الإسلام والطاقات المعطلة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسلام والطاقات المعطلة


بقلم : الشيخ محمد الغزالي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

فى هذا الكتاب مقارنة بين: طبيعة دين، وواقع أمة...

اعتمدت فى شرحها على المعروف من مبادئ الإسلام، والمألوف من حياة المنتمين إليه.

وسوف يلمس القارئ بعد الشقة بين ما يجب أن يكون...

وبين ما كان بالفعل.

وسيرى أسباب هذا التفاوت ـ كما تكشف لى ـ من خلال مدارسة التاريخ واستنباء أطواره.

وإذا كنت لم أجنح إلى سرد وقائع وإحصاء أحداث، فإن وضوح الواقع أغنانى عن ذلك الجهد.

وهو واقع ليس بينا فى ذهنى وحدى، بل هو بين فى أذهان جمهرة المشتغلين بالشئون الإسلامية.

إننا نحن المسلمين أمة كبيرة عريقة.

مكثنا طوال عشرة قرون تقريبا، ومكانتنا فى العالم موطدة، ورسالتنا فيه مشهورة.

وليست هذه القرون سواء فى ازدهارها وسنائها..

لقد كانت أخرياتها أشبه بذبالة مصباح أوشك وقوده على النفاد، فهى ترتعش مع هبات النسيم، ولا تبقى مع زئير العواصف.

ومع تربص الأعداء وذهول المدافعين، جاءت القرون الأخيرة، فطوت طيا شنيعا هذه الأمة الكبيرة، وفضت مجامعها، ونكست راياتها، وعاثت فى تراثها، وفعلت به الأفاعيل...!

لكن الأمة الإسلامية مزودة بدين عصى على الفناء، له قدرة على تغيير الروح الهامد، وتجديد الأسمال البالية...

وهى ما زالت تستشفى من سقامها، وتنتقل فى مراحل العافية من طور إلى طور.

وتحاول أن تستعيد قواها كلها، وتستأنف أداء رسالتها الأولى .

ولعلها ـ بتأييد الله ـ بالغة ما تحب.

فإن أمتنا الكبيرة تنتشر فوق بساط من الأرض الطيبة التقت فوقه مقاليد الدنيا ومفاتيح العمران.

وفى قبضة يدها رخاء العالم وشظفه.

ونستطيع الجزم بأنها ـ لو أحسنت استغلال ما تملك ـ فإن سائر الأمم الأخرى تحتاج إليها، ولا تحتاج هى إلى أحد، فإن شرايين الحياة الاقتصادية للقارات الخمس تبدأ منا وتنتهى إلينا.

ثم إن غنانا الأدبى أربى من غنانا المادى، فنحن نحمل رسالة الإسلام! رسالة الحق والخير التى أشرق بها الوجود، واستنار بها الفكر، واستقام بها الضمير، واستفادت منها قديما أجناس من أحمر وأسود، وتبوأت بها هذه الأمة مكانة التوجيه والقيادة أمدا غير قصير...

لكنها فرطت فى الواجب الذى اصطفاها له القدر فهوت! ثم عرفت بعد لأى أسباب زيغهـا فصحت! إلا أن العالم كان قد تغير من حولها تغيرا شاملا، وهو تغير يستجدى الدراسة والتأمل.

ثم إن ما أصابها من هبوط بعد ارتفاع، وتوقف بعد حراك، لم يصبها خبط عشواء، بل له علله الدفينة، وذاك أيضا ما يستدعى الدراسة والتأمل.

ونحن فى هذا الكتاب الوجيز نحاكم جوانب شتى من الواقع المؤسف إلى الأهداف التى احتواها الإسلام، والتى أضاء بها المثل العليا أمام أتباعه، متسائلين: ما سر هذه الكبوة وما سبب هذا التخلف؟؟ وسنرى أننا نحن ـ نحن وحدنا ـ من وراء هذا الانهزام والتقهقر، مثلما تساءل المنهزمون فى معركة أحد فقيل لهم: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) .

إن أمما شتى بدأت تغزو الفضاء بعدما انتصرت على الأرض.

على حين أن جماهير المسلمين ـ بعد رقاد طويل ـ شرعت تفتح عينيها لترى أين تضع قدمها فى أوائل الطريق الطويل..!!

كيف جمدت هذه الأمة؟ وكيف تنطلق؟ وعلى من تقع التبعة؟ وما قيمة مواريثها الروحية والفكرية؟ * وهل هى عائق ينبغي أن يزاح؟ أم مصدر حياة يجب أن ينمى؟ ...

فى هذا الكتاب الموجز إجابات على هذه الأسئلة المتتابعة .

محمد الغزالي

تفجير الطاقة الإنسانية

قلت لنفسى: ما سر هذا الفتور الشائع فى الأفراد والجماعات!؟ ولماذا يستقبل الناس الحياة وبهم ازورار عن مواجهتها، وصدود عن مذاقها، كأن شهيتهم أوصدت دونها...!؟

ولماذا نرى الأجناس الأخرى تنطلق مع مطالع الشروق، وكأنها على أبواب رحلة ممتعة!؟ فهى تدأب ولا تشعر بكلال، وتعمل، وتجد من الثمر الدانى ما يغريها بالمزيد من الإنتاج...!!

إن هذه الجفوة بيننا وبين الحياة مخوفة العقبى، بل هى قد وقفت بنا فى أوائل الطريق، على حين مضى الآخرون خفافا يكدحون ويجدون، حتى وصلوا إلى حظوظ من الرقى والإبداع تستثير الدهش..!!

ما أروعها حياة أن تلتقى مع السماء والأرض التقاء المشوق مع موعد حب، أو التقاء الشجاع مع ساحة حرب..!!

وما أسمجها حياة أن تتدحرج على أديم الغبراء كما يدلف السجين بين جدران احتبس وراءها، فهو لما حوله كاره، وعنه مصروف.

لا وعى هنالك ولا اكتراث...!!!

إن الدين ما يجد رجاله الحقيقيين إلا بين هؤلاء الأحياء بمشاعرهم وأفكارهم.

(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

وإن التأخر والجمود والهوان لا تجد أوعية لها أفضل من تلك النفوس المغلقة، والحواسد المعطلة، والمواهب المطموسة...!

أجل.

لنقلها صريحة، فإن أمتنا محتاجة إلى أن تجيد فن الحياة.

وقبل أن تصل إلى درجة الإجادة المنشودة، لن يصلح بها دين، ولن تصلح لها دنيا...!

التاجر يخرج إلى السوق وهو خامل مستكين.!!

والفلاح يذهب إلى حقله وهو متثاقل مجهود.!!

والعامل يعالج حرفته وهو ضائق منكمش.!!

والموظف يجلس إلى مكتبه وهو مهدود مهزوم.!!

والجميع لا ترتقب الدنيا منهم إنتاجا طائلا، ولا حركة معجبة.!!

إن أجهزتهم النفسية متوقفة كالساعة الفارغة، فليس يسمع لها دق، ولا ترى بها حياة، ولا يثب فيها عقرب، ولا ينضبط بها وقت..!!

هذا والله هو العجز الذى استعاذ رسولنا عليه الصلاة والسلام منه.

إن الطاقة البشرية فى هذه النفوس لا تزال مادة غفلا، كأنها معادن مرمية فى مناجمها لم تستخرجها يد! أو كأنها بعض قوى الكون المجهولة لما تكتشف بعد..!!

هؤلاء الغرباء فى عالم حجب عنهم أسراره، وشح عليهم ببركاته وقواه، هم- فى نظرى- أبناء الأدعياء الذين قال فهيم المتنبى:

أرانب غير أنهم ملوك * مفتحة عيونهمو نيام

بأجسام يحر القتل فيـها.. * وما أسيافها إلا الطعام.!

والأرانب قد تملك فى أعصار الغفلة...!

ولكن الزمان ضدها، ولا بد أن يردها إلى مكانها...!

وعبيد أبدانهم قد يجدون طعامها يوما، ولكن حيواناتهم لا تلبث بهم طويلا حتى تحولهم إلى نوع من القطعان المسترقة.

فإذا الطعام فى أيدى السادة وحدهم، ما يرمى إليهم إلا فضلات مذلة، ولو شاء السادة أن يمنعوه جاعوا..!!

من أجل ذلك نرى الأمم التى سقطت فى غيبوبة الموت الأدبى، تعانى الجهل والفقر والمرض جميعا.

ونرى خصامها لمطالب الحياة الزكية قد جر عليها الهوان، وكساها لباس الجوع والخوف.

والمصلحون فى بلادنا يقفون وجها لوجه أمام الطاقة الإنسانية التى لم تفجر.

أما الجماهير الكثيفة التى تعيش فوق بقاع فيحاء عامرة بالخيرات، يمكن أن تفيض بالغنى واليمن، ومع ذلك فإن هذه الجماهير لا تحسن الاستفادة مما بين يديها وما خلفها، لأن المخدر الذى تناولته سرى خدرا فى كل أوصالها، فتحسبهم أيقاظا وهم رقود...!!!

طاقات معطلة

إن الحرص على المال العام واحترام حق الدولة والفرد فيه خلقان ينموان فى كل مجتمع راشد، ويهزلان فى كل بيئة وضيعة..!

والأمة التى يراق مالها العام فى التراب، أو يترك غير مرموق بعناية، أو يعد غنيمة باردة لمن استطاع إحرازه ـ الأمة التى تبلغ هذا الدرك لا تبشر شئونها بخير أبدا...!!!

والطاقة الكبرى فى الشباب ـ الذى يجتاز من عمره مرحلة التوقد والمغامرة ـ تدعو للرثاء، فهو على هذا النمط المشئوم من ركود العزم وانطفاء الأمل...!

يريد أن يطعم وهو قاعد، وأن يسعد وهو نائم، وألا يلقى الحياة إلا وهى تهب رخاء، لا تجهم فيها ولا رعد، ولا غيم فيها ولا وحل!! ولعله يريد أن يعيش على طريقة من قال: سألت الله يجمعنى بليلى أليس الله يفعل ما يشاء؟ فيحملنى ويطرحنى عليها! " عندما كنت مقيما فى جبل الطور رأيت أعرابيا يصطاد من البحر الأحمر، رأيته رمى بسنارته.

فلما اشتبكت بها سمكة تبلغ الأقة، قرت بها عينه، فطوى خيطه، وانصرف...!

قلت له: لم هذه العودة السريعة؟ قال: هذا يكفى..!!

فأجبته: أن هنا كثيرين يودون أن تصطاد أكثر، وأن يشتروا منك ما زاد عن حاجتك...!!

فهز رأسه ومضى..

إن طول الحياة وعرضها فى عينه لا يتجاوز شبرا فى شبر، هما طول بطنه وعرضه!!"

وجاوزت ببصرى هذا الأعرابى الأبله، فرأيت باخرة تشق الموج فى طريقها إلى المحيط، قلت: إن ألوف السفن التى تمر من هنا لم يصنع منها لوح واحد فى موانينا..!!

إن الغرب هو الذى أبدع تلك الجوارى فى البحر كالأعلام.

وعلى امتداد العالم العربى يستخرج البترول بمقادير هائلة...!

كم كنت أتمنى لو أن أهل هذه البقاع الغنية هم الذين يستخرجون كنوزهم ويستثمرون خيرهم، إن الإنجليز والأمريكان أو دول أجنبية هم الذين يقومون بالعبء، ويحسنون هذا الصنيع..

عجبا...!

ما سر هذا الموت الرهيب؟ ما علة هذا التخلف المهلك؟ كيف السبيل إلى تصحيح المعانى الإنسانية المجردة فى هذه النفوس التى استعجم بعضها، وتحجر البعض الآخر؟؟ ما هى العوائق والمثبطات؟ وما هى الحوافز والمرغبات؟ إن ذلك ما نحاول بحثه والإجابة عنه..

هل الدين هو المسئول؟ قال لى أحد المتحذلقين: إن الدين سر هذا الجمود.

وتعاليمه من وراء هذا الاسترخاء المنكور...!!!

فقلت: تعنى أن ذلك الشخص الذى بدأ صباحه متثائبا متقاعسا، قد استفتح يومه كذلك، لأنه بات ليله راكعا ساجدا، محروما من المنام والراحة!؟ إن هذا الشخص الخامل ـ يا صاحبى ـ لا يعرف ربه فى ركعات الفريضة، بله صلاة الليل، فهو بمنجاة من الوصف بأن مطالب الدين هى التى صرفته عن الدنيا...!!!

ثم إن اتهام الدين ـ أعنى الإسلام ـ بأنه سبب فتور المسلمين فى الحياة، سخف يجرى على ألسنة أشباه المثقفين، ممن صنعهم التبشير الاستعمارى فى هذه السنوات العجاف من تاريخنا...!!!

قال: لست أعنى الإسلام وحده عندما تحدثت، إن الأديان ـ إجمالا ـ تبغض الحياة للناس، وتصدهم عن الإقبال عليها، وتوجه آمالهم إلى الدار الآخرة.

ومن هنا فإن طبيعة الشخص المتدين تقوم على قلة الاكتراث بالدنيا أو التعويل عليها.

ويتبع ذلك عجز عن تعميرها، أو زهد فى أخذها، أو تقصير فى أداء حقوقها.!!

قلت: ما أحسب هذه طبيعة الأديان على العموم، وأجزم بأن الإسلام برئ كل البراءة من هذه النزعة...!

إن الإسلام يقيم أركان الإيمان على فهم الحياة بصدق، والتصرف فيها بعقل وأمانة، والقيام برسالتها إلى آخر رمق...!

ولعل أقرب ما يصور هذه الحقيقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قامت الساعة على أحدكم وفى يده فسيلة فليغرسها "!! وهذا الأمر بغرس الخضر الذى يخرج منه النبات، فى تلك الآونة العصيبة، له دلالة حافلة...!

إنه أمر بمواصلة أسباب الحياة، فى الوقت الذى تستحصد فيه الحياة..

وممن صدر؟ صدر من نبى يوجه البشر للآخرة، ويحث الناس على كره جحيمها وحب نعيمها...!

وقد يبدو هذا الأمر متناقضا فى بواعثه وغاياته.

وهو متناقض حقا لو أن وظيفة الإسلام بناء الآخرة على أنقاض هذه الحياة...!

لكن الإسلام ليس كذلك، إنه يجعل صلاح الآخرة نتيجة حتمية لصلاح الأولى.

أى يجعل الجنة لأولى الأيدى والأبصار، لا لأولى العجز والحجاب (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا).

وإيضاح هذه الحقيقة يحتاج إلى فضل فى القول.

ما مكانة الناس فى هذه الحياة؟ وما رسالتهم؟ وما علاقتهم بغيرهم من الأحياء؟ إن القرآن الكريم أبان لنا أن البشر لم يطرقوا هذا العالم ضيوفا عليه أو غرباء فيه، بل جاءوه ملاكا مسودين، وقطانا قادرين.

ووضعت تحت أيديهم مفاتيح كل شىء، ليتقلبوا فى أرجائه كيف شاءوا.

وإذا بنيت لابنك قصرا رحب القاعات، سامق الشرفات، ميسر المرافق، ممهد الطرائق، ثم قلت له: ذلك لك، تنزل منه حيث تحب، وتستغل علوه وسفله كيف شئت.

فأبى إلا أن يسكن منه فى مخدع خافت الضياء، مخنوف الهواء.

أو أبى إلا أن يعيش بين المطبخ ودورة المياه.

فهل يلام على هذا الضيق رب البيت الذى أشاد فأوسع، ومكن فيسر؟.

أو هل تلام تعاليمه التى أباحت وأغدقت؟.

إن الله تبارك اسمه قال: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون) ويقول: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) فإذا مرت الأيام ولم يتفكر الأقوام، ولم يستخدموا ما سخر لهم هنا وهناك، فمن الملوم؟ دين الله!؟ وإذا بين الله للإنسان أنه سيد هذه الأرض، الممكن فيها، فجاء الإنسان إلى قطعة من هذه الأرض فعبدها، وأحنى صلبه أمامها، وألغى عقله قلبه بإزائها، فمن الملوم؟ دين الله!؟ إن الله تبارك وتعالى أبدع هذا العالم، وشحنه بالخيرات، وقال للإنسان: اعرف عظمتى عن طريق التأمل فى إبداعى!!

الدين يذكر الناس بالموت لا ليكفوا عن السعى، أو يتوقفوا عن الحركة، بل ليكون سعيهم راشدا، وحركتهم رزينة...!

ولقد راقبت بنفسى مسيرة البشر وهم مستغرقون فى كفاح الحياة، تائهون فى زحامها، فاستيقنت أن هذا الجنون يحتاج إلى علاج...!

القوى يصيبه مس فيفجر..

والغنى ينتابه طيش فيطغى...!

والشباب والشيوخ ينبعثون عن شهواتهم وأمانيهم ومآربهم الخاصة، فلا يبالون فى مسيرتهم بأحد، ولا يهتزون لعاجز أو بائس يذهب تحت أقدامهم..!!

هل على الدين من حرج إذا كسر حدة هذه النشوة، وقال للذاهلين: ويحكم : ( كل نفس ذائقة الموت).

إن هذه الحقيقة ـ التى لا شك فيها ـ لا وزن لها ولا حساب عند أغلب البشر.

ومن هنا كثر ترديدها على الأسماع فى تعاليم الأديان كلها، لعل ذكرها يهدئ الأعصاب المتوترة، ويروض الغرائز المتمردة.

عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال: " أكثروا من ذكر هادم اللذات "- قاطعها- قال أنس: أحسبه قال: "فإنه ما ذكره أحد فى ضيق من العيش إلا وسعه، ولا فى سعة إلا ضيقه عليه " .

والمجلس الذى مر به الرسول، وهو يضحك، لم يكن مجلس قوم أتعبهم العمل فهم يستجمون ويستروحون، بل كان مجلس بطالة وغفلة وترف..

ومن ثم وجه إليهم الرسول تلك العظة.

والزيادة التى ضمها أنس تشير إلى المراد من هذا التذكير، وهو حسم الغرور بالكثير، وتخفيف الألم من القليل..

أى أن الدين يريد بهذه الذكرى رد البشر إلى حالة الاعتدال: الفكري والعاطفى.

وهى الحالة التى تصلح بها الحياة، وتستقيم عليها الأوضاع..

وشبيه بذلك حديث الدين المستفيض عن الدار الآخرة، وضرورة الإعداد لها.

والإعداد لها إنما هو بإحسان العمل فى هذه الحياة الأولى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).

وإذا كانت الآخرة حقا، فما معنى تجاهلها وإهمال شأنها!؟ ثم إن العمل للآخرة قد يكون تعطيلا لأعمال الدنيا لو أن المجال مختلف، أو أن ميدان هذه غير ميدان تلك.

عندئذ يقسم الإنسان وقته بين عمل لليوم، وعمل للغد، فيكون التقدم فى أحدهما على حساب الآخر حتما.

لكن الإسلام ما فكر فى هذا، ولا دعا إليه.

إن زراعة الأرض عمل من صميم أشغال الحياة الدنيا، فانظر كيف تصحبه نية صالحة فيتحول إلى عمل للجنة، وجهد للآخرة.!!

عن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ".

وفى رواية عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم بأذنى هاتين يقول: " من نصب شجرة فصبر على حفظها، والقيام عليها حتى تثمر، كان له فى كل شىء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل ".

ما معنى هذا؟ معناه أننى أستطيع أن أبنى بيتا لى، وأحيطه بحديقة يانعة رائعة، فأنال بذلك من زهرة الدنيا ما أبغى.

وفى الوقت نفسه، أستطيع احتساب هذا العمل فى موازين حسناتى بشىء واحد! شىء يسير.

أن أجعل للطارق الغريب، والبائس الفقير، حقا لدى، وأن أشعر بأن الله حبانى هذا الخير لأحب مثله لغيرى، وليجد الضعاف مأوى فى كنفى، قدر ما أستطيع .

هل هذه الوصاة من الدين لكل حى على ظهر الأرض تعطيل له عن البناء؟ وهل هذه هى مسوغات اتهام الدين بعداوة الحياة؟ إن الدين حين يكره الجشع والبغى، لا يوصف بأنه يمقت العمل والسعى، فالفرق واسع بين الحالتين.

والله عز وجل لم يكره من قارون أن كان صاحب ثروة تعجز العادين.

فهو لا يكره القوة فى بدن منحه القوة..!!

ولا الستر فى بيت أسبل عليه الستر..!!

(وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء).

وانما كره من قارون أن يؤتى هذا الثراء الوافر، فإن قيل له: (وأحسن كما أحسن الله إليك) قال: ذاك الغنى ثمرة قوتى وذكائى، فليس لأحد حق قبلى (إنما أوتيته على علم عندي).

أين هذا الجواب الفاجر من قول سليمان ـ وقد شهد سعة السطوة والثروة اللتين تفرد بهما ـ (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر).

والله عز وجل لم يكره من ثعلبة أنه طلب فضله، ونشد غناه، وأنه أعطى ما طلب، بلغ ما أراد (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم).

إنما كره من الرجل الكذاب أن يعد بالتصدق والصلاح يوم يوسع عليه فى الرزق.

فلما أمسى غنيا فر من الحقوق المفروضة على القادرين، ونسى أيامه الأولى (فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون).

ويبدو أن للدنيا سحرا يغرى أبناء آدم بفعل الغرائب! كم من ضعيف اقتدر ففتك، ومن عبد تحرر فتلهى باسترقاق الأحرار...!!!

وذاك السبب فى أن الإسلام اجتهد فى إبطال هذا السحر، وتنبيه الخاصة والعامة، ألا يغتروا بهذه الدنيا...!

وألا تجرفهم فتن الحياة..

هل معنى التحذير من غوائل الأكل والبطنة أن يتخذ الجوع دينا؟ والتضور صراطا مستقيما؟..

لا، بداهة...!

وفى هذا النطاق البين نفهم ما روى عن أبى عبيدة بن الجراح، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فلما سمع الأنصار بمقدمه، وافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا انصرف منها تعرضوا له..

فتبسم حين رآهم، وقال: " أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين "؟ قالوا: أجل يا رسول الله..

فقال: " أبشروا وأملوا ما يسركم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها؟ كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم "!! أى شىء فى هذا الدرس؟ مرشد حصيف يلفت أتباعه إلى شرور المكاثرة والتحاسد، وأضرار النهم والتعادى..!!

فهل يعتبر بهذه النصيحة الغالية داعيا إلى المسكنة والعجز، وهجر الحياة وترك الدنيا.!؟

إن انسلاخ المؤمنين عن الحياة معناه فرارهم من الميدان، وهربهم من التكاليف.

ومعناه القضاء على الدين نفسه، والحكم على تعاليمه أن تظل حينا من الدهر حبرا على ورق، بل احتراق هذا الورق نفسه عندما يشاء ملاك الحياة أن يمحوا ما بقى من آثاره، وأن يجعلوه جزءا من أساطير الأولين.

إن العمل للحياتين: الدنيا والأخرى، قد وصل الإسلام أطرافه، وربط بعضه ببعض..

فإذا رأيت طاقات معطلة، وأعمالا مهملة، وواجبات مهددة، فثق أن الذى ضاع من دين الله لا يقل عن الذى ضاع من دنيا الناس.

وثق أن الانهيار النفسى الذى جر هذا الضياع قد أصاب الإيمان والخلق بمثل ما أصاب الحضارة والعمران...!

والدين قد يحمل أوزار التخلف والجمود ـ التى تلمح فى بعض البيئات ـ لو أن نصوصه المحددة هونت من قيمة السعى، أو رغبت الناس عنه.

أو لو أن ما يبقى فى النفوس بعد تلاوة آياته، يوحى بالاستكانة والركود.

لكننا نتدبر القرآن كله، فلا نجد دعوة أحر من دعوته إلى الإيمان والإحسان والإصلاح.

ونتدبر سيرة رسوله، فلا نجد رجولة تدانيها فى الكفاح والدأب، والمصابرة إلى آخر رمق.

ونتدبر الأمة العربية التى ظهر فيها هذا الدين فنجد أمة انطلقت بغتة بعد وقوف طويل، وبرزت بعد خفاء مهين.

ولم يكن الوقود الذى أشعل حركتها، وأطلق ثورتها إلا هذا الدين...!

نعم هذا الدين وحده، فعن طريقه أبصرت النور، وأنشأت المدنيات...!

ثم لم تذق ـ هى وحدها ـ طعم الحياة الراقية فى ظله، بل أذاقته أمما فى الشرق والغرب كانت رمما بالية، حتى جاءها هذا الإسلام فمنحها الحياة والرقى والقوة!! ونتساءل بعد ذلك: إذن فما السر فى هذا التصدع النفسى والعقلى الذى ران على المسلمين فى أغلب أقطارهم، وجعلهم غرباء فى أرضهم، عجزة عن استخراج كنوزها واستغلال ما تناثر هنا وهناك من خيرها!؟

الكشف عن هذا السر يتطلب إحصاء جملة من الرواسب المادية والمعنوية تعد فى نظرنا سبب هذا التبلد.

وهى رواسب تكونت على مر القرون، وانحدرت فى وراثات جارفة...!

ويمكننا هنا تحديد أربعة مصادر تولد عنها هذا الإدبار المزرى وأصابنا منها ما أصابنا:

ا ـ فساد عاطفة التدين تبعا لانتشار تعاليم المتصوفة، وشيوع أفكارهم القائمة عن الحياة...!
2 ـ انكماش القيمة الإنسانية للفرد فى ظل الاستبداد السياسى الطويل...!
3 ـ انطفاء القوى العقلية، وتسلط الأوهام والخرافات على الحياة العامة...!
4 ـ المروق الظاهر عن أغلب النصوص والقواعد الإسلامية...!

ونبدأ الكلام عن العلة الأولى.

الكفر بالإنسان

ويتبع الكفر بالحياة وجهل وظيفة المرء فيها، الكفر بالإنسان نفسه، وبخس قيمته وتشويه حقيقته..!

فإن المتدين المنحرف يسئ تصور الملكات والشهوات الانسانية، وينظر إليها نظرة ازدراء...!

وقد ينحصر تقويمه للإنسان فى أنه تخلق من نطفة قذرة، وينتهى إلى جيفة مذرة ، وهو بينهما حامل بول وعذرة...!!

صحيح أن الناحية الحيوانية فى الإنسان لا تخرج عن هذا النطاق.

ولكن الإنسان ليس حيوانا فقط، فإن الله ـ بنفخ الروح فيه ـ أنشأه خلقا آخر.

خلقا مكرما بما أودع فى بنائه المعنوى من خصائص وأسرار...!

خلقا إذا ما بلغ نماءه الصحيح، كما تنمو الشجرة من بذرتها السوية، فاق الملائكة، وحلق فى الملأ الأعلى.

وربما كانت الحملة على الإنسان كسرا للغرور الذى يشيع بين جم غفير من الناس، وكفكفة لشرور الكبر والاستعلاء التى تفسد الأخلاق الخاصة والعلاقات العامة، وتهيئة لعوامل التربية التى تستهدف تهذيب الإنسان، بإزالة ما يشينه، وتنمية ما يزينه..

والإنسان بلا ريب محتاج إلى الحساب الدائم، والرقابة الدقيقة.

ولفته إلى عيوبه كى يتركها، خير لا شك فيه..!

إلا أن الأمر انقلب ـ مع المربين الأغرار ـ إلى الضد.

فإنهم لم يفلحوا فى إزالة الزوائد الضارة وحسب، بل اجتاحوا الأصل نفسه .

عندما حاولوا قتل الغرور فى إنسان مغرور، بلغوا فى الجور حدا جعله يفقد الثقة بما عنده..

فذهب الكبر.

ثم ذهبت أيضا عزة النفس.

ثم ذهبت كذلك الشخصية الحرة المستقلة...!

والعبارة الشائعة فى كتب التصوف أن المريد بين يدى شيخه، كالميت بين يدى غاسله!! وهم يعنون بذلك الطاعة المطلقة.

إلا أن هذه الطاعة الغريبة محقت الإرادة الحرة، والتفكير الحر معا.

وقرأت أن أحد الصوفية كان يمشى فى درب موحل، استطاعت أقدام المارة أن تخط على جانبه طريقا يبسا، وبينما كان الصوفى ينقل أقدامه فى الممر اليابس إذ جاء كلب يريد اجتياز الدرب.

فبلغ من تواضع الصوفى ـ أو من احتقاره لنفسه ـ أن غاص بأقدامه فى الوحل، وأن أفسح الطريق الجاف للكلب، وقال له: مر بسلام!.

وهذه القصة تدون ليتعلم منها من شاء حرمة الترفع على حيوان.

بل لو أحس بأنه قد تواضع فى هذا التصرف فهو فى الحقيقة متكبر ـ هكذا يقولون ـ لأن التواضع الحقيقى لا يكون مع وجود إحساس بالتنازل!! ونحن نعد التواضع فضيلة محمودة، بيد أننا لم نجن من هذا الأسلوب فى غرسها، إلا خلق جيل موطئ الظهر لكل معتد، وتكوين أناس يحتقرون أنفسهم من الصميم، ومن ثم لا يصلحون لعمل عظيم..

لابد ـ لكى تتم رسالة الإنسان فى الحياة ـ من احترام ملكاته، وإقرار شهواته..

لابد من إنماء مواهبه العالية، وترك رغائبه الطبيعية تناسب وفق مقتضيات الفطرة السليمة...!

لابد من تهيئة الجو الخاص والعام كى يسلم الكيان البشرى كله من العاهات العارضة والسدود العائقة...!

ربما تساءلت : ما معنى إقرار الشهوات، وتركها تنساب؟؟ والجواب : أن الحياة على ظهر الأرض لا تتصل مواكبها، ولا يطرد نشاطها، ولا يرتفع مستواها وتزدهر حضارتها إلا بوقود من هذه الشهوات المتقدة..

أترى بقاء الجنس الإنسانى مكفولا بشئ آخر وراء هذه الغريزة الكامنة فى الذكر والأنثى..؟

أترى اتساع العمران واطراد مسيره، إلا آثارا لجملة من الطبائع المستترة وراء نشاط الناس وأمانيهم...!؟

غاية ما هنالك أن الدين ينظم عمل هذه الطباع القوية، ويحسن توجيهها إلى أهدافها.!

فبدلا من أن تتحول مياه النهر إلى فيضان مدمر يهلك الحرث والنسل، تخرج منه فى قنوات محكمة، وترع منظمة، ومواعيد معلومة.

وتتحكم فى ضبطها وتوزيعها سدود وخزانات...!

وبهذه الوسيلة تتحول الصحارى إلى حقول زاهرة، وترتقب منها الجنى الحلو، من الحبوب والفواكه..!

كذلك يصنع الإسلام بالغرائز الإنسانية.

إنه لا يقتلها، لأنه إن قتلها حكم على الحياة الدنيا بالفناء السريع.

ولكنه يحول انطلاقها الفوضوى إلى انسياب دقيق رقيق.

والقيود التى يضعهـا عليها ليست لتعوق وظيفتها وإنما لضمان هذه الوظيفة، بإبعاد الشطط والغلط عنها..

وعندما حرم الإسلام أنواعا من الأطعمة، فقصده من التحريم صيانة الجسم لا مصادرة الطبيعة، وترشيد الجوع.

وعندما حرم أنواعا من الوقاع فقصده تهذيب النزوع الحيوانى لا إبادة الجنس الإنساني وإشاعة الرهبانية...!

وعندما حرم أنواعا من فنون الأثرة فليس ذلك لخلق إمعات ونكرات تزحم البر والبحر، وإنما لإيلاف الجماعة البشرية أن تحيا متعاونة متعارفة لا متدابرة متناكرة...!

والإسلام من هذه الناحية يوصف بأنه مادى كما يوصف بأنه روحى.

وليس أحد الوصفين ألصق به من الآخر، فكلاهما يومئ إلى جزء من حقيقته.

وكل محاولة لسحق الشهوات وتشتيت شملها فهى عطل فى جوهر الإنسان، وعجز عن أداء رسالته...!

أما الملكات العليا فى الإنسان فمحور نشاطها أن الإنسان سيد فى هذا العالم.

وعناصر سيادته تتكون من تجاوب نفسه مع هذا الكون الكبير.

وذاك سر ازدحام القرآن الكريم بالآيات التى تأمره بوضع يده على مملكته، وتحضه على إجالة النظر فيها وتغبير القدم فى أرجائها.

والمجتمع الرشيد هو الذى يهيئ للنفس مجال التنفيس عن هذه السيادة، ويتيح لها فرص القوة والكمال.

ذلك " وفى النفس البشرية استعدادان متقابلان: السلبية والإيجابية، وهما اتجاهان متعارضان، ولكنهما موجودان جنبا إلى جنب فى هذا الكيان الإنسانى العجيب الذى خلقه الله على غير مثال.

وكثيرا ما يؤتى البشر من سوء توجيههم فى أحد هذين الاتجاهين أو فى كليهما.

فالدول الدكتاتورية تضخم جانب السلبية لتضمن السيطرة الكاملة على كل تصرف من تصرفات أفراد الشعب، محافظة على سلطانها الدكتاتورى.

والدول الديمقراطية تبالغ فى تضخيم جانب الإيجابية إلى درجة تبيح استغلال الفرد القوى لغيره من الناس استغلالا ظالما.

كما تبيح كثيرا مما يسمونه " الحريات الشخصية " إلى حد يثير الفوضى.

وهذا أو ذاك انحراف ينشأ من فساد المعايير، ثم هو بدوره يساعد على فساد هذه المعايير.

ولقد نفذ الإسلام إلى هذين الخطين المتقابلين فصحح معيارهما بهمة فريدة تضع كل شئ فى نصابه الحق، فتبدو الأمور طبيعية منطقية لا عوج فيها ولا انحراف.

ذلك أنه أعطى الإنسان سلبية مطلقة بازاء الله، وإيجابية مطلقة بازاء قوى الكون كلها.

فالله هو الخالق، وهو المتصرف، وهو المدبر، وهو الآخذ، وهو المعطى، وبيده كل شىء، وهو على كل شئ قدير.

ومن ثم فالتسليم المطلق لله هو الصواب، ولا شئ سواه يمكن أن يكون صوابا.

أما الكون كله بجميع طاقاته وكنوزه وذخائره فهو مسخر للإنسان ميسر لمنافعه.

(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه).

ومن ثم فموقف الإنسان منه هو موقف الإيجابية المطلقة التى لا يتعاظمها من علوه وسفله شئ ".

وهذا حق، فالأرض الذلول والنجوم المسخرات ـ وهذه أوصاف القرآن لمملكة الإنسان ـ تبين أنه منح سيطرة كاملة على هذا العالم الرحب.

ومن حقه أن يرجع البصر فى أرجائه ليتعرف مقدار ما أوتى، فينتفع بما علم، ويكشف خبء ما جهل، فإذا لم يستفد منه اليوم مهد الطريق للإفادة منه فى غد قريب أو بعيد.

سلبية مطلقة أمام الله، وإيجابية مطلقة أمام الكون.

هاتان حالتان تصطبغ بهما نفس المسلم الموصول بالقرآن، المرتبط بروحه المتأثر بإيحائه...!

ولقد أصيب التفكير الإسلامى بنكسة خطيرة عندما انقلبت مباحثه رأسا على عقب فأصبح تفكيرا سلبيا بالنسبة لمادة الكون إيجابيا بالنسبة لذات الله!! ما هذا الارتكاس المستغرب؟ ومن أين تجد له سنادا فى ديننا؟ وماذا أفدنا منه إلا الدمار العقلى، والروحى، والانهيار الإنساني والعمراني؟"

أستطيع أن أقول بمنطق المفكر المسلم الأصيل: أن الرجل الانجليزى الذى اكتشف قوة البخار، والذى ترك عقله يسرح وراء غليان الماء، وضغط مادته المتحولة من سائل إلى غاز...!

هذا المفكر كان أقرب إلى فطرة الإسلام عن علمائها الذين تساءلوا: هل صفات الله عين ذاته؟ أم غير ذاته؟ أم هى لا عين ولا غير؟؟ وعقدوا لذلك مبحثا قسمهم فرقا، وخرج منه جمهورهم مخبولا لا معقولا...!!!

إن المجال الطبيعى لملكات الإنسان العليا هى البحث فى هذا الكون.

ومن نتائج هذا البحث يتكون الإيمان بالله، وتشرب الأفئدة طرفا من عظمته.

وكل ميدان افتتح للمجادلات الغيبية كان تبديدا آثما لطاقتنا العقلية.

وكل عائق اصطنع لمنع العقل الإنسانى من التجوال فى الآفاق والائتناس بمجالى القدرة العليا فى الأرض والسماء، فهو عائق افتعله الجهل أو الضلال والإسلام برئ منه...!!!

وليست للإنسان المسلم صومعة يعتزل فيها، ويحتبس نشاطه وراء جدرانها ويعد عابدا لله بادمانه التسبيح والتحميد داخل حدودها الموحشة المنقطعة.

كلا، فالعالم أجمع صومعة المسلم، والكون الكبير مسرح نشاطه..

واسمع هذا النداء: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون).

إن الصلاة- وهى الكتاب الموقوت- يأذن الله بقصرها حين الضرب فى الأرض، لأن الضرب فى الأرض عبادة ترتبط بسيطرة الإنسان على الكون وهيمنته على هذه الحياة الدنيا..

ولو أن الصالحين من المسلمين عرفوا منطق كتابهم فى تقويم الإنسان وتقرير حظوظه من السيادة المادية والأدبية لانساحوا فى أنحاء المشرق والمغرب ينظرون ويكتشفون كما فعل المجاهدون من رجالات القرن الأول..

لكنهم حقروا أنفسهم وقعدوا فى أوطانهم، وتضاءل العالم كله فى أعينهم، فأصبح حركة عقيمة بين دورهم ومساجدهم.

حركة يقطعها الموت وهى أشبه ما تكون به!! على حين انطلق الأوروبيون يخترقون القفار ليعلموا ما بعدها! ويركبون البحار شهورا طوالا ليدركوا ما وراءها! كأنما هم وحدهم الذين كلفوا من عند الله بالتمكن فى أرضه، والسيطرة على خلقه!! والجدير بالذكر أن القرآن الكريم ألح على المسلمين أن يسيحوا فى الأرض وأن يسيروا فى البر والبحر، ليربوا إيمانهم، وتتسمع معارفهم، وتنصقل تجاربهم، وتزيد حصيلة الحقائق التى لديهم عن الوجود والتاريخ.

(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين).
(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها).
(أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض).

والقرآن الكريم يحصى خلال الخير فى المؤمنين فيجعل السياحة من بينها: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله)، وليست السياحة للرجال فقط بل هى للنساء أيضا، ففى خصال الفضل التى ترشح طائفة من النسوة للزواج بالرسول خلق السياحة.

(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا).

ونحن فى مصر ننظر إلى طوائف السائحين والسائحات الوافدين إلى بلادنا نظرة دهشة، ونظن أمرهم بدعا فى خلق الله!! ذلك لأن المصريين مرضى بالإخلاد إلى أرضهم، والقبوع فى دورهم.

وما أشد جزع أحدهم لو أكرهته ضرورات العيش على النقلة من مسقط رأسه، إنه يعلن الحدثان ويشكو الأزمان...!

والإسلام ضد هذا الخلق الواهن، فهو يستحب أن يموت الإنسان بعيدا عن وطنه، نازحا عن داره..

إن الرجال حين تطرحهم النوى فى الأقطار القصية، فإنما ذلك دليل علو همتهم وقوة عزيمتهم...!

ولقد رويت عن النبى صلى الله عليه وسلم آثار تجعل موت الغربة شهادة فى سبيل الله.

وهذه الآثار- وان لم تبلغ درجة الأحاديث الصحيحة- إلا أنها توافق فى دلالتها العامة ما ورد فى القرآن بشأن الهجرة.

فالهجرة فريضة محتومة يوم تكون ابتعادا عن مواطن الضعف وأسبابه.

وهى على كل حال باب إلى السعة والحرية، فمن أدار ظهره للهوان، وولى وجهه شطر المجهول من أرض الله يبتغى العزة والأمنة، فهو صائر إلى خير لا محالة...!

إن عاش ظفر بالكرامة، وإن مات فقد وقع أجره على الله.

(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما).

وذاك ما أوحى إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعى أن يقول:

ما فى المقام لذى عقل وذى أدب من راحة، فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب

أنى رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب

الأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب

والتبر كالترب ملقى فى أماكنه والعود فى أرضه نوع من الحطب

فـإن تـغرب هذا عز مطلبه وأن تـغرب ذاك عز كالـذهب

ويقول الطغرائى:

حب السلامة يثنى عزم صاحبه عن المعالى، ويغرى المرء بالكسل

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا فى الأرض، أو سلما فى الجو فاعتزل

يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة والعز عند رسيم الأينق الذلل

إن العلا حدثتنى وهى صادقة فيما تحدث أن العز فى النقل

لو أن فى شرف المأوى بلوغ منى لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل

لكن المسلمين أثر انحرافهم عن رسالتهم، قيد العجز أطرافهم، وسرى الخدر فى مشاعرهم وأفكارهم.

فاستكانوا حيث ولدوا، وحسبوا الدنيا لا تعدو حدود القارات التى عرفوها !! أما غيرهم فلم يخاصم الحياة، بل صالحها...!

ولم يجهل مكانته فيها بل وطدها...!

ولم يصطنع حجبا على خصائصه النفسية والفكرية، بل تمشى منبعثا من فطرة الله التى فطر الناس عليها...!

فإذا هو يكتشف النصف الآخر من العالم بعد رحلات جريئة فى جنباته.

وإذا هو يملأ القارات الجديدة ـ التى كان أول طارق لها ـ بما استقر فى نفسه من عقائد ومبادئ، فيها الكثير من الخطأ، والقليل من الصواب.

ما سر هذا القصور؟..

ما سر هذا التخلف؟..

إنه الكفر بالإنسان!! الدين قوة هائلة فى قيادة البشر، ولكن ما قيمة الآلة البخارية فى قطار يضم سبعين عربة، إذا كانت هذه العربات كلها قد احترقت وتلاشت؟؟

ماذا تقود بعدئذ؟؟ وماذا يصنع الدين إذا كان موضوع عمله ـ وهو الإنسان ـ قد ذاب واستخفى.

إنى أنظر إلى الناس حولى فأجد الدين يأوى فى أنفسهم إلى خرائب بشرية لا إلى خلائق سوية!!..

وأبحث عن الإنسان الذى ينزل اليقين فى قلبه، ويتجه الخطاب الإلهى إلى عقله، فأجد هذا الإنسان قد برحت علل جسيمة به وتركته حطاما!! ومصادر هذا الشر الجائح كثيرة، ولكن التدين الفاسد أبرزها وأعمها، لأنه يحاول باسم الله الحيلولة بين الإنسان وفطرته، ويصادر باسم الإخلاص والتقوى خصائص طبيعته...!

وللطبيعة البشرية أركان عامة يشترك بنو آدم قاطبة فى أصولها.

وهناك ميزات يختص بها فرد دون فرد...!

والإسلام يحترم هذه وتلك على سواء...!

ويضع لها من شرائع الحق ما ينتهى بها إلى الكمال المنشود...!

من حق الإنسان أن يتألم إذا نزلت به مصيبة، ومن حقه أن يفرح إذا جاءته نعمة، فتلك طبيعته فى الحالين من غير نكير..

وعمل الدين أن يكفكف الحزن فلا يتحول قنوطا أو سخطا.

وأن يكفكف الفرح فلا يصير عربدة وبطرا..

ولذلك استغربت ما روى عن أحد الصوفية إذ سأل صاحبا له عن حاله فأجابه: نصبر على البلاء، ونشكر على العطاء! إنه احتقر هذه الإجابة وقال: تلك حال الكلاب عندنا، أما نحن فنفرح بالبلاء فرح أحدكم بالعطاء...!!!

وعندى أن هذا تزوير على الطبيعة، وكذب على الفطرة.

فإن رسول الله ـ وهو خير الناس ـ حزن لموت إبراهيم.

ويعقوب عليه السلام حزن لضياع ولده يوسف..

فبأى منطق يطالب الناس ـ لكى يرتفع تدينهم ـ أن يفرحوا بالبلايا؟؟ إن الضغط على الطبيعة البشرية خيل لبعض الناس أن محبة الجمال فى آيات الكون نزعة تخالف التقوى...!!!

وليت شعرى: لمن ترسم صور الإبداع فى قوله جل اسمه: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج).

لمن يبرز الوحى الأعلى هذا المنظر الجميل؟ إنه يقول: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب).

ثم يستطرد فى وصف هذا الجمال الرائق: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج).

ثم إن الناس ليسوا صورا متشابهة يضعها الدين فى قالب واحد، فتخرج من مصنعه، وقد محيت الفروق الذهنية والعاطفية من بينها؟؟ إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على درجة رفيعة من التقوى، ومع ذلك ففى القضية الواحدة يلين بعضهم فى ذات الله، ويشتد بعضهم فى ذات الله فتختلف أحكامهم باختلاف الطبائع والأنظار.

وإن لم تختلف نياتهم فى مرضاة الله وطلب الحق...!

والجو الذى يتيح النماء الحر لأصحاب المواهب المختلفة، هو الجو الذى تنبت فيه العبقريات، وتتفتح فيه القوى الكبيرة، وتستطيع الأمم أن تستفيد فيه من أبنائها العظماء...!

لقد أحزننى أن أرى نفرا من المتدينين يحسنون أركانا ونوافل من العبادات الظاهرة، ويحصون تفاصيل كثيرة لأنواع من السلوك المشروع وغير المشروع ولكن قواهم النفسية والفكرية أشبه بمناجم الذهب والحديد التى تاه عنها البشر، فهى مطمورة تحت ركام من الغفلة والخفاء..

نعم، قواهم النفسية والعقلية هامدة راكدة مقطوعة الصلة بالكون والحياة.

إن تدين هؤلاء ناقص يقينا.

وحرى به أن ينهزم أمام أية عقيدة ـ ولو وثنية ـ استطاعت أن تستثير لحسابها ما فى الإنسان، من قوى وملكات...!

وأحزننى، أو أفزعنى، أن أرى أناسا آخرين نمت فى نفوسهم الأهواء كما تنمو الأشواك فى حقل لا صاحب له، ثم هم بجهد قليل، من الهمهمة، والشعوذة يفرضون أنفسهم على الدين، ويزعمون أنهم سينفعون به العالمين! إن الدين إذا لم يسر فى النفوس كما تسرى الكهرباء فى الأسلاك، فتضئ بسريانها مصابيح، وتتحرك آلات، يصبح وهما أو زعما لا تغنى فيهما العناوين والشارات...!!!

الاستبداد يشل القوى

الحكم الذى ساد بلاد الإسلام من بضعة قرون كان طرازا منكرا من الاستبداد والفوضى..

انكمشت فيه الحريات الطبيعية، وخارت القوى المادية والأدبية، وسيطير على موازين الحياة العامة نفر من الجبابرة أمكنتهم الأيام العجاف أن يقلبوا الأمور رأسا على عقب، وأن ينشروا الفزع فى القلوب، والقصر فى الآمال، والوهن فى العزائم....!

والحكم الاستبدادى تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا.

وهو دخان مشئوم الظل تختنق الأرواح والأجسام فى نطاقه حيث امتد.

فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج..!!

ومن هنا حكمنا بأن الوثنية السياسية حرب على الله وحرب على الناس.

وأن الخلاص منها شئ لا مفر منه لصلاح الدنيا والآخرة....!

وقد أصيب الإسلام فى مقاتله من استبداد الحاكمين باسمه.

بل، لقد ارتدت بعض القبائل، ولحقت بالروم فرارا من الجور..

إن المستبدين ينبتون فى مناصبهم نبتا شيطانيا لا توضع له بذور، ولا تحف به رغبة، ولا تشرف عليه موازنة أو مشورة.!!

وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلابد أن يفرض عليه تفاهته، وأثرته، وفراغه...!

ومن هنا تطرق الخلل إلى شئون الأمة كلها، فوقعت فى براثن الاستعمار الأخير لأن الخلفاء والملوك والرؤساء كانوا فى واقع أمرهم حربا على الأمة الإسلامية، أو كانوا فى أحسن أحوالهم ترابا على نارها، وقتاما على نورها.

فلو خلوها وشأنها لاستطاعت الدفاع عن نفسها، متخففة من أعباء هؤلاء الحكام، ومن جنون العظمة الذى استولى عليهم...!!!

ثم إن الإسلام ينكر أساليب العسف التى يلجأ إليها أولئك المستبدون فى استدامة حكمهم واستتباب الأمر لهم...!

إنه يحرم أن يضرب إنسان ظلما، أو أن يسفك دمه ظلما.

فما تساوى الحياة كلها شيئا إذا استرخصت فيها حياة فرد.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ".

فأشد الجرائم نكرا، أن يقتل امرؤ من الناس توطيدا لعزة ملك أو سيطرة حاكم..

وفى حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجيئ المقتول يوم القيامة آخذا قاتله- وأوداجه تشخب دما- عند ذى العزة- جل شأنه- فيقول: يا رب، سل هذا، فيم قتلى؟ فيقول المولى عز وجل: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان...!

قيل: هى لله ".

وفى التعذيب دون القتل، وهو ما ينتشر فى سجون الظلمة، يروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جرد ظهر مسلم بغير حق لقى الله وهو عليه غضبان ".

ويقول أيضا: " ظهر المسلم حمى، إلا بحقه ".

يعنى أن المسلم لا يجوز أن يمس بسوء أبدا، إلا أن يرتكب ذنبا أو يصيب حدا، فعندئذ يؤخذ منه الحق الثابت فى دين الله.

إن الجو الملئ بما يصون الكرامات، ويقدس الدماء والأموال والأعراض هو الجو الذى يصنعه الإسلام للناس كافة، وهو بداهة الجو الذى يحسنون فيه العمل والإنتاج.

فحيث تسود الطمأنينة، ويختفى الرعب، ينصرف العامة إلى تثمير أموالهم وتكثير ثرواتهم، لأنهم واثقون أن حصاد ما يغرسون لهم ولذراريهم، فهم غير مدخرين وسعا فى العمل والإنتاج..

إلا أن هذه البيئة الوادعة الآمنة المشجعة على الكدح والكسب تقلصت رقعتها فى الأمة الإسلامية خلال القرون الأخيرة!!

ووقع الفلاحون والصناع وأهل الحرف المختلفة فى براثن أمراء يحكمون بأمرهم لا بأمر الله.

فكانت عقبى الترويع المتجدد النازل على رؤوسهم أن أقفرت البلاد وصوَّح نبتها، وعم الخراب أرجاءها...!!!

وتستطيع أن تلقى نظرة عجلى على تاريخ مصر خلال المائتى سنة الأخيرتين، فيما كتبه عبد الرحمن الجبرتى.

إنك ترى من الأحداث ما لا ينفد عجبك له.

حكام يطلبون المال من الناس كلما تحركت رغبة الطلب فى نفوسهم.

فإذا الضرائب تفرض دون وعى.

والأملاك تصادر دون حق.

وخصومات على الحكم تشعل جذوتها عصابات طامعة من أصحاب الجاه وعشاق السلطة، وتسفك فيها الدماء بغزارة، ولا يفوز فيها إلا أقدر الفريقين على الفتك، وأطولها يدا بالأذى...!!!

أما قتل الأفراد فقد بلغ من الكثرة حدا يشبه ما يسجله عساكر المرور للسائقين المتهورين..!

ما هذا؟ أمة انفرط عقدها فليس يمسكها شئ.

وضاع أصلها فلا تستحى من سلوك.

وتشبثت بها الفقر طولا وعرضا، فهى كحريق هائل كلما ظن أنه انطفأ فى ناحية اندلع فى ناحية أخرى.!!

ومن البديهى أن تمحق أسباب العمران بله مظاهر الحضارة فى أتون هذه الفوضى الضاربة..!

البديهى أن تضطرب شئون الرى، وأن يفر الفلاحون من زراعة الأرض، وأن يعيش أهل المدن وكأنهم يستعيرون أعمارهم يوما بيوم.

فإذا كانت مصر البائسة صورة لأقطار الأمة الإسلامية المنتشرة بين المحيطين، فأى مستقبل ترقبه لمثل هذه الأمة التى عز فيها الداء واستفحل الخطب؟؟ كان سقوطها فى مخالب المستعمرين الغزاة، النتيجة الحتم!! وتخلفها فى ميدان الحياة المتدافعة المتدفقة هنا وهناك أمر لم يكن منه بد.

والمسئول عن هذه الجريمة النكراء هو الاستبداد السياسى الذى وقعت البلاد فريسة له، وكان دين الله بين ضحاياه الكثيرة...!!!

يجب أن نعلم الناس يتهيأون للعمل العظيم، ويتجهون إليه بأفكار رتيبة مستريحة، حين يكون الشعور بالأمن مستوليا على أقطار أنفسهم.

أما حيث تستخفى الذئاب الحاكمة وراء جدران الدواوين، وتنقض متى شاءت على أقرب فريسة لها، فهيهات هيهات أن يزدهر إنتاج، أو يستقيم سعى..

الحريات الكاملة ضرورة لنشاط القوى الإنسانية وتفتح المواهب الرفيعة.

إن النبات يذبل فى الظل الدائم، ويموت فى الظلام...!

ولن تتفتح براعمه، وتتكون أثماره إلا فى وهج الشمس.

كذلك الملكات الإنسانية، لا تنشق عن مكنونها من ذكاء واختراع، إلا فى جو من الإرادة المطلقة، والحرية الميسرة..!!

والعالم الإسلامى ـ ونقولها محزونين ـ نكب بمن رد نهاره الضاحى ليلا طويلا...!

نكب ـ فى العصر الماضى ـ بحكام ظنوا البشر قطعانا من الدواب، فهم لا يحملون فى أيديهم إلا العصا...!

والحاكم الذى لا تألف رعيته منه إلا العصا جرثومة عبوديتها أولا.

وهو القنطرة التى تمهد للإذلال الخارجى أخيرا...!

ونحن موقنون بأن الاستعمار الذى نشر غيومه فى ربوع الأمة الإسلامية كان ومازال لا علة له إلا هذا الضرب من الحكومات...!

ومما يقترن بالاستبداد السياسى ولا ينفك عنه، غمط الكفايات، وكسر حدتها، وطرحها فى مهاوى النسيان ما أمكن.

ذلك أن المستبد يغلب عليه أن يكون مصابا بجنون العظمة.

وربما اعتقد أن كل كفاية إلى جانب عبقريته الخارقة صفر لا تستحق تقديرا ولا تقديما..

وإذا أكرهته الظروف على الاعتراف بكفاية ما، اجتهد فى بعثرة الأشواك أمامها، واستغل سلطانه فى إقصائها أو إطفائها.

وفى رأيى أن حظوظ الأمم من الكفايات متساوية، أو متقاربة، وأن أولى النباهة والمقدرة عند أية دولة فى الغرب، لا يزيدون كثيرا عن أمثالهم فى أى شعب شرقى..!!

كل ما هنالك أن قياد الجماهير فى أوروبا وأمريكا أخذ طريقه الطبيعى إلى أيدى الأذكياء الأكفاء..

أما فى الشرق الإسلامى مثلا فإن القياد ـ بأسباب مفتعلة ـ ضل طريقه عن أصحابه الأحقاء به، وسقط فى أيدى التافهين والعجزة..

وهذه الأسباب المفتعلة يقيمها ـ عن عمد ـ الاستبداد السياسي حيث يظهر ويسود.

إن المستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله..

ويؤمن بمجده الخاص قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة..

ومن هنا يعول على الأتباع الفانين فيه، يحشدهم حوله، ويرفض الاستعانة بالكفايات التى لا تدين بالولاء له، ولا يبالى بحرمان الوطن، أو الدين من مهارتهم.

وتأخر العالم الإسلامى فى القرون الأخيرة مرجعه إلى انتشار هذا الوباء! فإن منع الرجل القوى من القيام على الأمانات العامة تضييع له ولها، تضييع ينطق لسانه بهذه الشكاة:

لم لا أسل من القراب وأغمد لم لا أجرد والسيوف تجرد؟

أو كما قال الآخر، كاشفا عن عواقب حرمان الأمة منه فيما ينوبها من أزمات:

أضاعونى وأى فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر!!

وطبيعة الرجل الكفء كراهية الهوان والتحقير.

ألا ترى إلى موقف عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته، وكان أبوه قد وظفه فى الرعى والخدمة؟؟ لقد تطلعت إليه عند اشتداد الهجوم، وافتقاد الأبطال!! وجاء شداد مسرعا يطلب من الابن المحقر المبعد أن يقود حركة المقاومة!! وقال عنترة ـ منددا بموقف أبيه منه ـ : إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلاب والصر!! فقال الوالد المحرج: كر وأنت حر...!

واسترد الفارس مكانته، فاستعادت القبيلة كرامتها..!!

وحسنا فعل شداد، وحسنا فعل ابنه!! إن الملكات الإنسانية العالية فى ندرة المعادن النفيسة من ذهب وماس ولؤلؤ ومرجان.

وإضاعتها خسارة يعز معها العوض المكافئ.

وانهيار التاريخ الإسلامى فى القرون الأخيرة يرجع ـ كما أسلفنا ـ إلى ذوبان الكفايات وسط عواصف من الهوى والجحود.

وإلى استعلاء نفر من الرجال الذين تقوم ملكاتهم النفسية على إحسان الخطف والتسخير، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة المعجلة!! وشئوننا المادية والأدبية من عدة قرون تدور حول هذا المحور.

فبينما كانت أوروبا تنتفض من خمولها، وتهب الرياح رخاء فى أرضها، ويجد العباقرة الفرص مضاعفة أمامهم ليفكروا ويكتشفوا ويخترعوا...!

ـ وبذلك تمهد الطريق أمام الذكاء الإنسانى الرفيع كى يسير ويشد وراءه القافلة الحانية عليه المعجبة به! فى ذلك الوقت نفسه، كان الشطار عندنا من الأمراء والعمد يتنازعون على حكم المدائن والقرى، ومؤهلاتهم للسيادة المنشودة لا تعدو القدرة على سحق الخصوم...!!!

فكيف تصلح أمة تتكتل أحزابها حول عصبية السلطان المسروق بدل أن تتجمع حول مثل عالية، ومبادئ نبيلة؟؟ لقد جنت علينا هذه الأحوال يقينا! وجنينا من طول بقائها فى بلادنا تأخرا فى المظاهر الأولى للعمران، بله تأخرا فى مجال الإجادة والابتكار.

وفى أثناء مغيب الحرية عن بلد ما، يقل النقاد للأغلاط الكبيرة، أو يختفون، وتضعف روح النقد عموما، أو تتوارى..!!

وهذه حال تمكن للفساد، وتزيد جذوره تشبثا بالبيئة العليلة.

وحاجة الأمم للنقد ستظل ما بقى الإنسان عرضة للخطأ والإهمال، بل ستظل ما بقى الكملة من البشر يخشون الملام ويخافون الحساب! وما دامت العصمة لا تعرف لكبير أو صغير، فيجب أن يترك باب النقد مفتوحا على مصراعيه..!!

ويجب أن يحس الحكام والمحكومين بأن كل ما يفعلون أو يذرون موضع النظر الفاحص والبحث الحر...!

فإن كان خيرا شجعوا على استدامته...!

وإن كان شرا نبهوا إلى تركه، وحذروا من العودة إليه، بعد أن يرفع الغطاء عن موطن الزلل فيه...!

وقيمة النقد فى إحسان الأعمال وضمان المصالح لا ينكرها عاقل.

وإنما هلكت الأمم الهالكة لأن الأخطاء شاعت فيها دون نكير، فما زالت بها حتى أوردتها موارد التلف.

ونحن لا نحب لأمتنا هذا المصير.

إن أغلب الناس إذا أمن النقد لم يتورع عن التقصير فى عمله، ولم يستح من إخراجه ناقصا وهو قدير على إكماله! وقد كان خالد بن الوليد بصيرا بهذه الطبيعة عندما أعاد تنظيم الجيش الإسلامى فى موقعة اليرموك على أساس تمتاز به كل قبيلة، وينكشف به صبرها وبلاؤها، وتحمل به تبعتها من النصر والهزيمة، تبعة غير عائمة ولا غامضة..

وكانت التعبئة الأولى للجيش تخلط بين الناس فى كيان عام، وتتيح لأى متخاذل أن يفر من معرة التقصير، فلا يدرى بدقة: من المسئول؟ وعقل الألسنة عن الكلام فى عمل الاستبداد والمستبدين ضيع على أمتنا مصالح عظيمة خلال الأعصار السابقة.

إذ طمأن العجزة والمفسدين، وجعلهم يسترسلون فى غيهم، فما يفكرون فى إطراح كسل، ولا ترك منقصة...!!!

أما الحريات التى تقدسها الدول الديمقراطية فإنها مزقت الأغطية عن كل الأعمال العامة، وجعلت الزعماء ـ قبل الأذناب ـ يفكرون طويلا قبل إبرام حكم، أو إنفاق مال، أو إعلان حرب، أو ابتداء مشروع كبير...!

بل جعلتهم فى مسالكهم الخاصة يوجلون من أى عمل يثير حولهم القيل والقال...!

ولا شك أن هذه الحريات حاجز قوى دون وقوع العبث بشئون الأمة، أو نذير بتقصير أجله إذا وقع، ومؤاخذة أصحابه بغير هوادة.

ولو نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية لوجدنا فى أحداثها ما يستدعى العبرة...!

فقد انتصر الألمان فى مراحلها الأولى انتصارا خطيرا، بيد أن خصومهم سرعان ما شرعوا يستفيدون من أخطاء الحكم الفردى القائم ضدهم.

وكانت هذه الأخطاء من الجسامة بحيث نستطيع اعتبارها السبب الأول فى انكسار القوم..

لقد حارب هتلر الروس ضاربا بآراء قواده عرض الحائط، فكانت هذه أولى مصائبه.

تم رفض خطة أولئك القادة لمنع نزول الحلفاء بشواطئ فرنسا ونفذ خطة من تفكيره هو وتفكير بعض متملقيه، فكان أن فتحت الجبهة الثانية.

ثم وقع الألمان بين شقى الرحى.

وتحول انتصارهم الأول اندحارا من أبشع ما روى التاريخ...!

ذلك أن الأمور لا تصلح أبدا برجل واحد يدعى العلم بكل شئ ويعتقد أن العناية حبته بما حرمت منه سائر الخلق...!!!

ويؤسفنا أن نقول: إن تاريخنا العلمى والاجتماعى والسياسى كان ينزل خلال القرون الأخيرة من مزالق إلى منحدرات، ومن منحدرات إلى هاويات، لأن أزمة النشاط المادى والأدبى كانت فى أيدى أفراد يكرهون النقد، ولا يحبونه من أحد، ولا يسمحون بجو يوجده وينعشه...!

والغريب أن هؤلاء الرجال ـ عندما يوزنون بحساب النبوغ والقدرة ـ لا ترجح بهم كفة.

فكيف يصلح بهم وضع، أو تقوم بهم نهضة، أو تنشط بهم قوة للبناء والإنتاج؟؟؟

حاجة المسلمين إلى الحريات البناءة ـ فى تاريخهم الأخير ـ أزرت بهم، وحطت مكانتهم...!

على حين نعمت أجناس أخرى بتلك الحريات، فتحركت بقوة، ثم اطرد سيرها فى كل مجال، فإذا هى تبلغ من الرفعة أوجا يرد الطرف وهو حسير.

وزاد الطين بلة شئ آخر..

أننا عندما اتصلنا بالغرب فى أثناء القرنين الماضيين، وشعرنا بضرورة الاقتباس منه والنقل عنه، كانت أفهامنا من الصغار ـ ولا أقول من الغفلة ـ بحيث لم تلتفت إلا للتوافه والملذات...!

فالحرية التى تشبثنا بها، ليست هى حرية العقل فى أن يفكر ويجد ويكتشف..

بل حرية الغريزة فى أن تطيش، وتنزو، وتضطرم..!!

وسرعان ما احتلت الملابس الأوروبية أجسامنا، والأثاث الأوروبى بيوتنا، والعادات ا لأوروبية ـ فى الأكل والنوم ـ أحوالنا...!

أما تألق الذهن! وجودة التفكير، وإطلاق القوى البشرية من مرقدها تسعى وتربح..

فذاك شأن آخر.

ومن السهل على القردة أن تقلد حركات إنسان ما...!!!

أفتظنها بهذا التقليد السخيف تتحول بشرا؟؟ ولقد رأينا المسنين من الرجال، والأحداث من العيال، يأخذون عن أوروبا الكثير من مظاهر المدنية الحديثة، وهى مظاهر نبتت خلال حضارة الغرب كما تنبت "الدنيبة " خلال حقول الأرز.

إنها شراء آخر غير حضارة الغرب التى ارتفع بها واستفاد منها.

فهل هذا الأخذ الغبى رفع خسيستهم، أو دعم مكانتهم؟ كلا، إنهم ما زادوا به إلا خبالا..

والواقع أن اليابان نهضت نهضة كبرى فى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد.

والصين نهضت نهضة أشمل وأخطر فى منتصف القرن العشرين.

وكلتا الأمتين حرصت على تقاليدها الخاصة فى اللباس والطعام وما إليهما، وعبت من مناهل المعرفة الحقيقية ما غير حالتها تغييرا تاما.

أما نحن فقد هجرنا الموضوع إلى الشكل، بل تخبطنا فيما ندع وننقل على حساب ديننا وتاريخنا، فلم نصنع شيئا..

الحرية التى نريدها ليست فى استطاعة إنسان ما أن يلغو كيف شاء!! فما قيمة صحافة تملأ أوراقها بهراء لا يصلح فاسدا، ولا يقيم عوجا؟ الحرية التى نريدها ليست فى قدرة شاب على العبث متى أراد.

فما قيمة أمة تصرف طاقات الأفراد فى تيسير الخنا وإباحة الزنا؟؟ الحرية التى يحتاج إليها العالم الإسلامى تعنى إزالة العوائق المفتعلة من أمام الفطرة الإنسانية، عندما تطلب حقوقها فى الحياة الآمنة العادلة الكريمة، الحياة التى تتكافأ فيها الدماء وتتساوى الفرص وتكفل الحقوق، وينتفى منها البغى، ويمهد فيها طريق التنافس والسبق أمام الطامحين والأقوياء، ويمهد طريق الاندثار والاستخفاء أمام التافهين والسفهاء، فلا يكون لهم جاه، ولا يقدس لهم حمى...!!!

أثر الثقافات الرديئة

بعض الأطعمة يورث من يتناوله صداعا فى الرأس، واسترخاء فى الأعضاء، وانقباضا عن الأعمال..

وبعض ألوان المعرفة يترك فى النفوس من التطير والخمول مثلما تتركه هذه الأغذية الرديئة فى الأجسام.!!

وحقيق بنا أن نبحث مصادر المعرفة التى توجهنا، وأن نتدبر فعلها فى مشاعرنا وأفكارنا...!

لا، بل نستيقن أولا مبلغ ما فيها من حق! فمن يدرى؟ ربما كانت وهما لا سناد له...!

وما أكثر الأوهام التى تسير الناس، وتجعلهم ينشطون إلى سراب خادع، أو يرعبون من خيال مختلق.

والمجتمع الاسلامى من أزمنة متطاولة ضللته أحكام خاطئة، واستولت عليه صور ذهنية وقلبية ما أنزل الله بها من سلطان.

فكم من أشياء درست على أنها دين، فإذا محصتها وجدت أنها هراء، أو وجدتها اجتهادا محدودا لأحد الباحثين ليست له قداسة الدين، ولا حرمة الخروج عليه...!

وحرام أن تحبس أمة ضخمة فى تفكير رجل واحد قد يخطئ وقد يصيب.

وحرام أن توصف فى محبسها هذا بأنها تلتزم حدود الإسلام.

خذ مثلا هذه المسألة الفقهية الجزئية، نسوقها هنا شرحا لمقصدنا.

يرى ابن حزم أن ابن الزنا، والقرشى، سواء فى إمامة الناس فى الصلاة! إذ لا تفاضل بينهم إلا بالقراءة والفقه وقدم الخير والسن فقط...!

قال: وكره مالك إمامة ولد الزنا...!

ولا وجه لهذا القول، لأنه لا يوحيه قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب!! وعيوب الناس إنما تكون فى أديانهم وأخلاقهم، لا فى أبدانهم، ولا فى أعراقهم، قال الله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

واحتج بعض المقلدين لمالك ـ فى تحريم إمامة ابن الزنا ـ قالوا: يفكر من خلفه فيه فيلهى عن صلاته!! قال ابن حزم: وهذا كلام فى غاية الغثاثة والسقوط.

ولا شك أن فكر المأموم فى أمر الخليفة لو صلى بالناس، أو الأحدب إذا أمهم أكثر من فكره فى ولد الزنا...!

ولو كان لشئ مما ذكروه حكم فى الدين، لما أغفله الله على لسان رسوله: (وما كان ربك نسيا).

ثم روى ابن حزم عن الحسن البصرى قال: ولد الزنا وغيره سواء.

وعنه أيضا قال: ولد الزنا بمنزلة رجل من المسلمين يؤم ـ فى الصلاة ـ وتجوز شهادته إذا كان عدلا...!

وعن عائشة أم المؤمنين أنها سئلت عن ولد الزنا فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شئ: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

وعن الزهرى قال: كان أئمة من ذلك العمل ـ يعنى من الزنا ـ .

وعن سفيان الثورى عن حماد سألت إبراهيم عن ولد الزنا والأعرابى والعبد والأعمى هل يؤمون؟ قال: نعم إذا أقاموا الصلاة.

وعن معمر قال: سألت الزهرى عن ولد الزنا هل يؤم؟ قال: نعم وما شأنه؟ وروى أن أبا هريرة لما وصف ابن الزنا بأنه شر الثلاثة ـ يعنى أبويه معه ـ قال عبد الله بن عمر: بل هو خير الثلاثة..!!

ونحن لا يعنينا البت فى هذه المسألة بقدر ما يعنينا الفزع من أن الأمة الإسلامية تستقر فيها أحكام لا دعامة لها من القرآن، ولا من السنة، ولا من القياس، ولا من الإجماع..

إذن كيف استقرت هذه الأحكام؟ ولماذا ألزم الناس بتهيبها على أنها من حدود الله؟ وهبها رأى مجتهد فما قيمة رأى لا يعتمد على شئ مما ذكرنا؟ وما الفرق بينه وبين الآراء المخالفة له سواء عاصرته أم جاءت بعده على مر القرون...!؟؟

إننا أحوج الأمم إلى غربلة الأحكام والعادات والموروثات التى تشيع بيننا، ومقاضاتها إلى اليقين من كتاب ربنا وسنة نبينا...!

وأحسب أن هذه الغربلة ستجئ قريبة من النتيجة التى ذكرها الشاعر:

لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا

لما تحصل شئ فى الغرابيل!!

لقد نهانا الله عن إتباع الظنون العائمة، أو احترام الخرافات القائمة.

وأفهمنا أننا مسئولون عن حواسنا حتى لا يفتنها عن الحق خداع، ولا يجرها إلى الباطل تقليد.

(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وقال فى تفكير أهل الكتاب: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا).

وقال فى تفكير عبدة الأوثان (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس).

وقال: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).

ونحن نريد أن يكون الغذاء الروحى والعقلى للأمة الإسلامية نابعا من اليقين، بعيدا عن الأباطيل، مستقيما مع مناهج الاستدلال العلمى التى يحترمها أولوا الألباب...!!

وفى ميدان العلم حقائق بلغت حد اليقين، وفيه نظريات أقرب إلى الرجحان، وتعتبر موضع قبول محدود...!

وكذلك الأمر فى موضوعات الدين.

بيد أننا إذا نظرنا إلى الأوراق المشحونة بما يسمى علوم الدين، وجدنا شيئا كثيرا جدا مما يبرأ منه الإسلام، ولا يعترف به من قريب أو بعيد..

وهذا الخبط ينتقل من صحائفه إلى الناس فيكون بعثرة لقواهم، أو تقييدا لها.

ذلك أنهم ينصاعون إليه لنسبته السماوية، وهو فى الحقيقة مصنوع فى الأرض، ولم ينزل من السماء...!

ولما كانت الحماسة للعمل، والرغبة فى إجادته تتولدان عن العقائد الشائعة، والأفكار العامة.

فمن حقنا أن ننظر: ما الذى يكون هذه العقائد وينشئ تلك الأفكار؟؟

القرآن الكريم

هو كتاب مبارك، خلق من الهباء أمة ضخمة.

واستبقى على القرون جيلا من الناس، ما كانوا ليدخلوا التاريخ أبدا لولا نهوض هذا الكتاب بهم.

وليس فضل القرآن على العرب وحدهم فإن العالم أجمع جنى أكرم الثمرات من هذا الكتاب العظيم، ذلك أن تعاليمه أعادت بناء الإنسانية من جديد، وأزالت ما خلفته القرون الأولى من عوج فى عقلها وفؤادها.

والوجهة التى انساق إليها العالم منذ ظهر القرآن هى التى أنشأت المنطق الحديث، وحررت أساليب المعرفة، وأمكنت من السيطرة على الكون..

ولولا ما شرع القرآن من طرق النظر الصحيح والعمل الطيب لظل العالم يتدحرج مع خرافات الرومان والفرس واليونان حتى يبلغ الحضيض..

ولكن الله- برحمته وبره- أنقذ أهل الأرض من هذا المصير الأغبر.

وأنزل القرآن الكريم ليكون فجرا جديدا على الخليقة، تستأنف فى هداياته سيرا أرشد، إلى غاية أكرم (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما).

هذا القرآن كتاب مبارك..

وبركته تعود إلى غزارة الحقائق التى تضمنها وروعة المنافع التى كفلها..

والمسلمون يشعرون بهذا، غير أن شعورهم يأخذ طريقا مبهما ساذجا يجعل صلتهم به لا تعدو التعبد بالألفاظ، والتوقير المادى للتلاوة المجردة.

وهم ينتظرون الرحمة من القرآن على نحو مستغرب!

يقول الله جل وعز: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) فإذا المسلمون يحسبون الرحمة المرجوة هنا شيئا يفيض من الآيات فى مجلس القراءة، كما تنبعث الحرارة من الموقد أو كما تنسكب المياه من المنبع، ثم يحسبون هذه الرحمة ستعمل عملها تلقائيا فى إسعاد البائسين وإفراح المحزونين.

وهذا تصرف مقلوب، فالرحمة المرجوة من القرآن تجئ من تعرض الناس لمعانيه يلتمسون فيها مخرجا من الحيرة وقرارا من القلق.

تجئ من تأمل القارئ والسامع فى هذه الحكم البالغة التماسا لدواء يتداوون به، أو توجيه ينقادون إليه...!

إنها لا تسيل فى مجالس الأحياء والأموات فتصيب الغافلين وتنال المعرضين، كلا، إن رحمة القرآن الكامنة فيه يظفر بها أهل الوعى والتدبر والعمل.

ولا غناء لمصحف فى جيب، ولا لمصحف معلق على جدار...!!!

ولا غناء فى همهمة قارئ مذهول، ولا مطرق تملأ الأصوات أذنيه، ولا فقه عنده...!!!

والقرآن يبنى الأفراد والأمم بطريقتين، إحداهما أعظم من الأخرى، الأولى صوغ الأنفس على معرفة الله، واستشعار عظمته، والتهيؤ لملاقاته يوم يقوم الناس لرب العالمين...!

والأخرى، الأحكام المحددة التى فصلها، وطلب من عباده إنفاذها سواء فى أحوالهم الخاصة، أم فى شئون الأسرة والمجتمع والدولة...!

وإنما قلنا: إن الأولى أعظم من الأخرى، لأن ضمانات الخير فى مجتمع ما ليس فى قيام بعض التشريعات، أو سيادة طائفة من القوانين الصارمة.!

فربما أمكن احترام القوانين من ناحية الشكل، مع تشعب الفساد فى الباطن...!

والقرآن الكريم يعالج الأمم بما يوفر لها سلامة الجوهر، واستقامة الطبيعة، ومن ثم حفلت السور بفنون لا تحصى من العظات التى تقيم الحياة الباطنية على دعائم من التقوى والخشوع والإخلاص...!

إن مادة القانون الشرعى فى العقوبات الخاصة وشتى الأحكام الجزئية لا تستغرق بضع صفحات.

أما مئات الصفحات الباقية فى القرآن الكريم فهى تستهدف دعم اليقين، وتثبيت شعبه فى أعماق النفوس.

والجيل الذى أنشأه القرآن من أربعة عشر قرنا لا يمتاز بشئ إلا بهذا السناء الذى تخلل جوهره من صدق علاقته بالوحى الأعلى...!

إنه كان طرازا نقيا من البشرية الرفيعة، هبط على الدنيا يومئذ، وكانت ملوثة بركام فوق ركام من الدجل والسخف، والإثم والعدوان، فكان سيلا مطهرا غسل أرجاءها، ودلكها دلكا شديدا، وما زال بها حتى نقاها من رواسب الجاهلية الأولى التى ابتلى بها دهرا...!

أما مسلمو اليوم فصلتهم بالقرآن لا تغسل من نفوسهم درنا بله أن يغسلوا هم أدران الآخرين.

إنهم ـ كما شرحنا آنفا ـ اتخذوا القرآن مهجورا، وأقاموا فى حياتهم حجابا كثيفا بين تعاليم القرآن، وبين ما يدعون وما يشتهون...!

وهذا سر العجب العاجب فى أن محطات الإذاعة بتل أبيب ولندن وباريس وواشنطون...!

تستجيد الأصوات، وتملأ بها الاسطوانات وتديرها على آذان المسلمين، فيستمعون من مشاهير القراء إلى آيات كتابهم!!...!

الكتاب الذى أحيا الأولين، ثم أمسى مفروضا الآن أنه لن يحرك الآخرين...!!!

وإلا فلو علم السادة المذيعون أن هذه التلاوة سوف تنبه غافلا أو تنشط كسولا ما استقدموا لها أحدا، ولا أذاعوا منها حرفا...!

إنهم يريدون تمويت العبيد لا إحياءهم.!!

ذاك مصير الروح القرآنى الملهم البانى.

صرخة فى واد، ونفخة فى رماد..!!

أما مصير الشرائع القرآنية الأخرى، فإن أكثرها معطل، بل أن العمل بأكثرها يعد ـ فى نظر الأجيال التى خلقها الاستعمار ـ نكسة إنسانية، ورجعة إلى الخلف...!!!

وذلك الإهمال المتعمد لجمهرة النصوص أو هى الإعزاز المنتظر لبقيتها.

ولا غرابة! فإن الله إذا قال: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه).

وقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا).

فالأوامر فى الآيتين سواء.

وعندما يتقرر بجراءة وصفاقة هدم بعضها، فإن غبار الهدم سيطوى ما بقى منها.

ولن يتحمس المجتمع لتقوى الله وسداد القول، إذا كان قد قرر فتح حانات الخمور، وأشرف على تسعير أصنافها، وميز الأنواع الفاخرة من الأنواع الرديئة..

حتى لا يغش السكارى.

والخلاصة أن القرآن كتاب مزهود التوجيه، معطل الأحكام فى بلاد الإسلام...!

ولو جد المسلمون معه لكان لهم شأن آخر.

السـنة

لا أدرى لماذا لم تزدهر دراسة الشمائل النبوية، ولماذا لم تشع معرفة السيرة الشريفة بين أنواع العلوم التى احتفى بها الأولون؟؟ كان التاريخ كله علما ثانويا فى مواريثنا الثقافية، وكان موضوعه مجالا رحبا للخرافيين والكذبة!! وكانت حياة الرسول تأخذ جانبا محدودا من هذا التاريخ، ولم يتصد لها من يربط بين فصولها، أو يبرز ضروب الحكمة المستكنة فى مراحلها وأدوارها، أو يشرح حقيقة الأسوة المطلوبة منها...!

كل ما هنالك، جملة من الأحاديث المتفاوتة القيمة، يشرح الحديث منها فى نطاق خاص به، دون محاولة لجمعها فى صعيد متكامل، تستبين منه الصورة الجامعة لخلال النبوة، ومواقفها بإزاء مشكلات الحياة وقضاياها الكثيرة...!

قد تقول: ما معنى هذا الكلام وما غايته؟؟ والجواب أن الكلمات المنقولة عن شخص ما، لها دلالتها التى لا شك فيها.

بيد أنى أحب أن أحاكم هذه الكلمات إلى حياة هذا الشخص، وطبيعة أعماله منذ ولد إلى أن مات...!

فإذا استيقنت من متابعة أعماله أنه كان مجاهدا لا يفتر، رفضت أى كلمة تنسب إلية، وهى توحى بالقعود أو الاسترخاء...!

وأنكرت كذلك على من يتأسى به وهو كسلان خوار، ولو تعلق ببعض النقول المروية عنه، أو أدى بعض الوصايا التى أمر بها يقينا...!

لقد راقبت رجالا وطوائف تتصل بالسنة، وتتدارس أحاديث منها كثيرة، أحاديث لا حصر لها!! ومع ذلك فنصيبهم من الأسوة الحسنة تافه، ذلك لأنهم ربما استوعبوا التفاصيل الجزئية لناحية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذهلوا عن الصورة الكاملة، والمعنى الجامع...!!!

وقد يكون استحضار هذا المعنى الجامع متعذرا مع تشعب التفاصيل التى غرقوا فيها...!

فإن جمال امرئ ما، لا يعرف من تسليط عدسة مكبرة على جزء من جسمه، وإنما يعرف قبل كل شئ من التقاط صورة عامة لملامحه متناسقة مترابطة.

ومن هنا كان لابد من تصوير حياة الرسول للناس تصويرا يهدى بجلاء عبادته وجهاده وخلقه وقضاءه وسلمه وحربه وإقامته وسفره وسلوكه فى بيته ومع الناس...!الخ.

وعلى ضوء هذه الصورة الشاملة يمشى المسلمون.

وهذه الصورة هى حجر الزاوية فى السنة، ومنها تتفرع سائر البحوث التى يعنى بها الأخصائيون وحدهم...!

أما قضاء بضعة شهور مثلا فى قراءة ألف حديث تتصل بأبواب الوضوء، فذاك جهد لا تصلح به حال المسلم من أوساط الناس، ولا تخدم به السنة...!!!

ثم إن حياة محمد صلى الله عليه وسلم هى التطبيق العملى لتعاليم القرآن الكريم، كما أن القرآن الكريم هو الجانب العلمى من هذه الرسالة الشاملة.

ولذلك لا يمكن أن يكون هناك تفاوت بين الكتاب والسنة، أى أنه لا مكان فى السنة لأثر يخالف روح القرآن العامة، أو أحكامه المحددة.

فإذا بدا ما يوهم ذلك فى بعض المرويات فنحن لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول أحد من الناس: إن رسول الله قال كذا أو كذا...!

ويؤسفنا أن تنشر خلال القرون السالفة أحاديث كثيرة كانت بعيدة الأثر فى إفساد تصور العامة لحقائق الدين والدنيا.

بل كانت قيودا ثقالا فى منع الأمة من الحركة، وشل نشاطها النفسى والفكرى، أو تصريفه فى أعمال عديمة الجدوى...!!!

وهذه الأحاديث بعضها موضوع، وبعضها ضعيف، وبعضها صحيح حرفته عن موضعه العقول! القاصرة والأفهام الكليلة...!

فأصبح ضرره أكثر من نفعه...!!!

وكان إقبال العامة على هذه الأحاديث صارفا للهمم عن الاشتغال بالقرآن نفسه.

مع أن القرآن هو الأصل الأول للإسلام..

ومع أن السنن لا تقبل إلا إذا سارت فى اتجاهه، واستقامت مع أهدافه..!!

فإذا فتر أخذ الأمة بكتابها، فقد أضاعت وحى الله وهدى رسوله جميعا..

إن السنن العملية المتواترة مثل القرآن وبيان لما أجمل فيه، أما سنن الآحاد فإن العلماء ـ ليضمنوا مجيئها من لدن الرسول ـ وضعوا لصحتها وقبولها شروطا معقولة:

ا ـ ضبط الرواة.
2 ـ صدقهم.
3 ـ اتصال سندهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه.
4 ـ وكون المتن خاليا من الشذوذ.
5 ـ وعن العلل القادحة.

والشرطان الرابع والخامس لم يلقيا من دقة التنفيذ ما يجب.

فما أكثر الأحاديث التى صحت أسانيدها، ومع ذلك خالفت ما هو أوثق منها..!!

أو حف بها من الشبه ما يقدح فى قيمتها، ومع ذلك تلقاها الناس بالقبول؟ إن القرآن نقل إلينا متواترا كلمة كلمة، ومع ذلك فقد فتحنا صدورنا لروايات آحاد بقراءات شاذة.

لماذا؟ مع أنه يكفى فى إسقاط الحديث عن درجة الصحة مخالفة ما هو أوثق منه.

وكما يجب إعدام هذه الأحاديث، يجب إعدام أى حديث يفيد توجيها غير ما يفيده القرآن الكريم..

وهناك علل تقدح فى متن الحديث ولو صح سنده.

لقد أنكر الشيخ محمد عبده أحاديث سحر الرسول ـ وإن كانت من رواية البخارى ـ لأنها غضاضة غير لائقة بمكانة النبوة...!

ولو ساغ أن هذا التخييل يؤثر فى النفوس الضعيفة فكيف يقوى يهودى على التأثير فى أقوى نفس بشرية وهى نفس الرسول صلى الله عليه وسلم!

وما معنى القول أن هذا التأثير فى أعضائه لا فى روحه مع أن السحر يعتمد على قوى خفية فى زعم مثبتيه لا على وسائل مادية.

وإذا صح هذا فلم لا يصح قول المشركين: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا).

الحق أن السلف كانوا أحسن منا فهما للإسلام، وعملا به، ووعيا لأصوله.

ونحن لن نبلغ مبلغهم من العلم إلا إذا رزقنا من أصالة الفقه مثل ما رزقوا وبهذا تسترد السنة مكانتها الأولى.

إن فى السنة كنوزا من الحكمة والمعرفة، وزادا من الأدب والتقوى، ولكن استخراج هذا الخير يحتاج إلى اليد الصناع والعين البصيرة.

الفـقه

الفقه الإسلامى محيط بالحياة الإنسانية من ألفها إلى يائها.

فمنذ يستهـل المرء صارخا، يتعرض الفقه لولادته، وحضانته، ونفقته، وطهر والدته، وحقوقه على أبيه، وعلى المجتمع.!

وعندما ينقضى أجله ويتجه إلى الدار الآخرة، يتعرض الفقه لموته، وغسله وكفنه، وميراثه، وسائر شئونه الأخرى.

وبين حياته ووفاته يتصل الخطاب الإلهى بما يدع وبما يصنع، مفصلا أنواع الحلال والحرام، ومختلف الحقوق والواجبات..

فلا تكاد ناحية من سلوكه الخاص والعام تند عن عناية الشريعة وهداياتها..

إن الفقه الإسلامى يشمل أحكاما فوق الحصر.

وقوانينه الضابطة للأعمال ـ كما تناولت الفرد فى خاصة نفسه ـ تناولت الدولة فى أعم أمورها، حتى يكون إشراف الدين على الإنسان محكما لا ثغرة فيه.

والينبوع الدافق بهذه الأحكام العتيدة والمتجددة، ينجبس من كتاب الله وسنة رسوله.

وقبل أن نشرح طبيعة هذا الفقه، وصلاحيته المطلقة لتزكية الحياة وتنميتها وتطهير الإنسانية وترقيتها، نحب أن نومئ فى إيجاز إلى ظاهرة هامة فى ماضينا الفقهى الطويل لا يفهمها بعض الناس..

إن النصوص والقواعد التى تعتبر دعائم هذا الفقه محدودة يمكن استيعابها.

لكن أساليب الاجتهاد فى تنزيل صور الحياة عليها، ووزن أعمال المكلفين بها، هى التى وسعت دائرة الفقه توسعة لم يكن منها بد.

وقد بدا الاجتهاد الفقهى مع ابتداء الإسلام نفسه.

واختلفت أحكام كثيرة مستفادة من النصوص، أو مبنية على قواعد الإسلام العامة..

ولم يكن محيص من هذا الاختلاف، فإن تفكير البشر ليس على غرار واحد، وتباين الأنظار فى القضية الواحدة شئ مألوف مطرد..

ربما نشأ الخلاف من طبيعة التفكير الإنسانى عند هذا وذاك.

فمن الناس من تجده حرفى المنزع فى حكمه وأدائه.

ومنهم من يتوسع فى فهمه وفق ما يرى من حكمة، ويبصر من غاية..

وليس هذا الاختلاف عن ذكاء وغباء، كلا، إنه المزاج العقلى لأصناف الناس سوف يبقى معهم ما بقى العمران..

وربما نشأ الخلاف من طبيعة الكلام المنقول عن الله ورسوله، فإن القرآن حمال أوجه، وفى السنن والأسانيد التى رويت بها كلام طويل..

والذى يعنينا بعد هذه اللفتة أن نقرر ما يلى:

ا ـ أن ثمرات الاجتهاد الفقهى الصحيح متساوية القيمة.
2 ـ وأنه لا معنى لصبغ بعضها بصبغة القداسة، فهى جميعا اجتهاد قد يخطئ وقد يصيب.
3 ـ وأنه لا معنى لإلزام الآخرين باجتهاد أحد، أو تخليد هذا الاجتهاد واعتباره كأنه الإسلام نفسه.

ويؤسفنا أننا تورطنا فى أخطاء علمية كثيرة تركت أسوأ الأثر فى حاضرنا الفقهى، وكبلته بقيود شنعاء: .

فقد تنوسى اجتهاد حسن لفقهاء لا يقلون مكانة عن الأئمة الأربعة المشهورين.

وطويت آراء لا ينقصها التفكير الجيد ولا الإخلاص البين.

وفرض على الناس أن يحتبسوا داخل النطاق الذى رسمه الفقه التقليدى السائد لهؤلاء الرجال الذين اشتهرت أسماؤهم فقط.

ثم نظر إلى بقية الفقهاء نظرة ازدراء أو خصومة...!!!

ومن ثم حرم العالم الإسلامى دهرا من النظر فى فقه ابن حزم وابن تيمية وابن القيم.

ومن قبل تجوهل الليث والأوزاعي وجعفر والطبرى وزيد وغيرهم.

بل إن فقه المذاهب الأربعة لم يدرس عن أصحابه الكبار، فتسرى حريتهم الذهنية إلى الأتباع المعجبين، بل درس فى كتب رديئة التأليف والإخراج.

  • تعصب مقلدو المذاهب الفقهية لما لديهم، وأضفوا عليها قداسة ورهبة، وكأن كلام الواحد من هؤلاء الأئمة المتبوعين مشابه لكلام الله ورسوله.

ونسوا أن اجتهاد أى إمام لا يعدو أن يكون رأيا فى فهم النصوص، أو طريقة فى تنزيل الحوادث المستجدة على أحكام الإسلام المعتمدة.

ورأى إنسان ما، أو طريقته فى الإدراك، لا عصمة لها ولا قداسة..

إنما العصمة لكلام الله ورسوله..

وليس لمجتهد أن يغضب من نقاش، ولا أن يحاول إلزام الناس كافة برأيه.

  • انقسم المسلمون فرقا وراء هؤلاء الأئمة، كل فرقة تتبع أمامها الذى اختارته، وتشايعه فى كل ما نسب إليه.

وهذا غلط! فالأصل أن يتبع الإنسان الحق الذى يظهر له فى أى مسألة...!

وقد يلتقى مع هذا الإمام فى رأى، ويلتقى مع ذلك الإمام فى رأى آخر..

أما التزام الاتباع المطلق فى كل شىء لفقيه واحد، فهذا عوج ظاهر.

ولكن المستغرب فى مواريثنا الفقهية أن رجال القرون الأخيرة ضاعفوا الحجب بين إمام وإمام، وفقه و فقه!! وحرصوا على استدامة الفوارق بين جماهير المقلدين، حتى لكأنهم أتباع عدة شرائع لا أبناء دين واحد..

  • مع أن الزمن لا يقف..

ومع أنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور...!

ومع أن الجماعة الإنسانية تدخل فى أطوار متباينة من ناحية العلاقات الدولية والأوضاع الإدارية والاقتصادية والسياسية.

ومع ضرورة بقاء الدين مهيمنا على توجيه القافلة السائرة.

مع هذا كله، فإن التفكير الإسلامى الفقهى توقف فى أغلب ميادين المعاملات، إن لم يكن جمد فيها كلها...!

وأغلقت أبواب الاجتهاد بضعة قرون، حتى انكسرت أخيرا تحت ضغط الحاجات الملحة..

وصحب انكسارها فوضى منكرة فى الفهم والتطبيق.

وليس العيب على من صنعوا هذه الفتوق، إنما العيب على من يريدون بمواتهم الأدبى والخلقى والفكرى أن يقودوا قافلة الإسلام فى هذا العصر الموار..!!

لقد بلغ من حدة التعصب المذهبى أن بعض الشيوخ لا يبالى ـ فى سبيل نصرة بعض الآراء الفقهية ـ بتنصير قوانين الأحوال الشخصية.

ولا يعنيه استنقاذ الأسر الإسلامية من أحكام الطلاق المدمرة التى لا تزال تدرس فى جامعة الأزهر..!!

فلما أفتينا بما يراه بعض الأئمة من أن طلاق الحائض لا يقع، وأن الطلاق المعلق لا يقع، غضب...!

وقال: تلك مذاهب فقهية بائدة...!!!

قلت: من الذى أبادها؟؟ إنها أولى بالحياة الآن من المذاهب التى تدرسون.

بل إننى أفتى بأن الطلاق دون شهود لا يقع، ويعجبنى فى هذا فهم الإمامية للآية الكريمة (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم).

وما رواه أبو داوود فى سننه من أن الإشهاد على الطلاق سنة الإسلام...!

ويحزننى أن أقول: أن هذا الجمود المذهبى أعمى أصحابه عن مصلحة الإسلام نفسه...!!

وأن بعضهم ليرى القوانين الغربية الكافرة تطبق فى أكثر من ميدان، فلا يجرع، فإذا قيل له: أن المذهب الإسلامى لفلان الفقيه القديم سيطبق، دارت عينه من الرعب..

لماذا؟ إنه التعصب الغبى.

وقديما كانت النصوص من الكتاب والسنة تؤول أحيانا لمصلحة المذهب الفقهى بدل أن يغير المذهب تبعا لها..!!

إن الأعصار الأولى للفقه الإسلامى حافلة بالرائع المعجب..

ولو أنقذنا من البلى ما خلفه الرواة والباحثون لوجدنا أنفسنا أمام نقول وأفهام تستحق الإجلال كله...!

والواجب أن نستحيى هذا التراث التليد، وأن ندرس الأئمة الأربعة وأضرابهم من الفقهاء، ومن يلى طبقتهم من المفكرين...!

وأن نمحو ـ بكل حماس وقوة ـ أى تعصب لمجتهد من المجتهدين...!

يجب أن نقدرهم جميعا، وأن نجيل الطرف فى أفهامهم كلها، لننتفع بما استطعنا منها...!

وحرية التقليد متروكة لمن يقتفى آثارهم كلا أو بعضا..

كما أن حرية الاجتهاد مكفولة لمن يطيق الأخذ المباشر عن الله ورسوله..

إن الحالة التى آل إليها الفقه الإسلامى آذت المسلمين، وشلت نماءهم، ومكنت الغزو الثقافى من اجتياحهم، وهجمت عليهم بألوان من الفكر القانونى أوهت صلتهم بالإسلام نفسه، وجعلتها توشك على الانقطاع والضياع...!

وأرى أن نلقى شعاعا على طبيعة التفكير الإسلامى فى هذا المجال، ليستبين القارئ مواطن الصلابة والمرونة فيه، فيعرف أين يستحب الوقوف، وأين تجمل الحركة!! قال الشيخ محمد المدنى: " إن الشريعة الإسلامية لها ميادين ثلاثة فى حياة الناس تصول فيها وتجول، ولها فى كل ميدان من هذه الميادين أسلوب يختلف عن أسلوبها فى غيره.

أما الميادين الثلاثة فهى:

ا ـ ميدان العقائد.
2 ـ وميدان العبادات.
3 ـ وميدان المعاملات.

وأما أسلوبها فى كل ميدان من هذه الميادين فهو على الترتيب:

ا ـ أسلوب المخبر الواصف.
2 ـ وأسلوب المنشئ المجدد.
3 ـ وأسلوب الناقد المهذب.

بيان ذلك:

ا ـ أن العقائد ـ التى يفرض علينا الدين أن نؤمن بها ـ ما هى إلا حقائق ثابتة فى نفسها، لها وجود واقعى، وهى تفترق فى هذا عن المبادئ والأحكام التى هى من قبيل الإنشاء، والتى تشرع للناس بعد أن لم تكن، وتتغير أحيانا بتغير الزمان والمكان، وتقبل النسخ فى عهد الرسالة.

وإذا أردنا أن نعبر عن هذا المعنى بالعبارة الفنية عند علماء الأصل قلنا: إن العقائد من باب الأخبار، والأخبار لا تقبل النسخ، لأن النسخ هو الإزالة والتغيير، والواقع يخبر عنه أو يوصف، ولكنه لا يغير ولا يرفع.

فالألوهية وصفاتها حقائق ثابتة، والرسالة والوحى والكتب السماوية حقائق ثابتة.

والبعث بعد الموت، والحساب والثواب والعقاب حقائق ثابتة.

والجنة والنار، والنعيم، والعذاب، كل ذلك حقائق ثابتة، ليس للدين فيها دور يقوم به إلا دور الكشف عنها، والاستدلال عليها، والاقتناع بها، فلا هو بالذى أنشأها، ولا هو بالذى يبدلها أو يزيلها وينسخها.

ومن هنا قالوا: أن العقائد لا تقبل النسخ.

ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان.

ولا يسوغ أن تكون محل اجتهاد.

2 ـ أما العبادات فهى تختلف عن العقائد فى أنها انشاءات أنشأها الله تعالى، ورسم حدودها، وهيأها على صورة خاصة، وطلب من عباده أن يعبدوه بها.

فالصلاة عبادة منشأة مؤلفة من أفعال خاصة وأقوال خاصة على ترتيب خاص.

والصيام امساك عن الطعام والشراب وجميع الشهوات فى زمان مخصوص.

والحج مناسك معينة لها رسومها وأوقاتها وأمكنتها وأركانها وشروطها...!

وهكذا..

ومن الواضح أنها ليست كالعقائد: أى ليست حقائق واقعية، مهمة المشرع أن يكشف عنها، وإنما هى صور ركبها وهيأها ورسمها وأنشأها بعد أن لم تكن.

وهذا محض حقه باعتباره هو الإله المعبود، فمن حقه أن يشرع لعباده ما يعبدونه به، وعليهم أن يرجعوا إليه فى معرفة ذلك كما وكيفا ومكانا وزمانا.

ولهذا يقول أهل الشريعة فى احدى قواعدهم المشهورة: " لا يعبد الله إلا بما شرع ".

فالأصل فى العبادات والقرب أنها ممنوعة حتى يرد من الشارع ما يدل على طلبها، ويبين لنا هيآتها ورسومها الخاصة، ولا يجوز لأحد أن يؤلف عبادة من عنده، أو يتصرف فى صورة من صور العبادة المشروعة، ثم يعبد الله بذلك، وفى هذا يقول القرآن الكريم ناعيا على المشركين: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله).

وبهذا الأصل أبطلت البدع فى الدين والعبادات وما يتصل بها، فكل من أراد القربة فعليه أن يتقرب إلى الله بما شرعه الله، ومن تقرب إليه بما لم يشرعه ـ ولو كان مظهره طاعة وقربة ـ فإنه مبتدع متلاعب بالدين.

ومثل ذلك كما لو قال قائل: سأصلى الظهر خمسا بدل أربع، أو أصلى المغرب أربعا بدل ثلاث، أو أجعل الركعة الواحدة ذات ركوعين بدل ركوع واحد، أو اتجه إلى بيت المقدس، أو إلى المدينة بدل اتجاهى إلى الكعبة، أو أصوم شعبان بدل رمضان، أو نحو ذلك، فكل هذا افتئات على الدين وعلى حق المعبود فى أن يرسم طقوس عبادته، ولا يرتضى سواها.

3 ـ وأما موقف المشرع فى ميدان المعاملات، فإنه يختلف اختلافا جوهريا عن موقفه فى كل من ميدان العقائد وميدان العبادات.

إن الشريعة ليست هى التى أنشأت للناس صور التبادل والتعاون والتعامل، ولكنها جاءت فوجدت صورا يتعامل بها، فكان لها موقف منها، غير موقف الإنشاء والرسم، وغير موقف الإخبار والوصف، وذلك الموقف هو الإقرار، أو التعديل، أو الإلغاء، وهو الذى سميناه فى أول هذا البحث: " أسلوب النقد المهذب ".

وهى لا تتدخل فى هذا الميدان إلا بمقدار ما تحمى مثلها ومبادئها التى جاءت بها: من العدل، والتيسير، والرحمة، ودفع أسباب التشاحن والبغضاء، وربط أفراد المجتمع برباط من المحبة، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ".

إذن فالعلماء البصيرون بالإسلام، الفاقهون لمقاصده وغاياته، عليهم أن يمسكوا بدفة التشريع العام، وأن يسنوا من القوانين الملائمة للعصر ما يتمشى مع طبيعة ديننا ويوافق مثله العليا...!

ولهم أسوة بالأئمة الأولين، فقد أشبعوا حاجات العصور التى عاشوا فيها، بل بلغ من رسوخهم فى الفقه والفتوى أن تصوروا أمورا خيالية وحكموا فيها باسم الإسلام...!

فكيف يعجز فقهنا اليوم عن توجيه الواقع وكشف غمته!؟ ذلك..

والفقيه المسلم فى قيادته للجماعة أشبه بربان الباخرة.

إنه قد يأمر بالاتجاه يمنة أو بالاتجاه يسرة، لا لأنه مغرم بالتناقض، بل لأن التيار الذى يواجهه يقتضيه الانحراف هنا أو هناك..

وهذا سر ما روى أن بعض الأئمة أفتى فى الأمر الواحد بفتويين مختلفتين.

إن الأصل الذى صدر عنه واحد، وان اختلف التشريع وتباينت الفتوى.

قال الإمام الشهيد فى رسالة له: " دعوت قومى أن يختاروا، أو بعبارة أصح وأوضح، أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم، فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية فى كل مظاهرها على قواعد الإسلام الحنيف.

وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطراب والبلبلة التى شملت كل شئ، والتى وقفت بنا عن كل تقدم، والتى حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة فى الداخل والخارج ـ وقلت: إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملا، بكل ما نستطيع من حزم وسرعة.

وقد يقال: كيف ذلك والحياة العصرية فى العالم كله لا تقوم على أساس الدين فى أية ناحية من نواحيها؟ بل لقد اصطلحت أمم العالم ـ التى بيدها اليوم مقاليد الأمور وتوجيه مقدرات الأمم والشعوب ـ على فصل الحياة الاجتماعية عن العقائد الدينية، وإقصاء الدين عن كل مرافق الحياة، وحصره بين الضمير والمعبد، فهما وحدهما نافذة المؤمنين التى يتصل منها بالله.

والذين يقولون هذا القول لم يعرفوا " الإسلام ".

ولم يدرسوا تعاليمه وأحكامه.

ولم يفقهوه ـ بعد ـ على طبيعته الصحيحة، ووضعه السليم.

من أنه دين ومجتمع.

ومسجد ودولة.

ودنيا وآخرة.

وأنه تعرض لشئون الحياة الدنيوية العملية بأكثر مما تعرض للأعمال التعبدية، وأنه قد أقام الشطرين معا على دعامة من سلامة القلب، وحياة الوجدان، ومراقبة الله، وطهر النفس.

فالدين ـ على هذا ـ جزء من نظام الإسلام، والإسلام ينظمه بهما ينظم الدنيا تماما، ونحن كمسلمين مطالبون بأن يقوم ديننا ودنيانا على أساس القواعد الإسلامية: (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).

ومن هنا فرق الفقهاء ـ فى النظرة التشريعية ـ بين ما هو من قواعد وأحكام العبادات والعقائد، وما هو من قواعد وأحكام المعاملات وشئون الحياة الاجتماعية، فأفسح النظر والاجتهاد فى الثانية ما لم يفسح فى الأولى، حتى لا يكون على الناس فى ذلك حرج ولا مشقة: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

وقد يقال: إن هذا جمود، ورجوع بالعالم إلى الوراء ألف عام أو تزيد...!

فكيف يعقل أننا نطبق اليوم نظما جاءت لأمة عاشت قبلنا بأربعة عشر جيلا، وفى أرض غير أرضنا، وعلى لون من ألوان الحياة غير ألوان حياتنا!! وأين سنة التطور، وقوانين التقدم والارتقاء!! ونقول لهؤلاء كذلك: إنكم لم تفهموا طبيعة الإسلام الحنيف الذى جاء للناس "فكرة سامية " تحدد الأهداف العليا، وتضع القواعد الأساسية.

وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورط فى الجزئيات.

وتدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطورات الحيوية أن تفعل فعلها، وتتسع لها جميعا، ولا تصطدم بشئ منها.

وإذا كان تاريخ التشريع الإسلامى يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتى فى الموسم فى القضية من القضايا برأى، ثم تعرض عليه فى الموسم الثاني من العام القابل، فيفتى برأى آخر، فيحدث فى ذلك، فيقول: ذاك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم.

كما يحدثنا أن الشافعى ـ رضى الله عنه ـ وجمع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد نزولا على حكم البيئة وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة، من غير أن يخل بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الإسلامية الكلية الأولى.

وأصبحنا نسمع: قال الشافعى فى القديم، وقال الشافعى فى الجديد.

أن نرى تغير رأى الرجل الواحد فى القضية الواحدة بحسب الزمان تارة كما فعل ابن عمر.

وبحسب المكان تارة أخرى كما فعل الشافعى.

أو بحسبهما معا، كما سمعنا أن عمر رضى الله عنه أمر بعدم القطع فى السرقة عام المجاعة.

وجاءه رجل يشكو سرقة خدمه، فأحضرهم فأقروا وذكروا أن سبب ذلك أنه لا يقوم بكفايتهم من طعام وملبس...!

الخ، فتركهم عمر، وتوعد الرجل قائلا: إذا سرق خدمك مرة ثانية قطعت يدك أنت.

واعتبرها شبهة تدرأ الحد، ولاحظ الظروف والملابسات.

فهل يقال بعد هذا: أن فى الرجوع إلى النظام الإسلامى رجعية وجمودا.

وليست فى الدنيا شريعة تقبل التطور، وتساير مقتضيات التقدم، وتتمتع بمعانى المرونة والسلامة والسعة كشريعة الإسلام الحنيف.

(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).

العقائــد

الكلام عن أركان الإيمان مبسوط الأطراف فى كتاب الله وسنة رسوله.

وهو كلام يمتاز بالوضوح والجمال، ومن هنا تجاوب مع العقل والقلب، وفتح له الإنسان أقطار فكره وعاطفته...!

والواقع أن حديث القرآن الكريم عن الله جل شأنه لم يتسم فقط بالصدق العقلى، وقوة الحقيقة التى تتساقط من حولها الشبهات، بل اتسم أيضا بصفاء الجوهر، صفاء يستهوى الأفئدة ويشوق الأنفس.

ولذلك كان الجيل الأول الذى اعتنق الإسلام يؤمن بالله الواحد إيمانا راسخا، ويحبه حبا عميقا..

كان يفقه وحدانيته عن اقتناع لا ريب فيه.

وكان يقتفى مظاهر هذه الوحدانية فى أرجاء الأرض والسماء وما بينهما، فيبهره الجمال الإلهى المسكوب على كل شئ.

ثم كان يطبق منطق هذا التوحيد الأعلى على علائقه بأصناف الناس، فلا يرغب ولا يرهب، ولا ينكص ولا يجرؤ إلا بوحى من إيمانه الخالص...!

والأمة التى تنبعث عن عقائد متغلغلة الجذور فى كيانها لا تعرف وهنا ولا هوانا.

وكذلك عاش أسلافنا وساروا، وشادوا حضارتهم، وأعلوا البناء.

كان إيمانهم بالله يندفع مع الدماء فى عروقهم ويختلط مع الهواء فى زفيرهم وشهيقهم.

وكان تصديقهم بالقدر وقودا يجعل لزحوفهم قوة الإعصار، فما تردهم عقبة، ولا تثنيهم خسائر، ولا يذهلهم عن غاياتهم ترح أو فرح.

وكان انتظارهم لليوم الآخر كانتظار الموظف يوم ترقيته إلى الدرجة التى يشتهيها، أو المكان الذى يحب...!!!

لقد كانت العقائد الإسلامية تجديدا للحياة الإنسانية كما يجدد دم المنزوف المشرف على الهلاك، بمقادير زائدة تمسك فيه الروح، وتعيد إليه الأمل.

ذلك أن العالم كادت تخمد أنفاسه تحت ضغط عقائد لحمتها وسدادها الباطل، ما جنى منها فى الماضى وما يجنى منها فى المستقبل إلا الدوار والدمار..!!

ثم تعكر صفو هذه العقائد بالفكر الأجنبى الذى أقحم على الحياة الإسلامية وبضروب الجدل التى زجى بها المتبطلون أوقات الفراغ..

وعندى أن الفلسفة اليونانية وما أشبهها من تخمين عقلى فى الإلهيات كان حقنة مسمومة لتراثنا الدينى النظيف.

ولولا ما فى هذا التراث من أصالة ومنعة لذوى وانقضى، كما تلاشت ديانات سابقة فى دوامة التخريف البشرى القديم.

لكن العقائد الإسلامية اعتلت حينا، وغام وجهها، وتحولت كتبها إلى صور ذهنية، ومهاجمات كلامية عنيفة، أثر ذلك الاختلاط بالفلسفات الأجنبية.

ولا شك أن عظمة الجانب العقلى فى الإسلام رجحت جانبه فى كل اشتباك، وأغرت علماء المسلمين بصياغة علوم العقيدة صياغة منطقية صناعية لا تنقصها الدقة ولا يبعد عنها النصر.

والأعداء والأصدقاء يعلمون أن الإسلام لا يغلب فى ميدان الفكر الحر، وأن عقائده تقوم على أعمدة عقلية لا يهزها زلزال أبدا.

بيد أن تحول العقيدة إلى نقاش، وأخذ، ورد، أو هى صلتها بالقلب، وبالخلق، مما جعل الأئمة الأولين يسارعون إلى العودة بها نحو قواعدها الأولى..

أى يرجعونها إلى ما امتازت به من صفاء وجمال.

ومرت الأعصار ودراسات العقيدة تنتظم حينا وتكبو أحيانا.

حتى أظلت العالم الإسلامى هذه الأيام العجاف فإذا علوم العقيدة تستخفى من الحياة العامة.

وإذا هى فى الجامعات الدينية متون مبهمة، وأفكار نائية، وحوار انقضى أوانه، وعرض لأركان الإيمان يشينها ولا يزينها..!!

وإقامة أمة بلا عقائد كإقامة بيت بلا دعائم، عبث لا غناء فيه...!

(أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ..)

وما قيمة إنشاء أجيال فارغة القلب من الإيمان، أو أجيال تلتقط غذاءها الروحى من كلمة عابرة، أو عظة طائرة؟؟ إن بناء الأمة على عقائدها الدينية يحتاج إلى دراسة منظومة، وتعهد مستمر، وعودة إلى مصادر الإسلام الأولى من كتاب وسنة، مع استبانة ما يتطلبه العصر الحاضر من لفتات خاصة به وسياقات تلائمه...!

كما يحتاج هذا البناء إلى احترام شارات العقيدة فى جميع الأعمال والمناسبات والتواصى بإنفاذ هداها دون تردد، فى أى اتجاه شعبى أو رسمى، مادى أو أدبى، داخلى أو خارجى...!

إن أعداء هذه الأمة الذين كادوا لها فى التاريخ القديم، وما زالوا يأتمرون بحاضرها ومستقبلها فى التاريخ المعاصر، يودون من صميم أنفسهم لو يوهنون إيمانها، ويضعفون قبضتها على عقائدها..

وهم يعرفون أن الطريق إلى هذه الغاية شاقة، يقطع السائر بعض مراحلها وقد عراه اللغوب..

فإذا جئنا نحن وأضعفنا صلتنا بهذه العقائد كما يبتغى الملحدون الحمر أو البيض فهل نكون إلا أعوان أعدائنا على أنفسنا؟ أى أن ننتحر بأيدينا قبل أن يصل إلينا الأعداء الحاقدون..!!

إن العقائد الإسلامية هى الركائز لوجودنا الاجتماعى والسياسى.

وهى ـ من قبل ـ الركائز لكياننا الخلقى.

فإذا تخرجت ألوف مؤلفة من المدارس والجامعات، وهى خالية الفؤاد من العقائد الدافعة، فليس معنى هذا إلا تخريج أصفار لا وزن لها ولا خطر.

بل إن الأفئدة الخالية من الإيمان بالله ورسوله لن تلبث إلا قليلا حتى تمتلئ بالعقائد الباطلة والخرافات السمجة، والانطلاقات الحمقاء، وبذلك تكون وبالا على ماضينا وحاضرنا (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

منذ بداية القرن العشرين أقيمت فى أنحاء العالم الإسلامى أجهزة عمرانية ضخمة، لم يبال المستعمرون بإقامتها لأنها كانت أشبه بمئات من المصابيح المعلقة فى شبكة كهربائية مقطوعة عن التيار.

ما قيمتها وما جدواها؟ كذلك مشروعات التقدم المدنى والعسكرى التى سمحوا بها، والتى أتمت ومهدت فى كل ناحية!! لقد أذن الاستعمار بها، ولكنه لم يأذن قط بتكوين الروح الذى يحركها..

لم يأذن أن تتصل بالعقيدة التى تنيرها كما تتصل الأسلاك بمولد القوة..

فماذا أفدنا؟؟ (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).

ألا فلنعلم أن فقدان العقائد المثيرة، والأهداف الرفيعة، معناه خسارة كل شئ، وأن ما تحفل به أيدينا إنما هو هباء لا يساوى شيئا...!

التخلف في الكشوف المادية

كان حريا بنا ـ نحن المسلمين ـ أن نكون أسبق أهل الأرض إلى التمرس بعلوم المادة والبراعة فى فهمها والنفاذ إلى أسرار الكون من خلالها..

ذلك أن قرآننا هو الكتاب الفذ فى العالم الذى يلح على قرائه أن يفكروا ويعقلوا وينقلوا أنظارهم بين فجاج الأرض وآفاق السماء..

أجل...!

إنه الكتاب الفذ الذى يجعل الإيمان أول نتائج العلم، والذى يحض على النظر فى عالم النبات والحيوان والجماد، لأنه لا يخشى عقبى هذا النظر، بل يرى أن هذا النظر أداة لمعرفة الله وخشيته...!

والمنطق الحديث الذى نهض على مهاده صرح العلم المعاصر لا يطلب من أولى الألباب أكثر من هذا النظر الدقيق والفكر الوثيق..

ولأمور كثيرة لم يستقم تاريخنا على هذا المنهج، فقد بدأ أول أمره حصيفا فيما يأخذ ويدع، حذرا فيما يكذب ويصدق.

ثم ضلله الاشتغال بالفلسفات الدخيلة، فاستهلك قواه فى بحوث ما وراء المادة، وهو إنما أمر بالبحث فى المادة لا فيما وراءها...!

ثم زاده خبالا أنه خلط بين مناهج البحث فى عالم الغيب والشهادة، فلم يرجع بعد عناء طويل إلا بما يضر ويسئ...!

ولنشرح هذه النقطة، فمصادر العلم الإنسانى ينبغى أن تكشف بجلاء، حتى لا نخلط بين بعضها والبعض الآخر..

إن شئون الدنيا وعلوم الحياة مصدرها الأول والآخر العقل، والسمع، والبصر...!

أما علوم الشريعة وحقائق الأمور الإلهية والأخروية فمصدرها الأول والآخر هو الوحى الأعلى.

أى أننا فى هذا النوع من العلوم يكفى أن نستوثق من أن الله قال، أو ألهم نبيه المقال، لنعد ما وصل إلينا عن هذا الطريق علما.

وذلك منهج فى المعرفة يخالف الأسلوب الذى نستقى به المعارف المادية ولا مساغ للخلط بين المنهجين..

وعندما نقول: إنه لا خلاف بين العلم والدين، فنحن نعنى أن القرآن يستحيل أن يتضمن غلطا فى حقيقة كونية وصل إليها العلم.

ذلك أن قول العاقل لا يخالف عمله.

ولما كان الذى أجرى السحاب هو الذى أنزل الكتاب، ولما كان خالق العالمين هو الذى أوحى ذلك القرآن الكريم، فإنه من الممتنع أن يصف خلقه فى وحيه بغير الحق.!!

واستقامة آيات القرآن مع حقائق العلم لا يفيد أن الرواية والنقل مصدران للعلوم المادية أو البحوث الكونية، فإن لتلك العلوم والبحوث أسبابها التى تنشأ عنها وتنمو...!

ولعل ذلك يشهد له ما رواه مسلم عن رافع بن خديج قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: شيئا كنا نصنعه فى الجاهلية.

فقال: لعلكم لو لم تصنعوه لكان خيرا.

فتركوه، فنفضت ـ لم تثمر ـ فذكر له ذلك.

فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشئ من أمر دينكم فخذوا به.

وإذا أمرتكم بشئ من رأيى فإنما أنا بشر...!

وفى بعض روايات الحديث " أنتم أعلم بشئون دنياكم.. ".

ومهما كانت الروايات فنحن نقطع بأن العلوم المادية مصدرها التجربة والملاحظة والاستقراء...!

الخ.

وأن ما وراء المادة لا مصدر له إلا الوحى الصادق.

وأن مزج هذه بتلك فى المقدمات والنتائج خرق فى الرأى..

ومع ذلك فإن المرء تملكه الحيرة البالغة لأن المسلمين فى القرون الأخيرة تداولوا بينهم حقائق فى العلم المادى لا تعتمد على حس ولا فكر..

ربما اعتمدت على مرويات باطلة، أو على توسع ردئ فى بعض أخبار الآحاد، أو على وضع آيات القرآن وسط تفاسير مكذوبة واستغلال التسليم بصدق الآيات فى التسليم بما انضاف إليها من شرح مفتعل..

وقد تولد عن هذا فساد عريض فى المعارف الذائعة بين الناس.

وانهارت قاعدة الأسباب والمسببات.

وفقدت الأشياء خصائصها فى أذهان العامة.

وأضحوا يصدقون الدجل والشعوذة والأخيلة السخيفة.

وقد تفتح كتابا فى علم التوحيد فتقرأ فيه أن فلانا طار من المشرق إلى المغرب بقدميه..!!

وأن فلانا بال على حجر فانقلب ذهبا...!!!

وأن فلانا عصر طعام أحد الظلمة فتقاطر منه الدم..!!

، وأن، وأن.. الخ.

ومن عدة قرون والعلوم المادية عندما تحكمها هذه الأوهام، فهى تتدحرج من سئ إلى أسوأ حتى أمست فكرتنا عن الكون منحطة إلى أقصى درك.

ومنذ أيام فتحت كتابا يتداوله العامة عن قصص الأنبياء، فوجدت فيه جملة من الخرافات المزعجة، لم يحزننى منها إلا ما تضمنته من آيات القرآن العزيز.

كأن هذه الآيات جواهر فى الوحل..!

وأنى إذ أثبت فقرا من هذا الكتاب فلأنه يشير إلى نوع من التصور المخبول ساد بلادنا حينا، والإسلام برئ منه...!

قال المؤلف شارحا كيف بدأ الله الخلق: " ذكر الرواة بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، أن الله تعالى لما أراد أن يخلق السموات والأرض خلق جوهرة قدرها أضعاف طباق السموات والأرض.

ثم نظر إليها نظرة هيبة فصارت ماء.

ثم نظر إلى الماء فغلى، وارتفع منه زبد ودخان وبخار!! وأرعد من خشية الله، فمن ذلك اليوم يرعد إلى يوم القيامة!! وخلق الله من ذلك الدخان السماء فذلك قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان).

أى قصد وعمد إلى خلق السماء وهى بخار.

وخلق من ذلك الزبد الأرض فأول ما ظهر من الأرض على وجه الماء "مكة".

فدحا الله الأرض من تحتها فلذلك سميت أم القرى ـ يعنى أصلها.

وهو قوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها).

ولما خلق الله الأرض كانت طبقا واحدا ففتقها وصيرها سبعا، وذلك قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما).

ثم بعث الله تعالى من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعهما على عاتقه.

إحدى يديه فى المشرق والأخرى فى المغرب باسطتين قابضتين على قرار الأرضين السبع.

فلم يكن لقدميه موضع، فأهبط الله تعالى من أعلى الفردوس ثورا له سبعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمى الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه.

فأحضر الله ياقوتة..

خضراء من أعلى درجة من الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة عام، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه.

وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض وهى كالحسكة تحت العرش.

ومنخر ذلك الثور فى البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا.

فإذا تنفس مد البحر، وإذا رد نفسه جدر.

ولم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة خضراء غلظها كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها.

وهى الصخرة التى قال لقمان لابنه: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله).

روى أن لقمان لما قال هذه الكلمة، انفطرت من هيبتها مرارته، ومات وكانت آخر موعظته...!!!

فلم يكن للصخرة مستقر فخلق الله نونا، وهو الحوت العظيم اسمه " لونيا " وكنيته "يلهوت" ولقبه " بهموت " فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال: قال: والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة وثقل الدنيا وما عليها حرفان من كتاب الله تعالى: قال لها الجبار: ص نى.

فكانت.

فذلك قوله عز وجل: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون).

هذا ما كتبه المؤلف الكذاب عن بداية العالم- وصدق الله العظيم: (ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متخذ المضلين عضدا).

التقط الآيات الكريمة من بين هذا الكلام الغث، ثم تأمل فيه وسل نفسك: من أين أتى الرجل بهذا اللغو؟ وكيف أزلق هذا المنهج عددا من المفسرين فأولوا بعض الآيات الكونية على هذا النحو؟ إن مصادر العلم لا تعدو الوحى فى أمور، والحس والعقل فى أمور.

فهل هناك نقل عن الله ورسوله بذلك؟ كلا.

هل هناك إثارة من علم مادى بذلك؟ كلا...!

فكيف يتداول بين العامة أو الخاصة كلام لا سناد له من منطق أرضى أو وحى سماوى؟؟

إن الإسلام نعى على الجاهلية الأولى هذا اللون من الفكر.

الفكر الذى نبحث فى نشأته فلا نجد له أصلا شريفا، إنما هو الخرص والتخمين والتقليد والجمود...!

وتدبر قول الله عز وجل يصف معالم الفكر الجاهلى...!

(وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون).

إذا شهد الإنسان بعينيه شيئا فأخبر بما شهد فلا ملام عليه، لكن كيف يلقى أخبارا لم يشهدها؟ إن إلقاء القول على عواهنه من أول مظاهر الفكر الجاهلى.

ومظهر ثان ينكشف لك من قول الله بعد ذلك: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون).

الكذب والجهل والتخرص...!

هو خبء هذا الادعاء على الله.

والله جل شأنه ما أرغمهم على شرك ولا أغراهم بافتراء!! ثم يطرد النظم القرآنى كاشفا عن مظهر ثالث للتفكير الجاهلى إذ يتساءل: من أين لهم أن يقولوا ما قالوا ما دامت الدلائل الحسية تنقصهم؟ أنزل عليهم وحى؟ (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) كلا.

إن التقليد الأعمى!! (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).

وأخيرا تنتهى مجموعة الصفات التى تبرز فى التفكير الجاهلى بالوصف الأخير وهو الجمود وجحد الحق (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)

ولو ألقيت نظرة عجلى على الطريقة التى كون المسلمون بها أفكارهم عن الدين وعن الدنيا فى القرون الأخيرة لرأيت أساليب الجاهلية عادت إلى الأذهان فى ميدان العلوم الشرعية والكونية جميعا.

الأهواء والأوهام التى لا عمد لها من عقل أو نقل هى التى تروج فى كل ناحية، فلا جرم هان المسلمون وتخلفوا...!

قلنا : إن النظر والتأمل والتفكير فى الكون المادى هى مصادر اليقين التى لفتنا القرآن إليها.

وهى خطة المنطق الحديث فى بحثه عن الحقائق واستكشافه لقوى العالم وأسراره.

إلا أن التدين الفاسد غمط هذا المنهج، وظلم السمع والبصر والفؤاد واشتغل بضروب من الفكر أحسن ما يوصف به أصحابها قول الله عز وجل: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) إن العلم المادى يتعرف على الخواص الكامنة فى الأشياء.

ويتعرف على الروابط الأزلية الثابتة بين بعضها والبعض الآخر، ويدون ذلك فى قوانين مضبوطة خالدة...!

وخطواته القائمة على الحس الدقيق والعقل الواعى تؤسس يقينا يستحق كل احترام...!

ونحن ما عرفنا الله معرفة اليقين إلا بهذا المنهج من التفكير.

المنهج الذى هدانا إليه القرآن وبصرنا بأسبابه فى الأرض والسماء..

فكيف شرد المسلمون عنه إبان انحطاطهم؟ وكيف شغلوا أنفسهم بما لا يرفع لهم عند الله منزلة، ولا يدعم لهم بين الناس مكانة؟؟ على حين عكف غيرهم على دراسة الكون، وإدمان الفكر فى ظاهره وباطنه حتى وصل بآلاته إلى القمر بينما الجماهير عندنا لا تزال آخذه بأذناب البقر...!

الواقع أن الإسلام يحترم خصائص الأشياء، وما تؤدى إليه الملاحظات والتجارب من نتائج.

وما يظن أنه مخالف لهذه الحقيقة، فهو من زيغ أناس خولطوا فى أفهامهم وأحكامهم.

إن هؤلاء الزائغين حطموا قاعدة الأسباب والمسببات رغبة منهم فى إثبات كرامات للأولياء.

ومرت على المسلمين أعصار كثرت فيها هذه الكرامات المفتعلة حتى وقر فى الأذهان أنه ليست هناك قوانين يحكم بها الكون، وأن رغبات أهل الإصلاح تجتاح ما أودع الله فى العناصر من طباع وما بث فى العالم من قوى وأنظمة...!!!

كان شيوع هذا التفكير لعنة على العلوم الطبيعية ووقفا لنمائها، بل بخسا لقيمتها.

وزاد الطين بلة أن بعض المخلطين ألحق الاعتراف بهذه الكرامات...!

بعقائد الإسلام.

فمن مارى فيها شكوا فى دينه!! وهذا كله ضرب من السخف يجب محوه وتنظيف الفكر الإسلامى منه...!

حقا أن القرآن الكريم تضمن طائفة من خوارق العادات مضافة إلى بعض الأخيار من عباد الله.

ونحن نصدق ما أخبر الله به، ونعتقد أن رب العالمين يعلم من شئون خلقه ما لا نعلم، فإما أجرى بعض الحوادث وفق أسباب نجهلها.

وإما خرق هذه العلائق العتيدة بين الأسباب والمسببات لحكم نجهلها.

وسواء أكان هذا أو ذاك فإن ما يشذ عن قوانين الكون لا يصدق وقوعه، ولا يكلف الناس بإقراره إذا أنبأنا به غير الله..

"فمثلا، استنكرت مريم أن يجيئها ولد من غير مسيس بشر، لأن هذا خرق فى السنن الكونية.

فإذا قال الله (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون).

فهل يفسر هذا الحادث المعجز بأنه يجوز أن يشيع بين الناس خرق القوانين الطبيعية، وأن تزعم امرأة ما أنها رزقت ولدا على نحو ما رزقت مريم؟؟ إن الأساس هو تكذيب كل امرأة تزعم ذلك، ولولا أن الله أخبرنا بأنه خلق عيسى على هذا النحو ما صدقنا الخبر..

ومن ثم نحن نستنكر سيل الخوارق الذى اختلقه الناس لمن يسمونهم أولياء، ونرى الأصل استبعاد كل هذا ورده فى وجوه قائليه!! ثم إن الخطأ والصواب فى هذه المسألة يشبه الخطأ والصواب فى بعض قواعد الإملاء مثلا، لا علاقة له بكفر أو إيمان..

ألا ما أكثر الخرافات بيننا..!!

وشئ آخر.

لقد تحدث القرآن عن الجن حديثا محددا ومبينا..

ونحن نؤمن بصدق هذا الحديث، ونعرف أن الكون الرحب ليس حكرا على أبناء آدم..

لكن هل يسوغ أن يكون ذلك الحديث تكأة لألوف من الأساطير المفتراة تنتشر هنا وهناك، وتملأ أوهام الصغار والكبار بمشاعر لا أصل لها؟؟ والمضحك أن الاتصال بعالم الجن قد أضحى اليوم حرفة لقوم آخرين يعملون تحت عنوان " الاتصال بالأرواح " وتلقى أنبائها بشتى الوساطات.

ونحن نتساءل عن جدوى هذا العبث؟ ثم نقول بحسم: إن العلم نوعان: علم خاص بالدين وسبيله الوحى الذى عرفناه عن الله بيقين، وعلم خاص بالدنيا وسبيله البحث المادى والجهد الإنسانى.

وهؤلاء الذين يشتغلون بالأرواح كما يزعمون، أو بالجن كما نرى نحن، يرجعون إلينا بأخبار ملفقة، لا مكان لتصديقها لا باسم العلم ولا باسم الدين...!

إن التدين الفاسد يؤثر الخلط بين أمور مغيبة وأمور مشاهدة.

لأن فى هذا الجو ثغرة واسعة لنفاذ الخرافات والأباطيل.

وقديما اشتغل اليهود بالسحر.

والسحر جملة من المعارف البدائية الكونية مخلوط بشئ غير قليل من الخداع والخبث.

ويستطيع المحتالون أن يخيلوا به على الأعين، وأن يؤثروا به فى السذج..!!

والغريب أن ما اشتغل به اليهود إبان انحلال عقائدهم وفساد عبادتهم هو ما اشتغل به نفر من المسلمين فى العصور الأخيرة.

نفر جعلوا للحروف أعدادا وأسرارا، وللنجوم مطالع سعود ونحوس، وللخيوط المحلولة والمربوطة، والهمهمات الواضحة والغامضة، عواقب بالصحة والمرض والنجاح والسقوط...!

والجن طبعا من وراء هذا الدجل..

أهذا مسلك يباركه العلم؟ كلا! أهذا مسلك يعرفه الدين؟ كلا! إن دين الله ودنيا الناس فوق هذا الهذر..!!

لقد قصرنا فى ميدان العلوم المدنية تقصيرا شائنا.

ولو أن رجلا أجنبيا قارن بين مرامى كتابنا وتصويره للأرض والسماء وما بينهما.

وبين واقع حياتنا وتصورنا للأرض والسماء وما بينهما.

لوجد البون بين الأمدين هو بعد المسافة بين الحق والخرافة.

من أجل ذلك يجب أن نضاعف السير لتعويض ما فاتنا، وإدراك من سبقنا، فإن جهلنا بالحياة كان معصية الله، وإساءة لدينه.

وكان إزراء بنا، وشقاء لحقنا بعده ما لحقنا من الأذى والعنت...!

المرأة في المجتمع الإسلامي

لا ندرى بدقة متى ساء وضع المرأة فى المجتمع الإسلامى؟ ومتى انحدرت عن المستوى الذى بلغته فى صدر الإسلام؟ لقد كانت على عهد السلف الصالحين إنسانا يقوم بواجباته الدينية والدنيوية قياما حسنا.

ما شانها الجهل بالإسلام، ولا الغفلة عن قضاياه، ولا الإسهام فى نصرته...!

ولا عرفت بالتقصير فى صلاة أو صيام أو زكاة...!

ولا عجزت عن خدمة نفسها، وولدها، ورجلها، إن كانت من أهل الريف، أو أعراب البادية، أو ساكنات المدن..!

غير أننا نلحظ حالتها فى القرون الأخيرة، فيؤذينا ما أصابها من تبلد وانحطاط..!!

إنها نسيت واجباتها الدينية حتى كأنها لم تخاطب بأحكام الشريعة! ونسيت واجباتها الدنيوية حتى كأنها خلق يعيش على هامش الحياة!! والمسئول عن ذلك هو الرجل، فإن سوء فهمه للإسلام، وسوء عمله به، أخر الجماعة الإسلامية كلها..

وأصبحت وظيفة المرأة فى نظره لا تعدو إشباع الجانب الحيوانى منه...!!

والجانب الحيوانى فى كل أمة متخلفة شئ لا ينسى، إن نسيت حقوق وأهدرت حدود....!!

ونحن إذ نستنكر وضع المرأة بيننا فى القرن الماضى مثلا، فإنما ذلك بالنسبة إلى حال المرأة فى تاريخنا الأول...!

أما بالنسبة إلى حياة المرأة فى أوروبا وأمريكا الآن، فنحن نعتقد أن المرأة العاطلة أفضل من المرأة الفاسدة، وأن النساء المحتبسات فى المخادع والبيوت، المقصورات على خدمة الولد والزوج، أشرف من النساء اللواتى يتكشفن لكل عين، ولا يرددن يد لامس...!

إن التعطل عن العمل شر، ولكن الاشتغال بالأعمال الدنيئة شر أكثر..

ولا نريد أن نوازن بين شرين لنختار أحدهما.

بل نريد أن نحقق ما طالبنا الإسلام به، من إقامة مجتمع يشترك الجنسان معا فى بنائه وحمل تبعاته...!

إن جنس الذكور عموما أقوى من جنس الإناث.

وقد تكون هناك فاصل من الإناث أقوى من بعض الرجال، فزوجة الأسد فى غابها أقوى من الديك بين دجاجه!! وكم فى الجنس الإنساني الواحد من اختلاف بين أفراده، يشبه الاختلاف بين نوع ونوع، والناس معادن...!!

إلا أن امتياز أفراد من النساء لا يعنى خدش الحقيقة العامة التى ذكرناها، وهى أن الرجال فى الجملة أقدر من النساء، وأنهم بناة العمران، وعلى كواهلهم القوية نهضت الحياة الإنسانية...!

ولا يزال الرجال إلى عصرنا هذا، وسوف يبقون على مر العصور، قادة كل نشاط مدنى أو عسكرى...!!

بل أن النهضات النسائية ـ كما تسمى ـ ليست إلا وليدة شعور بالرقة والألم غمر قلوب بعض الرجال، فقاموا يحررون المرأة من القيود التى رماها بها رجال آخرون!! والفساد الذى عرا هذه النهضات ليس إلا وليد رغبة فى الإثم، وحب للشهوات، دفع بعض الرجال إلى تعرية المرأة فى الأحفال الساهرة، أو على الشواطئ البعيدة، لتيسير الحرام، وإجابة غرائز السوء...!!!

المرأة فى كلتا الحالتين تابع يراد به الخير، أو يراد له الشر...!

وما يفكر فيه الآن فريق من الرجال والنساء، من أن المرأة تعادل الرجل فى كل شئ، ويجب ألا تقل عنه فى حق ما، ليس إلا عبثا يراغم طبائع الأشياء، ويصادم أحكام الدين، ويؤدى إلى أوخم العواقب.

بل هو فى نظرهـا مكر من بعض الرجال الخبثاء لاستبقاء وتنمية أحوال يذبح فيها الشرف، ويدوخ لها المجتمع...!!!

(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).

هذا حكم يعتمد على حقائق كونية، كما تقول الشمس أكبر من القمر.

وهذا التفصيل لا يفيد أن القمر حقير، ولا أنه مظلم، ولا أنه تافه الأثر.

فلكل من الكوكبين عمله المنوط به، وفضله المرجو منه.

ولو أن كل شئ فى الوجود أدى رسالته تبعا لاستعداده الخاص لازدهرت الدنيا واستقام أمرها.

أما أن يذهل هذا عن وظيفته اللاصقة به، وذاك عن عمله المعد له، ثم يرموا وظيفة الآخر بتطلع ولهفة، فذلك ما لا تصلح عليه الحياة.

ولذلك يقول الله عز وجل: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن).

ويقول! الرسول صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ".

وفى رواية: " لعن رسول الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ".

والإسلام بنى الكيان الأدبى للمرأة على دعائم راسخة.

ولا نعرف نظاما فى الأولين والآخرين أولى النساء بهذه الرعاية، أو أسدى لهن هذه الكرامة.

كان الناس يتجهمون لمولد الأنثى وتسود وجوههم لمقدمها.

وكان الأعرابى يقول: والله ما هى بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة...!!!

حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فصان حياتها، وأحسن استقبالها، ورفع منزلتها، وهى طفلة، ثم وهى زوجة، ثم وهى أم: * فجعل طفولتها سترا من النار، وطريقا إلى الجنة

  • وأوجب إكرامها وهى زوجة واستوصى بها خيرا.
  • وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات...!
  • ووصلها بالحياة الإسلامية العامة، فأباح المسجد الجامع لها تطرقه مع الرجال خمس مرات فى اليوم...!
  • ومكنها من الجهاد إذا أطاقته، ويسر لها الالتحاق بخدمة الجيش، تمرض الجرحى وتسقى العطشى، بل تعين على نصرة الحق إذا وجب العون! فإن أم سلمة حملت السيف فى موقعة أحد ساعة الروع، كما قاتلت صفية فى غزوة الأحزاب، وصرعت أحد اليهود.

وولى عمر بن الخطاب " الشفاء " أمر السوق فى المدينة ـ وكانت امرأة كاتبة .

وسوى الإسلام بين الجنسين فى أعمال البر كلها، فأرجحهما عند الله ميزانا أخلصهما نية، وأكثرهما سعيا...!!!

إلا أن العمل الأول للمرأة، هو حسن تبعل الزوج، أو بتعبير العصر الحاضر حسن القيام على شئون البيت، وأحوال الأسرة، ورعاية الرجل والأولاد..

وإجادة المرأة لهذا الواجب يغنيها عن سائر الواجبات العامة من اجتماعية أو سياسية.

إن الجهد المبذول فى هذه الأنحاء ثانوى بالنسبة إلى الوظيفة الأولى للمرأة، وهى الإشراف على الأحوال الداخلية للأمة..

ومن الكلمات السائرة أن وراء كل رجل عظيم امرأة..

وفى هذه الكلمة كثير من الحق، فإن الرجل الكبير فى حاجة إلى من تريح أعصابه، وتخفف أعباءه، وتنشطه إذا كسل، وتسكنه إذا قلق..

بل إن كل رجل بحاجة إلى مثل هذه المرأة، تشاطره مغارم الحياة ومغانمها...!

ومن الحماقة تحقير هذه الوظيفة، أو اعتبارها زراية بالمرأة..

إن تحقير المرأة هو إقحامها فى ميادين تكون فيها قليلة الغناء، وشغلها بحمل القلم فى ديوان، أو قبض النقود فى دكان، أو مزاحمة الرجال فى أمور هم عليها أقدر، وترك البيوت خاوية ممن يستطيع وحده قيادتها وتوجيهها..

والحق أن الشيطان من وراء هذا الخبط فى توظيف المرأة..

وقلما يتمحض غرض شريف فى جرها من البيت، وتكليفها بعمل هنا وعمل هناك...!

ولا بأس أن ننقل هنا بعض ما للمرأة من حقوق منزلية، كم قررها ابن حزم فى كتابه " المحلى ": قال : " والإحسان إلى النساء فرض، ولا يحل تتبع عثراتهن.

ومن قدم من سفره ليلا فلا يدخل بيته إلا نهارا، ومن قدم نهارا فلا يدخل إلا ليلا، ما لم يكن هناك عذر..!!

برهان ذلك قول الله عز وجل: (وعاشروهن بالمعروف) وقوله: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن).

فإذا حرم التضييق عليهن، فقد أوجب لهن التوسعة، وافترض ترك ما يضرهن...!

روينا عن طريق مسلم...!

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فذكر كلاما كثيرا، وفيه: " فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ".

قال أبو محمد: لم يعن رسول الله فراش المضجع!! ذلك أمر يجب فيه الرجم على المحصنة، لا أن يؤمر فيه بضرب غير مبرح! وإنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك كل ما افترش فى البيوت، داخل الحجرات كلها..

وهذا نهى لها عن أن تدخل فى مسكنه، أو فى بيته من لا يريد دخول منزله رجلا كان أو امرأة.

قال ابن حزم : ولا يلزم المرأة أن تخدم زوجها فى شئ أصلا !! لا في عجن، ولا طبخ، ولا فرش، ولا كنس، ولا غزل، ولا نسج، ولا غير ذلك أصلا! ولو أنها فعلت لكان أفضل لها...!

وعلى الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة، وبالطعام مطبوخا تاما.

وإنما عليها أن تحسن عشرته، ولا تصوم تطوعا وهو حاضر إلا بإذنه، ولا تدخل بيته من يكره، وألا تمنعه نفسها متى أراد، وأن تحفظ ما جعل عندها من ماله...!

وقال أبو ثور: على المرأة أن تخدم زوجها فى كل شئ، ويمكن أن يحتج لذلك بالأثر الثابت عن على بن أبى طالب قال: شكت فاطمة مجل يديها من الطحن، وأنه أعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سأله خادمة...!

وبالخبر الثابت عن طريق أسماء بنت أبى بكر قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكان له فرس، وكنت أسوسه، كنت أحتش له، وأقوم عليه...!

وبالخبر الثابت عن أسماء أيضا أنها كانت تعلف فرس الزبير، وتسقى الماء، وتحزم غربه، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثى فرسخ ـ من المدين ـ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيها وهى تنقله...!

قال أبو ثور: فإذا خدمت هاتان السيدتان الفاضلتان تلك الخدمة الثقيلة فمن بعدهما يترفع عن ذلك من النساء؟ قال أبو محمد: ولا حجة لأصحاب هذا القول فى شئ من تلك الأخبار، لأنه ليس فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرهما بذلك إنما كانتا متبرعتين!! وهما أهل الفضل والمبرة، ونحن لا نمنع من ذلك أن تطوعت به المرأة.

وإنما نتكلم على سر الحق الذى تجب به الفتيا، ويحكم القضاء بإلزامه..

وأيا ما كان الرأى فى هذا الموضوع، فالذى لا شك فيه أن الإسلام يتضمن أصولا تكفل النساء أفضل ما يعشن به وافرات كريمات.

ولو رجعنا البصر فى أحوال المرأة المسلمة قبل ألف سنة لرأيناها استمتعت بميزات مادية وأدبية لم تعرف للنساء فى القارات الخمس.

ونحن نؤكد أن هذه المرأة قبل ألف سنة كانت أشرف نفسا، وأربى حظا، وأزكى وضعا، من زميلتها الآن فى الغرب...!

ذلك، ما لم تكن حرية العرى والمخادنة، منظورا إليها ـ فى هذه المقارنة ـ على أنها كسب للمرأة، ودعم لقضيتها...!!!

ثم ساء وضع المرأة فى القرون الأخيرة مع جمود العقل الإسلامى، وضياع نضرته، وسيطرة الترهات والأوهام على اتجاهاته! ولا عجب فهل كان يرجى بقاء المرأة فى المكانة التى بوأها الإسلام إياها.

مع انحدار المجتمع كله؟ وذهول الرجال عن وظيفتهم فى الحياة؟ وغيبوبة الأمة كلها عن وعيها؟ إن تعاليم الإسلام تقصلت فى ميادين شتى، فليس بغريب أن تتقلص فى العلاقات بين الجنسين!! لقد تقرر سجن المرأة فى أغلب المدن، وعدت جدران البيت الحدود الأربع لفكرها ونشاطها، وقصرت على الناحية الحيوانية وحدها.

وكانت أثرة الجنس الأقوى وغيرته ـ على شهواته الخاصة ـ هما أساس هذا المسلك..

ولما كان بعض الناس يحب ستر رغباته وراء مطالب الدين، فقد شاع بين العوام حديث مكذوب مؤداه أن المرأة لا يجوز أن ترى رجلا أو يراها رجل.

هذا كلام مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومناف لما ثبت فى الصحاح عنه.

كما شاع بين العوام أن الله حرم كشف وجه المرأة، وهذا أيضا كلام باطل، فإن الله فصل ما حرم على عباده، ولم يذكر أن سفور الوجه حرام.

بل الدارس النزيه لكتاب الله وسنة رسوله يستيقن أن المسجد الجامع كان يضم صفوفا من الرجال والنساء فى الفرائض الخمس.

وأن النساء كن يرين الرجال، والرجال كانوا يرون النساء، ولكن فى حدود ما أمر الله به من غض البصر، وأدب العفاف.

وأن ساحات الكفاح شهدت من تطوعن لخدمة المقاتلين فى سبيل الله، وإسعافهم بالعون المنشود.

وأن الصورة المتقطعة الممسوخة لوظيفة المرأة فى الأمة، كما رسمها الزمن المتأخر، ليست إلا نصح نفوس عليلة لم تفقه الإسلام ولم تحسن العمل به ولا العمل له...!!!

والغريب أن هذه الغيرة التى أحرجت المرأة، وشوهت حياتها لم يكن لله فيها نصيب..

فقد يعلم الرجل أن ابنه زنى فما يتغضن شئ من أسارير وجهه.

فإذا اتهمت ابنته بذلك قتلها لفوره..!!

وقد يقوم البيت على الربا، والفسق، والكذب، وترك الصلاة والصيام والزكاة..!!

إن هذا كله لا يشين! ولا يخدش الحياء! لكن تدلى المرأة إلى موطن شبهة هو الجريمة النكراء، التى لا تغسل إلا بسفك الدماء! والزعم بأن بواعث الإيمان بالله ورسوله وراء هذا السلوك مراء ساقط!! الحق أن المرأة تأخرت تأخرا شنيعا من عدة قرون.

والذين أخروها ألغوا رسالة الإسلام بالنسبة لها، وأسقطوا عنها واجبات التعلم والعبادة، والإدراك السديد لحقيقة الدين وحقوقه.

وحقيقة الدنيا وواجباتها..

فلما سقطت الأمة جمعاء فى براثن الاستعمار من نحو مائة سنة كانت المرأة الإسلامية لا تساوى إلا شيئا من سقط المتاع.

وكان الدرك الذى هوت فيه الذريعة التى يسرت لأذناب الاستعمار أن يستخرجوها من البيت إلى الشارع لتسير فيه دون هدف.

وبذلك انتقلت من ضلال إلى خبال...!

أى من العطل إلى الفساد.

ولا صلاح لشأنها إلا بالعودة إلى تعاليم الإسلام نفسه، كما طبقت أيام السلف الصالحين...!

ومن طرائف البحوث الفقهية ما شجر بين المجتهدين من خلاف فى صلة المرأة بالمسجد: هل الأجدر بالمرأة أن تتردد عليه كل يوم خمس مرات ـ فهذا أتم لدينها، وأرفع لرتبتها ـ أم الأولى بها أن تصلى حيث هى فى بيتها؟ إن ابن حزم يجنح إلى المذهب الأول، قال: " اختلف الناس فى أى الأمرين أفضل لهن؟ أصلاتهن فى بيوتهن أم فى المساجد فى الجماعات؟

وبرهان ما رأينا هو ما ذكرنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ".

وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه النساء، وروى " مسلم " عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن.

فأقبل عليه عبد الله بن عمر: فسبه سبا سيئا، ما سمعته سبه مثله قط!! قال: أأخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: والله لنمنعهن!! وروى " مسلم " أيضا عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمانعها " وفى روايات له أيضا: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " و " لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل "..

على أن المرأة الذاهبة إلى مسجد ـ تقربا إلى الله ـ يجب بداهة أن تكون جادة محتشمة، بعيدة عن كل أسباب الإثارة ومعانى التبرج، فهى لا تقصد إلى حفل استعراض للجمال والأزياء!! " روى مسلم عن زينب ـ امرأة عبد الله بن مسعود ـ قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا شهدت احداكن المسجد فلا تمس طيبا ".

وروى أبو داوود عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولا يخرجن إلا وهن تفلات " (غير متطيبات ولا متعطرات).

قال ابن حزم: " وهذا نفس قولنا فإذا خرجن متزينات متطيبات فهن عاصيات لله تعالى، خارجات بخلاف ما أمرن، فلا يحل ارسالهن حينئذ أصلا!! والآثار فى حضور النساء صلاة الجماعة والجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرة فى غاية الصحة، لا ينكر ذلك إلا جاهل. .

كحديث عائشة: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يعرفن من الغلس "..

وحديث سهل بن سعد: لقد رأيت الرجال عاقدى أزرهم فى أعناقهم ـ من ضيق الأزر ـ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال ".

رواهما مسلم.

  • وقولـه عليه السلام: " إنى لأدخل فى الصلاة أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبى، فأتجوز فى صلاتى خشية أن تفتن أمه ".
  • وقولـه عليه السلام: " خير صفوف الرجال المقدم وشرها المؤخر، وشر صفوف النساء المقدم وخيرها المؤخر ".

وهذا الحديث يحارب تفكير بعض الرجال فى التأخر للاقتراب من النساء وتفكير بعض النساء فى التقدم للاقتراب من الرجال فإن جو العبادة لا يسوغ أن تتنفس فيه هذه الشهوات الصغيرة.

ثم قال: " يا معشر النساء: إذا سجد الرجال! فاغضض أبصاركن..

لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر ".

  • وقوله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى أحد أبواب المسجد: " لو تركنا هذا الباب للنساء"؟ فما دخل ابن عمر من ذلك الباب حتى مات!! * وحديث أسماء ـ فى صلاة الكسوف ـ وأنها صلت فى المسجد مع النساء خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

" وجاء أن عاتكة بنت زيد زوجة عمر بن الخطاب كانت تشهد الصلاة فى المسجد فكان عمر يقول لها: والله انك لتعلمين ما أحب هذا.

فقالت: والله لا أنتهى حتى تنهانى، فقال عمر: فإنى لا أنهاك.

قيل: فلقد طعن عمر وأنها لفى المسجد!! قال ابن حزم: ولو رأى عمر صلاتها فى بيتها أفضل لكان أقل أحواله أن يخبرها بذلك، بل اقتصر على أخبارها بهواه الذى لا يقدر على صرفه.

ومن الباطل أن تتكلف اسخاط زوجها فيما غيره أفضل منه، فصح أنهما رأيا الفضل العظيم فى خروجها إلى المسجد فى الغلس وغيره، وهذه غاية الوضوح لمن عقل.

وروينا أن عمر بن الخطاب أمر سليمان بن خثمة أن يؤم النساء فى مؤخر المسجد فى شهر رمضان، ومن طريق عرفجة أن عليا ابن أبى طالب كان يأمر الناس بالقيام فى رمضان فيجعل للرجال إماما وللنساء إماما! قال عرفجة: فأمرنى فأممت النساء فهؤلاء أئمة المسلمين بحضرة الصحابة، ثم على هذا عمل المسلمون فى أقطار الأرض جيلا بعد جيل.

قال ابن حزم: " واحتج من خالف الحق فى هذا بخبر موضوع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لـ " أم حميد ": إن صلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك معي ".

وذكروا أيضا قول عائشة: " لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث الناس لمنعهن من الخروج كما منعه نساء بنى إسرائيل "! وهذا لا حجة فيه لوجوه: *

  • أولها: أن الله تعالى رضى لنا الإسلام دينا ومحمدا رسولا إلى يوم القيامة وقد علم سبحانه ما سوف يستحدثه النساء، ومع ذلك لم يمنعهن رسوله من الخروج إلى المسجد ليلا ولا نهارا.
  • ثانيها: ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل حكما شرعه، أو يلغى رأيا ارتآه.
  • ثالثها: أنه لا يحل عقاب من لم يحدث من النساء فيمنع من أجل من أحدث.

والله تعالى يقول: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى).

  • رابعها: أنه لا خلاف بين أحد فى أنه لا يحل منع النساء من التزاور، ومن الصفق فى الأسواق والخروج فى حاجاتهن.

وليس أوغل فى الخطأ من إباحة ذلك لهن ـ دون اعتراض ـ ومنعهن من الصلاة فى المساجد...

" وما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام ليدعهن يتكلفن الخروج فى الليل والغلس يحملن صغارهن، ويفرد لهن بابا، ويأمر بخروج الأبكار وغير الأبكار، ومن لا جلباب لها فتستعير جلبابا إلى المصلى فيتركهن يتكلفن من ذلك ما يحط أجورهن ويكون الفضل لهن فى تركه.

وهذا لا يظن بعاقل ينصح المسلمين فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أخبر تعالى أنه: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

وفى مسلم عن عبد الله بني عمر قال: اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه لم يكن نبى قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمـته على خير ما يعلمـه لـهم " .

وبعد..

فلنعد أدراجنا من هذه السياحة الفقهية الشاقة.

إن لها دلالة عميقة على رغبة المسلمين الأوائل فى اتباع نبيهم واستقصاء آثاره والارتباط الكامل به.

ونحن نلحظ أن العقل الإسلامى فى بواكير يقظته كان حسن النقد لما يروى جيد النظر فى الآثار أخذا وردا.

أما المسلمون اليوم فإن ضآلة حظوظهم من الفقه الذكى جعلت مجتمعهم يستبد به حديث ضعيف، أو تتلاعب به بدع مختلقة، وأفكار سقيمة، وكان لذلك أثره فى الطرف المقابل، الطرف الذى يريد الخلاص من الأحاديث كلها صحيحها وسقيمها.

وهو مسلك بعيد عن الإنصاف والدقة.

ونحن نلفت رواد النهضة النسائية إلى ما فى التراث الإسلامى من نفاسة تعجب، وما فيه كذلك من أسانيد لقضاياهم النزيهة إذا أرادوا أن يربطوا حركتهم بالإيمان والمعرفة، ويبتعدوا بها عن مزالق الهوى والتحلل.

وباسم اشراك المرأة فى الحياة أشيعت مباذل شتى، ومهدت السبل لشهوات منحطة..

وأذكر أنى غضبت يوما ـ كأى مؤمن ـ لصور الاختلاط المريب التى انبثت فى كل ناحية، بين الطلاب والموظفين..

فقال لى أحد الشبان: لا تقتلوا المرأة، ودعوها تحيا كالرجال سواء بسواء..

فقلت له: ومن يمنعها حق الحياة يا صديقى.

ولكنى أسألك أن تنظر معى إلى الشارع، وإلى السيارات، ثم تحكم وأنت منصف..

أترى هذا الشاب الذى يرتدى ملابس افرنجية، والفتاة التى تمشى بجنبه.

إن ملابسه سابغة، قميصه يستر أعلى صدره ويمتد بعد المرفقين قريبا من الرسغين، وسراويله الواسعة تغطى رجليه إلى القدمين..

أما الفتاة فذراعاها ـ على عكس صاحبها ـ عاريتان..

وصدرها مكشوف يعرض ما بين الثديين، ويتصل العرى إلى ما تحت الإبطين وأعلى الظهر..

ثم تضيق الملابس لتفصل الأرداف، وما بينهما من الخلف، وتفصل البطن والفخذين من الأمام..

وينتهى هذا الثوب الصورى إلى الركبتين، ليتعرى الساقان جميعا.

فإذا جلست، انكشفت أطراف الفخذين، أو أكثر من ذلك..

فهل هذا حق الحياة الذى يسويها بالرجل، ويجعلها مثله فى حمل الأعباء أم أن حق الحياة الذى تذكره أكذوبة كبرى يراد من ترويجها إشاعة المجون والفسوق..

تحت ستار المساواة بين الجنسين..

انظر إلى الشارع مرة أخرى، فسترى الرجال يغطون أجسامهم تقريبا.

أما النساء فإن حضارة الغرب ـ وهى بالنسبة إلى المرأة جاهلية حديثة ـ جعلت المرأة مسرحا للعيون النهمة...!

لم تجعل منها عضوا نافعا فى الجماعة الإنسانية، بل عضوا يسرى الهموم عن الجنس الخشن بأسلوب الحرام لا بأسلوب الحلال..

إننى ـ مع غيرى من أهل الإيمان ـ نريد أن تشترك المرأة فى الحياة العامة، أى أن تحمل نصيبها الصحيح من الأعمال التى تتقنها بطبيعتها...!

إن الله يكلفها بجزء ضخم من بناء المجتمع ـ كم يكلف الرجال ـ لكن الحضارة الحديثة التى رأيناها فى بلادنا جعلت من المرأة بلاء على المجتمع ورجسا فى جنباته..

الخلاف الحقيقى بين الإسلام ومدنية الغرب، ليس فى ضمان حق الحياة والعمل والإنتاج للمرأة، ليس فى ضمان الرقى الأدبى والمادى لها..

فإن الإسلام سبق فى هذا المجال سبقا حاسما.

إنما الخلاف: هل المرأة كلأ مباح أم لا؟ هل جسمها وعرضها نهب للكلاب والذئاب أم لا؟ هل تشتبك مع الرجال فى أحفال الرقص أم لا؟

  • هل تحشر حشرا فى الفصول والمدرجات بين الطلاب الذكور أم تقوم الفواصل بينها وبينهم؟
  • هل يترك الاختلاط طليقا يؤدى لنتائجه المرة أم توضع له المعالم التى تباعد بين الأنفاس، وتصون حرمات الله والناس؟ هذا هو الخلاف الحقيقى...!

ونقل هذا الخلاف إلى تساؤل حول حق المرأة فى الحياة، هو تصرف خبيث لا مساغ له.. !

وقد قرأت لغوا كثيرا لأناس ينادون بفوضى الاختلاط، وحرية المرأة أن تفعل ما تشاء..!!

وهذا كلام معناه الصحيح حرية الرجل أن يفعل بالمرأة ما يشاء..

فهو ليس دفاعا عن حق المرأة المظلومة، وإنما هو دفاع عن شهوات الرجل الفاجر...!!!

قرأت للكاتب سلامة موسى دفاعا عن الرقص الغربى يقول فيه: " إن الرقص فى عالم الحركة سير منظوم كما أن الشعر فى عالم الكلام لفظ منظوم.

وأن الرقص الغربى يتجه بالمشتركين فيه إلى أعلا، أما الرقص الشرقى فهو يتجه إلى أسفل.

وعجبت للرجل ينصر شرا على شر، ويجعل الرذيلة المضاعفة فضيلة مرغوبة..

إن عناق رجل وامرأة برهة طويلة، فى تقدم، وتقهقر، واستقامة، وانحراف، هو عروج إلى السماء! هكذا يقول الكاتب.

إن البون بعيد بين الإسلام، وبين تقاليد الغرب فى الأمور الجنسية.

الإسلام يعتبر اتصال الذكر بالأنثى حراما إلا عن طريق الزواج.

ويسمى هذا الاتصال المحظور زنا، ويجعل الزناة مع المشركين بالله وقتلة الأنفس فى صعيد واحد.

ويتوعدهم بالخلود المهين فى جهنم ما لم يتوبوا إلى الله.

ولبشاعة هذه الجريمة يمنع بداهة كل ما يؤدى إليها، وكل ما يهيج الطباع لارتكابها.

ومن ثم فهو يرفض الاختلاط المطلق، والتبرج المثير..

إنه يرفض الجريمة، والجو الذى يلدها.

أما الغرب فالأمر فيه على العكس..

لقد أفلت زمام الغريزة الجنسية، ودرست حدود الحلال والحرام، وتعاون المجتمع كله على الإثم والعدوان...!

وأمامى الآن تقرير عن الحالة فى أمريكا بقلم الأستاذ محمد زكى عبد القادر قال فيه: " فى أثناء عودتى بالباخرة من رحلة حول جزيرة " مانهاتن " فى " نيويورك " والركاب متأهبون للنزول، رأيت وسط هذه الجموع فتاة تميل برأسها على كتف صاحبها، وتضغط عليه، وتنظر إليه، وهو يميل إليها، ويأخذ رأسها بين يديه..

ورأيت آخر يلف ذراعه على خصر صاحبته، ويعبث بشعرها، وهى نائمة أو شبه نائمة، رأسها على صدره..

الناس مشغولون بالنزول، وهما ـ هذان الحبيبان المولهان ـ لاهيان بعبث علنى..

وزادت الفتاة فضمته إلى صدرها، لا ضمة حنان وحب، بل ضمة رغبة كانت بادية على عينيها وارتخاء أجفانها.

ولم يكن أحد ينظر إليهما.

كأنما كل إنسان يرى أن هذا شئ عادى لا غبار عليه.

كما أن هذين الشابين لم يكونا يظنان أنهما يأتيان أمرا لا تقره الجماعة.

بل كان واضحا من سلوكهما وسلوك الجماعة بازائهما أنها تبارك هذا الغزل العلنى، أو هذا العبث العلنى..!!!

إننا في الشرق لا نفعل هذا إلا فى خلوة ولكنهم فى الغرب، فى أمريكا وفى أوروبا أيضا ـ يمارسونه علانية، وكأنه سيجارة تدخن أو فنجان قهوة يرتشفه صاحبه فى لذة ومتاع...!!!

فـ " ليدى سمبسون " كانت خليلة " لادوارد الثامن " ملك إنجلترا الأسبق، وكانت تقيم معه بصفة دائمة فى قصره مع بقائها فى عصمة زوجها، ومع رضاء زوجها بهذا الوضع.

وكان الملك يعاشرها معاشرة الأزواج.

وقد دعى زوجها أكثر من مرة لبعض الحفلات والمآدب والرحلات التى أقامها الملك، وقضى لدى الملك وعشيقته بضع ليال على الوصف الذى وصفته لكم.

وقد وصفت ذلك " ليدى سمبسون " فى مذكراتها التى نشرتها أخيرا فى الجرائد الإنجليزية والأمريكية ونقلتها بعض الصحف المصرية، وكان ذلك بعد أن طلقت من زوجها وتزوجت عشيقها.

وهى لم تذكر ذلك على أنه أمر غريب.

وإنما ذكرته للحقيقة والتاريخ، وعلى أنه أمر عادى له أشباه ونظائر كثيرة فى بلادهم، وفى مجتمعاتهم وخاصة فى المجتمعات الراقية .

بل قد يقيم العشيق مع عشيقته وزوجها فى منزل واحد، ويعيش الثلاثة فى هذا الوضع على أتم وفاق.

وهذا الوضع منتشرا انتشارا كبيرا فى فرنسا على الأخص، ويسمونه هناك "التعايش الثلاثى" Le menace a` trios وهذا النظام ليس حديثا عندهم بل إنه متأصل لديهم منذ عصور قديمة.

فقد كان كاتب فرنسا الكبير " أناتول فرانس " يقيم بصفة دائمة مع عشيقته مدام "أرمان دوكايافيه "،(Mme. Arman de Caillavet )، ومع زوجها مسيو "أرمان دوكايافيه "، (Mr. Arman de caillavet)، فى منزل واحد.

وقد سئل مرة عن مدى علاقته بخليلته وبزوجها فقال: " اننا نحن الثلاثة نعيش على أتم وفاق ".

فى السويد تعطى الزوجة حق اختيار صديق يكون له ما لزوجها من حقوق ويعطى الشاب حق معاشرة فتاة بدون وثيقة زواج بعلم أهله وأهلها.

وفى أمريكا لا تكاد الفتاة تبلغ سن الرابعة عشرة حتى يكون لها خدن يعاشرها معاشرة الزوج لزوجه حتى تتزوجه أو تتزوج غيره ".

هذه هى ألوان الحياة القذرة، الموغلة فى الإجرام وعصيان الله، التى تجتهد عصابات من المؤلفين، والروائيين، والممثلين، والمغنيين، والمنحلين، وأشباههم، فى صبغ بلادنا بها..!

أليس من حقنا أن نبصق فى وجوه هؤلاء إذا خطبوا، أو كتبوا؟ بلى! (إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا).

إننا نبغى لأمتنا حياة شريفة يعمل فيها الجنسان وأمامهما قول الله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ..).

ولا نريد من أحد أن يخيرنا بين شرين: * حبس المرأة فى البيت حتى تدخل القبر.

  • أو إطلاقها فى الطريق تعربد وتفسد...!

فالإسلام نظام غير هذا وغير ذلك...!!

أعراض عامة

قلت فى صدر هذا الكتاب: إن ثمت عللا نفسية غائرة سببت تقهقر المسلمين فى الحياة، وجعلتهم لا يحسنون الإفادة من دينهم، ولا يحسن دينهم الإفادة منهم.

هذه العلل كانت أشبه بالخلل الآلى، أو المرض العضوى، الذى تفقد الأشياء به تمامها، وتتخلف مع وجوده عن ثمارها!! كالعين تعجز عن رؤية المحسوسات عند الانفصال الشبكى، أو السيارة تقف فى الطريق، مع وجود الوقود، لانسداد فى المواسير!! إن الإسلام لم يدر فى أجهزة الأمة النفسية والاجتماعية كما يدور الدم فى عروق الجسم دورته الرتيبة الدائمة.

كلا.

لقد اعترضته عوائق شتى جرت على الكيان كله أعراض الشلل والإعياء...!!!

وأظننى أحصيت بعض تلك العلل، وشخصت الداء، وأبرزت الدواء..

والقارئ فى هذه المواطن يحتاج إلى كثير من الدقة...!

لأن أمتنا قد أصيبت بما يشبه الأمراض المتناقضة! أعنى الأمراض التى يكون علاج أحدها على حساب الآخر، كمن يصاب بالسل والسكر معا، فإن الأغذية التى يحتاج إليها فى مقاومة هذا المرض ربما زادت ضراوة المرض الآخر...!!!

فمثلا الإسلام دين ودنيا، والمسلم الحق آخذ من كليهما بنصيب على نحو ما قال الشاعر:

فلا هو فى الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله!

فماذا تصنع لامرئ سفيه ضاعت منه دنياه، وضاع عليه دينه؟ والواجب على من يتصدى لعلاج هذه الأمة، أن يكشف القناع عن جانب القضية كلها، ليعلم أهل الإسلام أن مواريث الأجداد لا تغنى عن جهاد الأحفاد.

وأن انتسابنا إلى الإسلام لا يعطينا عند الله حق المسلم إذا كان المبطلون أشد منا تمسكا بباطلهم، وأغزر إنتاجا له...!!!

ثم إن العمل الصورى لا جدوى منه...!

أعرف أناسا يتوضأون وتبقى أجسامهم وسخة! لماذا؟ إن الوضوء فى وهمهم لا يعنى غير امرار الماء على أعضاء معينة! أما أنه وسيلة للنظافة، فلا...!!

وأعرف أناسا يصلون وتبقى أرواحهم كدرة! لماذا؟ إن الصلاة فى فهمهم لا تعنى أكثر من تحريك الجسم فى أوقات محددة.

أما إنها معراج للصفو والنور، فلا..!!

وأى نظام فى الدنيا يتناوله أتباعه بهذا الشكل هيهات أن يرفع لهم خسيسة.

كم من حضارة فى العالم ماتت لأنها تحولت إلى مراسم ورياء...!

وكم من ديانة انتهى أمدها، وقضى الله بانقضاء أجلها، لأنها تجاوزت القلوب وأضحت بين أصحابها تزويرا، وانتفاعا رخيصا، وأثرة، ومروقا عن أمر الله...!

(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون).

إن الناس الذين يعيشون داخل أنفسهم، وفى حدودها وحسب، لا يعون الحقائق المقبلة عليهم من خارجها، ولا تخترق أبصارهم أسداف الشهوات والغفلات التى تخيم عليهم من كل جانب.

إنك إن أغريته بالدنيا قد يشغله عرضها عن الدين، وإن مسكته بالدين قد يصرفه ذلك عن الدنيا..

فالأمر بحاجة إلى نصائح موزونة، تساق إليه بقدر، حتى يحصل على الدنيا التى فيها معاشه، وبها نجاحه...!

وحتى يحرز الدين الذى هو قوام أمره وضمان عاقبته...!!!

والإسلام معرفة للحقيقة الواحدة وقيام بحقوقها.

وإنما ترجح كفة المسلم بالإيمان والعمل جميعا...!

وقد كانت غلبة المسلمين الأوائل، والمكانة التى بلغوها نتيجة علم عظيم وعمل أعظم...!

ثم جاء الأعقاب الكسالى يملأون أفواههم فخرا بأنهم مسلمون ويحقرون الآخرين الذين حرموا هذه النعمة، ولا يعملون للإسلام شيئا..

لكن حفيد الملوك لا يغنيه نسب، ولا يسبق به فى عالم الكفاح فخر وادعاء، إذا كان أبناء الصعاليك قد انتهزوا كل فرصة، وتزودوا بكل سلاح، ثم نازلوه فغلبوه...!!!!

ولقد انتصر اليهود لذلك فى فلسطين.

وانتصرت قوى أخرى للشر فى غير مكان..

وذلك سر البلادة التى تستولى على بعض الناس وتجعل موقفهم من الحق ومطالبه فاترا.

أغلب الظن أنهم لا يفقهونه، وإذا فقهوه لا يقدرونه، وإذا قدروه يتثاقلون عن التضحية من أجله...!

وتدبر قول الله فى التعويض بهؤلاء: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و رسوله و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون).

وانظر العاقبة التى يصيرون إليها فى هذه الحياة! إن بلادتهم تتحول إلى بهيمية، وعجز مشاعرهم عن الإدراك والإحسان يخلق منهم دواب بشرية (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون).

وهذا المستوى المنحط من الوجود لا يسمى حياة وإن زعم أصحابه أنهم أحياء يأكلون ويتمتعون.

ولذلك يناديهم الله جل شأنه أن يدخلوا فى دينه، وأن ينخلعوا عن أهوائهم وأوهامهم، فهذا وحده طريق الحياة..

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم ..).

والمسلمون المعاصرون أحوج أهل الأرض لتدبر هذا الدرس، والاستنارة به فى الظلمات التى تكتنفهم من كل ناحية...!

على أن مشكلة المسلمين ليست فى هذا الخمول النفسى، ولا فى هذا الفتور الحسي وحدهما..

فإن الإسلام تضمن جملة من العبادات والفرائض من شأنها ـ فى مجموعها ـ أن توقظ القلب الهاجع إذا غلبته سنة عارضة.

وهذه العبادات من التكرار والتنويع بحيث تعتبر ضوابط محكمة، قلما يبقى الفؤاد على ذهوله معها جميعا..!

أجل، فإن الرقاد قد يستولى على الإنسان إذا كان إلى جواره منبه واحد...!

أما إذا ضبطت جملة منبهات متعاقبة ذات أصوات متفاوتة، فإن جرسا منها سيستفز النائم حتما...!

ومع أن القلب أصل الحياة فى الجسم المادى، فقد رأينا فى بعض الجراحات الخطيرة أنه إذا توقف أمكن أن يستأنف وظيفته بالدلك والتحريك.

ونحن نعلم أن الصلوات الموقوتة ليلا ونهارا، والمناسك السنوية، والواجبات المربوطة بمناسبات لا تنقطع...!

كل هذا حقيق بأن يرد المسلم إلى الله إذا أبعده الشيطان عنه، وأن يوجه قلبه إليه إذا صرفته فتنة عارضة...!

إن كثرة المعالم والمنارات التى بثها الإسلام فى طريق المسلم تمنعه من التيهان...!

اللهم إلا إذا تعمد أن يزيغ عن الصراط، وأن يذهب مع مطارح النوى كل مذهب...!

وذلك للأسف ما صنعه المسلمون الأخلاف، وما ظهر جليا فى مسالك الأجيال المتأخرة..

إن كثيرا منهم تمرد على أمر الله، وقرر مخالفته، كما يقرر السائق المتهور أن يعصى أوامر المرور، وأن يضرب عرض الحائط بشاراته الحمراء والخضراء..

فهل تعجب إذا رأيت فى عواقب هذا الشطط، حطاما مبعثرا، ودماء مراقة، ومزيدا من الآلام؟؟

والرذائل التى تعبث فى الحياة الإسلامية تنحدر من منبعين: أولهما الموروثات القديمة التى تكونت على مر العصور نتيجة ابتعادنا عن الدين، أو نتيجة اضطراب مفاهيمه فى أذهاننا.

وهى موروثات شديدة الفتك قريبة الشر...!

والآخر تقليدنا الأعمى للحياة الغربية، تقليدا لا رشد فيه ولا تميز...!!!

والأمم فى قوتها تقتبس من غيرها ما يزيدها منعة وبصرا.

وفى إبان ضعفها لا تلتمس إلا ما يوائم هذا الضعف...!

لقد اتصل أسلافنا بثقافة الفرس والإغريق والهنود...!

فكان اتصالهم بها كاتصال الأستاذ النقادة بمعارف الآخرين، يقر منها ما يعرف ويضمه إلى ثروته، وينكر منها ما يستهجن، ويحذر من الأخذ به.

فانظر ماذا صنعنا لما اتصلنا نحن بالغرب؟ ذاك فى ميدان العلم...!

أما فى ميدان الخلق والاجتماع، فإن القوى له من اعتداده بنفسه ما يمنعه من الانزلاق، وما يجعله مغاليا بما لديه...!

لكن الأمم الضعيفة تبحث عما يشبع صغارها، ويوافق مزاجها الوضيع، وقد كان ذلك للأسف ديدننا...!!!

الجواسيس فى الدول القوية تسرق أسرار العلم، وتتعرف على آخر كشوفه.

أما الأمم المختلفة فهى تبحث عن متعة عاجلة، أو مركبة فاهرة، أو آخر الكشوف فى عالم الأزياء والمساخر...!

إنها تحسب ذلك تقدما، وما هو إلا مرض فوق مرض! ***

وقد التقت الموروثات الرديئة، والمحدثات السخيفة فى حياة هذه الأمة الإسلامية التقاء ضاعف حجب الغفلة، وعقد أسباب البلاء.

كما أنه زاد أعباء المصلحين، وضرورة التروى فى حل المشكلات، والتلطف فى بعث القوى الهامدة.

ولابد من وقفات عند هذه الرذائل تكشف سوءها، وتشرح أثرها فى إفساد الضمائر، وتعويق السير، وتضليل الغاية..

إن كثيرا من الطاقات المعطلة يرجع إلى تلك الآفات، وهى آفات يظهر فيها المروق من الدين، والفسوق عن أمر الله، ورفض الاستجابة لآياته بعد ما استيقنتها الأنفس...!!!

أمل طائش : المسلمون يملكون أصح تراث سماوى فى هذه الدنيا...!

وبين أيديهم من أصول الإيمان، ومعاقد التشريع، ما يسجد له العقل وترحب به الفطر.

وما يبقى على اختلاف الزمان والمكان ضياء الحيارى ورجاء المرهقين..

وحق على من لديه هذا الخير العميم أن ينتفع به فى خاصة نفسه، وأن ينفع به غيره من الناس.

لكن المسلمين توهموا أن صدق الوحى الذى انفردوا به كاف ـ على ما بهم ـ فى ترجيح كفتهم..!!

إن الله واحد لا شريك له، وهم أصحاب هذه العقيدة التى تنطق بها دلائل الكون! إذن فهم أفضل الأمم.!

ويجب أن يثبت لهم هذا الفضل مهما ساءت أحوالهم ورسبت أفعالهم...!

وهذا منطق سقيم!! والذين يميلون إلى هذا التفكير يكذبون على الإسلام، ويجهلون سنن الله فى الأمم.

وهل هلك الأولون فى أرجاء الدنيا إلا بسوء صنيعهم وسقوط أعمالهم؟ ولماذا يستثنى المسلمون من هذه القاعدة الشاملة؟ إن المسلمين استهانوا بكل ما وجب عليهم من خلق، وجهاد، وإصلاح، وعدالة..!!

وظلوا مع هذه الاستهانة يظنون أنفسهم أصلح من سائر الأمم، وأحق بنصر الله!!

يا عجبا ! أنى لهم ذلك الأمل؟ وكتابهم يصور قوانين الاجتماع البشري فى مثل هذه الآيات: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد).

إن تفريط المسلمين فى الأعمال الصالحة مع ثقتهم أن الجنة لهم أمر شائن.!

وهذا الخرق فى الرأى كما أوهى مكانتهم فى الأرض، أزرى بدعوتهم نفسها، وصد أولى الألباب عنها...!

ومعنى هذا أن المسلمين لا يستحقون الحرمان فقط مما يتمنونه، بل يستحقون العقوبة على ما ألصقوه بدينهم من عيوب، نتيجة خروجهم على حدوده وغدرهم بعهوده!! انظر العامة فى بلادنا، وأشباه العامة من أنصاف المتدينين! ينطلقون وراء مآربهم المادية انطلاق الإبل الهيم، أو يقعدون عن الفرائض الحتم قعود الكسيح.

ومع ذلك يتبجح هؤلاء الأفاكون بأنهم مسلمون، وأن الدنيا إذا فاتتهم فالآخرة يقينا لهم!! ولو بحثت أفئدة هؤلاء لوجدتها خرابا من الإيمان، كما أن صحائفهم صفر من شمائل المؤمنين.

ولابد ـ لكى تشفى الأمة الإسلامية من هذا الطيش، ولكى تعود إلى حقوق الله والناس حرمتها، أن يتعلم كل مسلم دينه على وجهه الصحيح...!

فيعلم أن الإيمان لا ينفك عن العمل، وأن الظفر بخير الله فى الدنيا والآخرة لا يأتى جزافا، بل هو وفق ذلك الناموس الخالد (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره).

  • أمة ذات رسالة: للفرد أمل خاص فى حياته يخطو نحوه فى ثبات، ويسعى حثيثا كيما يدركه.

ولعله يتحمل الضيق فى يومه ارتقاب الفرج فى غده، وصدق القائل:

أعلل النفس بالآمال أطلبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

والأمل فى حياة الفرد أقرب مثل للرسالة فى حياة الأمة..

فإن الأمة صاحبة الرسالة تنظم شئونها المادية والأدبية نحو هدف معين، وتسخر قواها الجلية والخفية لبلوغ هذا الهدف.

وقد كان " خروشوف " زعيم روسيا مبينا فى كلامه عندما قال ـ وهو يزور أمريكا ـ إن إقامة مجتمع شيوعى فكرة مقدسة عندنا، وقد يكون اليوم لكم، ولكن الغد لنا، فانظر كيف لم ينس الرجل فى غربته عقيدته! وفى سبيل مثل منكرة وأخرى محترمة تحيا شتى الدول.

كانت الجبهة الروسية تنشر الشيوعية ومعها الإلحاد.

وكانت وما زالت الجبهة الأمريكية تنشر الرأسمالية ومعها الاستعمار.

وإذا عريت هذه المآرب من ألبسة الرياء التى تحيط بها أمكنك أن تقول: إن الجنس الأبيض يريد السيادة، وفرض وصايته على الأجناس الأخرى...!

أو تقول: إن الصهيونية تبغى اجتياح العروبة، وإقامة ملك لبنى إسرائيل على أنقاضها.

أو تقول: إن الصليبية تهيجها بواعث الضغينة على ديانة التوحيد، فهى تريد القضاء عليها، والإجهاز على الأمة التى ترتبط بها...!

والذى يهمنا من ذلك العرض الخفيف أن يؤكد للقراء تلك الغايات التى ينشدها غيرنا من الناس، وينشغل بها ليلا ونهارا، سرا وجهارا..

وتصل الأمة إلى مرتبة عالية من النجاح عندما تخلط رسالتها العامة بالأمل الشخصى لكل إنسان..

وبذلك تدور أجهزتها كلها متضافرة متعارفة لتحقيق ما تود...!

ونحن أمة ذات رسالة يعرفها العالم جيدا....!

وسمونا بها حينا من الدهر..

وقد كان إخلاصنا لرسالتنا قديما مصدر عاطفة ملتهبة، وفكر يقظ، وإنتاج كثير، وجهاد موصول، وتضحية غالية...!

ثم بدأت هذه الرسالة تضمحل فى نفوسنا، وتبعها وهن فى الروابط العامة التى تحشد قوى الأفراد لخدمتها...!

وذبول هذه الرسالة الجامعة كانطفاء الأمل فى نفس الإنسان لا يجر وراءه إلا الانكسار والقنوط والاستكانة...!

وقد حاول " البعض " أن يجعل لأمتنا رسالة غير رسالتها، أن يجعل من هذا العوض مصدرا آخر للطاقة المفقودة والعاطفة الحارة، فابتدع القوميات الضيقة والوطنيات الخاصة..

غير أن الظن لا يغنى من الحق شيئا.

وكل محاولة لتمويت الإسلام لا نتيجة لها إلا تكوين أمة ميتة الروح، كاسفة البال، وأفراد لا تنتظمهم آصرة، ولا يلمهم لواء.

أين البذل؟ وهناك أعمال عظيمة تموت لأولى عهدها بالحياة، أو تموت وهى فى ضمير الغيب، لأنها لم تجد العون المادى الذى يمسكها وينميها.

وما أكثر الطاقات التى ماتت فى مهدها، كما يموت الزرع جفافا لانقطاع الماء عنه..

وكان المفروض على أصحاب المال أن يسارعوا إلى استحيائها بما آتاهم الله من فضله.

لكنهم ضنوا بما لهم فى وجوه الخير، وكبوه فى وجوه الشر! فعليهم وزر ما ضيعوا من مصالح الأمة، ثم وزر ما جروا عليها من معاطب..!!

لقد تحول المال فى أيدى هؤلاء الأشحاء إلى لعنة شاملة، بدل أن يكون بركة ينتفعون بها وينفعون..!

ترى هل استفاد الأغبياء من هذا الشح المطاع والهوى المتبع؟ كلا، إنهم اختنقوا فى ثرواتهم كما يختنق الغريق فى اللجة، وسلط الله عليهم من حصدها، وحصدهم معها...!!!

وصدق الله العظيم (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ).

وان المرء لتأخذه الحسرة إذ يجد أغنياء المسلمين أبطأ الناس فى أداء حق وسداد ثغر...!

وأن الخلف منهم لا يعتبر بما صار إليه السلف من بوار!! وبينما تعتمد عشرات الجامعات والمستشفيات ومعاهد التبشير، ومصادر البر على منح وصدقات أهل اليسار من اليهود والنصارى، تجد أغلب أغنياءنا فى أكثر الأقطار صيادى لذائذ، ورواد آثام...!

ومعظمهم ينتسب للإسلام زورا، وباطنه خرب لا أثر فيه لدين!! لكن البذل ليس مفروضا على هؤلاء الأغنياء وحدهم.

فإن الله اشترى من المؤمنين جميعا أنفسهم وأموالهم..

ولو بقى باعث الإسلام قويا كما كان فى الأجيال الأولى لترعرعت مئات المؤسسات بنفقات الطبقات الوسطى والدنيا...!

وأين الأمانة؟ وأعنى بها أول ما أعنى قيام كل إنسان بما كلف به، وإنجازه ما تعاقد مع الدولة والجماعة على إتمامه...!

يا غوثاه من الخيانات الفاشية فى هذا الميدان!!! إنها خيانات لو سلطت على بناء شامخ لسوته بالحضيض.

الغيرة على المصلحة العامة مفقودة بين عدد ضخم من الموظفين والعمال، بل إن الإحساس بحق الجماعة على الفرد، إحساسا يصل بالإنتاج إلى مستوى معقول، لا يكاد يوجد..!

فأنى ننتظر الإجادة والتفوق...!؟؟

وأستطيع القسم بأن العدد الكثيف من الموظفين والعمال الذى يعمل فى الجهاز الحكومى يستطيع ـ لو نبت شعور الأمانة فى قلبه ـ أن يؤدى للدولة عشرة أضعاف ما ينتجه الآن، وأن يمنع من الخسائر مثل هذه النسبة..!!

ولكن الأمانة ترتكز على اليقين.

وأين تجده وسط العواصف والزلازل التى تهز الإسلام بعنف، وتخلع عراه من الأفئدة؟

ندى أمين يقدر الواجب، ويتحمس فى أدائه و أشرف من مائة جندى ليسوا على غراره...!

طبيب أمين يسهر على مرضاه، ويخلص فى رعايتهم، أفضل من مائة طبيب يمرون بالأسرة فى فتور واسترخاء...!

مدرس يسكب العلم من قلبه فى نفوس طلابه، ويحرص على حسن تنميتهم، أنفع من مائة مدرس يدخلون الفصول ليرددوا كلمات ميتة يائسة...!

مهندس أمين يعى ما يصنع، ويبذل وسعه فى إتقانه، أجدى على أمته من مائة مهندس يحيا على هامش البلد، ويترك شئونه العمرانية تسير كيفما اتفق...!

ويطرد هذا الحكم على كل إنسان تستعمله الدولة فى منصب جل أو هان...!

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له ".

وإذا كان الإيمان يتلاشى مع فقدان الأمانة، فإن الدنيا نفسها تذوب مع ضياع الأمانة، ويتصدع كل ما يرتبط بها من منافع عاجلة.

ومن الخيانات الثقال التى تقع فى الأمة الإسلامية تكبير الصغار، وإسناد المناصب الخطيرة إليهم!! وتصغير الكبار، ورميهم فى مؤخرة الصفوف..!!!

فإن الجاهل إذا ملك سلطة ما، عبث بأولى الألباب الواقعين تحت يده، كما يعبث الصبية بما بين أيديهم من لعب..

ولعله يجد فى ذلك لذة ترضى ضعة نفسه، ولا عليه من مصلحة أمته!! وبالله! كم يحرمها ذلك من خير أجل الكفايات، وينكبها بشر أتفهها...!

وقديما قال أبو العلاء: تعد ذنوبى عند قوم كثيرة ولا ذنب لى إلا العلا والفضائل كأنى إذا طلت الزمان وأهله رجعت وعندى للأنام طوائل وفى دنيا الوظائف كما فى دنيا الأعمال الحرة تقع هذه المفارقات المثيرة.

غير أن حياة الدواوين أحفل بتلك المناكر، لأن آثار الفوضى إذا ظهرت فيها أو استكنت لا تجد من يأسى عليها!! ومنذ سنوات وقعت لى حادثة مضحكة، فقد قررت هيئة الإذاعة نقل الخطبة إلى مستمعيها من الجامع الأزهر ـ حيث أصلى الجمعة ـ واتصلت بوزارة الأوقاف لترسل لها صورة النص المعد.

وكلفتنى الوزارة بكتابة الخطبة المطلوبة، فصغت مطلعها على هذا النحو ـ بعد الديباجة ـ.

أما بعد..

فقد قال مؤرخ أوروبى كبير: إن العالم لم يعرف فاتحا أرحم من العرب.

وهذه كلمة حق أملاها الإنصاف وجانبها الهوى...!

فإن المتتبع لأحوال الفاتحين فى التاريخ القديم والحديث، يجد زحوفا أطلقها من مواطنها الطمع وحف مسيرها البغى، وصحب انتصارها الويل للمغلوب، والقهر للمستضعفين.

فكانت هذه الزحوف بلاء على الناس، ودمارا لما عمروا...!

أما العرب الذين طلعوا على الدنيا منذ أربعة عشر قرنا، وانسابوا خلالها شرقا وغربا، فقد كانت زحوفهم طرازا آخر من الفتح لم تعرف الأرض له مثيلا.

لقد طلعوا وكأنهم الأشعة البازغة بعد ظلام موحش طويل....!

الخ.

وعرضت الخطبة على من ملكته الظروف حق المحو والإثبات فى وزارة الأوقاف! فأمسك بقلمه وضرب خطوطا على هذا الكلام كله رافضا له...!

وكتب بدله هذه العبارات: أما بعد: فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

عباد الله: الإسلام دين الرحمة العامة، الرحمة بالإنسانية لا تفرق بين دين ودين، ولا بين قبيل وقبيل، رحمة بالحيوان لا تفرق بين قوى وضعيف، يقول "ص" :"الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" .. و قد غزت رحمة الإسلام اليلاد و نعمت بها الشعوب..

و أحسست دهشة و أنا أرى هذا التبديل..

و قلت: أمثلي يرمي بكلامه و أسلوبه، ليجاء عوضاً عنه بهذا المطلع الذي لا جد فيه غير كلام الله و رسوله "ص" و هو مالم أنس إثباته؟

إذغ وصف الطائي بالبخل مادر * وعير قساً بالفهامة باقل

و قال السها للشمس: أنت ضئيلة * وقال الدجا للصبح: لونك حائل

و طاولت الرض السماء سفاهة * و فاخرت الشهب الحصى و الجنادل

فيا موت زر ان الحياة ذميمة * و يا نفس جدي، إن دهرك هازل

و لم أطلب زيارة الموت – كما فعل المعري- فقد كان الأمر أهون..!

و إنما الذي آسفني أن تسير الأمور على هذا النحو. رمزاً لوأد أي مقدرة وشحا عليها بالظهور...

و لقد خيل إلي أن مخترع القنبلة الذرية لو كان بيننا لدفنه في أودية الإهمال رئيس جاهل، يسفه جهوده و يحقر محاولاته.

و هل تذوي الكفايات إلا في تلك البياءت؟

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا

تبقى الأمور بأهل الرأي ماصلحت * فإن تولت فبالأشرار تنقاد...!

  • هذا الغش العام:

و اصطياد الحياة من أي ناحية.. و بأي أسلوب رذيلة شائعة بين الذين يعيشون في القمم و الذين يعيشون في السفوح.

أن الغالب على الشخص- و هو ينطق في الحياة – الحرص على منفعته الخاصة و تحصيلها بإشراف نفس و شدة نهم ....

و قصة أن "الحلال ما حل في اليد" تهيمن على مشاعر كثيرة.

ونشأ عن ذلك تيار يزين الأخذ، ويكره العطاء، ويغرى بأداء الأعمال مشوهة أو ناقصة أو مغشوشة...!

والغش فى كل شئ طبيعة الأمم المنحطة...!

وربما وقر فى الأذهان أن الغش لا يعدو خداع المشترين بإيقاعهم فى سلعة خفية العيوب لقاء ثمن كامل.

  • وهذا غلط: فإن الغش يتجاوز هذا النطاق إلى كل عمل خلا من الكمال، وكان يجب أن يؤدى على خير وجه ما دام صاحبه قد تناول ثمنه كاملا.

والحق أن الذين يعيشون على هذا النحو إنما يأكلون أموال الناس بالباطل ويسيئون إلى الأمة ورسالتها أبلغ إساءة.

وهم ـ مهما خدعوا أنفسهم ـ آكلوا سحت وأعداء أمة.

إن الإسلام لا يقبل من المكاسب إلا ما كان طيبا بعيدا عن الشبهات.

ولا يقر من المعاملات إلا ما كان واضحا بعيدا عن التغرير والتدليس.

وبعض الناس يوسوس له الشيطان أن يكتسب من المال عن أى طريق تيسر له.

ولا يبالى فى معاملته للآخرين أن يخدعهم أو يغشهم.

وقد يظن ذلك مهارة وذكاء.

وهو فى الحقيقة مكر سئ وتفكير خبيث.

وقد بين النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عواقب هذا السلوك فقال " من غشنا فليس منا، والمكر والخداع فى النار " نعم: المكر والخداع فى النار.

ربما حصل الماكر على ربح عاجل، وربما استطاع المخادع أن يفوز فى الجولة الأولى بيد أن حبل الكذب قصير.

ولابد من فضيحة فى الدنيا أو الآخرة تجلب على الغاشين العار وتجعلهم حطبا للنار وبئس القرار.

إن الغش رذيلة خطيرة النتائج بعيدة الآثار.

والغاش قد يستهين بعمل تافه يرتكبه لأن شهوة الربح الحرام قد غطت فكره.

ولكنه لا يدرى كم سيجلب على الآخرين من شقاء بسوء تصرفه.

فالمقاول الذى يغش فى مواد البناء أو مقاديرها يكسب مقدارا من المال قل أو كثر، ثم بعد أن يسكن الناس فى المبنى يتعرضون للأخطار التى تعكر صفوهم أو تحترم آجالهم.

والمصانع التى تشوب الطعام أو الدواء بما ليس منه وتعرضه فى الأسواق على أنه سلعة كاملة الخصائص نقية الأوصاف، تعرض الصحة العامة لبلاء بعيد المدى، وتصيب الجمهور المسترسل الخالى الذهن بمتاعب شتى.

وأشنع من ذلك أن تصدر البلاد إلى الخارج بضائع معينة معروفة الميراث محترمة السمعة، ثم يفاجأ المشترون بعيوب تظهر فيها تبخس قيمتها وتحط مكانتها.

ولا ريب أن البلاد لا تحصد من وراء الغش إلا محو الثقة بمادياتها ومعنوياتها جميعا، وانتشار قالة السوء عنا فى كل مجال، وتعرض المحسن والمسيء والأمين والخائن، والجاد والمقصر للاتهام المدمر، وينشأ عن هذا أن تكسد سوقنا، وترجى بضائعنا، وينصرف الناس وهم معذورون عن شرائها.

وأنكى من ذلك أن ديننا نفسه سيصيبه رشاش من هذا الغش البين فيصد الناس عنه.

وقد يسخرون منه.

وهذا هو السر فى أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفى الغاشين من المجتمع الإسلامى وعدهم خونة له.

وخارجين عليه، وجمعهم مع المارقين المحاربين فى سلك واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: " من حمل علينا السلاح فليس منا.

ومن غشنا فليس منا ".

وقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرقب الأسواق التجارية.

ويتتبع مسالك التجار وأحوالهم، ويوصى بالصراحة فى المعاملة، ويحارب الغش والتغرير والمخادعة، ويؤسس قواعد الاقتصاد الإسلامى على الأخلاق الشريفة والإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر.

عن قيس بن أبى غرزة رضي الله عنه قال: " مر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل يبيع طعاما فقال: " يا صاحب الطعام.

أسفل هذا مثل أعلاه؟ فقال: نعم يا رسول الله ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من غش المسلمين فليس منهم".

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله- يعنى المطر!! قال: " أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس..

من غشنا فليس منا ".

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق فرأى طعاما مصبرا، فأدخل يده فأخرج طعاما رطبا قد أصابته السماء فقال لصاحبه: ما حملك على هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق إنه لطعام واحد .

قال: " أفلا عزلت الرطب على حدته واليابس على حدته فتتبايعون ما تعرفون..؟

- من غشنا فليس منا ".

وحدث أن أحد الناس اشترى ناقة من دار واثلة بن الأسقع أعجب بها.

فلما خرج ومعه الناقة تبعه واثلة مسرعا يجر إزاره وقال له: اشتريت؟ قال: نعم.

قال: أبين لك ما فيها.

قال الشارى: وما فيها؟ قال: أردت بها الحج.

قال: فأرجعها فهى لا تصلح لك.

فقال المشترى: ما أرغب فى إعادتها.

فقال له واثلة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه.

ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن يبينه.. ".

وفى رواية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من باع عيبا لم يبينه لم يزل فى مقت الله.

ولم تزل الملائكة تلعنه ".

سواء أكان العيب عن غش متعمد.

أو إهمال وتكاسل.

فهو لا يجوز شرعا فالفلاح الذى يعبئ القطن فى أكياس مبتلة بالماء أو ملوثة بالمواد، فهو يرتكب جرما شنيعا فى حق الأمة وثروتها، وحاضرها ومستقبلها...!

عن جرير بن عبد الله: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.

وأن أنصح لكل مسلم.

وكان إذا باع شيئا أو اشتراه قال لصاحبه: أما أن الذى أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك.

فاختر.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

ومن لا يصبح ويمشى ناصحا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم".

أين التعاون؟

ومن أغرب الظواهر فى مجتمعنا أن يكون الإنسان وحده قويا متحمسا، فإذا التقى بثان وثالث، وتألفت منهم " لجنة " ما، هبط مستوى القوى إلى النصف أو الثلث.

وربما كان هذا الالتقاء سببا فى توقف العمل وعطب ثماره!! وقد قلت يوما لصاحب لى: ليس هنا تعاون على بر وتقوى.

ولا تعاون على إثم وعدوان!!

قال: إذن ما هنا؟ قلت: كأن حريقا اندلعت نيرانه، وكل امرئ يفر من لفحه، ويحث الخطا بعيدا عنه ونجاة بنفسه...!!

الميادين والشوارع ملأى بأناس يجرون فى كل ناحية، ما يفكر أحدهم إلا فى غايته، وما يحس إلا حاجته، وما يعنيه من شئون الآخرين قليل ولا كثير!!؟ الأثرة تكاد تحطم كل خلق وكل مسلك..

وما بهذا تقوم أمة أو تستقيم حضارة...!!

وقد تأملت فى تعاليم الإسلام فوجدت الدعامة الأولى فى بناء أمته هى الأخوة..

الأخوة التى تخلع الإنسان خلعا من نطاق الأسرة، وتدفعه دفعا إلى الامتزاج بغيره، ومخالطته فى السراء والضراء، والتكاتف معه على الشدة والرخاء (والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).

وانظر إلى المثل الذى ضرب لهذه الجماعة المؤمنة (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ..).

وقد بدأ الإسلام فجعل الجوار الحسن أول تشابك للخيوط التى تنسج الأمة، وتمتد بها لحمتها وسدادها.

وللجوار حقوق عظام نزل جبريل من الملأ الأعلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصى بها ويوثق عراها..

، وإن كنت اليوم ترى العمارة الكبيرة فيها عشرات الأسر متجاورة.

وأحسن أحوالها أن تغلق كل أسرة بابها على نفسها، فما تحب أن يعرفها أحد، أو تعرف أحدا..

وقد تجمع بينهم المصادفات فى تلاق عابر، حسبهم منه السلام المؤدب!!.

هذه أحسن الأحوال...!

على طريقة الشاعر: إنا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال.!

أما فى أغلب الأحوال فأفئدة مطوية على الضيق، ومشاكسات يكفكفها العجز أو اليأس، ولو بلغت مداها لتدخلت الشرطة لفضها...!

التعاون قانون إنسانى لتحقيق النفع ومنع الضرر.

ولو عشنا بمنطق الغرائز الحيوانية التى تسعى وراء أكبر مقدار من الخير الخاص، لكان التعاون أيسر السبل لنفع الفرد وحده، ورد البلاء عنه.

لذلك كان ترك التعاون يتضمن من غباء الفكر مثل ما يتضمن من ضعف الخلق...!

وقد بلغت الإنسانية فى العمران طورا يكاد يلغى الجهد الفردى المبتور، ويبنى كل شئ على تشابك القوى، وتساند الهمم، والاشتراك فى الغراس والثمار على سواء..

وخير للمسلمين أن يستوحوا من دينهم الروح الملهم والنصوص الموجهة، تلك التى تصوغ مجتمعهم صياغة جديدة، أساسها التعارف لا التناكر، والتجمع لا التفرق...!

وعندئذ يكون التعاون بجميع مظاهره الإيجابية، فى الاستهلاك، والإنتاج فى الماديات والأدبيات، سبيلا لدعم كيانهم وإحاطته بسياج حصين...!

الإختلاف: الفرقة فى حياة المسلمين وتاريخهم، داء خبيث الجرثومة مشئوم البداية، مقبوح الخواتيم...!

والسعى للخلاص منه واجب فى عنق كل مخلص لله ورسوله، ناصح لهذه الأمة، حريص على مستقبلها...!

ونحن نعرف أن هناك خلافا بين الأفكار والأحكام والمذاهب يشبه الخلاف الطبيعى القائم بين الألسنة والألوان.

وهذا خلاف لا يحذر، ولا ينبغى أن يكون مصدر قلق...!

بل هو من آيات الله الداعية إلى التأمل والإعجاب، لا إلى القلق والاضطراب....!!

إن الشاعر ينظر إلى الحقل ليقرأ فى سطور النبات آيات الجمال، ثم تسبح نفسه وراء خيال رقيق، يصوغه فى كلم أنيق...!

على حين ينظر علماء الحياة إلى الحقل نفسه فما يحس أحدهم شيئا مما قاله الشاعر.

إنه مشغول بالتربة وعناصرها، والعيدان ومقدار ما حوت من ماء وألياف، والثمار ومدى ما اختزنت من نشا وسكر.....!!

الخ.

إن الله عز وجل خالف بين الملامح النفسية والفكرية للناس بقدر ما خالف بين ملامحهم البدنية وقواهم المادية.

ولا شك أن هناك معانى عامة يشترك الكل فى وعيها، ولكن من العبث إنكار أثر التفاوت العقلى والعاطفى فى طبيعة الإدراك وأسلوبه...!

إن هذا واقع لا مفر من الاعتراف به....!

ففي قضية الأسرى ببدر اختلفت أحكام الصحابة باختلاف أمزجتهم حدة وهدوءا، وفى الصلاة ببنى قريظة اختلفت أحكامهم بين وقوف عند ظاهر النص، أو تمش مع فحوى الكلام...!

وكان هذا الاختلاف كله شيئا لا يحقر أصحابه، ولا يحرجون به.

ونحن لا نخشى مثل هذا الاختلاف ولا نحاول منعه...!

ولا نتتبع عثرات الناس فيه إذا عثروا...!

بل نتعاون على بلوغ الحق قدر ما نفهم ونطيق، والله حسبنا.

أما الخلاف الذى نبغض، ونعوذ بالله من شروره، ونهيب بكل تقى أن يطفئ ناره، فهو الخلاف الذي يخالطه الهوى، وتصحبه الشهوات، وينفخ فيه الشيطان...!

ويغلب أن يكون هذا الخلاف على الاستئثار بالسلطة، أو على الانتفاع بالحكم.

وهو ـ كما رأينا ـ ينشأ علي الدنيا، ثم تلتمس له الأسباب والمسوغات من الدين، لكى يكون خلافا إسلاميا لا شخصيا!! وربما نشأ هذا الخلاف دينيا فى مهده...!

ثم تتدخل الحزازات والشهوات فتوسع هوته، وتضاعف شرته، وترتب عليه من النتائج ما لا يجوز فى دين ولا عقل.

وقد رمقت ما شجر بين المسلمين من خلافات دامية، فلم أر هنالك علة دينية محترمة تذكر لتبرير هذه المجازر، واستبقاء هذه الفرقة.

فى يوم واحد، سقط ثمانية عشر ألف قتيل فى معركة بين الشيعة والسنة دارت رحاها بآسيا الصغرى....!

بالله!! لم هذا الجبل المركوم من جماجم الضحايا؟ إن هؤلاء القتلى الأبرياء الذين سقطوا من الفريقين سوف يحاسب عنهم نفر من الحكام الجائرين...!

وغريب أن يختفى هذا النزاع السياسى وراء ثوب التدين...!!

ما دخل الدين فى هذه المعارك.؟

لقد خدع العامة من الشيعة فقيل لهم: إن أهل السنة يكرهون قرابة رسول الله ويبغضون آل البيت...!

وخدع العامة من أهل السنة فقيل لهم: إن الشيعة زعموا عليا أحق بالنبوة من رسول الله، وأنهم يتبعون قرآنا غير الذى بأيدينا..

وتلك المزاعم كلها افتراء...!

فالمصحف الشريف لا يختلف عليه شيعى أو سنى، وليس هنالك مصحف فى بلاد الإسلام كلها يخالف مصحفا آخر من القرن الأول إلى هذا اليوم.

ومحمد هو وحده الرسول، وهو أفضل الخلق عند المسلمين قاطبة، ما يدانيه فى مرتبته أحد..

وأهل بيته موضع الإعزاز والتجلة ما يفكر فى كراهيتهم مسلم.

وإذا تركنا هذا اللون من الفرقة وجدنا بين المسلمين مناوشات جنسية أخرى لا سناد لها إلا دعوى الجاهلية، فالإسلام لا يعرف فروقا بين أبنائه من الهنود، والأتراك، والفرس، والعرب، والبربر..

بيد أن أصحاب المطامع لا يبالون فى سبيل تمزيق الأمة الكبرى بإثارة نعرات لا تخدم الجماهير، ولا يصلح بها الدين، ولا ينتفع بها العالم...!

إنما هى ستار لمجادة شخصية، وحماقة عنصرية، وتلك كلها ويلات تقع على رؤوس الجماهير وتشقى بها قضايا الإيمان.

عندما يصاب الجسم بسرطان الدم يقع بين الكرات البيضاء والحمراء نزاع عنيف، فيلتهم بعضها بعضا، ويأخذ الجسم طريقه السريع إلى القبر.

وعندما تصاب الأمة بداء الفرقة يقع بأسها بينها، ويتحول كل حزب إلى مكايدة الآخر وإيذائه، وينحدر الكيان كله إلى الموت!! فلا جرم أن معظم القربات عند الله تجنيب المسلمين هذه الكوارث، والتقريب بين أفرادهم وجماعاتهم، وإصلاح ذات بينهم حتى يلتقوا على غايتهم العظمى، ويؤدوا فى العالمين رسالة الإسلام.

  • الصلاة: نحن نؤمن بقيمة التوفيق الإلهى، وروعة الإمداد الأعلى!! ونعتقد أن الناس يوفرون على أنفسهم متاعب اللف فى الطرق الضالة والتعرض لوعثائها، وأذاها..

عندما يطلبون من الله بين الحين والحين أن يسدد خطاهم ويصون وجهتهم...!

ولن يأتى على الناس يوم يستغنون بعزائمهم ونشاطهم عن الله جل شأنه كلا.

إن حاجتهم إليه ماسة، وملحة، ودائمة..!!

وكما تحتاج أبدانهم إلى وجبات الطعام كى تحيا، تحتاج أرواحهم إلى أوقات الصلاة كى تصفو وتزكو وترشد...!

(فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).

وقد حضرت الأحفال التى أقامها زوار القاهرة من القساوسة الأمريكيين واستمعت إلى الخطب التى ألقوها، وراعنى أن القسيس الشاب الذى يتحدث باسم قومه قال فى نهاية كلامه: فلنصل لله الآن كى يبارك جمعنا، ويصلح عملنا...!

وتلا الرجل بعض الأدعية المأثورة لديهم.

وقد قارنت بين هذا القسيس الأمريكى الناشط الذكى، وبين طوائف المثقفين من شبابنا الذين يستحيون من إقامة الصلاة، وعرفت مدى الهاوية التى سقطنا فيها، وحرمتنا من رعاية الله بعدما أبنا بسخط عباده وازدرائهم.

إن الصلاة عندنا حرفة بعض الكسالى، أو مسلاة من تركوا وظائفهم، ووجدوا فى المساجد متسعا لهم...!

أو عادة أقوام يخلطونها بسلوكهم لا لتطهره، بل لتستره.

وقلما يكون اتجاه العبد المنيب إلى خالقه الكبير، استدامة لذكره فى مواطن الغفلة، وإقرارا بشكره على ما أسدى من جميل..

والصلاة فى زماننا هذا معزولة عن حياة الكبراء فى الجملة.

وقد تركها جمهور الشباب والمتعلمين والأغنياء والقادرين.

لقد استغنوا عن الله فاستغنى الله عنهم...!

ولا أدرى! بم ننشد فضل الله، وبره، ونصره، ونحن على تلك الحال الكنود؟ إننا لو وصلنا الليل بالنهار دأبا، ثم حرمنا عناية السماء، فلن نحصد من تعبنا إلا البوار..!

ولنعلم أن إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، أمارة على انحطاط الأمة وسوء مصيرها.

قرأت وصفا لرواد المساجد فى هذه الأيام جاء فيه: " الناس فى الميادين والطرقات ألوف ومئات يزحمون المسالك، ويعمرون القهوات، ويطيلون الوقوف والمرور، حتى كأنهم فى موكب أو عيد.

والمسجد ـ ضاقت رحابه أو اتسعت ـ لا تشغل منه إلا صفوفه الأولى، أما جنباته فهى فراغ ووحشة...!

والذين يقفون للصلاة قلة لا يعيينى حصرهم، ولا التفرس فيهم، هم بين شيخ فان، وفقير بائس..!!

رأيت الذين نهضوا للصلاة ممن مسهم ضر الهرم وضر الفاقة..

معمر قوست ظهره السنون فلا يستوى قائما أو راكعا، وضرير قادته العصا فى نور من قلبه أو من صحبه، ومرتعش لا تستقر يده على حال، ومقعد لا يقوى على قيام أو استواء، وضعيف إن ركع أعياه السجود، وإن سجد أضناه الرفع..!!

ثم هذا بواب العمارة فأين صاحبها، وأين ساكنها؟؟ وهذا سائق السيارة فأين راكبها الذى يختال بها فى مواطن اللهو والزهو والضلال؟ وهذا ساع أو حاجب فأين المدير؟ وأين المراقب؟ وهؤلاء الفانون الذين تلهث أنفاسهم من كر الدهور، فأين الشباب الأقوياء الأصحاء المفتولو السواعد؟ ".

يا قومنا ما هذا الذهول، يا قومنا أين تذهبون؟؟ (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين).

الإسلام .. أساس حياتنا، وسر قوتنا، وضمان بقائنا

الإسلام ـ فى كياننا الحسى والمعنوى ـ موضوع وشكل، وحقيقة وعنوان...!

هو ـ بالإضافة إلى وجودنا ـ الدعائم الوثقى، والأصباغ الملونة، ـ وبالإضافة إلى حركتنا ـ القدرة الدافعة والوجهة المنشودة..!!

وتوضيحا لهذا الكلام لابد من شرح وجيز للمجال الروحى الذي يعمل فيه الإيمان.

وبيان لمدى الفراغ الذى يملؤه في مقاصدنا الداخلية ونشاطنا الخارجى على سواء.

المسلم إنسان يؤمن بالله الواحد الصمد، ويصوغ حياته وفق أوامره ونواهيه.

ويوقن بأن المبتدأ منه، والمنتهى إليه، فهو يجعل له ما بينهما....!

ويحكمه فى شئونه كلها لأنه أولا لا يرضى غيره حكما، ثم لأنه يلتمس الرضوان والسعادة من وراء هذه الطاعة التامة والتسليم المطلق..

ورباط المؤمن بالله يلقى فى روعه، أنه حزبه، وأنه وليه، وأنه تابعه المخلص الوفى...!

وأن سره وعلنه، وقلبه، ولبه، لمولاه وحده، مقتديا فى ذلك بنبيه محمد الذى علمه ربه أن يقول: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

وقد تتعرض هذه العلاقة للضعف والقوة، والغموض والوضوح، غير أنها موجودة أبدا.

وهى فى امتدادها الواجب، أو فى نموها الذى تبلغ به تمامها، تستحوذ على الإنسان كله، ولا تبقى فيه فضلة لأحد..

والشواهد على هذا الكلام فوق الحصر من كتاب الله وسنة رسوله.

ولكنى أختار هنا حديثا رقيقا رواه البخارى بروايته، ولا مراء عندى فى صحته لأنه متفق أتم الاتفاق مع سائر الآيات والسنن.

وهذا الحديث قدسي من رواية الرسول عن ربه.

" من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب...!

وما تقرب إلى عبدى بشئ أحب إلى مما افترضت عليه.

ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه.

فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها..

ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بى لأعيذنه..

وما ترددت فى شئ أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته...!

ولنتناول فقرات هذا الحديث بالشرح السريع: إن الجملة الأولى ظاهرة المعنى، فإنه حق على الله أن يحمى من آواه فى كنفه، وأن يعلن سخطه على من تعرض للصالحين من عباده.

وولاية الله قد تعنى درجة مرموقة من التقوى والاستقامة، يستحق أهلها النصرة والرعاية...!

بيد أن المؤمنين جميعا لا يحرمون من هذا الوصف العزيز ما دام يقينهم نقيا.

(ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).

ولموالاة الله منهج مبين، لا يؤذن لأحد أن يتزيد فيه، ولا أن ينتقص منه، هو أداء الفرائض التى فصلت تفصيلا أحصى ما يحبه الله من خلقه، وما يرضاه لهم، ويرضى به عنهم..

فإن توسل امرؤ إلى الله بغير هذا، وزعم أنه جاء بما يحبه الله فهو كاذب..

والفرائض المبينة فى الكتاب والسنة معروفة.

والمهم أنها متكاملة، أى أن الكل منها ـ بتعبيرنا المعاصر ـ قاطعا من الحياة العامة تعمل فيه وتتكفل بإصلاحه.

فإذا أديت كلها على وجهها المشروع، استقينا من معانى الخير والحق التى نهضت عليها هذه الحياة.

فالصلاة كفيلة بتزكية النفس وتنقية معدنها من الشوائب، أو هذا شأنها كما أن وظيفة الطعام تغذية الجسم...!

فإذا أصيب الجسم بديدان تمتص الغذاء وتبطل الثمرة، فليس العيب فى الطعام وأثره المقصود، إنما العيب فى العلل التى أبطلت فائدته...!

والزكاة كفيلة بسلامة المجتمع، وإعانة الجوانب المائلة فيه، وبث روح التعاطف بين أفراده..

والأمر بالمعروف كفيل باستحياء معنى الحق واستدامة هيبته، وإشراب الأمة احترامه والعمل به.

والحكم بما أنزل الله كفيل بحسم الشر، واستئصال مادته، وإشاعة الأمان والثقة حول الدماء والأموال والأعراض.

والمشى فى مناكب الأرض، ابتغاء رزق الله من شتى موارده، كفيل بتوفير الغنى للفرد والرفعة للمجموع، والعمران للدنيا..

وهكذا.

والفرائض التى سقنا أمثلة لها هى الأنصبة الدنيا لمطالب الإسلام فى كل قطاع حيوى.

فإن من فرط فى فريضة انثلم إيمانه، وانهد ركن خطير فيه، وتعرض سائره للضياع...!

ولا يقبل الله من مسلم إلا أن يؤدى الفرائض كلها تأدية تامة.

فلو أدى بعضها ورفض البعض الآخر لم يقبل منه الذى فعل، وحق عليه قوله عز وجل: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون).

ويظهر من ذلك الوعيد أن الفرائض التى أديت هى صورة عبادة فقط.

لعل باعث أدائها التعود أو الوراثة، وليس اليقين القوى.

ولو كان اليقين الصحيح باعث أدائها لما تخلف أثره فى بقيتها، وإلا فلماذا تركت؟

ومن ثم فنحن نشك فى إيمان من يصلى ولا يزكى...!

أو من يفعلهما معا ويهدم حدود الله الأخرى..

إن الفرائض ـ من واجبات تفعل ومحرمات تترك ـ نسيج متشابك لا يجوز خرقه، ولا تقطيعه استغناء بقطعة منه عن قطعة ..

فمن تشبث بها كلها أصاب الحق، ونال الرضا، ودخل فى موالاة الله، وأضحى من حزبه...!

لكن هذه الفرائض لا تشغل وقت الإنسان كله، ولا تستغرق جهوده جميعا...!

سيبقى له بعد إنجازها وقت وجهد يستطيع أن يتصرف فيهما كيف أحب..

فمن أنفقهما فى اللهو المباح جاز له.

ومن قرر توجيه جزء آخر منهما لله، فقد وضع رجليه فى أولى درجات السلم العظيم..

سلم الاتصال بالله، وإحراز المزيد من عطفه ولطفه...!

والناس متفاوتون فى مدى شغلهم بالحق، والتفاتهم إليه، وجهادهم فيه.

وإلى هذا يشير الحديث " ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ".

والنوافل هى الزيادات على الفرائض، وهى زيادات منوعة كذلك من جنس ما فرض الله على عباده...!!

ومجالها جميع القطاعات التى تعمل فيها الفرائض، وتقيم بها أرجاء الحياة العامة، على نحو ما شرحنا آنفا...!

وليست النوافل ركعات وحسب، أو صدقات وحسب! إنها المزيد من العمل لله فى كل ميدان، عملا تصحبه النية الخالصة، ويستهدف به إقامة الدين ودعم أمته...!

غير أن هناك فرقا لابد من كشفه، فالمسلم بالنسبة إلى الفرائض ملزم بها واحدة واحدة..

أما النوافل فإن قيامه ببعضها يغنى عن البعض الآخر..

وذاك لأن استعداد الناس للتجويد والتوسع غير متاح لهم فى كل ميدان.

إنه راجع إلى مواهبهم الأولى، وما انفتح لهم من أبواب الخير، أو ما تمهد لهم من أسباب النشاط والتمكين..

المدرس قد يكون مجال تفوقه فى شرح العلوم، وتنشئة الأولاد على أحسن غرار.

والطبيب قد يكون ميدان حماسه علاج المرضى، وتتبع آلامهم بالمحو أو التخفيف.

وأيما مسلم استكمل الفرائض، ثم كرس وقته وجهده في إحسان عمل ما من أعمال الخير التى تعز الإسلام وأهله، فقد سلك طريقا موصلا إلى محبة الله حتما.

(ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور) *** والدرجة العليا فى هذا السلم أن يستغرق المرء فى تلك الأعمال استغراقا يملك مشاعره وأعضاءه.

فهو بحرارة الإخلاص وصدق التوجه مشغول بها، وبمن يؤديها له، عن كل شئ آخر.

هنا يحبه الله، فإذا أحبه أعانه على ذكره وشكره، وسخر حواسه وجوارحه فى هذه الأعمال الخالصة له...!

" فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها ".

أى كانت حياته كلها، وأفكاره ومشاعره وقفا على...!

ألا ترى الشاعر الغزل يقول:

لا أرى الدنيا على نور الضحى

بل أرى الدنيا على نور العيون

إن عشقه للنساء من سمر وشقر، وحور ودعج، جعله لا يحس جمال الدنيا فى ضوء الشمس، وإنما يحس جمالها فيما يتاح له من حب للنساء، وصلة بهن..

والواقع أن الذى يستغرق فى عمل ما، أو تستحوذ عليه فكرة ما يحتبس فى جوها، ويذوق السعادة فى نطاقها، ويشعر بالغربة بعيدا عنها، ويستوحش من كل شئ يعكر عليه الخلوة بها!!! على أن هنا لفتة...!

أن أحدا لن يفرض على الله صداقته، فالله تبارك وتعالى هو الذى ينظر إلى عباده، ويمتن على من شاء منهم بقوة الصلة، وجميل الرعاية...!

وهذه اللفتة مفهومة من قوله: فإذا أحببته كنت سمعه...!

الخ.

أى جلوت العوائق والشواغل عن حسه ومعناه فصار يسمع بى، ويبصر بى.

ومن الجهل توهم أن هذا الذكر المشرق بالله، لا يكون إلا فى خلوة من الناس، أو لا يتم إلا بعد فرار من المجتمع، كلا...!

إن هذا الذكر مخلوط بعمل المرء داخل الحياة نفسها، وبتصرف يده ورجله، وسط ضجتها الكبرى..!!

وأروع ما فى الحديث هو التنويه بأن المسلم إذا فنى فى رسالة..

اشتغل بها كلا وجزءا، فهو يرضى لله ويسخط لله، ويطعم لله ويتبسط لله، وينام لله ويصحو لله، ويجم ويكدح لله..

الخ.

لقد تحول ـ فى ميدان الحياة الرحبة، وعلى ظهر الأرض الطويل العريض، قوة تشكل ما يقع فى نطاقها وفق فطرتها هى..

لقد أصبح كالنحلة، تتعرض للأزهار والأثمار فتحيلها شهدا شافيا، لأن هذه طبيعتها التى لا تحسن غيرها...!!

وفى الحديث: " مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وقعت على شئ لم تخدشه ولم تكسره ".

لو أن أحد رجال المال اختير عضوا فى مجلس إدارة لإحدى الشركات، فانكب على عمله هذا يؤديه بقوة، ويحاول ترقيته وتنميته، ويحلم فى منامه بطرق استثماره، ويكرس صحوه لحراسته.

وهو فى هذا كله يرمى إلى دعم الاقتصاد الإسلامى، ومطاردة الغزو الأجنبى، ورفع مستوى الأمة التى وقف على ثغرة خطيرة فيها...!

فليس يشك أحد من علماء الإسلام فى أن هذا الرجل مجاهد فى سبيل الله!.

وأن تفانيه فى هذا المجال ـ بعد استكمال الفرائض المكتوبة ـ يجعله من أولياء الله الصالحين، الذين عناهم هذا الحديث الشريف.

إن باب النوافل واسع، ويستطيع المسلم المؤدى للفرائض أن يحرز أعلى درجات القرب من الله عن طريق أي عمل صالح، عادى أو عبادى، ما دام عميق الإخلاص، ناظرا إلى وجه الله فى كل موطن..

المسلمون الذين يتدافعون فى طريق الحياة مواكب مواكب، بهذا القصد العالى، وذلك الهدف النبيل، هم أولياء الله الذين يساق فيهم هذا الحديث، والذين يقال فيهم (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم).

فأما بشرى الحياة للمؤمنين الأتقياء، فسكينة النفس، ونباهة الشأن، وحسن الذكرى، وقوة التمكين فى الأرض..

وأما فى الدار الآخرة، فظفر بنعيم الله، وإقامة فى رضوانه...

ثم ينبغى أن يحكم الأمور بنهاياتها الحاسمة لا ببداياتها المتشابهة.

فقد يحزن المؤمن فى المرحلة الأولى، لأن طبيعة الدنيا الابتلاء.

لكن العزيز الغالب على أمره، لا يغير قوانينه ولا يبدل كلماته.

ولذلك أتبع الآيات السابقة بهذه الآية المواسية: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم).

وانك لتجد فى هذا الحديث القدسى أن المؤمن بعين الله، فى آلامه كلها.

إن الله يجيبه إذا سأل، وهو حصنه إذا استعاذ.

لكن القدر المكتوب لابد من إنفاذه.

وإنفاذه ليس علامة قطيعة وغضب..

وتأمل فيما تتضح به هذه العبارة من حنو ومحبة : " وما ترددت فى شئ أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته "..!!

إنه يحب الحياة، ويود ألا يتركها، وألا ينغص فيها إذا صحبها..

لكن الموت حق.

فانظر ما يكتنف إيقاعه فى نفس الله..

مما يشير إلى مقدار إعزازه- جل شأنه- لأوليائه..

قلت: إن هذا الحديث موافق لهدايات الكتاب والسنة فى بيان حقيقة الإيمان والعمل الصالح.

فإن المسلمين ـ إبان استقامة تفكيرهم ـ لم يختلفوا فى تفسير هذا العمل المنضاف إلى الإيمان.

ولست أدرى: كيف فهم المتأخرون من أمتنا أن هذا العمل هو العبادات وحسب؟! العمل الصالح الذى يتقرب به إلى الله، ويبتغى به رضاه، يستوى فى تقويمه أن يكون عملا عاديا أو عباديا.

فكلاهما فى نظر الإسلام أداة حسنة للخير، ومظهر جيد للهدى والحق!! وفى الحديث القدسى الذى ذكرناه إشارة إلى الوظائف الطبيعية لحواس الإنسان وأعضائه..

فالسمع والبصر هما المنافذ الأولى للعقل.

وبهما يكون معلوماته عن كل شئ.

واليد والرجل هما المظاهر الأولى للحركة.

وبهما ينفذ المرء أغراضه، ويحقق مآربه.

ومعنى إثبات هذه الأربعة فى الحديث، أن الإنسان المؤمن بربه يصل إلى المنتهى فى مرضاته يوم يكون حياته العلمية والعملية كلتاهما مسخرتين لرسالته السماوية..!!

وأظن ذلك إحصاء للنشاط الحيوى كله لا يستبقى وراءه شيئا..!!

غاية ما هنالك أن الإسلام اعتنى بطائفة من " العمل الصالح " ورسم لها هيئات وصورا لا تعدوها، ولا تتغير بتغير الأزمنة، كالصلاة والصيام..

وترك بقية الأعمال مطلقة لا يحدها إلا الإطار العتيد الذى لابد منه، وهو النية الخالصة والغرض الشريف.

ومع توفر النية الصالحة، توزن فى كفة الحسنات أشياء لا تخطر بالبال..

روى البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من احتبس فرسا فى سبيل الله، إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه، وريه وروثه، وبوله فى ميزانه يوم القيامة " يعنى حسنات.

وفى رواية له: قيل يا رسول الله..

فالخيل؟.

قال: " الخيل ثلاثة، هى لرجل وزر، وهى لرجل ستر، وهى لرجل أجر.

فأما الذى هى له وزر، فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء- مناوأة- لأهل الإسلام، فهى له وزر...!

وأما التى هى له ستر، فرجل ربطها فى سبيل الله، ثم لم ينس حق الله فى ظهورها ولا فى رقابها، فهى له ستر.

وأما التى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله لأهل الإسلام فى مرج أو روضة..

فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شئ إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات..

ولا قطعت طولها ـ حبلها ـ، فاستنت شرفا أو شرفين ـ يعنى جرت شوطا أو شوطين ـ إلا كتبت له آثارها وأرواثها حسنات.

ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات ".

ما هذا..؟

إن الهدف العظيم يتمحض الرجل لخدمته يجعل كل شئ بين يديه من حوله عملا صالحا وخيرا جزيلا..

إن القصد العالى يملأ فؤاد الرجل، فإذا كل شئ وضع فيه يديه يتحول إلى صلاة وزكاة، ومثوبة غامرة..

ماذا يصنع الإسلام أبعد من هذا فى توسيع ميدان العمل الصالح؟ ماذا يصنع بعد أن جعل روث الدابة المعدة للخير فى ميزان الحسنات؟ هل يدرى العامل المعفر الجبين بسواد الدخان، وغبار الجو، أن كفاحه هذا نور يشرق به جبينه يوم القيامة، إذا كان نظيف النية فى عمله، نبيل الغاية فى سعيه؟؟ ! الأعمال المعتادة كلها، التى يباشرها الناس من كل جنس على أنها شئ طبيعى فى حياتهم، أو على أنها مأرب شخصى، أو خدمة جماعية..

هذه الأعمال كلها إذا باشرها امرؤ أسلم لله وجهه، وأحسن من أجله عمله فهى ـ على اختلاف فنونها، وسعة ميادينها ـ واشتمالها على تجارة أو زراعة أو كتابة أو دراسة...!

الخ: أعمال صالحة مؤكدة الثواب..!!

(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

وتتحول الأعمال العادية إلى فرائض محتومة مثل الصلوات المكتوبة إذا ارتبطت رسالة الأمة بها وتوقف نجاحها على التفوق فيها..

وفى هذا الزمان ليس نهوض المسلم إلى تجربة كيماوية، أو صناعة آلية، بأقل من نهوضه لصلاة يفتتحها بتكبير الله، ويختتمها بالسلام على خلقه!!! على هذه الركائز من رسوخ اليقين، وشمول العمل قام الفكر الإسلامى والمجتمع الإسلامي.

انطلقت الحضارة الإسلامية صعدا تشق طريقها فى أطواء التاريخ، وتصنع للإنسانية جمعاء ما لم تصنعه حضارة أخرى..

لم يكن البشر فى ظلها يعانون فراغا ما فى صلاتهم بأنفسهم أو صلات بعضهم بالبعض الآخر، أو صلاتهم جميعا بالدولة الموجهة وإن اضطرب حبل الحكم..

ونهضت الثقافة الإسلامية بعبئها فى كل ميدان.

فدراسة القانون وتطبيقه، ودراسة الخلق وتطبيقه، وتعليم الآداب من شعر ونثر، وتعهد الأولاد بالتربية، وضبط التقاليد الشائعة بين شتى الطبقات، وإجادة الحرف والمهن والفنون التى يستمسك بها العمران، وسد حاجات البلاد العسكرية وما يقتضيه ذلك من براعة وإعداد..

كل هذا النشاط الإنسانى كان فروعا لشجرة واحدة، يغذيها وينميها روح واحد، وتدوى أو تزدهر فى ظروف متقاربة.

كان الإسلام هو المعنى الجامع المحيط بهذه الحياة الممتدة المتشابكة.

يدخل الرجل المسجد بالحالة التى يدخل بها المتجر أو الديوان.

ويسمع النداء للجهاد فيجود بنفسه، أو بابنه لله، دون ارتياب.

ويذهب إلى المحكمة ليستقبل حكم القاضى بإقامة الحد أو القصاص، وهو شديد التسليم لإرادة الله .

لقد رضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.

وفى ظلال هذا الرضا يقبل ويدبر، ويضحك ويبكى، ويحيا ويموت.

ولقد طوت الأمة الإسلامية قرونا عديدة، وجازت عقبات كؤودا، وهى مشدودة الأواصر بهذه المواريث الروحية والفكرية، محكمة النسج بتلك الروابط المادية والأدبية.

يصعد الجد بها ويكبو، وتمر بها أيام سعد ونحس.

حتى تعرضت منذ قرن لأخبث استعمار عرفته منذ وجدت.

فإذا هذا الاستعمار يصوب قذائفه بمهارة ودأب نحو مواريثنا الثقافية، ويبذل آخر ما لديه من دهاء وعنف لجعل الأمة برمتها فى ناحية، وجعل تعليمها وتشريعها وخلقها وأمانيها فى ناحية أخرى غير ما تؤمن به وتحن إليه..

إنه يحول بين المرء ونفسه...!

إنه يحول بين الأمة، وروحها، وضميرها، وتاريخها، ورسالتها.

وهو بهذه الحيلولة يحكم عليها بالموت البطئ أو السريع، على قدر ما يلقى من نجاح فى كيد!! أجل.

إن القضاء على ميراثنا الروحى والفكرى ـ نحن المسلمين ـ هو التمهيد الحاسم للقضاء علينا إلى الأبد.

ولست أجد أصدق ولا أفصح ـ فى تقويم هذه المواريث ـ من الكلام الطيب الذى ألقاه في قاعة الأزهر الأستاذ محمد فريد أبو حديد.

فقد بين أن الأمة من غير هذه المواريث لا تساوى إلا صفرا، وأنها بدونها لن تعقل خيرا، ولن تستطيع خطوا...!

قال: " وما دامت هذه المواريث الثقافية هى التى تخلع على الأمة شخصيتها وتشكل حياتها، فهى التى تجعله تحدد لنفسها غاية، ثم تسعى لتحقيقها..

وهى التى تجعل لحياتها معنى وتراها جديرة بأن تحياها.

وهى التى تحمل على أن تحب أو تكره.

وتصادق أو تعادى، وتأمن أو تخاف...!

هى التى تقيس بها الأمور لتميز ما هو جميل وما هو قبيح، وما هو كريم وما هو دنئ.

هى التى تهديها إلى مواطن كرامتها، وتصدها عن مواطن هوانها.

وهى التى تدلها أين توجد حريتها وإنسانيتها، فتدفعها إلى التضحية بمادة الحياة، وبالحياة نفسها فى سبيل ما تعده قوام حياتها وحريتها ".

قال: " والمواريث الثقافية بانتقالها من جيل إلى جيل تحفظ على الأمة كيانها، فإذا اعتراها ما يعجزها عن ذلك الانتقال كانت الأجيال التالية معرضة لفناء شخصيتها.

وقد يؤدى ذلك إلى فناء الأمة نفسها بصفتها عاملا من عوامل بناء الحضارة"...!

ثم قال الأستاذ منوها بعظمة الإسلام وصلاحيته المطلقة لقيادة النهضة، تحت عنوان: " الإسلام وعاء مواريثنا الثقافية ": "...!

ويمتاز الإسلام بأنه الحلقة المتممة للديانات الكبرى، فهو لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين طبقة وطبقة، بل ترتكز دعوته العليا على أسس إنسانية شاملة لا تفرق فى الرعاية بين حقوق للمجتمع وحقوق للفرد.

وليس فيها فصل بين ما على الحاكم، أو على المحكوم من واجبات.

بل هو دين ينظم حياة الإنسان من جانبيها الفردى والاجتماعى.

والإسلام يقيم تنظيم الحياة على عقيدة يؤمن بها الناس، ويدع لهم أن ينظروا فى أمورهم على هدى عقيدتهم، وينذرهم بأشد الأخطار إذا هم تنكبوا وحيها.

ونحن إذا قلنا: إن الإسلام وعاء مواريثنا الثقافية، فذلك لأن الإسلام ينطوى على خير ما فى مواريث الديانات الكبرى ويتممها، كما أن هذه الديانات الكبرى تنطوى على خير ما فى المواريث الثقافية الإنسانية من عناصر تنظيم الحياة الاجتماعية ".

على أننا إذا نظرنا إلى الخلف، محاولين استقصاء العبر من تاريخنا الطويل نجد مآسى جمة قد حاقت برسالتنا، وتركت غضونا عميقة فى ملامحنا.

ولذلك يقول الأستاذ أبو حديد: " لقد توالت على الأمة العربية والإسلامية كوارث شديدة، وعصفت بها حوادث خطيرة من خارجها ومن داخلها.

فمن الخارج تعرضت الأمة لغزوات أجنبية متعاقبة ما زالت تلح عليها منذ ثمانية قرون أو تسعة إلى أمسنا القريب، بل إلى يومنا هذا.

ومن الداخل تعرضت الأمة لأجيال من الحكام والسادة المفسدين الذين كانوا يعملون على تحطيمها، وهم المسئولون عن صلاحها.

وكان أكبر هم للمغيرين من الخارج، وللمفسدين من الداخل، أن يدمروا أول كل شئ هذه المواريث التى تحفظ كيان الأمة وتكفل حياتها ".

لكن هل نستسلم للخطأ، ونتهاوى فى حفر الفناء...!؟

كلا!! يقول: " ما أجدرنا نحن فى نهضتنا الحاضرة أن نستخلص العبرة مما جربته الأمم الأخرى، وأن نعرف أن المواريث التى حفظت عليها حياتنا وشخصيتنا وحريتنا عبر القرون الماضية هى الكفيلة بحمايتنا، وحفظ حرياتنا وحقوقنا فى مستقبل أيامنا ".

ثم يقول شارحا أمثل الطرق للعمل الواجب: " الأمة العربية فى عصرنا هذا تستقبل نهضة لا شك فيها.

نهضة كموجة المد تعلو فى أناة، ولكنها تمتد ولا يمكن إنكارها أو وقفها..

إنها إفاقة جبارة بعد غفوة طالت بهذه الأمة نحو خمسة قرون أو تزيد كثيرا أو قليلا بحسب ظروف الأماكن والحوادث.

هذه الأمة تنبض بالحركة فى كل مكان من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ومن شمالها إلى جنوبها.

بل من الحق أن نقول: إن حركتها تعدت حدودها، وسرت هزتها إلى قارات أخرى تحيط بها.

هذه النهضة متعددة الجوانب والمظاهر، وبقدر ما تنطوى عليه من قوة وحياة، وبقدر تعدد جوانبها ومظاهرها، تتعدد فرص التدافع والتصادم بينها وبين النظم القديمة، التى أصبحت اليوم غير صالحة لأن تكون تطبيقا سليما لمواريثنا.

ومن هنا نشأت مشكلة أو مشكلات عدة.

فالأسلوب القديم الذى طبقت به مواريثنا يحتاج إلى وضع جديد يتلاءم مع هذه النهضة.

ويمكننا أن نشبه مشكلتنا بحالة صبى كان يعد له ثوب على قد من نسيج معين، ثم كبر عن قد ثوبه، فاحتاج إلى ثوب يناسب جسمه.

أو حالة مريض هزيل دب فى جسمه البرء، وأخذ جسمه ينمو ويمتلئ..

فهو فى حاجة إلى ثوب يناسب حالته بعد الشفاء.

ومن المغالطة الواضحة أن يزعم أن النسيج أصبح لا يوائمه.

إن تفصيل الثوب هو الذى يحتاج للتلاؤم مع الجسم، وأما النسيج فهو النسيج الذي سبق لنا تجربته، وتحققت لنا متانته، ونفاسة مادته ".

ولكن باسم " التطور " ظهر فى جملة أقطار إسلامية أناس يكرهون الإسلام، ويضيقون بذكره أشد ضيق، وهم يحاولون عبثا أن يقيموا إصلاحات، أو ينشئوا يقظات، لا تمت إلى الإسلام بنسب، ولا صلة!! وقد استطاع بعضهم الإغارة على الحكم ، وتسخير سلطاته فى التدمير على الدين، ونبذ شرائعه، وإقصاء دراساته، وإماتة أهدافه.

ولما كانت الجماهير تحب دينها، وتتعلق بتعاليمه وتقاليده، وتود تنشئة أولادها عليه، واستدامة الحياة فى كنفه، وتقاوم ذلك العدوان البغيض على مواريثها المقدسة.

فإن هؤلاء الحكام لم يقدروا على البقاء فى كراسيهم إلا بالحديد والنار ووراء أسوار من الاستبداد والغشم...!!!

إن الحريات المكفولة أعدى عدو لهؤلاء الحكام الكفرة.

ذلك أنهم كى يقيموا الأنظمة التى يريدون.

يجب أن يزيلوا المخلفات القديمة ـ كما يسمونها ـ وأن يغيروا بيئات أمضى الزمان فى بنائها الروحى أربعة عشر قرنا.

ودون صوبات هائلة، وعراك طويل.

ولن تنتهى هذه المحاولات أبدا بخير يعود على الأمة، أو يصون غدها.

ونختم هذا البحث بكلمة أخيرة للأستاذ أبى حديد، لعلها تكون عظة زاجرة لأولئك الحكام السفهاء...!

قال: " وقد سبق أن بينا فى ثنايا هذا الحديث ما ينطوى عليه مبدأ نبذ المواريث من مغالطة فى المنطق.

فلننظر الآن إلى ما ينطوى عليه هذا المبدأ من الخطر الفعلى فى الناحية التطبيقية: من المعلوم أن جماهير الشعوب تميل دائما إلى المحافظة على اتجاهها ما لم توجد عوامل قوية تعمل على تغيير هذا الاتجاه.

فقانون القصور الذاتى ينطبق عليها كما ينطبق على كل شئ فى الوجود.

الساكن يبقى ساكنا ما لم يحركه محرك، والمتحرك يحتفظ باتجاهه ما لم تصدمه قوة مخالفة لاتجاهه فيغير وجهته وحركته.

وقد تقدم أن العدول عن المواريث الثقافية إنما هو هدم وإزالة يقتضيان بذل مجهود ضخم لإفناء قوتها وتغير اتجاهها.

ومعنى هذا أن محاولة القضاء على مواريثنا يطلب بذل جهود النهضة فى عملية الهدم، وهذا يؤدى إلى إضاعة هذه الجهود فى محاولة سلبية نتيجتها الهدم وحده...!!

ويعقب هذا ـ لو فرضنا إمكانه ـ مرحلة ذبذبة وبلبلة، يفقد فيها المجتمع إيمانه بمقدساته، ويفقد فيها مقاييسه جميعا.

ثم هو لم يصل إلى إقامة هيكل جديد يحل محل تلك المقدسات، فماذا ينشأ عن هذا سوى الفوضى فى كل شئ ؟ انفراط العقد، وزوال الرابطة التى كانت تربط الأفراد، وتحدد علاقاتهم فيما بينهم، أو بينهم وبين المجتمع الشامل الذى يعيشون فيه.

فلا يكون لتلك الحال من علاج سوى وجود قوة مسيطرة من فرد واحد أو مجموعة أفراد تسلب حريات الآخرين، وتفرض سلطانها على الجميع، للمحافظة على كيان هذا المجتمع المفتعل.

وليست الأمثلة البعيدة عنا، فإن بعض الدول الإسلامية تعرضت لمثل هذا الخطر، ولا تزال تعانى منه أكبر الأحزان.

فسلامة النهضات لا تكون بهدم المواريث الثقافية التى حفظت كيان الأمة فى العصور الماضية.

بل تكون بإعادة تطبيق تلك المواريث بحيث تلائم ظروف الحياة الجديدة، وهى هى فى جوهرها صافية.

ثم إن التاريخ يدلنا على أن الأمم التى تقاسى مثل هذه المحن لا تصل إلى نتيجة إيجابية من وراء نهضاتها، بل لا تلبث أن تبين خطأها وتعود لتلتمس النهضة من المواريث التى نبذتها، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان.

لأن النهضة تكون قد استهلكت نفسها فى جهود الهدم، وجهود السيطرة التى يجرها الهدم من ورائه ".

أقول: وهذا كله حق ينطق به العيان، بأجلى بيان.

إلى متى يبقى هذا الأخذ والرد، والجذب والشد؟ وإلى متى تظل الأمة الإسلامية المترامية الأطراف صريعة حيرة وبلبلة لا آخر لهما؟ والى متى يحتدم الجدال النظرى أو الدموى، حول القيم التى تنبعث عنها، والمثل التى تهفو إليها؟ أمسموح لليهود أن يعالنوا بدينهم فى إسرائيل؟ ويتجمعوا من أطراف الأرض القصية حول مواريثه الموهومة؟ ومحظور مثل ذلك على المسلمين وحدهم؟ أمسموح للنصارى أن يرسموا صلبانهم حول ألوف الأعلام، وأن يملأوا أفواههم بنسبهم الروحى فى كل قطر؟ ومحظور ذلك على المسلمين وحدهم؟ أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس ثقوا أيها السادة أن كل جيل ينشأ مزعزع العقيدة، غامض الأهداف هيهات أن يفلح...!

فكيف يضيق المجال أمام المواريث الثقافية لئلا تأخذ امتدادها الحق، ثم ترتقب أمة صالحة؟ أو نهضة ناجحة؟ إن كل عمل يقوم على إقصاء الإسلام، واستبعاد وحيه والتجهم لهديه يستحيل أن يكلل إلا بالعار...!

ومن ثم فلن تنجح أبدا فى بلاد الإسلام ثورة تدوس عقائده وشرائعه، وتهمل أوامره ونواهيه! *** إن انتشار الإلحاد فى بعض البلدان لا يدهشنى! وإنما يدهشنى بقاء الإسلام إلى اليوم مع الحروب المتصلة المبيدة، الجلى منها والخفى، التى تعرض لها هذا الدين...!

هذه الحروب التى سخرت كل أداة للنيل منه والتزهيد فيه، والشغب عليه..!!

ولكن الأمر اليوم جد لا يتحمل الهزل، وحق لا يستسيغ الباطل!!"

إن معركتنا مع الصهيونية والصليبية يقترب يومها ساعة بعد أخرى! وان الريح ليحمل إلى أذنى دق طبولها، وهو يقترب رويدا رويدا!! ويحضرنى فى تلك المناسبة صراخ شاعر جاهلى أرسل يستحث قومه للتأهب والعمل.

هذا الشاعر هو لقيط بن يعمر.

كان كاتبا فى ديوان كسرى، فعلم أنه يعبئ الجيش لاجتياح قبيلته، فبعث بنصائحه إلى قومه كى يأخذوا حذرهم...!

وكان لقيط يألم لأمور شاعت بينهم، ولن يستطيعوا الدفاع ما بقيت فيهم.

فاسمع إليه يعنفهم على تفرق كلمتهم مع أن عدوهم مجتمع الشمل..!

واسمع إليه يلومهم على معيشة الطراوة والخفض، مع أن فترات الكفاح تحتاج إلى الصلابة والتقشف..

ثم تدبر إنكاره عليهم الاشتغال بالزراعة وحدها، وعدم تجويدهم للصناعات التى يفرضها حق الحياة..!!

وعشق المال!! وهل الأمم الناهضة تشح بنفقة فى سبيل نهضتها؟ وتربص السوء بعضهم بالبعض الآخر؟؟ والانصراف عن الكفايات العظيمة المتمرسة بأحوال الحرب والسلم، الزاهدة فى المنافع للآل والأقربين...!

إن قصيدة لقيط بن يعمر الجاهلى تضمنت من الصدق فى النصح والصدق فى الوصف ما جعلني لا أتردد فى إهدائها إلى قومى فى ذلك العصر.

ولعلها تجد أذنا واعية..

وعلى القارئ أن يتحمل بعض الغرابة فى الألفاظ، فليس هذا بالثمن الباهظ..!!

لقد بدأ الشاعر يناجى داره..

بقصة قبيلته واسمها عمرة.

ويبدو أنها احتلت ـ أقامت ـ فى أرض تدعى الجرع كان يطمع كسرى فى اغتصابها..

قال فى مطلع هذه القصيدة:

يا دار!!! عمرة من محتلها الجرعا

هاجت لى الهم والأحزان والوجعا

إلى أن قال:

بلى أيها الراكب المزجى مطيته

إلى الجزيرة، مرتادا، ومنتجعا

أبلغ هذيلا، وخلل فى سراتهمو

إنى أرى الأمر ـ إن لم أعص ـ قد نصعا

يا لهف نفسى إن كانت أموركمو

شتى، وأحكم أمر الناس فاجتمعا!!

إنى أراكم وأرضا تعجبون بها

مثل السفينة تغشى الوعث والطبعا

ألا تخافون قوما ـ لا أبالكمو ـ!

أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا

فهم سراع إليكم، بين ملتقط شوكا،

وآخر يجنى الصاب والسلعا

لو أن جمعهمو راموا بهدته

شم الشماريخ من نهلان لانصدعا

فى كل يوم يسنون الحراب لكم

لا يهجمون إذا ما غافل هجعا..!!

خزر عيونهمو، كأن لحظهمو

حريق غاب ترى منه السنا قطعا..!!

لا الحرث يشغلهم. بل لا يرون لهم

من دون بيضتكم ريا ولا شبعا..!!

وأنتمو تحرثون الأرض عن سفه

فى كل معتمل تبغون مزدرعا

وقد أظلكمو من شطر تغركمو

هول له ظلم تغشاكمو قطعا

مالى أراكم نياما فى بلهنية

وقد شهاب الحرب قد سطعا؟

فاشفوا غليلى برى منكمو حصد

يصبح فؤادى له ريان قد نقعا

ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعا

إذا يقال له: افرج غمة كنعا

يسعى، ويحسب أن المال مخلده!

إذا استفاد طريفا زاده طمعا..!!

والله ما انفكت الأموال مذ أمد لأهلها

ـ إن أصيبوا مرة ـ تبعا

يا قوم إن لكم من ارث أولكم

مجدا قد أشفقت أن يفنى وينقطعا..!!

ماذا يريد عليكم عز أولكم

إن ضاع آخره أو ذل واتضعا؟

يا قوم لا تأمنوا ـ إن كنتموا غيرا

على نسائكمو كسرى وما جمعا...!

يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها

إنى أخاف عليها الأزلم الجذعا

هو الجلاء الذى يجتث أصلكمو!!

فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا؟؟

قوموا قياما على أمشاط أرجلكم!!

ثم افزعوا، قد ينال الأمن من فزعا..

ولا يدع بعضكم بعضا لنائبة

كما تركتم بأعلى بيشة النخعا

وقلدوا أمركم ـ لله دركمو! ـ

رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده

ولا إذا عض مكروه به خشعا

مسهد النوم تعنيه أموركمو

يروم منها إلى الأعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبعا طورا ومتبعا

حتى استمرت على شزر مريرته

مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا

وليس يشغله مال يثمره عنكم،

ولا ولد يبغى له الرفعا..!!

كمالك بن قنان أو كصاحبه

عمرو القنا، يوم لاقى الحارثين معا

إذ عابه عائب يوما فقال له:

دمث لجنبك قبل النوم مضطجعا

فساوروه فألقوه أخا علل فى الحرب

لا عاجزا نكسا ولا ورعا

لقد بذلت لكم نصحى بلا دخل

فاستيقظوا، إن خير العلم ما نفعا

هذا كتابى إليكم، والنذير لكم

لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا...!

والغريب أن هذا النذير لم يلق واعيا ولا مجيبا، وظل القوم فى مرح وطرب، وذهول...!

حتى صبحهم كسرى ذات يوم فاجتاح بيضتهم، وقتل الرجال وسبى النساء..!!

وعلم بأمر القصيدة وصاحبها: فاستدعاه وقطع لسانه...!

وذهب الصيح مع الريح...!

ولكنها بقيت عبرة لقوم يعلمون....!

دين المستقبل

إن طال بالدنيا عمر، وظلت الحياة ترقى فى مضمار المعرفة على النحو الذى نرى، فسوف تزول خرافات كثيرة، وتنقطع أوهام استحوذت على تاريخ البشر دهرا..!!

أظن الناس فى القارات المتقدمة يترفعون عن نحت صنم من الحجارة ثم يسجدون له، ويوجلون فى حضرته!؟ إن حظوظهم من الإدراك السليم تأبى عليهم هذا الذى طالما فعلته القرون الأولى، وتعصبت له، وقاتلت دونه!! وإن كان من المؤسف أن يقتصر هذا التقدم على بعض الناس دون بعض.

فإن جماهير هائلة من الهنود لا تزال تقدس الحيوان والجماد، وتتخذ لها آلهة من بعض عناصر الكون الحقيرة أو الغالية!! وقد روت الأنباء أن مجمعا دينيا فى " البنغال " أصدر قرارا باعتبار " نهرو " إلها، وأبلغت الزعيم هذا القرار الذى غضب له، واستنكره، ولكن العباد أبوا إلا المضى فيه، مما جعل " راديو " الباكستان يتندر بالقصة كلها، ويذيعها على مستمعيه ساخرا!! وقد روى أحد الظرفاء طرفة أخرى.

فإن " أغاخان " المدفون بأسوان سئل: أحقا أنك تحمل روح الله فى بدنك، وأنك لهذا تعبد، ويزنك أتباعك بالذهب؟ فسكت الرجل قليلا.

ثم قال ضاحكا: أنا أولى بالألوهية من غيرى.

إنهم فى الهند يعبدون البقر! وأحسبنى أفضل من عجل..!!

إنه مع التخلف العقلى تنتشر جهالات شائنة!.

وعندما يعم نور العلم أهل الأرض كلهم فستمحى خرافات شتى، أو على القليل سيكفر الناس بالديانات الوثنية كلها، وبكل دين يناقض فى أصوله العقل ويصادم منطقه، وأدلته، ووسائله...!

من أجل ذلك نحن واثقون من نهاية الصليبية.

وموقنون بأن اطراد الرقى العلمى سينسخ ظلالها، ويقطع حبالها، ويلحقها بغيرها من النحل التى تخلص العالم منها لأنه يحترم نفسه.

إن الصراع سيبقى بين نقيضين.

الإيمان بالإله الواحد المنزه عن أوهام التجسد وما يتبعها.

والإلحاد المعطل للألوهية، النافى لأصل وجودها!! إيمان بالله الفرد الصمد، أو كفر به..

هذا هو ميدان النزاع الحقيقى.

أما محاولة الصلح مع العقل على أساس إقناعه بأن الآلهة الثلاثة إله واحد، أو محاولة الصلح معه على أساس أن السلوك الإنسانى من الأزل إلى الأبد قد تحمل أوزاره قربان مصلوب، فدون ذلك أبعاد لا تقطع، وصعوبات لا تذلل..!!

والرجال الذين يؤمنون بالله ويحترمون الدين، فى أوروبا وأمريكا وغيرها، يقيمون عقائدهم على جملة من أصول الفطرة التى أدركوها بمواهبهم الخاصة، واستراحت إليها عقولهم الحصيفة.

ومن الافتراء الزعم بأنهم نصارى حقيقيون، يصدقون بالثالوث والفداء.

ولست أقول هذا من عند نفسى، ولكنى أنقل للقارئ فقرات من كتاب "العودة إلى الإيمان " الذى ألفه الدكتور " هنرى لنك " وترجمة السيد ثروت عكاشة وزير الإرشاد.

والدكتور هنرى يقول: إنه كان ملحدا ثم آمن.

ومن حقنا أن نتساءل: ما الذى ألحد فيه هذا الرجل أولا.؟

وما هو الإيمان الذى عاد إليه أخيرا.

فلنسمع إلى الدكتور " هنرى لنك " يحدثنا عن نفسه فيقول: " اشتهرت الكلية التى انتسبت إليها بأن 85% من خريجيها يلتحقون عادة بالوظائف الدينية! ولقد لمست فيها شدة النشاط الديني وعنفه.

ولكنى لما كنت شغوفا بالعلم، والمعرفة، والبحث عن الحقيقة شعرت بأن الجو العقلى السائد فيها خانق.

وزاد الطين بله انتشار فضيحة العلاقة الغرامية بين عميد الكلية ورئيسة الراهبات، فإن هذه القصة أججت كثيرا من الشكوك التى كانت تنتاب ذهنى المكدود...!

فالتحقت فى السنة التالية بكلية أخرى من كبريات الكليات فى شرق أمريكا حيث بدأت أدرس تاريخ الفلسفة والتربية الدينية، أما تاريخ الفلسفة فهو يصور تحرر العقل البشرى من الخرافات والأوهام الدينية المضللة.

وقد لازم ميدان العلوم وظهورها ونماءها استشهاد تلك الجمهرة من العلماء الذين اجترأوا فتطاولوا على الكنيسة مسفهين عقائدها.

وقامت الدراسة ـ فى هذه الكلية ـ على تمجيد طريقة ربط الأسباب بالمسببات، فكل حادث ما هو إلا حلقة من سلسلة هذه الأسباب والمسببات التى لا تنقطع.

وذلك عكس الميل السائد لدى كبار رجال الكنيسة الأولين أمثال "ترتوليان " الذى قال: لابد لى من الإيمان بتعاليم الكنيسة رغم سخافتها.

قال: لذلك كان هذا الشوط من الدراسة أمتع وأبهر ما تلقيت، وأعظم المراحل تأثيرا علىّ...!

وكان فيه الجواب الكامل عن الشكوك الدينية المختلفة التى ساورتنى من قبل، ولم أهتد إلى حل لها يقنعنى.

فخرجت من ذلك كله باحترام عميق لقانون التسبب، ولمكتشفات العلم الحديث!!! أما عقيدتى الدينية فقد هوت لما لم تجد ما تستند عليه، ولما لم تصادف من يتلقفها...!

وفي العام الدراسى نفسه درسنا التربية الدينية، وكانت هذه الدراسة عرضا تاريخيا للتطور الذي حل بالكتاب المقدس، فعرفنا الطريقة الفاسدة التى أكتمل بها هذا الكتاب..!!

ولمسنا فى الأسفار التى درسناها الدلائل القاطعة على أن رجال الدين، الواحد تلو الآخر، أخذوا يعبثون بهذا الكتاب، ويعيدون كتابة بعض أجزائه مضيفين إليها ما يعن لهم.

ولذلك قسمت محتويات العهد الجديد إلى ثلاثة أقسام متساوية.

تلك المقطوع بصدقها، أى التى جاءت على لسان المسيح.

وتلك المشكوك فيها.

وتلك التى زيفت على مر الأيام.

فكانت هذه الدرإسة ـ التى جعلت كل ما سبق أن اعتنقته من مبادئ الكتاب المقدس يبدو صبيانيا أمام نظرى ـ كانت خير مثل لما يسمونه وقتئذ "النقد العالى".

قال: ولما تخرجت فى هذه الجامعة بعد أن نلت شهادة فى " بيتا كابا " كنت ملحدا عنيفا، ومقتنعا كل الاقتناع بإلحادي، ومستعدا لإقناع غيرى به.

وهكذا فى العشرين سنة التالية كنت أبالغ فى احتقار التعاليم الكنسية، وأومن بأن الدين هو ملجأ العقول الخاملة ".

هكذا حكى لنا الدكتور " هنرى لنك " نبأ كفره بالدين وسر تحوله عنه.

إن عقله لم يسع النقائض التى حواها، ولا ازدراد الأباطيل التى انضافت إليه على مر القرون..

وسلك الرجل طريقه فى الحياة على النحو الذى تراءى له.

إلا أن فكره النير لم يرض عن المصير الذى انتهى إليه.

بل لعله أخذ يحس أن ذلك ليس نهاية المطاف..

فإن حياة كثير من الملحدين تتضمن من الأوساخ والأقذاء ما يثير النفس.

وموقفهم الواهن من مشكلات الدنيا يستدعى النظر العميق.

ومن ثم حكم الدكتور الذكى بقيمة الإيمان الفردية والاجتماعية، بعدما تأمل فى حياة المجتمع الصاخب اللاغب الذى عاش فيه، واستخلص من إحصاء المترددين على عيادته النفسية هذه النتيجة، وهى " أن كل من يعتنق دينا، أو يتردد على بيت عبادة، يتمتع بشخصية أقوى وأفضل ممن لا دين له، ولا يزاول أية عبادة "..!!

لكن ماذا تعنى هذه النتيجة؟ أتراها صالحة لرد رجل شاك إلى حظيرة الدين الذى خرج عليه؟ إن التدين، حقا كان أو باطلا، قد يهب لأصحابه راحة نفسية، وقد يزودهم بطاقة روحية تشد أزرهم أمام المآسى والصعاب..

بيد أن شيئا من ذلك كله لا يحمل الرجل العاقل فى الغرب على اعتناق كثير من الأفكار الدينية المتوارثة هناك، إذ يجزم من أغوار فؤاده باستحالتها..

ولذلك أخذ الدكتور المتعطش عن الإيمان يكون لنفسه مجموعة من المبادئ الدينية التى تتفق مع العقل، وإن خالفت الكنيسة ومواريثها...!

واسمع إليه يقول: " لم تكن رجعتى إلى الدين رجعة الضال الذى اهتدى إلى دين صائب.

أعنى أن هذه الرجعة لم تصاحب شعورا متوقدا، أو نعرة عاطفية.

لقد كانت رجعة عن طريق العقل فحسب لسوء الحظ "!! فما هى هذه الرجعة العقلية التى وصفها الدكتور بكلماته السابقة؟ يقول: " إن فكرتى عن الدين تتضمن بضعة معتقدات لا تؤيدها مذاهب دينية معينة ـ طبعا من التى يعرفون فى أمريكا ـ.

وتنبذ بعض الآراء التى تعدها مذاهب أخرى أمرا جوهريا..

إذن فما هو الدين....!؟ ".

كذلك يتساءل الدكتور "هنرى لنك "، ثم يتولى الإجابة بنفسه على سؤاله فيقول: " الدين هو الإيمان بوجود قوة ما تعتبر مصدرا للحياة، هذه القوة هى قوة الله مدبر الكون وخالق السموات.

الدين هو الاقتناع بالدستور الخلقى السماوى الذى سنه الله فى كتبه المتعاقبة.

إن التعاليم الإلهية أثمن كنز تغترف منه الحقائق الدينية.

وهى أسمى فى مرماها من جميع العلوم الإنسانية ".

لكن هل هذا التصور للدين يتفق مع أحاديث رجال الكنيسة؟ إنه تصور فطرى بسيط اهتدى إليه الرجل دون تكلف ولا افتعال، وهو يغاير المعروف من سدنة المسيحية القائلين بالتثليث، والصلب، والفداء.

ومع ذلك فهو يذهب إلى الكنيسة!! لماذا؟ يقول " أذهب لأنى قد أخالف الواعظ فى رأيه، بيد أنى أرغم نفسى على الإصغاء إلى موعظته..!!

وبعض الخاصة من أصدقائى الذين يحيطون علما بدقائق حياتى يعتبروننى مرائيا، لأننى لا أصدق بمبادئ هذه الكنيسة أو غيرها ثم أتردد عليها.

ولكن أذهب لأنى مؤمن تماما أن ذهابى سيفيد "..!!

ويقول: لقد صارحنى عدد جم من الناس قائلين: لا تظننا نشك فى وجود الخالق، بل نحن نؤمن به، وبقدرته جل وعلا..

لكنه إيمان من نوع جديد، لم يأت عن طريق ترديد الخلف أقوال السلف، فكلنا يمقت الكنيسة ويتجنبها لما تثيره فينا نظرياتها ومبادئها ورجالها من النفور والاشمئزاز...!

وكنت أومئ برأسى علامة الموافقة على هذه الاعترافات، لأنها تؤيد مبادئي تأييدا تاما، وتبرر نفورى من الكنيسة...! ".

ولكن الدكتور لم ين عن نصح زواره من طلاب العافية النفسية بالتردد على الكنائس المختلفة، وحضور الصلوات ويبدو ذلك جليا فى كتابه...!

ما معنى هذا الكلام إذن؟ وما تفسير المسلك الغريب الذى يصحبه؟ والجواب: إن الدكتور " هنرى لنك " لم يتحول قيد أنملة عن الإلحاد الذى تشبث بأفكاره ومشاعره صدر شبابه.

لقد كفر بأصول الديانة التى وقع عليها بصره، أو التى لم تعرف بصيرته سواها.

وظل- إلى أن أصدر كتابه هذا- كافرا بأقانيمها، وقرابينها وأناجيلها، ولم ينشرح صدره إلا بمبادئ دينية استكشفتها فطرته، واستراحت إليها فكرته.

خلاصتها أن للعالم إلها واحدا هو الذى يخلق ويدبر، وأن الصحائف التى تكون منها العهد الجديد فيها حق يرضيه، وفيها باطل يهمله.

وأن ما يقوله الكهنة فى المعابد التى أقاموها ـ غير هذا ـ لا قيمة له.

والحق أننا مع الدكتور فى حالتيه، نؤيده فيما كفر به، ونؤيده فيما آمن به..

لأن الرجل يلتقى مع الإسلام فى كل المبادئ التى يحن إليها...!

(قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم).

أما وصاياه لمرضاه بالذهاب إلى معابدهم، فلا تفسير لها إلا أنه يرتكب أخف الضررين.

فلك أن المجتمع الأمريكى قد تملكه مس من فراغ القلب، وسطوة المادة وعربدة الغرائز...!!!

وتدبر وصفه لحال بلاده إبان الحرب العالمية الأخيرة إذ يقول: " بينما العالم كله يتلظى بجحيم هذا الأتون الملتهب كانت الولايات المتحدة تعانى الكثير من الإضرابات، وحرب الطبقات، والصراع الدنئ للوصول إلى الحكم، كما كانت تعانى الكثير من تفكك عرى الأسرة، وانفصام روابط الزوجية، وازدياد حوادث الطلاق التى سجلتها المحاكم.

فكيف تعالج هذه المآسى؟ وما يصنع الدكتور النفسى بازائها؟ لابد من دين ما، تسكن إليه هذه الأفئدة الوجلة، وتتعلق الجماهير ببشارته وإنذاراته..

لا يهم نوع هذا الدين: ولا القضايا التى يقوم عليها.

يقول: كثيرا ما كنت أحث مرضاى من الكاثوليك أن يكونوا أشد كثلكة ـ مع أنه بروستانتى ـ! كما كنت أشجع مرضاى من غير المسيحيين أن يترددوا على معابدهم ومنشآتهم الدينية...!

وذلك على أساس مطالب الأفراد وضرورة استخدام الوسائل الممكنة ـ فى علاجها.

ووضح من هذا الكلام أن الرجل ـ احتفظ لنفسه بإيمانه الخاص ـ وأنه يستغل عاطفة التدين مهما كانت طبيعتها فى معالجة الآثار المدمرة للحضارة المادية.

ولا عليه أن يدفع أصحاب العقائد المتناقضة كلا فى طريقه حسب وجهته.

غير أنه اجتهد فى تزويدهم بجملة نصائح سنعرفها ـ بعد ـ تيسر لهم الشفاء من العلل التى يرزحون تحتها...!!

وأجدنى مسوقا هنا للكلام عن دين الفطرة، الدين الذى التمسه الرجل ولم يعرفه...!

اننى ما تتبعت كلمات رجل لامع الفكر من علماء الغرب ورؤسائه إلا رأيت عليها مسحة من الحق تفقد عنوانها الدين المعروف عندنا وحدنا، وتتفق بعد ذلك مع جوهره!! إن سلامة القلب ونقاوة الطبيعة تبدوان فى عبارات جم غفير من الأطباء والمهندسين والكيماويين والفلكيين، وأضرابهم من الراسخين فى علوم الكون والحياة الذين يهتفون جميعا بأن هذا العالم الفسيح الأرجاء، من ورائه قوة كبرى، تشرف عليه، وتضبط نظمه 000 هى قوة الإله الأكبر الذى يحسون آثاره، ويعجزون عن إدراك كنهه..

أنستثنى العلماء الحمر من هذا القول؟!

لقد نشرت صحيفة الجمهورية فى أكتوبر سنة 1959 تصريحا لعصابة منهم جاء فيه: إن الكواكب تسيرها قوة حكيمة ..

ولست ممن يعولون على التصريحات المرتجلة فى مثل هذا الموضوع.

ولكنى أعذر الذين يكفرون بالأقانيم والقرابين وكل تدين منحرف، ثم لا يجدون ينبوعا من اليقين الخالص يروى ظمأهم إلى الحق، فهم يتحسسون الطريق نحو الإيمان بالله الواحد فى جو موحش.

حسبهم أن يعرفوا أن الله من ورائهم محيط، وأنه على كل شئ قدير، وأنه ينزل الأشياء بقدر معلوم..

الخ.

وبديهى أن تكون فكرتهم عن الحساب الأخروى غامضة، وعن حقوق هذا الإله المفصلة المرتبة أشد غموضا.

فأنى لهم العلم بها؟ ولكنهم ـ بهذا القدر ـ أقرب إلى الإسلام منهم إلى أى دين آخر! إن إعظامهم لهذا الإله ينحصر فى تقديرهم القلبى له وكفى! وجمهرة الرواد والمخترعين والباحثين العالميين من هذا القبيل.

وفى بيئتهم ارتقى العلم، واتسعت الكشوف...!

وكأن الله عز وجل رآهم أسلم فطرة من غيرهم، فهداهم إلى ما لم يهد إليه ورثة الدين من ذوى العمائم البيض أو السود!! لقد عايشت هؤلاء الورثة، واقتربت من نفوسهم فوجدت الدين الحق أبعد شئ عنها.

وإذا كان الدين فطرة مستقيمة لا معوجة، وفكرة ميسرة لا معسرة، فحظوظ هؤلاء من الدين لا تساوى شيئا، وهمهمتهم فى المعابد لا تغنى عنهم فتيلا...!

وأدنى منهم إلى القبول الإلهى رجال مفعمة قلوبهم إعزازا لخالق الكون.

وإن لم يحسنوا ترجمة هذا الإعزاز إلى ألفاظ التكبير والتسبيح والتحميد، ولا إلى مراسم العبادة المقررة...!!!!

جاء فى محاضرة ألقاها الأستاذ السيد أبو المجد بقاعة الأزهر هذا النص اللطيف "حسبنا أن نستمع إلى ما قرره أكبر باحث علمى فى العصر الحديث ـ وهو العلامة "أينشتاين " ـ حيث يقول: " إن أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها، تلك التى تستشعرها النفس عند الوقوف فى روعة أمام هذا الخفاء السارى فى الكون، والإظلام المكتنف لمادته...!!!

إن الذى لا تجيش نفسه لهذا أو لا تتحرك عاطفته، ليس إلا حيا مثل ميت...!!

إن فى الكون خفاء لا نستطيع أن نشق حجبه، وإظلاما لا نستطيع أن نطلع فجره...!!

ومع هذا فنحن ندرك أن وراءهما شيئا هو الحكمة أحكم ما تكون، ونحس أن وراءهما شيئا هو الجمال أجمل ما يكون...!

حكمة وجمال لا تستطيع عقولنا القاصرة أن تدركهما إلا فى صور ساذجة أولية.

وإدراكنا وإحساسنا ـ نحن البشر ـ بهذا الجمال الرائع هو جوهر التعبد عند الخلائق.

ثم يقول: إن الشعور الدينى الذى يجده الباحث فى الكون هو أقوى وأنبل حافز على البحث العلمى...!

ويقول: إن دينى هو إعجابى بتلك الروح السامية التى لا حد لها، والتى تتراءى فى التفاصيل الصغيرة القليلة التى تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة.

وهو إيمانى العاطفى العميق بوجود قدرة عاقلة مهيمنة تبدو حيث ما نظرنا فى هذا الكون المعجز للأفهام.

إن هذا الإيمان يؤلف عندى معنى الله ".

هذا أيها السادة هو إيمان أكبر عالم عصرى كشف بعض أسرار الكون الغامضة، فاهتدى عن طريقها إلى الله...!

إن العلم فى أعمق أبحاثه، وأن الفلسفة فى أسمى موضوعاتها، ليتلاقيان فى وئام وإنسجام بالدين الخالد الكامل.

دين الإسلام.

دين الوحدانية الخالصة واليقين المعقول، وصدق الله العظيم (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).

إن الدين الحق ضاع بين جبهتين كبيرتين تزحمان العالم.

الجبهة الإسلامية التى مرغت حقائق الفطرة فى الوحل، ولم تحسن بناء مجتمع إنسانى راشد على ضوئها.

والجبهة المسيحية التى تملك جهازا كنسيا متشعب الأطراف يعد أشد القوى إذاعة للخرافات، وتغطية للآثام، ومحاربة للإيمان الصادق..

ولن يصلح هذا العالم إلا إذا التأم واقعه مع منطق الفطرة، وانسجم سيره مع صوتها الرقيق.

أى يوم يفقه العلماء الماديون الإسلام، فيؤمنون بالله لفورهم.

الإيمان الكامل الواضح؟.

أو يوم ينصف المسلمون الدين الذى ظلموه، وآذوا الله ورسوله بسوء الخلافة فيه، والتعكير لصفوه، والتنفير منه...!؟

ونتناول مرة أخرى كتاب " العودة إلى الإيمان " لا للتنويه بأن صاحبه اهتدى إلى أجزاء من فطرة الإسلام، بل لشرح الخلاصات النفسية والفكرية التى قدمها للأمريكيين، فإن ذكرها يهزنا نحن المسلمين..!!

ذلك أن تلك الخلاصات تنطبق انطباقا مدهشا على التعاليم المفصلة فى الإسلام...!

وتدل دلالة تامة على الصلاحية المطلقة التى جعلت هذا الدين خالدا على الزمان، وعاما لكل الأجناس...!!!

فى الفصل الثانى من هذا الكتاب جواب مستفيض عن سؤال صغير: لماذا أتردد على المعبد؟ ومحور الإجابة أن المرء الذى يعيش لنفسه يفقد كل شئ، وأن الذى يعيش لربه يجد كل شئ، أو بتعبير إنجيل " متى ": " من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها ".

ثم يشرع الدكتور " هنرى لنك " بسرد القضايا التى لمسها فى صميم المجتمع مصدقة لهذه الحقيقة الدينية، ومدى الظلام الذى تخربه طباع الأثرة على حاضر الناس ومستقبلهم...!

ويستنتج من إحصاءات واعية مدققة أن الذين يحيون فى محيط " أنا " يجرون المتاعب على أنفسهم وعلى غيرهم.

ثم يقول: " إنى لأعتقد أن أهم مكتشفات علم النفس الحديث ما أثبته ـ بمنطق العلم ـ أن سعادة الإنسان، وقدرته على إدراك كنه نفسه لن تتأتيا بغير تضحية النفس فى سبيل الغير، وتعويد المرء نفسه الخضوع لنظم خاصة ".

وهذا الغير بداهة، ليس بشرا آخر يريد استبعاد الآخرين له...!

هذا الغير هو الموجود الأعلى الذى عرفنا الدين به، وأمرنا أن نكرس الحياة له، ووعدنا إذا أردناه ـ بفكرنا وعملنا ـ أن يهبنا الخير كله...!

التضحية بمآرب النفس، ونزعات الهوى من أجله، اتباعا لأمره والتزاما لصراطه، هو طريق النفع الصحيح.

وانظر أسلوب التضحية الذى يذكره الدكتور الأمريكى...!

قال: " أخذت أحث غيرى من وقت لآخر على الذهاب إلى الكنيسة، ووجدت نفسى أنا الآخر مواظبا على التردد عليها.. ".

لماذا؟ يقول: الحقيقة أنى أذهب لأدرب نفسى على التضحية بما تهواه، وقبول ما تبغضه، فذهابى يرحمنى من نوم لذيذ صحوات أيام الآحاد..

هى الفرصة التى تسنح لى كى أستمتع برقاد طويل...! إلخ ".

أرأيت ما هو النظام الذى يخضع المرء له لكى يحيا لربه؟ أرأيت فى هذا النظام البداية الأولى للكلمة المروية عن إنجيل " متى ": "من أضاع حياته من أجلى يجدها "؟ أأشرق على فؤادك شعاع من نظام الإسلام المحكم فى هذا المجال؟ النظام الذى لم يبهت بعد فى مجتمعنا المعنى برغم جهود الفسقة والملحدين.

النظام الذى يربطك بالله من الفجر إلى العشاء، فى حلقات موقوتة من العبادة التى تصلك بالمسجد أبدا وتردك إلى مولاك؟ إن هذا النظام ليس إضاعة للحياة ولا بعثرة للوقت!! إنه الطريق الوحيد لتجد حياتك، وتنجو من سجن الأثرة وشقاء الأنانية.

أجل..

إن الإسلام يزحمك بالواجبات ( و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضى).

وإذا كان الدكتور " لنك " يغرى قومه بالذهاب إلى المعابد بالأسلوب الذى قرأت، فاسمع ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فى حث المسلمين على الذهاب إلى المساجد " بشر المشائين إلى المساجد فى الظلم بالنور التام يوم القيامة ".

إسباغ الوضوء فى المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة تغسل الخطايا غسلا ".

" الغدو والرواح إلى المساجد من الجهاد فى سبيل الله ".

وإذا كان الدكتور الأمريكى يحدثنا كيف ضحى بلذة الرقاد فى سبيل حضور الصلاة، فلنسمع الحديث نفسه بلغة النبوة: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل، فارقد...!!

فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة.

فإن توضأ انحلت عقدة.

فإن صلى انحلت عقده كلها...!

فأصبح نشيطا طيب النفس.

وإلا أصبح خبيث النفس كسلان .. ".

وبعض الناس يتساءل: ما هذا؟ يقظة تتبع يقظة، وصلاة تعقب صلاة، وصيام وزكاة، وجهاد وبذل، وكفاح وصبر!! ما الذى يبقى للمرء بعد ذلك لنفسه؟ لقد ضاعت حياته كلها من أجل الله، وتكاليفه، فماذا بقى له؟؟ وهذا التساؤل يزداد طبعا عندما يلمح خطوط الحياة الجادة التى يرسمها الدين مثل (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم).

(من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) ونحن نسارع إلى طمأنة المرء على نفسه، ومصالحه، وحاضره الذى يحبه.

فإن قصد الله أقصر طريق إلى تأمين النفس...!

والعمل له أضمن وسيلة لتحقيق رغائبها.

قال عز وجل: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) .

(لئن شكرتم لأزيدنكم).

(إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).

(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم).

والدكتور " هنرى لنك " يريد أن يعرف قومه هذه الحقيقة فينقل لهم من إنجيل "متى " هذه الكلمات: " ومن أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها ".

ودعك من الإطار الذى وضع فيه هذا المعنى فإن الترجمة قد تجعله ركيكا أو منفرا.

لكن المعنى صحيح، ولفظه في القرآن دقيق ورائع.

ثم تدبر قوله تعالى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة).

إن ابتغاء " وجه الله " هنا، أو كلمة " من أجلى " التى نقلت عن متى...!

لها دلالات شتى: يقول صاحب كتاب العودة إلى الإيمان: إن كلمتى " من أجلى " الواردتين فى الآية السابقة لهما معنى ومغزى خاص.

فهما من الوجهة النفسية الخالصة يمثلان مجموعة من القيم الأخر الأثيرة لدى الفرد العادى حتى لتكاد تجرفها وتسد مسدها.

نعم..

قد تكون رغبتنا الخاصة هى عمل كذا وكذا، وإذا نحن نصادف دستورا ساميا، أو مثلا أعلى، أو عقيدة نبيلة، فيدفعنا هذا إلى التضحية برغبتنا، وإلى ولوج مسلك أقل إمتاعا وأشد وعورة.

ويقول: " الإنسان بطبعه أنانى وراء دوافعه المباشرة، وقد أثبت اختبار الصفات الشخصية كما أثبتت التجارب الطبية لرجال علم النفس أن الاتجاه فى هذا الطريق يؤدى إلى انكماش الشخصية واضطراب العواطف، والى العصاب والتخبط الفكرى، وإلى الشقاء وسوء النظام، وأنه لا غنى للمرء عن الدين ـ أو ما يقوم مقامه! ـ على أن يسمو هذا البديل عن مستوى الفرد والجماعة ليستطيع قهر الدوافع الأنانية وقمعها فى الإنسان العادى، أو ليستطيع قيادته نحو حياة أكثر خصبا وأوفر متعة...!

نعم..

لا أنكر أن ثمة حوافز أخرى غير الدين قد تطبع المرء بطابعها، وتجعله يضحى بسعادته التى يرفل فيها فى سبيل غرض رفيع.

ولكنك لن تجد إلا الدين وحده هو الذى يضم بين طياته جملة المبادئ التى تصلح أساسا منطقيا للحياة الهانئة المقبولة ".

ومن حقى أن أقول: إن الإسلام هو الدين الفذ الذى شرح بإسهاب جميع المبادئ التى تصارع أهواء النفس، وترد غوائلها وأن آيات القرآن وأحاديث الرسول فى هذا المعنى تكون ثروة إنسانية طائلة..

وأنها من الوفرة بحيث تعجز الشهوات مهما طفحت عن اختراقها، كما تعجز مياه الفيضان مهما علت عن اجتياز السدود السامقة المنيعة..

ثم إن الإسلام شرع للحياة الفردية والاجتماعية من الفرائض والنوافل، ورسم لها من المعالم والغايات، وحظر عليها من الأمور والتصرفات ما يخلع الإنسان خلعا من أنانيته، ويزجه زجا فى نطاق حياة أملا بالإخلاص لله والتفانى فى مرضاته والاستعداد لملاقاته...!

والجهلة من الناس يظنون هذه التعاليم الكثيرة مشغلة عن شئون الحياة، وعائقا عن تقدم العمران فيها..

وهذا ظن مستغرب! فهل إذا قيل لامرئ: اجعل هدفك من حياتك مرضاة ربك..

كان ذلك دمارا للحياة؟ هل إذا قيل لامرئ: اقهر بواعث الأثرة الصغيرة وتجرد من أثقالها كان ذلك تعطيلا للعمران؟ إن بعض الناس يريد هذا...!

والغباء فى فهم الدين قديم.

كلما عاب الله على الناس أن يعبدوا ذواتهم، ويستغرقوا فى طلب العاجلة، جاء من يفهم من هذا التوجيه أن الله يريد تخريب الدنيا ونسيان النفس!

الحق أن المرء لا يصلح إلها صغيرا على هذا الثرى يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء..

بل أصلح شئ له أن يكون تابعا لإله الأرض والسماء، يتجه إليه، ويهتدى بوحيه.

إن هذه التبعية، أو بالتعبير الشرعى هذه العبودية تنظم حياته، وتصون يومه وغده، وتجعل سعادته المنشودة ثمرة محققة لسيره وفق أوامر الله جل شأنه..

ثم هى أحسن أسلوب لاستثارة قواه، واستخراج خيره، كما تستثار الأرض الخصبة (أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير).

إننى أشعر بسرور غامر عندما أرى نتاج في العقل الإنسانى المجرد يلتقى مع معالم الوحى الإلهى، وتعاليم الدين الحنيف.

وليس ذلك فقط عند إثبات الألوهية، ودعم أصول الإيمان.

بل عند التلاقى فى وصف الطريق إلى الكمال، وسرد خطواته الصائبة.

إن الإنسان يولد فردا، ضعيف القوى، صفر المعرفة، غفل المشاعر، ثم ينمو رويدا حتى يبلغ أشده، إن قدر له عمر وطال به الأجل.

واكتمال كيانه المادى، مثل لاكتمال كيانه المعنوى: إن هو أراد مراتب العلا، وسعى لها سعيها.

لن يحرز المجد دفعة واحدة ولن ينال ما يبغى بعد شوط قصير..

إن إدراك الكمال الإنسانى يشبه بلوغ الكمال الفنى فى أى موضوع..

لابد أن يمر "بمسودات" كثيرة، ونماذج متفاوتة.

ومعنى هذا أنه لابد من أخطاء تقع، ثم يلحقها التصحيح، والتقويم، حتى يمكن إفراغها فى قالب أفضل.

وعندما توضع فى القالب الجديد، ستبدو بها هنات، أو ينكشف عوج لم يكن ملحوظا من قبل، فيراد تصحيحها وتقويمها.

وعندما يظن أن نصيبها من التجويد قد تم، ينكشف من آفاق الكمال ما يجعلها بحاجة إلى مزيد من التحسين..

وهكذا...!

تظل نفس الإنسان موضوع عنايته ما بقى حيا ينشد الحق ويستزيد من الخير والرفعة..

أى أن التربية والتهذيب هما الطريق الوحيد للتقدم والسمو.

ولن يستريح أحد من عبء هذه المجاهدة ولا ما تستتبعه من وقوع الخطأ، والفرار منه.

وربما أفاد المرء دربة بحفر الطريق، ومساوئه، ومتاهاته من طول ما يعانى فى سبيل الحق.

بل إن أبصر الناس بالحياة، وأعرفهم بأهلها أولئك الذين تمرسوا بصعابها، وتعرضوا لأهوالها، وعثروا وقاموا، وفشلوا ونجحوا، وسالموا وخاصموا...!

ووصلوا إلى النهاية بعد خبرة عميقة بأسباب الصعود والانحدار..!!

إن الشيطان نفسه يخشى هؤلاء، وذلك معنى الأثر الوارد فى فضل عمر بن الخطاب: " لو سلك عمر فجا لسلك الشيطان فجا آخر "! ولأنقل هنا كلمات فى شرح الشخصية الإنسانية كتبها الدكتور " هنرى لنك " موضحا أفضل الطرق لبلوغ الكمال قال: " تخبط الناس كثيرا فى استعمالهم لكلمتى منطو ومنبسط.

والواقع أن كليهما مقياس للأنانية، أعنى الأنانية المتطرفة فى حالة الانطواء، والأنانية البسيطة فى حالة الانبساط، فالمنطوى أو الأنانى يتحاشى مقابلة الناس، أما المنبسط فيذهب بنفسه لمقابلتهم والتعرف عليهم.

المنطوى أو الفردى يتهرب من تكاليف الجماعات والأندية ومطالبها.

أما المنبسط الاجتماعى فيتقبلها بصدر رحب، وقد يفكر المنطوى فى اتيان عمل طيب لكن المنبسط يأتيه بالفعل.

ولا يجد الأول الوقت متسعا لعمل ما لا يحب، ولكن الثانى يلتمس الدقائق الخيالية ليقوم به.

ويخشى الشخص الفردى ارتكاب الأخطاء، وبالتالى يفزع من إرباك نفسه فلا يقدم على أية مجازفة، ولكن الاجتماعى- ولو أنه يخشى الخطأ أيضا- إلا أنه يعمل ويثابر فيخطئ فيتعلم ويقاسى، ثم يكسب أخيرا المهارة فيما مارسه وتتولد فيه الثقة بالنفس.

وكثيرا ما كنت أقول لمرضاى: إن الأفضل أن يرتكبوا سبعة أخطاء بدل أن يرتكبوا خطأ واحدا.

فبينما يتردد الرجل الفردى قبل أن يمضى فى مشروع ما لشدة شعوره بنقصه تجد الآخر غير مبال بارتكاب الأخطاء لأنه يوقن أنه لن يصل إلى المجد والعظمة من غير هذا الطريق....! ".

والانطواء والانبساط عادتان واقعتان تحت سيطرة المرء بلا شك ـ كما يرى الدكتور ـ ولذلك فكل إنسان مسئول عن الطريقة التى يتبعها للتسامى بنفسه على مر الأيام.

وهى طريقة قوامها التمرين، والجهاد، والعمل، والمصابرة...!

وفى التفكير الإسلامى نظرتان بعيدتان عن الحق فيما يتصل بالخطأ والصواب،أو النقص والكمال، أو الطاعة والمعصية .

نظرة تعتبر الخطيئة كفرا بالله، وزيغا عن الحق، وتبلغ فى التنويه بالواجبات المقررة حد التطبيق السطحى لقول الله: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا).

ونظرة تستهين بالكمال المنشود والأخطاء المقترفة، وتقول: (إن الله يغفر الذنوب جميعا).

كلتا النظرتين بعيدة عن الحق والواقع.

فلا المرء تنقطع حباله بالرشد لخطأ تورط فيه...!

ولا السعى إلى الكمال يسقط عنه من أجل ذلك...!

الخطة المثلى التى احترمها علماء الإسلام، وساندها التحقيق العلمى أن البشرية تصل إلى مثلها العليا عن طريق تصحيح الخطأ ـ بتعبير علماء النفس ـ أو عن طريقة التوبة المستمرة من كل مخالفة ـ بتعبير علماء الدين ـ.

اعمل وقل: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).

اعمل وقل: (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهييء لنا من أمرنا رشدا).

امض حيث الخطو نحو هدفك، ومهما أخطأت فتشبث بالحزم، واستأنف المسير...!

الكمال أن تسعى لبلوغ الكمال ما بقى فى صدرك نفس يتردد! والسقوط فى الدنيا والآخرة أن تحتجب عن ناظريك المثل الرفيعة، وأن يستولى عليك الإياس والخمول، فتقف وتستكين...!

البطالة رجس من عمل الشيطان...!

وإن الله ليبارك للمخلصين فى جهدهم ولو كان خطأ...!

فلنعمل فى إصرار ولنثق فى قول الحق: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

ذلك، والفواصل بين العمل الدينى والعمل المدنى اصطلاحية تتصل بالمظهر لا بالجوهر.

وإلا فأي سلوك إنسانى تقارنه النية الخالصة فهو دين..

وكل عمل عبادى تقارنه النية الرديئة فهو رذيلة.

وعلى الإنسان أن يحدد غايته، ويرسم طريقته، ويمضى فى سبيله لا يلوى على شئ، حتى ينتهى عهده بهذه الحياة، ليبدأ عند الله حياة أزكى وأسمى...!

وباب المقارنة واسع جدا بين الإسلام الحنيف، وبين مقررات الفطرة السليمة كما دونها الرجال الأصفياء من علماء الغرب..

عقيدة التوحيد هى عقيدتهم، ومبادئ الفضيلة، وأصول الأدب هى مناهجهم...!

لقد وصلوا تقريبا إلى جملة الحقائق التى يصل إليها الذكاء الإنسانى المستقيم، ووقفوا عند الأمور التى لا تستقى إلا من الوحى الأعلى.

غير أن القطيعة قائمة بين السبيل التى يسير فيها العالم، وآمال الحق والخير التى رسمها هؤلاء.

وستظل هذه القطيعة قائمة ما بقى العلم الإنسانى القوى لا دين له، والدين الإلهى الضعيف لا علم معه!!! أو ما بقيت المتناقضات التى لخصها " جبران " فى هذه الكلمة " للناس رجلان، رجل نام فى النور، ورجل استيقظ فى الظلام ".

ولست أدرى أيهتدى العالم إلى الإسلام، فيزكو به ويأمن؟ أم يتجهم له، فيظل صريع القلق، مهددا بين الحين والحين بالدمار والويلات؟ صحيح أن هذا الدين فى فترة انهزام من تاريخه، ولكن كم دخل الناس فيه وهو على هذه الحال! إن التتار الذى هدموا حضارته، وقوضوا مدائنه، وطووا خلافته..

هم الذين اعتنقوه بعد ذلك ودافعوا عنه...!

لقد ضعف فى الأعصار الأخيرة حقا، وتقدمت ديانات أخرى لتؤدى رسالته وتقوم بوظيفته، فظهر عجزها، وانكشف عوارها، ولم تر فيها الفطرة الإنسانية ما يغنى، ولا يقنع، فانطلقت تسير وحدها، نافرة من هذه الأديان الملفقة التى تريد أن تصبحها.

ترى: أتهتدى الفطرة المتوحشة فى الغرب إلى الإسلام المستضعف فى الشرق مدفوعة بوحدة التفكير والغاية؟ أم يصدها عنه ما عرا هذا الدين من هوان أتباعه، وحيفهم عليه، وتقصيرهم فيه؟؟ إنها ـ على أية حال ـ لن تجد غيره، طال المدى أم قصر..!!

المبادئ الأساسية للنظام الإسلامي ومقوماته الرئيسية العامة

  • تمهيد: إن للكون نظاما أحكمه الله سبحانه وإن للإنسان دورا أوضحه البارى يوم شاء أن يجعل فى الأرض خليفة فخلق الإنسان فى أحسن تقويم وكرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلا وابتلاه (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) فمن شكر تذكر عهده واهتدى، ومن كفر تنكر لعهده وتردى، قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).

هذا العهد الأزلى الكامن فى نفس الإنسان يتعرض أحيانا للغفلة والنسيان لذلك أرسل الله رسله وأنزل كتبه للذكرى والبيان، قال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

هذا العهد يقيم دينا واحدا وإن تعدد المرسلون، إنه دين التوحيد لله فى العقيدة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المعاملات والأخلاق، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).

إن الإسلام هو الدين الأزلى الجامع الذى تواترت رسالات الأنبياء على إظهاره، فكانوا دعاة دين واحد، وشرائع متعددة تعاقبت فكان لكل قوم هاد ولكل قوم شرعة ومنهاج حتى ختم الله رسالاته بالرسالة المحمدية المصدقة لدعوات الأنبياء الأولين هذه الرسالة السمحة تخاطب الناس كافة وهى صالحة لكل زمان ومكان: رسالة جمعت فأوعت واتسعت فأرشدت كل جنبات الحياة الروحية والمادية، رسالة حفظت حق الفرد فى وفاق موزون بين الحرية الفردية والمصالح الجماعية، وفاق ينمى مواهب الناس رجالا ونساء فى كل ميدان ويسوى بين الناس فلا يعرف تفاضلا يقوم على اللغة أو القومية أو اللون أو الجنس (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

لقد كفل الإسلام للإنسان حقوقا ثابتة وحريات متعددة كحرية العبادة، حرية التعبير والتنقل وحرية الفكر..

الخ، وحق التملك المشروع والحياة الكريمة.

إن تطبيق الشريعة الإسلامية واجب على أبناء الأمة الإسلامية وعليهم أن يقيموا نظاما إسلاميا عالميا أساسه العدل، فإن الله قد أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط.

الإسلام والحياة: وعلى هدى ما سبق ذكره، نعلن نخن معشر المسلمين حملة لواء الدعوة إلى الله فى هذا اليوم المبارك ومع مطلع القرن الخامس عشر الهجرى مشاركتنا فى الآمال والجهود الكبيرة لشعوب الأمة الإسلامية من أجل إقامة نظام إسلامى صحيح ونشهد - ونحن نستشعر عبوديتنا لله وحده وإخاءنا فى الله تلك الأخوة التى جمعت ووحدت بين قلوب المسلمين فى كافة أنحاء الدنيا بعروة وثقى- أن القرآن الكريم هو كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كلام عصمه الله من الدس والتزييف وجعله مصدقا لما بين يديه من هداية السماء ومهيمنا عليها وخاتما لها.

كتاب فيه قصص الأولين عبرة واتعاظا وفيه مقياس الفضيلة الفاصل بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر وبين الأثرة والأنانية، وفيه الوعد الحق بأن الباطل زهوق وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وفى القرآن الكريم تبيان الصراط المستقيم، صراط الحق والعدل والخير.

إن لشعائر الإسلام قوى روحية تهذب شخصية الفرد وتدعوها للفضيلة وتوجهها نحو حياة اجتماعية تقوم على العدالة والإخاء: فالصلاة كتاب موقوت على المؤمنين يؤدونها فى أوقاتها الخمس أفرادا وجماعات وهى تجديد للصلة بالله وترسيخ لمعانى الالتزام بالحق ونهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم تعليم للصبر على الشدائد والمشاق وتطويع للرغبات والشهوات ، والزكاة تسخير للأموال والثروات الخاصة نحو الغايات التكافلية العليا: ليست الزكاة التزاما ماليا مجردا فحسب، وإنما هى مشاركة للمعسور فى ثروة الميسور وحق معلوم للسائل والمحروم، والحج شعيرة احتفاء بالوحدانية لله والاتحاد للأمة ورمز التقاء الجميع حول قبلة واحدة يقصدونها عند كل صلاة ويزورونها مرة فى العمر على الأقل حين يحجون.

إن هدف الإسلام هو رفعة الإنسان بغرس الإيمان فى قلبه، فبالإيمان وحده يتحقق التطور الاجتماعى، إن تربية المسلم على خشية الله وتقواه تجعله قادرا على تأدية واجبه بإخلاص وأمانة من أجل إقامة عالم أفضل.

هذه المعانى وحدها هى الكفيلة بإنقاذ الإنسانية من التفرق المستمد من الولاء للجنس واللون، والإقليم، والمال وهى ولاءات تفرق وتمزق ولا ينسخها إلا يقين من أسلم وجهه لله وحده وهو محسن.

إن لشرائع الإسلام مقاصد سامية هدفها أن يتعامل الناس بالشورى والعدالة وأن تورع الثروات المملوكة أصلا للجماعة بين الأفراد توزيعا عادلا وفق عملهم وكسبهم واجتهادهم وحسب حاجاتهم وضروراتهم، فالثروة لا يجوز أن يكتسبها الأفراد ظلما وعدوانا وتسلطا ولا ينفقونها فى مزالق الهوى والضلال والاستغلال، بل ينفقونها فى إشباع ضروراتهم وحاجياتهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومسارعين إلى الخيرات، إن شعائر الإسلام وشرائعه وإرشاداته تخاطب الضمير مباشرة وتكلف الإنسان بلا وساطة وسيط.

إن شريعة الله وحدها هى التى تضفى الشرعية على الحكومات والحكام وكافة مؤسسات الدولة ولا يمكن اعتبار السلطة شرعية إلا بتطبيق شريعة الله ومراعاة مبادئها كما جاءت فى القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى الدولة تحقيق العدالة فى كافة مجالات الحياة تقوية لوحدة الأمة وصونا لعزتها وتحقيقا لآمال شعوبها متسامية فوق أى اعتبار مرجعه المال أو الجاه أو القوة أو النسب، والتى من شأنها تمزيق وحدة الأمة الإسلامية اجتماعيا وسياسيا.

إن نصوص هذه الشعائر والشرائع والإرشادات ثابتة فى كتاب الله وسنة رسوله مصحوبة بمفاهيم وشروح وجهود تمكن علماء الأمة من الاجتهاد والتجديد لملاءمة ظروف الزمان والمكان وأمام هؤلاء العلماء القياس، والاستحسان، والاستنباط والاستصلاح، والاستصحاب وغيرها من أصول الأحكام.

ليس فى الإسلام ما يسمى بالمقدس والوضعى أو ما هو إلهى وما هو علمانى وانما نظام واحد خاضع لإرادة الله ممتثل للسنة التى لا تتبدل ولا تتحولي، قال تعالي: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا و كرها و إليه يرجعون).

وكتاب الله شامل لكل المعارف إما بما ذكر من حقائق الغيب ودروب المعرفة الروحية أو بما ذكر من وسائل المعرفة الإنسانية والحث على استخدامها قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

فوسائل المعرفة ثلاث: روحية، وتجريبية، وعقلية، والقرآن الكريم استخدمها وحث على استخدامها، قال تعالى فى حق المعارف الروحية (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به).

وفى حق المعرفة التجريبية (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).

وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

وفى حق المعرفة العقلية قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها).

إن لهداية الإسلام أسلوبا قويما وأن مفتاح الإصلاح فى الإسلام هو الإيمان، فالدعوة الإسلامية تبدأ بغرس الإيمان فى قلب الإنسان وتجعل المؤمنين مراقبين لله فى أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، هؤلاء الأفراد الذين تزودوا بصحوة الإيمان والتقوى هم اللبنات التى تعمر بها المؤسسات والنظم الاجتماعية، لذلك كانت سور القرآن المكية موجهة غالبا نحو الإيمان والتقوى، وسور القرآن المدنية موجهة عامة نحو التشريع والتنظيم والترشيد.

  • أزمات الحضارة المعاصرة: إنه لمن الأمور الخطيرة التى تسترعى الاهتمام أن العالم المعاصر يمر بمرحلة من الأزمات التى تهدد كيان الحضارة الإنسانية، وليس هذا بسبب نقص فى المصادر الأساسية اللازمة للإبقاء على المستوى الرفيع لثقافة الإنسان ومستوى معيشته.

ولكن ما يهدد كيان الحضارة يكمن فى أن الإنسان المعاصر نفسه يقف عاجزا أمام الاستفادة الكاملة للمواد الوفيرة التى من الله بها عليه: فبفضل العلم المتقدم ونظم التقنية والطاقات الاقتصادية استطاع الإنسان أن يحقق تقدما علميا وتقنيا ونموا اقتصاديا هائلا ولكن تقدمه الرائع هذا لم يصحبه تطور مماثل فى قواه الروحية والمعنوية.

فتجربة الإنسان عبر التاريخ للأنظمة العلمانية قد باءت بالفشل، سواء أكانت أنظمة رأسمالية أو شيوعية، وبالرغم من محاولاته وتجشمه كافة التضحيات من أجل تحقيق مجتمع قائم على مبادئ العدل والمحبة، فالنظام الرأسمالى أدى إلى استغلال الفقراء وسيطرة الأغنياء وأصحاب الطبقة المميزة على المجتمع كله، كما أصبح هذا النظام أساسا وسببا لأشكال متنوعة للاستعمار، أما النظام الشيوعى ـ وهو نظام علمانى مقابل للرأسمالية ـ فإنه يعالج مشاكل المجتمع بأساليب مادية بحتة، ولتحقيق أهدافه فإنه يهدر كافة الحريات.

وقد أدى النظام الشيوعى إلى قيام حكم استبدادى قائم على أساس بيروقراطى يسيطر عليه سواء حكم الفرد أو جماعة من الأفراد وفى ظله تحتكر الدولة جميع وسائل الإنتاج المادى والثقافى وتسيطر على كافة حوافز الفرد وحريته فى المجتمع.

وهكذا فشل النظامان العلمانيان الرأسمالى والشيوعى فى محاولتهما لبناء المجتمع المتوازن لينعم فيه الفرد بما يتطلبه من حرية وعدالة لتحقيق الكفاية المادية والحرية الاجتماعية، وقد حاول الاستعمار بشكليه الرأسمالى والشيوعى السيطرة على العالم مستخدما فى ذلك وسائل اقتصادية مغرضة وسياسية قائمة على تعبيرات رنانة وشعارات براقة.

  • أطر النظام الإسلامي:

1- الإطار السياسي: على أبناء الأمة الإسلامية تطبيق مبادئ الشريعة وأحكامها كما أنزلها الله على رسوله الأمين وجعلها أساسا لكافة التشريعات السياسية للدولة وهذا يتطلب الآتى:

( ا ) أن تكون الشريعة الإسلامية هى القانون الأساسى للأمة الإسلامية ويجب على كل دولة إسلامية تطبيق مبادئها وجعلنا منارا يهتدى بنوره الحاكم والمحكوم على السواء.
(ب) لا مشروعية للسلطة السياسية إن لم تمارس عملها فى نطاق الشريعة الإسلامية وعن طريق الشورى، فلا يجوز لأى فرد أن يعطى لنفسه الحق المطلق فى الحكم حسب هواه.
(جـ) لكل مسلم حق المشاركة فى بناء المصير السياسى الإسلامى، على أن يقوم بممارسة السلطة من هو أهل لها إذا توافرت لديه الشروط الفقهية المعروفة التى أقرتها الشريعة الإسلامية.
(د) يجب أن تمارس جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وفقا للمبادئ والقيم التى شرعها الله ورسوله.
(هـ) إن طاعة السلطة الشرعية الحاكمة أمر واجب على كل فرد مسلم طالما أن هذه السلطة تطبق شريعة الله وسنة نبيه.
( و) كل مسئول فى الدولة خاضع لأحكام الشريعة الإسلامية فى جميع تصرفاته العامة والخاصة.
( ز) الناس سواسية أمام الله وأمام الشريعة وكلهم خاضع لأحكامها بلا تمييز أو استثناء.
(ح) مناقشة قرارات الحكام والمشاركة فى وضع الحلول للمشاكل وتصحيح الأخطاء حق تكفله الشريعة لجميع المسلمين.
( ط) لقد كفل الإسلام للناس جميعا صيانة النفس والعرض والمال وجميع الحرمات فلا يجوز من ثم لكل من آمن بالله واليوم الآخر أن يعتدى على هذه الحرمات جورا.
(ى) لقد ضمن الإسلام للأقليات غير المسلمة حمايته لجميع حقوقهم المدنية وحريتهم فى ممارسة شعائرهم الدينية.

2- الإطار الاقتصادي: يقوم النظام الاقتصادي فى الإسلام على أساس العدالة الاجتماعية والمساواة والعلاقات المعتدلة والمتوازنة، إنه نظام عالمى بما يحتويه من قيم أزلية تؤمن حقوق الفرد وتذكره بواجباته تجاه نفسه ومجتمعه، فالإسلام يحرم كافة أنواع الاستغلال ويحترم العمل الشريف ويحث المسلم دائما على كسب قوته بالوسائل المشروعة والاعتدال في إنفاقها، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا).

والإطار العام للنظام الاقتصادى الإسلامى يتلخص فيما يلى :

( ا ) أن مصادر الثروة تعتبر أمانة منحها الله للإنسان وجعله سبحانه وتعالى أمينا عليها مستخلفا فيها، وعلى ذلك يحدد المسلم جهوده ونشاطه الاقتصادى داخل نطاق هذه الأمانة والثقة التى أولاها له الله.
(ب) أن الثروة لابد أن تكون مكتسبة بالعمل والجهد وبوسائل مشروعة ويجب حمايتها والمحافظة عليها واستخدامها طبقا لما أمرنا به الله ورسوله.
(جـ) يجب أن تورع الثروات توزيعا عادلا: فعندما تفى ثروة الفرد كافة حاجاته الضرورية والمشروعة دون تقتير أو إسراف، فإن عليه إنفاق الفائض لسد حاجات المحتاجين.
( د ) أن جميع الثروات التى يمتلكها الفرد بصورة خاصة والأمة بصورة عامة يجب أن تستثمر لأقصى حد ممكن، فلا يحق للدولة أو الجماعة أو الفرد اكتنازها أو تبديدها فيما حرم الله ورسوله.
(هـ) أن التطور والتقدم من المتطلبات الضرورية وأن المشاركة فى النشاط الاقتصادى أمر أوجبه الله على كل مسلم، فعليه أن يعمل بجد فى سبيل إنتاج وكسب ما يفيض عن احتياجاته الفردية حتى يتسنى له إخراج الزكاة ويساهم فى النهوض بمجتمعه.
(و) لكل فرد الحق فى أن ينال أجرا عادلا جزاء لعمله دون أى تمييز قائم على أساس العرق أو الجنس أو اللون أو الدين.
(ز) الكسب الحلال والإرث المشروع هما أساس الدخل الذى يعترف به الإسلام.
إن تنمية الثروات وكافة وسائل الإنتاج يجب أن تكون مطابقة لنصوص الشريعة الإسلامية: فالربا والمقامرة واكتناز الأموال دون استثمارها فى التنمية وما شابه ذلك من الأمور التى يحرمها الإسلام كمصدر للدخل.
(ح) إنما المؤمنون أخوة: إن مبادئ المساواة والأخوة فى الإسلام توجب تطبيق حق المشاركة العادلة فى حالة اليسر أو العسر، فحق الزكاة والصدقات والعفوة والميراث هى من مبادئ التوزيع العادل للثروة فى المجتمع الإسلامى.
(ط) إن التكافل الاجتماعى يعطى المحرومون والمستضعفين والعاجزين الحق فى ثروات المجتمع الذى يعتبر مسئولا مسئولية كاملة عن تزويدهم بالمسكن والملبس والمأكل والتعليم والرعاية الصحية، وذلك دون تمييز فى السن أو الجنس أو اللون أو الدين.
(ى) يجب إقامة الثروة الاقتصادية للأمة الإسلامية على أسس من التعاون والتكامل لصالح أبنائها.

3- الإطار التربوى: قال عليه الصلاة والسلام " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ".

والعلم تعبير شامل لكل مجالات المعرفة وتنمية القدرات العقلية والتقنية والحرفية والوظيفية وتنمية الملكات الروحية والفنية والجمالية، وفيما يلى بيان لمبادئ التربية والتعليم فى الإسلام:

أولا: أن تشاع المعرفة لكل الناس أطفالا ورجالا ونساء وأن توفر لهم سبل التعليم فى جميع مراحله.
ثانيا: تواجه الإنسان تحديات نفسية وتحديات اجتماعية ويستطيع الفرد مواجهتها بتنشئته على مكارم الأخلاق وتزويده بالمعارف الإنسانية والأدبية والعلوم الاجتماعية والطبيعية والتقنية وبالمدارك الفنية والجمالية وبالممارسة الرياضية.
ثالثا: إننا لنرحب بالمعارف التى استنبطها واكتشفها الوعى الإنسانى عبر التاريخ حتى يومنا هذا ونعتبرها رصيدا ساهم المسلمون فى عهودهم الذهبية فى تكوينه.

وننادى الآن بترشيد هذه المعارف بهدى الإسلام واستخدام أساليبه فى البحث لإحياء التراث الإسلامى.

وينبغى أن نوجه هذا الجهد كله لإلغاء ثنائية التعليم التى كان نتيجة لها ما نعانيه اليوم من انقسام فى مناهج التربية بين ما يسمى بالمنهاج العلمانى والمنهاج الدينى، وعلينا أن نوحد المناهج ونوزع المعارف بين تخصصات مختلفة فى صرح تعليمى تربوى واحد.

4-الإطار الاجتماعى: الأسرة والصلاة جماعة فى الدور والمساجد، وشعائر الأعياد وغيرها وسائل إسلامية من مقاصدها تقوية التعاون على البر والتقوى وغرس الوعى الاجتماعى الذى يقوم على الأخوة والتكافل، وأهم هذه المقاصد ما يلى:

أولا: تأكيد كرامة الفرد والاعتراف له بحرمات لا يعتدى عليها ليأمن على نفسه وماله وعرضه.
ثانيا: تدعيم الأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية للبناء الاجتماعى والمدرسة التى ينشأ الأطفال فى رحابها فيتعلمون الفضيلة ويستعدون للحياة مع التأكيد على ما فرضه الله علينا من احترام الوالدين والإحسان إليهما، والبر بهما، يقول تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما و قل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
ثالثا: حماية حقوق الفئات المستضعفة من شيوخ وأطفال وحماية حقوق المرأة التى كفلها الإسلام " فالنساء " كما قال عليه الصلاة والسلام " شقائق الرجال لهن ما للرجال وعليهن ما على الرجال " والإسلام يكفل حقوقهن القانونية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
رابعا: إن تربية الإسلام تدعو للاعتماد على النفس والانصراف عن التنعم والالتزام بالتآلف والتشاور والتعاون الأخوى بين الناس.

5- الإطار العسكرى: الإسلام دين عدل وسلام ومعاملة بالمثل، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم).

والإسلام دين دفاع عن حرية العقيدة والكرامة والانتصار للحق الضائع، قال تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).

وهذا الموقف يوجب اتخاذ كافة الاستعدادات وتعبئة جميع الإمكانيات، قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) وللقيام بهذا الواجب ينبغى أن تقوم الدولة الإسلامية بالآتى:

(أ) تنمية قدراتها الدفاعية البشرية والتقنية والآلية والتدريبية لأقصى درجة ممكنة.
(ب) الاتفاق على تعاون شامل فى مجال الإنتاج الحربى لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى أقرب وقت ممكن.
(جـ) تنسيق المجهود العسكرى بين بلاد الأمة الإسلامية فى جميع المجالات.
(د) الاتفاق على الدفاع المشترك بحيث يصبح الاعتداء على أى قطر إسلامى اعتداء عليها جميعا مما يوجب النجدة وصد العدوان.
  • التضامن الإسلامي: قال تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).

إن التضامن بين الدول الإسلامية يقتضى ضرورة اتخاذ الخطوات التالية للعمل على تحقيق وحدة الأمة الإسلامية كما أرادهـا الله:

( أ ) العمل على إنشاء " بيت المال " ليكون محور التعاون المالى بين البلاد الإسلامية والذى عن طريقه تنظم المساعدات المالية بينها.
(ب) العمل على إقامة صندوق مشترك للاحتياط، هدفه دراسة الخطوات التمهيدية من أجل إنشاء نظام عملة مشترك بين البلاد الإسلامية.
(جـ) إقامة سوق إسلامية مشتركة.
(د) إقامة مؤسسات خاصة بالعالم الإسلامى مهمتها مراقبة وتشغيل قطاع الخدمات المصرفية والتأمين والسياحة والنقل البحرى والمواصلات والتسويق والإعلام..
(هـ) تنسيق سياسة الإنتاج بين الدول الإسلامية بما يتفق وبرامج تحسين وتطوير وسائل التقنية للإنتاج الزراعى والصناعى ومن أهدافها تحقيق الآتى:
ا ـ الاكتفاء الذاتى للإنتاج الزراعى وتوفير احتياط للمواد الغذائية.
2 ـ توفير ما يلزم قطاع الصناعات من المواد الخام.
3 ـ تنسيق سياسة تطوير الإنتاج الصناعى وخاصة فى مجالات الصناعة الثقيلة والصناعات الأساسية بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتى لإنتاج السلع الرئيسية ومعدات الدفاع.
(و) اتباع الدول الإسلامية لمنهج مشترك لتأمين نظام عادل لمواجهة تقلب أسعار موادها الخام ومصادرها الطبيعية، كما أن عليها ممارسة كامل سيادتها القومية فيما يتعلق بإنتاج هذه المواد وتسعيرها وتسويقها وكيفية استخدامها.
ومن أجل تحقيق ذلك فإن عليها أن تنشئ صندوق احتياط مشترك لمواجهة تقلبات الأسعار فى الأسواق.
(ز) على الدول الإسلامية المطالبة بتعديل النظام المالى والاقتصادى الدولى الحالى تعديلا جذريا بجعل عملياته عادلة لصالح البلاد النامية لاعطائها الحق العادل فى صنع القرار.
(ح) العمل على إقامة محكمة عدل دولية إسلامية للفصل فى كافة المنازعات والمشاكل بين الدول الإسلامية والوساطة فيما بينها.
(ط) إقامة هيئة مشتركة دائمة مهمتها رسم السياسة التعليمية والإعلامية فى العالم الإسلامى كله، كما تقوم بتوفير وسائل التقنية والإنتاج المتقدم فى مجال الإعلام والاستعانة بالخبراء وتدريب الفنيين.
(ى) على الدول الإسلامية الاهتمام بمصالح الأقليات المسلمة فى البلاد غير الإسلامية وأن تقوم برعاية شئونهم والمحافظة على حقوقهم الإنسانية وحريتهم الكاملة فى ممارسة شعائر دينهم.
(ك) العمل على نشر اللغة العربية ـ لغة القرآن الكريم ـ وجعلها لغة التخاطب فى العالم الإسلامى، وبذل الجهود من أجل تحقيق هذا الهدف.

تحرير الأراضى الإسلامية : إنه لمما يثير قلق الأمة الإسلامية ويجرح كبرياءها، هو خضوع المسلمين واحتلال أراضيهم فى بعض أجزاء معينة من العالم.

وإن أشد ما يؤلمها وأقساه مرارة فى نفسها هو احتلال مدينة القدس الشريف، واغتصاب مقدساتها، إن على الأمة الإسلامية أن تعبئ قواها من أجل الجهاد المقدس لاستعادة مدينة القدس الشريف وتحرير كافة الأراضى الإسلامية المغتصبة.

وحدة الأمة الإسلامية : ولكى نخطو خطى ثابتة فى هذا الطريق ينبغى أن ترتبط الشعوب الإسلامية بهذا البيان ومبادئه الواضحة وأن تحمل حكوماتها على قبوله ليصبح الأساس لسياستها فإن فعلت فقد ألزمت نفسها بتعديلات دستورية وتشريعية ومعاهدات تحقق مولدا إسلاميا جديدا وصحوة إسلامية معاصرة.

خاتمـة

إن الأمة الإسلامية، وقد انقسمت إلى دول ودويلات فى حال لا يرضاه الله ولا يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلم .

فبالرغم من التصريحات العامة بالالتزام بالشريعة الإسلامية فإن المبادئ الإسلامية لم تطبق فى الحياة الخاصة ولا فى المؤسسات العامة.

وان السلطة الحقيقية ما زالت بشكل عام فى أيدى أناس لم تتشرب قلوبهم تعاليم الإسلام وروح التضامن الإسلامى وجل همهم هو وضع مصالحهم الخاصة فوق مصالح الأمة الإسلامية.

وإن ثروات الأمة الإسلامية الضخمة تعتبر فى حكم الضياع وفى أغلب الأحيان لا تستخدم لتوفير الكفاية والعدل وإزالة التناقضات الاقتصادية وسوء العدالة الاجتماعية بين أجزاء الأمة الواحدة، وأصبح تبديد هذه الثروات فى أمور غير مشروعة وخارجة على أحكام القرآن الكريم واضحا جليا، إن هذه الثروات تستغلها القوى المعادية لنا بما يعود بالضرر على الإسلام والمسلمين من من أجل ذلك نعلن أن الصحوة الإسلامية الشاملة لن تتحقق وأن النظام الإسلامى المنشود لن يقوم إلا باتباع الآتى:

( أ ) أن تكرس الأمة الإسلامية جهودها من أجل تطبيق مبادئ الإسلام وفرض أحكام الشريعة علي جميع المستويات العامة والخاصة وعلى الأمة الإسلامية أفرادا وجماعات وحكاما أن تطهر نفسها من كافة وجوه الاستغلال والسيطرة والتمييز والتفرقة العنصرية ومن كافة النظم والقوانين والعادات المخالفة لروح الإسلام وتعاليمه والتى تغلغلت فى جوانب المجتمع الإسلامى.

(ب) أن تختار لنفسها قيادة إسلامية واعية فى كافة الميادين، قادرة على قيادة شعوبها بما وهبها الله من قوى روحية ومعنوية وليس عن طريق القهر والإكراه، قيادة تجتمع عليها قلوب المسلمين وتطمئن إليها وتثق بها، هذه القيادة الرشيدة والملتزمة قولا وعملا بمبادئ الإسلام تعتبر مسئولة مسئولية كاملة أمام الله والأمة جميعا وتحت قيادتها يمكن للمسلمين فى جميع أنحاء العالم أن يقيموا المجتمع الإسلامى المتحد القادر على تطبيق رسالة الله الشاملة.

إن الواجب المقدس لشعوب الأمة الإسلامية المناضلة، يقضى بالجهاد من أجل تقويم كل نظام لا تتفق أسسه مع تعاليم الإسلام.

ولذلك أصبح لزاما على شعوب الأمة الإسلامية المجاهدة، وقد أحدق الشر بها أن تعمل متعاونة ومتساندة من أجل إقامة المجتمع الإسلامى المنشود.

وليكن شعارنا: لحكم الله نخضع وبحكم الله نسود، وأنه قد آن الأوان لاتخاذ القرآن دستورا تطبق مبادئه على الحاكم والمحكوم.

(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).