أم العريس

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أم العريس

24 فبراير 2009

بقلم: نيفين مسعد

لم يغمض لها جفن في تلك الليلة ، ليلة عُرس ابنها ، طاردت عقارب الساعة على الكومودينو الملاصق لفراشها حتى أتعبتها ،شغلت نفسها بإحصاء مهام الغد السعيد : بدلة العريس ...عطره ...فرشاته...منديله ...حافظة نقوده..

واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم حتى لا ينسيها تفاصيل الأمور و ربما جوهرها ،ارتشفت ماءً من الزجاجة التي تصطحبها معها كل مساء وما كانت بها حاجة لتشرب .

في تلك الليلة لم يوقظها الصوت الجهوري لأحد بوابي العمارات المجاورة يؤذن لصلاة الفجر ،بل بدا وكأنها هي التي تستحثه ليؤذن ، ذابت وهى تصلى و تدعو لفلذة كبدها بالهناء ،و غالبت دمعاً غزيراً يلخص قلقها على وحيدها و قالت لنفسها : لن أكون كغيري من النساء أعبر عن فرحتي بالدموع ، جذبت طرف الغطاء وتناومت .

ازدحم الفضاء الفاصل بين النوم و اليقظة بعشرات الذكريات بحلوها و مرها ، كان فيها معها و بجوارها وفى نِن عينها .

رأت نفسها ترخى عليه و هو وليد غطاءً شفافاً يستر جسده الممتلئ عن أعين الحاسدين ،تحملق فيه لا تكاد تصدق أنه منها و هي منه ،يغمرها حنان الدنيا و هي تضمه إلى صدرها ترضعه حتى يزهد أو يشبع ، تفطمه بأول كوب عصير مخفف ثلثاه ماء وثلثه فقط تفاح دبرت ثمنه بصعوبة شديدة حتى إذا تذوقه و أحبه صار البحث عن تفاح في أسواق الثمانينات معركة اليوم وكل يوم

تسجل له على شريط كاسيت ضحكته الرائعة المجلجلة ستظل تلازمه و قد صار شاباً يافعاً تسر رؤاه الناظرين ، تزين صالة بيتها القديم بعشرات البالونات ابتهاجاً بالثاني عشر من يوليو تاريخ مولده ، تعده للالتحاق بالمدرسة التي تمنتها له و تظل تكرر على أسماعه عشرات النصائح في اختبار القبول فينسى كل نصائحها و تظن أنه مرفوض فيقبل

سنوات طويلة تحمل عنه حقيبته .. تعد إفطاره تغلف كتبه وكشاكيله بالورق السوليفان الملون ، قبل أن يشتد عوده و يخجله اهتمامها الدافق بكل شئونه ، كلها . ياااه ..... كم عاشت ولم تشعر أن العمر يمضى ، يأتي الصيف و يغمر الأسواق المشمش البلدي الصغير بمذاقه الرائع ، تشتاق إليه و تحرم دخوله بيتها حتى يفرغ من امتحانات آخر العام .... هكذا علمتها أمها ، فثمرة المشمش عسرة الهضم .

أسقطت من حسابها سنوات خمس هي الفاصلة بين الثانية عشرة والسابعة عشرة من عمره شعرت فيها بغربة تامة عنه ، مارس عليها رجولته بغلظة .

لم يكن يعلم أن غاية حلم الأم أن ترى ابنها رجلاً ، لكنه الرجل الذي يحتوى ويحمل الهم و يفهم ،أما رجولة الأحداث فصياح و تمرد و حماقة واستفزاز . كانت قد سمعت من صاحباتها اللاتي سبقنها إلى هذه التجربة وقطعن مع أولادهن البرزخ ما بين الصبا والشباب ، سمعت كلاماً عجباً ، واستخفت ، لم تقتنع ، فحنانها أكثر وصبرها أطول وارتباطها أوثق وأعمق ،فهي إذن غيرهن وهن غيرها .

حتى إذا جاء يوم و تشابهت حكاياتها مع ذكرياتهن ، أحست أنها فقدته إلى الأبد.

هي لا تذكر على وجه الدقة تفاصيل تلك الالتواءة في علاقتهما صعوداً من جديد، هل ارتبطت بفقدانها الأب وإحساس وحيدها بهول ما فقدت و فقد ، أم هل ارتبطت بلحظة دفاعها المستميت عن حقه في الاختيار بعد الثانوية العامة وإن لم يعجبها اختياره بالضرورة ،أم لعلها ارتبطت باندماجه في محيط الجامعة بصخبه وبناته وتطرفه وصداقاته الجديدة .

لا تذكر ولا تنشغل كثيراً بالذكرى ، كل ما تعلمه أنها استعادت وحيدها في نهاية البرزخ ،استعادته رجلاً بحق وحقيق ،يحنو عليها إلى لا مدى ،يدللها ، يناقشها ، تذهب إلى السينما السواريه في حمايته ،يحجز لها تذكرة في الأوبرا أو الساقية من حر ماله ويحضر معها حفل توقيع أحدث روايات بهاء طاهر أو صنع الله إبراهيم ، تسافر و تعود فلا يودعها إلا هو و لا يحمل حقيبتها سواه ،ويحرجها بحفل مفاجئ في عملها تطفئ فيه شمعتها الواحدة والخمسين ، يحمل لها العصير المثلج من بعيد وإن طال رذاذه كساء سيارته ، .....تفضفض له .... تفضفض له .

عندما دخل عليها مساء أحد أيام شهر نوفمبر وشتاء القاهرة يزحف بطيئاً متثاقلاً ليزف إليها نبأ ارتباطه العاطفي بفتاته ، لم تصدق أنه كبر و مع ذلك لم يفاجئها سره الصغير المحبب ، فمثل كل الأمهات أدركت قبل فترة أن شيئاً ما داخل وحيدها يتغير ،الصوت الخفيض ، ساعات الغياب في لا مكان ، باب الغرفة المغلق ، الاهتمام الزائد بمظهره ، والدببة الكثيرة المتناثرة من حوله .

لم تكن تحتاج إلى ذكاء كبير لتعرف أن في أفقه فتاة ،ثم أن التاريخ يعيد نفسه أو في القليل يعيد جزءاً من نفسه ،فالتعبير عن الحب صار مختلفاً والزمن أصبح غير الزمن .

قالت لنفسها .... خسرت أمهات كثيرات أبناءهن في اللحظة التي افتعلن فيها معارك وهمية مع زوجات الأبناء ، وما كرهت في حياتها أكثر من هذا النوع من المعارك لأنه يضع الأم من ابنها موقع الأنثى وما هي كذلك .أخذته بين ذراعيها كما فعلت دائماً ، مسحت على شعره واغترفت طويلاً من عينيه البنيتين ، وضمت إلى أسرتها الصغيرة ابنة ثانية رائعة .

منذ متى انطلق صفير الموبايل بلا توقف يلفتها إلى أن الساعة جاوزت العاشرة وأن وقت التأهب لعرس الحبيب قد أزف ؟ لا تدرى ، الأرجح أنها أسكتت صافرته مرة أو مرات وأبحرت مع عشرات الذكريات التي أدهشها أنها تذكر أدق تفاصيلها وما العهد بها كذلك .

تسللت إلى غرفته توقظه بقبلة فوجدته يقظاً ،على خط هاتفه كانت حبيبته يتهامسان وربما يتممان على استعدادات حفل المساء ،راوغتها دمعة على غير إرادة منها وسالت ... أغلقت بابه وتماسكت ، كررت على نفسها أن لا مكان للدموع في تلك المناسبة . أرسلت في طلب الكواء وبدأ يومها .

المصدر