أزمة نهر البارد
بقلم : فادي شامية
كل شيء في لبنان بات خاضعاً لقانون الانقسام، وما يبدو إجماعاً خادعاً للوهلة الأولى سرعان ما يتضح التباين حوله بعد إخضاعه لحسابات الربح والخسارة، حتى باتت أحداث كالتي جرت في نهر البارد، على بشاعتها، خاضعة بدورها إلى نفس القانون الذي يحتّم المراوحة الزمنية، والمحاورة السياسية، وعلى هذا الأساس تحرّك "وسطاء الخير" لحل "الإشكال" بين تنظيم "فتح– الإسلام" والجيش اللبناني.
"وسطاء الخير"
الفصائل الفلسطينية طرحت مبادرة من أربع نقاط: وقف إطلاق النار- إنهاء المظاهر المسلحة في المخيم- إنشاء قوة أمنية فلسطينية مشتركة- "معالجة" ظاهرة فتح الإسلام وفق آليات محددة. أرسل هؤلاء إلى قيادة "فتح- الإسلام" من يستطلع الأجواء، لكن هذه "القيادة" كانت سلبية في تعاطيها مع هذا الطرح، فهي لم تقبل من بنوده سوى وقف إطلاق النار وإنهاء المظاهر المسلحة، وفي تطور لاحق وافق شاكر العبسي على "دراسة" فكرة وجود قوة أمنية مشتركة، مع إبدائه اشتراطات حول طبيعة تكوينها، مقابل أن "يعود الوضع إلى ما كان عليه"، من فك للحصار عن المخيم وعودة أهله إليه. وعُلم لاحقاً أنه لا يقبل بأن تتمثل "حركة فتح" فيها "لأنها معادية له"، فيما "يتساهل" مع حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي".
في الأثناء تحرّك وفد "رابطة علماء فلسطين"، الذي بدا أنه مرّحب به أكثر من سواه لدى "فتح- الإسلام". الزيارة الأولى كانت استطلاعية، لكنها كانت غنية بالاستنتاجات: أولاً وقبل كل شيء فإن مجرد الحديث عن تسليم أي من عناصر تنظيم "فتح– الإسلام" يعتبر سبباً لإنهاء الحوار، ثانياً: تسليم السلاح مرفوض، وثالثاً: الخروج من المخيم مرفوض، وتحت هذا السقوف يجري التفاوض.
بسرعة أدرك المشايخ الذين يتولون المفاوضات صعوبة الموقف، لعلمهم أن الجيش اللبناني لن يقبل بأقل من التسليم. كانوا يعتقدون أن التفاوض سيتركز على العدد والآلية، فإذا بهم يستمعون إلى "رؤية" متكاملة للحل ترتكز على: عقيدة صلبة، قوة ميدانية، انتشار وسط المدنيين داخل المخيم، خلايا نائمة وأنصار جاهزين خارجه، استفادة ذكية من الانقسام اللبناني حول المعالجة، استغلال لحالة العجز الفلسطيني عن الحسم.
وتأسيساً على ذلك سمع المفاوضون كلاماً حول: "توريط" الجيش، وواقع "السنة"، والتدخل الأميركي. أما اللهجة فتراوحت بين الترحيب بالحوار والقدرة على المواجهة، وتماهٍ عجيب مع ما يزعمه بعض المعارضين في لبنان.
الحل وفق "فتح- الإسلام" هو: "عودة الحال إلى ما كانت عليه، فهم قتلوا من إخواننا ونحن قتلنا منهم (مضطرين)، رغم أننا لسنا بوارد التقاتل مع الجيش اللبناني، وثمة إشكالات وقعت سابقاً وحُلت بمساعدة من جبهة العمل الإسلامي وداعي الإسلام الشهال، وبتعاون من الجيش والقوى الأمنية... لقد اتصلنا بالوسطاء لفك الحصار عن إخواننا في طرابلس لكن الجيش لم يستجب".
مأزق يدركونه جيداً
بعد مجزرة فجر الأحد، وتحت تأثير الصدمة والتعاطف، ارتفع مستوى المواقف السياسية لدى أركان قوى الأكثرية، وبدت المعارضة مربكة نسبياً، أما المواقف الفلسطينية فتراوحت بين التبرؤ والإدانة، والتحمس للحسم، لكن منسوب هذه المواقف، وكما هو واضح، تراجعت بشدة بعد قصف المخيم من قبل الجيش، وبعد خطاب السيد حسن نصر الله الأخير، الأمر الذي فسّرته قيادة "فتح -الإسلام" غياباً للغطاء السياسي الذي يمّكن الجيش من الحسم، وتأسيساً على ذلك، تعتقد هذه القيادة أن الجيش- في ظل واقع الانقسام السياسي والخطوط الحمر- لا يمكنه تحمّل تكلفة المواجهة بشرياً وسياسياً، وأن واقع "حركة فتح" لا يسمح لها بالتحرك الميداني ولو بشكل رمزي إلى جانب الجيش، والسبب يعود إلى حالة الانقسام الفلسطيني، الذي قد يتحول إلى اقتتال داخل المخيمات. ويعتقد العبسي وجماعته أن تعرض آلاف المدنيين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد للخطر في أرواحهم وممتلكاتهم، سيجعل المخيمات الفلسطينية في حالة غليان يتحول معها الصراع إلى فلسطيني- لبناني، وسط التلميح والعزف على هذا الوتر من قبل فصائل فلسطينية وقوى لبنانية عديدة.
بطبيعة الحال فإن تنظيم "فتح-الإسلام" يبدو واثقاً من قدرته على إفشال أية عملية "كومندوس" محتملة، ومن وجود متعاطفين معه سيتحركون في كافة المناطق والمخيمات استناداً إلى "واجب النُصرة"، ومن بقاء الفلسطينيين في مخيمهم بدوافع ذاتية وبطلب سياسي من جهات فلسطينية لها حساباتها، إضافة إلى اعتقاده بأن "جهات أخرى" ستدخل على الخط، ما يعني انزلاق لبنان نحو حرب مدمرة.
وأخيراً يعتقد هؤلاء أن ليس بمقدور الجيش الاستمرار طويلاً على هذا الوضع، لأنه سيُستنزف، ولأن أزمة النازحين ستنفجر بوجهه.
هذه المعطيات جميعها تعطي المحاورين من "التنظيم" ثقة كبيرة، تخوّلهم الحديث عن "مأزق الطرق الآخر"، والاستعداد من قبلهم لمساعدته على اعتماد حل مشرّف!.
أفكار سينمائية وأحلام خيالية
إزاء المأزق الصعب ينشط "البعض" على تسويق أفكار على شاكلة ما نراه في الأفلام السينمائية، وحتى لا تكون "المشاهد" خيالية، يضربون أمثلة واقعية، فنظرية "اختفاء قيادة التنظيم"، لها شبيه في ظاهرة أبي محجن في عين الحلوة، ونظرية "الخروج الآمن" لها مثال شهير أثناء اجتياح عام 1982 عندما خرج مقاتلو منظمة التحرير من بيروت. ومن هو أكثر واقعية يطرح نموذج التعامل مع ما يسمى "جند الشام" في تعمير عين الحلوة كمثال، حيث جرت عملية تجزئة للملفات بين من هو متورط، ومن هو متعاطف، ومن هو خائف من الملاحقة، ما أدى إلى "تفكيك" فتيل المواجهة.
وإن كان أي من هذه الحلول صعبٌ تصوّره، إلا أن المفارقة أن كل ذلك مرفوض من قبل "فتح- الإسلام" التي تحلم بإنشاء إمارة إسلامية في الشمال، أو على الأقل أن تتحول إلى جزء من النسيج الفلسطيني، أو القوى السياسية في لبنان، وهي ترى في نفسها جبهة دفاع عن الفلسطينيين في المخيم الثاني من حيث السكان في لبنان، بدلالة أن بعض المطلوبين من التنظيمات الأخرى انضم إليها أثناء الأزمة الراهنة، وأنها تسيّر "دوريات" لتحمي ممتلكات النازحين. كما أنها تعتبر نفسها أحد "أوجه الممانعة" ضد "المشروع الأميركي في لبنان"، بدلالة إرسال أميركا للسلاح على عجل من أجل مقاتلتها. وهي إذ تنفي تورطها "رسمياً" في أي من التفجيرات والسرقات في لبنان، إلا أنها لا تستبعد أن تكون إحدى المجموعات، ودون قرار القيادة المركزية، قد قامت بذلك، غير أن "واجب النصرة" يحتم الدفاع عن هؤلاء!.
من الواضح أن الانقسام السياسي في لبنان قد وفّر أرضية لولادة هذه الظاهرة، وربما هو الآن يوّفر لها سبل الحياة، رغم خطرها الأكيد على الجميع... عجيب هذا الـ "لبنان"!.
المصدر
- مقال:أزمة نهر الباردموقع:الشبكة الدعوية