رمضان شهر الجود والسخاء

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رمضان شهر الجود والسخاء

بقلم / الإمام حسن البنا

حدثتك أن رمضان شهر الخير، وشهر الإنسانية الفاضلة، وشهر الحرية الصحيحة، وأحب هنا أن أحدثك بأن رمضان شهر "السخاء والجود"، شهر الكرم والعطاء، شهر البذل والإنفاق، وأحب أن تصل معى إلى هذه النتيجة عن طريق البحث العلمى والنظر التحليلى الدقيق، فهيا أيها العزيز..

أنت فى رمضان ممسك عن طعامك وشرابك، محارب للذاتك وشهواتك الجسدية، مقبل على ربك بالصوم والصلاة والعبادة والقرآن، وذلك غذاء شهى تستمرئه الروح، وتتلذذ به النفس الطيبة، وتصفو به الفكرة، ويشرق عنه نور البصيرة؛

فترى الحقائق على صورتها، وتضع كل أمر فى نصابه وفى موضعه الذى خلق له، سترى إذا تأثرت بصوم رمضان أن هذه الأعراض الدنيوية وهذه الأموال الفانية وسائل لا تقصد لذاتها، ولا قيمة لها فى نفسها، ولكنها تشرف وتعلو إذا أنفقت فى الخيرات، وترخص وتنحط إذا ضاعت فى السفاسف؛ فيدفعك ذلك إلى الإنفاق وأنت مغتبط مسرور؛

ولهذا كان رمضان شهر الإنفاق، وسترى إذا تأثرت بالصوم أن من ورائك قومًا جاعت بطونهم، وظمئت حلوقهم، وسغبت أحشاؤهم، وأن فى وسعك أن تسد جوعهم، وتروى ظمأهم، وتداوى مسغبتهم؛ فيدفعك ذلك إلى البذل والإنفاق؛ ولهذا أيضًا كان رمضان شهر السخاء والجود.

وسترى إذا تأثرت بالصوم أن عاطفة رقيقة يتحرك بها قلبك، وشعورًا دقيقًا تختلج به نفسك، وإحساسًا قويًّا يسرى فى جوانحك هو الذى يسميه الناس الرحمة أو الشفقة أو العطف أو الحنان، وسمِّه ما شئت، فحسبك أنه شعور يدفعك إلى مواساة المنكوبين، وإعطاء المحرومين، وكفكفة دموع البؤساء والمساكين بما تحسن به إليهم من عطاء، وإذن فرمضان شهر العطاء والبذل، ومتى هان عليك هذا العرض الفتان الذى يسميه الناس المال.

وعرفت أنك مستخلف فيه لتنفقه فى وجوه الخيرات، وليس لك منه إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، وفهمت قول الله تعالى: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]؛ فإنك -بلا شك- ستتقدم إلى الخيرات باذلا منفقًا، وأنت باسم الثغر رضى النفس، وذلك ما يؤديك إليه الصوم الشرعى الصحيح.

وأظنك بعد هذا تستطيع أن تدرك أسرار هذا الحديث النبوى الكريم.

روى الإمام البخارى بسنده عن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" صحيح الإمام البخارى .

أرأيت كيف أن علو نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فى درجات الروحانية مع روحانية لقاء جبريل عليه السلام، مع روحانية تلاوة القرآن، مع روحانية صوم رمضان، كل هذه الروحانيات مجتمعة أثمرت أن يتضاءل سلطان المادة، ويختفى أثر فتنة المال فيجود به النبى صلى الله عليه وسلم كالريح المرسلة لا يبقى على شىء، وكذلك أثر العبادة الخالصة فى نفوس العابدين.

ولكأنى بك تعترض فى هذا الإغراء بالبذل والإنفاق بأن الناس مأزومون قد أخذ العسر المالى بخناقهم؛ فما فائدة التحدث إليهم فى هذا الشأن؟ فأقول لك: على رسلك أيها العزيز، وأمامك رصيف المصارف، ودور اللهو، وشارع عماد الدين بغاداته ومقامره، ومحلات سمعان وشيكوريل وغيرها، والسيارات الفخمة الوثيرة والدور العالية المشيدة، وأمامك زهرة الحياة الدنيا ترف ناضرة فينانة على مظاهر كثير من ثرواتنا وشباننا، انظر ذلك كله لتعلم أن الأمر ليس فقرًا فقط ولا أزمة فقط، ولكنه مع هذا شح على الخير، وبخل فى النفوس، وإنفاق للمال فى غير وجهه الذى خلقه الله له، وتجاف عن طلب العلياء، وإسفاف إلى صغائر الأمور ورضاء بهذه المظاهر الدنيا واستمتاع بها.

ولو نما فى المسلمين حب الخير، وطبعت نفوسهم على الجد فى طلب العلياء، وبذل الجهد الصحيح فى ذلك؛ لرأيت أن كل مسلم لا يعجزه أن يقتصد قرشًا واحدًا أو نصف قرش مما ينفقه فى الدخان، أو يدخر ثمن أسطوانة غنائية، أو مصروف ليلة فى مقهى، أو نفقة وليمة شراب يقيمها رياء وسمعة، أو يترك التغالى فى رباط الرقبة ومنديل اليد وشراب الرجل وزجاجة العطر، ويقتصر فى ذلك على ما يحقق الغاية، ثم ينفق ما يوفر من ذلك -وهو كثير- فى مشروعات الخير وخدمة الإسلام، وبذلك تنجح مشروعات، وتتحقق آمال، وتقوم أعمال.

فليذكر المسلم ذلك بمناسبة شهر السخاء والجود، وليذكر معه أن اقتصاده لأمواله لتنفق فى سبيل المجد والخير يُضْعف من قوة عدوه الذى يستغنى بما يبتز منه، ويتمتع بثروته ويرتع فى خيرات أرضه، ولو سرت هذه الروح الطيبة، وشعرنا بأن فى أموالنا حقًّا للسائل والمحروم، ولواجب الرقى والنهوض المحتوم لرأينا أنفسنا فى غنى عن خمرة "مانولى"، وعن دخان "ماتوسيان"، وعن زخرف "البون مارشيه".

عجيب أمر المسلمين اليوم؛ يجود أحدهم فى التافه الضار بدم قلبه وعرق جبينه وعصارة روحه، ويبخل بالنزر اليسير يحقق به أنفع المقاصد وأنبل الغايات، ويعتذر عن ذلك بالأزمة، وإن أشد منها فتكًا سوء التصرف وخطأ التوزيع.

قليل المال تصلحه فيبقى

ولا يبقى الكثير مع الفساد

أيها المسلمون، بلادكم مسكينة مهضومة، وهى تحاول أن تتخلص من تلك القيود والأغلال التى أثقلت كاهلها وأنهكت قوتها، ولا خلاص لها إلا بأموالكم؛ فإن القوة الاقتصادية والمالية أساس القوة الأدبية والاجتماعية، وأمامكم من مشروعات الوطن ما يدر عليكم الربح الوفير لو شجعتموه وأنفقتم فى سبيله، والإنفاق فى هذا السبيل أجدى وأولى من هذا اللهو والعبث الذى ينكبُّ عليه الكثيرون لا يفرقون بين ما يضر بلادهم وما ينفعها، وإن هذه الأموال إنما هى جهود المكدودين البائسين، استخرجوها من الأرض بشق النفس، وتعبوا فى تحصيلها تعبًا ما عليه من مزيد، وليتمثل من يبذر فى اللهو والعبث مستأجرى أرضه.

وكيف يحيون حياة البؤس والنصب لا يصيب أحدهم من الغذاء والراحة والمتعة إلا الحقير التافه ممزوجًا بالشقاء والعناء، وسيرى أن ما ينفقه فى ليلة واحدة من ليالى أنسه ولهوه، إنما هو جهد هؤلاء العاملين، إخوانه فى الإنسانية والوطن أيامًا غير قليلة.

أيها الأثرياء، إنكم مسئولون عن هذه الأموال من الله -تبارك وتعالى-: من أين اكتسبتموها، وفيم أنفقتموها؟ رضيتم بهذا السؤال أم أبيتم؛ فأعدوا الجواب من الآن، واقرءوا سيرة عظماء الأمم وأسلافكم الكرام فى أموالهم وبذلهم؛ فإن تيقظت الضمائر، وتأثرت القلوب، وانبسطت الأيدى فبشر الشرق بالخلاص والإسلام بالنصرة، وإن كان الموت قد امتد إلى ذلك الأمل (فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].

"أما بعد" فهذا شهر رمضان شهر السخاء والإنفاق، وأمامنا مشروعات كثيرة تهيب بنا إلى الإنفاق؛ فهل نأخذ أنفسنا فى هذا الموسم بالتدرب والتمرين على البذل فى سبيل الله؟.

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].

المصدر : مجلة الإخوان المسلمون – السنة الأولى – العدد 24 – صـ1 : 4 – 11رمضان 1352هـ / 28ديسمبر 1933م