النَّدْوِيُّ

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
النَّدْوِيُّ
الداعية.. المؤرخ.. الأديب.. القائد
ابو الحسن الندوى1.jpg


أنا لم أكن يوماً في موضع القيادة في الدعوة الإسلامية، ولكنني أمشي معها من يوم كنت أدرس في مصر سنة 1347هـ، فشهدت بداية الدعوة النظامية بإنشاء «جمعية الشبان المسلمين»، وعرفت رجالاً من أعيان الدعاة إلى الله، ومن أكابرهم كما عرفت أبا الحسن، عرفت الشيخ البنًا ([1]) قبل أن تظهر جماعة الإخوان المسلمين ، وكنت في فصل واحد في دار العلوم مع سيد قطب([2])، وعرفت الشيخ البشير الإبراهيمي ([3]) في مصر وفي دمشق وفي بغداد وفي القدس، وعرفت المودودي([4])، و محب الدين الخطيب خالي وأستاذي([5])، والسيد الخضر الحسين شيخي وشيخ مشايخي([6]) والشيخ محمد محمود الصوّاف أخي وصديقي([7])، وعرفت بالسماع لا باللقاء النورسي([8]) في تركيا، وممن لقيت الأستاذ علاّل الفاسي([9])، ولبثت معه أياماً في القدس وفي دمشق، والدعاة إلى الله كثير، ولكن من ذكرت من أبرزهم شخصية، ومن أخلصهم إخلاصاً، ومن أسيرهم ذكراً، وأعمقهم أثراً.

"وأبوالحسن أستاذ في فنون كثيرة ، في الكتابة، وفي البحث، وفي التاريخ، وفي الدعوة، وفي الفقه، والنزاهة، والتخلق بأخلاق العلماء، وهو فرع كريم من أصل كريم، أبوه مؤرخ الإسلام في الهند، وأخوه من صدر الأطباء، وأسرته أسرة شرف وعلم"([10]).

يقول العرب :

إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي

فإذا اجتمع العلم والأدب مع الحسب والنسب، فتلك الغاية التي لا غاية بعدها، ولو لا أن يظن أني صرت شاعراً مدّاحاً عملي الثناء لقلت إن أبا الحسن جمع الأمرين...

لقد كانت أول معرفتي بأبي الحسن من كتابه : «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، لما رأيت هذا الكتاب لم أكن أعرف مؤلفه، فقلت: منْ هذا الباحث الهندي الذي يكتب بمثل هذا الأسلوب العربي النقي، ويحيط بأحوال المسلمين هذه الإحاطة؟ ثم علمت أنه هندي المولد ولكنه عربي الأرومة، وكثير من العرب الأقحاح الذين عرفوا بألقاب فارسية أو أعجمية...

وكنت أحسب أن «النَّدْويَّ» لقب أسرة يجمع بين أفرادها النسب، وكنت أسأل ما قرابة السيد سليمان الندوي([11]) الذي كان من أعاظم من كتبه في السيرة، والسيد مسعود الندوي([12]) محرر مجلة «الضياء» إحدى المجلات الإسلامية العربية الواعية، والسيد أبي الحسن؟ ثم علمت أنهم لا يجمع بينهم النسب، وإنما يجمع بينهم العلم والأدب، وهذا المعهد الذي ينتسبون إليه.

وأنا لا أعرف أهل معهد أو مدرسة لهم تعلق بمعهدهم أو مدرستهم كتعلق النَّدْوِيِيّنَ بندوتهم، ينتسبون إذا انتسبوا إليها لا إلى آبائهم، ويجتمعون عليها أكثر مما يجتمع أفراد الأسرة على أنسابهم، فكل من دخلها حمل لقب «النَّدْوِيِّ»، فعرف به، لا بلقب أهله...

و «الندوة» مثل الشاب الناشىء في طاعة الله، ما لها قدم الأزهر، ولا لها مثل أمجاده، ولكنها أسِّسَتْ من أول يوم على التقوى، رسم لها الطريق السوي فمشت فيه، لا الطريق انحرف بها عن الغاية، ولا هي قد تنكَّبت الطريق، كان طريقاً وسطاً بين «الأزهر» بعد ما شاخ وتخلف شيئاً قليلاً عن الركب، ومعهد (ديوبند» في الهند الذي أقيم على غراره، ومشي يتبعه في مساره، وبين جامعة «عليكره» التي أنشأها السر سيد أحمد خان([13])، لتساير الزمان، فلم تجمد الندوة جمود ديوبند والأزهر القديم، ولم تسل وتمع ميعان عليكراه، بل أخذت من طرفي الأمور بأحسنها، وكانت تجربة كتب الله لها النجاح.

وكان المثل الأكمل لهذه الطريقة هو أبو الحسن، أمسك الخيرين باليدين، فما أضاع القديم ولا أهمل الانتفاع بالجديد، وإذا كان أول ما يؤخذ على أكثر علمائنا ومشايخنا والدعاة إلى الله منا، أن جمهورهم لا يحسن لغة أجنبية، فأبو الحسن يتقن ثلاث لغات إتقاناً كاملاً، الثلاث التي هي أكثر ألْسُنِ الأرض ناطقين بها: العربية، والأردية، والإنجليزية، ويعرف فوقها الفارسية، وإذا كان الشاعر القديم صادقاً حين قال: «فكل لسان في الحقيقة إنسان» فأبو الحسن ثلاثة في واحد، لا أقول إنه كتثليث النصارى، تعالى الله لا إله إلا هو الرب الواحد، بل أقول إنه جمع الفضل مثلثاً..

كنت مرة في مقابلة إذاعية في الرائي (التلفزيون) فسألني المحدث، عن المكان الذي أتمنى أن أقضي فيه بقية أيامي، قلت: إن لم أستطع أن أعود إلى بلدي -وبلدي دمشق- ولم أقدر أن أبقى بجوار بيت الله هنا في مكة، فإن أحب مكان إليّ هو لكهنو، وأن أقيم في معهد ندوة العلماء، فأجمع فيها بين الظل والماء وصحبة العلماء...

ولم يرغبني في دار الندوة جمال منظرها وحده، ففي الأرض مناظر كثيرة فيها ما ليس في لكهنو من ألوان الجمال، بل لأن المُثُل العليا التي يطمح البشر للوصول إليها والدنو منها من قديم الأزمان إلى الآن هي الحق والخير والجمال، والثلاثة فيها، الجمال في موقعها، والخير في أهلها، والحق في الغاية التي تعمل لها وتسعى إليها...

إن الإسلام للحياة كلها ، يصلحها ويسدد خطاها ، والإسلام للناس جميعاً ، والناس مؤلفون من جسم ونفس وروح... والدعوة الصحيحة هي التي تكون للعقل من غير استغراق في المادية، ودعوة للقلب من غير انحراف مع الصوفية، وأن نلزم طريق الكتاب والسنة، وفي الكتاب والسنة غناء.

وهذا ما عليه جماعة الندوة، اشتغال بالعلم مع تثبيت الإيمان، وإصلاح القلب، وترفع عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلا الوصول إلى كراسي الحكم، يسلك أصحابها إلى ذلك كل طريق، المستقيم منه والملتوي، ويتخذون كل ذريعة، الطيبة والخبيثة، والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة، وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، وأن يكون أسلوب الدعوة بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي لا تبتغي إلا المناصب والألقاب، عملها التزاحم عليها والتسابق إليها.

ولأبي الحسن والندويين عناية بالأدب، والدعوة لا تكون إلا باللسان والقلم، وقوام اللسان والقلم الأدب، وإذا كان من الأدباء الذين يعرفون اليوم بالإسلاميين من يكتب ويقول غير ما يعمل، ومنهم من لا يؤدي الفرائض ولا يدع المحرمات، ولا يلتزم بالسلوك الإسلامي، ومنهم من كتب في الإسلام لما رأى سوق الكتب الإسلامية مقصودة وبضاعتها رائجة، فجعل يسوق ما يعجب السوق، فإن أبا الحسن وجماعته ملتزمون بالإسلام قولاً وعملاً، كتابةً وسلوكاً، يعمل ما يعمل ابتغاء رضا الله لارضا الناس...

جمعني الحج سنة 1381هـ -وأنا مقيم في مكة- بأبي الحسن، وبالشيخ المعمر الصالح حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق([14])، والشيخ القلقيلي، الذي كان مفتي الأردن([15])، وكان صديقاً عزيزاً، فدُعينا إلى القصر الملكي في الأبطح أي في (المعابدة)، فاعتذرت على عادتي، ولكن المفتِيَيْنِ وأخي وصديقي الأستاذ االصواف ألزموني الحضور، وكانت جلسة مباركة حضر أولها الملك سعود رحمة الله عليه، ثم تولى رياستها المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمة الله عليه([16])، فولى إدارتها عنه أخانا أبا الحسن، فبدا لي في ذلك المجلس جانب جديد من عبقريته المتعددة الجنبات لم أكن أعرفه من قبل، وهو أسلوبه في الإدارة، وهو أسلوب (زياد) تشبه فيه بالرجل الذي دعاه رسول الله بالعبقري، ولم يدع بذلك غير عمر بن الخطاب، شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف، وأنا أقول من قديم: إن القوة قد تكون مع اللين أكثر مما تكون مع الخشونة، فالفأس على لينها ونعومتها تقطع الحطبة على خشونتها. وكانت هذه الجلسة نواة «رابطة العالم الإسلامي»، وكان هؤلاء الأعضاء هم المؤسِّسين الأولين لها، وكنت واحداً منهم...

عرفت أبا الحسن من قريب في مكة وفي المدينة وفي دمشق، وعرفته قبل ذلك في الهند، فوجدته في الأحوال كلها مستقيماً على الحق، عاملاً لله، متواضعاً زهداً حقيقياً، لا زهد المغفَّلين الذين يعيشون وراء أسوار الحياة، لا يدرون ما الدنيا ولا يعرفون ماذا فيها، بل زهد العالم العارف بالدنيا وأهلها، فقد رأى الشرق والغرب، وزار الحواضر والأمصار، ولقي الكبار والصغار، وعاش صدر حياته في قصر الأمير نور الحسن ابن الأمير السيد صديق حسن خان العالم السلفي والأمير الكبير([17])، وأسكنوه في بعد موت أبيه، فذاق حياة الترف والنعيم، ولكنه زهد فيها، فزهده ليس زهد الحرمان، ليس زهد الجائع الذي لم يجد الطعام، فوطَّن نفسه على فقده، بل زهد الذي فقد شهوة الأكل والأكلُ أمامه، يحضر المؤتمرات، ولكنه يجتنب الفنادق الكبار، التي ينزل فيها الوفود، وينزل في بيوت تلاميذه، وما أكثر هؤلاء التلاميذ.

وإذا كان من بنى حصناً أو قاد جيشاً عُدّ في العظماء، فأبو الحسن بنى للإسلام من نفوس تلاميذه حصوناً أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين.

وجدت أبا الحسن قد أكرمه الله فاستكمل مزايا الداعية الإسلامي الذي نطلبه ونفتش عنه، وتحت يدي وأنا أكتب هذه المقدمة محاضرة لي ألقيتها في مكة في موسم حج سنة 1373هـ، وأنا في العادة لا أكتب محاضراتي لذلك تضيع عند الناس، وأسأل الله أن لا تضيع عنده، لكن هذه المحاضرة كتبها إخوان ودونوها، فبقيت لديّ، كان موضوعها «طرق الدعوة إلى الله»، ركزت ذهني فيها على ما أعرف من طرق الدعاة، من السرهندي الذي دُعي مجدد الألف الثاني، لأنه عمد إلى صرح الكفر الذي شاده الأمبراطور أكبر في الهند([18])، فجاءه من القواعد بلين وهدوء كهدوء الماء ولينه، إذ يتسرب إلى أساس البناء، حتى إذا تشرّبه ألانه، ثم جرفه فهدّه. لقد هوى بناء الكفر، وقام من أحفاده الأمبراطور الذي قبس من نور الشيخ بل من ضياء الإسلام، فسار على هذا الطريق وهو أورنك زيب([19])، فأقام صرح الإيمان. والإيمان معه دائماً العز والنصر، وله الدوام إلى آخر الدهر، ولو قامت في سبيله العقبات واعترضته الموانع فإن النصر له والعاقبة للمتقين، ثم تكلمت عن طريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب([20]) التي كان من نتيجتها ومن تحالفه مع الإمام محمد بن سعود([21]) أن وحَّد الله الجزيرة، ونقلها من حال إلى حال، فصار تحولها مضرب الأمثال.

ومن كان أسلوبه في الدعوة بث الأفكار، وتنبيه الناس، ومن عمد إلى الصحف والمجلات يدعو فيها إلى الإسلام، وقد وجدت عند أبي الحسن وندوة العلماء النافع من هذه الطرق كلها، فهم يتخذون وسيلة التعليم وهي أصدق الوسائل التي يتوصل بها الدعاة، وإن كان ثمرها قد يتأخر في الظهور ولكنه مضمون، وما قيمة عشر سنين في تاريخ الأمم التي تمتد أجيالاً وأجيالاً، فأولى ما يقوم به الدعاة إلى الله هو أن يُعْنَوا بالتعليم لإعداد الجنود لمعركة الكفر والإيمان، ولو بعد موعدها، فلقد أضعنا عشرات وعشرات من السنين...

فيا أخي أبا الحسن أثبت أنت وجماعتك على ما أنتم عليه، فإنني لا أعرف اليوم في أساليب الدعاة من هو أصح منكم أسلوباً... ([22])

قالب:روابط أبو الحسن على الندوى