كلمة الأستاذ "محمد هلال" في عزاء المستشار "الهضيبي"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدِ الخلقِ أجمعين.. سيِدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
فيا أيها الإخوة الأحباب، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران: 185).
قضاءُ الله لا يُرد، وقدرُه نافذ لا يوقفُ ولا يؤجلُ، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾ (الرحمن: 26- 27).
رحم اللهُ فقيدَ الدعوة والإسلام، الأخ المستشار " محمد المأمون الهضيبي "- المرشد العام للإخوان المسلمين - رحمةً واسعةً، وأنزله منازل الأبرارِ والصديقين والشهداء والصالحين، وحُسنَ أولئك رفيقًا.
لقد عدتُ من توديعه إلى مثواه الأخير، ولا أكادُ أصدقُ، يا سبحان الله!! ما أسرعَ ما يُطْوى العُمُر؟ وما أعجلَ ما تنقضي الأيام؟ كأنها أوراقُ الخريف عصفت بها الرياحُ! وهل الحياةُ إلا لحظاتٌ محدودةٌ؟ وأنفاسٌ معدودةٌ؟ تغرُّ الناظرين إليها في ساعة إقبالها، فإذا أدْبرت فكأنَّما هى حِلم من الأحلام؛ وإنما الدوامُ والبقاءُ لمن له البقاءُ والدوامُ، وصدق الله العظيم: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص: 88).
أيها الإخوة الأحباب:
إن فَرْقًا شاسعًا يبدو لكل ذي بصيرة بين من يقطع دربَ الحياةِ، والدعوةُ إلى الله في تقديره من النوافل، وبين من يقطعه والدعوة عنده أغلى من روحه وولده وماله والناس أجمعين، فهي تعيش في كيانه كله، بعد أن ربط مصيره ومستقبله بها، وفقيدنا هنيئًا له، فلقد كان- والحمد لله- من هذا النوع، عاش كل لحظة من حياته، ومن يوم أن عرف هذا الطريق لهذه الدعوة وحدها.
وفقيدنا- يرحمه الله- كان من الذين ربط الله على قلوبهم وثبَّتهُم، كان من الذين قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ (آل عمران: 173- 174).
إننا حين نودع فقيدنا نَذْكرُ إخوانَه، الذين صبروا واحتسبوا وجاهدوا بقول الله- عز وجل: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142)، كما نذكرهم بقوله سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31).
يا فقيد الإسلام ، لقد لقيت ربك راضيًا مرضيًّا عنك- إن شاء الله- لقيته وأنت تحمل أشرف أمانة، وأعظم رسالة عرفها الوجود، لقيته وأنت تُقدِّر التبعة، وتمضي إلى الغاية، ولم تلتفت يومًا إلى ثمرة تتعجلُ قطافها، أو تنتظرُ عطاءً من مخلوق، عشْت سلوكًا يتحرك على بصيرة.
ليت شعري!! أي نعمة هذه التي لقيْت ربَّك عليها؟! وأي خاتمة تلك التي ختمْت بها حياتك؟! وأي كرامة وأي وسام هو ذلك الوسام الذي شرفك مولاك به؟! إن أجرك هناك إن شاء الله.. ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ (القمر: 55)، هناك.. ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ (مريم: 85).. إنه عطاءُ من لا تفنى خزائنه.. ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء: 20).
إن هذا التكريم الإلهي، والعطاء الرباني، لا يكون إلا للصفوة، الذين عبدوا ربَّهم بالدعوة إليه، والجهاد في سبيله، والذود عن حياضه، أولئك الذين عاهدوا فوفُّوا، وائْتُمِنوا فلم يخونوا ولم يفرطوا، لم يخدعهم متاعٌ أو زخرفٌ عاجلٌ، ولم يرهبهم سلطانُ الباطل، وكان سلوُكُهم- وما يزال- صورةً رائعةً لكل الحقائق الإيمانية؛ حتى رسموا- بجهادهم وتضحياتهم- معالمَ طريق كامل: ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الحديد: 29).
ومن رحمات الله- عز وجل- بأمته أن جهاد ( الإخوان المسلمين ) لا يتوقف أبدًا- بإذن الله- فهو مستمر ومتجدد، ولود ومعطاء، وأي رحمة أعظم من تسخير الله- عز وجل- في كل عصر لهذا الدين قلوبًا غمرها الإيمان، وعزائمَ لا تعرف الاستكانة، ولا الذلَّ ولا الهوان، فلا محاباة لأحد على حساب الحق، ولا أنصاف حلول، ولا تمييع لموقف من المواقف، ولا تغيير ولا تبديل، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).
لقد اُبتُلِي بشتَّى المِحَن في نفسه وأهله وماله ومستقبله، فما صرفه ذلك كلُّه عن دعوة الحق، وعن طريق الإسلام لحظة.. لقد خرج من هذه المحن، وهو أقوى إيمانًا، وأصلب عودًا، وأنقى نفسًا، وأقوى عزيمةً، وأقدر على مواجهة المواقف، فعاش مع إخوانه إلى آخر لحظة من عمره، وآخر نفس يتردد في صدره، ما كان أسخاه بنفسه وروحه!! لقد جاد بنفسه وروحه في سبيل دعوته.
أيها الإخوة الأحباب:
لقد كان في مواقف جماعة الإخوان المسلمين، وتجردهم وصبرِهم، ومقابلة الأذى بالصفح- والافتراءات بالصبر والعفو والاحتساب- عبرةٌ لمن يعادونهم، ودليلٌ على أنهم لا يبغون إلا مصلحة هذه الأمة، ومستقبل هذه الأوطان الضائعة المغلوبة على أمرها، ولو تعقَّل هؤلاء لكان في ذلك الخير لهم وللناس، وإلا فسُنَّةُ الله ماضيةٌ، وقَدَرُه غالبٌ، على أن البقاء للأصلح، والفلاحَ للحق وحده.
من حقنا في هذا الموقف- وفى غيره- أن نتساءل، وأن نجد الإجابة المقنعة.. لماذا لا يجد دعاة الإسلام وحملة منهج الإصلاح مجالاً لنشر دعوتهم وتبليغ أفكارهم؟! لماذا يُضيَّق عليهم في الزمان والمكان، وهذه مواقفهم على امتداد أكثر من خمسين عامًا خلت؟! وهل يعتقد من تسبب في هذا أن الله- عز وجل- سيتركه ولا يحاسبه؟!
لقد كان أستاذنا الراحل قدوةً في عمق الصلة بالله، والحب لإخوانه، والالتزام بثوابت دعوته، والحرص على مصالح بلادنا وأوطاننا، والمعايشة الحية لقضايا العالم الإسلامى وآماله وهمومه على امتداد ساحاته..
ولقد كان ذلك هو طريق ( الإخوان )، منذ أسسها الإمام الشهيد " حسن البنا "- رحمه الله- فما حادوا عنه، وما غيَّروا ولا بدلوا، فكان الراحل الجليل استمرارًا لمسيرة الجماعة المجاهدة على مدار تاريخها.. لقد جاء رحيل المستشار "الهضيبي" تعبيرًا صادقًا عن عواطف جماهير أمتنا، التي تلتف حول دعوة الإسلام والدعاة إلى الله..
إن هذه الألوف التي توافدت لتشيِّع فقيدنا إلى مثواه- رغم ضيق الوقت بين الإعلان عن الوفاة وموعد الجنازة- وتلك الألوف التي لم يمكنها الحضور، وعبرت عن مشاعرها بشتى طرق التعبير، لَتؤكد عمق تواجد ( الإخوان المسلمين ) على ساحتنا الوطنية والإسلامية..
وإن الشرعية الحقيقية التي يستمدها ( الإخوان ) من صحيح الالتزام بدينهم لتؤكدها محبة الجماهير وولاؤها، والتزامها الذي كان موضع التقدير والاحترام.. وإن استمرار تجاهل هذه الحقيقة خصم من الرصيد الوطني والإسلامي، وليس في صالح الأمة في هذه الفترة العصيبة من تاريخها، التي تكالب فيها أعداؤها عليها بالمكر والكيد والحرب المكشوفة بلا خفاء.
أيها الإخوة الأحباب:
إن من نافلة القول التأكيد على أن دعوتنا دعوة الله تعالى، التي يصونها برعايته ويكلؤها بعينه: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحج: 38).. وإننا على ثقة من سلامة بنائنا وقوة صفِّنا، وإذا كان يحلو للبعض أن يتحدث عن وجود جيلين متنافسين في الجماعة، من يسمونه بجيل الشيوخ، وجيل الشباب.. فإننا نقول لهم: إن دعوتنا تضم في صفوفها أجيالاً عديدة، لا جيلين فحسب، يحوطهم الحب في الله والصلة به: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ (ص: 88).
لقد كانت دعوة ( الإخوان ) دائمًا دعوة حب للناس وحرص عليهم، ومن هذا المنطلق نمد أيدينا للناس جميعًا لنلتقي على كلمة سواء، تستهدف مصلحة بلادنا في ظرف تاريخي يستوجب تكاتف الجهود وتضافر القوى..
وإننا على ثقة من نصر الله ووعده بالتمكين والظفر: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55)، وهي قولة المؤمنين دائمًا: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44).
رحم الله فقيدنا، وألهمنا الصبر، وربط على قلوبنا، وقلوب أهله وذويه وأبنائه، إن القلب ليَحْزَن، وإن العين لَتَدْمع، ولا نقول إلا ما يُرضي الله، فـ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
واللهَ أسألُ أن يُسكِنَ إمامَنا الشهيد " حسن البنا "، وإمامنا الصابر المحتسب " حسن الهضيبي "، وإمامنا المجاهد العظيم " عمر التلمساني "، وإمامنا القوي الوفي للدعوة " محمد حامد أبو النصر "، وإمامنا الداعية المربي " مصطفى مشهور "، وإمامنا العالم الفقيه، القوي في الحق، المستشار " محمد المأمون الهضيبي "، وجميع شهداء ( الإخوان )- فردوسه الأعلى.
اللهم لا تفتنَّا بعدهم، ولا تحرمنا أجرهم، واغفر اللهم لنا ولهم، اللهم آمين، وآخر دعوانا أن ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
المصدر
- بيان:كلمة الأستاذ "محمد هلال" في عزاء المستشار "الهضيبي"إخوان أون لاين