رمضان شهر الحكمة والعزة.. ولكن!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رمضان شهر الحكمة والعزة.. ولكن!
د. الواعى.jpg

بقلم: أ. د. توفيق الواعي

رمضان كما نعلم هو شهر القرآن ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ (البقرة: من الآية 85) والقرآن هو كتابنا الحكيم العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)﴾ (يونس) وقال: ﴿يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)﴾ (يس) وقال: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: من الآية1).

إذن يجدر بنا أن نقول إن كتاب الله العزيز هو مصدر الحكمة وهبًا وكسبًا، عبر القراءة والتفكير والتدبر والتأمل، كما أنه منهج للنظر والتعلم والاستفادة من التجارب والخبرات وصولاً إلى الحكمة البالغة وقد وردت كلمة الحكمة في القرآن الكريم 20 مرةً في 12 سورةً تحمل سبلاً عدة لتحصيل الحكمة في الحياة.

ومن معاني الحكمة في القرآن: الارتقاء والدقة والضبط، كما أنها الميزان العقلي القادر على الحكم المنضبط، على الأمور، والقدرة على إدراك السنن التي أحكمها الله في الأنفس والآفاق، كما أنها تورث المقدرة على إدراك العواقب والمآلات التي تدفع الإنسان إلى فعل الخير المؤدي إلى الصلاح والفلاح، يقول الإمام العيني: الحكمة تعلمها كمال علمي، والعمل بها كمال عملي.

وإذا تصفحنا كلمة الحكمة في القرآن نجدها أكثر ارتباطًا باسم العزيز، الذي يعني المنيع المتفرد المستكفي بنفسه دائمًا، وكأن العزة لا بد أن تكون سابقةً للحكمة فلا حكمةَ لذليل؛ لأن الذليل ذو نظر كليل للأمور بينما العزيز لا تؤثر في نظره مؤثرات التسفل والهبوط التي تشوش على حكمه للأشياء، وكأنه يقول لعباده: كن عزيزًا بالعزيز تكن حكيمًا بالحكيم.

وتحصيل الحكمة بعد تدبُّر القرآن والعمل به لا يمكن أن يتحقق إلا بعبادة التفكر في الملكوت؛ حتى يكون الإنسان صادقًا في فعله المؤيد لقوله الذي يؤدي به إلى الصراط المستقيم، ولهذا قال علماؤنا: إن المكارم أخلاق مطهرة، فالدين أولها، والعقل ثانيها، والعلم ثالثها والحلم رابعها، والجود خامسها، والصدق سادسها، والصبر سابعها والشكر ثامنها واللين باقيها، وقالوا: العلم دون إيمان ضرب من النقص المعيب، أما الإيمان بلا علم ضرب من العته والبلاهة، وبهذا قالوا: "مَن اعتمد على ماله قلَّ، ومن اعتمد على عقله اختلَّ، ومن اعتمد على سلطانه ذلَّ، ومن اعتمد على عمله ضلَّ، ومن اعتمد على الناس ملَّ، ومَن اعتمد على الله فلا قلَّ ولا ذلَّ ولا اختلَّ ولا ضلَّ ولا ملَّ".

لولا لطائف صنع الله ما نبتت تلك المكارم في لحمٍ وفي عصب

ومما يُحكى عن عميق فهم المسلمين وريادتهم في كل أمرٍ ما قيل عن رسالة قيصر الروم إلى معاوية ورد عبد الله بن عباس على تلك الرسالة بما أذهل قيصر الروم ومن حوله ممن يختبرون حكمة العرب التي تظهر مع ذلك قوتهم وعقولهم فيقولون: كتب قيصر الروم إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يقول له: لقد سمعتُ أن المسلمين حكماء فهل تستطيع أن تخبرني عن أصل هذه الأشياء؟

أخبرني عمن لا أب له!!

وعمن لا عشيرة له!!

وعمن لا قبلة له!!

وعمن سار به قبره!!

وعن ثلاثة أشياء لم تُخلق من رحم!!

وأبعث لي بحياة كل شيء!!

فبعث معاوية إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يطلب الإجابة.. فقال ابن عباس: "أما من لا أب له فهو عيسى بن مريم عليه السلام, وأما من لا عشيرة له فهو آدم عليه السلام، وأما من لا قبلة له فهي الكعبة المشرفة، وأما من سار به قبره فهو يونس عليه السلام حيثما كان في بطن الحوت، أما الأشياء الثلاثة التي لم تخلق في رحم: كبش إسماعيل عليه السلام، وناقة صالح عليه السلام، وحية موسى عليه السلام، وأما حياة كل شيء فهو الماء لأن الماء أساس كل شيء؛ لقول الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: من الآية30).

نعم فهموا معاني الكتاب واستقرءوا الحكمة منه، ونظروا في كل شيء، قال الله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾ (يونس).

فكانت الحكمة في القرآن المنزل وفي الرسول المبعث وفي الأمة المتلقاة، وقد جعل الله رسولنا المبعث نتاج الحكمة في دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾ (البقرة)، ويقول ربنا سبحانه مخاطبًا أمته صلى الله عليه وسلم وممتنا عليهم: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)﴾ (البقرة)، فسارت الأمة وناطحت عنان السماء وبلغت من العلم مبلغًا ومن التقدم والريادة شأوًا بعيدًا، ولكن نسي المسلمون رسالتهم وتنكبوا الطريق فنسيهم الزمان وتفرقت بهم السبل، ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾ (مريم) فذهبت الريادة إلى غيرهم وولَّت الحضارة عنهم.

وسار الزمان دونهم، ونالهم ما نالهم من الوهن والضعف والخذلان، وحكى الواقع الصاعد مفاخر غيرهم بصبرهم وفتحهم لعقولهم وتقدمهم العلمي باختراعاتهم وريادتهم.

ويحكي الواقع المعاش عن كثيرٍ من المخترعات، ونحن نورد اليوم قصة اختراع رجل أعمى وهو- لويس برايل- الذي وُلد بصيرًا لكن حادثة صغيرة أفقدته بصره في عينه اليسرى ثم أصاب الالتهاب عينه الأخرى حتى أصبح كفيفًا تمامًا.. وعندما بلغ العشرين من عمره عُيِّن مدرسًا في المعهد القومي للعميان بفرنسا.

وفي يوم كان جالسًا في أحد المقاهي وسمع عن اكتشاف ضابط جيش فرنسي لطريقة للاتصال بجنوده بصمت!! وكان يستعمل جلدًا مدبوغًا بأشكال ورموز اتفق عليها، فقفز لويس وقال بفرحةٍ وجدتها.. وجدتها.. وخلال أسبوع قام بمقابلة الضابط الفرنسي وسأله عن الطريقة التي يستعملها فشرح له الضابط أنه من الممكن عمل علامات معينة باستخدام الضغط على قطعةٍ من الورقة فمثلاً نقطة واحدة معناها تقدم، ونقطتين معناها تراجع، وكان النظام الذي اتبعه هذا الضابط يشتمل على استخدام 12 نقطة، وقام الضابط بسؤال لويس عما إذا كان يعتقد أنه بهذه الطريقة يمكنه تكوين حروف الكتابة كاملةً، وكان رد لويس بالإيجاب.

وفي عام 1829م نجح في تكوين حروف الكتابة باستخدام 6 نقاط فقط، وبدأ في تجربتها واستخدمها في المعهد، وفي عام 1839م نشر طريقته حتى يطلع الجميع والعالم عليها؛ لكنه واجه مقاومةً عنيفةً من الجميع بما فيهم المعهد نفسه.

وفي أحد الأيام كانت إحدى تلميذاته تقوم بالعزف على البيانو في أحد أكبر مسارح باريس، ولما انتهت من العزف صفَّق الحاضرون لها بإعجابٍ شديد ونهض الجميع مُعبِّرين عن إعجابهم الشديد؛ فاقتربت من الجمهور وقالت: "لستُ أنا مَن يستحق كل هذا التقدير، ولكن الذي يستحقه هو الرجل الذي علمني عن طريق اكتشافه الخارق، وهو الآن يرقد في فراش المرض وحيدًا منزويًا بعيدًا عن الجميع".

فبدأت الجرائد والمجلات حملةً قويةً تعضد لويس برايل وتؤيد وتدعم طريقته، وكان نتاج ذلك أن اعترفت الحكومة الفرنسية باكتشافه وجرى أصدقاؤه يبلغونه بالأخبار الجميلة، وقال لهم والدموع تملأ عينيه: "لقد بكيت 3 مرات في حياتي الأولى عندما فقدتُ بصري، والثانية عندما اكتشفتُ حروف الكتابة، وهذه هي المرة الثالثة.. وهذا يعني أن حياتي لم تذهب هباءً".

واليوم يوجد أكثر من 20 مليون ضرير في العالم يدينون بالشكر لهذا الرجل!!.

ألا فلا نامت أعين المتخلفين الذين لم تنفعهم حكمة ولا رسالة ولا عزة، وهم سعداء بالهوان. والله نسأل أن يوفق وأن يعين أمتنا على الخير والريادة.. آمين.

المصدر

قالب:روابط توفيق الواعى