إبراهيم منير يكتب: إلى الإخوان الصادقين في بيعتهم (2)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إبراهيم منير يكتب: إلى الإخوان الصادقين في بيعتهم (2)


(الثلاثاء 30 يونيو 2015)

مقدمة

لم يكن - وباليقين - في مخيلة الفتى حسن بن عبد الرحمن البنا الذي كان قبل أكثر من تسعين سنة يقسم وقته - في غير أوقات الدراسة - بين مساعدة والده في تصليح الساعات (ذلك الاختراع العجيب في هذا الزمان) وبين مراجعة دروسه, في العمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما وعاه علمه وعقله وتلقاه عن والده وبعض الشيوخ في ذلك المجتمع البسيط البعيد عن القاهرة عاصمة بلاده ..

لم يكن في مخيلته أن يأتي اليوم الذي يكون فيه حتى وهو تحت التراب بعد هذه المدة شاغلا الناس وخصوصا على شبكات التواصل العالمية التي لا يُقاس بها اختراع الساعة وحرفية العمل فيها، وبعد أن أصبحت مدينته التي ولد فيها وبلاده كلها نقطة في محيط هذه الشبكات التي تحمل على أثيرها أخبار الكون والناس بحروبهم ومجاعاتهم وتدافعهم .. ومع ذلك يبقى حسن البنا وما قام به - ولمن اتبعه قناعة بفكره - وبعد كل ما مرّ به وبهم, مساحة مشتعلة كلما خبت وانكمشت جاء من يشعل الضوء حولها ليبدو الأمر وكأن حسن البنا ما زال حيا يصارعه الكثيرون من شرق وغرب ليقهروه ..

يفترون عليه الكذب ويشوهون فكره ويحرقون ما كتب ويعيدون محاكمته وقتله .. تكل قواهم وتندثر أجيالهم .. يذهبون ويبقى حسن البنا متصديا لمن بعدهم بفكره الذي يُعاد اكتشافه كل جيل وبأجيال من الأتباع يرددون قناعة وتصميما: الله غايتنا.

تاريخ حسن البنا أو تاريخ جماعة الإخوان المسلمين يقول إن مؤسسها آمن بفكرة كأي إصلاحي يسعى بشرف وتجرد لخدمة المجتمع فسعى بها بين الناس وبين من كان يرى أنهم أولى بحملها ومن كانوا في وقته أكثر منه علما باعتبارهم متخصصين في علوم الإسلام الذي حصر فكرته في إطارها، وباعتبارهم في زمانهم أكبر منه سنا وأكثر منه وجاهة في مجتمعهم، فلم يجد غير الصد وغير الانشغال عن ما كان يرجوه، فبدأ عمله مع مجموعة من أبسط الناس ملتحما مع قواعد مجتمعه في إطار ما كانت القوانين تجيزه وتسمح له كحق من حقوقه كفرد في المجتمع وبما يراه ويراه الجميع معه أنه من صحيح الدين، لم يعلن الانفصال عن مجتمعه وإن كان غيره قد فعل.

ولم يعامل الآخرين بمثل ما عُومل به منهم وعُوملت به جماعته، لم يتطاول على الناس صغيرهم وكبيرهم وخاطب رأس الدولة بما كان يخاطبه به الناس، وخاطب المسؤولين بألقابهم التي تعارف عليها المجتمع وقتها، وانكشفت أمامه ومع عمله أمور تخص الناس من سياسة الدولة وهمومهم في المعيشة والاستقلال والدفاع عن الهوية وعن الوطن ما كان يدري عنها شيئا وهو في بداية عمره فاكتملت لديه جنبات العمل وتمامه فقاد على أساسها دعوته.

كتب رسائل يشرح فيها فكر جماعته ومنهاجها واشتراطه من فكر وسلوكيات في من ينتدب نفسه للعمل بهذا المنهاج، حاول خوض تبعات العمل السياسي بنفس الأسلوب الذي كان يمارسه غيره من المواطنين أو مسؤولي الأحزاب والجمعيات، رأى في البرلمان وسيلة ديمقراطية لا تتعارض مع شرع الله باعتباره ميدانا قانونيا للعمل فتقدم إليه فحاربوه واجتمعت عليه الدولة لإسقاطه، لم يرفع عصا النزال في وجه أحد فتحمل الأذى دون أن يمد يده بأذى للآخرين وقد كانت يده قوية ولكنها مضبوطة بشرع الله وباحترامه لقوانين بلده، وواصل عمله وبذل النصح للكافة وكتب في أربعينيات القرن الماضي رسالة (نحو النور) وجّهها إلى ملك مصر وقتها فاروق.

وإلى رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس (باشا) وإلى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامي وأرسلها إلى الكثيرين من زعماء هذا العالم ومفكريه يبدي لهم رأيه في إصلاح أحوال الأمة ببرنامج رأى فيه فائدة قال في مقدمة رسالته: (.. فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها ووكل إليكم شأنها في عهدها الجديد توجيها صالحا يقيمها على أفضل المسالك ويرسل لها خير المناهج ويقيها الزلازل والاضطراب ويجنبها التجارب المؤلمة الطويلة ..

ولسنا نبغي من وراء ذلك شيئا إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة .. وثواب الله خير وأبقى).

هكذا سار حال الجماعة مع الكثير من الناس والأنظمة، تُقْبل فيدبرون .. تمد يد الخير والتعاون فيردون بالإساءة وبإراقة الدماء والقوانين الاستثنائية والتحالفات الداخلية والخارجية .. ومع ذلك فلم تذهب العقود الماضية سدى بين مطاردات بوليسية فاشية أو سجون ودماء تعمل على تعويق العمل والمسيرة، فقد قدمت الجماعة لدينها ومجتمعاتها الكثير وحملت عبء التجديد الفعلي حتى لا تظل الأمة المسلمة أسيرة القيود التي كبلوها بها.

والآن وهي تستعد لبدء أمانتها في المائة الثانية – بعون الله وفضله – فإنها لن تبدأ من فراغ فقد أنجزت الكثير في مجالات العمل المجتمعي والتجديد في العمل السياسي في مجالات الحكم الدستوري والنضال من خلاله وأقرت النظام البرلماني والعمل الحزبي المتجرد في عمله وأجازت الائتلاف بين الأحزاب وإقرار النظام الحزبي التعددي كضمانة ضد الاستبداد الفردي، وأعطت للأقليات حقها (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وأقرت حق المرأة في العمل السياسي، واعتبرت أن حقوق الإنسان فريضة دينية، وتسعى إلى الوحدة العالمية باعتبارها مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قوله تبارك وتعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

وفي مجال تصحيح العقيدة فقد واجهت الجماعة وهي في سجون الحاكم العسكري عبد الناصر فتنة الغلو في الدين وفتنة التكفير .. وتصدى لها المرشد الثاني العالم المجتهد القاضي حسن الهضيبي - يرحمه الله – فعصم به الله صف الجماعة وكان نورا للأمة، أكد مصداقيته أنه لم يداهن به حاكما ولم يساوم به على حريته أو حرية جماعته.

وتبقى فريضة الجهاد التي لم تخرج الجماعة عن ضوابطها الشرعية، والتزمت طوال تاريخها بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في مواجهة كل جائر وظالم (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

هذه هي جماعة الإخوان المسلمين التي تسير وسط ركب من الشهداء من الرجال والنساء (لا يضرهم من خالفهم) حتى مع انتفاضة الدنيا دعما لنظم فاشية أو عسكرية .. لديها – بفضل الله – بشارة في سورة آل عمران تتحدث عن أحوال أمم سابقة مع بشريات أخرى بأن ركب الشهادة لم يضع ولم يكن هباءً منثورا (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).

ونعيش معالشهيد سيد قطبالذي التحق بركب الدعوة وهو في بعثة دراسية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1949 م عندما قامت الدولة المصرية بقتل الإمام حسن البنا ورأى بعينه ترحيب الناس هناك بعملية القتل غير الشرعية وغير القانونية فأيقن أن الرجل وجماعته على حق، وأن مكانه يجب أن يكون في صفوفها، وجاهد بلسانه وبالكلمة لينال بإذن الله الشهادة ولتبقى كلماته تدوي في آذان البشر تحرق المعارضين بنورانياتها وتفتح آفاق الرحمة والأنس بمعية الله سبحانه في قلوب العاملين لدينه.

ونقف معه عندما يتكلم عن ملامح محنة نبي الله يوسف (عليه السلام) في سجنه فيقول:

وأول ملامح هذه المرحلة هذا الاعتزاز بالله، والاطمئنان إليه، والثقة به، والتجرد له، والتعري من كل قيم الأرض، والتحرر من كل أوهامها، واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها، وهوان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله سبحانه وتعالى.

تبدو هذه الظاهرة الواضحة في موقف يوسف، ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك في أن يراه .. فلا يخف يوسف - عليه السلام - لطلب الملك، ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك الذي يرغب في لقائه، ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق.

ولا تتجلى هذه الظاهرة - وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس يوسف الصديق - إلا حين نعود القهقرى بضع سنين، لنجد يوسف يوصي ساقي الملك - وهو يظن أنه ناج - أن يذكره عند ربه .. إن الإيمان هو الإيمان، ولكن هذه هي الطمأنينة .. الطمأنينة التي تنسكب في القلب وهو يلامس قدر الله في جريانه .. وهو يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه.

إنها هي هي الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة، بالابتلاء .. والرؤية والمشاهدة .. والمعرفة والتذوق .. ثم الثقة والسكينة .. وهي التي جعلته وهو النبي ينطق عندما واجه إخوته الذين ظلموه وجاءوا إليه يطلبون العون منه ( .. أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا .. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).

الإخوة والأخوات

في غزوة حنين عندما انكشف الصف المسلم بعد أن أعجبتهم كثرتهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر عمه العباس (رضي الله عنه) بأن ينادي من كان له عهد معه (عليه الصلاة والسلام) مذكرا إياهم به، فنادى العباس .. يا أصحاب الشجرة .. فأقبلوا استمساكا بعهدهم مع الله وأقبل معهم باقي الناس .. والتفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان قد تقدمهم وهو ينادي .. أنا الرسول لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب ..

واليوم تناديكم دعوتكم ودماء إخوانكم وأخواتكم في كل ركن من أركان الدنيا الذين سبقوكم في عقود من الزمان .. وتناديكم الآن دماء ساخنة .. هالة .. أسماء .. وحبيبة .. ورفيدة، وغيرهن الكثيرات اللائي لم يرفعن سلاحا غير الجهاد بكلمة حق في وجه الظالمين الذين أغلقوا سمعهم وأبصارهم وقست قلوبهم عن الاستجابة لأمر خالقهم سبحانه الذي إليه معادهم في حديث قدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما .. فلا تظالموا ..).

وتناديكم عذابات إخوانكم وأخواتكم في سجون هؤلاء الظالمين, وهم صامدون بفضل الله، وينظر إليكم المولى عز وجل من فوق سبع سماوات بنداء يأتي في سياق الحديث القدسي (.. إنما هي أعمالكم .. أحصيها لكم .. ثم أوفيكم إياها .. فمن وجد خيرا فليحمد الله .. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إنها مسيرة جماعة الإخوان المسلمين وهي مقبلة على قرن جديد – بإذن الله – فأين كل من كانت في عنقه بيعة من واجباته .. وأين هو من الطمأنينة التي تسكبها التربية الإيمانية في قلوب الصفوف المختارة.

إنها الآن أيام المغفرة في رمضان، اللهم فاغفر لنا خطايانا وإسرافنا في أمرنا واربط على قلوبنا وقلوب إخواننا وأخواتنا وارزقنا كما رزقت نبيك يوسف عليه السلام بحكمك الذي أجريته على لسانه (.. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).

المصدر