صخرة المحبة المزيفة
يقيننا أن هناك دراسات اجتماعية ونفسية وتاريخية كثيرة خاصة بالإنسان الأمريكي ومجتمعه وكيفية تشكيله ومكونات تفكيره ومناهج سلوكه وقيم حياته من الصعب علينا الإحاطة بها لعدم الاختصاص أولا .. ثم لمزاحمة همومنا المتراكمة ثانيا .. وثالثا وليس آخرا لأننا لا نملك الآلية العلمية التي يمكن أن تحكم على هذه الدراسات بالقبول أو عدم القبول أو بصوابها من عدمه ..، ومع ذلك فإن المتابعة التي تكاد أن تكون عادة يومية لكل البشر لما يحدث في الولايات المتحدة بحكم أنها تتربع على عرش العالم من بعد الحرب العالمية حتى وفي وجود منافسون أقوياء كالاتحاد السوفييتي وصين ماوتسيتونغ ونهجه قد أفسحت لهذا الكيان مكانا كبيرا وأثرا تلخص في أن أمريكا هي الشريك الأساس في حياة الشعوب .. في منامهم ويقظتهم بعد أن أصبحت كذلك في قصور الحكام والفعل الواضح في العالم.
هذا الأسبوع ومع خبر بسيط تجاوزه الإعلام العالمي ربما لما هو أهم بمقاييس الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ينكشف مستور كبير، هذا الخبر يقول أن المسؤولين في متحف مدينة أمستردام عاصمة البلد الأوروبي الحليف للولايات المتحدة هولندا، هؤلاء المسؤولون اكتشفوا بعد أكثر من عقدين من الزمان أن الصخرة التي أهداها الرئيس الأمريكي الأسبق ريغن لرئيس الوزراء الهولندي الأسبق على أساس أنها من صخور القمر التي عادت بها البعثة الأمريكية إليه عام 1969م، هي صخرة أرضية حجرية مزيفة عملت وكالة الفضاء الأمريكية بعلمائها على تزييفها مع قطع أخرى مماثلة بلغت المائة تم إهداؤها لرؤساء دول حليفة وصديقة عندما قاموا بزيارات للبيت الأبيض كدليل من الإدارة الأمريكية على الإنجاز ورمزا للصداقة بين الحلفاء المتحابين.
الخبر ليس سهلا بالتأكيد إذ أنه يفتح ملفا حرصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على إغلاقه، وحرص الحلفاء المتحابون أيضا على عدم الحديث عنه، هذا الملف هو سياسة أو قل استراتيجية هذه الإدارات في الحكم وإدارة شؤون بلادها داخليا وخارجيا، فالمعلوم في مسألة الفضاء أن الاتحاد السوفييتي كان الأسبق في اقتحامه برحلة جاجارين الشهيرة ثم دوران الكلبة لايكا حول الأرض التي تمت في أواخر خمسينيات القرن الماضي واعتبرها الناس إعجازا علميا حتى أن بعض الشعراء صاغوا لرحلتها شعرا وأدبا له جوائز ومنتديات وميداليات ..، ولم يطل الأمر بلايكا المغلوبة على أمرها وإذا بالعالم يقف مشدوها أمام الغزو الأمريكي للقمر وهو يشاهد الرواد الأمريكيين وطريقة سيرهم في ظل انعدام الجاذبية وتثبيتهم لعلم بلادهم على أرضه .. ثم العودة الميمونة التي حبس الناس في العالم كلهم معها أنفاسهم بأكثر مما حدث مع لايكا، وعبثا حاول الخصم العنيد البائد (الاتحاد السوفييتي) إخبار الناس أنه فيلم هوليودي لخداع الشعب الأمريكي وشعوب العالم وإبهارهم بهذه الصورة التي تم تناقلها إلى أن تتمكن وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) من إتمام استعدادها وحتى لا يشعر دافعوا الضرائب في الولايات المتحدة أن حجم الإنفاق الهائل عليها قد ذهب هدرا مما أعطى الأسبقية للعدو الرئيس في هذا السباق، وظلت هذه القناعة قائمة (لدى شعوبنا وعموم الشعب الأمريكي على الأقل) إلى أن جاء إعلان هذا الأسبوع ليعيد الأمر مرة أخرى إلى الواجهة عن طريق الصخرة الأرضية التي تم تزييفها وتم إهداؤها بشكل رسمي لقادة العالم وليس عن طريق تجار آثار ممن اعتادوا بيع الزائف منها للسذج من عامة الناس.
وعودة إلى الاتهام بالهوليودية التي تبهر البشر بتقنياتها التي تقدمت فيها الولايات المتحدة .. فقبل موضوع تزييف الصخرة وفي عهد نفس الرئيس ريغن عاش العالم فترة من أشد فترات القلق مع ذروة السباق على التسلح وتكريس التحالفات والتحالفات المضادة عندما أعلنت الإدارة الأمريكية عن امتلاكها لأنواع من الصواريخ العابرة للقارات وإجراء تجارب عليها فظهرت صورها ورأى الناس في هذا الصور قوة تدميرية هائلة مع قدرة على اختراق أي وسائل دفاعية، والتهبت معها أيضا ساحات الأعداء الألداء وقتها الاتحاد السوفييتي والصين واتجهت جهودهما وميزانياتهما المرهقة للحاق بالتطور الأمريكي المخيف مما أثر سلبا على باقي قطاعات كل دولة منهما وخصوصا قطاعات الخدمات ودخلت شعوبهما في أزمات معيشية خانقة كانت سببا رئيسا في سرعة التغيير خصوصا في الاتحاد السوفييتي .. ثم ظهر بعد سنوات طويلة أن الأمر كله أيضا كان فيلما سينمائيا هوليوديا خدع الناس وأخضعهم لتنفرد بعد ذلك الولايات المتحدة بالعالم عسكرة واقتصادا وامتلاكا للإرادات.
عودة إلى الخلف عن طريق (Flashback) الهوليودية وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن الآن فما زال تسريب موضوع الأطباق الطائرة والرواد الذين جاءوا من كواكب أخرى خارج الأرض والتقاء مندوبيهم بالرئيس الأمريكي الأسبق الجنرال إيزنهاور وإجراء محادثات واتفاقات معهم .. ما زال هذا الموضوع يشغل بعض المهتمين بسبب طريقة التعامل الأمريكي معه وتصويره على أنه من أكبر أسرار الدولة التي يتم تسليمها لكل رئيس جديد على التوالي وبنفس الأهمية التي يتم بها تسليمه الأسرار النووية وطريقة التحكم فيها .. والناس مشغولون بالأمر أحقيقة هو أم خيال هوليودي أيضا؟ .. وكيف تم ترتيب اللقاء بالرئيس الذي من المُوحَى به من القصة أنه تحدث معهم بالأمريكية باعتبارها اللغة الكونية وليس بلغة شيكسبير أو اللغة العامية الإنجليزية، ومع كل ذلك فإن قراءة السياقات التاريخية السابقة تقول أن القصة كلها سواءً كانت حقيقة أو خيال هي إحدى وسائل السيطرة الأمريكية على المحبين والحلفاء قبل غيرهم وقبل الشعب الأمريكي نفسه.
وفي سنواتنا المعاشة ومع الأزمة الاقتصادية التي فتح أبوابها حجم الخداع الضخم الذي قامت به البنوك وبيوت المال والشركات الأمريكية، وأزمة نتائج الكذب حول أسلحة الدمار الشامل العراقية التي تم إخراجها هوليوديا أيضا وعرضها وزير الخارجية الأسبق الجنرال كولين باول على العالم من منصة الأمم المتحدة، ومع أزمة أفغانستان والأشباح التي يواجهها الحلفاء هناك دون القدرة على الإمساك بها، فإن الأمور تهون أمام مشهد أشد إبهارا وتأثيرا وهو مصادفة (!!) تصوير الهجوم المؤسف على الأبراج في 11-9-2001م ثم متابعة تصوير بعض الضحايا الأبرياء وهم يلقون بأنفسهم من هذه الأبراج مع خاتمة تظهر الهول والفزع الذي انتاب الناجين الخارجين منها وقد غطاهم سواد الرماد بخلفية النار المشتعلة من التفجيرات، وأدى إذاعتها على الهواء مباشرة في كل الدنيا الأثر المطلوب إيجاده أمريكيا .. والذي تم بعده إدخال العالم في الأزمة المعاشة التي يحس بلهيبها كل الناس.
الأمر هو أمر الولايات المتحدة وشعبها وثقافته ومكونات تفكيره ومناهج سلوكه وقيم حياته التي أصبح من حق كل الناس المشاركة فيها باعتبارها الحضارة التي سادت منذ نصف قرن وما زالت تسود وتعطي فعلها وأثرها على الناس.
وعودة إلى حضارتنا نحن وفي تراثنا العلمي التاريخي أن أحد جامعي أحاديث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سمع عن حديث يرويه شخص يسكن في الحجاز فسافر إليه من الكوفة حيث يقيم في رحلة قضى فيها أياما وأسابيع وسأل عنه فدله الناس على مكانه فأسرع للقائه ليشفي غليله بعد هذه الرحلة المضنية الشاقة فرآه من بعيد وهو يحاول أن يقّرب منه حماره فأخذ يصلصل له بحجارة في حجره غاشا للحمار وخادعا له موهما إياه أنها طعام .. فارتد الباحث جامع الحديث راجعا دون أن يلتقيه أو يسأله ناطقا بقاعدة حضارية رائعة قائلا فيها: من يغشّ حماره .. يغش في حديثه.
هذا كان في زمان حضارتنا .. أما المحدثين فإننا نهديهم قاعدة حضارية جديدة قياسا على القاعدة القديمة تقول: أن صخرة المَحَبَةِ .. فالصو.