أحمد قاديروف.. منقذ الشيشان أم خائنها؟
بقلم : الدكتور عاطف معتمد عبد الحميد
لا ينسى أحد في الشيشان الخطب النارية للمفتي أحمد قاديروف في عام 1995 حينما كان صوته ينادي الشيشانيين على دقات طبول الحرب: "أيها الرجال، يا من تدافعون عن الإسلام والشيشان، ها هو مصير أوطانكم بين أيديكم، إذا كنا لا نزيد عن مليون مجاهد يواجهون 150 مليونا من الروس فإن القضاء على روسيا نهائيا لا يستوجب أكثر من أن يقتل كل رجل منا 150 كافرا منهم".
تذكرت العجوز زاريتا الشيشانية هذه الكلمات بينما كانت ترنو إلى التراب المنهال على أطلال بيتها الذي هدمه الجنود الروس، وهزت رأسها حسرة وهي ترى صور قاديروف معلقة في كل مكان بالعاصمة جروزني يبتسم ابتسامة راضية، مصافحا بوتين رئيس روسيا، وذلك صبيحة يوم 7-10-2003 حينما أعلن عن فوز قاديروف برئاسة جمهورية الشيشان مدعوما من الكرملين.
البداية في المنفى
في فبراير من عام 1944 حينما عاقب ستالين الشيشانيين بتهجير نصف مليون منهم إلى آسيا الوسطى وسيبيريا -بتهمة التعاون مع الألمان- كانت عائلة حجي عبد القادر من بين مئات الآلاف الذين انتُزعوا من أرضهم ليلقى بهم قسرا في مكان مجدب من كازاخستان، وهناك ولد أحمد، وخطا خطواته الأولى نحو حفظ القرآن. وحينما سمح للشيشانيين بالعودة إلى أوطانهم في عام 1956 كان الصبي قد حفظ من القرآن جزأين: عم وتبارك.
ويترعرع أحمد قاديروف في الشيشان بين أواخر الخمسينيات وأوائل الثمانينيات ليسافر بعدها إلى أوزبكستان لإكمال دراسته فيتخرج في منتصف الثمانينيات في المدرسة الإسلامية في بخارى، ثم ينهي دراسته في المعهد الإسلامي في طشقند. وبعد عودته للشيشان يعين مساعدا لإمام المسجد الجامع في غوديرمس. وفي مطلع التسعينيات يسافر إلى الأردن لإكمال دراسات إسلامية كان مولعا بها.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وإعلان الجنرال جوهر دوداييف استقلال الشيشان التي أصبح أول رئيس لها اختير قاديروف عام 1993 في منصب مساعد المفتي العام للشيشان. وحينما استعرت حرب الشيشان الأولى (1994-1996) عين قاديروف في عام 1995 مفتيا للشيشان في اجتماع حضره سليم خان ياندربييف وأصلان مسخادوف وشامل باسييف وقادة وأئمة آخرون بعدما رأوا في قاديروف مقومات علمية وكاريزمية أهلته آنذاك لتولي هذا المنصب البالغ الأهمية في جمهورية تشهد أكبر عاصفة في تاريخها الحديث.
وخلال هذه الحرب صنفت موسكو قاديروف واحدا من أخطر أعدائها في الشيشان لقدرته البلاغية على شحن عاطفة الشيشانيين بقدسية الجهاد ضد الروس "الكفار"، واعتبر بوريس يلتسين أن إسقاط رأس قاديروف أثمن من إسقاط رأس أصلان مسخادوف الذي انتخبه الشعب الشيشاني في 27-1-1997 رئيسا لخمس سنوات.
وداعا أيها الرفاق
غير أنه ودون مقدمات انتشرت شائعة كبرى في الشيشان في نهاية عام 1996 ما زالت السرية تحيط بحقيقتها حتى الآن، وملخصها أن هناك خطا مباشرا للتواصل بين الكرملين وقاديروف!
وحسب الرواية التي انتشرت آنذاك فإن القوات الشيشانية التي أسقطت مبنى المخابرات الروسية في جروزني عثرت على رسائل وأوراق للتواصل مع عميل شيشاني يحمل اسما حركيا هو "آدم"، ويقابله في خانة الاسم الحقيقي "أحمد حجي قاديروف"! غير أن الأمر لم يكن ليصدق آنذاك، ورغم التحذير الذي وجهه ياندربييف للرئيس المنتخب أصلان مسخادوف بضرورة التخلص من قاديروف في أقرب فرصة فإن مسخادوف كان غير قادر على تصديق الشائعات، أو ربما كان مصدقا ولكنه لم يكن قادرا على التخلص من قاديروف "المفتي العام" لجمهورية تحكمها العلاقات العشائرية والقبلية. وفي الحالتين كانت المحصلة في صالح بقاء قاديروف في منصبه حتى نهاية عام 1999 حينما حدث الانعطاف الكبير في طريق قاديروف.
في سبتمبر من عام 1999 قام الجناح المتشدد من الجماعة الإسلامية في الشيشان برئاسة خطاب وباسييف بنقل نشاط الحركة إلى بلدتي كاراماخى وتشابان في جمهورية داغستان المجاورة وأعلنت قوانين الشريعة الإسلامية، ونودي بهما نواة للدولة الإسلامية في داغستان التي ستتحد مع الشيشان لإرساء الدولة الإسلامية الكبرى في القوقاز الشمالي. وسرعان ما حركت روسيا جيوشها في أكتوبر من نفس العام لضبط الأمور في الجمهورية المارقة (الشيشان) وتطهير داغستان من "الوهابيين" على حد تصنيف وسائل إعلامها.
وهنا ظهر ما كان خافيا على السطح وانقسم المسيطرون على الأمر في الشيشان إلى فريقين: فريق يرى في الحركة المسلحة ترجمة شرعية لمفهوم "الغزوات" وأن الجهاد لا بد أن يستكمل طريقه لنصرة المسلمين ورفع الظلم عنهم، واستند رأيه على التجربة التاريخية للإمام شامل في النصف الأول من القرن 19 حينما امتدت دولته من أرض الشركس في الغرب إلى داغستان في الشرق. ومن أبرز قادة هذا الفريق القائدان الميدانيان شامل باسييف وخطّاب اللذان قادا "غزوة داغستان".
وفريق ثان رفض المسلك وفضل خيار بناء الشيشان أولا والنهوض بالجمهورية وتطوير أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية قبل التفكير في أي مشاريع إقليمية، حتى إن كان بديل الانضمام للفريق الأول ترك العمل السياسي ومغادرة الشيشان. وأبرز قادة هذا الفريق أصلان مسخادوف والمفتي أحمد قاديروف، غير أن مسخادوف اضطر إلى الانضمام للفريق الأول لشدة تأثير قادته ونفوذهم الطاغي عسكريا وماليا.
أما أحمد قاديروف فقد اختار ما لم يكن أحد يتوقعه على الإطلاق فأعلن رسميا -كمفت للشيشان- عدم شرعية ما قامت به جماعة خطاب وباسييف، وصرح بالقول: "إذا كنا نعتبر أنفسنا كيانا مستقلا فقد حدث انتهاك وعدوان من قبلنا -نحن الشيشانيين- على روسيا الفيدرالية فوق أراضي داغستان، وأنا أعتبر ذلك خيانة من جانبنا لاتفاقية الصلح الموقعة بين يلتسين ومسخادوف في عام 1996، لقد دخل المقاتلون إلى المناطق الأكثر تدينا، وحيث لا يوجد أناس ناطقون باللغة الروسية، وعندما دخلوا إلى هناك سمع المهاجمون الآذان، فتعجب بعض المقاتلين العرب المشاركين بالهجوم، والذين خُدعوا بأمر الجهاد ضد الكفار، فطلبوا العودة، لكن تمت تصفيتهم في اللحظة الأخيرة".
وبينما كانت القوات الروسية على أعتاب الشيشان كان قاديروف يرسل الإشارات المرحبة بها فدخلت غوديرمس ثانية كبرى المدن الشيشانية دون طلقة رصاص بعد أن سلمها قاديروف للروس. وجاءت المكافأة سريعة حين أعلن بعد أشهر قليلة تعيين قاديروف رئيسا للإدارة المؤقتة في الشيشان، وحضّرت موسكو الأجواء لتعيينه رئيسا للجمهورية وهو ما تم بالفعل في 5 أكتوبر 2003.
من الأماني إلى الأوهام
وخلال الفترة من منتصف عام 2000 وحتى اليوم عوّل قاديروف على قدراته الشخصية في تحييد الشعب الشيشاني في المعركة التي انقلب فيها على رفاق الأمس؛ فدعا المقاومين إلى إلقاء السلاح والجلوس إلى التفاوض تحت ضمانته الشخصية، وراهن على أن الخيار الذي سار فيه سيقدّره ملايين من الشيشانيين والقوقازيين لأنه الأكثر عقلانية، وأن التاريخ سيسجل بحروف من نور دوره كمنقذ للشيشان من تسلط أمراء الحرب. وراودت قاديروف أحلام إعادة بناء الشيشان بالتصالح مع روسيا دون محاربتها؛ إذ لا مستقبل للشيشان -في نظره- في ظل موازين القوى الحالية.
كما راهن قاديروف على قدرته وأعوانه على تدبير الأمر وتغيير الخريطة الاقتصادية للشيشان باستقطاب مئات الآلاف من الشيشانيين الذين أعيتهم الحرب وقضت على أرزاقهم ورمت بهم في مخيمات اللاجئين خارج الوطن، وراهن على تقدير بوتين ودعمه لمشروعه القائم على خطة لإنهاء صراع القرون الثلاثة الماضية عبر تحقيق أكبر قدر ممكن من استقلالية الشيشان، مع ضمان ارتباطها بروسيا من الناحية الشكلية فقط.
غير أن سنوات أربعا مضت ولم يصبح قاديروف رجل دولة أو سياسيا مستقلا كما كان يتمنى، فلم يستمع رفاق الأمس إلى "من خان عهدهم وانقلب عليهم وتحالف مع الأعداء"، وتحكم الجيش الروسي بمقدرات الأمور في الجمهورية وعاث فيها فسادا. وقتلت القوات الروسية دون علم قاديروف آلافا من المتعاونين مع حركة المقاومة ومن المدنيين وسط تصريحات من قاديروف تشجب ما تقوم به القوات الروسية دون أن تغير من الأمر شيئا.
وفي حين كان قاديروف يخادع نفسه بقرب استقرار الأمر في الجمهورية نقلت الصحفية الروسية أنا بوليتكوفيسكايا جرائم الجنود الروس في الشيشان، وقدمت لأول مرة بيانات وأرقاما أذهلت العالم حول قيام الجنود الروس بالتمثيل بجثث المواطنين وإلقاء أشلائهم حول القرى لإرهاب السكان وترويعهم بعدم التعاون مع عناصر المقاومة وسط مباركة الكرملين لعمليات "التطهير العرقي" في الشيشان والتي تفاوتت بين القتل والاغتصاب والخطف والاعتقال.
وتقول بوليتكوفيسكايا -التي حصلت بتقاريرها الصحفية عن الشيشان على الجائزة العالمية للتغطية الصحفية من منظمة العفو الدولية-: "لم ألق في الشيشان أي قائد أو رئيس منطقة مكروها بهذا القدر من جانب الشيشان كما عبر لي المواطنون عن كرههم للمفتي السابق أحمد قاديروف. وبينما لم أفق من دهشتي للتقارب الشديد بينه وبين الموظفين العاملين معه في إدارة الشيشان كان المواطنون في خارج قلعته الإدارية ينادونه بالخائن".
وفي محاولته لتدعيم حكمه قام قاديروف بتوزيع الوظائف على أبناء عشيرته (بينو) وخاصة الحرس الشخصي له والقوات التابعة له المؤلفة من 3 آلاف رجل من أشرس العناصر القتالية بقيادة ابنه.
وانتشرت أدلة وشهادات -بعضها لضباط في الجيش الروسي- على قيام حرس قاديروف بعمليات خطف واغتصاب وسرقة للمواطنين بل واتجار هذا الحرس في السلاح والمخدرات بحيث لم يعد واضحا للمواطن الشيشاني من يقوم بسرقته واعتقاله: الجنود الروس أم حرس قاديروف؟ وسار حديث المواطنين الشيشان عن الفساد والمحسوبية الموضوع الأكثر شيوعا في شيشان اليوم.
هذا إلى جانب ضياع الميزانية التي خصصتها موسكو لإعادة إعمار الشيشان والبالغة نحو 0.7 مليار روبل سنويا (نحو 270 مليون دولار) بين فساد القوات الروسية في الإقليم وفساد جماعة قاديروف الحاكمة.
وبدا الحال وكأن عجلة التاريخ قد دارت في الاتجاه المعاكس حينما صار رئيس الشيشان صورة مستنسخة للوجوه الشيوعية القديمة المتعاونة مع السلطة في موسكو والمتلاعبة بالمصطلحات الدينية لطرح "إسلام الصوفية" بدلا من "إسلام الوهابية".
وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة تطور الأمر ليصبح صراع ثأر بين الرفاق القدامى، فتجرأ قاديروف ووصف رفاق الأمس بالإرهاب فلم يقفوا بدورهم مكتوفي الأيدي واعتبروا أن رأس قاديروف أثمن من رأس أكبر جنرال روسي في الشيشان؛ فخططوا لكثير من محاولات الاغتيال، سمع العالم بأربع منها فقط.
وبهذا الشكل لم يعد يختلف الليل كثيرا في شمال داغستان -حيث ينام قاديروف- عن الليل في الجبال في جنوب الشيشان حيث الرفاق السابقون يحملون سلاحهم بين أحضانهم وينامون بعينين نصف مفتوحتين. وقاديروف في داخل مكتبه الحصين يجلس -وكما يقول هو بنفسه في حديث لقناة الجزيرة بتاريخ 6-8-2000- "حتى داخل منزلي لا أتواجد بدون حراس، وحينما أجلس في مكتبي فإلى جانبي البندقية، وإلى جانبي الآخر مسدس، لماذا؟ لأن الأشخاص الذين زرعوا أفكار التطرف جعلوا مني عدوا لهم، وهؤلاء الأشخاص الذين لا يفقهون في الإسلام جعلوا مني خائنا للإسلام".
وحينما سافر إلى الأردن -الذي يعيش به نحو 20 ألف شيشاني- تحدث عن الرفاق ثانية، فقال: إن مبعوثي مسخادوف يستخدمون الأعمال الخيرية في الأردن لجمع الأموال التي تذهب إلى جيوب قادة المتمردين وتمول الحرب. يجب أن يعرف قادة المجتمع الأردني ورجال الدين حقيقة الجهة التي تختبئ وراء "الجهاد" المزعوم. يجب أن يدركوا أن روسيا لا تحارب الإسلام والمسلمين، بينما الإرهابيون هم الذين يقتلون الأئمة والموظفين الأبرياء (وكالة الأنباء الروسية إيتار تاس 23/1/2003)
لعل هذا المشهد هو أفضل ما أرادته روسيا لمستقبل الشيشان الذي اقتنعت روسيا أنها غير قادرة على أن تديره وفق صراع تتضح فيه صورة العدو أمام العدو، المسلم أمام غير المسلم، الضحية أمام الجلاد؛ فنجحت أخيرا في أن تجعل زعماء الشيشان يكفّر بعضهم بعضا، ويسعون إلى اغتيال بعضهم بعضا، وانفردت هي بالشعب الشيشاني تدمر بيوته وتعتقل أبناءه وتغتصب نساءه أولا؛ وتسحقه حضاريا ثانيا؛ وثالثا -وهو الأهم- تجعله يفقد أي ثقة في قادته الذين تباينوا لونا بين علماء دين احترفوا السياسة، ومجاهدين صوّرتهم الأوضاع الطاحنة أمراء حرب يتربحون من دمائهم.
المصدر
- مقال:أحمد قاديروف.. منقذ الشيشان أم خائنها؟موقع:الشبكة الدعوية