حول بدء محاكمة صدام وقضية الاحتلال
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
مقدمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..
فقد استطاعت أجهزة الإعلام الأمريكية والغربية- وما يدور في فلكها ويتأثر بها- أن تجعل موضوع بدء محاكمة صدام حسين- رئيس العراق السابق- أحد أبرز موضوعات الساعة التي ينشغل بها الرأي العام في بلادنا، وجرت أولى جلسات التحقيق والمحاكمة في جو ادعائي مثير للجدل، فانقسم الناس بين سعيد ببدء محاكمة الطاغية ومتشفٍّ فيه، وساخط على تلك المحاكمة على النحو الذي بدأت به، أو متعاطف معها، على قلة من يتعاطف مع مثل صدام حسين،
وكأن ذلك هو المراد.. أن ينشغل الناس حينًا عن قضية العراق الأولى، وهي ذلك الاحتلال البغيض الجاثم على أنفاس أهله، وما ارتكبه من آثام وجرائم يندى لها الجبين، وما زال يرتكبه، وتلك المقاومة الشجاعة له على كافة الأصعدة التي شغلته بنفسه، وألَّبت الدنيا عليه، وجعلته في مستنقع يرجو النجاة منه، ولا نجاةَ إلا بالاعتراف بالهزيمة، والانسحاب من العراق، وإتاحة الفرصة لأبنائه لحكم أنفسهم، وإدارة شئونهم، بغير تدخل أو كيد.
ونحن إذ ننبه إلى محورية قضية الاحتلال و الجهاد ضده، وأنه لا ينبغي التشاغل عنها بشيء، وإذ نحذر من أهداف أعدائنا من مثل هذه المحاكمة، وإذ نؤكد على أهمية وفرضية توحد أهلنا في العراق تحت لواء المقاومة وجهاد العدو.. لَنؤكد في ذات الوقت على أننا- من منطلق فهمنا للإسلام العظيم- نرفض أن تتم محاكمة صورية هزلية لا تتوافر فيها أركان العدالة وأشكالها لأي إنسان، بغضِّ النظر عن عواطفنا نحوه، أو مواقفنا إزاءه، أو عدائنا له، ونحن بحمد الله لا نوالي ولا نعادي إلا في الله تعالى.
العدل في الإسلام ولا عدالة مع الاحتلال
لئن كان صدام حسين طاغيةً جبارًا في الأرض، ظلومًا غشومًا، ولئن كان شعبُه والدعاةُ إلى الحق من أبنائه قد لاقوا صنوفًا شتَّى من البطش والتعذيب والتنكيل والقتل على يديه وأيدي زبانيته، ولئن كان شعب العراق بكل شرائحه وفئاته لم يعرفوا في حكمه معنى العدل، ولئن عظُم شنآننا نحوه فإننا في ذات الوقت أول من ينادي بالعدل معه، عملاً بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:).
وكذلك من منطلق إسلامنا، الذي بذل صدام وسعَه مدى حكمه في حربه، وتعقُّب أبنائه، وتلك هي عظمة ديننا الذي يأمر بالعدل حتى مع أعتى الخصوم.. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل:90) (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وهذه دلالة نقاء دعوتنا، وطهارة صدورنا، ونصاعة صفحاتنا، والحمد لله رب العالمين.
وعلى النقيض منا يقف دعاة الحرية الزائفة، والعدالة التي لا وجود لها من حكام أمريكا والمفتونين بحضارتها العنصرية التي لا ترى العدل إلا لأبنائها، ولا تعرف له معنًى خارجَ حدودها، في سياستها وحربها ودعايتها.. وأي عدالة ترجى في معاملة الخصوم من المحتلين الأمريكان ومن عاونهم، بعدما فعلوه مع الأسرى العزل في سجن (أبو غريب) وغيره من سجون العراق؟! وهو ما اتضح أمره، وذاع سره، فتناقلته وسائل الإعلام فى الدنيا، ورأى الناس الوجه الكالح الحقيقي لأمريكا وحكامها، وما لم ينكشف خبره بعد من جرائم أمريكا في جوانتانامو أظلم وأخزى.
لقد أرادت العدالة الأمريكية أن يمثَّل صدام حسين للمحاكمة بغير دفاع، ومهما قيل في تبرير ذلك فهو سقوط بغير شك، ولو حدث مثل ذلك مع أي عميل أمريكي في أي بقعة من بقاع الأرض لكان الحال غير الحال.. فهل كان القصد من ذلك إثارة قدر من التعاطف مع صدام- بعد كل ما ارتكب من جرائم وموبقات- ليزداد تفسخ الرأي العام العراقي وانقسامه؟ أم أنها رسالة إرهاب لكل من يقف في طريق أمريكا، أو يفكر في ذلك يومًا، وخاصةً من حكام العرب والمسلمين، ويا لها من رسالة "لقد خدم صدام بسياساته أمريكا بما لم يخدمها أحد في زمانه، فلما اختلفا ورأت أمريكا أنها يمكن أن تحقق مزيدًا من أهدافها دونه جعلته رأس الذئب الطائر الذي تخيف به الآخرين.
إن مقتضى العدالة في محاكمة صدام- مع كل عدائنا له- أن يحاكمه قضاة محايدون عدول، لا يخضعون بحال لسلطة الاحتلال، أو لمن تعينهم سلطة الاحتلال، مع توافر كل الحق له في الدفاع عن نفسه، وندب محامين لذلك، وفي ذات الوقت يجب أن تتاح لكل من عانى من حكم صدام حسين أن يطالبه بالقصاص، سواءٌ كانوا أفرادًا وجماعات أم دولاً وحكوماتٍ، وأن تتاح أمامهم المعلومات اللازمة لذلك، والوقت الكافي له.
تلك عقبى حكم الفرد وإبعاد الإسلام
إن المرارة التي شعر بها من رأوا صدام حسين في جلسة المحاكمة- على اختلاف بواعثها- لَتؤكد سوء مصارع الظالمين ومنقلبهم، وأن شعوبهم هي الخاسر الأول والأكبر من جرَّاء سياساتهم.. فهي التي تقاسي المذلة والهوان والنكال تحت حكمهم، وهي التي تدفع ثمن مغامراتهم وطيشهم، فقرًا وحاجةً وانهزامًا، ثم إنها هي التي تواجه طغيان أعدائها بعد زوالهم، وهي حين تواجههم تكون عزلاء قد جُردت من أسباب القوة وعوامل المنعة، إلا بقيةً من إيمان عاصم، وإسلام مجيد يرى أتباعه الشهادة خيرًا من حياة الهون.
وإن فداحة الثمن الذي تدفعه الشعوب وحدها ليجعلنا دائما نذكِّرها بما لها من حقوق، وما يجب عليها من استمساك بتلك الحقوق، ودفاع عنها في مواجهة حكام أقزام متسلطين.
ومن أبرز تلك الحقوق حق الشعوب في اختيار حكامها، ومحاسبتهم وتقويمهم وعزلهم، وهي حقوق من صميم إسلامنا الذي يطالب أتباعه بالشورى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، ولو كان مرًّا، والاستمساك بالعزة، ورفض الذل، والقصاص من الحاكمين إن جاروا وبغوا، في ذات الوقت الذي يأمر فيه أتباعه بالتوحد، وترك الفتن، والتحوُّط من مراد الأعداء وكيدهم.
وإن تاريخنا ليفخر بأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد دعا أتباعه قبيل وفاته لكي يقتص منه من يرى له عنده مظلمة، وإن أول خلفائه- أبو بكر رضي الله عنه- قال في أولى خطبه: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني".
إن أول أسباب الوهن عندنا هو البعد عن ديننا، والجهل بما فيه من كنوز المجد وأسباب النهوض؛ ونتيجة ذلك هي أن أمة الشورى والمرحمة باتت يضربها الاستبداد السياسي، ويعمُّها حكم الفرد، ومظالم الحاكمين وأهواؤهم، ولا علاجَ لذلك الداء العضال إلا بالعودة إلى الإسلام من جديد، دعوةً وتربيةً وجهادًا وحكمًا.. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).
إن موقفنا من حتمية الإصلاح السياسي، وأن يأتي من داخل الأمة، وينطلق من صميم إسلامنا موقف مبدئي شكَّله التزامنا بالإسلام وفهمُنا له، ولم تزده الأحداث وتطوراتها إلا ثباتًا ويقينًا بصوابه بفضل الله.
كانت الرؤية الإسلامية لسياسات صدام صوابًا
وكانت مواقفنا من حاكم العراق وطاغيتها السابق وسياساته ومغامراته تنطلق كذلك من ديننا الحنيف، وهي مواقف شاركنا فيها كثير من العاملين للإسلام والداعين إليه، وكان أساس ذلك هو التنبه لخطأ المنطلق السياسي والعقائدي لصدام حسين، الذي انغلق على مفهوم ضيق للقومية العربية معادٍ للإسلام، وهو مفهوم ثبت خطؤه، فالعرب هم مادة الإسلام، به عزُّوا وسادوا، وبدونه ذلُّوا وهانوا، وتلك مسيرة التاريخ تؤكد ذلك المعنى بألف دليل.
وقد أفرغ صدام حسين سياساته من كل مضمون إسلامي، وآثر أن يكون في خندق الاستبداد السياسي القاتل، فناصب شعبَه المسلم الشكَّ والتربص والعَداء، وخدع نفسه بهتافات المنافقين والمنتفعين، والتمس النصير له من أعداء الله شرقًا وغربًا، ومضى ينفِّذ مخططاتهم بوعي أو جهل، واستدرجوه ليحقق أغراضهم، فغزا إيران- التي ناصبت حكومتُها أمريكا العداءَ بعد الثورة الإسلامية- ومضى في حرب "غبيَّة" ضروس ثماني سنوات، بدَّد فيها قدرات شعبه الاقتصادية والبشرية، وما حقق نصرًا، ولا جنى خيرًا.
ثم استدرجته أمريكا لغزو الكويت، وقد تكشَّف حديث سفيرة أمريكا في العراق له؛ حين ألمحت إلى أن بلادها لن تتدخل في نزاعه مع الكويت، فارتكب حماقته المدمرة، وغزا الكويت ليحقق أوهامَ العظمة لديه، وأنه حاكم العرب الأول، وأكبر مالك للنفط فيهم، فأوجد بذلك المبرر لأمريكا لتدمر الكويت والعراق في حرب قذِرة بدعوى تحرير الكويت، ثم لتفرض حصارًا جائرًا على شعب العراق، هلك فيه ألوف الأطفال والنساء، بلا دواء ولا طعام؛ ليكون ذلك مدخلاً للقضاء عليه هو نفسه، وإقامة نظام بديل يكون ظهيرًا كاملاً للصهاينة، ولتُقيم أمريكا قواعدها العسكرية في العراق، ولتشعل نيران الانقسام والفرقة بين طوائف شعبنا هناك، وقد أراد الله تعالى أن لا تتم لأمريكا مخططاتها بفضل يقظة شعب العراق وقياداته، واشتداد المقاومة و الجهاد ضد الاحتلال وقواته.
وقد عبر الإخوان المسلمون عن رفضهم كل تلك المؤامرات في وقتها، وبيانات مرشدي الجماعة ومفكريها تفضح تلك المؤامرات، وتبيِّن السبيل لمواجهتها، وكذلك جهود علماء الأمة وأولى الرأي فيها، الذين قدموا الرأي الخالص والنصح السديد لتلافي ذلك الشرِّ كله.
غير أن أمتنا تسير في حال فصام نكِد بين علمائها وحكامها، فلم تجد الرؤية الصحيحة، والنصح الشفوق، والأذن المصغية، والقوة المنفذة الفاعلة، بل مضت أنظمتُنا العربية تُعيْن صدام حسين في حربه ضد إيران، وصوَّرت أجهزة إعلامنا الأمر على أنه حربٌ بين العرب والفرس، وأن صدَّاما ونظامَه يحرسون البوابة الشرقية للأمة العربية من خطر تصدير الثورة الإسلامية إليهم!! وعلى النقيض من ذلك فعل حكامُنا لما غَزا صدام الكويت، فقد انساقوا وراء السياسة الأمريكية، وفتحوا البلاد لجيوش الأعداء بدعوى تحرير الكويت تارةًَ، ثم خلع صدام ونظامه تارةً أخرى.
وها نحن أولاء اليوم نجني ثمار ذلك كله، ورُبَّ ضارة نافعة، لقد استنفر الاحتلال الأمريكي البريطاني الصريح قوى الغضب في داخل شعبنا العراقي، فمضى يبحث عن أسباب القوة عنده، التي جرده منها حكم الفرد، ثم طغيان الاحتلال، فلم يجد إلا الاعتصام بدينه ووحدته، ولم يجد الاحتلال ما صوره له غروره من ترحيب به أو استسلام له، بل إن الوطن- الذي أنهكه الحصار والتجويع، وبدد ثرواته حاكم مستبد طاغية- يضرب اليوم أروع الأمثلة على الصمود والعزة، وإنه لقادر- بإذن الله- على تحقيق النصر الكامل، وأن يعود العراق كما كان في تاريخه المجيد وطنًا للإسلام وحصنًا له.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).