الحصاد المُر للصراعات العدائية
بقلم: د. توفيق الواعي
ما زالت الأمة تجني الحصاد المر للصراعات العدائية فيما بينها، وما زال مسلسل الوقيعة والتربص والفتك يملأ الأجواء، وما برحت روائح الخيانات والفتن والدسائس تزكم الأنوف، كلٌّ يحمل السكين ويشهر السلاح ويكشر عن أنيابه ويستعد للانقضاض على أخيه، ويريد فرصة، ويحب نازلة، ويرغب في جنازة ليشبع فيها لطم الخدود وشق الجيوب، ويسعد كثيرًا أهل النفاق والشقاق، ويسر كثيرًا أصحاب الدسائس والفتن، ويهلل ويزغرد أعداء الأمة والمتربصون بها، لهذا النزال الكريه، وهذا التمزق الأليم!.
فما تفتَّت الأمة، وتقطعت، وتمزقت، ووهن جسدها إلا من الصراعات بين الأنظمة والاتجاهات والمذاهب، وما تقاتلت وتناحرت وتدابرت وسالت دماؤها، إلا من العنتريات بين الزعامات، والحميات الجاهليات من الدكتاتوريات، وما حل الخراب، وضاعت الأموال، وافتقرت الشعوب، وخويت الخزائن العامرة إلا من الحروب القذرة بين الأشقاء، والاقتتال المشئوم بين الإخوة، وكان يجب أن تتوجه الحِراب نحو الأعداء، وإلى صدور المتربصين، ولكن كانت الأخرى.
سريع إلى ابن العم يلطم خده وليس إلى داعي الندى بمجيب
وكان يجب أن تكون الشجاعة والإقدام والفروسية في ميدان الشرف والدفاع عن الأمة والذود عن حياضها، والذب عن بيضتها، والميادين كثيرة، قد هُزمنا فيها، وضُرِبنا، ونُضرَب على الأقفية، ونُركل بالأقدام، ونحن مطأطئو الرؤوس، خاشعو الجباه، دامعو العيون، مهيضو الجناح:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامــة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالةٍ في الورى بل كان قلبك في جناحي طائر
متى نعرف أن لدمائنا حرمةً، وأن لأعراضنا شرفًا، وأن لأخوَّتِنا حقًّا، وأن لشعوبنا واجبًا؟ متى نعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والفضيلة من الرذيلة، والمعروف من المنكر، والهداية من الضلال، والشجاعة من التهور، والنصيحة من الوقيعة، والمخلص من المنافق، والعقل من الشرود، والفكر من الصعلكة، والنور من الظلام، والضار من النافع، والمبدعين من المفسدين، والطيبين من الحاقدين، والنزعات من الديانات، والديمقراطيات من الدكتاتوريات، والطريق المستقيم من المعوج؟
متى نراقب الله ونخشى غضبه ونقمته؟ ومتى نستعين به ونطلب رضاه، ولا نركن إلى غيره من المخادعين والضالين والمتملقين الذين قلوبهم مسودة، ونفوسهم مربدة من الراهبين أو الراغبين، أو المجبرين، أو الخائفين، أو المنتفعين.
لا تحسبن هشاشتي لك عن رضى فوق فضـلك أننـي أتملـقُ
ولئن نطقت بشـكر بــرِّك مرة فلسان حالي بالشكاية أنطـقُ
قطع الخوف والرهبة أعناق الرجال، وأصاب نفوسهم بالفصام، وعوَّدهم الجبن، وكتم الصواب، والميل عن الحق، وما كان هذا حال المسلمين، لأن النصيحة من سنن المرسلين، ودأب المتقين، فمن انتصح فاز، ومن شرد فأمره إلى نفسه، وضرره في عاقبة أمره، قال الله تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام مع قومه المعاندين: ﴿وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)﴾ (هود: 34)، وقال شعيب عليه السلام: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 93)، وقال صالح: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 79)، ورغم هذا فالمؤمن نصوح وإن صُنِّف على أنه عدو، أو متربص، لأن النصيحة واجبة عليه، خالصة لله ورسوله والمسلمين، قال- صلى الله عليه وسلم-: "إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم".
فالنصيحة لله: وصفه بما هو أهله، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، وموالاة من أطاعه، والبعد عمن عصاه.
والنصيحة لكتابه، تفهم ما فيه، والذود عنه من تأويل الجاهلين وطعن الطاعنين، وتعليمه للخلائق أجمعين.
والنصيحة للرسول، إحياء سنته، والقيام بدعوته، والتخلق بأخلاقه الطاهرة.
والنصيحة للأئمة، تنبيههم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهفوة، وتعليمهم ما جهلوا، وتحذيرهم ممن يريد بهم السوء، وإعلامهم بأخلاق عمالهم وسيرتهم في الرعية، والأخذ بيدهم إلى الطريق المستقيم، والصراط المستقيم، والتحجيز بينهم وبين الظلم.
والنصح لعامة المسلمين: الشفقة عليهم، وتفريج كربهم، وتوخي ما يشغلهم، ورفع الظلم عنهم، والسماع لشكايتهم، والرحمة بهم، وتعليمهم الخير، والأخذ بيدهم، والمحافظة على حقوقهم.
وقال الحكماء: النصيحة دائمًا مُرَّة لا يقبلها إلا أولو العزم من الرجال، أصحاب النفوس القويمة، قال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه-: (قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره، فقد وَدَّكَ من نصحك، وعاداك من مشى في هواك).
فهل ظل من هؤلاء النصاح كثير، أم انقرضوا وحل محلهم من أفسد الأخوَّة، وخان الأمانة، وحرَّض على الجار؟ وها نحن نرى أمتنا، عقولاً متربصةً، وفكرًا شاردًا، ونفوسًا حاقدةً، ودسائس متصلةً، وعداوات فاجعة، وحروبًا طاحنة، وأوصالاً متقطعة، وشعوبً خرسًا، وأموالاً مبددةً، وحضارة بائدة، وجهالة سادرة، وتأخرًا ماحِقًا، وغايات ضائعة، وقوى مُهْدَرة، وإمكانات مبددة، وطاقات مبعثرة، ونقول أين شعارات الوحدة، والدم العربي، والمصير المشترك، وتنقية الأجواء، والمصالحة العربية، تأتي الأيام وتمضي السنون، ولا تجني الأمة إلا الحصاد المر من الصراعات التي لا ناقة لأحد فيها ولا جمل، فهل نفيق قبل أن تحل الكارثة؟.. نسأل الله ذلك.
المصدر
- مقال:الحصاد المُر للصراعات العدائيةإخوان أون لاين