الموعد الثاني مع العظمه
بقلم / أ.د. محمد حبيب
الأخ الحبيب ..
تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد ؛
فأنا أحيانا ما أقف دامعا – تأثّرًا من شدة الفرح – أمام كلمات رستم قائد الفرس الشهير : "أحْرَقَ عمر كبدى، أحرق الله كبده"، وتلك حقيقة، فليس هناك أطيب إلى قلب المؤمن من خبر يأتيه بنصر حاسم على أعداء الله، أو عن موقف يُعَزُّ فيه أهل الطاعة .( ... وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(التوبة من الآية:14)
وإذا كان واقعنا الراهن يلقى بظلاله البائسة على أحوالنا، الأمر الذى يوجع قلوبنا ويعتصر نفوسنا حزنا وكمدا، أرى من الضرورى أن نلتمس وأن نستلهم من تاريخنا بعض مواطن العزة والأسباب المؤدية إليها حفزا للهمم وشحذا للعزائم، وكيف أن أمة مستضعفة نهضت على أكتاف أسلاف عظام، وإذا لم يكن ذلك فما فائدة استحضار التاريخ بعظاته ودروسه وعبره ؟
حقا .. من كان غير عمر يستطيع أن يحرق كبد رستم ؟ هذه الحقيقة أدركها ووعاها رستم نفسه فنطق بها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة .. إن رستم لم يتكلم عن الجيش الفاتح الذى نال الهزيمة أمامه، لكنه تكلم عن القيادة العليا التى تقف وراءه .. عن الفكرة والمنهج والتخطيط، والتدبير، والرؤية الثاقبة والنظرة البعيدة فى تحديد التوقيت المناسب والهدف الواضح .. ومن قبل ذلك وبعده الإعداد الفذ لنوعية من الرجال يعرفون طريقهم ويتحملون مسئوليتهم، وعلى استعداد كامل للتضحية بأعز ما يملكون فى سبيل تحقيق رسالتهم .
الأخ الحبيب ..
أَنظرُ إلى عمر رضى الله عنه وهو يراجع النبى صلى الله عليه وسلم فى مواقف كثيرة فأقول : نحن أمام شخصية متفردة، تيسر لها ما لم يتيسر لغيرها، شخصية لها مكانتها العالية، ومنزلتها القديرة والأثيرة .. نحن أمام قوة نفسية هائلة، وشجاعة وإقدام غير مسبوق، وثقة بالنفس لا حدود لها، وشعور متعاظم بالمسئولية يملك عليه نفسه وجوارحه، وإحساس إلى أبعد مدى بالحرية.. إن منا من يهاب أو يتردد أو يحجم عن التصريح بما يعتلج فى صدره، خاصة إذا كان يواجه مسئولا، كبيرًا أو صغيرًا، فتضيع كثير من الأفكار النافعة والآراء المفيدة، وتفقد الجماعة أو الأمة بذلك خيرا كثيرا .. يا صاحبى ما فائدة فكرة عبقرية حبيسة فى صدرك؟ لقد اخترق عمر رضى الله عنه حاجز الخوف ... أزاله من نفسه تماما .. وتلك هى والله أعظم قيم الحرية .. ما أحوجنا إلى هذه السمة .. إن كثيرا من القادة يُرهِبون مرؤوسيهم ويفزعونهم، فلا يقدرون على الكلام، فضلا عن طرح فكرة جديدة .. يا صاحبى لا تخف .. لا تتردد .. تكلم .. استشعر أن الله يراقبك، مطلع عليك، قل ما تعتقد أنه الصواب ولو كان مرًّا .. قل كلمتك ولا تخش شيئا .. كن حرا عزيزا ولا تنظر إلى رضا فلان أو تعمل حسابا لنقمة علان مهما علا شأنه، فرزقك وأجلك قد ضمنهما الله تعالى .. إنها آفة الأمم والجماعات والتنظيمات فى هذا الزمان، ولا يمكن أن تتحقق نهضة والخوف يسيطر على قلوبنا فنهاب الكلمة أو عرض الفكرة.
الأخ الحبيب ..
مع القوة، والثقة، والحرية، والعزة، والشجاعة كان التواضع .. أُنظرْ : "أصابت امرأة .. وأخطأ عمر" .. يقولها أمير المؤمنين أمام الناس جميعا، لا يأخذه فى ذلك كبر أو غرور أو ازدراء أو امتعاض أو حقد أو كراهية أو أى شئ من هذه المهلكات التى استشرت فى نفوس الناس فى هذا الزمان .. بهذا سُدْت يا عمر .. وبهذا وصلت قامتك عنان السماء .. وبهذا بلغت الذُرا .. ألم أقل لكم إنها العظمة ؟
كان عمر يتفقد أحوال الرعية .. يتجول بالليل والنهار، ويمشى فى الأسواق ... كان يريد أن يصل إلى الناس - كل الناس - وفى كل مكان، ويكفى للدلالة على ذلك قصة المرأة التى كانت تريد خلط اللبن بالماء، أو تلك التى كانت تغلى الحصى على القِدْر لإيهام أطفالها الجياع بوجود طعام .. كان لديه رجاله الذين يأتونه بأخبارهم وأحوالهم، لكنه لم يشأ أن يعيش فى برج عاجى معزولا عن الرعية، وهذا - لعمر الله - آفة الرؤساء فى كل العصور .
نعم كان عمر يختار رجاله الأوفياء والمؤهلين والثقات والأمناء على الرعية الذين يتقون الله تعالى فيهم .. ينفذون توجيهاته وتعليماته، ويطلعونه على أحوال الرعية، ويبعثون إليه بالتقارير لكنه لم يكن ليكتفى بذلك .. فحسن السياسة والتدبير، والشعور بالمسئولية جعل عمر موصولا بشكل مباشر مع الناس .. ولم يكن أحد من رجاله أو ولاته يضيق بهذا التصرف، أو يعاتبه على هذا السلوك، أو يتصور للحظة أن هذا الأمر سيجعله موضع شك من مرؤوسيه، فثقته فى عمر – كقيادة – أعظم من أن تثار حوله علامات الاستفهام، فضلا عن أنه إقرار واعتراف من هؤلاء الرجال أو الولاة بحدود مسئولياتهم ومساحة الحركة التى يجب ألا يتعدوها، ثم إنهم لا يفعلون شيئا مريبا يخشون كشفه أو افتضاحه .
هؤلاء الرجال يعلمون يقينا أن عمر سيستمع إلى شكاوى الناس وسيقوم بدراستها وبحثها وأنه سيستدعى رجاله وولاته المسئولين عن ذلك ليسمع آراءهم وبعد ذلك يقر قراره، فقد يكون هؤلاء الولاة هم سبب المظالم .
إن عمر العظيم لم يقل فى أى وقت، حتى فى أيام الفتوحات والانتصارات الكبرى : "أنا الدولة" .. أو "أنا الجماعة" .. أو "أنا الشعب"، بل كان دائما أشد تواضعا لله واهب الانتصارات والفتوحات .. ولم يكن عمر العظيم يترك رجاله وولاته – رغم تقواهم وورعهم – فى أماكنهم لفترات طويلة، حتى لا يأسن الماء أو ترتبط مصالح العباد والبلاد بأناس بأعيانهم، أو تتكون طبقة تتحول بمرور الوقت إلى مراكز قوى تمثل عقبة كأداء أمام أى تقدم أو تطور .. وفى الوقت ذاته لم يفت عمر العظيم أن يستبقى حوله مجموعة من المستشارين الأفذاذ من أهل العلم والاختصاص فى كل ميدان، يلجأ إليهم ويتشاور معهم ويأخذ رأيهم فيما يعن له من أمور، فالمسائل كثيرة ومعقدة والقضايا كبيرة وخطيرة، منها ما يمس الفرد أو المجتمع أو الدولة، ومنها ما يتصل بالثغور، ومنها ومنها، فهل نحن فى زمن نحتاج فيه إلى عمر ؟
أسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، ويثبت على طريق الحق أقدامنا ..
والله من وراء القصد ؛
المصدر: نافذة مصر