت لها الدعم، ارتأت المحكمة الإسرائيلية العليا أن سليمان أثبت ملكيته للأرض إلى حد كاف، ويمكنه تسجيلها لدى السلطات الإسرائيلية.[207] ومع ذلك ففي 2006 أتت منظمة استيطانية وادعت أنها اشترت الأرض، وأبرزت عقد بيع من 1963 يفترض أنه يبين أن والد سليمان باع الأرض إلى شخص فلسطيني.[208] وفي 2007 قامت لجنة التسجيل المبدئي للأرض، وهي الهيئة الإسرائيلية المكلفة بتسجيل الأراضي الفلسطينية، برفض طلب المستوطنين لتسجيل الأرض، معتبرة أن ادعاءهم ملكيتها يفتقر للمصداقية.[209] ويصر سليمان على أن عقد البيع مزور، كما يوضح أن العقد ظهر بعد الدعوى بسنوات، وأن المشتري المفترض كان عمره 10 سنوات لا غير في توقيت البيع.[210]

وبحسب محامي سليمان فإن الجيش الإسرائيلي، في أعقاب رفض طلب المستوطنين، أصدر أمرا عسكريا بمصادرة ذلك الجزء من أرض سليمان الذي يؤوي مصانع في بركان، والبالغة مساحته نحو 170 دونما.[211] وهكذا سمح لسليمان بأن يسجل باسمه 42 دونما فقط من الأرض المهملة، رغم استمرار المنظمة الاستيطانية في الاعتراض على حق سليمان وسعيها إلى استغلال الأرض.[212] ووفق سليمان ومحاميه فإن المستوطنين حضروا إلى المنزل بجرافة في 2009 وهددوا بهدمه إذا لم يتنازل عن قضيته.[213] وفي أكتوبر/تشرين الأول 2014، بعد متابعة القضية لأكثر من ثلاثة عقود، فاز سليمان بانتصار جزئي: ألقت لجنة تسجيل الأراضي بشكوك قوية حول مزاعم المستوطنين ووافقت على تسجيل 42 دونما لم تتم تنميتها ولا تخصيصها لأنشطة في بركان بعد باسم سليمان.[214]

وقد كلفت الدعوى سليمان الكثير من الوقت والمال، حيث أن رسوم تسجيل الأرض ومساحتها وحدها كلفته 6300 شيكل (1575 دولار) بحسب قوله. أما تكاليف المحكمة والمحامين، والضغوط من الجيش والمستوطنين، وانخفاض الأمل في الإنصاف من المحاكم الإسرائيلية فهي تثبط عزم الفلسطينيين عن رفع مثل هذه الدعاوى، كما قال سليمان، رغم أن "الكثير من الأراضي التي بنيت عليها بركان كانت مزروعة فيما سبق بأيدي فلسطينيين".

الطريقة الأخرى التي يعتمدها المستوطنون في مواصلة إنشاء المستوطنات وتوسعتها، بما فيها آرييل، على أراض فلسطينية، هي شراء الأرض من أصحابها أو ادعاء شرائها. لكن حتى في حالات البيع القانوني، لا يغير الوضع القانوني للأرض كأرض محتلة، ويواصل القانون الدولي الإنساني ذو الصلة انطباقه. وعلاوة على هذا ظهر عدد من الحالات التي اعتمدت مزاعم المستوطنين فيها على وثائق مثيرة للشكوك أو باعة لا يحق لهم بيع الأرض المعنية قانونا.[215] ويضطر أصحاب الأراضي الفلسطينيين إلى استثمار وقت وأموال طائلة في الدفاع عن أنفسهم ضد تلك التحديات، والفوز غير مضمون بالنظر إلى صعوبة إثبات عدم وقوع بيع.

في مارس/آذار 2013 تقدمت شركة لتنمية المستوطنات لتسجيل نفسها كمالكة لما لا يقل عن 120 دونما (12 هكتارا) من الأرض المتاخمة لآرييل من جهة جدار الفصل.[216] وكانت الأرض تخص عائلة عفانة، وهي عائلة كبيرة من سلفيت، لما لا يقل عن 100 عام، بحسب ممدوح عفانة.[217] ورث ممدوح وأشقاؤه السبعة الأرض عن أبيهم، عبد رؤوف عفانة، المتوفى في 1963.[218] وتزعم شركة تنمية المستوطنات أنها اشترت الأرض، وقد أبرزت نسخة من شيك للشركة بتاريخ 28 فبراير/شباط 2002، بمبلغ 100 ألف شيكل (25 ألف دولار).[219] ويقول ممدوح إنه لا يعرف البائع المزعوم، وهو فلسطيني غريب عن عائلة عفانة وكان من سكان الضفة الغربية سابقا لكن يبدو أنه حصل منذ ذلك الحين على الجنسية الإسرائيلية.[220] كما يحتج ممدوح أيضا بأن الأشقاء الثمانية، بما أنهم جميعا شركاء في ملكية الأرض، فبيعها مستحيل بدون موافقتهم جميعا.

وتزعم شركة الاستيطان أنها اشترت الأرض من مالكها الأصلي، رغم أنها لم تبرز عقد البيع. وعلى الأشقاء عفانة الآن أن يثبتوا ملكيتهم للأرض في المحكمة، وهي عملية صعبة ومكلفة تتضمن تسديد رسوم مسّاح توافق عليه المحكمة. وقد لجأت العائلة إلى محافظة سلفيت للمساعدة في التكاليف، فوافقت المحافظة أخيرا على المساعدة رغم افتقارها للموارد المالية لدرجة أنها في توقيت زيارة هيومن رايتس ووتش لم تكن تملك من المال ما يكفي لدفع مقابل الوقود لموظفيها.[221] قال ممدوح إن هناك صعوبة في تبرير الاستثمار في القضية، بما أن أمله ضعيف في إمكانية الفوز بها. وقال لـ هيومن رايتس ووتش: "إنها شهادتي في مقابل شهادة شركة الاستيطان، وهي أقوى مني ومن ثم فسوف تفوز".[222]

وأخيرا فقد دأبت الحكومة الإسرائيلية على تسهيل إنشاء المستوطنات بدون تراخيص، وبالتالي بدون تحقيق رسمي في وضع الأراضي، والموافقة عليها بأثر رجعي. وقد وجد تحقيق من سنة 2005 طلبه رئيس الوزراء آنذاك أرئيل شارون، وترأسته تاليا صاصون، وهي مسؤولة بوزارة العدل، أن الحكومة الإسرائيلية انتهكت في عديد من المرات التمييز القانوني الذي تجريه هي ذاتها بين أراضي الدولة والأراضي الخاصة، وحولت ملايين الشيكلات من أموال الدولة إلى المنظمة الصهيونية العالمية لدعم "بؤر استيطانية" غير مصرح بها، تم إنشاء العديد منها على أراض كانت إسرائيل نفسها قد صنفتها كأراض فلسطينية خاصة.[223] وافقت إسرائيل لاحقا على الكثير من تلك البؤر الاستيطانية غير المصرح بها، وفي حالة أحدث وافق وزير الدفاع الإسرائيلي على طلب الحكومة لتقنين بؤرة نتيب هآبوط الاستيطانية في أبريل/نيسان 2014 رغم استقصاء حكومي يفيد بأن 60 بالمئة من البؤرة الاستيطانية مبني على أراض زراعية فلسطينية مملوكة ملكية خاصة، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية.[224] ورغم ندرة هذا التصرف إلا أن إسرائيل سبقت لها إزالة بؤر استيطانية غير مصرح بها، عادة في أعقاب أحكام قضائية تأمر الحكومة بهذا.[225]

إن الشركات الضالعة في توسعة المستوطنات تساهم في انتهاك الحقوق الفلسطينية إضافة إلى حقوق أصحاب الأراضي الذين تصادر إسرائيل الأرض منهم. وقد انعزل الفلسطينيون فعليا عن مساحات واسعة من أراضيهم، التي تعترف إسرائيل للكثير منها بأنها أراض فلسطينية خاصة، عن طريق شبكة من الأسوار المحيطة بالمستوطنات. وعلى سبيل المثال، شيدت إسرائيل منذ إنشاء آرييل 3 جدران أمنية حولها، وكان أحدثها جدار الفصل في 2004، مع توسيع المنطقة المسيجة في كل مرة. وكما نوثق في ملحق هذا التقرير فإن هذه القيود كلفت الآلاف من المزارعين الفلسطينيين أرزاقهم، في دليل إضافي، برأي هيومن رايتس ووتش، على كيفية إيذاء الفلسطينيين بفعل تورط المصالح الخاصة في توسعة المستوطنات..

كيف تساهم الشركات في دعم المستوطنات و تستفيد منها

يمتد الأثر الضار للمستوطنات الإسرائيلية وسكانها إلى ما وراء الأرض التي تقع عليها منازلهم، فالمستوطنات تتطلب طرقا وأنظمة للمواصلات وخدمات اتصالات، وغير ذلك من البضائع والخدمات. وتتولى أطراف خاصة توفير الكثير من هذه الاحتياجات ومن ثم تساهم في المصادرة غير المشروعة للأراضي والموارد الفلسطينية. كما تعمل هذه الشركات على تسهيل وجود المستوطنات من خلال إكسابها الاستدامة. في رأي هيومن رايتس ووتش، فالشركات التي تخدم المستوطنات تتربح في أكثر الأحيان من سياسات إسرائيل وممارساتها التمييزية التي تضر الفلسطينيين بينما تحابي الإسرائيليين اليهود.

فعلى سبيل المثال، تعمل هذه الشركات مثلها مثل جميع شركات المستوطنات في أرض تخضع للحكم العسكري، وتحتاج إلى موافقة الإدارة المدنية على عملها. وتوزع إسرائيل هذه التصاريح على أساس تمييزي، بحيث تصدر بيسر التصاريح بتقديم خدمات للمستوطنات الإسرائيلية، بينما تمنحها بصعوبة بالغة، إذا منحتها من الأساس، عند تقديم خدمات مماثلة للفلسطينيين. والشركات الواقعة داخل المستوطنات تساعد أيضا في جعل الاستيطان ممكنا من الناحية المالية، من خلال تسديد الضرائب لبلديات المستوطنات وتوفير الوظائف للمستوطنين، بغض النظر عما إذا كانت أنشطتها تخدم المستوطنات على نحو مباشر.

دراسة حالة: التصرف في النفايات

يؤدي نمو المستوطنات المتسارع إلى كميات متزايدة من نفايات المستوطنات. وتدلنا إدارة مخلفات المستوطنات على الكيفية التي تقوم الشركات من خلالها، لا فقط بالمساعدة في استدامة المستوطنات، بل أيضا بالاستفادة من السياسات الإسرائيلية التي تحابي المستوطنات وتساهم في المزيد من مصادرة الأراضي الفلسطينية. على سبيل المثال، هناك مدفن للنفايات يقع في غور الأردن، على أراض سجلتها السلطات العسكرية الإسرائيلية كأراضي متغيبين (فلسطينيين)، بحسب عمدة بلدة الجفتليك الفلسطينية المجاورة.[226] ويخدم المدفن المستوطنات على نحو حصري، بما فيها آرييل وبركان، وبعض المدن داخل إسرائيل.[227] وقد أقيم موقع المدفن للمرة الأولى في تسعينيات القرن العشرين، بدون خطة مصدق عليها أو إجراءات بيئية سليمة، وفق منظمة بتسيليم الإسرائيلية لحقوق الإنسان.[228] وفي 2004 قامت الحكومة بترقية وضع الموقع واستثمرت في بناء منشأة سليمة عليه، قادرة على تعميل ألف طن من القمامة يوميا.[229]

لا تقدم شركة إدارة النفايات أية خدمات للمناطق الفلسطينية، بل للمدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية فقط.[230] في رأي هيومن رايتس ووتش تستفيد الشركة من سياسات وممارسات التخطيط الإسرائيلية التمييزية في الضفة الغربية التي أوجدت عجزا كبيرا في مدافن النفايات اللازمة لتلبية احتياجات الفلسطينيين، ويساهم فيها. وتضطر بلدة سلفيت الفلسطينية، الواقعة إلى الجنوب مباشرة من آرييل، والقرى الفلسطينية المحيطة بها، إلى التخلص من نفاياتها في مواقع غير مرخص لها بسبب عدم توافر البدائل. وبحسب مدير الشؤون المحلية في محافظة سلفيت، جمال أحمد، فإن الإدارة المدنية صادرت اثنتين من شاحنات النفايات فيما كانتا تغادران قريتي اسكاكا وبديا في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2015، كعقوبة لإلقاء المخلفات في مواقع غير مرخص لها في المنطقة "ج"، وغرّمت المحافظة 4000 شيكل (1000 دولار) في كل حالة.[231] قال جمال لـ هيومن رايتس ووتش: "سألناهم: أين ينتظر منا إلقاء مخلفاتنا؟ فقالوا: هذه مشكلتكم".

تقع أنسب المواقع للتخلص من مخلفات المجتمعات الفلسطينية في المنطقة "ج"، ومن ثم فهي تتطلب تصاريح إسرائيلية لإنشائها وتشغيلها.[232] وقد اتضح أن هذه التصاريح بعيدة المنال، فهناك في الوقت الحاضر 3 مدافن لمخلفات الفلسطينيين تعمل بتصاريح في المنطقة "ج": واحد قريب من جنين، وآخر قرب بيت لحم بتمويل من مجموعة البنك الدولي، والثالث قرب أريحا.[233] أما خطة إنشاء مدفن رابع قرب رام الله، بتمويل من البنك الألماني للتنمية، فقد تجمدت حاليا، على ما يبدو بسبب نزاع مع الإدارة المدنية على استخدام المستوطنين للموقع.[234]

وفي حالة مدفن النفايات القريب من بيت لحم، ويسمى المنيا، رفضت الإدارة المدنية الموافقة على الموقع إلا إذا قبل تعميل نفايات المستوطنات الإسرائيلية، وهو المطلب الذي من شأنه إذا تم قبوله أن يورط البنك الدولي في تمويل رفع مخلفات المستوطنات المقامة بالمخالفة للقانون الدولي.[235] بعد تأخير استمر شهرين، وافقت إسرائيل في النهاية على إصدار تصريح للمدفن بدون الإشارة إلى مخلفات المستوطنات، وبدأ موقع المنيا العمل في مارس/آذار 2013. ومع ذلك، بحسب البنك الدولي، فإن "مخلفات المستوطنين تنقل بكميات محدودة إلى الموقع في مواكب عسكرية، رغم غياب الاتفاق على هذا مع الفلسطينيين".[236]

وفي حالة أخرى أمرت الإدارة المدنية بإغلاق مدفن نفايات البيرة الذي يقع قرب رام الله وحوالي 25 كلم شمالي القدس. كان الموقع يعمل طوال عقود بدون تصريح، ويخدم البيرة والمستوطنات الإسرائيلية القريبة على السواء. وفي 2010 تخلصت البيرة من 13380 طن من النفايات هناك، بينما ألقت المستوطنات فيه 29478 طنا.[237] وكان الموقع يفتقر إلى البنية التحتية السليمة، فأمرت السلطات الإسرائيلية بإغلاقه بسبب أثره البيئي والصحي السلبي.[238] ويحتج مسؤولو بلدية البيرة بأن الإدارة المدنية هددت بإغلاقه للمرة الأولى في 2011، بعد معارضة البلدية لخطة الإدارة المدنية التي تقضي بتوسيع المدفن في تلاصق مع منازل سكنية في البيرة.[239] رفضت الإدارة المدنية الموافقة على الموقع الذي يموله البنك الألماني للتنمية، والذي كان قد تقرر حلوله محل الموقع المغلق. أما الجمعية الاستيطانية للجودة البيئية فقد أيدت البلدية الفلسطينية في معارضة إغلاق الموقع بدون بديل ملائم، حيث أن التبعات الصحية والبيئية للكب العشوائي على نطاق صغير في أماكن متفرقة ـ وهو النتيجة الحتمية لإغلاق المدفن ـ ستكون أسوأ من تأثير استمرار تشغيل المدفن الحالي.[240] في المقابل، وافقت بلدية القدس على مدفن نفايات جديد في منطقة ذات حساسية سياسية في القدس الشرقية المحتلة، لخدمة القدس والمناطق الإسرائيلية القريبة.[241] ستقام المنشأة على 520 دونما (52 هكتار) من الأراضي الفلسطينية الخاصة في معظمها، ومن شأنها أن تؤدي إلى إخلاء 120 بدويا من المقيمين هناك، بحسب تقارير إعلامية.[242]

في هذا السياق، برأي هيومن رايتس ووتش، فإن الشركة التي تدير مدفن نفايات المستوطنة تعمل على تسهيل انتهاكات حقوقية متعددة والاستفادة منها: فهو موقع مدني، لا تفرضه أية ضرورة عسكرية، وقد أنشأته دولة احتلال على أراض فلسطينية مصادرة، وتشغيله يسهل وجود الإسرائيليين المدنيين في الأراضي المحتلة من خلال خدمة المستوطنات. علاوة على هذا فإن الشركة تساهم في تخلص إسرائيل من نفاياتها في الأرض المحتلة، عن طريق تعميل المخلفات القادمة من مناطق داخل إسرائيل.

توفير الوظائف والضرائب

توفر شركات المستوطنات مصدرا هاما للوظائف والضرائب الضرورية لاجتذاب مستوطنين جدد واستدامة المستوطنات. إن بُعد بعض المستوطنات عن المراكز الاقتصادية في إسرائيل، إضافة إلى الفجوة السياسية-الاجتماعية التي تمنع المستوطنين من طلب التوظيف في المناطق الفلسطينية بالضفة الغربية، تجعل من فرص التوظيف المحلية، مثل فرص العمل بالأعمال التجارية في المستوطنات، عاملا هاما في جذب المستوطنين واستبقائهم.[243] وبحسب بيانات رسمية، في سنة 2013 كان هناك 126600 شخص يعملون في وظائف ويعيشون في المستوطنات، منهم 42 بالمائة ـ أو نحو 53300 شخص ـ يعملون في المستوطنات.[244] لا نستطيع تحديد أعداد الوظائف التي يوفرها النشاط التجاري الخاص في المستوطنات على وجه الدقة، مقارنة بالقطاع العام. لكن من الواضح، وخاصة بالنسبة للمستوطنات النائية، الأكثر بعدا عن إسرائيل، أن شركات المستوطنات توفر فرص توظيف حيوية لبقاء المستوطنات وتوسعها.

لطالما كان خلق فرص التوظيف في المستوطنات من المشاغل المحورية لمسؤولي الحكومة، المتلهفين على استبقاء المستوطنين واجتذابهم، وقد أوجد مبررا للدعم الحكومي لشركات المستوطنات على هذا الأساس. ففي اجتماع للكنيست من سنة 1984، شرح وزير الصناعة والتجارة جدعون بات:

القصد من سياسة الوزارة بشأن التنمية الصناعية في يهودا والسامرة وقطاع غزة هو تسهيل التنمية الاقتصادية للمستوطنات الإسرائيلية، من خلال إيجاد فرص للوظائف المنتجة لتلبية احتياجات السكان الموجودين علاوة على خطط التوسع [...] على أن تكون مناسبة لأنواع المهن، وأعداد السكان، وإمكانيات النمو. وتتم التنمية الصناعية على نحو محكوم ومتوازن، بمراعاة قوة العمل الموجودة في المستوطنات، بغرض تعظيم أعداد السكان الذين يجدون أعمالا قرب منازلهم. ويهدف هذا التوجه إلى تصحيح الوضع الحالي، الذي يواصل فيه قسم كبير من السكان اكتساب عيشهم في مواقع بعيدة عن مساكنهم.[245] لكن رغم الجهود الحكومية فإن "يهودا والسامرة" تظل المنطقة الإسرائيلية صاحبة النسبة الأعلى من السكان الإسرائيليين العاملين خارج بلداتهم ومناطقهم الأصلية، ويرجع هذا جزئيا إلى أن العديد من المستوطنات تعمل بمثابة ضواح لمدن إسرائيلية، ويقطع المستوطنون مسافات إلى وظائفهم فيها.[246] ومع ذلك فإن شركات المستوطنات اليوم توظف عشرات الآلاف من المستوطنين، والسبب جزئيا هو السياسات الحكومية التي تشجع الاستثمار في المستوطنات.

لا توفر شركات المستوطنات الوظائف فحسب، إنما توفر أيضا عوائد ضريبية توفر الدخل لبلديات المستوطنات. تسدد الشركات ضريبة عقارية، تسمى ضريبة "الأرنونا"، للحكومة المحلية. ويتباين مقدار الضريبة التي تدفعها الشركات على حسب نوعها وموقعها. ففي آرييل على سبيل المثال تدفع مكاتب الأعمال ضريبة سنوية قدرها 119 شيكل (29.75 دولار) عن المتر المربع الواحد في بعض مناطق المستوطنات، و160 شيكل (40 دولار) عن المتر في مناطق أخرى.[247] أما المباني الصناعية فتسدد ضريبة أقل ـ بين 52 و75 شيكل (13-18.75 دولار) عن المتر المربع ـ بينما تدفع البنوك وشركات التأمين بين 512 و846 شيكل (128-211.5 دولار) لكل متر مربع بحسب المنطقة.[248] وفي 2014 توقعت الموازنة المقررة لمستوطنة بركان، المرتبطة بمنطقة صناعية كبيرة بنفس الاسم، أن يأتي نحو 6 بالمائة من موازنتها ـ 350 ألف شيكل من أصل 6 مليون (87500 دولار من أصل 1500000) ـ من ضرائب الأعمال.[249] وقد توقعت المستوطنة أن تتحصل على نحو مليون شيكل إضافية (250 ألف دولار) من ضرائب استهلاك المياه، والمفترض أن تسدد مصانع المنطقة الصناعية حصة كبيرة من هذا المبلغ.[250]

كيف تساهم الشركات في انتهاك الحقوق العمالية للفلسطينيين في المستوطنات و تستفيد

في رأي هيومن رايتس ووتش، وبحسب الأدلة التي وثقها التقرير التي تصف كيف أن جميع الأنشطة التجارية المتعلقة بالمستوطنات تخالف المسؤوليات الحقوقية للشركات، بغض النظر عن الظروف العمالية، كثيرا ما تستغل شركات المستوطنات الغموض القانوني المحيط بوضع المستوطنات في ظل القانون الإسرائيلي، فتوظف عمالة فلسطينية في ظروف أسوأ من أن تمكنها من توظيف إسرائيليين.[251] وكثيرا ما أسقط المسؤولون الإسرائيليون الخط الأخضر من حسبانهم، بوصفه غير ذي صلة، حينما يتعلق الأمر بإنشاء المستوطنات، ومع ذلك فعندما يتعلق الأمر بتدابير الحماية العمالية تحافظ إسرائيل على الخط الأخضر كذريعة لعدم تطبيق بنود قانون العمل التي من شأنها حماية العمال الفلسطينيين.[252] ولهذه السياسة أثر إضافي هو الإبقاء على انخفاض تكاليف العمالة.

وبحسب المنظمة الإسرائيلية غير الحكومية المعنية بحقوق العمال، "كاف لأوفيد"، فإن ما لا يقل عن نصف أصحاب الأعمال في المستوطنات يدفعون للفلسطينيين أجورا تقل عن الحد الأدنى في إسرائيل، ويحرمونهم من المزايا الاجتماعية مثل التأمين الصحي والإجازات المرضية التي يقدمونها للموظفين الإسرائيليين. ومن أسباب استمرار الانتهاكات العمالية أن مسؤولي الرقابة الحكومية لا يكادون يقومون بأي تفتيش على إنفاذ قوانين العمل في المستوطنات، نتيجة لغموض الوضع القانوني للعمال الفلسطينيين في المستوطنات. وقد ارتأى قرار للمحكمة العليا من سنة 2007 ضرورة تطبيق قانون العمل الإسرائيلي على العمال الفلسطينيين المشتغلين في المستوطنات، بحيث يمكنهم من تقديم الشكاوى من انتهاكات قانون العمل الإسرائيلي. لكن إذا اشتكوا فهم يتعرضون للتنكيل بسبب اعتمادهم على أصحاب العمل في استصدار تصاريح العمل الإسرائيلية.

في رأي هيومن رايتس ووتش، تساهم شركات المستوطنات في انتهاك القانون الدولي بغض النظر عن كيفية معاملتها لموظفيها، جراء الأسباب التي استعرضها التقرير تفصيلا. ومع ذلك فإن الفراغ البيئي والتنظيمي، التمييزي الذي تعمل فيه يتناقض كثيرا مع مزاعم أصحاب العمل في المستوطنات ومؤيديها بأن تلك الشركات تفيد الفلسطينيين من خلال توفير الوظائف لهم. كما أن هذه المزاعم تتجاهل كيف تعمل شركات المستوطنات على ترسيخ نظام تمييزي غير مشروع، يضر الاقتصاد الفلسطيني وأرزاق الفلسطينيين، والاستفادة منه، كما ورد في الفصل الثالث.

دراسة حالة: مصنّع النسيج

حتى أكتوبر/تشرين الأول 2015 كانت شركة إسرائيلية تنتج المنسوجات المنزلية مثل أغطية الأسرّة، لحساب شركة تجزئة أمريكية في مصنع في منطقة بركان الصناعية، يقع بين مستوطنة آرييل والحدود الإسرائيلية. ولم نشر إلى الشركة بالاسم لأنها غادرت بركان إلى إسرائيل في أعقاب مراسلة هيومن رايتس ووتش للشركة، لكنها تظل رغم ذلك مثالا دالا على كيفية استغلال المصانع لغياب الوضوح القانوني والإشراف الحكومي على التمييز ضد الموظفين الفلسطينيين، وتصدير البضائع كما لو كانت مصنوعة في إسرائيل.

رغم وقوع مصنع الشركة الوحيد في منطقة صناعية استيطانية إلا أن الشركة كانت تروج لنفسها، على موقعها الإلكتروني، كشركة تصدير لها "قاعدة وطنية في إسرائيل"، مما يتيح "أن نقدم لعملائنا واردات معفاة من الجمارك والحصص التصديرية، ومن ثم خفض التكلفة الإجمالية إلى حد كبير".[253] وقد حصلت هيومن رايتس ووتش على مجموعة من المفروشات التي أنتجها مصنع بركان، في عبوات تتضمن شعار "صنع في إسرائيل"، رغم أن الشركة قالت لـ هيومن رايتس ووتش إن المفروشات منتجة في مصنع بركان. ولأغراض التصدير، تم تسجيل الشركة بعنوان يقع في مدينة داخل إسرائيل بدلا من بركان.[254]

في يونيو/حزيران 2015، كانت الشركة توظّف نحو 30 فلسطينيا، وكثير منهم كانوا سيدات، وفق أحد المشاركين في ملكيتها.[255] وفي 2008 قام 43 من الموظفين برفع دعوى على الشركة، بمئات الآلاف من الشيكلات، بعد سنوات من العمل لقاء جزء من الحد الأنى الإسرائيلي للأجور. وبحسب أوراق الدعوى فإن السيدات العاملات كن يتحصلن على 6-8 شيكل في الساعة (2 دولار) والرجال على 9-10 شيكل (2.5 دولار). ولم يحصل هؤلاء العاملين على إجازات مرضية أو عطلات أو وقت إضافي أو قسائم رواتب، على حد زعمهم. وفي معرض الرد على مقالة منشورة على الموقع الإلكتروني لمنظمة "مركز موارد الأعمال وحقوق الإنسان"، وكانت تتعلق بالدعوى، لم تنكر الشركة أنها كانت تدفع أجورا دون الحد الأدنى، لكنها كتبت أن "أجور العمال أعلى من معدل الأجور في الضفة الغربية أو في الإقليم كله".[256] وفي مقابلة مع هيومن رايتس ووتش، قال المالك المشارك إن الشركة كانت تدفع الحد الأدنى للأجر بموجب القانون الإسرائيلي "للمقاول"، وهو فلسطيني من حارس، الذي كان بعد ذلك يستولي على جزء من الأجر. احتجت الشركة في المحكمة بأن المقاول هو صاحب العمل المسؤول أمام المدعين، رغم أن دور المقاول الوحيد كان دور الوسيط بين العمال والشركة.[257] ورفضت المحكمة العليا الدفع بأن صاحب العمل هو المقاول، في حكمها الصادر سنة 2007 والذي طبق أجزاء من القانون الإسرائيلي على المستوطنات. ومع ذلك فإن العديد من شركات المستوطنات تواصل توظيف العمال من خلال مقاولين، وفي إحدى القضايا الأخيرة حكمت محكمة أدنى درجة بقبول زعم الشركة بأن المقاول هو صاحب العمل.[258]

يحتج العمال بأن المقاول ضغط عليهم للتنازل عن الدعوى عن طريق التهديد بالفصل، وقد تنازل 12 منهم في النهاية عن الدعوى.[259] أما الدعاوى التي استكملت الإجراءات فقد تمت تسويتها لقاء مبالغ تتراوح بين 5000 و32000 شيكل (1250-8000 دولار)، أو ما يقل عن ثلث ما كانوا يطالبون به في معظم الحالات. فعلى سبيل المثال، رفعت ثلاث شقيقات، كن يتلقين 6 شيكل في الساعة، دعوى للمطالبة بما مجموعه 287 ألف شيكل (71750 دولار) من الأجر الضائع، لكنهن قبلن تسوية إجمالية مقابل 45 ألف شيكل (11250 دولار)، بحسب المحامي الذي ترافع عن المدعين.[260] علاوة على هذا فقد قال المحامي لـ هيومن رايتس ووتش إن العمال يدعون أن الشركة بدأت في تعهيد بعض الأعمال لقرى فلسطينية مجاورة. أنكرت الشركة تلك الادعاءات بحزم في خطاب إلى هيومن رايتس ووتش، وقالت إن "العمال الفلسطينيين يحصلون على الأجور والمزايا الاجتماعية وفق قانون العمل الإسرائيلي".[261]

وقد أرسلت هيومن رايتس ووتش خطابات إلى المصنع وشركة التجزئة الأمريكية التي تستورد منه المفروشات بانتظام. وفي أثناء المحاورة التي أعقبت هذا، وافق المصنع عل إغلاق عملياته في بركان والانتقال إلى منشأة جديدة داخل إسرائيل. وقال المالك المشارك: "نحن لا نبحث عن المشاكل. ويبدو أن وجودنا هناك يضايق الناس فعلا، ولذا فسوف نرحل". كما قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه نقل المصنع إلى هناك، بدلا من الهند أو مصر، "لأنني كنت صادقا في اقتناعي بأنه يمثل سبيلا إلى السلام". وقال إن ما جذبه إلى هناك هو المرافق العصرية في بركان، القريبة من موطنه، والمتمتعة رغم هذا بمنفذ إلى العمالة الفلسطينية التي يصعب الحصول عليها بطرق أخرى. فالوصول إلى هذه العمالة من داخل إسرائيل "يتطلب أن تصل إلى الأطراف، البعيدة عن الموانئ" كما قال.

استغلال الغموض القانوني

في حين أن التزامات إسرائيل الحقوقية تنسحب على الأراضي التي تحتلها، إلا أن اتفاقية جنيف الرابعة تلزم دولة الاحتلال بتطبيق القانون القائم، إلا حيثما طرأ تهديد لأمنها أو توجب التعديل للتوافق مع القانون الدولي. ولذا فإن القانون الأردني كما كان في 1967، بموجب القانون الدولي يحكم الضفة الغربية المحتلة إلا حيثما تم تعديله بأوامر عسكرية.[262] وقد عملت الأوامر العسكرية الإسرائيلية على تطبيق ثلاثة من قوانين العمل الإسرائيلية على العمال الفلسطينيين في المستوطنات: صدر الأول في 1976 وكان يفرض التأمين ضد إصابات العمل، والثاني في 1982 وكان يلزم أصحاب العمل بدفع الحد الأدنى للأجور للعاملين في المستوطنات، رغم عدم تطبيقه على الفلسطينيين العاملين في المناطق الصناعية حتى 2007.[263] ثم أصدر القائد العسكري أمرا ثالثا في أكتوبر/تشرين الأول 2013، لمد مظلة قانون المرأة العاملة الإسرائيلية إلى المستوطنات، بما فيها المناطق الصناعية.[264]

لكن رغم انطباق القوانين الأردنية على الفلسطينيين، باستثناء تعديلها بأوامر عسكرية، إلا أن المحاكم الإسرائيلية تطبق القانون الإسرائيلي على المستوطنين، رغم أن المحكمة العليا اعترفت بانطباق القانون العسكري رسميا عليها. وهذا يخلق نظاما قانونيا ثنائيا يقدم للفلسطينيين تدابير حماية عمالية أقل على نحو ملحوظ من تلك المقدمة للإسرائيليين.[265] وفي 2007 ارتأت المحكمة العليا الإسرائيلية أن هذا النظام ثنائي المسارات، كما ينطبق في أماكن العمل في المستوطنات، يشكل تمييزا غير مشروع، وأنه ينبغي تطبيق قانون العمل الإسرائيلي على الفلسطينيين العاملين في المستوطنات.[266] والمحكمة في توصلها لهذا القرار تذكر صراحة أنها انحرفت عن القاعدة العامة، التي تقبلها من حيث المبدأ، والتي تقضي بأن "القانون يختلف لسكان الأراضي المحتلة الإسرائيليين" عنه للفلسطينيين.[267]

لم تنفذ الحكومة هذا القرار حتى الآن، مما أوجد فجوة بين القانون المدون في الكتب والقانون الذي تطبقه المحاكم الإسرائيلية. وأدى الغموض القانوني الناتج عن هذا بسلطات الحكومة إلى الوقف التام لعمليات الإنفاذ الضئيلة التي كانت تجريها سابقا لضمان امتثال أصحاب الأعمال في المستوطنات على الأقل للأوامر العسكرية التي تطبقها إسرائيل على الفلسطينيين حسبما نواصل النقاش أدناه.

بيد أن قرار المحكمة العليا لسنة 2007 منح العمال الفلسطينيين القدرة على مقاضاة أصحاب الأعمال أمام المحاكم الإسرائيلية إذا أخفقوا في احترام قوانين العمل الإسرائيلية. وتوحي أبحاث هيومن رايتس ووتش بأن هذا التغير قد أدى إلى تزايد أعداد شركات المستوطنات الممتثلة لقوانين العمل الإسرائيلية. ومع ذلك، يواصل أصحاب العمل بالمستوطنات التمييز ضد العاملين الفلسطينيين من خلال منحهم أجورا أدنى من أجور الإسرائيليين عن نفس العمل.

يبين تقرير لبنك إسرائيل من سنة 2014 أن الفلسطينيين يحصلون على أقل من نصف الأجر الذي يتقاضاه الإسرائيليون العاملون في نفس الشركة ولنفس المدة.[268] وفي 2010، ردا على ما اقترحته السلطة الفلسطينية من فرض الحظر على عمل الفلسطينيين في المستوطنات، قدّر اتحاد المصنّعين في المستوطنات أنه سيتكلف زيادة قدرها ألفي شيكل (500 دولار) شهريا للعامل الواحد عند تعيين إسرائيليين مكان فلسطينيين، وطلب من وزارة الصناعة تعويض المصنعين عن الفارق إذا تم العمل بالحظر.[269] وتقل أجور الفلسطينيين في المستوطنات عن أجور الإسرائيليين لدرجة أن مراقب الدولة المالي حذر في 2013 من أنه ما لم تنفِذ الحكومة الإسرائيلية تطبيق الحد الأدنى للأجور فإن شركات المستوطنات ستحظى بمزية تنافسية غير عادلة على حساب الشركات الإسرائيلية في إسرائيل.[270] وفي العام نفسه تقدم اقتصادي من بنك إسرائيل بنفس الحجة أمام جلسة للكنيست، تتعلق بظروف عمل الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات.[271]

من أسباب استمرار الانتهاكات العمالية في النظام الحالي أنه ما لم يتقدم العمال الفلسطينيون بالشكوى فإن احتمالات الإنفاذ تنعدم. لكن هؤلاء العمال أكثر عرضة لتنكيل أصحاب العمل بسبب الشكوى. ويحتاج الفلسطينيون للعمل في المستوطنات إلى قيام صاحب عمل إسرائيلي بطلب تصريح بالعمل من إسرائيل نيابة عنهم.[272] وبحسب البروتوكول العسكري فإن صاحب العمل الإسرائيلي، إذا أبلغ الشرطة عن عامل فلسطيني لأية جريمة، يتم وقف العامل تلقائيا لحين ظهور نتيجة التحقيق الشرطي.[273] وكما نصف فيما يلي، وثقت هيومن رايتس ووتش حالتين ادعى فيهما عمال بأن أصحاب عملهم أبلغوا عنهم الشرطة بعد تقدمهم بشكاوى من ظروف العمل. ونتيجة لهذا لم يخسر العمال عملهم فحسب، بل عجزوا أيضا عن العمل في أي مكان آخر في المستوطنات. وقال عدد من العمال الفلسطينيين، الذين امتنع صاحب عملهم المستوطن عن دفع أجورهم وفق القانون الإسرائيلي، قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إنهم لم يرفعوا دعاوى مخافة أن يخسروا تصاريح العمل الخاصة بهم.[274]

غياب المراقبة

وبحسب عدد من مسؤولي الحكومة فإن التنظيم والإشراف على السلامة في مكان العمل يظلان شبه منعدمين بالنسبة للفلسطينيين العاملين في المستوطنات. في 2013 قامت وزارة الاقتصاد، المسؤولة عن إنفاذ قوانين العمل، بإبلاغ إحدى لجان الكنيست بأنها لا تجري أي نشاط في المستوطنات لأنها لا تعرف أي القوانين ينبغي تطبيقها.[275] وفي العام نفسه صرح مراقب الدولة المالي في إسرائيل، في تقريره السنوي، بوجود نقص حاد في إنفاذ القوانين في المستوطنات، أدى إلى وضع مفاده أنه "يمكن لكل شخص [إسرائيلي] أن يفعل ما يحلو له".[276] وبحسب منظمة كاف لأوفيد فإن وزارة الاقتصاد توقفت في 2013 بدورها عن الرد على شكاوى الحد الأدنى للأجور، وفي معرض الرد على طلب مقدم بموجب حرية المعلومات، قررت الوزارة أنها لن تقوم بهذا حتى يصدر أمر عسكري به.[277]

ومع ذلك فإن غياب المراقبة يسبق الالتباس القانوني الذي أنشأه قرار المحكمة العليا بتطبيق قانون العمل الإسرائيلي على الفلسطينيين. ففي اجتماع من سنة 2007 قالت رئيسة قسم سلامة العمال وصحتهم بوزارة الصناعة إن قسمها "لا يذهب" إلى المستوطنات "بسبب نقص الموارد وانعدام الحسم في القضية".[278]

يعيش هاني، 20 سنة، مع أبويه وأشقائه في سلفيت، وفي العطل الأسبوعية يتلقى دروسا في التاريخ والجغرافيا بجامعة القدس المفتوحة.[279] قال هاني إنه يعمل طوال الأسبوع في المناوبة الليلية بمصنع للبلاستيك والشمع في منطقة بركان الصناعية.[280] (على سبيل المثال قال هاني إنه طوال نوفمبر/تشرين الثاني 2014 قام بتشغيل السخان الكهربائي المستخدم في تشكيل الشمع لصنع شموع الحنوكة). يصل هاني إلى العمل في الساعة 6 صباحا ويرحل في 6 مساءً، مع أخذ راحة مدتها نصف ساعة. ولقاء العمل لمدة 12 ساعة، يحصل هاني على أجر يومي قدره 100 شيكل (25 دولار) ـ بمتوسط 8.5 شيكل (2.13 دولار) في الساعة، أو نحو ثلث الحد الأدنى للأجور في إسرائيل في الساعة وقتذاك، البالغ 23 شيكل.[281] لا يحصل هاني على عطل، ولا إجازات مرضية ولا مزايا اجتماعية، ولا قسيمة بالأجر، بحسب قوله لـ هيومن رايتس ووتش.

قال هاني إنه حاول الحصول على عمل في أحد المصانع في بركان التي يُعرف عنها دفع الحد الأدنى للأجور، لكن المصانع التي فاتحها أبلغوه بأنهم لا يعينون العمال إلا من خلال وسطاء فلسطينيين. وهو يحاول الحصول على عمل من خلال وسيط، كما قال، لكنه لاحظ أنه حتى لو نجح فإن الوسيط الذي يعرفه طالبه بنسبة تصل إلى نصف أجر العامل الشهري. وقال عمال آخرون لـ هيومن رايتس ووتش إنهم سمعوا عن وسطاء يطالبون بنسبة من أجر العامل، لكنهم لم يلجؤوا هم أنفسهم إلى ترتيب كهذا.[282]

قال هاني إنه يعرف أن أجره ينتهك قانون الحد الأدنى للأجور الإسرائيلي، لكنه مضطر للعمل للمساعدة في إعالة أسرته. وقال والده إبراهيم، المزارع، لـ هيومن رايتس ووتش إنه خسر جزءا من أرضه عندما صادرها الجيش ونقلها إلى ملكية آرييل، كما أن وصوله إلى قطعة أخرى من الأرض مقيد.[283] إن ندرة الوظائف في الضفة الغربية وانخفاض الأجور يجعلان العمال أكثر نزوعا إلى قبول ظروف مسيئة، حتى وهم يعلمون أنها تنتهك القانون الإسرائيلي، كما قال هاني. وأضاف هاني: "لا توجد شكاوى، لأن هناك 10 أشخاص مستعدون لقبول [كل] وظيفة". وهو يشعر بالقلق أيضا من أن شكواه قد تكلفه خسارة تصريح بالعمل خاصته.

وفي العام التالي كتب عضو الكنيست ران كوهين خطابا إلى المحامي العام وهيئة تنسيق الأنشطة الحكومية في الأراضي، لإبلاغهم بأن "أوضاع [أماكن العمل من حيث الصحة والسلامة] فظيعة إلى أبعد الحدود" و"تتسم بالفوضى التامة".[284] وفي سبتمبر/أيلول 2008 نشر المستشار القانوني ليهودا والسامرة مسودة للتعديلات التشريعية اللازمة موجهة إلى المستشار القانوني لوزارة الصناعة، ولكن دون طائل.[285] وفي يناير/كانون الثاني 2009، طلب المستشار القانوني ليهودا والسامرة ردا على التعديلات التشريعية المقترحة من المستشار القانوني لوزارة الصناعة، واستشهد بـ "انعدام البنية التنظيمية الملائمة لإنفاذ قوانين السلامة في مكان العمل في المستوطنات الإسرائيلية".[286] وحتى يونيو/حزيران 2011 لم يصله أي رد من وزارة الصناعة. وقد قام ملخيل بلاس، نائب المحامي العام، في خطاب إلى المراقب المالي، بتخطئة وزارة الصناعة لرفضها الرد، فكتبت وزارة الصناعة إلى المراقب المالي قائلة إنها على وعي بالمشكلة، لكنها تفتقر إلى الموارد اللازمة "للتوسع في إجراءاتها فيما وراء الخط الأخضر".

لكن رغم التقاعس الحكومي فإن حكم المحكمة العليا في سنة 2007 أدى بالفعل إلى تحسين ظروف العمل في بعض المصانع. في أعقاب الحكم قام عشرات الفلسطينيين برفع الدعاوى على أصحاب عملهم للمطالبة بأجور متأخرة، ممارسين الضغوط على أعداد متزايدة من المصانع للامتثال لقوانين العمل الإسرائيلية.[287] ومع ذلك فإن تهديد الدعوى القضائية، في غياب الإنفاذ الحكومي، لا يمثل في أحيان كثيرة حافزا كافيا لدفع الشركات إلى الامتثال للقانون. وبحسب بعض العمال ومسؤولي النقابات العمالية ومنظمات حقوق العمال النشطة في المستوطنات فإن العديد من الشركات تبقي على نفس الممارسات كما كانت قبل حكم 2007، بينما تلجأ غيرها إلى أساليب ملتوية لمخالفة القانون، مثلا إثبات بعض أصحاب العمل لساعات عمل أقل، أو إرغام العمال على التوقيع على قسائم أجور مزورة.[288] في 2013 قالت منظمة كاف لأوفيد للجنة بالكنيست أن ما لا يقل عن 50 بالمائة من شركات المستوطنات لا تمتثل لقوانين العمل الإسرائيلية.[289] ويعتقد اثنان من المحامين العماليين، الذين يترافعون في أحيان كثيرة عن فلسطينيين من العاملين في المستوطنات، أن نسبة الشركات غير الممتثلة أعلى من ذلك الرقم.[290] وحتى في حالات رفع الدعاوى من جانب العمال فإن دفع التعويض يكون في أكثر الأحيان أقل تكلفة على صاحب العمل من دفع الحد الأدنى للأجور والمزايا الكاملة، بما أن معظم المدعين يقبلون التسوية لقاء مبالغ أقل مما يدينون به للشركة.[291]

قال صلاح س. لـ هيومن رايتس ووتش إنه عمل لمدة 3 سنوات في ورشة أخشاب في بركان، حيث كانت قسيمة أجره تثبت حصوله على الحد الأدنى للأجر، بالمخالفة للحقيقة، بينما كان في الممارسة الفعلية يحصل على أجر أدنى بكثير. وظل مديره يعده بدفع الفارق، حتى قام صلاح برفع دعوى.[292] قال إنه كان يدين الشركة بـ30 ألف شيكل (7500 دولار) لكنه قبل التسوية لقاء 11807 شيكل (2951 دولار).

اعتماد الفلسطينيين على التصاريح الصادرة من إسرائيل

النظام المعمول به في الوقت الحاضر يختص العمال الفلسطينيين بكامل المسؤولية عن الإنفاذ، لكنهم في أغلب الأحيان يترددون في رفع الدعاوى لاعتمادهم على تصاريح العمل الصادرة من إسرائيل، بحسب عدد من المحامين العماليين الذين يترافعون عن الفلسطينيين العاملين في المستوطنات.[293] فحتى لو حكمت المحاكم لصالحهم تظل أرزاقهم مهددة بخطر الفصل من العمل وفقدان التصريح، كما قالوا.[294] وفي غور الأردن يتداول أصحاب العمل "قائمة سوداء" بالفلسطينيين الذين اشتكوا من ظروف العمل.[295] ولهذا السبب ترفع معظم الدعاوى من طرف عمال تركوا عملهم بالفعل أو فصلوا منه، كما قال أحد المحامين لـ هيومن رايتس ووتش.[296]

القائد العسكري للضفة الغربية يصنف جميع المستوطنات، بما فيها المناطق الصناعية، على أنها مناطق عسكرية مغلقة. ويحتاج الفلسطينيون في الأراضي المحتلة إلى تصريح تصدره الإدارة المدنية لدخولها. أما الإسرائيليون فهم معفيون من هذا الشرط.[297] ويجوز لصاحب العمل أن يطلب تصريحا مدته 6 شهور لأي فلسطيني مقيم بصفة قانونية في الضفة الغربية ولا تقل سنه عن 18 عاما، وهو معيار شديد التساهل مقارنة بتصاريح العمل داخل إسرائيل.

ويتعين على أصحاب العمل في المستوطنات أن يضمنوا تصاريح العمل، مما يكسبهم نفوذا إضافيا على العمال الفلسطينيين. ويبلغ معدل بطالة الرجال الفلسطينيين في الضفة الغربية نحو 18 بالمائة، ومتوسط الأجر اليومي للعاملين بأجر 90 شيكل (22,50 دولار)، مما يجعل الوصول إلى وظائف المستوطنات ضروريا لمعيشة العديد من الفلسطينيين.[298] ويؤدي اعتماد العمال الفلسطينيين على أصحاب عملهم في استصدار التصاريح إلى خوف بعض العمال من المطالبة بحقوقهم.[299] كان أحد العمال الذين أجرت معهم هيومن رايتس ووتش المقابلات، ويدعى إبراهيم، يحصل على 16.5 شيكل (4.13 دولار) في الساعة، دون أن يعرف أنه يستحق الحد الأدنى من الأجور. وحينما أبلغته هيومن رايتس ووتش بحقوقه، رد بأنه لا يريد رفع دعوى: "أخشى أن يسحبوا تصريحي. إنهم إسرائيليون وسط بعضهم البعض، وأنا الغريب".[300] كما كان إبراهيم يعتقد أنه إذا رفع دعوى فسوف يصبح اسمه معروفا لدى الجيش والمخابرات، فيحرمونه من التصاريح في المستقبل. وأضاف إبراهيم: "لن أستطيع الحصول على أي نوع من العمل في المستوطنات. لا بد من وجود طرف خارجي يجبر الشركة على دفع الحد الأدنى من الأجور. أما العمال فالمخاطرة شديدة بالنسبة لهم".

قامت منظمات حقوقية عمالية بتوثيق وقائع من إساءة أصحاب العمل لاستخدام نظام التصاريح بغية التنكيل بالعمال الذين يشتكون من ظروف العمل، أو لفصلهم بدون دفع مكافأة نهاية الخدمة. ففي عدد من الحالات قام أصحاب أعمال من المستوطنين بإبلاغ الشرطة الإسرائيلية عن "حوادث أمنية" ملفقة انتقاما من شكاوى العمال من ظروف العمل في المصنع، مما تسبب في إلغاء تصاريحهم فورا بمجرد استدعائهم للاستجواب لدى الشرطة، بحسب هانا زوهار، التي ترأس قسم العمال الفلسطينيين في منظمة كاف لأوفيد.[301] وهناك عمال فلسطينيون آخرون اشتبهوا في أن أصحاب عملهم تقدموا ببلاغات "أمنية" كاذبة لفصلهم بدون دفع مكافأة نهاية الخدمة التي يشترطها قانون العمل الإسرائيلي، حيث أن العاملين الذين لا يعودون قادرين على العمل بسبب إلغاء تصاريحهم لا يعتبرون "مفصولين".[302]

وثمة لائحة عسكرية معمول بها منذ مايو/أيار 2011 تلزم أصحاب العمل المستوطنين بتقديم طلب رسمي إلى السلطات المعنية لسحب الاعتراض الأمني قبل أن يتسنى للإدارة المدنية إعادة التصريح الملغي للعامل، مما يمنح أصحاب الأعمال نفوذا غير عادي على أرزاق العمال الفلسطينيين.[303] وقد قامت كاف لأوفيد، المنظمة الإسرائيلية غير الهادفة للربح العاملة في مجال حقوق العمال، بتمثيل عمال أحد المصانع في مستوطنة معاليه أدوميم، بعد أن حاولت الشركة إرغامهم على توقيع وثيقة بالموافقة على إبراء ذمة الشركة من أية مستحقات سابقة في مقابل الحصول على كامل حقوقهم من ذلك الوقت فصاعدا. رفض عدد من العمال التوقيع، وعلى سبيل الرد فيما يبدو تقدمت الشركة إلى الشرطة بشكوى تزعم أنهم أتلفوا بعض ممتلكاتها.[304] وتعمل اللوائح المعمول بها على إلزام الشرطة بإلغاء تصاريح أي فلسطيني يستدعى للاستجواب في أعقاب شكوى من مواطن إسرائيلي. أي أن هؤلاء العمال، في أعقاب شكوى من صاحب عملهم، لم يفقدوا عملهم في الشركة فقط، بل عجزوا أيضا عن العمل في أية مستوطنة أخرى.[305] وقد نجحت كاف لأوفيد في الطعن على إلغاء تصاريحهم، لكن مطالب العمال والمطالب المقابلة ما زالت عالقة في المحاكم.[306]


وفي قضية أخرى قامت منظمة إسرائيلية لا تهدف للربح وتدعو إلى انتظام العمال في نقابات، وهي "واك معان"، بتوثيق حالة صاحب عمل من المستوطنين قدم للشرطة، بحسب المزاعم، شكوى ملفقة تفيد بأن زعيم النقابة الفلسطيني، حاتم أبو زيادة، قد أتلف عمدا بعض المعدات العسكرية. قام محام إسرائيلي بالطعن على الاستبعاد الأمني أمام المحكمة العليا نيابة عن أبو زيادة، وألغى "الشاباك" الاستبعاد الأمني بعد 4 أشهر من إلغاء التصريح بدون إبداء أسباب. وقال هشام مصاورة، وهو محام يعمل مع كاف لأوفيد، لـ هيومن رايتس ووتش إن هذه القضايا ليست قليلة. "يتمتع أصحاب المصانع والمديرون بعلاقة وثيقة مع المؤسسة الأمنية. وإثباتها صعب، لكن في حالات كثيرة يكون صاحب العمل هو المسؤول عن الاعتراض الأمني"، بحسب قوله.[307]

عذر واه للانتهاكات العمالية

يقول أصحاب المصانع والمديرون في منطقة بركان الصناعية إن توظيف آلاف الفلسطينيين في المنطقة الصناعية هو تجسيد للأمل والتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد قال رون نحمان، مؤسس آرييل وعمدة بركان، في مقابلة من سنة 2000 لمناقشة الفلسطينيين العاملين في منطقة بركان الصناعية: "عندي في المنطقة الصناعية خطة مشتركة مع العرب أفضل من أية حكومة من الحكومات اليسارية، وأنا أسعى إلى السلام مثل جميع اليساريين تماما".[308] كما قال أحد مديري المصانع في بركان لصحيفة إسرائيلية:

هنا يبدأ العمال من أجر الحد الأدنى ثم تتصاعد الرواتب حتى 9000 شيكل [2250 دولار] في الشهر ـ أي ثلاثة أضعاف متوسط الأجور لدى السلطة الفلسطينية. ويعمل الفلسطينيون كتفا بكتف مع الإسرائيليين، وهي فرصة للعمل المشترك، والتباحث، والثقة المتبادلة. إننا ننتج بضاعة السلام.[309]


وعلى نحو مماثل دعا نفتالي بينيت، وزير الاقتصاد السابق الذي تبرأ علنا من حل الدولتين، إلى بناء المزيد من مناطق الاستيطان الصناعية كـ "جسور اقتصادية نحو السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين".[310] وبالمثل وصف روفن ريفلين، رئيس إسرائيل الحالي، بركان بأنها "محور من التعايش والجسور [المؤدية] إلى السلام".[311]

إلا أن هذه المشاعر الوردية تتجاهل البيئة شديدة التمييز التي تعمل فيها شركات المستوطنات، واستضعاف الفلسطينيين في مواجهة الانتهاكات. كما أنها تتجاهل الحقيقة المتمثلة في أن شركات المستوطنات تعمل على ترسيخ السياسات الإسرائيلية التي تسلب من الفلسطينيين أرضهم ومواردهم، وتسهل المستوطنات غير المشروعة، وتقيد الإنشاءات والتجارة وحرية التنقل الفلسطينية، وتساهم في تلك السياسات وتستفيد منها. إن هذه السياسات تحرم الفلسطينيين من أرزاقهم، وتصعب عليهم إيجاد الوظائف البديلة الملائمة في شركات فلسطيني

الملحق الأول: الصناعة في المستوطنات

تمثل المناطق الصناعية والمزارع الاستيطانية قسما لا يستهان به من الحضور المدني الإسرائيلي في الضفة الغربية. يصف هذا الملحق طبيعة تلك الأنشطة التجارية ونطاقها، إضافة إلى أثرها الضار بالحقوق. وكما لاحظنا في التقرير فإن العديد من شركات المستوطنات الصناعية والزراعية تشكل إلى حد ما فئة فرعية متميزة بذاتها من شركات المستوطنات، التي لا تنخرط في أنشطة تخدم المستوطنات مباشرة، لكنها مع ذلك، في رأي هيومن رايتس ووتش، تساهم في الانتهاكات الحقوقية الإسرائيلية وتستفيد منها. ولأن العديد من تلك الشركات تصدر بضائعها إلى الخارج فإن الشركات في أنحاء العالم معرضة للتورط في هذه الانتهاكات من خلال سلاسل التوريد الخاصة بها. كما أن الدول الثالثة تخالف التزامها بموجب القانون الدولي بألا تعترف بسيادة إسرائيل على المستوطنات من خلال السماح باستيراد بضائع المستوطنات إلى أراضيها عندما تعلو هذه البضائع عبارة "صنع في إسرائيل"، أو تستفيد من اتفاقيات جمركية بين الدولة المعنية وإسرائيل.

"صُنع في إسرائيل"

تؤوي مناطق الاستيطان الصناعية ما يقرب من ألف مصنع، كما تزرع مزارع المستوطنات 9300 هكتار من الأرض. يُصدّر هؤلاء المصنعون والمنتجون الزراعيون أكثر بضائعهم إلى الخارج. فعلى سبيل المثال، وبحسب الموقع الإلكتروني للمستوطنة، يذهب 80 بالمائة من السلع المنتجة في بركان إلى الخارج، وفي الأغلب إلى أوروبا والولايات المتحدة.[312] ويصدر مزارعو المستوطنات في غور الأردن 66 بالمائة من محاصيلهم التي ينتجونها خارج إسرائيل ـ وهي أعلى نسبة من الصادرات الزراعية مقارنة بالمناطق الواقعة داخل إسرائيل، بحسب اتحاد منتجي الخضر الإسرائيلي.[313]

من الصعب أن نحدد القيمة الدقيقة للسلع المصدرة من المستوطنات، بما أن إسرائيل لا توفر بيانات عن الصادرات موزعة بحسب منطقة المنشأ. في 2012 قالت إسرائيل للبنك الدولي إن قيمة صادراتها من المستوطنات إلى أوروبا، أكبر شريك تجاري لإسرائيل، بلغت 300 مليون دولار سنويا، لكن البنك الدولي يلاحظ أن تحليلات أخرى، تأخذ في حسبانها البضائع المنتجة جزئيا في المستوطنات، قد قدرت قيمة واردات أوروبا من تلك البضائع بأنها أعلى بكثير.[314]

وفي أكثر الأحيان تعلو هذه البضائع والمحاصيل الزراعية المنتجة في المستوطنات عبارة "صنع في إسرائيل"، فتستفيد من معاملة جمركية تفضيلية تمنحها بلدان عديدة للمنتجات الإسرائيلية. في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أصدر الاتحاد الأوروبي توجيها يحظر استيراد البضائع الاستيطانية الموسومة بـ "صنع في إسرائيل" بدعوى واجبه بألا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة وقوانين حماية المستهلك الإسرائيلية في تلك الأراضي.[315] لأسباب مماثلة فمنذ 2005، تنص لوائح الاتحاد الأوروبي على أن السلع المنتجة في المستوطنات لا يجوز أن تستفيد من اتفاقيات التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي مع إسرائيل، وعلى المصنعين أن يدفعوا رسوما جمركية تبلغ 7 بالمائة.[316] وبحسب تقارير إعلامية فإن الاتحاد الأوروبي أيضا يحظر على المنتجات الحيوانية والأطعمة العضوية المنتجة في المستوطنات دخول الاتحاد الأوروبي.[317]

منذ 1995 تطالب أنظمة الولايات المتحدة الجمركية أن توسم السلع الواردة من الضفة الغربية وغزة بمنشئها ذاك، وتحديدا تحظر الأنظمة وسمها بـ "صنع في إسرائيل".[318]

ومع هذا كله فإن شركات المستوطنات تواصل وسم منتجات المستوطنات بعبارة "صنع في إسرائيل"، وهي ممارسة يدافع عنها مسؤولون إسرائيليون.[319] ففي معرض الرد على مطالبة الاتحاد الأوروبي بالتطبيق، وصف يائير لابيد الذي كان يشغل منصب وزير المالية في 2013 و2014، وصف المبادرة بأنها "مقاطعة فعلية لإسرائيل"، بما أنه على حد تعبيره "لا يوجد فارق بين المنتجات المنتجة فيما وراء الخط الأخضر وتلك المنتجة داخله".[320] كما أن الحكومة الإسرائيلية تعوض منتجي المستوطنات عندما تقوم البلدان المستوردة بفرض رسوم جمركية على منتجاتها.[321]

المناطق الصناعية

تدير إسرائيل ما يتراوح بين 16 و20 منطقة صناعية في الضفة الغربية، تضم نحو ألف مصنع لإنتاج طيف عريض من السلع، تشمل المعادن والمنسوجات والأغذية.[322] ولا يوجد عدد محدد للمناطق الصناعية لأن القانون الذي يسرد الشروط الخاصة بالمناطق الصناعية في المستوطنات ـ المسماة "المناطق الصناعية تحت إدارة إسرائيلية" ـ وعلى عكس المناطق الصناعية داخل إسرائيل، لا ينص صراحة على أسماء المؤشرات الجغرافية، ولا توجد قائمة رسمية.[323] وتقع أكبر المناطق الصناعية الاستيطانية في ميشور أدوميم، وعتاروت، وبركان، وشاحاك، وآرييل، وغوش عتصيون. وتوجد مناطق صناعية أخرى تم التصديق عليها رسميا لكنها لم تعمل بعد، أو تعمل بالحد الأدنى من طاقتها، بينما توجد مناطق أخرى تعمل بدون خطة رسمية أو تصاريح للبناء.[324]

المناطق الصناعية ومصادرة الأراضي

أقيمت المناطق الصناعية الاستيطانية على 13650 دونما (1365 هكتار) من الأرض، ومن ثم فإنها تساهم على نحو ملحوظ في مصادرة إسرائيل غير المشروعة للأراضي الفلسطينية لصالح توسعة الحضور المدني الإسرائيلي في الضفة الغربية. وبموجب القانون الدولي تعد جميع المستوطنات المدنية في أرض محتلة غير مشروعة. إلا أن القوانين والأوامر العسكرية الإسرائيلية تسمح ببناء المستوطنات على أراضي "المتغيبين" أو أراضي "الدولة"، أو على أراض لا يستطيع الفلسطينيون إثبات ملكيتهم الخاصة لها. وقد بنيت معظم المناطق الصناعية في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، على أراض استولت عليها الدولة بموجب القانون الإسرائيلي بشأن ممتلكات المتغيبين، الذي يفرض سيطرة الدولة على الأراضي المملوكة لفلسطينيين تعرضوا للنزوح الداخلي أو صاروا لاجئين أثناء حرب 1948.[325] وبالممارسة توجد صعوبة شديدة في أن يتمكن معظم الفلسطينيين الذين صنفتهم إسرائيل كمتغيبين من استعادة ممتلكاتهم.[326] علاوة على هذا فإن بعض المناطق الصناعية مبنية جزئيا أو كليا على أراض خاصة لم "يتغيب" أصحابها الفلسطينيون، في انتهاك للقوانين الإسرائيلية نفسها.

ويتولى تقرير من سنة 2005 لمراقب دولة إسرائيل المالي، وهو مراجع مالي مستقل ينتخبه الكنيست ومكلف بفحص التصرفات المالية للسلطة التنفيذية، سرد كيفية إنشاء إسرائيل لمنطقة صناعية في الضفة الغربية بدون تحديد وضع الأرض. وبعد ملايين الشيكلات من الاستثمار الحكومي والخاص، اكتشفت السلطات الإسرائيلية أن بعض الفلسطينيين يملكون الأرض ملكية خاصة.[327] ولا يشير المراقب المالي إلى المنطقة الصناعية المعنية بالاسم، كما لا يدرج معلومات عن كيفية استجابة السلطات الإسرائيلية، إن كانت ثمة استجابة، لهذا الاكتشاف. إلا أنه يلاحظ، من خلال الاستشهاد بالمستشار القانوني للإدارة المدنية، أن "هذه الحالة، رغم تطرفها، ليست استثنائية".[328] وبحسب قاعدة بيانات حكومية مسربة فإن المناطق الصناعية في ألفي ميناشيه، وشيلو، وبيت إيل، بنيت كليا أو جزئيا على أراض فلسطينية خاصة، مثلها مثل بعض المباني الصناعية الفردية في عدد من المستوطنات الأخرى.[329]

ويلقي تقرير لمراقب مالي لاحق بعض الضوء على حالة منطقة نتصاني شالوم الصناعية، حيث لا يتمتع أي مصنع من المصانع بالتصاريح اللازمة للتشغيل، وقد تم بناء كثير منها بدون موافقات رسمية، بما في ذلك على 25 دونما من الأراضي الفلسطينية الخاصة.[330] ومع ذلك فقد شرح بن زايون جشوري، رئيس مجلس إدارة "جشوري الصناعية" وهي شركة للبتروكيماويات هناك، شرح في جلسة استماع للكنيست في 1999 أن شركته التي خضعت عملياتها السابقة داخل إسرائيل لانتقاد وتحقيق من وزارة البيئة، انتقلت إلى المستوطنة "بتشجيع من الحكومة" التي أبلغته بأنها منطقة صناعية مصدق عليها. وقال: "هكذا قادونا إلى هناك، وهذا ما وعدونا به".[331] ورغم عدم مشروعية التصرف بموجب القانون الإسرائيلي إلا أن وزارة الدفاع حولت 300 ألف شيكل (75 ألف دولار) من الأموال العامة إلى الجمعية الخاصة التي تدير المنطقة الصناعية بغرض إصلاح أحد الطرق.[332] أما منطقة بركان الصناعية، وهي من أكبر المناطق الصناعية في المستوطنات، فهي مقامة جزئيا على الأقل على أرض فلسطينية مملوكة ملكية خاصة، لكن إسرائيل ترفض الاعتراف بحق مالكها في الأرض.[333]

التأثير الاقتصادي للمناطق الصناعية

الغرض المعلن للمناطق الصناعية الاستيطانية هو تنمية الاقتصاد المحلي في "يهودا والسامرة" وتوفير الوظائف للمستوطنين.[334] وتعمل المواقع الإلكترونية للعديد من المناطق الصناعية الاستيطانية على إبراز هذا الهدف. فعلى سبيل المثال، تشدد منطقة بركان الصناعية على أن "الرابطة المباشرة بين المصانع [في المنطقة الصناعية] والسكان المحليين تساعد إلى حد كبير في توفير الوظائف واستيعاب عائلات جديدة في السامرة"، ثم تمضى قائلة إن "60 بالمائة من العمال يهود، ومعظمهم من السامرة".[335] وعلى نحو مماثل يذكر الموقع الإلكتروني لمنطقة غوش عتصيون الصناعية أنها أنشئت "للمساعدة في التنمية الديموغرافية والاستيطانية في منطقة غوش عتصيون، وأن تكون بمثابة مصدر للتوظف في المستوطنات في غوش عتصيون وما حولها".[336] وتستخدم عبارات مطابقة في الموقع الإلكتروني لمنطقة صناعية استيطانية ثالثة، هي شاحاك.[337]

رغم أن الإسرائيليين يمتلكون ويديرون الأغلبية الساحقة من المصانع الموجودة في المناطق الصناعية الاستيطانية، تبقى قوة العمل في معظمها فلسطينية. ففي 2013 كان 6.8 بالمائة فقط من المستوطنين يعملون في التصنيع والتعدين واستخراج الحجارة، وتعمل نسبة هزيلة قدرها 0.6 بالمائة في الزراعة والتشجير ومصايد الأسماك.[338] في 2009 كان من بين 17 ألف شخص يعملون رسميا في المناطق الصناعية الاستيطانية، 11 ألفا من الفلسطينيين.[339] وربما يزيد الرقم الفعلي كثيرا، بحسب المراقب المالي الإسرائيلي، حيث أن العديد من الفلسطينيين العاملين في المناطق الاستيطانية الصناعية لا يملكون تصاريح، ومن ثم لا يتم إدراجهم في الإحصائيات الإسرائيلية الرسمية.[340] وقد قدر اثنان من مسؤولي النقابات العمالية الفلسطينية، الذين أجرت معهم هيومن رايتس ووتش مقابلات، أن نسبة العاملين الإسرائيليين تقل كثيرا عن نسبة الـ60 بالمائة التي تزعمها بركان على موقعها الإلكتروني.[341]

بل إن أصحاب الشركات ومديريها يشيرون إلى توافر العمالة الفلسطينية منخفضة التكلفة، لتشغيل المصانع كثيفة العمالة، كعامل أساسي في اجتذابهم إلى المناطق الصناعية الاستيطانية.[342] وبحسب بيانات رسمية إسرائيلية فإن 75 بالمائة من الوظائف التصنيعية في المستوطنات هي "وظائف تتعلق بالتقنيات المنخفضة والمتوسطة"، بنسبة أعلى من أي وظائف مثيلة لها بأي منطقة أخرى داخل إسرائيل.[343] وتعتبر جميع المناطق الصناعية مناطق عسكرية مغلقة، ولذا يحتاج العمال الفلسطينيون إلى تصريح لدخولها، لكن الحصول عليه أسهل كثيرا من الحصول على تصريح لدخول إسرائيل.[344]

تستفيد شركات المناطق الصناعية أيضا من انخفاض الإيجارات والضرائب التي هي أقل بشكل عام عن معدلاتها في إسرائيل. ففي بركان على سبيل المثال، كانت تكلفة الاستئجار في 2012 تتراوح بين 24 و27 شيكل للمتر المربع الواحد، مقارنة بـ 43 شيكل للمتر المربع في المناطق الصناعية بقيصرية وروش هآين، وهما أقرب منطقتين صناعيتين داخل إسرائيل. أما الضرائب السنوية في بركان فقد بلغت 47 شيكل للمتر المربع، مقارنة بـ100 شيكل في روش هآيين.[345] والأسعار في عتاروت، وهي منطقة صناعية في القدس الشرقية، أرخص بكثير أيضا: حيث بلغ الإيجار 23 شيكل والضرائب 74-85 شيكل للمتر المربع، مقارنة بضريبة قدرها 92-140 شيكل في مناطق أخرى من القدس.[346] ورغم أن السوق هي التي تحدد انخفاض الأسعار في المستوطنات، إلا أن أسعار السوق تتأثر بالاستثمار الإسرائيلي المبدئي الذي لا يذكر في الحصول على الأرض، وهو الوفر الذي تمرره إلى الشركات. وتقدم الحكومة الإسرائيلية حزمة من المزايا التي تحدث خفضا إضافيا في تكاليف المناطق الصناعية الاستيطانية، ويتم منحها على أساس أن الحكومة صنفت جميع المناطق الصناعية تقريبا في فئة "مناطق الأولوية الوطنية أ"، كما شرحنا بتفصيل أكبر أعلاه.

وتتخلص شركات كثيرة من تكاليف إضافية أخرى عن طريق استغلال البيئة القانونية المعقدة والفراغ التنظيمي الموجود في المستوطنات، كما وصفنا في القسم المتعلق بالانتهاكات العمالية من هذا التقرير.

نجح غياب الوضوح القانوني والإشراف الحكومي في المستوطنات أيضا في إيجاد "ملجأ آمن للتلوث" للصناعات الملوثة، مثل شركات البتروكيماويات في نتصاني شالوم ("براعم السلام").[347] ويلقي تقرير للأمم المتحدة من سنة 2014 الضوء على كيفية قيام "آرييل بالتخلص من مخلفات الصرف الصحي السائلة والمخلفات الصناعية في إحدى الترع وعلى أراض زراعية، مما يجعلها ملوثة وغير صالحة للاستغلال".[348] وقد تزايد تصدي المستوطنين لمشكلة الأثر البيئي لصناعات المستوطنات، حيث أنهم هم أيضا يعانون من تدني جودة الماء والهواء الناجم عن هذه الظاهرة.[349] إلا أن مشكلة التنظيم والإشراف، كما فصّلنا في القسم المتعلق بالانتهاكات العمالية، متميزة إلى حد ما عن الانتهاكات الأخرى الموصوفة في هذا التقرير: فبينما يمكن لشركات المستوطنات، ويتعين عليها، أن تتجنب التمييز ضد العاملين الفلسطينيين، إلا أنها، في رأي هيومن رايتس ووتش، تظل غير ممتثلة لمسؤولياتها كشركات من حيث أنها لا تستطيع تجنب بقية الانتهاكات المشار إليها في التقرير.

الزراعة في المستوطنات

تتم معظم الزراعة الاستيطانية في منطقة غور الأردن والبحر الميت، وهو إقليم يمتد بطول 120 كيلومترا بحذاء الضفة الغربية لنهر الأردن، الذي يشكل الحد الطبيعي مع دولة الأردن.[350] وتتمتع تلك المنطقة، التي تشكل 30 بالمائة من الضفة الغربية، بتربة خصبة، كما أنها تعلو طبقة من المياه الجوفية. وقد بدأت إسرائيل في استيطان تلك المنطقة سنة 1968، في أعقاب حرب يونيو/حزيران 1967 مباشرة، كجزء من خطة وضعها نائب رئيس الوزراء آنذاك إيغال آلون. كانت الخطة تقترح استيطان الوادي بكامل طوله بمجتمعات زراعية، لضمان الوجود الإسرائيلي بحذاء ما أطلق عليه آلون "حدود يمكن الدفاع عنها".[351]

وقد استولت الدولة على الأراضي اللازمة للمستوطنات الزراعية بعدة طرق، تشمل مصادرة 5000 دونما (500 هكتار) من الأراضي الفلسطينية الخاصة.[352] وفي 2013 أفاد مراقب إسرائيل المالي بأن قائد الإدارة المدنية كتب في خطاب إلى مسؤولين حكوميين أن معظم الزراعة الاستيطانية تتم على أراض غير مخصصة للزراعة، أو على أراض فلسطينية خاصة:

إن معظم الزراعة [الإسرائيلية] في يهودا والسامرة تستند إلى عقود مع المنظمة الصهيونية العالمية، بدون أي تعاقد مباشر مع المفوض [بمفوضية أراضي الدولة والمتغيبين]، وهناك عدد كبير من تلك العقود غير مخصص للزراعة أو تم توقيعه عن أراض [[[فلسطين]]ية] خاصة.[353] تستفيد المستوطنات الزراعية من التمييز الإسرائيلي في تخصيص الأراضي والمياه للمستوطنين، ومن غياب الإشراف الحكومي على ظروف العمالة. لا يعيش في منطقة غور الأردن والبحر الميت سوى 9500 إسرائيلي ـ موزعين على 40 مستوطنة (بما فيها البؤر الاستيطانية).[354] وفي المقابل يعيش 60-80 ألف فلسطيني في المنطقة، مشكلين نحو 90 بالمئة من سكانها. ومع ذلك فإن إسرائيل تحرمهم من القدرة على البناء أو الرعي أو الزراعة في 87 بالمائة من مساحة المنطقة، التي قصرتها إسرائيل على المستوطنات أو الاستخدامات العسكرية فقط.[355]

كما أن نشاط الزراعة الاستيطانية كثيفة المياه يعتمد إلى حد بعيد على الماء المستخرج من طبقة المياه الجوفية، الواقعة بأكملها في الضفة الغربية، مع دعم إسرائيل لتكاليف استخراج المياه وتوفيرها. وتحتوي طبقة المياه الجوفية الشرقية تحت وادي الأردن على ثلث الموارد المائية الجوفية للضفة الغربية. وبحسب بتسيليم فإن المستوطنين الـ9500 في وادي الأردن يستهلكون نحو 44.8 مليون متر مكعب من المياه سنويا، وهي كمية تعادل ثلث الاستهلاك الكلي للضفة الغربية التي فيها 2.6 مليون من الفلسطينيين.[356] وجدت بتسيليم أيضا أن إسرائيل قامت في 2011 بتخصيص كمية من الماء للأسرة المتوسطة في مستوطنات غور الأردن، تزيد بـ7.5 ضعف عن المخصص للأسرة الفلسطينية المتوسطة في نفس المنطقة (450 لترا في اليوم مقابل 60 لترا).[357] وقد أدى تقييد وصول المزارعين الفلسطينيين إلى المياه، والسعر الأعلى الذي يدفعونه فيها، إلى شل مزارعهم وأرزاقهم.[358]

تبدو الظروف العمالية أشد بؤسا بالنسبة للفلسطينيين العاملين في مزارع المستوطنات عما هي في المناطق الصناعية. ويعمل 6000 فلسطيني على الأقل في الزراعة الاستيطانية في غور الأردن، ويتضاعف هذا العدد في موسم الحصاد، بحسب مستوطنين في غور الأردن.[359] وقد وجد تقرير هيومن رايتس ووتش الأخير، "حصاد من الانتهاكات: عمالة الأطفال الفلسطينيين في المستوطنات الزراعية الإسرائيلية في الضفة الغربية"، أن معظم العمال الفلسطينيين في قطاع الزراعة الاستيطانية يتقاضون 60-70 شيكل يوميا (17.5 دولار)، أو نحو ثلث الحد الأدنى للأجور في إسرائيل، دون التمتع بالتأمين الصحي أو غيرها من المزايا.[360] ويسلط التقرير الضوء أيضا على تسبب الفراغ التنظيمي في إيجاد بيئة تمكينية لعمالة الأطفال.[361] وقد وجد تحقيق استقصائي نشر مؤخرا في "ذا ماركر"، وهي صحيفة إسرائيلية معنية بالاقتصاد، وجد بدوره أن العديد من الفلسطينيين العاملين في المستوطنات الزراعية يعملون 16 ساعة يوميا وسبعة أيام أسبوعيا، لقاء 8 شيكل (2 دولار) في الساعة ـ أي ثلث الحد الأدنى للأجور في إسرائيل.[362] أدت تلك الكشوف إلى جدال في الكنيست بشأن ظروف العمل في قطاع الزراعة في المستوطنات، الذي وصفه عدد من أعضاء الكنيست بأنه "عبودية عصرية".[363] وفي يوليو/تموز 2015 تخلى حزب "الوطن اليهودي" اليميني عن جهوده لتطبيق قوانين العمل الإسرائيلية في الضفة الغربية، على ما يقال لأن المزارعين احتجوا بأن منح الفلسطينيين أجورا بموجب الشروط المفروضة في القوانين الإسرائيلية من شأنه دفعهم إلى الإفلاس.[364]

الملحق الثاني: حرية التنقل و تقييد الوصول إلى الأراضي

تساهم الشركات الضالعة في توسع المستوطنات في انتهاك حقوق الفلسطينيين، علاوة على حقوق ملاك الأراضي الذين صادرت إسرائيل الأرض منهم. فالفلسطينيون مقطوعون تقريبا عن مساحات شاسعة من الأراضي، التي تعترف إسرائيل لأكثرها بأنها أراض فلسطينية خاصة، عن طريق شبكة من الأسوار المحيطة بالمستوطنات. وقد تسببت هذه القيود في الإضرار بأرزاق آلاف المزارعين الفلسطينيين، وذلك دليل إضافي على كيفية إضرار تورط المصالح الخاصة في توسيع المستوطنات بالفلسطينيين.

ومنذ إنشاء آرييل، شيدت إسرائيل 3 أسوار أمنية حولها، مع توسيع المساحة التي يضمها السور في كل مرة: فكانت الأولى في ثمانينات القرن العشرين، والثانية في 1993، والأخيرة هي جدار الفصل في 2004.[365] وقد صادرت إسرائيل بعض الأراضي الخاصة لصالح مسار الأسوار، كما أحاطت آلاف الدونمات الإضافية بالأسوار رغم عدم الاستيلاء عليها رسميا، فقطعتها عن ملاكها الذين يخضعون حاليا لمجموعة معقدة من القيود الإدارية للوصول إلى أراضيهم.[366] وفي 2004 عمل جدار الفصل المحيط بآرييل على الحيلولة بين الفلسطينيين وبين 9000 دونما (900 هكتار) من أراضيهم ـ إذ ينتمي 3500 دونم (350 هكتار) إلى أكثر من 200 مزارع من سلفيت، بينما تنتمي بقية المساحة إلى قرى حارس وكفل حارس وإسكاكا ومردا وقيرة القريبة.[367]

والتبرير الرسمي للجدران والأسوار المحيطة بالمستوطنات هو أسباب أمنية، لكنها في أكثر الأحيان تتبع مسارا يضم احتياطيات من الأراضي لإتاحة التوسع في الأراضي لشركات المستوطنات ومناطقها السكنية. فتقع الحواجز على بعد مئات، بل آلاف الأمتار من حافة المناطق المبنية من المستوطنات، لإيجاد ما يسميه الجيش الإسرائيلي "مناطق عازلة" أو "مناطق فاصلة" يعتبرها ضرورية لمنع الإرهابيين من التسلل إلى المستوطنات.[368] ويزعم المسؤولون أن أية عقبة تحول دون وصول المزارعين الفلسطينيين إلى إراضيهم هي عقبة مؤقتة، وأن "الجدار لا يمنح المستوطنات سنتيمترا واحدا".[369]

إلا أن بتسيليم أجرت تحليلا لمسار جدار الفصل حول 12 مستوطنة، تشمل آرييل، فوجدت أن مسار الجدار في كل حالة كان يتفق تماما مع الإطار العام لخطة المستوطنة للتوسع. وتبرهن حالة عفانة، التي تمت مناقشتها أعلاه، على إحدى الطرق التي يسعى بها المستوطنون إلى التوسع فوق الأراضي الواقعة بين الجدار والمستوطنة القائمة، مما يقوض الحجة القائلة بأن "المنطقة العازلة" الكبيرة ضرورية للأمن. في حالات قليلة، وافقت المحكمة الإسرائيلية العليا على أن الجيش خطط مسار جدار الفصل، وبالتالي حجم الأراضي الفلسطينية التي يضمها، بغرض استيعاب النمو المستقبلي للمستوطنة وليس التصدي لأسباب أمنية.[370] وفي إحدى الحالات لاحظت المحكمة أن المساحة المتضخمة للأراضي التي يضمها جدار الفصل تناقض التبرير الطوبوغرافي الذي قدمه الجيش نفسه لمسار الجدار في حالات أخرى، حيث أنه جعل الموقع أقل أمنا مما لو كان قد شيد الجدار بمراعاة المستوطنات القائمة فقط.[371] وقد قرر مؤسس "الجدار من أجل الحياة"، وهي جماعة تأسست بغرض الضغط على الحكومة الإسرائيلية لبناء جدار يفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية، قرر في 2012: "بالطبع ستكون للجدار عواقب سياسية. فكلما احتفظت بأرض أكثر بين الجدار والخط الأخضر ـ زادت قدرتك على التفاوض لاحقا".[372]

وفي آرييل كان تشييد كل سور متعاقب يتعدي على الأراضي الفلسطينية مع استمرار المستوطنة في التوسع.[373] وفي يوليو/تموز 2005، وهو العام التالي لتشييد جدار الفصل، قال رئيس الوزراء آنذاك أرئيل شارون أثناء زيارته لآرييل: "مرة أخرى أوضح أن هذه واحدة من أهم الكتل [الاستيطانية]، وسوف تظل دائما جزءا من دولة إسرائيل... لقد أتيت لأرى كيف يمكننا توسعة المدينة وتقوية الكتلة، كما أفعل مع بقية الكتل".[374]

تأثير القيود على وصول المزارعين إلى أراضيهم

أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلات مع 14 مزارعا من بلدة سلفيت وقرية مردا، وكانوا يمتلكون أرضا منعهم السور الخاص بآرييل من الوصول إليها. وعلاوة على هذا فإن السلطات الإسرائيلية صادرت بعض أراضي هؤلاء المزارعين. وفي كل حالة وصف المزارعون كيف عملت القيود الإسرائيلية على الوصول إلى الأراضي الفلسطينية على إحداث تخفيضات كبيرة في إنتاجية محاصيلهم، لدرجة أن بعض المزارعين الذين تحدثت معهم هيومن رايتس ووتش توقفوا تماما عن زراعة أراضيهم أو جزء منها، رغم مخاوفهم من تصنيف إسرائيل لها كأرض دولة على أساس عدم استمرار الفلسطينيين في زراعتها.[375] لا يتسنى للمزارعين الوصول إلى أراضيهم إلا مرتين أو ثلاث في العام، لعدد محدود من الأيام، وبإذن مسبق من الجيش الإسرائيلي، في ما يعرف بـ"التنسيق". ففي 2014 خصص الجيش ما يقل عن 8 أيام للفلسطينيين لحصاد أراضيهم المعزولة بفعل جدار الفصل، من 15 إلى 25 أكتوبر/تشرين الأول، عدا بعد ظهر الجمعة وطوال السبت.[376] وإذا سقط المطر أثناء الفترة السنوية التي يسمح الجيش فيها بالوصول، يعجز المزارعون عن العمل، لكن الجيش لا يمدد فترة الوصول نتيجة لهذا. وقد شرح جميع المزارعين الذين تمت مقابلتهم أن المدة التي يخصصها الجيش الإسرائيلي غير كافية على الإطلاق. وقالوا إن موسم الحصاد يمتد طوال شهرين على الأقل، وأنهم يحتاجون شهرا واحدا لحصاد أرضهم على النحو اللائق.

كما اشتكى المزارعون من أن الجيش، في الأيام التي يسمح فيها بالوصول، لا يفتح البوابات إلا مرتين يوميا، لمدة نصف ساعة تقريبا.[377] والمفترض أن تُفتح البوابات في الثامنة صباحا وتغلق في الرابعة عصرا، لكن المزارعين يضطرون أحيانا للانتظار لمدة 4 أو 5 ساعات قبل فتح البوابات، ثم يعجزون عن المغادرة قبل إعادة فتحها مساءً.[378] ولا يسمح الجيش للسيارات بالدخول، رغم أن بعض أراضي المزارعين تبعد عن البوابة عدة كيلومترات.[379]

وقد أبدى بعض المزارعين الخوف من تحول الحاجز المادي الذي يحول بينهم وبين أراضيهم إلى رفض تام لحقهم في الوصول، أو إلى الضم في النهاية. والمعتاد أن يمنع الجيش المزارعين من إحضار الجرارات، باستثناء جرار واحد أثناء موسم الحصاد. وبما أن المنطقة تعتبر "منطقة عازلة"، فإن المزارعين ملزمون باستصدار إذن عسكري لغرس أشجار جديدة.[380]

فقد عبد الرحمن د. 50 دونما (5 هكتارات) من الأرض المزروعة بالخضر الدرنية، بعد أن خصصتها إسرائيل لآرييل وبنيتها التحتية المحيطة، كما قال لـ هيومن رايتس ووتش.[381] فقد صادر الجيش 15 دونما من أرضه في 1978 لصالح مستوطنة آرييل الأصلية، ثم صادر الـ35 دونما المتبقية في ثمانينات القرن العشرين لصالح السور الأمني الأول. وقد نجح عبد الرحمن في المقاضاة لاستعادة الدونمات الـ35 ـ ليتفاجأ بعد ذلك بأن الجيش يقيد وصوله إليها في 1993، عندما شيد السور الثاني حول المستوطنة. وقد توقف عبد الرحمن منذ ذلك الحين عن زراعة الدونمات الـ35 تماما. وقال: "هناك عقبات عديدة. فالجيش لا يسمح بوقت كاف [لزراعة الأرض] ولا يمكنني إحضار جرار، كما لا يسمحون لنا بغرس أشجار زيتون جديدة". ويخشى عبد الرحمن أن تعلن إسرائيل عن أرضه كأرض للدولة إذا لم تستزرع، لكنه لا يملك تكاليف الاستثمار فيها. كما قال إن "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" قامت في 2012 بترتيب مشروع إغاثي لمساعدة المزارعين على غرس أشجار جديدة في أراضيهم.[382] وتمكن بعض المزارعين من التغلب على العراقيل الإدارية وغرس الأشجار، لكن أشجارهم كلها ماتت بسبب نقص الري، بحسب قول عبد الرحمن.

لدى عبد الرحمن 6 أبناء، منهم 3 في الجامعة. لكي يوفر مصاريف الدراسة، قام ببيع 5 دونمات (نصف هكتار) من أرضه. وقال: "فيما مضى كانت الأرض تصنع المال، لكنها لم تعد مصدرا للدخل". وبحسب العديد من المزارعين من سلفيت فإن كل دونم من الأرض يزرع بـ20 شجرة زيتون، وفي كل عام تأتي كل شجرة بنحو 15 لتر من الزيت، بقيمة 70 دولار، أي أن دونم الأرض المغروسة بأشجار الزيتون يساوي 1400 دولار سنويا. أما [نتاج] دونم القمح فيباع بـ400 دولار. وقال عبد الرحمن: "إذا كنت قد تمكنت من زراعة أرضي منذ 1980 لما اضطررت لبيع الدونمات الخمسة لتسديد مصاريف تعليم أبنائي".

وقد ورث نظام شطيّة.، وهو مزارع آخر من سلفيت، 80 دونما من الأرض عن أبيه وجده، منها 30 مغروسة بأشجار الزيتون و50 مزروعة بالمحاصيل الحقلية مثل القمح والشعير.[383] وقال إن الجيش قيّد وصوله إلى الأرض منذ تشييد جدار الفصل في 2004، فتوقف عن زراعة الـ50 دونما بسبب قيود الوصول التي يكاد التغلب عليها يكون مستحيلا، كما قال. وفي 2011 علم نظام أن مسؤولين إسرائيليين أعلنوا عن الـ50 دونما كأرض "متغيب". وهو يواصل بذل قصارى جهده مع أشجار الزيتون، وقد قام لاحقا بتهريب وغرس 50 شتلة زيتون جديدة في الأرض، لكنها ماتت كلها بسبب نقص الري، بحسب قوله. وقال نظام: "كانت الـ30 دونما المزرعة بأشجار الزيتون تنتج فيما سبق 9000 لترا من الزيت" الذي يساوي ما يقرب من 42 ألف دولار. "أما في هذا العام فلم أنتج سوى 450 لترا فحسب" تساوي نحو 2100 دولار. ويخشى نظام، مثله مثل بقية المزارعين، أن تقوم إسرائيل في النهاية بمصادرة أرضه رسميا. وقد اطلعت هيومن رايتس ووتش على صور فوتوغرافية التقطها نظام لعلامات مساحية إسرائيلية على أرضه، إضافة إلى أراض فلسطينية أخرى. وقال إنه سأل السلطات الإسرائيلية عن الغرض من تلك العلامات، بدون أن يحصل على إجابة حتى ديسمبر/كانون الأول 2014. وقال هو وعدد من المزارعين الآخرين في سلفيت إنهم يخشون أن تكون العلامات نذيرا بالمصادرة.

يمتلك مزارع آخر، هو محمود ر.، 30 دونما مزروعة بـ350 من أشجار الزيتون، لكن جدار الفصل المشيد في 2004 قسم قطعة الأرض إلى جزءين: فوقع 22 دونما على "جهة آرييل" من الجدار.[384] وقال محمود: "حتى عند ذهابي للعمل في الـ8 دونمات، على هذه الجهة من الجدار، يطردني الجنود. لقد هددوني بإطلاق النار على ساقيّ إذا عدت" وكانت آخر الوقائع في فبراير/شباط أو مارس/آذار سنة 2013. أما أحمد أ.، وهو مزارع يمتلك 15 دونما من الأرض شطرها جدار الفصل إلى نصفين، فقد وصف تلقي تهديدات مشابهة: "هددني أحد الجنود بإطلاق النار على ساقي إذا لم أخرج. إنهم يراقبونك من البرج. وإذا رأوك تزرع يأمرونك بالرحيل".[385]

ومحمود مستمر في محاولة زراعة أرضه، لكنه لا يحصل إلا على قسم ضئيل من نتاجها السابق، بسبب القيود الإسرائيلية. قال محمود: "الجرارات ممنوعة. لا يمكنني أن أستخدم إلا هذه الأدوات. في موسم الحصاد فقط يسمح لي باستخدام جرار واحد لنقل الزيتون الذي تم قطافه". وقال محمود إن الجنود دعوه إلى بيع أرضه لمستوطنين إسرائيليين:

جاءني الجنود أكثر من 5 مرات لسؤالي عما إذا كنت أرغب في بيع الأرض. وقالوا: "أنت تعمل وتكدح بدون مقابل. إذا كنت تخشى السلطة الفلسطينية فسوف نرسلك إلى الأردن أو أمريكا ونعطيك المال". لكنني رفضت. كان هناك شيخ مسن بجواري، قبض على حفنة من التراب في يده وقال: "هذه أغلى عندي من كل أموال إسرائيل".

وكما في حالة عبد الرحمن، قال عابد ز.، وهو مزارع مسن يمتلك 50 دونما من الأرض "خلف" الجدار في المنطقة المحيطة بآرييل، مزروعة بأشجار الزيتون، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه اضطر لبيع أرضه بسبب المصاعب الاقتصادية. قال عابد إنه باع دونما واحدا لتزويج ابنه: "كان أبي وجدّي يعتمدان على الأرض في طعامهما. الخبز [الذي كنا نصنعه] يأتي من القمح. وكانا يزرعان السمسم والفول".[386] ثم أضاف: "أنا واحد من مئات المزارعين في نفس الوضع".

المصدر