مصر تنتخب وتتحول

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مصر تنتخب وتتحول
21-01-2006
د.عصام العريان.jpg

قلق مفهوم ومخاوف ستُبدَّد

تأخر الإصلاح في مصر طويلاً، وعندما بدت بشائره في الأفق غمر البعضَ قلقٌ، وملأت نفوسَهم مخاوف مشروعةٌ ومفهومةٌ أسبابُها، إلا أنها- في نظري- يجب ألا تعوق انطلاق مسيرة الإصلاح من أجل استكمالها، وأعتقد أنها ستبدَّد مثل السحاب عندما تشرق شمس الحرية والإصلاح.

ما يحدث في مصر اليوم وَقَع وتكرَّر في بلاد أخرى كثيرة عندما واجهت نفسَ الظروف، وما حديث التحولات الكبرى في تاريخ الأمم عنا ببعيدٍ، بريطانيا وأمريكا وفرنسا وروسيا ثم الصين واليابان والهند، الذي نريده نحن الإخوان المسلمين منذ ثلاثة أرباع القرن أن يتم التحول والتغيير بطريقةٍ متدرجةٍ وسلميةٍ، وبأكبر قدرٍ من الهدوء والسلاسة؛ من أجل إيجاد بيئة نفسية وثقافية وفكرية ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) وهذه سنةٌ كونيةٌ إلهية، وعندما تتحقق هذه الظروف سنحقق ما نرجوه لبلادنا ومنطقتنا من نهضة كبرى، نبنيها على أساس الإسلام العظيم حضارةً وثقافةً.

كل المواطنين- مسلمين ومسيحيين- شاركوا منذ قرون في بناء نهضات سابقة في تاريخنا الوسيط، هذه النهضة ستعيد ازدهار الحضارة العربية الإسلامية حضارةً تستظل بالإيمان بالله واليوم الآخر، حضارةً تعيد للإنسان توازنه النفسي وتحقق له ذاته الضائعة، وتعيد بناء مكانته في الكون الفسيح كمخلوق كرَّمه الله تعالى وسخَّر له كل المخلوقات، وأسجد له ملائكته المقربين.. هذه الحضارة سبق لها أن سادت الدنيا قرابة ألف عام، شارك فيها كل الأقوام من المحيط إلى المحيط، عربًا وفرسًا، تركًا وكردًا، زنوجًا وبربرًا.. هذه النهضة وتلك الحضارة تمزج بين حاجات الإنسان المادية والقيم الروحية والأخلاقية التي يؤمن بها، تمارَس فيها السياسة على أسس أخلاقية.

مصر اليوم تبدأ مرحلةً جديدةً من تاريخها، تؤسس لشرعية جديدة بعد أن تآكلت الشرعيات السابقة، سواءٌ شرعية ثورة يوليو أو شرعية حرب أكتوبر، شرعيةٍ تقوم على احترام ثقافة الشعب وعقيدته والرضوخ والنزول على إرادته، أي ما تسميه الأدبيات السياسية بالديمقراطية والدستورية.

ومصر قادرةٌ- بإذن الله تعالى- على اجتياز هذه الفترة القلقة من فترات التحول، ومقاومة الاستبداد السياسي والفساد المالي والإداري والتخلُّف العملي والتقني والانحطاط الأخلاقي والقيمي الذي تسبب فيه ركودُ الحياة العامة طوال العقود الماضية.

بل إن مصر ستكون في المستقبل القريب أقدرَ- إن شاء الله- على قيادة قاطرة التحول في المنطقة كلها لإعادة الاعتبار إلى معنى العروبة، وإحياء أمل وحدة العرب على أسسٍ شعبيةٍ سلميةٍ بطرق ديمقراطية، وعندئذ في الأمد المنظور سيصبح العرب أملاً في بعث الأمل في جمع شمل الأمة الإسلامية، وإعادة إحياء الكيان الدولي للأمة الإسلامية؛ كي تتبوَّأ مكانتها بين أمم الأرض وتساهم في بناء الحضارة الإنسانية العالمية لإحداث توازن في عالم العولمة المتوحشة جنبًا إلى جنب مع أمم الدنيا في الصين والهند والغرب وأمريكا اللاتينية.

هذه الآمال العريضة والأحلام الكبيرة تستوجب المزيدَ من القلق وتبديد الكثير من المخاوف لدى العالم، قد يراها البعض أحلامًا مستحيلةً، ولكنَّ حقائق اليوم أحلام الأمس وأحلام اليوم هي حقائق الغد.

أتصور أننا بدأنا متأخرين، وانطلقنا من النقطة الخطأ؛ حيث كان من المفترَض أن نبدأ بالحريات العامة لنرسِّخَها في المجتمع كثقافةٍ وسلوك وإجراءات وتنظيم، ثم نبني مؤسساتٍ ديمقراطيةً سليمةً في إطار دستور جديد يحافظ على هوية مصر العربية الإسلامية والقيم الأساسية للمجتمع، وبه ضمانات حقيقية للحريات العامة، ويحقق التوازن بين السلطات، ويحدد دور القوات المسلَّحة بوضوح كدرعٍ لحماية الوطن من أي عدوان خارجي، وحماية المؤسسات الدستورية من الانهيار، ويضمن استقلالاً كاملاً وتامًّا للقضاء، ثم تأتي بعد ذلك الانتخابات الدورية الشفَّافة وفق قواعدَ مستقرةٍ ليتسنَّى محاسبة الحكومات ويتم تداول السلطة بسلاسة وهدوء.

الغَريب أننا وضعنا العربة أمام الحصان، هل السبب أنه حتى الآن لا تبدو أماراتٌ واضحةٌ أن هناك إرادةً سياسيةً جازمةً لتحقيق التحول الديمقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات أم أن الاستجابة جاءت بسبب الضغوط الخارجية الشديدة والضغوط الشعبية المتزايدة بعد هذا الصيف الساخن في مصر وبعد التحولات الخطيرة التي شهدتها المنطقة العربية من حولنا، أم أن ظلال قضية التوريث تربك كل الحسابات وتبعث الشكوك الهائلة حول جدِّية المعنى في مسيرة الإصلاح إلى نهايتها؛ مما يجعل القلق يتزايد؛ حيث تسري الشائعات بأن كل ما يحدث هو ديكور مصطنَّع وطبخة أُعِدَّت سلفًا بحيث تكون الأمور تحت السيطرة؟!

المفاجأة التي زادت الارتباك ويتصور البعض أنها مصدر رئيسي للقلق على عكس الحقائق على الأرض هي النتائج التي حققها الإخوان المسلمون في المرحلة الأولى ثم الثانية من الانتخابات البرلمانية، فهل هذا هو مصدر القلق؟! أعتقد جازمًا بعكس ذلك، وأن دخول الإخوان الانتخابات ثم تحقيق هذه النتائج ليس مصدرًا للقلق، بل يجب أن يكون مصدرًا للارتياح؛ ذلك لأننا إذا كنا جادِّين في دفع مسيرة الإصلاح وتحقيق التحول الديمقراطي وبناء نهضةٍ تنمويةٍ على كل الأصعدة فلا بد من المشاركة الشعبية، ولا بد من تنافس حقيقي في المجتمع، وقد كان الإخوان روَّادًا في ذلك.

قدم الإخوان في الانتخابات أداءً جيدًا جدًّا شهد به الجميع، برنامجًا انتخابيًّا اختلف حوله الناس، وهذا حقٌّ طبيعي وأمرٌ مطلوب، ماكينة انتخابية قوية ذات أداء عالي المستوى استَخدمت أحدث الوسائل الإلكترونية.. قدرات تنظيمية جيدة الالتزام، لها أسلوب مبتكر ومتطور، وقادرة على مراجعة نفسها خلال منافسة انتخابيةٍ حامية الوطيس، وتقديم المزيد في كل مرحلة لتحقيق أفضل النتائج، وواكب ذلك كلَّه خطابٌ سياسي واجتماعي وثقافي واضح ومحدد، لا يراوغ ولا يتجمَّل، بل يعبر عن حقيقة ما يريده الإخوان، يحمِّل الشعب مسئوليةَ الإصلاح، ولا يعده بأنها السمن والعسل، ولا يقدِّم إلا رؤيةً واضحةً لأسس النهضة والإصلاح؛ حيث يفتقد الجميع القدرة على الدخول في التفاصيل بسبب الغياب المتعمَّد للأرقام والحقائق التي تحجبها الحكومة على أحسن الفروض، وقد لا تكون متوفرةً لديها على أسوأ الاحتمالات.

إذا كنا نريد أن تستمر مسيرة الإصلاح فلا بد من إرساء واحترام عدد من الأسس والقيم التي اتفقنا عليها نظريًّا، ولكننا نفاجأ بنتائجها العملية عندما تتحقق على الأرض:

أولاً: لا بد من حفز المشاركة الشعبية، وتشجيع الناس العاديين على خوض غمار السياسة والاهتمام بالشأن العام: إما تأسيسًا للأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية أو مشاركةً في الأنشطة العامة مظاهرات وندوات واحتفالات، أو تصويتًا في الانتخابات العامة والنقابية وغيرها، وهنا أتوقف عند الجدل الخاص بنسبة المشاركة في الانتخابات الحالية 2005م التي وصلت حتى الآن قرابة 25%.

إذا سلَّمنا جميعًا أن جداول الناخبين لا تعبر عن هيئة الناخبين- وهذا محل اتفاق- فإن قياس نسبة المشاركين على الأرقام الموجودة في الجداول خطأٌ كبيرٌ، فإذا حذفنا الموتى والأسماء المكررة والوهمية والقيود الجماعية، فإننا قد نصل إلى أن نسبة المشاركة تزيد على 50% وقد ترتفع إلى 60%، وهذه أول مرة لا يتم تسويد البطاقات وتقفيل الصناديق فهي نسبة حقيقية، وأتوقف أمام القيود المفروضة على تشكيل الأحزاب والجمعيات، فضلاً عن تجميد النقابات المهنية، وتأميم النقابات العمالية، وحظر الانتخابات الطلابية.

ثانيًا: لا بد من احترام الإرادة الشعبية والنزول على رغبة الشعب، واحترام ثقافته وأفكاره والقبول بالرأي المختلف، واحترام التعددية الدينية والثقافية والسياسية والفقهية، واحترام الانتخابات عقب المنافسة الشريفة.

ثالثًا: التوافق الوطني العام وبناء جسور ثقةٍ قويةٍ بين كل الفرقاء السياسيين وكافة ألوان الطيف العام في مصر على مختلف الأصعدة؛ حيث لا إقصاء ولا إلغاء لأحد، بل حوارٌ متواصلٌ، وتنسيقٌ وتعاونٌ وتحالفات وتكتلات، وتنافسٌ شريفٌ تحدده قواعد واضحة لنيل ثقة الشعب.

رابعًا: بناء دولة الحق والقانون، دولة العدل والمساواة، دولة المؤسسات القوية؛ بحيث لا يملك أحد- كائنًا من كان- أن يستبدَّ بالناس أو يمتلك السلطات جميعها في يدٍ واحدة؛ ليصبح مجسدًا للسلطة المطلقة التي تؤدي بالقطع إلى مفسدة مطلقة، فقد عانينا طوال نصف قرن من شخصنة الدولة في مصر، وآنَ الأوان لتجريد الأمور، فنحن أبناء عقائد التوحيد، فلا إله إله الله الواحد، ولا سلطة إلا للأمة فهي مصدر السلطات جميعًا.

لقد حرص الإخوان منذ الإعداد لهذه الانتخابات قبل أكثر من عام على تبديد المخاوف وإزالة القلق:

1- طرح الإخوان مبادرة الإصلاح في 3/3/2004م للنقاش العام. 2- حرص الإخوان على بناء تحالف وطني عريض؛ لأنهم أكدوا في مبادرتهم أن عبءَ الإصلاح لا يستطيع فصيلٌ واحد ولا حتى الحكومة القيامَ به منفردًا، فالتقوا بالأحزاب الرئيسة والقوى الأخرى.

3- انضم الإخوان إلى الجبهة الوطنية للإصلاح والتغيير أملاً في تجاوز ما حدث من تراشق بعد أن عزفت الأحزاب عن بناء التحالف العريض، والتقت منفردةً مع الحزب الحاكم، ورفضت الانضمام بجدِّيَّة إلى التحالف الوطني الذي أسسه الإخوان مع القوى الشعبية الأخرى، والتزم الإخوان بالتنسيق الانتخابي بعد أن أعدوا قائمتهم الانتخابية قبل الإعلان عن الجبهة بشهور، ونجح التنسيق بنسبة تزيد على 75%.

4- رشَّح الإخوان قرابة 150 مرشحًا فقط من أكثر من 250 قدَّمتهم قواعد الإخوان وأهَّلهم القسم السياسي للمنافسة القوية؛ رغبةً في إبداء حسن النية، وإفساح المجال أمام الآخرين، وحرصًا على عدم الظهور بمظهر الاستحواذ أو الساعي إلى الصدام؛ أملاً في طمأنة الجميع كي تستمر مسيرة الإصلاح.

5- أعلن الإخوان برنامجًا انتخابيًّا عامًّا، ووافقوا والتزموا بالبرنامج الذي أعلنته الجبهة للإصلاح الدستوري والسياسي، وقدَّم المرشحون برامجَ محليةً لدوائرهم ومحافظاتهم، وقام مفكِّرون بنقد هذا البرنامج، واستفاد الإخوان من نقدهم، ولخَّص الإخوان فكرتَهم وبرنامجَهم في شعار (الإسلام هو الحل) وأعلنوا بجواره عشرات الشعارات، إلا أن الانتقاد توجَّه إلى هذا الشعار فقط، وأقرَّ القضاء صلاحيته كدعاية انتخابية لاتفاقه مع الدستور والقانون.

6- التزم الإخوان في برامجهم وخطابهم بوضوحٍ تام بأن الإخوة الأقباط شركاء الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في إطار المواطنة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات أمام الدستور والقانون، وأن المرأة لها أهليتها الكاملة وحقوقها التامة في التعليم والترشيح للوظائف والمشاركة في البرلمانات، وأعلنوا أن الأمة هي مصدر السلطات، واحترام التعددية الحزبية والانتخابات الحرة، ودوران السلطة عبر هذه الانتخابات الدورية.

ألا يكفي ذلك كله لتبديد المخاوف وإزالة القلق المشروع، وفوق كل ذلك فإننا لسنا بصدد انتقال للسلطة، ولكننا نريد أن نشارك جميعًا في الإصلاح الدستوري والسياسي كمقدمة ضرورية وأساسية، ويتزامن مع الإصلاح الشامل الذي يرى الإخوان أنه لن يحفِّز المشاركة الشعبية إلا إذا كان على أساس قواعد الإسلام ولن ينجح إلا إذا احترم عقيدة الأمة وثقافتها، ولن يستمر إلا إذا حقَّق تنميةً شاملةً ووحدةً عربيةً وانتماءً إسلاميًّا وبُعدًا حضاريًّا إنسانيًّا.

الإخوان يدخلون الآن مرحلةً جيددةً، وهي المشاركة الجادة في إصلاح الحكومة وتصحيح مسيرة النظام بعد أن حققوا نجاحاتٍ في إصلاح نفوسهم وبناء بيوت مستقرة، والانتشار في المجتمع، وشاركوا في تحقيق الاستقلال الوطني، وهم يعملون الآن من أجل حماية هذا الاستقلال من التدخل الأجنبي في شئوننا الداخلية، والتهديدات الخطيرة التي تواجه الأمن القومي، وسببها هو فساد الحكم والإدارة والاستبداد السياسي؛ مما أدَّى إلى تدهورٍ خطيرٍ في القيم والأخلاق.

هذه المرحلة تحتاج إلى إضفاء المظلة القانونية على الكيان الإخواني الواقعي، وتحتاج من الإخوان إلى حسم هذا الوضع القانوني، وأعتقد أننا- كإخوان- اتفقنا على فصل الوظيفة الدعوية عن الوظيفة السياسية، بمعنى أن تعود جماعة الإخوان المسلمين كهيئةٍ إسلاميةٍ عامة معنيَّةٍ بالاهتمام بالإسلام الشامل والدعوة والتربية والإرشاد، يمكنها أن تُمثل- بجوار المرجعية الأساسية في الأزهر الشريف، وبمشاركة جهاتٍ إسلاميةٍ أخرى تعمل في حقل الدعوة- مرجعيةً إسلاميةً شعبيةً، أما النشاط السياسي فيقوم به حزب مدني ذو مرجعيةٍ إسلاميةٍ مفتوحٌ لكل المواطنين مسلمين ومسيحيين، له برنامج سياسي ينافس في الانتخابات وفق القواعد المستقرة، قاعدته الانتخابية الأساسية ستكون من الإخوان المسلمين وأنصارهم، وهذا حدَثَ في بلاد عديدة مثل الأردن والمغرب، ويحدث الآن في العراق وغيرها وخارج العالم العربي؛ حيث تحقق في باكستان وماليزيا وإندونيسيا، وهذا الحزب سيكون محافظًا بطابعه ومدنيًّا بحقيقته، وسياسيًّا في أسلوبه.

هذا الحزب سيُزيل الغموض الذي تفرضه الحكومة على الإخوان بسبب الحظر القانوني، والذي يسبِّب- أكثر من غيره- القلق ويثير المخاوف؛ حيث سيتاح للجميع التعرف على الحزب وبرامجه، والمشاركة في عضويته وممارسة أنشطته.

هذا الحزب سيكون نموذجًا جديدًا يضاف إلى النماذج الحزبية التقليدية، فلا هو حزبٌ أيديولوجي بالكامل، ولا هو حزبُ مصالح وخدمات تمامًا، بل هو مزيج بينهما يمزج المثالية بالواقعية ويوازن بين المبادئ والمصالح.

المصدر