غزة والحصار.. قصف على الحوار
غزة والحصار.. قصف على الحوار
فشلت الجولة الأخيرة التي دعت لها القاهرة مجددا لاستئناف الحوار بين الفصائل الفلسطينية قبل نهاية مارس /آذار المنصرم، بعد توقف خلقته قوى الضغط المتحالفة مع تل أبيب في الداخل الفلسطيني أو خارجه بعد إيمانهم بأن البرنامج الضخم الذي أعد لحرب غزة الثانية والذي هُيئ سياسيا لحصار حماس وغزة وقمع الضفة، لم يخلص بنتيجة كافية للمحور الإسرائيلي، وعليه تم إعداد هذا التوقف لاتخاذ موقف جديد أو مسار آخر أو القبول بحصيلة الهزيمة سياسيا.
وسطاء وشركاء ميزان مختل
ومنذ بدء جولة الحوار الأولى، كان المشهد معبرا في تراجيديا عميقة من الصعب أن تُستوعب لأي حالة نفسية، وإن كان عالم السياسة الجديد الذي يؤسس لهزيمة غزة يحمل استثناء دائما لمحاصرة الضحية بعد أن انتزعت الشرعية مجددا، وبرزت على السطح كممثل بعمقها الشامل للداخل الفلسطيني والشتات من خلال من قاد هذه المعركة وتلقى التضامن والصعود من أبناء الشعب، وهي هنا حماس مع حلفائها من الفصائل.
فبمجرد أن تُقلب صور المشهد ويستذكر التاريخ الذي لم تُطو صحفه بعد، فإن عرّاب الوسطاء اللواء عمر سليمان هو من يقود مشهد إدارة هذا الحوار، والمسافة الزمنية القصيرة لما نسب له من مطالبة بضرورة تأديب حماس قبل الحرب على غزة ما تزال حاضرة في أذهان الضمير العربي والعالمي، بمعنى أن دماء الشهداء من أطفال بعلوشة وغيرهم كان حاضرا في قلب المسرح، ولكن من خلال القاتل أو شريكه المباشر.
ومع ذلك فقد كانت كلمة رئيس المخابرات في نظام الرئيس مبارك تُصر على خرق أبجديات الاحترام الأساسية، وأصر على تسجيل موقف وقح بالتعبير السياسي أو الإنساني حين ألمح إلى علاقة الطرف الإقليمي وضرورة الخروج عنه، بعد ساعات فقط من تأكيدات مباشرة من القائد التاريخي للحركة الإسلامية د. محمود الزهار، أعادت التذكير بموقف الحركة المستقل والرافض لدخول المحاور، ولكنه يقبل التقاطعات للضرورة حين يكون العداء في وحشية الحرب بحجم ما جرى في غزة.
في كل الأحول، الخلاصة أن هذه الوساطة هي في الأصل شراكة مباشرة مستمرة في حرب الحصار خاصة من خلال تفعيل الضغط على آلاف المنازل المُهدّمة في القطاع، وتشديد الحصار على أي مواد تدخل للترميم، واللعب المتكرر بورقة إعادة الإعمار والتهديد بها.
هذا التواطؤ الدولي والإقليمي العربي الجديد في قضية الحصار ورفع التغطية الإعلامية عبره، إنما يخفي في الحقيقة حجم جرائم الحرب المستمرة على أهل غزة من خلال هذا الحصار على الغذاء ومواد البناء والإعاشة الضرورية, وما نعنيه تحديدا هو أن الأصل الذي لا خلاف عليه قانونيا أو من خلال أبجديات الضمير الإنساني السوي أن ما شهد به العالم بمن فيهم مسؤولون دوليون وأمميون وغيرهم من جريمة الحرب في غزة وفي أصل المعالجة لها على الصعيد الإنساني, يجب ألا تخضع كُلياً لحسابات أخرى بل تدخل فورا لإغاثة المنكوبين دون تسييس على حساب الضحايا وأهالي الشهداء والجرحى.
ومع أن حماس بادرت فورا بموافقتها على أن تتولّى الجهات الراعية للإعمار ذلك دون تسييس ولا تدخل منها بشرط طبيعي ألا تُحول قضية الإعمار إلى حكومة ثانية يديرها الاحتلال من الداخل, وسحبت حماس بموافقتها هذه كل محاولات الخصوم المتحالفين مع تل أبيب من التذرع بتدخل حماس، إلاّ أن المسار لم يتغير لماذا؟
مشروع سياسي لتل أبيب
كان من الواضح مبكرا صدمة الهزيمة الإسرائيلية في غزة رغم كل قواميس الإرهاب التي استخدمت ضد الإنسان الفلسطيني، إلاّ أنّ شركاء تل أبيب عملوا مبكرا على أن يكون توقف الحرب من خلال برنامج يبدأ فورا بتحقيق حلم رام الله الإسرائيلي من خلال المشروع البديل، وهو ما تبين بعد عدة أسابيع من وقف إطلاق النار استحالته.
لذا بدأت اللعبة من جديد لمحاولة تحويل قضية الإعمار لحصار أو جسر داخلي لتطويق غزة وتطويعها، أو بالأحرى إرغام حماس على العودة إلى ما قبل الحركة التصحيحية في يونيو/ حزيران 2007، والهدف من ذلك استئناف الرعاية الضخمة لتفويج الحالة الأمنية المناسبة لإسرائيل مرة أخرى، ومن ثم استئناف الدوران حول مشاريع السلام التي باتت أسلحة تستخدمها واشنطن وتل أبيب، ولكن من خلال فريق فلسطيني داخلي لإشغال الرأي العام العربي عن حرب الابتلاع والتطويق الكبرى للقدس وتمزيق الضفة والتفاهم مجددا على ما تبقى.
صمود حماس أم صمود القضية؟
ولذا فإن مسار الحرب العسكرية والسياسية من خلال التأمل الدقيق والهادئ يكشف أنّ القضية ليست في تنازل حماس عن حصص في الحكومة المستحقة لها تشريعيا، ولكنه شروط تُلغي كليا التقدم الكبير والنجاح الذي حققه المشروع التحرري الفلسطيني مؤخرا ومن خلال قيادة حماس المركزية للشعب الفلسطيني, هنا تُفهم مسارات الضغوط وإعادة التنسيق والخنق للضفة وغزة معاً.
وبناء ًعلى هذه الحالة الاستثنائية من تاريخ الشعوب النضالية وحركات التحرر الوطني والتي لم يوجد لها مثيل من خلال أنّ الخنق من العمق القومي، وهو هنا العربي ممثلا بنظام الرئيس مبارك وأطراف الدعم العربي الرسمي له, فإن تعامل حماس هو ضرورة مبررة لها في مواجهة هذا النوع من الحلفاء الخصوم وما تنتهي لها خياراتها يجمع بين الخروج من دائرة الخنق والتمسك بقواعد المحافظة على توازن تتحقق من الثوابت وليس من الصور والوسائل.
مع الأخذ في الحسبان أن عودة الأمور إلى ما قبل الحركة التصحيحية تعني أن تل أبيب ربحت حرب غزة، ولهذا كان تأكيد حماس على رفض هذا المشروع سواء سوّق فلسطينيا أو عربيا أو دوليا ومن خلال صيغ الإعمار أو خطابات الوحدة الكاذبة التي تخفي وراءها برنامج أمني ضخم سيخضع الأجهزة الأمنية نفسها التي تحكم رام الله إلى إدارة جديدة بيد ليبرمان أو نتنياهو, وهذا الأنموذج كان بارزاً من خلال حصار الضفة داخليا لأجل تأمين الحالة العسكرية لتل أبيب خلال العدوان، ولذا فإن حماس قد حسمت القضية، وبدأت هذه الأطراف تتفهم ذلك ليس رغبة أو تعاطفا مع الشعب ولكن الخضوع لمجريات التغيير التي قادها الشعب من خلال حماس.
الوقت يخنق المُحاصِرين
وبلا أدنى شك في أن القهر العدواني البغيض الذي لا يزال يمارس على غزة وتشديد الحصار هو حالة أخرى من الإرهاب غير المعتاد في التاريخ المعاصر، وبالذات بعد ما آفاق عليه العالم عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وإن كررت واشنطن مشاهد منه ووسائل في حرب الاحتلال لأفغانستان والعراق, غير أن استمرار اضطراب المشهد الدولي وتداخل تقاطعاته في العهد الجديد للعلاقة بين طهران وكابل إضافة إلى تعمق الأزمات في مواجهة الرئيس أوباما وقلق الجميع وترددهم من مستقبل الحرب الجديدة على أفغانستان مع ضغوط أخرى تَعوق بشدة عودة القدرة لواشنطن كقوة عالمية مهيمنة لبروز شركاء جدد, هذه الحالة تجعل من مصير غزة وتعليق بند الإعمار وتشديد الحصار من جديد ثقلا كبيرا على التحالف الدولي العربي المعادي لحماس وللقضية التحررية للشعب الفلسطيني وعمقها العربي الإسلامي.
ما ذكرناه من اضطراب الحالة الدولية ورغبتها بتسوية قضية غزّة ولو كان ذلك بالاعتراف ببعض المكاسب لحركة حماس، له شواهد عديدة الأيام الأخيرة خاصة من جانب الراعي الدولي, وإن كانت بعض المجموعات الفلسطينية المتحالفة مع تل أبيب لا تتمنى ذلك، لكن الأمر كان دائما مرتبطا برعاتهم، ومن الصعب على الكومبارس الذي يحمل من الكراهية لأهل غزة ومن يتضامن معهم ما تعجز عن تصوره ثقافة الشعوب أن يغير المعادلة.
ولكن هذا لا يمنع أنّ حماس قد أعدت نفسها لالتقاط هذه الحالة لتخفيف وإنقاذ الحالة الإنسانية للشعب مع وجود نجاحات تكفل بأن تستثمر مستقبلا لاستئناف حركة المشروع التحرري الفلسطيني وعمقه العربي الإسلامي, هذا المشروع الذي أصبح قائما على الأرض وفي صدارة التفكير العربي واهتماماته بعد أن أنهكته مشاريع التسوية لفريق أوسلو.
جورج غالوي.. هل يكفي؟
إنّ إعادة السؤال الضروري الآن يتوجه عن الدور الشعبي للدعم الإنساني والسياسي للقضية إجمالا وقضية القدس وضرورات فك الحصار عن غزة، ولماذا غابت بعض الفعاليات التي يجب أن تستأنف, وأمام هذا المشهد من التقصير العربي الشعبي يبرز لنا أنموذج خارج الصورة المعتادة كليا لنصير فلسطين والقضية العربية تمثل بالنائب البريطاني جورج غالوي.
فأسلوب مبادرته وتجديده ونجاحه في حشد الدعم المتنوع والضغط ومن ثم قبول التسوية لإدخال المعونات التي كانت الأفضل في الوصول إلى سكان غزة, ومن هنا فإن العمل العربي الإنساني لن يعدم وسائل ضغط وتفعيل حركة خرق الحصار العدواني على غزة.
وبقيت رسالة تعطي دلالة كبيرة عن معنى أن نتواصل مع المجتمع المدني الغربي الصريح والقوي في مساندته، وضرورات أن يصل إليه الرد الايجابي، وليت تلك الجماعات التي تمارس العنف على المجتمع الغربي والتفجير داخله تدرك معنى أن تُثمن هذه الخطوات وكيف تتحول رصيدا لمصلحة الشعب المحاصر وقضيته مع تطور خطاب الاحتجاج الغربي الرافض للإرهاب الأميركي والأوروبي, نعم إنه ليس كل المجتمع، ولكنه حراك ظاهر متزايد، وفقه السيرة النبوية لو توقف عندها العقلاء لوجدوا كيف يُستثمر هذا الأمر في العلاقات الإنسانية للأمة ويُحفظ لذوي المروءات ولو كانوا من غير المسلمين بل ويزاد لهم في عهودهم.. لعل الرسالة وصلت؟
وفي نهاية المطاف فإن غزة أعيت خصومها، وهي بكل تأكيد تدخل مدراً جديداً لم يعد بالإمكان أن يعود فيه الزمن للوراء إلاّ لغرض واحد.. إنها التحيةً لذكرى أحمد ياسين القائد.