المستشار سالم البهنساوى يرحمه الله صورة عن قرب
بقلم: د. السيد محمد نوح
وفاء لأخيه المستشار سالم البهنساوي يرحمه اللّه كتب فضيلة الدكتور السيد نوح هذه الكلمات وهو يتماثل للشفاء بعد رحلة طويلة مع المرض.. نسأل اللّه لفضيلته تمام الشفاء والعافية.
عشتُ معه، وعايشته سنين طويلة في لقاءات علمية ومحاورات في أسفار ورحلات، في تقديم مشورات، ورؤى مستقبلية في إصلاح ذات البين، في آداب اجتماعية، وصلات أرحام، في دفاع عن مظلومين، وقضاء في خصومات، في نصح وإرشاد، ودعوة إلى الله، إلى غير ذلك من المواقف والمناسبات. ومن خلال هذا العيش، وتلك المعايشة، وجدتني أمام شخصية فريدة فذة، وهبها الله عز وجل خصائص ومزايا عملت على تنميتها وترسيخها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من كيانها ، ودونك أهم هذه الخصائص، وتلك المزايا:
1 الإخلاص لله عز وجل في كل ما يأتي، وفي كل ما يدع: وصحيح أن الإخلاص لله عز وجل عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، بيد أن له أمارات تدل عليه، منها: قلة حديث المرء عن نفسه وأعماله، إلا إذا كانت هناك مصلحة شرعية تقتضي هذا الحديث، ومنها قبول النقد، والإقرار بالخطأ، والرجوع عنه، وأشهد كما يشهد غيري أنه كان قليل الحديث عن نفسه وعن أعماله رغم كثرتها، ورغم عظمتها، حسبه ثباته أمام صبوة الشباب، وهو الحسن الوجه، مليح القوام، وحسبه ثباته في محنته الأولى عام 1954 م، والثانية عام 1965 م في السجون الناصرية لكونه من الإخوان المسلمين، وحسبه جهاده للفكر التكفيري، والعلماني، واليساري، وجهاده لفض الاشتباك بين السنة والشيعة، ورده للشبهات الموجهة للإسلام كتاباً وسنة، وللتاريخ الإسلامي، وحسبه دفاعه عن المجاهدين الذين ظُلموا في تثمين جهادهم، وحسبه سعيه في حوائج الناس، حسبه أي عمل من الأعمال المذكورة ليثني به على نفسه، ولو فعل ما كان كاذباً، ولا مغالياً، ولكنه الإخلاص لله عز وجل الذي يأبى عليه أن يتحدث عن شيء من ذلك، ولقد حاولت معه كما حاول غيري أن يكتب تجربته في محنته الشهيرتين ليتعلم منهما الآخرون لا سيما الشباب والنشء كيف يكون الجهاد والتضحية في سبيل حماية المبدأ، والعقيدة؟
ولكنه كان يأبى بشدة؛ متعللاً بعلل واهية، وبمعاذير ضعيفة، وأشهد كما يشهد غيري أنه كان يقبل النقد المستوفي شروطه وضوابطه ويقر بخطئه إن أخطأ، ويعود بسرعة إلى الصواب.
استشهد في كتابه: "الشريعة المفترى عليها" بحديث ضعيف، فنبهته على ذلك، فما غضب، ولا امتعض، ولما ذكرت له البديل الصحيح، ازداد سروراً، ووعد بتدارك ذلك في الطبعة الجديدة. وقد كان.
إن هذا وغيره لخير دليل على إخلاص الرجل، وصدقه، وولائه الصحيح لله عز وجل وحده، ومن أُمر بموالاته من الرسول والمؤمنين المستقيمين، قال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) (المائدة).
2 المواظبة على الطاعات: فقد عرف عنه يرحمه الله المحافظة على الجماعات والجمع، والإكثار من صيام التطوع بعد رمضان وقبله، وأداء فريضة الحج، والإكثار من العمرة مرة في كل سنة على الأقل، وأداء زكاة ماله، مع لزوم صدقة التطوع، وقراءة القرآن وأذكار الصباح والمساء، ومحاسبة النفس، والتوبة والاستغفار، يواظب على ذلك وغيره من الطاعات، ويرى فيه لذة، وانشراح صدر، وطمأنينة قلب، وأمناً، وأماناً.
3 محبة الخير للناس كل الناس: مؤمنهم، وكافرهم، صالحهم وطالحهم، جاهلهم، وعالمهم، صغيرهم، وكبيرهم، حاكمهم، ومحكومهم، وآية ذلك اشتغاله منذ عرف نفسه بالدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر المتمثلة في الدروس، والمحاضرات، والندوات، والمؤتمرات، والتآليف العديدة التي خلفها وراءه والفتاوى، والحوارات، والمناظرات.
ومعلوم أن طريق الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق محفوفة بالمخاطر، مليئة بالعقبات، ولقد دفع الرجل الثمن غالياً، معتقلات، وسجوناً، وتعذيباً، وهجرة، وغربة.
كل ذلك من أجل إيصال الخير للناس، وانتشالهم من الوهدة، والحضيض، إلى القمة، والنجاد.
4 السعي المستمر في حوائج الناس: فقد رأيته غير مرة ماشياً في حاجة صاحب حاجة، قريباً، وغير قريب، من بلده ومن غير بلده، مسلماً وغير مسلم، مطيعاً، وغير مطيع، يفعل ذلك بنفسه، فإن عجز طلب من أصحابه، وأصدقائه السعي لقضاء هذه الحاجة، ولقد كان التوفيق حليفه كي يستمر في قضاء هذه الحوائج، حدثني أنه بعد إحالته إلى سنِّ التقاعد في الكويت وهي بلوغه الخامسة والستين، كان قد أعدَّ أوراقاً يطلب فيها من إدارة الهجرة منحه الإقامة على نفسه حيث قضى في الكويت خمساً وعشرين سنة، وأنه لما قدم هذه الأوراق لمدير الهجرة رفضه، وبينما هو خارج من مبنى الهجرة إلى بيته، لقيه رجل برتبة عقيد وسلم عليه، وسأله عن حاجته فذكرها له، فأخذ الأوراق، ودخل بها على مدير الهجرة، حيث ألغيت تأشيرة الرفض، وحلّ محلها تأشيرة الموافقة، وحين سلم الأوراق معتمدة للأستاذ سالم طلب منه هاتفه، وموعداً لمحادثته، وحادثه قائلاً: لقد ساعدت أولاد ابنتي القصر في الحصول على حقهم من ميراث أمهم، يوم أن كنت مستشاراً في هيئة شؤون القصر، ومضى على ذلك عشر سنين، وفي كل يوم يمر أسأل نفسي: كيف أرد هذا المعروف لهذا المستشار الذي ساعد أولاد ابنتي ولا يعرفهم ولا يعرفني؟ ووجدتها فرصة سانحة اليوم لرد معروفك بما صنعت معك، فشكر له الأستاذ سالم.
لا شك أن هذا وغيره كثير كان من مشجعات للأستاذ سالم على الاستمرار في قضاء حوائج الناس، إلى أن لقي ربه يرحمه الله.
5 رعاية العلاقات الاجتماعية: من صلة الرحم، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز، والتهنئة بالنعم، والمواساة في الشدائد والمحن، والإصلاح بين الناس، ولم شمل الأسر والعوائل وهكذا..
كان لا يفوته شيء من ذلك، ومن خالط الأستاذ سالماً واقترب منه، وجد في سلوكه وأعماله تصديق ذلك، والعجيب أنه كان يحض غيره على رعاية هذه العلاقات. توفيت والدة عزيز على نفسي من أهل الكويت، وكنت يومها مريضاً ملازماً الفراش، زارني وطلب مني تعزية هذا الأخ بالهاتف، وشكرت له معروفه هذا، وحرصه عليه.
ثم قمت بأداء هذا المعروف الاجتماعي على النحو الذي أشار به علي. ومرضت مرضاً أشبه بمرض الموت، فحضر غير مرة رغم كبر سنه يعودني ويدعو لي بالشفاء العاجل. وحين عدت من رحلة علاج إلى الصين دامت شهراً ونصف الشهر، كان في طليعة المستقبلين، ولم ينصرف إلى بيته حتى اطمأن علي، كان يصنع هذا معي ومع غيري من الناس، على سجيته ودون تكلف.
6 الإنصاف والعدل: فكم تدخّل في حل مشكلات عديدة ومنوعة، فما عرف عنه غير الإنصاف والعدل، ولو كان ذلك على نفسه أو أحد أقربائه، مطبقاً قول الحق تبارك وتعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى" أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا 58 (النساء)، وقوله : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا 125 (النساء).
تكلم نفر من الناس في استعانة دولة الكويت بقوات أجنبية لطرد القوات العراقية التي احتلت الكويت دون جريرة اقترفتها، معللين لما قالوه بأن القوات العربية كفيلة بتحرير دولة الكويت من الغاصب المحتل، وأنه لا داعي لدخول القوات الأجنبية المنطقة، فرد عليهم قائلاً: كونوا منصفين. إنكم ترون ضعف العرب المتمثل في الفرقة والارتماء في أحضان القوى العظمى، وكذلك عليكم أن تعذروا الكويتيين، إذ هم في يوم وليلة وجدوا دولتهم قد احتُلت، وشُردوا في الأرض، بعد أن كانوا أعزة كراماً، كما وجدوا أن العرب أضعف من أن يصنعوا شيئاً مع الغاصب المحتل في هذه المرحلة، فكان ما كان من الاستعانة بالقوات الأجنبية مع بعض القوات العربية، والتكاتف لطرد هذا المحتل الغاصب، ثم لا تنسوا أن الكويت رفضت قبل محنتها هذه، مجرد استئجار بعض القوى العظمى بعض الحقول النفطية أو استئجارها أرضاً لإقامة قواعد أجنبية عليها، وكان هذا الرفض من الحكومة والشعب معاً.
أي إنصاف وأي عدل رد به الأستاذ سالم على النفر المذكور؟
والعجيب أنه كان يجهر برأيه هذا في كل المحافل، وسائر المناسبات حتى عُرف به واشتُهر.
7 العفة وطهارة اليد: فلا تخرج منه كلمة نابية، ولا يمتد بصره إلى ما لا يحل، ولا تتلطخ يده بما فيه شبهة، فضلاً عن أن يكون حراماً.
دعوته لمشورة شرعية قانونية تتعلق بوقف لوالد أحد الكويتيين الأثرياء الوجهاء، فلبى الدعوة وأعطى المشورة الحكيمة، وعرض عليه الثري الوجيه، مساعدته لبناء سكنه له في مصر، فرد بعفة وأدب قائلاً: إن أبي كان من الأثرياء، وكان عمدة بلدنا، وقد ورثت منه مالاً أغناني الله به حتى عن المعاش التي أتقاضاه من عملي، وأقسم إنه لم يدخر شيئاً من المعاش، وإنما كل ما يملك راجع إلى التركة التي ورثها عن أبيه، ورتب على ذلك شكر هذا الوجيه الثري على عرضه، فعلت منزلته وسما قدره عند طالب هذه المشورة.
8 عمق الفكرة وسعة الأفق وبعد النظر: فما يدخل في قضية من القضايا إلا ويحيط بها من كل جانب، ويقلبها من جميع الوجوه، ثم يعطي الرأي فيها بما يكشف عن أفق واسع، ونظر بعيد، وفكر عميق.
نلمح هذا عملياً من مناقشته للفكر التكفيري، والغزو الفكري للتاريخ والسيرة، والفكر اليساري، والعلماني والقانون الوضعي، مقارناً بالشريعة الإسلامية، والسلام من وجهة نظر الفكر الصهيوني والعرب، وسبب الخلاف بين السنة والشيعة، وغير ذلك من القضايا.
استشارته امرأة مسلمة في أن زوجها أرسلها في إجازة الصيف إلى مصر، ثم اقترن بامرأة أخرى في فراش هذه الزوجة، وأنها تريد الطلاق، ولها منه أربعة أولاد أكبرهم في الثالثة عشرة من عمره، وأصغرهم له سنة واحدة، فأشار عليها أن تصبر لصالحها ولصالح أولادها، لأنه معروف ضعف الزوج وعناده.
ولم تسمع هذه المشورة، إلى أن صدق ما قاله الأستاذ سالم، فعادت إلى الأخذ بما أشار.
9 الجدية والابتكار: تعيش معه فلا تجد لحظة في حياته تضيع بغير عمل، وعمل نافع مفيد، وتقرأ مؤلفاته فتجدها كلها جديدة، جاءت لتملأ فراغاً في المكتبة، وتحاوره فلا تسمع منه إلا ما يتصل بجوهر الحوار، وتشهده، وهو يدافع عن قضية ما، أو يحكم فيها، فلا يسعك إلا أن تحكم له بالجدية والابتكار.
10 مواكبة كل جديد في عالم العلم والمعرفة: فما يُنشر كتاب ولا تظهر صحيفة، أو مجلة، ولا يعرض رأي إلا تجده على اطلاع واسع بكل ذلك، ولا يقولن قائل: أين الوقت الذي يكفي لكل ذلك؟ ونقول: إن تنظيمه لوقته، وحرصه على كل لحظة فيه، واشتغاله بطاعة الله، وابتغاء رضوانه، كل ذلك وفر له الوقت الكافي الذي ساعده على تحقيق ما يريد، مواكباً بذلك كل جديد لا سيما في عالم العلم والمعرفة.
11 سلامة الصدر والتسامح: فكم أوذي، لا سيما في العهد الناصري، لا لجريمة اقترفها سوى جرأته في قول الحق، وقوله ربي الله، ولم يحمل لمن آذوه غلاً، أو حقداً، أو مجرد دخن، بل فوَّض الأمر فيهم إلى الله، وكم أوذي من أصحاب له، وأقارب، وكان رده العفو والمسامحة، والصفح الجميل.
12 الصبر الجميل مع الرضا بالقضاء والتسليم: ماتت ابنته الكبرى، وكانت معلمة نابغة في تعليم الإنجليزية، وكاتبة قصصية، فما زاد على الصبر الجميل، والرضا بالقضاء والتسليم لله ظاهراً وباطنا، وقوله أرجو أن يكون ذلك تكفيراً لذنوبنا أو رفعاً لدرجاتنا.
13 الهيبة والقبول: فما يلقى أحداً من الناس، وما يدخل مجلساً ولا يتكلم كلمة ولا يأتي عملاً إلا جعل الله له مهابة وقبولاً.
وأحسب أن مصدر ذلك هيبته لربه، وحسن صلته به، فقد قال سليمان بن عبدالملك الخليفة الأموي لأبي حازم الأشجعي: أخبرني عن منزلتي عند الله عز وجل، قال: اعرف منزلة الله في قلبك، تعرف منزلتك عند الله.
14 التواضع مع العزة والإباء والشمم: فهو قريب من كل الناس، من يعرف ومن لا يعرف، الأقارب والأباعد، الصغار والكبار، لكن بشرط ألا ينتقصه الآخرون أو ينالوا منه، فإن رأى من أحد انتقاصاً أو نيلاً منه، عامله بعزة وإباء وشمم متمثلاً بالقول الكريم: "طوبى لمن تواضع في غير منقصة".
15 سرعة القراءة والاستيعاب: فما يقع في يده كتاب أو صحيفة أو مجلة، إلا ويتصفحه بسرعة ويستوعب جميع ما فيه، منتقداً له، مبيناً سلبياته، وإيجابياته، وسبيل معالجة السلبيات، وما ذلك منه إلا ثمرة اطلاع واسع، وقراءة موصولة، وحضور ذهن، وقبل ذلك وبعده توفيق الله عز وجل.
16 الأناقة وحسن المظهر: إذ كنت تراه يهتم بمظهره مع الأناقة، وحسن الترتيب والتنسيق، وتستوي في ذلك مرحلة الشيخوخة ومرحلة الشباب، متمثلاً قول الله تعالى: وأما بنعمة ربك فحدث 11 (الضحى).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال". وفي رواية: "يحب الجميل" (أخرجه مسلم وابن ماجه وأحمد).
تلكم أهم خصائص ومزايا المستشار سالم البهنساوي يرحمه الله، كي يعلم الناس مقدار المصيبة التي أصابتهم بموته، والمحنة التي حلت بهم برحيله عن عالمهم، إلى عالم آخر هو عالم الطهر والخلود بعينه، نرجو الله أن يرحمه وأن يجمعه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأن يعوضنا خيراً عنه، وأن يرزقنا وآله حسن الثواب، الله آمين