تطبيع الليبراليين الجدد بين السياسة والقانون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تطبيع الليبراليين الجدد بين السياسة والقانون

29 سبتمبر 2009

بقلم: ضياء رشوان

كشفت الواقعة الأخيرة فى سجل تطبيع فئات قليلة من المثقفين المصريين مع الدولة العبرية، والتى كانت بطلتها الدكتورة هالة مصطفى رئيس تحرير مجلة الديمقراطية، عن دلالات كثيرة لا يجب تركها تمر مرور الكرام والاكتفاء بإدانة هذا التصرف الخارج عن المصالح المصرية ورؤية المصريين عموما سواء كانوا جماهيرا أم نخبا، والذى عرض صاحبته لتحقيقين سيجريان معها أحدهما فى نقابة الصحفيين التى تنتمى إليها والآخر فى مؤسسة الأهرام التى تعمل بها.

وسوف نكتفى فى هذا المقام بالتركيز على دلالتين فقط قد يكونان الأبرز من تلك الدلالات والأكثر حاجة لتوضيح ومناقشة أعمق.

أولى هاتين الدلالتين لواقعة استقبال الدكتورة هالة مصطفى للسفير الإسرائيلى فى مكتبها بمؤسسة الأهرام، فى ظل الوقائع السابقة للتطبيع مع مسئولين أو مثقفين إسرائيليين هى أن القطاع الأكثر ممارسة لهذه النوعية من التطبيع السياسى ــ الثقافى يتسم بخاصيتين رئيسيتين: الأولى، أن معظمهم من العاملين والمنتمين لمهن الصحافة والكتابة والبحث العلمى السياسى خصوصا، وهو ما بدا واضحا سواء فى وقائع التطبيع السابقة أو واقعة الدكتورة هالة الأخيرة.

ولعل التفسير الأقرب للدقة لهذا التوجه الأكثر للتطبيع بداخل تلك الفئات هو مزيج من العوامل الموضوعية والشخصية التى تجعل البعض من المنتمين إليها يشعرون بأنهم «صانعوا» سياسات وتوجهات عملية فى الحكم والسياسة، وليس مجرد مراقبين لها وكاتبين عنها ودارسين لتفاصيلها، وهو ما يأتى على الأغلب من اختلاط بعضهم «الزائد» بصانعى السياسات الرسميين، بما يزيل الحواجز الطبيعية بين مهنهم وأدوارهم وتلك المنوط بهؤلاء الرسميين القيام بها.. مما يولد فى نفوس أولئك الصحفيين والكتاب والباحثين الشعور بأنهم مثلهم وأن صنع السياسات الرسمية الداخلية والخارجية هو أحد واجباتهم، فيندفع البعض منهم مهرولا نحو لقاء مسئولين ومثقفين إسرائيليين معتقدا أنه بذلك يقوم بهذا الواجب «الوظيفى».

ولا يمكن فى نفس السياق استبعاد تأثير الاختلاط الكثيف لهذه الفئات بالدوائر العالمية من نظرائهم الصحفيين والكتاب والباحثين والتى تموج بالنفوذ الإسرائيلى واليهودى الذى يغرى البعض منهم بالتمتع بمكانة أو القيام بأدوار «عالمية» إذا ما هم انخرطوا فى التطبيع مع الجانب الإسرائيلى، باعتبارهم «صناع سلام» و«حراسا» للسلام العالمى والتواصل بين الشعوب.

أما الخاصية الثانية للقطاع الأكثر ممارسة للتطبيع السياسى ــ الثقافى من المثقفين المصريين فهى أن غالبيتهم من الذين يعلنون عن أنفسهم باعتبارهم «ليبراليين» جددا كانوا أم تقليديين.

وحتى فى الحالات التى تورط فيها بعض المنتمين لمدارس اليسار والقومية والإسلامية فى التطبيع مع إسرائيل، كانوا عادة ما يسبقون ذلك بالتحول عن مدارسهم الأصلية إلى المدرسة الليبرالية، أو أن ينتهزوا فرصة الجدال حول وقائع التطبيع التى تورطوا فيها لكى يعلنوا تخليهم عن هذه المدارس وتوجيه انتقادات حادة لها، مؤكدين انتقالهم إلى المدرسة الليبرالية.

والحقيقة أن كون غالبية من تورطوا فى التطبيع من الصحفيين والكتاب والباحثين من المنتمين لليبرالية الجديدة لا يعنى بحال أن هذا هو حال التيار الليبرالى المصرى كله، فالغالبية الساحقة من أبنائه ورموزه ترفض التطبيع جملة وتفصيلا وتشارك مدارس الفكر والعمل المصرية الأخرى مواقفها الوطنية الواضحة فى شأن الدولة العبرية والصراع معها.

والأرجح فى تفسير هذا التوجه بين قطاع من الليبراليين المصريين الجدد هو أن تحول معظمهم إلى تلك المدرسة الفكرية ــ السياسية لا يعبر فى حقيقته عن اقتناع عميق بأركانها ومبادئها بقدر ما يعبر عن رغبة فى التحلل من الالتزامات التى كانت توجبها عليهم مدارسهم الفكرية ــ السياسية السابقة سواء فيما يخص إسرائيل أو ما يخص مجمل القضايا العامة الداخلية والخارجية.

كذلك فإن فهما لليبرالية يهيمن على أولئك المنضمين الجدد إليها، تبدو بالنسبة لهم مجرد «مظلة» واسعة لاستيعاب كل التناقضات التى يعانون منها وتحقيق جميع المصالح التى يريدونها دون اضطرار منهم إلى الالتزام بأى توجه عام أو رؤية يتبناها أغلب المصريين ــ جماهير ونخبا ــ فالليبرالية لديهم تعادل «التحلل» ليس فقط من التزامات مدارسهم القديمة بل من أى التزامات عامة على سبيل العموم سوى ما يرون أنه محقق لرؤى فردية يعتنقونها أو مصالح فردية يسعون إليها.

أما ثانى دلالات واقعة تطبيع الدكتورة هالة مصطفى وما أعقبها من نقاش عام، فهى محاولة الدكتورة وبعض من النفر القليل الذى يؤيدها من المثقفين لتصوير التطبيع وكأنه شأن فردى يخص صاحبه دون غيره باعتباره جزءا من الحريات الفردية التى يجب أن يحظى بها الناس ضمن الحقوق الأساسية للإنسان.

والحقيقة أن هذا القول بمثابة «حق يراد به باطل»، حيث لا أحد يستطيع أن يحظر على أى إنسان، من الجماهير أو النخب، أن يعلن معتقداته ويمارس ما لا يتعارض مع المقومات العامة للمجتمع وأطره الدستورية والقانونية، إلا أن هذا الحق للأفراد لا ينصرف بالضرورة إلى المؤسسات والهيئات التى تنشأ وتدار وفقا لنفس هذه المقومات العامة.

فمن المعروف بالنسبة للنقابات العمالية والمهنية التى تعد نقابة الصحفيين واحدة منها، أنها جميعا تقريبا قد اتخذت جمعياتها العمومية قرارات متتالية تحظر على أعضائها جميع أشكال التطبيع المهنى والشخصى والنقابى وإقامة أى علاقات مع المؤسسات والجهات والأشخاص الإسرائيليين حتى يتم تحرير جميع الأراضى المحتلة عام 1967 وعودة جميع الحقوق الفلسطينية المسلوبة.

وربما يكون من المعروف بدرجة أقل أن الدستور المصرى فى المادة (56) منه ينص على أن «إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطى حق يكفله القانون، وتكون لها الشخصية الاعتبارية.

وينظم القانون مساهمة النقابات والاتحادات فى تنفيذ الخطط والبرامج الاجتماعية، وفى رفع مستوى الكفاية بين أعضائها وحماية أموالها. وهى ملزمة بمساءلة أعضائها عن سلوكهم فى ممارسة نشاطهم وفق مواثيق شرف أخلاقية، وبالدفاع عن الحقوق والحريات المقررة قانونا لأعضائها».

كما أن القوانين المختلفة المنظمة للعمل النقابى فى مصر تجعل من الجمعيات العمومية للنقابات الهيئة الأعلى فيها التى يناط بها إصدار القرارات وتحديد السياسات التى تلتزم بها وفقا للدستور، الأمر الذى يجعل من تلك الأخيرة جزءا لا يتجزأ من المرجعية القانونية التى تحكم عملها وسلوك أعضائها.

من هنا فإن قيام أحد أعضاء واحدة من النقابات العمالية أو المهنية المصرية بالتطبيع مع الجانب الإسرائيلى بالمخالفة لقرارات جمعياتها العمومية، إنما يدخل فى باب المخالفة القانونية وليس الاختلاف السياسى حول التطبيع وجدواه وضرورته كما يحاول بعض المتورطين فيها تصوير الأمر.

كذلك فإن سعى بعض من هؤلاء لتصوير ممارسة التطبيع بأنه جزء من الحقوق الفردية للأشخاص الطبيعيين يصطدم بحقيقة بديهية يدركها كل عاقل ــ وبالضرورة كل ليبرالى جديد ــ وهى أن القوانين قد شرعت لتنظم التفاعلات الاجتماعية وأن الانخراط فى أى مؤسسة أو هيئة عامة وفقا للقانون يلزم أعضائها بالخضوع للإطار القانونى الذى ينظم عملها.

ويترتب على هذا بصورة مباشرة أن تكون محاسبة أعضاء النقابات المخترقين لقرارات جمعياتها العمومية بحظر التطبيع مع إسرائيل بمثابة واجب قانونى على مجالس إدارتها وعموم أعضائها لا يملك أحد منهم التنازل عنه أو تأجيله بأى حجة أو ذريعة وإلا فتحنا الباب بذلك لإسقاط أو تأجيل بنود وأحكام قانونية أخرى تتعلق بوجود تلك النقابات أو بإدارة شئونها.

أما المعترضون على قرارات الجمعيات العمومية للنقابات بحظر التطبيع فليس أمامهم سوى إحدى سبيلين لممارسة التطبيع بحرية تامة: إما الاستقالة من عضويتها فيسقط عنهم عبء الالتزام القانونى بقراراتها حيث يتمتعون حينها بكل ما للأفراد الطبيعيين من حقوق دستورية وقانونية فى الاعتقاد والممارسة، وإما أن يسعوا لإعادة تصويت الجمعيات العمومية للنقابات على قرارات حظر التطبيع عسى أن تغيرها وتسمح به لأعضائها، وهو فى الحقيقة احتمال يقارب «عشم إبليس فى الجنة» كما يقول المصريون بلهجتهم العامية.

ولعل هذا الشق القانونى فى واقعة تطبيع الدكتورة هالة مصطفى لن يكتمل سوى بالإشارة إلى القرار الذى اتخذه مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحفية بأغلبية الأصوات بمنع دخول أى إسرائيلى المؤسسة ومنع جميع أشكال التطبيع والتعاون مع إسرائيل، حيث إنه يعد قرارا منطقيا وطبيعيا اتخذ متأخرا كثيرا عن موعده بالقياس إلى قرارات الجمعيات العمومية للنقابات المهنية والعمالية التى اتخذته منذ بداية ثمانينيات القرن الماضى، حيث إن المؤسسات الصحفية المماثلة للأهرام هى مؤسسات صحفية يجب أن يخضع فى قواعدها لما تقرره نقابة الصحفيين بالإضافة إلى أن بقية العاملين بها ــ بالإضافة للصحفيين أنفسهم ــ هم أعضاء فى نقابات عمالية ومهنية أخرى اتخذت جمعياتها العمومية جميعا قرارات سابقة بحظر التطبيع.

وإذا كان الأهرام تلك المؤسسة العريقة الضخمة قد تعرض للنقد الشديد خلال الأسابيع الأخيرة بسبب السماح للسفير الإسرائيلى بدخوله، فإن الأهرام نفسه بقرار مجلس إدارته المشار إليه يقدم مثالا غير مسبوق للمؤسسات الصحفية الأخرى فى مصر سواء القومية أو الحزبية أو الخاصة لكى تحذو حذوه وتتخذ جمعياتها العمومية أو مجالس إداراتها قرارات مماثلة للقرار المهم والطليعى الذى اتخذه مجلس إدارة مؤسسة الأهرام.

المصدر