أدب السجون وأشجان المحن

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أدب السجون وأشجان المحن
د. الواعى.jpg

بقلم: د.توفيق الواعي

تمتاز السجون بنوع خاص جدًّا من الأدب الذي يفرض نفسه على السجين، أو يفرض السجين نفسه عليه، وتكون نتاجاته في الأغلب العام رائعةً، تحتوي معاناة السجين وآلامه، وكما يقولون: المعاناة تولد الإبداع؛ إذن

فما هو أدب السجون؟ هو ذلك الأدب الإنساني الذي وُلد في رحم المعاناة والقهر في غياهب السجون وخلف البوابات السوداء، قد يكون قاتمًا بقدر قتامة القهر والظلم، ولكن لا يخلو من الأمل النابع من الإيمان بالفكرة، وهو ما يتصف به عادةً من يُزَجُّ بهم خلف القضبان، فما كان مصيرهم لينتهي هناك لولا خوف النظام من الفكرة التي يحملونها.

رسالة الكاتب ولغته في هذا الأدب قد تنطلق من التجربة الشخصية الذاتية للمحنة، ولكن لا تنغلق عليها، بل تسعى لتأكيد الرسالة الإنسانية العامة، برفض الظلم وإعلاء قيم الحرية، وقد يصح لنا أن نقول إن هناك وحدةً موضوعيةً تربط الأعمال المنتمية لأدب السجون والمحن، تتمثل في هذه الرسالة مهما اختلف الجلاد ومهما اختلفت الضحية.

وسأذكر هنا بعض النماذج من هذا الأدب في حقب مختلفة للتعريف بهذا الأدب.

وهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه، الذي سطَّر مثالاً عزَّ مثيله في عزة المؤمن، وقصة حبسه وصلبه مشهورة لا مجال لذكرها هنا، ولكن سأكتفي بذكر بعض الأبيات التي فاضت بها نفسه الطاهرة قبل أن تفيض روحه وتعود إلى بارئها:

لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مُجمعِ

وقد قرَّبوا أبناءهم ونساءهم وقرِّبت من جذع طويل ممنع

وكلهم يبديٍ العداوة جاهدًا عليّ لأني في وصال ممنعِ

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبَّرني على ما أصابني فقد بضعوا لحمي وقد ضلَّ مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزعِ

وقد عرضوا الكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مدمعِ

وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذار حر نار تلفعِ

فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي

ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي

وهذا أبو فراس الحمداني، الذي كتب مروياته في السر، وهي من أجمل وأرقِّ ما قيل في الشعر، ومنها هذا الحوار مع حمامة حطَّت على شباكه في الأسر:

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَةٌ: أيَا جَارَتَا، هَلْ بات حالك حالي؟

مَعاذَ الهَوَى! ما ذُقتِ طارِقةَ النّوَى وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ

أتَحْمِلُ مَحْزُونَ الفُؤادِ عَلى غُصُنٍ نَائِي المَسَافَةِ عَالِ؟

أيَا جَارتَا، ما نْصَفَ الدّهْرُ بَينَنا! تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمُومَ، تَعَالِي!

تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحًا لَدَيّ ضَعِيفَةً تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَال

أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَةٌ وَيَسْكُتُ مَحزُونٌ، وَيَندبُ سالِ؟

لَقد كنتُ أوْلى مِنكِ بالدّمعِ مُقلَةً وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَا

يقول الأستاذ رائف نجم في كتابه (البوابة السوداء): البوابة السوداء تغلق بمصراعيها على شعوب بأكملها، فتحول بينهم وبين رؤية الحقائق، وتحجب عنهم حقهم في عيش كريم، وكرم العيش أن يكون للإنسان رأي في حياته؛ كيف يعيش، ومن يحكمه، وأن يُسمع له إن أراد الحديث، ويُمنح الفرصة الكاملة ليدلي برأيه فيما يشاء من أشياء؛ حرية في اختيار النظام الذي يرضيه على الأقل بالرأي والكلمة!.

البوابة السوداء قد أوصدت على الحاكم والمحكوم، على حد سواء.

البوابة السوداء قد أغلقت على شعب مسكين لا يكاد يجد قوت يومه، يريد أن يصل صوته إلى من يحكمه فلا تجيبه غير صرخات المعذبين وصفير السياط وأصوات الزنازين، وهي تغلق في عنف وصرامة.

وخلف هذه البوابة اللعينة نمت وترعرعت جرائم التعذيب التي لا مثيل لها بين سائر الجرائم، فلا توجد جريمة في هذا الكون تعادل تعذيب بريء والتمثيل به ولا حتى مسيء، وإن النظام الذي يهدر كرامة الإنسان لا يقوى أمام أية هجمة مهما كانت يسيرة، وإذا أردنا أن نصنع بلدًا قويًّا وشعبًا عظيمًا فلنعطِ كل واحد حقه في حياة كريمة، ولنجعله يأمن في طرقة الليل المفزعة، ومن زيارة الفجر التي تبعث الخوف والذعر في قلوب الجميع؛ الرجال والنساء والأطفال، ولن يتحقق أمن في دولة مهما ظنت نفسها قويةً وقادرةً، إلا بقدر الحرية الذي يأخذه أفراد شعبها.

وهذا عبد الرحمن منيف يرحمه الله، يقول على لسان بطل روايته "الآن هنا.. شرق المتوسط مرة أخرى": "الجلاد لم يولد من الجدار، ولم يهبط من الفضاء، نحن الذين خلقناه كما خلق الإنسان القديم آلهته، ثم بدأنا نخاف منه إلى أن وصلنا إلى الامتثال والطاعة والرضا، وأخيرًا إلى التسليم".

كتب فضيلة الشيخ العلاَّمة يوسف القرضاوي ملحمته النونية التي ناهز عدد أبياتها الثلاثمائة في المعتقل الحربي، حفظتها الصدور وردَّدتها الألسن في وقت حُرم فيه السجناء من القلم والورق، وهي ملحمة بحق في موضوعها وفي صياغتها، وتستحق أن تُكتب بماء الذهب، سأكتفي الآن بنقل أحد أجمل المقاطع فيها:

ملحمة الابتلاء

تالله ما الطغيان يهزم دعوةً يومًا وفي التاريخ برُّ يميني

ضع في يديَّ القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكّين

لن تستطيع حصار فكري ساعةً أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربّي.. وربّي ناصري ومعيني

سأعيش معتصمًا بحبل عقيدتي وأموت مبتسمًا ليحيا ديني

لا شك أن الأسماء في هذا الباب كثيرة، ففلسطين وحدها وأدباؤها تستحق منا وقفاتٍ ووقفاتٍ طويلةً، وسيكون ذلك قريبًا إن شاء الله المولى عزَّ وجل.

مرةً أخرى أتمنَّى مشاركاتكم عن أية تجربة عربية أو عالمية في أدب السجون والمحن، فالجلاد هو الجلاد مهما اختلف اسمه ولونه ومبرراته، والضحية واحدة وهي إنسانية الإنسان وكرامته وحريته، لكن كما يقال: كل منحة تولد من مخاض المحنة؛ فما لنا إلا أن نشكر تفنُّن الطغاة في إشعال قتيل هذا اللون من الأدب.

فناد المانعين الخبزَ عنها ومن سمحوا به بعد الأوانِ

وهنئْهم بفرعون سمين كثير الجيش معمور المغاني

له لا للبرايا النيل يجري له البستان والثمر الدواني

وإن راهنت أن الثأر ينسي فإنك سوف تخسر في الرهان

نحاصر من أخ أو من عدو سنَغلِب، وحدنا، وسيندمان

هذه حقُب في التاريخ تظل تلعن الظالمين، وتُظهر تجاوزاتهم أحياءً وأمواتًا، وإلى أن يبعث الله من في القبور.. ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء).

المصدر

قالب:روابط توفيق الواعى