سبعون عاما في حضن اللغة العريبة 4

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سبعون عاما في حضن اللغة العريبة 4

أ.د/جابر قميحة

مقدمة

"في المدرسة الإلزامية"

الحلقة الرابعة

المرحلة الإلزامية أو الأولية هي أولى المراحل في التعليم المصري الرسمي . والمدرسة تسمى الإلزامية لأنها تلزم كل من بلغ السادسة بالانخراط في سلك المدرسة التي يأتيه منها " الاستدعاء المكتوب " . وقد تسمى " المدرسة الأولية" لأنها أولى المدارس التي يلتحق بها الصغير .

وكان في المنزلة ثلاث مدارس إلزامية أو أولية : مدرسة الأنصاري ، ومدرسة الحمزاوي ، ومدرسة السلاموني . ويعتبر هذا العصر هو عصر النظار العظام ، فالمدرسة الأولى كان يطلق عليها أحيانا " مدرسة عبد السميع " ، والمدرسة الثانية " مدرسة الاستاذ محمد الطنطاوي " ، والثالثة يطلق عليها " مدرسة محمد السحيلي " . وهؤلاء هم نظار هذه المدارس .

وكان من نصيبي أن يأتيني الطلب من مدرسة السلاموني ، وسميت بهذا الاسم لأن المنزل الكبير الذي استقرت فيه المدرسة كان ملكا لعائلة السلاموني .

وفي اليوم الموعود لبست جلبابا جديدا ، وحذاء جديدا ، وأوصلني أخي إلى المدرسة وأنا في حزن شديد لأني سأفارق والدي الذي كان يصحبني في كل خروجاته وزياراته .

دخلت المدرسة فكان أول ما شدني في فنائها لوحات جميلة للحروف العربية بخط كبير ملون ، فشعرت للوهلة الأولى أنني أشهد مجموعة من الحيوانات ، فرأيت الكاف كأنها إوزة ، ورأيت الياء كأنها بطة من النوع الثقيل ، ورأيت اللام كأنها سنارة صيد السمك ، ورأيت الهاء كأنها وردة جميلة ، أما الدال فتمثلتها ضفدعة تفتح فمها على آخره .

أما التلاميذ فكان أغلبهم الغالب حفاة الأقدام ، وكثير منهم ملابسه رثة ، وجاء وضعي في فصل من فصول الطابق الثاني للمدرسة ، وكان مدرس الفصل شابا أنيقا ، فيه قوة وحيوية .

وذات يوم سمعنا في الدور الأرضي ضجة وصوتا رجاليا صاخبا ، وناظر المدرسة يحاول أن يهديء من ثائرة الرجل الهائج ، وفي اليوم التالي رأينا نافذتيْ الفصل قد سد نصفاها السفليين .... عجيبة !! ، وعرفنا السر ، سر الضجيج وسد نصفي النافذتين ، الرجل الثائر هو صاحب البيت المجاور للمدرسة ، ومدرسنا "الفاضل المحترم" كان " يبصبص " لبناته المراهقات ، ويشاغلهن .

رأينا أن تصرف الناظر فيه حكمة وطيبة ، ففعل ما فعل دون أن يجرح شعور المدرس ، واستطاع أن يمتص غضب الرجل الثائر .

ولكن هناك واقعة لا أنساها أبدا تتلخص فيما يأتي :

كان في الفصل تلميذ يبدو عليه الضعف ، والفاقة ، وكان يأتي إلى المدرسة بجلباب رث واحد ـ لا يغيره أبدا ، وفجأة رأينا المدرس يصرخ فيه " لازم تشيل القمل اللي بيرعى فيك يا ابن الكلب " ، وكلف ثلاثة أنا منهم وأعطى كلا منا حُقا صغيرا ، وقال لنا : " الشاطر اللي يجمع أكبر عدد من القمل من راس الكلب سيد "

ويسلمنا هذا المسكين رأسه لكي نعبث في منبتها بأيدينا ، ونخرج منها ما استطعنا من قمل إلى أن يصدر أمر المدرس " خلاص كفاية كده النهارده " ، ويأمر كلا منا بأن يعد القمل الذي جمعه ، والمتفوق هو الذي جمع أكبر عدد من القمل ، فيطلب المدرس " الفاضل المحترم " من تلاميذ الفصل أن يصفقوا للمتفوق ، جامع العدد الأكبر من القمل .

ثم يوجه إنذارا لسيد " يا سيد يا ابن الكلب خلي أمك تغسل لك راسك بالجاز (الكيروسين) ، قبل حضورك للمدرسة " .

وفي اليوم التالي لم يحضر سيد ثم علمنا بما حدث ، وما زلت أذكره وقلبي يهزه الألم والشعور بالذنب . فقد طلب سيد من أمه أن تصب على رأسه الجاز لتقضي على القمل ، ففعلتْ ما طلب . ويظهر أن ما ناله من إهانة بالأمس جعلته يحرص على أن يقضي على القمل قضاء مبرما ، فتناول علبة كبريت ، وأشعل عودا ، ووجهه إلى رأسه الغارق بالجاز ، فاشتعل رأسه ووجهه وبقية جسمه ، ولم تتركه النار إلا كتلة من الفحم ... يرحمه الله .

وبعد العام الأول انتقلت المدرسة إلى منزل آخر يملكه " آل الزهار "، لذلك سميت بمدرسة الزهار . والحمد لله كنت متفوقا في كل أيامي ، وكان الناظر الأستاذ محمد السحيلي رجلا تربويا ذا خلق رفيع وعلم غزير ، كان حكيما عاقلا يدير الأمور بحنكة وصبر وتؤدة ، وكان يقوم بنفسه بتدريس مادة التربية الدينية لفصلنا ، وعددا من حصص اللغة العربية .

وكانت طريقته في التدريس تعتمد على كثرة التمثيل ، وبيان قواعد الدين وسلوكياته بطريقة عملية ، فمثلا : كان يعلمنا الوضوء الصحيح باصطحابنا إلى صنابير الماء ( الحنفيات ) ، ويتـوضأ أمامنـا ، ويطلب من كل واحد منا أن يتوضأ أمامه ، وفي تدريسه لنواقض الوضوء ، أذكر أنه صحبنا إلى دورة المياه ، ووقف أمامها وقال : " اللي يدخل الحمام علشان يطلع الفضلات والوسخات بتاعته ، وإذا كان متوضئا فعليه أن يعيد وضوءه مرة أخرى " .

وأذكر أنه في الفصل اختار طالبا وطلب منه الوقوف وقال " الولد حمزة ده كان واكل فجل كتير ، فبطنه انتفخت ، فطلع من بطنه ريح ، ريحتها وحشة " ، فضحكنا جميعا ، ثم قال " كده يا حمزة انت كنت متوضي ، الوقتي لازم تعيد وضوءك من جديد . طيب لو احنا رحنا دورة المياه ، وعملنا زي الناس ، برضه ينقض الوضوء ، ولازم نتوضأ من تاني " . ( يعمل زي الناس عبارة تستخدم عند عامة المصريين بمعنى يقضي حاجته ) .

وكان الناظر الأستاذ محمد السحيلي يدرس لنا بعض حصص اللغة العربية ، وكان هادئا ، مبينا ، واضحا ، متمهلا في شرحه ، وإذا أخطأ تلميذ في القراءة وجهه بتؤدة وأبوة دون أن يخدش شعوره . والحمد لله كنت ظاهرا متفوقا في اللغة العربية والتربية الدينية ، وكنت موضع تقدير الناظر ، ولا أنسى عبارته التي كان يوجهها لتلاميذ الفصل " أنا عايزكم كلكم تقرأوا زي جابر " .

ومن تقديره لي أنه جعلني " البرنجي " و " ألفة الفصل " . ومعنى الكلمة الأولى : المتفوق المتقدم على كل التلاميذ ، ومعنى الكلمة الثانية : التلميذ الواقف يحفظ النظام ، ويراقب زملاءه أثناء فترة الدقائق الخمس التي تفصل بين الحصة والحصة . ولا أدري مصدر هاتين الكلمتين وخصوصا الكلمة الأولى ، ولكن باجتهاد شخصي أعتقد أن " الأَلِـفَـة " مؤنث ( أ ) . بالنظر إلى أنها أول حرف من حروف الهجاء .

ولا أنسى الواقعة الآتية على بساطتها : وهي أن الأستاذ الناظر طرح سؤالا صعبا ، لم يستطع أن يجيبه إلا أنا ، فطلب من الفصل أن يصفق لي تصفيقا حادا ، ومد يده وقال " تقبل مني هذه الهدية "، ولم تكن الهدية إلا إصبعا من أصابع الطباشير .

وأقول بصدق إن هذه الهدية كانت موضع اعتزاز مني ، حتى إنني أخذت الإصبع ولففتها في ورقة ، وكنت أنام وهي معي ، ثم أنظر إليها ، فيتمثل لي الناظر بقامته الطويلة ، وطريقته الهادئة وهو يقول للتلاميذ : " صفقوا له ... هايل يا جابر ... يا برنجي ... يا ألفة الفصل " .

وقضيت في المدرسة الإلزامية ثلاث سنوات ، أعتبرها من السنوات الذهبية في حياتي ، فبحمد الله عشت اللغة العربية ، واستطعت أن أتقن القراءة والكتابة ، وكان أبي يعتز بي ويقول للناس " الحمد لله ، ابني جابر بيْفك الخط " ، ومعنى فك الخط بالعامية المصرية : قدير على القراءة والكتابة .

وبدأت أحب القراءة حبا جما ، وأقرأ كل ما يقع في يدي ، وأذكر أنه كان في يدي ثلاث ورقات مكتوب فيها درس من دروس القراءة ، لم يكن مقررا علينا ، وعنوانه " الثعلب المكار ، والحلة فوق النار " ، وأثناء سيري في الشارع وأنا مشغول بقراءة الموضوع خطف ولد شقي مني هذه الورقات وجرى ، فتبعته وأنا أصرخ " حرامي ... حرامي " حتى أمسك به الناس ، واعتقدوا أنه سرق مني نقودا ، أو شيئا ثمينا ، وضحكوا حينما وجدوا أن المخطوف ورقات لا تساوي شيئا عندهم ، ولكنها تساوي عندي الكثير والكثير .

وقبل أن أودع القاريء أحب أن أذكر في إلماع الدروس التي استخلصتها من هذه الفترة :

1 ــ إن أهم عوامل نجاح المعلم في عمله هو " الحب " ، أي يجعل هذه العاطفة الإنسانية متبادلة مع تلاميذه في صدق وإيمان ، وذلك يظهر في عمله ، وطريقة معاملته للتلاميذ .

2 ــ يجب إلا يوضع في موقع التدريس إلا من كان مزودا ــ زيادة على العلم ــ بالقدرات التربوية ، لذا أقترح قبل أن يتخرج المدرس في معهده أن تكون السنة الأخيرة خالصة للتربية ، وطريقة التعامل مع التلاميذ ، حتى يعاملهم معاملة إنسانية ، ويعالج عيوبهم وأخطاءهم بحكمة دون أن يجرح شعورهم ، ويفجعهم في نفوسهم ، أو يدفعهم إلى كراهية المدرسة والتعليم ، بل الحياة ، كما رأينا في حالة التلميذ البائس " سيد " .

3 ــ يجب إلا يوضع في موضع القيادة ... أي النظارة إلا الشخصيات المشهود لها بالقدرة الحقيقية على تسيير العملية التعليمية ، وخصوصا في المرحلة الإلزامية.

تذييـل

تلقيت ببريدي الضوئي رسالة من الأستاذ محمد علي الشماع من القاهرة، وأهم ما جاء فيها : "...قرأت حلقتين من (سبعون عاما في حضن اللغة العربية) ، وسعدنا بما قرأنا ، ونتمنى أن تتواصل هذه الحلقات . وفي الحلقة الثانية (الأرضية والمهاد) كنا نتمنى أن نعرف مزيدا عن الأسرة وأصلها ، وقد عرفت من أحد أصدقائي أن في الشام أسر من آل قميحة ... " وجوابي على الأخ الفاضل :

عزيزي الأخ الحبيب السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

فقد كانت مفاجأة سارة لي أن أتلقى رسالتك الضوئية "الإلكترونية" ، وشكرًا لك على اهتمامك بالتعرف على أسرة قميحة ومحاولة التعرف على جذورها، وإليك بعض البيانات والمعلومات.

1 ـ آل قميحة يكثرون بشكل واضح في مصر، وخصوصًا الوجه البحري (دلتا النيل شمال القاهرة إلى الالتقاء بالبحر الأبيض المتوسط وبحيرة المنزلة) فمنهم نسبة عالية في محافظات الدقهلية، والشرقية والغربية بصفة خاصة.

2ـ آل قميحة لهم وجود في المغرب والجزائر والشام وفلسطين، وقد راسلني كثير منهم. ولعلك تعرف أن أشهرهم في الشام ابن عمنا السوري الدكتور مفيد محمد قميحة أستاذ الأدب والنقد بجامعة دمشق. وله عشرات من المؤلفات والتحقيقات.

3 ـ من آل قميحة حاليًا: مدرسون ومهندسون وتجار وأساتذة جامعيون ... الخ.

ولكنهم قبل منتصف القرن العشرين اشتهروا في مدينة "المنزلة دقهلية ـ مسقط رأسي وبلد آبائي وأجدادي بتجارة "الحراير" (وهي الأقمشة الحريرية الريفية، وخصوصًا الملس، والطرحة، والملاية اللف، وكلها غطاءات للملابس الخارجية للمرأة الريفية).

ثم ذوت هذه المهنة واختفت بعد أن أصبحت الريفيات يرتدين ملابس نساء المدن، وساعد على اختفاء هذه المهنة اتجاه شباب الأسرة إلى الوظائف العلمية والجامعية والإدارية والاستيراد والتصدير ... الخ.

4 ـ أصل آل قميحة وجذورهم:

كنت أسمع من أبي وأنا طفل صغير ـ أي من ستين عامًا تقريبًا أن "آل قميحة" بطن أو فخذ أو عشيرة من قبيلة "جهينة" ، وأنهم انفصلوا عن القبيلة الأم، وهاجروا ـ من بضعة قرون ـ من جزيرة العرب إلى الجانب الشرقي من مصر، ونزلوا أرضًا قريبة ـ إلى حد ما ـ من النيل، وأنشئوا منازل وأحياء وسميت هذه الأرض "منية قميحة" (وكلمة "منية" أو "منيا" يقال إن معناها باللغة القبطية: منزل أو مستقر) . وبمرور الزمن كثر عددهم ومبانيهم ومضاربهم، وأصبحت هذه المنطقة مدينة كبيرة تعرف باسم "منية القمح" ، فغير اسم "قميحة" إلى "القمح" لتسهيل النطق، علمًا بأن البلدة غير مشهورة بزراعة القمح.

5 ـ وسمعت كذلك من والدي أن واحدًا من آل قميحة اسمه: "الحديدي قميحة" كان شخصية قوية ظاهرة، فانفصل هو وأسرته وإخوته ـ وكانوا عددًا كبيرًا ـ إلى أرض جديدة تبعد عن منية قميحة بعشرات من الأميال . وأسسوا قرية سميت قرية "الإخوة" أي قرية الحديدي وإخوته، وبمرور الزمن، ومن قبيل تسهيل النطق غيرت التسمية وأصبحت "قرية الخيوة" وقد زرتها سنة 1943م، وكانت أغلب بيوتها بدائية، والقرية تشرب من بئر واحدة ، وكان فيها مقام "قبة" يقال إنه "مقام أي ضريح" ولي من أولياء الله من آل الحديدي قميحة واسمه (سيدي أبو الليل).

أما الآن فقد تقدمت القرية في كل مظاهر الحياة، وما زال فيها نسبة عالية جدًّا من "آل الحديدي". ومن أكبر الأسر هناك أسرة " أبو خليل " ،وقد عرفت منها الشقيقين إبراهيم عبده .

وكان لي أخت تزوجت من أحد تجار هذه أسرة الحديدي ، واسمه محمد محمد الحديدي (سنة 1943م) ، ولكن الزواج لم يستمر طويلاً، فقد توفاها الله بعد الزواج بعامين دون أن تنجب.

هذا والمعلومات السابقة سمعتها من والدي ، نقلاً عن أبيه وجده وبعض أعمامه في أواخر القرن التاسع عشر، ولا شك أنها إن لم تكن صحيحة تمامًا، فهي لا تخلو من الصحة والصدق . وأذكر أنني قرأت بعض المعلومات عن آل قميحة في كتب قديمة مثل: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" ليوسف بن تغري بردي، وكتاب : "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" للمقريزي . وغيرها، ولكن الذاكرة لا تسعفني الآن.

ومع هذا المكتوب ثبت بسيرتي الذاتية، ثم أسأل هل يمكن مراسلتك بالبريد العادي، حتى أرسل إليك بعض كتبي؟ وما هو عنوانك؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر:رابطة أدباء الشام