درس فى القيـــادة
وذهبت معه مره الى مدينة طوخ إحدى مدن مديرية القليوبية وكان الحفل حاشدا وبهيجا والأصوات عالية والهتافات مدوية وكل شىء على ما يرام . وانتهى الحفل وعدنا الى القاهرة فى الليلة نفسها وفى الطريق سألنى فضيلته : ما رأيك فى الحفل ؟
قلت : إن الصخب الشديد والأصوات العالية المدوية لا تطمئننى كثيرا كالطبل يدوى إذا ما طرقته فإذا نظرت داخله رأيته أجوف لا شىء فيه . قال : أسمع نحن على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس فى الأسواق . فلا يلقى إلا السخرية والايذاء فهلا نصبر على بطء الاستجابه . إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط فذلك خير لنا من الدنيا وما فيها . هكذا كان يزرع الأمل فى قلوبنا وهكذا كان يبعلى ا حتمال كل ما نلقاه فى سبيل الدعوة .
لا يعلمنا ذلك فى مكتبه أو محاضراته أو نظريا أو فلسفيا ولكن يعلمنا الثبات والتثبت والصمود عمليا فى تنقلا تنا معه فى القرى والدساكر والكفور . أقدامنا تغوص فى الرمل والزلط والأرض الرطبة ومناديلنا تكاد تعصر من العرق الذى نجففه من طول ما نمشى . كنا نبيت مع الاخوان علىالحصير فى المساجد أو فى الأجران ـ إن تعثر المبيت فى المسجد أو المضيفة ـ الأكل أقله وأخشنه . كان الوفاء بالبيعة يلزمنا بالنزول عند رغبة من بايعنا ه فى غير معصية .
وإليك مثلا من أمثلة الخلق الرقيق والتربية العملية الواقعية ذهبت معه يوما الى المنزلة وبعد الحفل صعدنا الى الطابق الثانى فى منزل لنأخذ قسطا من الراحة إن كان فى تلك الرحلات راحة مادية وإن كانت مترعة بالراحة القلبية ودخلت معه الى حجرة بها سريران وعلىكل سرير ناموسية لأن المنطقة كانت زاخرة بجحافل الناموس التى لا ترتوى إلا من امتصاص دماء البشر وإن كنت قد قرأت فى بعض ما قرأت أن البعوضة تعيش ما دامت جائعة فإذا شبعت وامتلأت ماتت .
ودخل سريرة وأرخى ناموسيته وفعلت مثلما فعل على السرير الآخر . وكان التعب والاجهاد قد بلغ مداه فأعترانى قلق وبعد خمس دقائق تقريبا سألنى فضيلته : هل نمت يا عمر ؟ قلت : ليس بعد . ثم كرر السؤال فترة بعد فترة حتى ضقت بالأمر وقلت فى نفسى : ألا يكفينى ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف على المتاعب ؟ ألا تدعنى أنام ؟ كان هذا حديثا صامتا يدور بينى وبين نفسى فصممت على ألا أرد على أسئلته موهما إياه أننى نمت . فلما أطمأن الى نومى نزل من سريره فى هدوء كامل وعند الباب أخذ (القبقاب ) بيده وسار حافيا حتى وصل الى دورة المياه حيث توضأ وأخذ سجاده صغيرة وذهب الى آخر الصالة بعيدا عن ا لغرفة التى ننام فيها .. وأخذ يصلى ما شاء الله له أن يصلى ونمت أنا ما شاء الله لى أن أنام .
وصحوت وتبينت حقيقة الدرس العملى الصامت الذى مررت به ليلتى تلك .
مرشد واتاه الله جلدا فى طاعته .. فهو يخطب ويتحدث فإذا انصرف الناس ليستريحوا خلا الى ربه مصليا ومتهجدا وهو قادر على ذلك بما وهبه الله من احتمال على مواصلة الطاعات ليل نهار .
ومريد لم يشتد بعد عوده ولم يصبح ـ بعد ـ قادرا على مثل حال شيخه وشيخ يعرف هذا فى مريده فيشفق عليه ولا يرضى أن يحرجه طبعا لأننى إذا رأيته يقوم للتهجد لفعلت مثله ولو متحاملا على نفسى والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر وفضيلته يطبق التربية القرآنية على مريده فيطمئن أولا على راحته ثم يؤدى ما يقدمه لربه تعبدا وتقربا .
هذه هى التربية الواقعية والدرس العملى الذى يجب أن يعيش فيه كل من يتولى أمر شعب أو جماعة . راحة الشعب أو الجماعة أولا ثم راحته هو شخصيا لا فى المقام الثانى ولكن فى آخر المقامات .
كان إذا أنهى محاضرته اختلى بالصفوة ممن يتوسم فيهم الخير ودائما ما يصبح توسمه وتصدق فراسته . كان حركة دائبة لا تكل ولا تمل وروحا لا يكفيها أن تحيى جسد صاحبها ولكن تفيض من حيويتها على كل من تلقاه .
وفى يوم من الأيام طلع علينا " طه حسين " بكتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " وتلقاه المغرضون وخصومالاسلام بالتهليل والتكبير والدعاية الواسعة العريضة حتى تأثر كثيرمن الشباب بتلك الدعاية المسمومة وظنوها صادقة . وأحس الإمام الشهيد بالكارثة تعم فطلب من إدارة الجامعة أن تسمح له بإلقاء محاضرة ينقد فيها ذلك الكتاب .
وترددت إدارة الجامعة ولكن إلحاح الطلبة الداعين أرغم إدارة الجامعه على قبول الطلب فقدم طلبا مكتوبا موقعا عليه باسمه المعروف للجميع " حسن البنا " .
ولكن للأسف كانت إدارة ا لجامعة تافهة فى تصرفاتها إذ رفضت الطلب بهذا التوقيع واشترطت أن يكون باسم " حسن أحمد عبد الرحمن " .
والرجل فوق هذه ا لصغائر وأكبر منها فلم يتردد وأجاب إدارة الجامعة لما أرادت لأنه لا يريد أن تقف الشكليات عقبة أمام الأهداف السامية الكبيرة .
وازدحم المدرج حتى ضاق بمن فيه ووقف حسن البنا المدرس الابتدائى يشرح كتاب " مستقبل الثقافة فى مصر " وخطورته على العقيدة حيث يرى طه حسين أن نأخذ الثقافة بخيرها وشرها حلوها ومرها إن كنا نريد أن نصل الى القرب من مستوى الغرب المادى والعلمى .
وظل الساعات العديدة ينتقد ويفصل ويبين مكامن الخطر فى ذلك الكتاب حتى ذهب كل أثر له فى نفوس الشباب وأهمل الكتاب وأعرض الناس عن قراءته فبارت سوقه فى مجالات التأليف والمكتبات وهكذا أنتصر مدرس إبتدائى على دكتور عالمى يسمونه عميد الأدب فى الشرق العربى وما هو بالعميد ولا بالمجيد وعرف الناس حقيقة طه حسين الذى سمى أولاده بأسماء فرنسية لأن الاسماء العربية الاسلامية لا تتفق ومزاجه الرقيق !.