الامير عبد الكريم الخطابي و استقلال المغرب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الامير عبد الكريم الخطابي و استقلال المغرب

يكتب الحاج أحمد معنينو :

"لقد جاء هذا الكتاب الهام ليفتح أعيُناً عُمياً وآذاناً صُمّاً لمن لم يعيشوا تلك الفَترة العسيرة من تاريخ الحركة الوطنية من شبابنا الناشئ.

بل وحتى مِن بعضِ مَن عاصَروا تلك الأحداثَ المَهُولَةَ ولم يَعُوا حقائقها، لأنهم كانوا تحت تأثير تخدير التهريج الحزبي ودعاياته الباطِلة السافلة. ذُهِل بعضهم… وقال آخرون تمويها : إنها كانت فَلْتَةً وحيدة…".

قال : "لكنّ دَار بريشة -بفظائعها التي تقشعر منها الجلود- لم تكن في الواقع وحيدة ولا واحدة من عشَرةٍ أو مِائَةٍ.

بل هيَ نموذج فقط لِما لا يُحْصَى من مراكز التعذيب الحزبي الوحشي التي انتشرت في طول البلاد وعرضها منذ غداة الاستقلال".

عبدالكريم خطابي12.jpg

لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن سنة 1956، سنة إعلان الاستقلال، شهدت فراغا في السلطة، لأن الفرنسيين سُقِط في أيديهم فرفعوا أيديَهم لتعُمّ الفوضى. لكن الفوضى إنما كانت المُناخَ الذي ساعَد، لَمْ تكن المحرك والباعث.

كلمة "الاحتقلال" التي عَنْوَنَّا بها هذه الفقرة هي من صياغة البطلِ الريفي المجاهدِ محمد بن عبد الكريم الخطابي. كلمةٌ مركبة تركيباً مزْجيّاً من "الاحتلال" و"الاستقلال".

فهي بتركيبتِها وغرابَتها تدل على شك الخطابي في حقيقةما حصَّل عليه المغاربة المفاوضون في إكس لبان، وتَدلُّ على إنكار الخطابي لاستحواذ الحزب الوحيد -الفارضِ وحدانيتَه بالعنف الذي قرأناهُ-، وعنفه.

لا يميز الخطابيُّ شِقّاً في حزب الاستقلال من شِقٍّ في إدانَتِه، لأن الانشقاق، وإن كانت بوادره ظاهرةً، لَمْ يُعلَنْ إلا بعد ثلاثِ سنوات من الاستقلال، كان أثناءَها الشقُّ العلالي يُغَطِّي ويسكتُ.

كتب الخطابي من القاهرة رسالةمطَوّلة إلى صديقه الوزاني بتاريخ27 يوليوز 1960، أوردها الأستاذ معنينو في ذكرياته، نقتطف منها جملا تقطرُ أسىً وأسفاً على "الاحتقلال".

كان حزب الاستقلال يحتفِل -ومعه الشعب المغربي المُنْتَشِي بالاستقلال- متفائلا، مصارِعا للإرادة المخزنية، تسقط حكومةٌ لِتَعقُّبَها حكومة، في بَحثٍ دائم عن "انسجام" يتَصورهُ حزب الاستقلال انفرادا بالحكم، ويتَصورُه القصْر وَلاءً غيْرَ مشروطٍ للقصر.

أما الخطابي الذي كان يراقب من قريب رغْمَ بعده المكاني، فكان له همٌّ آخرُ، همُّ المقاتل الذي يرى جيش فرنسا لا يزال يحتل الديار، وأناس في حفلاتهم ومحاولاتهم بناءَ الدولة، وتسييرَ عجلات الإدارة ومَلْءَ الفراغات.

والناس في نَشوةٍ لا يفطِنون للاحتلال الآخر، احتِلالِ صانعي الفظائع في دور الفظائع وكهوف التعذيب.

يكتب الخطابي إلى صديقه : "فلا تدشين ولا احتفال، ولا تَعبيدَ الطرُقِ، ولا بناءَ القناطِر، ولا استرداد الأملاك المغصوبة، ولا إنشاء مناصِبَ جديدة، ولا تعديلَ في الوِزارة، ولا في القضاء، ولا مستشفى، ولا ملكة جمال، ولا ملكةَ حب الملوك، ولا تفكير في إنشاء سِفارات في أطراف المعمور. كل هذا هُراءٌ في هُراء، وعَبثٌ في عبث.

إننا في غنىً عن كل هذا ما دمنا لم نُنجِزْ قضية الجلاء. لتهبِط درجةُ الحرارة من41 إلى 37".

ويَرْصُدُ الخطابيُّ حركة "عكاكيز" المروقِ من الدين وانحلالهم الخلقي، وسفكهم وبطشهم في الجو المحموم. فيكتب : "إن ما أصابنا ويصيبُنا، وما نراه يحدُث في بلادنا من المناكر والفحشاء ومن الاتجاه الذي تسير فيه بعض الطبقات من التقليد الأعمى والمرُوق من الدين الحنيف، مَنشأُهُ عدم الاهتمام من الذين يعنيهم الأمر في الحقيقة، وعدم الاكتراث بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف الواجب على كل مسلم عاقل يريد الخير لأمته وبلاده".

ويستشهد المجاهد الريفي المومن بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ما فرض الله على عباده المومنين. ويُعَدِّدُ مظاهرَ الفساد والزندقةِ والإلحادِ، -وهو كان على علم دقيقٍ بها يجري- فيكتب : "أمّا فُشُوُّ الخلاعة والزندقة والإلحاد، والانحلال في الأخلاق الذي نراه من خلال الوقائع، فشيْءٌ تنفطر منه الأكباد.

وشيْءٌ يُنذرُ بالفناء والدَّمار والهلاك والتلاشي لأمتنا الكريمة. أصبحنا في وضعية لا ناهيَ فيها ولا مُنتهيَ. ويأتي بآيات الله الشاهدةِ على انحراف الناس، وطغيانالناس.

سبَق الخطابيُّ، زَمناً، علالاً الفاسيَّ رحمهما الله في التعبير عن خيبة أمل الرُّوَّادِ المؤسسين في الاستقلال. شجبَ علالٌ المسخ الثقافيَّ وانتقدَه من جذوره في كتابه "دفاع عن الشريعة".

ويشجُبُ الخطابيُّ المغَرّبين وينتقِدُ ضُلوعَهم وانخذالهم في مفاوضات إكس لبان، وخذلانهم لإخوانِهم في الجزائر بما أتاحوا لفرنسا أن تتفرغ لهم.

يغضَبُ ويكتب : "كيف نسمح لأنفسنا أن نعيد تاريخ1830(تاريخ مصالحة السلطان المغربي المولى عبد الرحمان مع فرنسا، وخذلانَهُ جهادَ عبد القادر الجزائري الرجُلِ الفذ رحمه الله)، ونترك الجزائريين يُقاتلون وحدهم، حتى نُمكن الإفرنسيين الغاصبين من هذا القطر الذي هو رأس القنطرة لابتلاع بلادنا بعدهاألا سُحقاً للظالمين، وتَبّاً للمنافقين، وخُسرانا للمذَبذبين، وهلاكا للانتفاعيين الذين داسوا كرامتَهم وكرامة أمتهم، مفضّلين الراحة والتمتع بالشهوات".

قال : "أليست مفاوضة إكْسْ لبان (بين الوطنين المغاربة وفرنسا) واتفاقيةَ جي مولي-بورقيبة (في مفاوضات استقلال تونس) هي التي كانت في حقيقتها مؤامرةَ القضاء على البلاد. نجح فيها العدو وعملاؤه (قلت : وهم من سماهم الفقيه البصري "القوة الثالثة") بتخدير الشعب التونسي والمراكشي حتى يطمئن للاستقلال المزيّف. هذا الاستقلال الفارغ الذي يجب أن نطلق عليه "الاحتقلال"".

ويرصُدُ البطلُ الريفيُّ فُسولَةَ المفاوضين، وتفاهة الغادين الرائحين إلى حفَلات التدشين وسفك الدماء وهتك الأعراض، فيكتب : "لقد ذهب منا كل شيء بسبب الأطماع الشخصية، والغباوَةِ المظلمة، والجبن الفاضح، والنفاق الأسود.

ألَمْ يَانِ لنا أن نقف هُنَيْهةً لنتخِذ طريقا ينقذنا من هذه الآلام التي نعَانيها ؟ لقد تيتَّمَتْ أطفالُنا، وانتُهكَت حرماتنا، وسُلِبت أموالُنا، وعُذِّب رِجالُنا، ومُلِئت السجونُ والمعتقلاتُ بعشرات الآلاف من المجاهدين والمجاهدات، وآلاف منهم قد أُقْبِروا أحياءً، وتركوا هذه الدنيا".

كان مركزُ جيشِ التحرير، وموطن قوتِه، وعرينُ أسودِه، في جبال الريف. وكان ضباطُ هذا الجَيش وجنوده ينتمون إلى العقيدة الجهادية الخطابية، أو إلى الجيش الخطابي أيامَ مجدِه.

فلا عجب أن نجد ابن عبد الكريم على اطلاع شامل بما يجري، وبالمذابح التي عانى منها الرجال والنساء من جيش التحرير، ومن كل معارضٍ لفكرة الحزب الوحيدِ اللينينية البلشفية.

يعجَبُ الخطابيُّ، المطلع من منفاه بالقاهرة على الشاذة والفاذّةِ من شؤون بلده، من قلة معلومات صديقه الوزاني القاطن في المغرب.

فيكتب إليه : "إننا قد حصّلْنا على معلومات دقيقة ومفصلة تفصيلا كافيا لكشف كل المؤامرات المصطنعة التي دبروها للمجاهدين والعاملين، مما جعلنا نأسَفُ لحدوث ما شوّه سمعة بلادنا، ومسَخ تاريخنا، وسوّد صحيفة وجودنا كأمة شريفة ذات التاريخ المجيد الوضاء السامي".

كيف لايعتبر الخطابي أفعالَ القتَلة سفاكي دماءِ المجاهدين مسخاً للتاريخ وتسويدا للصحائف الناصعة فيه، وهو كان المجاهد الشريفَ ذا التاريخ المجيد الوضاء السامي يوم قاتل دولتين، ودوخ جيوشا أوربية يقودها سبعون جنرالا وآلاف الضباط، ومليون ونصف مليون من الجنود، وما لا يحصَى من البواخر والطائراتِ والمدافع والآليات ؟

كيف لا تتقطع أكبادُ الرجال المومنين حسرة وألَماً أمام ما فعله ويفعله السفهاء الملحدون ؟ يكتب الخطابي المطَّلع إلى صديقه خبرَ الوثائق المفصلة التي كانت تصله من شبكة -لا شكَّ- كانت منتشِرة منظمةً أحسن تنظيم : "وهي وثائق من الأهمية بمكان، نحتفظ بها عبرةً وذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألْقى السمع هو شهيد". وهل للذئاب قلب يا من يستشهِد بآيات كتاب الله !

ويُفضي المجاهد الأسَد إلى صديقه ببعض (ببعض فقط) من المعلومات "الدقيقة التي لا يتطرق إليها الشك أبداً. معلومات تحمِل بين طياتها مآسيَ تُفَتِّتُ الأكباد، وتذيب العقول، وتشمئز منها النفوس، وتقشعر منها الجلود، وتَحار لها العقول".

ويعطي الخطابي قوائمَ بثمانين مركزا للتعذيب والتقتيل، بعناوينها المضبوطة. منها الدور والكهوف والسراديب والضيعات ونقط البوليس ومراكز السلطة.

ويَعد9672 معتقلا جُلهم مجاهدون.

قال : "والغريب أن جل هذه الضحايا كانت في مقدمة العاملين الذين ساهموا بنصيب وافر في الجهاد ضد الاستعمار، ومن أجل تحرير البلاد من الاستعباد. وأخيراً كان جزاؤُهم "جزاءَ سِنمَّارَ". ومن الغريب أيضا أن نرى الآن المسؤولين تجاهلوا حلّ هذه المشكلة التي تعتَبرُ من أهم المشاكل التي تحقق الاستقرار، وتُوَطِّدُ الأمن".

ويختم الخطابي رسالته إلى "أخيه الكريم" الوزاني، رحمهما الله، فيذكرهُ : "باستئناف الجهاد والنضال حتى تُطرد الجيوش الإفرنسية المعتدية على بلادنا، فسيروا على بركة الله، وشجعوا العاملين في هذا السبيل".

لكنّ جيش التحرير الذي كان الخطابي يعلق على جهاده الآمال، ما لبث أنْ تمّ احتواؤُه وحلُّ نظامه وإخماد جذوته.

وبقي في الساحة جيش مُحتل من بني جلدتنا، نجد الوزاني يندد به وينتقده بمرارة من خابت آمالُه، بعد أن قتل رجاله.

المصدر