الوطن والوطنية في فكر الإمام البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


الوطن والوطنية في فكر الإمام البنا

في ذكرى استشهاده

Hassan-al-banna-(32).gif

بقلم: د. جمال نصار

يُقصد بالمواطنة: العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.

ولا يستطيع باحث أو دارس مُنصف لفكرة "الوطن والوطني " أن ينسى أو يتناسى جهود الإمام حسن البنا في هذا المضمار، فقد اتضح مفهوم الوطن والوطنية لديه من خلال النظرة الموسوعية لهذا المفهوم، واعتبار أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ لفهم المسلم لإسلامه وتجرده وحبه له، وأن هذا أصل مهم في عقيدة الإسلام وفهم الإخوان المسلمين له.

ولم يفهم الكثير من المسلمين هذا المعنى، حتى إن الأكثرية المطلقة من المسلمين باتت تفهم أن الإسلام هو: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج فقط، دون المعرفة الشاملة لفهم الإسلام كما أراده الله لنا.

وإذا نظرنا إلى المضمون الغربي، الضيق لكل من "الوطنية" و"القومية".. والذي وجد له دعاة وأحزابًا تخندق بعضها عند "الوطنية الإقليمية".. وتخندق بعضها الآخر عند "القومية العنصرية".. وافتعل آخرون- كرد فعل- التناقضات بين الإسلام وبين الوطنية والقومية.. في مواجهة هذا الغلو، رأينا الأستاذ البنا يبعث- بالتجديد- المنهج الإسلامي الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء- الوطني.. والقومي.. والإسلامي.. والإنساني- فيسلكها جميعًا في سُلّم واحد.

والمتتبع لجهود الإمام البنا يلمس أنه يحب وطنه، ويحرص على وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجد غضاضةً على أي إنسانٍ أن يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عز وفخار، كما يحترم قوميته الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرى بأسًا أن يعمل كل إنسانٍ لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه، ويؤيد الوحدة العربية، باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض.

وفي أكثر من موضع يؤكد الإمام البنا على الجامعة الإسلامية، باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام كما يجعل فكرة وحدة الأمة والعمل لإعادتها في رأس مناهجه.

ويعتقد أن ذلك يحتاج إلى كثيرٍ من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوةَ المباشرةَ لإعادةِ وحدة الأمة لا بد أن تسبقها خطوات:

1- العمل على الوحدة الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الشعوب الإسلامية كلها.

2- يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.

3- يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية.

4- حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الإجماع على "الإمام" الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض.

كما نادى الإمام البنا بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى ﴿ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).

أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه (رسالة إلى الشباب).. وفي المقدمة من دول الإسلام وشعوبه (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن).. ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة، تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيرهم، وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته.. فالمصرية لها في دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله..) (رسالة دعوتنا في طور جديد).

ومن ثم نجد أن الأستاذ البنا صاغ أهم النظريات السياسية والاجتماعية المعاصرة في تعدد وتكامل دوائر الانتماء- الوطنية.. والقومية.. والإسلامية.. والإنسانية-.. مع الإشارة إلى دور مصر الرائد والقائد في تحقيق هذه الوحدة المنشودة لأمة الإسلام.

فكل هذه الدوائر للانتماء هي درجات في سلم الانتماء الواحد، يصعد عليها الإنسان المسلم- عقيدةً أو حضارةً- دونما تناقضات، وبعبارة الأستاذ البنا: "فكل منها تشد أزر الأخرى، وتحقق الغاية منها، دونما تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار..".

معنى الوطنية عند الإمام البنا

يحلل مرشد الإخوان الأول (الإمام البنا) الوطنية إلى عدة معان، ويُبيِّن موقفهم من كل معنى:

فإن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب مصر والحنين إليها، والانعطاف نحوها، فهذا أمر فطري من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهةٍ أخرى، أي أن رابطة الوطنية بهذا المعني فطرة يقرها الإسلام، "إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالاً الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبياتٍ تسيل رقةً وتقطر حلاوةً:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً

بوادٍ وحولي أذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنةٍ

وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل


ولقد سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصف مكة من (أصيل) فجرى دمعه حنينًا إليها، وقال: "يا أصيل دع القلوب تقر" (1).

وإن كان يُراد بها وجوب العمل بكل جهدٍ لتحرير البلد من الغاصبين، وتوفير استقلاله له وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، والإسلام يشدد في ذلك أبلغ التشديد، يقول: "وإن كانوا يريدون أن من واجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالي: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8)، ويقول: ﴿ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 141) (2).

وإن أُريد بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فيوافق الإمام البنا على ذلك، بأن الإسلام يراه فريضة لازمة، يقول: "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلي طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضًا، ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( آل عمران : 118 ) (3)

فالأستاذ البنا – إذن- يرى أن الوطنية بمعنى حب البلد والحنين إليها، والعمل على تحريره وتقويته، وتقوية الرابطة بين أفراده بما يعود بالخير على فكرة صائبة يقرها الإسلام، ومن ثَمَّ فهو يؤمن بها، ويعمل لها.

ومن شأن هذا الفهم أن يربي في من يقبله شعور الانتماء الوطني الصحيح والإحساس بالمسئولية تجاه الوطن، والرغبة القوية في العمل والتحرر من المحتل، فالعلاقة بين الوطنية والإسلام- بهذا المعني السابق- لا تناقض بينها.

الإمام البنا يرفض الوطنية إذا أُريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة متشيعة لمناهج وضيعة، تُفسَّر وفق مصالح شخصية تستغل من قِبل العدو لمنع اتصالِ بعضهم ببعض وتعاونهم، ويرى أن هذه وطنية لا خيرَ فيها وزائفة؛ أي أن الإخوان يرفضون الوطنية المجزأة، وذات المضمون المنافي للإسلام، والتي بالتالي تعمل لمصلحة المستعمر، يقول: "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً يُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس، فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاةِ الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوة الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام" (4).

والذي يبين فهم الإمام البنا للوطنية هو بيانه لعلاقة الوطنية بالعقيدة، ولحدود الوطن، وبناءً علي تلك العلاقة.

فالإمام البنا يذكر أن الإخوان المسلمين أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، تفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما يفهمونها، وبين دعاة الوطنية المجردة.

إن أساسَ وطنية المسلم العقيدة الإسلامية، والإسلام قد جعل الشعور الوطني بالعقيدة لا بالعصبية الجنسية، وقد حدد هدفه بالعمل للخير من أجل البشر، فالاعتبار هنا للعقيدة، بينما هي عند غيرهم ترتبط بالحدود الجغرافية فوطن المسلم هي كل أرض فيها مسلمون، يقول الإمام البنا: "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.

ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطرٍ إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردون لا يرون في ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض" (5).

وتأسيسًا على هذا الفرق، فإن حدودَ الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل:

القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، والأقطار التي فتحها المسلمون الأولون ثم أخضعت لغير المسلمين.

ثم يمتد وطن المسلم ليشمل الدنيا جميعًا، ومن ثَم يُوفِّق الإسلام- كما يرى الإمام البنا- بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة.

ويبين الإمام البنا خطورة ذلك فيما أرادت الأمة أن تقوي نفسها على حساب غيرها، ويقرر أننا نطلب القوة لنا جميعًا، أما دعاة الوطنية المجردة فلا يرون بذلك بأسًا مما يؤدي إلى تفكك الروابط، يقول الإمام البنا: "يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا؛ ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (الأنفال: 39)، وبذلك يكون الإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة، بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13) (6).

الموقف من الوحدة الوطنية (الأقليات)

تقدَّم أن الوطنية عند الإخوان تنطلق من العقيدة الإسلامية، وذات مضمون إسلامي؛ مما قد يؤدي إلى تساؤل عن الموقف لغير المسلمين في الوطن المصري فهل لهم حقوق المواطن وواجباته كاملاً، أم أن القول بالمضمون الإسلامي للوطنية يؤدي إلى انحصار بعض تلك الحقوق عن غير المسلمين؟.

ويذكر المستشار البشري أن هذه النقطة العملية هي أدق ما يواجه فريقي الجامعتين الدينية والقومية، ولعله فيها تكمن بذرة الخلاف الأساسي بينهما (7).

ويتضح من خلال استقراء الأفكار الإمام البنا في هذه النقطة أنها كانت تأخذ حيزًا غير قليل من بياناته وتوعيته، مما يشير إلى أنها كانت تُمثِّل اهتمامًا له، والمنهج السائد في تناوله جميعًا هو بيان موقف الإسلام- عقديًا وتاريخيًا- من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

ففي أكثر من رسالة وخطاب يتناول الإمام البنا الموقف من الأقباط، فيرد على مَن يقول إن فهم الوطنية بهذا المعنى السابق يُمزِّق وحدة الأمة؛ لأنها تأتلف من عناصر دينية مختلفة، بأن الإسلامَ دين الوحدة ودين المساواة، وأنه كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8)، فمن أين يأتي التفريق إذن؟ (8).

وفي رسالة "نحو النور": يذكر أن الإسلام يحمي الأقليات عن طريق: أنه قدس الوحدة الإنسانية العامة، وقدس الوحدة الدينية العامة بأن فرض على المؤمنين به الإيمان بكل الرسالات السابقة، ثم قدس الوحدة الوطنية الخاصة من غير تعدٍ ولا كبْر، ويري أن هذا (مزاج الإسلام المعتدل) لا يكون سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل يكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط، ويذكر أن الإسلام حدد بدقة من يحق للمسلمين مقاطعتهم وعدم الاتصال بهم، وهم الذين يقاتلونهم في الدين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون علي إخراجهم، يقول: "فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8)، فهذا النص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم" (9).

هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل، والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط" (10).

ويؤكد الإمام البنا على الفكرة نفسها في رسالته للشباب، فيقول: "فيخطئ مَن يظن أن الإخوان دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة"، ويستدل بأن "الإسلام عني أدق عناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، وبإنصاف الذميين وحسن معاملتهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، فلا ندعو إلى فرقةٍ عنصريةٍ ولا إلى عصبية طائفية، ثم يؤكد الإمام البنا المعنى السابق للوطنية فيقرر: "ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ونهدر من أجلها مصالح المسلمين وإنما نشتريها بالحق والعدالة والإنصاف وكفى" (11).

وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي): يبين الإمام البنا موقف الأقلية غير المسلمة ذاتها من الإسلام وبالتالي من دعوة الإخوان, فالأقلية- كما يذكر الإمام البنا- من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة- في كل تعاليم الإسلام وأحكامه، "وهذا التاريخ الطويل للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا- مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مئونة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًّا أن نُسجِّل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يُقدِّرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم , وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم" (12).

ويمكن إجمال نظرة الإمام البنا والإخوان للأقباط في عاملين أساسيين هما:

الجانب العقائدي: وفيه التزام الإخوان بما جاء في القرآن الكريم والسنة من أن أهل الكتاب أرسل الله لهم سيدنا عيسى- عليه السلام- نبيًا ورسولا وأنزل معه الإنجيل، وهم أقرب للمسلمين من اليهود فقد قال الله فيهم: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًا وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة : 82)، وهذا هو المفهوم العام والذي تربى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

الجانب المعاملاتي: وفيه اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزءٌ من نسيج الوطن، فهم شركاء في هذا الوطن؛ ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يُعكِّرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبين ضد كل ما هو إسلامي، يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خطئًا (13).


1- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، رسالة دعوتنا، ص20

2- رسالة دعوتنا – ضمن مجموعة الرسائل- ص20

3- الرسائل، ص21

4- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا – رسالة دعوتنا- ص21

5- المرجع السابق، ص21-22

6- رسالة نحو النور – ضمن مجموع الرسائل- ص71

7- المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية- المستشار البشري – ص702

8- رسالة دعوتنا- ضمن مجموعة الرسائل- ص22

9- رسالة نحو النور – ضمن مجموعة الرسائل – ص78

10- المرجع السابق، ص78

11- رسالة إلى الشباب- ضمن مجموعة الرسائل- ص99

12- رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي- ضمن مجموعة الرسائل – ص212

13- دور الإخوان المسلمين في المجتمع المصري (1938- 1945)- ضمن أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين (6) – ص2260- 261