الرسالة الثالثة للأحباب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الرسالة الثالثة للأحباب

23-01-2010

بقلم الشيخ: محمد عبد الله الخطيب

الدعوة إلى الله.. بين القول والعمل والمدارسة والممارسة

يُدرك المؤمن الحق أن من طبيعة الإسلام ومن عظمة منهجه أنه قولٌ وعملٌ، فالإيمان نطقٌ باللسان وتصديقٌ بالجنان وعملٌ بالأركان، وهذا هو مدلول الشهادتين، ولا يكون إسلامنا نظريًّا، فالإسلام النظري يختلف تمامًا عن الإسلام الذي استقرَّ في القلب، وسكن بين الجوانح، وأصبح يحرِّك الإنسان لجميع الطاعات بشوق وحب واشتياق، كل ذلك تطلعًا لا إلى دنيا ولا إلى مراتب دنيوية ومكاسب مادية، لكنه تطلُّعٌ فوق ذلك، تطلُّعٌ إلى جنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين، تطلُّعٌ إلى مقامات عليا وأهداف سامية ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾ (القصص).

تعلَّمنا هذا وغيره الكثير من هذه الدعوة المباركة، دعوة الإسلام في القرن العشرين، ومن قائدها ومربيها الإمام البنا، ومن جاء من بعده من تلاميذه وأتباعه الذين حملوا الراية، وحافظوا عليها وما زالوا يحملونها جيلاً بعد جيل؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله.

وتعلمنا من القرآن الكريم أن الأمة الإسلامية كلَّها من أولها إلى آخرها ومن صغيرها إلى كبيرها لا غنى لها عن هذا الدين، فلا تستطيع أن تحيا بدونه، ولا أن تعيش بغيره، وهي في المقام الكبير السامي العظيم حين تلبس هذا الثوب الرباني الذي يشرفها بين الأمم، ويجعلها شاهدةً عليها وقائدةً لها قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143).

هذه الشهادة وهذه القيادة تستحقها هذه الأمة وهي تحمل الراية، فإذا تخلَّت عنها فقدت مكانتها وصارت ذيلاً بين أمم الأرض، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ (الحج)، وقال فيها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ (آل عمران). وقال الله للأمة الإسلامية كلها أنتم صمام الأمن، بوجودكم تحفظ الأمة كلها بأمر الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى بصراحة ووضوح وإنذار يُوقظ النائم ويهتزُّ له الوجدان خوفًا من هذه العواقب التي ينبغي على الجميع من علماء ومربِّين أن يعوها، وأن يذكَروا بها في كلِّ مكان قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)﴾ (الفرقان).

ولقد كانت هذه الآيات وأمثالها- وما زالت- تعزيةً للمؤمنين، ومسحًا على صدورهم عمَّا يلاقونه وينزل بهم من عنتٍ وإرهاقٍ، وما يدبَّر لهم من افتراءٍ وكيدٍ لا مبرِّر له أبدًا، ولا مكان له؛ فالإمام البنا رحمه الله كان يقول بكل صراحة وصدق: "لو أعلم أن لي دعوةً مستجابةً عند الله لدعوتها لفاروق، فإن بصلاحه سيصلح خلق كثير".

ولطالما نصح الإخوان وكل غيور على هذه الأمة قديمًا وحديثًا النصيحة الخالصة لوجه الله؛ للكبير والصغير والحاكم والمحكموم والغني والفقير؛ لأنهم يُحبون الجميع، ويشفقون على الجميع، ويتمنَّون لهم مستقبلاً كريمًا، وحياةً طيبةً في ظلِّ طاعة الله.

فما قيمة هذه الملايين وما ميزانها عند الله إن لم تكن طائعةً له مستجيبةً لأمره خاشعةً بين يديه؟ ما قيمة هؤلاء جميعًا لولا القلة المؤمنة المطاردة، وكل من كان على دربها من الصالحين والأبرار من روَّاد بيوت الله التالين لكتاب الله الصادقين مع ربهم، التي تدعو ربها آناء الليل وأطراف النار أن يرفع مقته ويرحم الجميع، جاء في الأثر: "لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتَّع؛ لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا"، وورد أن الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، وأن الدعاء يلتقي بالقضاء بين السماء والأرض فيعتلجان- يتدافعان- إلى يوم القيامة؛ القضاء نازل والدعاء صاعد إلى أن تقوم الساعة.

ما هي هذه الأرض؟ وما هذا الكون من أوله إلى آخره؟ الذي يضمُّ البشرية جميعًا، ما هؤلاء جميعًا وغيرهم إلا في ميزان الله.. كل هؤلاء عند الله إن هم إلا صفحة واحدة في كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله سبحانه وتعالى.

وإن الإنسان مع هذا الوجود المحدود والعمر المعدود والطاقات الهزيلة لينتفخ وينتعش ويتضاءل ويعربد وينسى أنه ذرة في هذا الكون الهائل؛ حتى إنه ليخالف أمر من خلقه وسوَّاه وصنعه وربَّاه ورزقه واجتباه وعلَّمه ما لم يكن يعلم.

من أنت أيها الضعيف؟ أيها الهيِّن.. من تكون؟ من الذي يشفيك إذا مرضت؟ من الذي يغنيك إذا افتقرت؟ من الذي يعلمك إذا جهلت؟ من الذي يربيك؟ من الذي تعهَّدك في بطن أمك؟ قال المعترفون بفضل الله من أنبياء الله ورسله قالوا لنا هذه الحقيقة قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)﴾ (الشعراء).

هذا الضعف وهذه الحاجة التي ذكرناها تظل هي كيانه كله حتى يتصل بربه، وحتى يعرف طريقه إلى الله، وحتى يكون من الطائعين له الخائفين منه الراجين لرحمته، وعندئذٍ يكون شيئًا في ميزان الله، وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان، فضلاً عن الله وحده ونعمه الذي كرمه، وأسجد له ملائكته، وسخَّر له ما في هذا الكون.

أيها الأحباب.. إن الله عزَّ وجلَّ حين يقول لنا معاتبًا ومعلمًا ومبينًا لحقيقة كبرى من الحقائق- رغم أن الذي حدث كان من طائفة من المؤمنين- وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)﴾ (الصف). فإنه سبحانه يدلُّنا في حسم وحزم على أن حياة الدعوة إلى الله لا تكون إلا بالعمل، فالعمل وحده يرسي قواعدها، ويُظهر كيانها، ويفرض وجودها.

إن الأمر وهو القول الأجوف والدعاوى العريضة بلا عمل ولا تطبيق ولا التزام، أمورٌ يكرهها الله أشدَّ الكره، ويمقتها ويمقت أهلها الذين لا يستحيون من الله ولا يخافون من بأسه- كلام كثير وأصوات عالية وطنين لهذه الأصوات يصمُّ الأذان- طبول تدقُّ هنا وهناك.. ثم لا شيء، لا أثر ولا نتيجة تُذكر أو ثمر يظهر.. هل هذه حياة يقبلها المؤمن أو يرضى عن نفسه أن يكون في هذا الموقف والله تعالى يقول لنا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: من الآية4) ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾ (ق).

أهكذا يكون حمل الأمانة وإبلاغ الرسالة، لقد قالت السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه سورة المزمل تدعوه إلى الراحة والنوم فقال لها: "مضى عهد النوم يا خديجة" فقام صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عامًا ما عرف النوم ولا عرف القعود، بل الدعوة والجهاد والغزوات؛ ما أذى أحدًا ولا أساء إلى مخلوق، بل أحسن إلى الجميع حتى إلى من أساءوا إليه، ثم في آخر لحظة من لحظات حياته صعد المنبر، وقال: "أيها الناس.. من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليجلده.. ومن كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه.. ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليشتمه.. ولا يخشى الشحناء، فإنها ليست من قِبلي".

وظل على هذه الصورة ثلاثة أيام كل يوم يصعد على المنبر ويردد هذه الكلمات.

سيدي يا حبيب الله، أنت حميت الظهور، وصُنت الأموال والأعراض، وحفظت الإنسان وكرامته حيًّا وميتًا رضي الله عنك، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يوم القيامة في الفردوس الأعلى.. اللهم آمين.. اللهم آمين.. اللهم آمين.


المصدر

اخوان اون لاين