إدارة الأعمال عبر التاريخ الإسلامي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إدارة الأعمال عبر التاريخ الإسلامي

د. محمود عساف

من كتاب (المنهج الإسلامي في إدارة الأعمال)

خلق الله آدم ليكون خليفته في الأرض وكان أمر هذه الخلافة مقررا قبل خلق آدم السلام " وإذ قال ربك للملائكة إن جاعل في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إنى أعلم مالا تعلمون".

وقد فضل الله تعالى آدم ونسله بالعقل وسخر لهم الأرض وما عليها وما فيها وما فوقها وانشغلوا بعمارة الأرض لا الفساد فيها كما قالت الملائكة . وكانت الأسباب موصولة بين آدم ونسله الأول وبين السماء فكانوا ممتثلين لأوامر الله بعد أن تاب الله على أبيهم آدم على أثر تلقيه كلمات ربه فعاشوا في نعمة من الله وفضل يأكلون من طيبات ما رزقهم الله بغير جهد أو عناء.

وكان الخير للجميع فليس في الناس ن غنى أو فقير بل يعيش الجميع الحياة البسيطة السهلة السعيدة لا يشغلهم إلا التسبيح بحمد الله لإشباع الروح والسعى الخفيف وراء القوت لإشباع الجسد.

وفي هذه المرحلة من التاريخ لم تكن هناك ضرورة للعمل المجهد لتدبير شئون المعاش أى إدارة الأعمال.إن قصة آدم لعبرة : فإن من تميز بالعقل السديد وكانت أسبابه موصولة بالله تعالى يمتثل لأوامره ويمتنع عن نواهيه ويرجع إليها تائبا كلما أخطأ... فإنه يحيا حياة طيبة لا مخمصة فيها ولا نصب.

‌بعد ذلك أستأنس الإنسان من الحيوان ما أمكنه ذلك وذلل الله ذلك الحيوان لخدمة الإنسان في مأكله وملبسه ومركبه, ثم انتشر الناس في بقاع الأرض وصار كل لما يسر له فبعض الناس عمل في الرعى وبعضهم في الصيد والبعض في صنع السهام والحراب وأدوات القتال . ثم تعلم الناس الزراعة المنظمة فصاروا يحرثون نشأ التخصص وفقا لظروف البيئة التي عاش فيها البشر.

‌وفي نفس الوقت تعددت الحاجات فكان لابد من تبادل الطيبات فنشأت المقايضة وهى أول مظاهر نشاط الأعمال . ومن ثم ظهرت الأسواق التي كان يجتمع فيها ذوو الحاجات من المشترين وذوو الفائض من البائعين.

ولقد قامت في وجه المقايضة كثير من الصعوبات فلابد من توافق الرغبات عند كلا المتقايضين وإذا توافقت الرغبتان فقد تتفاوت القيمة بين الطيبات التي يرغبان في تبادلها إذن قد يصعب تجزئة بعضها ومن هنا ظهرت الحاجة إلى وسيط ثابت تنسب إليه الطيبات فنشأت النقود التي اتخذت أشكالا عدة بدأت بالماشية في بعض البلاد والقماش في بعض آخر والصوف في بلاد أخرى والحنطة في غيرها .... وهكذا.

غير أن اتخاذ السلع الاستهلاكية كنقود واجهته مشكلات عديدة. من أهمها صعوبة نقل السلعة من مكان إلى آخر، وعدم قابليتها للتخزين والتجزئة، إلى أجزاء صغيرة في بعض الأحوال فاتخذت المعادن وسيطا تقوم به الطيبات.

واستخدم الحديد ثم هجر بسبب وزنه وصعوبة حمله إلى النحاس والبرونز وذلك على هيئة سبائك تحمل أسماء بعض التجار والصيارفة أو ما يدل عليهم, فكانت تلك السبائك (النقود) مضمونة من مصدريها.

واتسعت رقعة التجارة وانتشر تبادل المنافع بين الناس . فاستعمل الذهب والفضة كوسيط للتبادل ومما شجع على ذلك ثبات قيمتها النسبية ذلك بالإضافة إلى سهولة الحمل وارتفاع القيمة بسبب الندرة.

وصارت النقود تتخذ شكل الأقراص المستديرة وعرفت العملة الذهبية بالدنانير والفضية بالدراهم, وكان لكل نوع من الدنانير قيمته الخاصة وفقا لما يحتويه من ذهب خالص.

وبفضل هذه النقود اتسعت التجارة بين الأمم القديمة وشقت الطرق وعبدت وأقيمت الاستراحات على طول الطرق والفنادق (والخانات) تيسيرا على التجار لمبيتهم وحفظ تجارتهم وتكونت المدن التجارية عند ملتقى الطرق وازدهرت الحياة فيها كما نشطت الموانئ وعمرت.

وكان العرب في جاهليتهم يشتغلون بالتجارة أى بنشاط من أنشطة إدارة الأعمال وكان لقريش من السنة رحل أربع إذ كان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة هم بنو عبد مناف : هاشم الذي كان يؤالف ملك الشام حيث أخذ منه خيلا فأمن به تجارته إلى الشام عبد شمس الذي كان يؤالف إلى الحبشة والمطلب الذي ألف بين اليمن ونوفل الذي كان يرحل إلى فارس وكان هؤلاء يسمون بالمتجرين. (1)

ثم اقتصر الإيلاف بعد ذلك على رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام واليمن مثلما أنزل الله فيها قرآنا كريما " لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف".

وبازدهار التجارة صار للعرب أسواق يقيمونها شهور السنة ويتنقلون من بعضها إلى بعض, منها الجندل التي كانوا ينزلونها في أول يوم ن ربيع الأول حيث يجتمعون بها للبيع والشراء والأخذ والعطاء وكانت المبايعة فيها يبيع الحصاة وهى نوع من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام

وكانت تتخذ أشكالا عدة منها قول البائع للمشترى:

ارم هذه الحصاة فعلى أى ثوب أو على أية شاة أو على أى شيء أوقعت فهو لك بدرهم أو يبيع البائع من أرض قدر ما انتهت إليه رمية حصاة المشترى نظير مبلغ محدد مقدما أو يقبض المشترى على كف من حصىP

ويقول للبائع:

لى بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع أو يبيع البائع سلعته ويقبض على كف الحصى فيتقاضى من المشترى عن كل حصاة درهما وقد أبطل الإسلام هذه الصور لما تتضمنه من الضرر والخطر الذي هو نوع من القمار. (2)

ومن أسواق العرب "سوق هجر" (بفتح الهاء والجيم) وهم اسم لجميع ارض البحرين . وكانوا ينتقلون إليها في شهر ربيع الثانى ويتولى أمرها المنذر بن ساوى الذي دخل في الإسلام استجابة لكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم .ومن تلك الأسواق "سوق عمان" التي كان العرب يرتحلون إليها من سوق هجر فتنعقد السوق إلى آخر جمادى الأولى.

ومنها "سوق المشقر" (بفتح القاف وتشديدها) وهى حصن بالبحرين وكانت السوق تقام فيها في أول جمادى الآخرة وكان البيع فيها يتم بالملامسة والإيماء والهمهمة خوف الحلف والكذب وبيع الملامسة له أشكالا عدة منها أن يباع الثوب للمشترى فيتسلمه ويرديه في الظلام ويقوم لمسه له مقام النظر إليه نظير ثمن معلوم وليس له أن يرجع في الشراء إذا رأى الثوب بعد ذلك وقد أبطل الإسلام هذا النوع من البيوع.

ومن أسواق الجاهلية كذلك "سوق الشحر" (بفتح الشين وتشديدها وسكون الحاء) وتقع على ساحل بين البحر بين عمان وعدن وكانت تقام في النصف من شعبان . وكان البيع فيها بالحصاة كما كان شأن دومة الجندل.ومنا "سوق عدن" التي كان العرب ينتقلون إليها من الشحر وتنعقد إلى أيام من رمضان وكان أكثر ما يباع فيها الطيب.

ومنها "سوق صنعاء" التي تنعقد في منتصف رمضان وتستمر حتى آخره وكان أشهر ما يباع فيها الجلد المدبوغ والبرود (جمع بردة أى عباءة) كما أن منها "سوق ذى المجاز" التي كانت تتخذ مكانها في جانب من عرفة ومنها "سوق مجنة" التي تنعقد قرب أيام موسم الحج وكانت تجتذب الكثير من قبائل العرب . وسوق حباشة (بضم الحاء) التي كانت تقام في ديار بارق إلى يمين مكة في شهر رجب.

ومن أشهر أسواق العرب "سوق عكاظ" التي كانت تقام بموضع بهذا الاسم يقع في واد بالقرب من الطائف إذا تبعد بعشرة أميال وكانت بالسوق صخور يطوف حولها عرب الجاهلية كما كانوا يتبايعون فيها ويتفاخرون ويتحاجون ويخطبون وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة بالمعلقات وكان كل شريف يحضر سوق بلده وحدها إلا سوق عكاظ التي كان يتوافد عليها كل طوائف العرب.

ولقد كان للعرب في الجاهلية محطات تجارية أهمها مكة ويثرب وكانت هاتان البلدتان تتنافسان في مجال التجارة . وكان اليهود في يثرب يذكرون نار الفتنة بين الأوس والخزرج بغية الاستئثار بالسيطرة على التجارة فيها فأمتد نفوذهم التجارى على المنطقة الواقعة بين يثرب وتخوم الشام وأقاموا فيها المستعمرات كخيبر وفدك وتيماء التي قامت على الزراعة والتجارة معا.

وكن مما يوغر صدر اليهود من عرب مكة أن تكون مكة ملتقى العرب لوجود البيت الحرام بها ومقرا تعقد حوله الأسواق التجارية والأدبية مما كان يزيد من ثروة مكة وازدهار حياة أهلها في حين أن اليهود فيها نفر قليل لا شأن لهم ولا أهمية.

وما أن رأى اليهود الإسلام ينتشر في يثرب حتى رحبوا به ظنا منهم أن فيه إعلاء لشأنهم من الوجهة الاقتصادية . وما أن فطنوا إلى قوة الإسلام وخطره على المادية التي كانوا يؤمنون بها ويعلمون لها حتى بدأوا في حرب المسلمين بأخس الأساليب وأوضعها.

أما كفار قريش من أهل مكة فإنهم كانوا يسعون للخلاص من محمد صلى الله عليه وسلم وهو ين ظهرانيهم, ولما فشلوا وهاجر النبى إلى المدينة وبدأت الدولة الإسلامية تظهر إلى الوجود

أحس المشركون والكفار أن هجرة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يثرب تعلى شأن المدينة وتجعلها تتفوق على مكة في التجارة والأعمال مع احتمال أن يسد النبى عليهم طرق قوافلهم بين مكة والشام فيقضى على تجارتهم وعلى ذلك اشتد أوار الحرب بين الكفار والمسلمين ليس بسبب الدين وحده ولكن للمصالح الاقتصادية التي يحتمل أن تضييع كذلك، ‌لهذا كانت المصالح الاقتصادية لأهل مكة عاملا مهما في اشتداد العداوة للإسلام والمسلمين.

ومرت السنوات وانتشر الإسلام في بقاع الأرض ففتحت بلاد الروم وفارس ومصر وشمال أفريقيا وأسبانيا ووصل الإسلام حتى شاطئ أفريقيا غربا وبلاد الهند وما جاورها شرقا.بل امتد إلى وسط أوربا وجنوب فرنسا.

وكان من أثار هذا لاتساع للدولة الإسلامية ومن ثم للأمة الإسلامية أن يوجد نظام لتبادل المنافع والخيرات بين بلاد المسلمين بل وبينها وبين غيرها من البلاد.. فنشأت المراكز التجارية العالمية وأقيمت الأسواق الثابتة وعبدت الطرق واستخدم الحمام الزاجل في نقل الرسائل.. وهكذا ازدهر نشاط الأعمال في كافة أنحاء الدولة الإسلامية.

وكان التاجر يحمل تجارته مستخدما قوافل البر والسفن البحر فينقلها بين أرجاء العالم الإسلامي ثم يبيعها في بلد ما . فإذا اقتضى الثمن وجد أنه من الخطر أن يجمل المال عائدا بعد ذلك إلى بلده. وتفاديا لقطع الطريق وتجنبا لمشقة حمل الذهبى والفضى في طريق عودته؛

ابتكر المسلمون نظاما بموجبه يودع التاجر ما يحصله من مال لدى تاجر كبير يتعامل في الأموال أى صيرفي يسمى الجهبذ ويحصل آخر في بلده الأصلى وكان ذلك يسمى (بالسفتحة) وهذا أول عهد العالم بالصكوك المالية التي تحل محل النقود كالشيكات والسندات الإذنية والكمبيالات. وكان الجهابذة يلتقون في مكة في موسم الحج ليشهدوا منافع لهم فيجرون المقاصة فيما بينهم.

هذا ولقد كان لرجال الأعمال من التجار المسلمين فضل كبير في نشر الإسلام في البقاع النائية من الأرض كجنوب شرق آسيا وجنوب الصين وشرق ووسط وغرب إفريقيا إذا كانوا عن طريق اتصالاتهم التجارية واحتكاكهم بالمستهلكين في أسواق تلك البلاد يدعون إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هى أحسن وكانوا أمام السكان قدوة طيبة يحتذى بها ومثلا حيا لخلق المسلمين وسلوكهم,مما أدى إلى نشر الإسلام ودخول الناس في ين الله أفواجا.

هذا ولقد أخذت أوربا عن العرب والمسلمين نظام السوق المتنقلة التي كانت تنعقد في المدن والقرى في مواعيد دورية لكل منها وفيها كان المشترون يقتضون ما يلزمهم من سلع . ثم تطور الأمر إلى أن صارت هناك أسواق متخصصة في أنواع معينة من السلع لا تتعداها لغيرها فكانت تلك الأسواق هى نواة البورصات الحديثة.

وكان نشاط الأعمال حتى القرون الوسطى قاصرا على التجارة بيعا وشراء وعلى إنتاج السلع القائمة على الحرف اليدوية إلى أن قامت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر وهى التي اعتمدت على الآلة والإنتاج الكبير فقل الاعتماد على العامل البشرى وصار الإنتاج نمطيا لكل سلعة.

واستلزم الأمر أن يفرض ذلك الإنتاج على أسواق الاستهلاك فأخذت أوروبا في البحث عن أسواق لسلعها فوجدت في البلدان الضعيفة ومنها معظم بلاد المسلمين ما يتيح لها فرص الثراء فاستعمرتها وصارت تستولى على خيراتها من الخامات لتعديها إليها سلعا مصنعة بأغلى الأثمان ذلك ليزداد الغنى والفقير فقرا؛

ولتتكون فئات من المواطنين الذين يحالفون المستعمرين ويقتدون بهم . ليس في نشاط الأعمال أو تعلم ما يفيد بل في السلوك الاجتماعي الذي لا يلاءم بيئة البلاد المستعمرة.

ولقد أدى التوسع في الإنتاج في ذلك القرن إلى أن زادت العناية بالبيع الشخصي والإعلان فتطورت أساليبها ووسائلهما إلى أن صارا من معالم إدارة الأعمال الحديثة غير أن الممارسات في هذين المجالين قد أغفلت مكارم الأخلاق ووضعت نصب العين هدفا واحدا هو تحقيق الربح فحسب.

ثم إنه تبين للقائمين على نشاط الأعمال أنه لا يمكن سلعة على مستهلك لا يريدها أو يشتريها مضطرا فبدأ نشاط التسويق الحديث بالتعرف على حاجات المستهلكين وأذواقهم ورغباتهم. ثم العمل على إشباع تلك لحاجات بما يتفق مع الأذواق والرغبات عن طريق مختلف السلع والخدمات؛

وكان ذلك في مطلع هذا القرن العشرين بيد أنه في أواخر هذا القرن و بدأت ثورة إنتاجية جديدة هى ثورة التقنية والالكترونات التي نجم عنها الاستغناء ليس عن العامل البشرى فحسب مثلما نجم عن الثروة الصناعية؛

بل قل شأن الفكر البشرى في العمل حيث حلت العقول الالكترونية محل التفكير الإنساني مثلما نجم عن استخدام الحسابات اليدوية وتعطل العقل البشرى في كثير من الحالات إلا في بعض الأمور التي لا يمكن للعقول الالكترونية أن تتصرف فيها كما يتصرف البشر.

وبالرغم من أن هذه الثورة تبشر بتقدم علمى مذهل في كافة المجالات فإنها قد أنمت عند معظم الناس الفكر المادى الذي ولدته الثورة الصناعية ضعيفا من قبل. واتصف الناس بالأنانية, وكفر الكثير بالأديان وذاع الإلحاد والشك في وجود الله وإنكار الروح والجزاء الأخروي وقوفا عند حدود الكون المادى المحسوس " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"(7 الروم) وذاعت بين الشعوب المتقدمة ظاهرة الإباحية والتهافت على اللذة والتفنن بالاستمتاع بها والإغراق في "ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم " (12 محمد). (3)

كذلك فقد كان من آثار التقدم العلمى والتفنى أن صار الربا الذي غذاه رجال الأعمال اليهود بفكرهم وشجعوه بمؤسساتهم وأموالهم وهو أساس المعاملات بين الأفراد والجماعات. مما أدى إلى إذلال النفوس وإضعاف أخلاق وخراب الديار ز ولا عجب أن نجد دولا بأكلها تكاد تعلن إفلاسها بسبب قروض ربوية اضطرت إليها تحت وطأة الحاجة.

ولقد أدت هذه المظاهر المادية في المجتمع العربى إلى كثرة المشكلات الاجتماعية وتفشى المبادئ الهدامة وظهور الإرهاب واشتغلت الثورات المدمرة واضطربت النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتمزقت الدول بالأحزاب المتناحرة وتصارعت الشعوب على المطامع والأحقاد

وانتشرت بين الناس المخدرات والخمر وصارت العلاقات الجنسية غير الشرعية أمرا طبيعيا وذاع الشذوذ وظهرت أمراض لا شفاء منها مثل مرض "الإيدز" والتي لم يكتشف لها دواء حتى اليوم في حين أن العلاج في الإسلام عرف منذ قوم لوط وهو تحريم السبب الذي من آثاره الإصابة بذلك المرض.

ولقد تمكن الاستعمار الطويل لمعظم الوطن الإسلامي من صرفنا عن رؤية ما في الإسلام من كنوز, سواء كان في العبادات وما تؤدى إليه من نقاء وشفافية في النفوس أو في المعاملات وما تحققه من عدالة وبر.

والخلاصة أن هذه المدينة الحديثة قد أثبتت ضعفا بل عجزا عن تأمين حياة المجتمع الإنسانى, وإقرار الطمأنينة عند الأفراد والشعوب والسلام بين الدول.

وقد عمل الغرب على أن تمتد موجة المادية هذه إلى بلادنا الإسلامية التي أوقعها سوء طالعها تحت سلطانه ردحا من الزمن فتغمر تلك الموجة دوى بأكملها فتجعلها تنصرف عن الإسلام بعد أن كانت شريعته سائدة فيها وجماعات وأفرادا يدعون إلى المادية تحت اسم المذاهب الفلسفية كما انتشرت المذاهب والنحل المحاربة للإسلام كالشيوعية والبهائية والقاديانية والماسونية والتي هى وليدة للفكر الصهيونى.

ولم يقتصر الأمر على ذلك و بل تعداه إلى أن صار رجال المال والأعمال الغربيون يغررون كبار المسلمين بالاستدانة منهم والتعامل معهم وسهلوا لهم بذلك وهونوه عليهم إلى أن تملكوا ناصية أمورهم فصاروا ألعوبة بين أيديهم الأمر الذي أدى إلى تغيير نظم الحكم والفضاء والتعليم؛

وانتشر عندنا التقليد الغربى الأعمى في مظاهر الحياة فقط فقلدنا الأجانب تقليدا أعمى في الملبس والعادات الاجتماعية وأغفلنا أن نأخذ عنهم أسباب تقدمهم العلمى فلا تقوم لنا مشروعات إلا على أساس استيراد التقنية والعمالة الفنية.

هذا في حين أننا لو حكمنا عقولنا واتبعنا ديننا لما اغفلنا العلم والتقنية ولتجنبنا شرور الحضارة الغربية ومساوئها وألهمنا الله طريق الصواب أو وهو الحل الإسلامي الذي يكمن فيه صلاح هذه الأمة مثلما صلح بها أولها.

حتمية الحل الإسلامي

إن الحل الإسلامي لا يقتصر على مجال إدارة الأعمال وحدها بل ينسحب على كافة مجالات الحياة اقتصادية كانت أم سياسية أو اجتماعية, فلقد وضح مما سبق أن تقليد الغرب في أساليب حياته لم يسفر إلا عن عجز في مواجهة مشكلاتنا التي تختلف عن مشكلات الغرب لاختلاف بيئتنا عن بيئتهم فما بالنا إذا كانت أساليبهم في الحياة قد جرت عليهم والمخدرات والخمر والجنس؟ هم يرون الدنيا هدفا ونحن نراها عرضا زائلا وطريقا إلى الآخرة فحسب.

‌‌وإذا كان الغرب يعرف المشكلة الاقتصادية بصفة عامة بأنها:

" تخصيص الموارد المحددة في استعمالاتها البديلة لإشباع أقصى قدر من حاجات الإنسان غير المحدودة" أى ضرورة تحقيق التخصيص الأمثل للمواد لمواجهة الاستخدامات مع إطلاق العنان للرغبات والحاجات والأهواء,

فإن الإسلام يرى غير ذلك حيث يكبح جماح الأهواء:

"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى".

كما أنه يحد من التوسع في إشباع الحاجات إلى الجنس والمال والزينة:

" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" (14 آل عمران) كما يحض على التوسط في الإنفاق وعدم الإسراف أو التقتير :" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" (29 الإسراء).

وعندما ننادى بالحل الإسلامي علاجا لمشكلاتنا, يظن البعض أن ذلك الحل إنما يقتصر على القوانين والتشريعات فحسب.وهذه نظرة محدودة غير شاملة فالقوانين والتشريعات جزء أصيل من الحل الإسلامي بيد أنها ليست كل ذلك الحل؛

فالحل الإسلامي يعنى أن يكون الإسلام هو الموجة للمجتمع والقائد الذي يأمر فيطاع والنبراس الذي يضئ كل المجالات من مادية ومعنوية وهذا لا يتأتى إلا بأن تكون عقيدة المجتمع إسلامية والشعارات التي يرفعها إسلامية أفكاره ومشاعره ونزعاته كذلك وأخلاقه وتربيته وتقاليده وآدابه وأخيرا قوانينه وتشريعاته إسلامية .

والحل الإسلامي ليس من صنع البشر فهو من وضع الله تبارك وتعالى هو الحل الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يعالج كل المشكلات ويذلل كل العقبات.

‌وليس معنى هذا أن الإسلام يحبذ جمود الفكر ويعارض الابتكار والاقتباس بل إنه يحض عليهما ويشجعهما, مع التمسك بمبادئ الإسلام ومثله ولا يوجد أى تعرض بين هذين الاتجاهين.

فالدين الإسلامي يدعو إلى العلم, بل جعل طلبه فريضة على كل مسلم ذلك لأن العلم هو نصير القوة ومصدرها الأول وهو الذي يوجهها التوجيه الأمثل وهو الذي يمد الأمم بالاختراعات والابتكارات واستكشاف المجهول وحسبنا أن أول آية نزلت من كتاب الله " اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم علم".

كذلك فإن الاختراع عمل صالح واقتباس ما يفيد المسلمين عن غيرهم عمل صالح . والعمل الصالح قد عطفه الله على الإيمان في كثير من آيات كتابه الكريم.ولم يفرق الإسلام بين علم الدنيا وعلم الدين, بل أوصى بهما سويا والدليل على ذلك هو ما ورد في القرآن الكريم من الآيات لكونية التي ما زالت تكتشف حقائقها كل يوم .

وإذا سلمنا بأن القرآن معجزة في آياته الكونية وما احتواه من حقائق علمية بعضها ما زال خافيا أفلا نسلم بأن القرآن معجزة فيما ورد فيه من معاملات ؟ وألا نؤمن بأن ما ورد في الكتاب والسنة قادر على أن يعالج مشكلاتنا المعاصرة ومنها مشكلات إدارة الأعمال؟

لقد وضع الإسلام قواعد للأمور الكلية في الاقتصاد وتطبيقاته فها نحن نقرأ قول الله تبارك وتعالى في المحافظة على المال وبيان قيمته ووجوب الاهتمام به:" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (5 النساء) ويقول في موازنة الإنفاق والدخل:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" (29 الإسراء) ويقول النبى صلى الله عليه وسلم " ما عال من اقتصد" ويقول" نعم المال الصالح للرجل الصالح".

هذا فضلا عن أن الإسلام أرسى دعائم من الأمل والوطنية والعلم والقوة والصحة وحث على التطهير من الثرة والعدوان والأنانية والطغيان وكل ذلك له أثره في مجال إدارة الأعمال.

إن في الإسلام الحل الأمثل لكل مشكلاتنا .. وإذا كان هذا الكتاب قد اقتصر على المنهج الإسلامي في إدارة الأعمال, فإن المنهج الإسلامي كل لا يتجزأ فليس من المعقول أن يطبق منهج إسلامي في الإدارة في حين أن الدولة لا تعترف أو لا تطبق تعاليم الإسلام .

وعلى ذلك فإنه إذا طبقنا المنهج الإسلامي على إدارة الأعمال وحدها وأغفلنا المنهج الإسلامي في شتى نواحي الحياة فإن هذا يكون بمثابة حل أبتر لا يحقق الهدف الكلى للمنهج الإسلامي.

غير أنه لدواعي التخصص فقد قصرنا الحديث في هذا الكتاب على إدارة الأعمال, ولا يمنع ذلك من أننا تعرضنا للأمور العامة التي يعالجها الإسلام كلما كانت هناك مناسبة تقتضى ذلك.

إننا إذا كنا فرطنا في ديننا ردحا طويلا من الزمان, وأصابنا ما أصابنا من ضعف وهوان فإنه لا طري لنا إلا أن نعود إلى الحق : إلى الحل الإسلامي فلا ملجأ من الله إلا إليه.

المراجع

  1. عبد الحميد جوده السحار: محمد رسول الله والذين معه، الجزء 23، صـ 175، دار مصر للطباعة 1975م.
  2. عبد الحميد جوده السحار: المرجع السابق، صـ 176.
  3. بتصرف عن: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، دار القلم، بيروت، صـ 219.