الهجرة عهدٌ وجهاد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الهجرة عهدٌ وجهاد

د.إبراهيم زيد الكيلاني

مقدمه

بدأ هذا العهد مع الأنصار في المدينة حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى على الإيمان والالتزام بأخلاق الإسلام، وبايعوه البيعة الثانية على الإسلام والنصرة، وأن ينصروه بما ينصرون به أنفسهم وأولادهم وأموالهم..

وبعد أن أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة كان من مقتضيات الإيمان أن يهاجروا إلى المدينة لينصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا معه في مواجهة معسكر المشركين.

الهجرة في مفهومها الإيماني ودلالتها السياسية تحتاج إلى وقفة وتأمُّل؛ فالمسلمون أمة واحدة يتعاونون على إقامة دولة الإسلام ودفع الأخطار عنها، ولذلك كان المسلم المقيم في مكة القادر على الهجرة مُطالَباً بأن يرحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهاجر إليه، فإن لم يفعل كان خاذلاً لدين الله خاذلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظالماً لنفسه مُستجيباً لهواها وشهوتها.

وقد ذكر الله هذا في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97]، أي: فيمَ كنتم من نصرة نبيكم والهجرة إليه؟

{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: اعتذرُوا باستضعافهم وخضوعهم لقادة المجتمع المشرك الجاهلي، وإيثارهم رضا أبنائهم وزوجاتهم على رضا ربهم في تحمل أعباء الدعوة وتكاليفها ومشقَّتها، فأجابتهم الملائكة: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] أي: ليس هذا عُذراً لكم؛ فالمؤمن مُطالَبٌ بأن ينضمَّ إلى جماعة المؤمنين وينصرهم، وليس عذراً له خوفُه على نفسه أو على مصالحه الاقتصادية أو الاجتماعية..

{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97-99].

واستثنى الله من العذاب المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.


قصة جندب

وذكَر القرآن الكريم موقف الصحابي الجليل جندب بن ضمرة صلى الله عليه وسلم حين سمع هذه الآيات وقال: غداً أموت وتسألني الملائكة: لِمَ لَم أُهاجر؟ ولا معذرة لي ولا حجة.. يا أبنائي هَيِّئوا ناقتي لأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبناؤه: أنت شيخٌ كبير ومريض ونكفيك أمر الهجرة، فسنهاجر وابقَ في مكة فقال: لا غداً أموت وتسألني الملائكة عن عهد الهجرة، فجهَّزوا ناقته وسلك طريقه إلى المدينة،

وأثناء الطريق اشتدَّت به العِلَّة فقال: سأموتُ هنا ولم أبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا كسبتُ الهجرة ولا كسبت البيعة، ثم استدركَ قائلاً: إن ربي يراني ويسمعني.. فتوجَّه إلى الله بالخطاب والدعاء: يا رب هذه يدي أبايعك بها على الهجرة فاقبل بيعتي، وهذه يدي أبايع فيها رسولك صلى الله عليه وسلم على الهجرة فبَلِّغهُ عني.

لله أنت يا أيها الصحابي الجليل؛ كيف هداكَ الله لإزالة الحُجُب والمسافات، وتخاطب الله عن قرب وتعطيه البيعة عن قرب وتمد يدك وتبايع ربك ثم تبايع نبيك على الهجرة والجهاد وأنت في سياقة الموت تلفظ أنفاسك الأخيرة ويقبل الله بيعته وينزل فيه قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا}.

[النساء:100].


دروس من قصة جندب:

إن قصة جندب هذه درس للمؤمنين أن نصرة الجماعة المسلمة التي ترفع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دينه وتحرير أرض الإسلام ومقدساته فريضة

شرعية، وأن هذه البيعة جهادٌ ماضٍ إلى يوم القيامة؛ لأن الهجرة نوعان: هجرةٌ من البلد المشرك إلى البلد المسلم، وهجرة إيمانية شعورية داخل البلد المسلم، بأن تنضم إلى جماعة المسلمين وتهجُر حياة اللهو واللعب والانشغال بأمور الدنيا، وتجعل من مالك ومن جهدك نصرةً لدين الله؛ لأنه من المعلوم أنه إذا اجتمع أهل الباطل على باطلهم وتفرَّق أهل الحق عن حقهم ضاعَ الحق واندرست معالمه، وهذا ما نبَّهنا الله إليه بقوله في آخر سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72].

أي: هُم أمة الإسلام بهجرتهم ونصرتهم، {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] أي: لم ينتقلوا إلى معسكر الإسلام لينصروا رسول الله ودينه {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72].

وفي الآية التالية قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].

والمعنى: أن الذين كفروا يُوالي بعضهم بعضاً على نصرة باطلهم، فإن لم تفعلوا أيها المسلمون هذه الولاية فيما بينكم وينصر بعضكم بعضاً لمواجهة أعداء الإسلام، تكُن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير.


الفرقة المجاهدة المنتصرة:

وقد تنبَّه لهذا المعنى الإمام حسن البنا رحمه الله في مطلع القرن الماضي بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية، وتآمر اليهود والماسونية والدول الغربية عليها، واحتلالهم لبلاد المسلمين، وتحويلهم الاحتلال العسكري إلى احتلال سياسي وثقافي وحضاري ليبيدوا الإسلام في حصونه وبلاده، فاتَّبع الإمام البنا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكوين الجماعة المسلمة التي يوالي بعضها بعضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل لإقامة دولة الإسلام، وجَعَل نصب عينيه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ .وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:71-72].

ومتذكّراً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرُّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك".

(صحيح مسلم) وهذا الحديث مع الآية الكريمة أساسٌ للعمل الجماعي الحركي المنظم لمواجهة الطغيان السياسي والعسكري والثقافي الذي يتهدد الإسلام وأهله.

وكان من فضل الله تعالى أن تنبَّه العلماء والقادة لهذا المنهج الرباني بمواجهة الجاهلية، وامتدَّت حركات الجهاد والمقاومة في بلاد الإسلام شرقاً وغرباً ترصد خطط اليهود والصليبين الغربيين في مصادرة الحضارة الإسلامية والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام ومحاصرة المساجد ومنع العلماء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر من تبليغ كلمة الله.

إن المساجد التي تغصُّ بالمصلين في بلاد الإسلام وفي شهر رمضان – لو فقُه أصحابها معنى قوله تعالى:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وكيف جعلَ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الجاهلية سابقةً لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لعرفوا أن هذا التنظيم الجماعي وولاية بعضهم لبعض من خلال مؤسسات المجتمع المدني فريضة تقترن مع الصلاة والزكاة، ولأصبحت المساجد والمسلمون الذين يؤدون الصلاة فيها قوة فاعلة حركية تُخيف الظالمين وتنصر دين الله ولا تخذل العلماء العاملين وتتركهم وحدهم في الميدان.


الهجرة بناءٌ للقيم وبناءٌ للدولة:

كانت الهجرة هجرةً عن الفواحش وهجرةً عن المعاصي والآثام وهجرة عن الدنيا وملاذها كما هي هجرة للجهاد والنصرة.

وقد قلت أبياتاً من الشعر في تصوير هذا المعنى:

هجروا الفُحش قبل أن يهجروا الأوطان لله هجرةٌ وجهاد
لا فرارٌ من محنة واضطهاد ولقد يجرح الكريمَ اضطهادُ

بل فرارٌ لله ما النفس ما الأهل ما الأموال ما الأولاد

كلهم في سبيل ديني فداء ولعين الإسلام طاب الجهاد

بعد فتح مكة بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف تحوَّلت الهجرة إلى جهاد وعهد ومرابطة في الأوطان ودفاع عن المقدسات بقوله: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيَّة". (صحيح البخاري).

وهؤلاء أهلنا في فلسطين يحققون هذا المعنى في غزة الصابرة التي هزمت جند صهيون وردَّته خاسراً.

وأهلنا في الضفة الذين يقفون أمام قوات دايتون الصهيونية، وأهلنا في لبنان الذين هزموا جيش "إسرائيل"، وأهلنا في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان وفي الشيشان الصابرين المرابطين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

الهجرةُ عهدٌ وجهاد، تُعلِّمُنا كيف نقتدي بالنبي القائد  وأصحابه الذين وَصفَ الله جهادهم ونُصرتهم كما وصف أُخوَّتهم ومحبَّتهم في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون .وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8-9].

المصدر