مع عبد الناصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مع عبد الناصر

بقلم: أمين هويدي


مقدمة الطبعة الأولى

أصبح من المعتاد أن يحل تاريخ ثورة يوليو – تموز 1952 الأصيلة ويذهب دون أن يحتفل به أحد إلا في حدود خطاب يلقى هنا أو هناك مليء باللمزات الموجعة التي ربما تحمل من معاني التجريح والقدح أكثر مما تحمل من معاني التمجيد والمدح.

كما أصبح من المعتاد أيضا أن تحل ذكرى وفاة "جمال عبد الناصر" وسط محاولات متعمدة لتغليفها بستار كثيف من الصمت والتجاهل.

ولا يدخل هذا الذي يتم في نطاق "مناخ عام" من النكران وعدم الوفاء، إذ أننا نلاحظ أن احتفالات كبرى تقام بمناسبة أحداث أقل شأنا من تاريخ الثورة العربية الأصيلة، وأن احتفالات كبرى تقام أيضا بمناسبة تخليد ذكرى الكثيرين ممن فارقوا ولم يتركوا أثرا من تاريخنا كما تركه عبد الناصر. وأردت أن أخرج عن هذا التقليد فاحتفل بالذكرى العاشرة لوفاته بطريقتي الخاصة وهي إصدار كتاب بعنوان "مع عبد الناصر" أتحدث فيه عن زوايا معينة من حياته ومماته على حد سواء.

فتحدثت مثلا عن "عبد الناصر" كرئيس للوزراء في أخطر فترة مرت ببلادنا وهي الفترة التي أعقبت نكسة يونيو – حزيران 1967 ... ما الذي كان يشغل باله ويستحوذ على اهتمامه أثناء مناقشات المجلس؟ كيف كانت علاقته مع وزرائه؟ ما هي الأزمات القليلة التي كانت تقوم بين وقت وآخر وكيف كان يعالجها ويواجهها؟ ما هي علاقته بمجلس الأمة وما رأيه في فصل السلطات؟

وأثناء مناقشتنا لهذه الموضوعات اعترضنا بعض الأحداث التي صورت للرأي العام بطريقة بعيدة عن الحقيقة فرأينا أنه قد حان وقت إجلائها وتوضيحها أو على الأصح تصحيحها وإزالة الغموض عنها.

ثم تحدثنا بعد ذلك عن "عبد الناصر واتخاذ القرار" ... لم نتعرض أبدا للقرارات المصيرية التي أصدرها عبد الناصر لأننا لو فعلنا ذلك لاحتاج ذلك منا مساحات واسعة لا يتسع لها المجال، لأن قراراته كانت كثيرة متعددة، ولكننا أردنا أن نهيئ المسرح لتقييم قراراته تلك لتجديد مفتاح شخصيته، والظروف التي أصدر فيها قراراته، فصاحب هذا القرار دائما ليس حرا وهو يصدر قراره إذ هناك إرادات أخرى أمامه وظروف ضاغطة تتفاعل معها رغباته وأحلامه، فلا يمكن الحكم على "قرار" إلا إذا قيم في إطار الظروف التي اتخذ فيها إذ ربما يكون قرار الأمس غير صالح لمواجهة أحداث اليوم أو الغد فالظروف تتغير وتتبدل ولا بد أن يكون القرار متطابقا مع الظروف التي تواجهه وإلا أصبح كالسهم الطائش الذي ينطلق في الفضاء دون هدف أو غاية.

ثم كان لا بد لنا أن نتحدث عن "استراتيجية عبد الناصر لإزالة آثار العدوان" وربما ساعدني على ذلك هو أنني كنت بعد النكسة قريبا من دائرة اتخذا القرار مطلعا على الكثير مما كان يجري ويحدث، وكان من الممتع حقيقة ونحن نقوم بذلك أن ننظر إلى رد فعل "استراتيجية" من "الجانب الآخر من التل" وقد ظهر ذلك واضحا من مذكرات "هنري كيسنجر" التي أصدرها مؤخرا في كتابه "سنوات البيت الأبيض" إذ ظهر واضحا من صفحاته رد فعل تحرك عبد الناصر بين "الخط الحرج الذي لا يجوز تجاوزه بواسطة الدولتين الأعظم" و "خط الأمر الواقع" الذي رفضه وقاومه، كذلك كان رد الفعل واضحا في صفحات الكتاب عن الطريقة الماهرة التي كان يمزج بها عبد الناصر الدبلوماسية مع المعركة.

ثم تحدثنا عن موت عبد الناصر ... وكانت لنا وقفات أمام بعض ما أثير وقيل لنوضح الحقيقة ونجلوها ... لأن جهودا بذلت – ويا للأسف – لإثارة بذور الشك وإطلاق سحب الدخان هنا وهناك لمنافع شخصية زائلة ..

والشيء الغريب أننا ونحن نتحدث عن ذلك نحس أن عبد الناصر ما زال حيا بيننا يسمع ويرى ما يجري على الساحة العربية الواسعة التي عاش من أجلها ومات تحت رايتها وعلى فمه ابتسامته الصامتة التي ربما تعبر عن الأسى وربما عن الرثاء ...!

القاهرة مصر الجديدة

أمين هويدي

مقدمة الطبعة الثانية

وانتهت الطبعة الأولى من كتابي "مع عبد الناصر" بعد فترة قصيرة من صدورها وتفضلت دار "المستقبل العربي" بإصدار الطبعة الثانية من نفس الكتاب ليكون بين يدي القراء في عيد مولد عبد الناصر.

وقد صدرت الطبعة الأولى في ظروف شاذة ... كانت الهجمات على عبد الناصر مركزة شديدة عاصفة تشوه كل أعماله، وتشكك في كل اتجاهاته ... وكان الرئيس السادات بنفسه يتزعم الحملة المؤسفة مستخدما صحافته وأجهزة إعلامه ومساعديه ... وكان من نتيجة ذلك غياب الحقيقة وازوائها أمام سحب التشكيك التي غلفت كل شيء، ولم يعد الناس يعرفون حقيقة ما حدث أيام عبد الناصر العظيم، ومن المؤسف أن كثيرا ممن يعرفون الحقيقة ترددوا في التصدي لما يقال، وعزفوا عن أن يقولوا كلمة الحق في وقت كان الناس يريدون فيه أن يتبينوا ويعرفوا.

في وسط هذا المناخ القاسي صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار الوحدة في بيروت كرد على ما يقال، وكلمة حق أمام الباطل، وكشعاع رفيع من الضوء أملنا منه أن يخترق الظلام الذي غلف الحقيقة، ولم يكن غريبا أن تنفذ الطبعة الأولى في وقت قصير.

وها نحن نصدر الطبعة الثانية من الكتاب بعد أن أضفنا إليها موضوعات هامة تنشر لأول مرة: الموضوع الأول عن الليلة العصيبة، والموضوع الثاني عن سياسة عبد الناصر في البحر الأحمر، والموضوع الثالث عن القنوات الخلفية أيام الزعيم الراحل.

في حديثنا عن الليلة العصيبة تحدثنا عن ليلة 25 أغسطس 1967 وهي الليلة التي تم فيها إقصاء المشير عبد الحكيم عامر نهائيا عن سلطاته بعد أن موقف التحدي للقيادة السياسية، كان الغرض الأساسي هو التحدث عن موضوع في غاية الخطورة هو العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية أيام حكم عبد الناصر، تلك العلاقة الحساسة التي اعتبرها سلبية أكيدة في تلك الفترة بل هي السبب الأساسي للنكسة التي مرت بالبلاد عام 1967، فالمفروض في القيادة العسكرية أن تكون جزءا من القيادة السياسية وتأتمر بأوامرها، وإن حدث العكس تصبح القيادة العسكرية ورما خبيثا لا بد من إزالته، وهنا فرقنا بين القائد السياسي والقيادة السياسية وبين القائد العسكري والقيادة العسكرية وأظهرنا من سير الأحداث كيف كانت تسير الأمور خاصة في تلك الأيام الحرجة التي سبقت يوم 5 يونيو 1967 ثم في الأيام التي تبعته بعد أن فقدنا كل شيء في سيناء ... هذا الموضوع هو من أخطر الموضوعات التي ما زلت أعتقد أنها في حاجة إلى حسم إذ أن عدم البت في شكل قمة القيادة العسكرية بالفصل الكامل بين المجال السياسي والمجال العسكري، ثم التردد في توضيح العلاقة بين قمة القيادة العسكرية وبين القيادة السياسية بصفتها جزء منها ينتج عنه أخطار ذات عواقب وخيمة على الأمن القومي للبلاد.

وتحدثنا بعد ذلك عن السياسة البحر أحمرية لعبد الناصر ومن الصدف الغريبة أن أصبح البحر الأحمر هذه الأيام منطقة ساخنة بعد ظهور الألغام فيه بطريقة مريبة تبعها وجود الأساطيل الأجنبية في مياهه بكثافة غير مقبولة وكان لعبد الناصر من الرؤية الاستراتيجية ما مكنته من أن يقدر ما لهذا البحر من أهمية لسياسته العربية والعالمية على حد السواء .. تحدثنا عن كيف مزج عبد الناصر المعركة بالدبلوماسية حتى أصبح البحر الأحمر بحرا عربيا صديقا من مدخله في باب المندب حتى مخرجه في قناة السويس بل وتحدثنا عن الكتلة الاستراتيجية الحيوية التي تشمل الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط وكيف أنها كتلة استراتيجية واحدة تتداعى الأحداث فيها وتتأثر مناطقه المختلفة بعضها ببعض تأثيرا مباشرا، وحينما مات عبد الناصر كان البحر الأحمر نظيفا خاليا من القواعد العسكرية الأجنبية ولم يكن يعكر هذه الصورة إلا وجود إسرائيل في سيناء وعلى الضفة الشرقية للقناة والتي كانت الجهود لا تفتر في سبيل تصحيح هذا الوضع الخطير.

وتحدثنا ولأول مرة عن القنوات الخلفية لعبد الناصر: تحدثنا عن مثلين إحداهما الاتصالات التي كانت قائمة مع المخابرات المركزية والاتصالات التي تمت مع ناحوم جولدمان ... الغرض منها، وكيف كانت تتم، ونتيجة هذه الاتصالات .. كان حديثنا منصبا على توضيح الفارق بين الاتصالات عن طريق القنوات الخلفية والاتصالات التي تتسم بأعمال المخابرات ثم لتوضيح خطورة الاتصالات التي تتم عن طريق هذه القنوات .. كيف كانت تتم هذه الاتصالات أيام عبد الناصر كنوع من أنواع إدارة الصراع وكوسيلة أخرى ضمن وسائل متنوعة قامت نفس هذه القناة الخلفية ايام الرئيس أنور السادات بالتمهيد لكل ما حدث أثناء وبعد حرب أكتوبر 1973 من أحداث وأشرنا في هذا المجال إلى بعض البرقيات المتبادلة خلالها والتي كانت لها انعكاسات خطيرة على مجرى الأحداث.

ولا شك أن الأحاديث الثلاثة تضيف شيئا لمعرفة بعبد الناصر في مجالات أخرى متنوعة ومختلفة.

والله الموفق

مصر الجديدة

20/8/ 1984

أمين هويدي

مقدمة الطبعة الثالثة

على حد علمي فهذه هي الطبعة الثالثة لكتابي "مع عبد الناصر" تفضلت دار "المستقبل العربي" بإصدارها ليكون بين يدي القراء بعد واحد وعشرين عاما من وفاة عبد الناصر.

صدرت الطبعة الأولى عام 1980 عن "دار الوحدة " ببيروت حينما حتمت الظروف الصعبة أن يهاجر القلم إلى الخارج، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1985 عن "دار المستقبل العربي" بالقاهرة حينما تراجعت تلك الظروف إلى الحد الذي سمح بإضافة فصول ثلاثة هامة وخطيرة إلى أصل الكتاب، وها نحن نستعد لإصدار الطبعة الثالثة عام 1991 لنصل بإذن الله إلى القراء وسط زلازل التغييرات التي تحدث في كل مكان والتي تجعلنا نفتقد وجود "عبد الناصر" بحق ليقود السفينة وسط العواصف الهوجاء.

ولكن هناك طبعات أخرى صدرت لهذا الكتاب دون علمي ومن وراء ظهري وقفت على إحداها منذ سنوات قليلة وبطريق الصدفة المحضة .. وكان ذلك في "تعز" باليمن الشقيق حينما ذهبت إليها في إحدى زياراتي المتعددة لأسير في شوارعها التي تنخفض أحيانا وترتفع أحيانا أخرى ولأمارس هوايتي بزيارة المكتبات لأطلع على ما بها من نفائس الماضي والحاضر ولأجد أمامي فجأة طبعة حديثة من كتابي "مع عبد الناصر" أصدرتها إحدى دور النشر العربية دون علمي ودون استئذاني مما أثار دهشتي وأسفي !! ولكن كانت الدهشة أكبر حينما وصلتني رسالة رئيس دار النشر هذه – ردا على رسالتي له – يبرر فيها ما حدث "بأننا ناصريان" – يعني هو وأنا – وبهذه الصفة وجد أن له الحق في أن يفعل ما فعل لعرض الكتاب في المعرض الذي أوشك أن يفتتح في صنعاء!!".

ولا تعليق على ما حدث فهو يوضح [أزمة النشر] في بلادنا والحد الذي وصلت إليه مما يحتاج إلى ضوابط تصلح الأمور كما يوضح [أزمة الناصرية] ممن يدعونها ليستفيدوا منها ويتاجروا بها وهم كثيرون على الساحة العربية من المحيط إلى الخليج والتي لاقت "الناصرية" على يديهم أكثر مما لاقت على يد خصومها وأعدائها.

ووصلتني مئات الرسائل من كل أنحاء الوطن العربي تستفهم وتتساءل عن تفاصيل ما ورد بالكتاب ووصلتني مئات الرسائل تمتدح أسلوبه وموضوعيته كان آخرها رسالة من الصديق العزيز الدكتور "ثروت عكاشة" وزير الثقافة الخلاق أيام "عبد الناصر" إذ كتب يقول "شكرا على المتعة التي ما بعدها متعة التي هيأتها لي بمطالعة مؤلفك القيم الممتع – مع عبد الناصر – تلك ذروة في الصدق والأمانة والاستقامة وعلو الكعب في الكفاءة والوفاء فضلا على الأسلوب الجذل الشيق.

بدأت القراءة في الغسق ولم أترك كتابك حتى فرغت منه مع صياح الديكة .. شكرا يا أمين" .. وحينما وصلتني رسالته تذكرت أنني لم أقم بإهدائه كتابي فاشتراه ليقرأه ويرسل رسالته تلك.

ولست أدري لماذا ألح علي تصور غريب وأنا أكتب هذه المقدمة؟ فقد لازمني طوال تلك المدة وربما ما زال يلازمني حتى الآن: ماذا لو أن عبد الناصر خرج من قبره ليرى ما حدث بالناصرية وبالناصريين، وأتخيل أنه سيكون راضيا عن مبادئ الناصرية لأن أغلب مكاسب ثورة يوليو/ تموز ما زالت باقية ولكن علامات الأسى سوف ترتسم على ملامحه من حال الغالبية العظمى للناصريين أو من يدعون أنهم كذلك، ومن ثم سيسارع إلى العودة إلى قبره وعلى ملامحه خليط من علامات الرضا وعلامات الأسى والحزن.

والله الموفق

مصر الجديدة 1/ 9 / 1991

أمين هويدي

الباب الأول: عبد الناصر رئيسا للوزراء

الفصل الأول: لماذا تولى عبد الناصر الرئاستين في بعض الأوقات؟

تواريخ رئاسته – متى جمع بين الرئاستين؟ - اللجنة الاستشارية وما أثير حولها – المشاغل الضخمة – صورة عامة عن مجلس الوزراء – القرار والمتابعة.

عبد الناصر رئيسا للوزراء:

قام عبد الناصر وزملاؤه بالثورة في 23 يوليو – تموز – 1952

ومات الرجل في 28 سبتمبر – أيلول – 1970.

وبذلك تكون فترة حكمه استمرت 18 عاما، شهرين، 5 أيام.

وكان عبد الناصر طوال تلك الفترة هو المحرك الأول للأحداث سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.

والاعتقاد السائد أن جمال عبد الناصر جمع بين رئاستي الجمهورية والوزارة طوال تلك الفترة أو أغلبها على الأقل إلا أن هذا بعيد عن الواقع.

يظهر ذلك جليا باستعراضنا لأسماء رؤساء الوزارات في تلك الفترة:

صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا 24/ 7 / 1952

اللواء أركان حرب محمد نجيب 7/ 9 / 1952

بكباشي (مقدم) أركان حرب جمال عبد الناصر 25/ 2 / 1954.

اللواء أركان حرب محمد نجيب 8/ 3 / 1954

بكباشي أركان حرب جمال عبد الناصر 17/ 4 / 1954

الرئيس جمال عبد الناصر 25/ 6/ 1956

الدكتور نور الدين طراف 7/ 10/ 1958 (رئيس المجلس التنفيذي للإقليم الجنوبي أيام الوحدة المصرية السورية).

السيد كمال الدين حسين 20/ 9/1960 (رئيس المجلس التنفيذي للإقليم الجنوبي أيام الوحدة المصرية السورية).

الرئيس جمال عبد الناصر 18/ 10/1961

السيد علي صبري 29/9/ 1962

السيد زكريا محيي الدين 1/ 10 /1965

السيد محمد صدقي سليمان 10/ 9/ 1966

الرئيس جمال عبد الناصر 19/6/ 1967 حتى 28/ 9 / 1970.

وبهذا يسجل التاريخ فترة تقرب من سبع سنوات جمع فيها الرئيس الراحل بين الرئاستين: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء.

وهذا عكس ما يروجه البعض عن حسن نية أحيانا أو عن سوء قصد أحيانا أخرى.

بل إذا تمعنا في الأوقات التي جمع فيها الرجل بين الرئاستين لوجدناها أوقات الأحداث الجسام.

ففي الفترة من 25/ 2/ 1954 حتى 17/4/ 1954 تولى الرجل رئاسة الوزارة إذ كانت البلاد تمر وقتئذ فيما عرف "بأزمة مارس أو آذار" وهي أزمة هددت الثورة بالانحسار وانقسم فيها المجلس على نفسه فكان لابد من تركيز السلطة في يد واحدة هي يد قائد الثورة لتجتاز البلاد تلك الفترة الصعبة من تاريخها.

واستمر رئيسا للوزراء حتى عام 1958 إذ مرت البلاد في ذلك الوقت بأحداث كبرى تم فيها توقيع اتفاقية الجلاء، وكسر احتكار السلاح بعقد الصفقة الأولى للتسليح مع تشيكوسلوفاكيا، ثم تأميم قناة السويس، ثم انتهت بالعدوان الثلاثي على مصر وما ترتب عن ذلك من أحداث وتطورات.

ثم عاد فتولى رئاسة الوزارة مرة أخرى بعد انفصام الوحدة مع سوريا إذ أصبح التهديد قاب قوسين أو أدنى من القاهرة ذاتها بعد أن نجحت الرجعية في فصل جناحي الجمهورية العربية المتحدة وتحطيم الوحدة حلم العروبة وأملها المنشود.

ثم عاد ليحتفظ لنفسه برئاسة الوزارة مرة أخرى عقب النكسة عام 1967 واستمر يجمع بين الرئاستين إلى أن مات في 28/ 9 / 1970.

ويتضح من الحقائق السابقة أن عبد الناصر حينما احتفظ بالرئاستين في تلك الفترة القصيرة من حكمه لم يكن ساعيا إلى السلطان بقدر ما كان متصدرا لتحمل المسئولية التي فرضتها الظروف عليه فما كان يتردد في مواجهة الرياح العاصفة وما كان يتأخر عن الجمع بين أعباء المنصبين تحقيقا للمصلحة العليا للبلاد وسط الأنواء العاصفة التي كان عليه أن يقود فيها دفة الحكم رافضا الدخول ضمن دوائر النفوذ مصرا على ألا تستمر مصر ذيلا كما عاشت طوال عمرها رافعا لمبادئ جديدة عاش من أجلها ومات في سبيلها.

ووقت رئاسته للوزارة كان حريصا على أن يشكل "لجنة استشارية" إلى جواره واجبها دراسة الموضوعات التي يأمر "الرئيس" بدراستها أو الموضوعات الهامة التي تفرض نفسها ثم رفع ما تراه من توصيات أو بدائل إليه، وكان تصرف عبد الناصر إزاء ما يرفع له من اقتراحات هو إما الموافقة الصريحة بكلمة "أوافق" أو الاعتراض الصريح بكلمة "لا أوافق" أو طلب "مزيد من الدراسة" أو تنزل الورقة البيضاء دون تأشيرات أو تحجز الأوراق عنده إلى ما شاء الله، وكانت سكرتارية الرئيس للمعلومات تبلغ الجهات المختلفة تأشيرات "الرئيس".

وفي أواخر الخمسينات كان يرأس اللجنة الاستشارية السيد علي صبري وزير شؤون رئاسة الجمهورية وكان أعضاؤها هم: محمد عبد القادر حاتم مدير مصلحة الاستعلامات في ذلك الوقت والسيدان حسين ذو الفقار صبري ومراد غالب المستشاران بالرئاسة وأمين هويدي رئيس المخابرات العامة.

وبعد النكسة كانت اللجنة مكونة من شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين هويدي – وزير الحربية ثم رئيس المخابرات العامة ثم وزير الدولة – وسامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات وكان ينضم إليها أحيانا محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام ووزير الإعلام أو بعض الوزراء الآخرين إذا استدعت الظروف ذلك.


وأثناء سفر الرئيس إلى الخارج كان السيد أنور السادات نائب الرئيس يرأس اللجنة ليبت فيما يرفع له من اقتراحات أو يؤجل ما يراه لحين عودة الرئيس من الخارج. وقد قيل كلام كثير عن هذه اللجنة الأخيرة وكتب البعض عنها كلاما تنقصه الدقة وينحو إلى التضليل والتشكيك، بل كانت هذه اللجنة محل اهتمام المحققين أثناء التحقيق فيما أسموه قضية "15 مايو – آيار – 1971" والشيء الغريب حقيقة أن بعض المتقولين كان من بين من حضروا اجتماعات هذه اللجنة .. قيل عنها إنها كانت توجه الحكم في مصر وقيل عنها إنها كانت تفرض آراءها على عبد الناصر.

والكل يعلم أن عبد الناصر لم يخضع في حياته لفرد من الأفراد أو لجنة من اللجان وإلا كان في هذا – إن صدق – نفي لما قاله نفس هؤلاء عن ديكتاتورية نسبوها إلى الرجل.

ولكن كيف كان يعمل مجلس الوزراء برئاسة عبد الناصر؟ وفي إجابتي عن هذا السؤال سأقصر حديثي عن الفترة التي عاصرتها كوزير في مجلس الوزراء الذي رأسه عبد الناصر وبالتحديد في الفترة من 19/ 6/ 1967 حتى وفاته 28/ 9/ 1970.

كان مجلس الوزراء يعقد جلسة أسبوعية تستغرق وقتا لا يزيد في أغلب الأحيان عن ثلاث ساعات، وما أظن أن عبد الناصر تخلف عن واحدة من تلك الجلسات أو أجلها إلا تحت مشاغل ضاغطة أو توعك شديد ألم بصحته، بل أذكر جيدا – ولعل الزملاء جميعا يذكرون – أنه كان يحضر أحيانا وعلامات الألم الشديد واضحة على وجهه من التهابات المفاصل التي بدأ يشعر بها وكذلك العرق الغزير وهو يتصبب من جبهته، وبالرغم من ذلك فإنه كان يصر على أن تستمر الجلسة حتى نهايتها.

وعلينا أن نقيم ذلك في ضوء الاعتبارات الآتية:

المشاغل الكثيرة التي كانت تعتصره في ذلك الوقت نتيجة لظروف النكسة واحتلال الأرض اهتمامه الزائد بشؤون القوات المسلحة وحضوره كثير من المؤتمرات التي تعالج مشاكل إعادة بنائها أو المناورات والتدريبات المختلفة التي كان يحصر على حضورها.

وحضوره الاجتماعات المنتظمة للمؤسسات القائمة: اللجنة التنفيذية العليا واللجنة المركزية والمؤتمرات القومية للاتحاد الاشتراكي، والتي كان يحرص أشد الحرص على انعقادها في مواعيدها المقررة.

المؤتمرات الشعبية في المناسبات المختلفة المتعددة.

مقابلاته العديدة من رجالات مصر والبلاد العربية وللزائرين من مختلف العالم.

سيل المذكرات والتقارير التي كان عليه أن يطلع عليها ويتخذ فيها قرارات مصيرية.

الاضطراب الصحي الذي تفاقم بعد النكسة والذي انتهى بوفاته.

ولذلك لم يكن غريبا أن عبد الناصر لم تكن له حياة اجتماعية خاصة، كان يقضي معظم وقته بين طابقي منزله البسيط في منشية البكري .. الطابق الأعلى للنوع والطابق الأسفل لأعماله المكتبية ولاستقبال زائريه.

وكان من عادة "الريس" أن يحضر متأخرا عن الموعد المحدد لانعقاد المجلس ربما بساعة كاملة.

وكان هدفه من هذا التأخير هو أن يتيح للوزراء فرصة ليجتمعوا مع بعضهم البعض ليتناقشوا فيما يعن لهم من أمور إذ أن مسؤولياتهم الكثيرة ما كانت تتيح لهم مثل هذه الفرصة للقاء، ولا شك أن أمورا كثيرة كانت تعالج في تلك الفترة التي كان على الوزراء أن يمضوها في انتظار الرئيس.

وكان هناك ثلاث قاعات مجهزة لانعقاد مجلس الوزراء: القاعة الكبرى بمبنى الحكومة المركزية بمصر الجديدة والذي يجري تحويله الآن إلى مبنى لرئاسة الجمهورية بعد أن كان قد بدئ في تحويله إلى فندق سياحي كما كان من قبل، قاعدة أخرى في مبنى رئاسة مجلس الوزراء أمام مجلس الشعب، والقاعة الثالثة في قصر القبة، وفي هذه القاعة الأخيرة كان يعقد الرئيس عبد الناصر اجتماعات مجلس وزرائه.

وكان هرولة رجال الصحافة والتلفزيون والإذاعة بمثابة إعلان عن وصول الرئيس فيأخذ الوزراء أماكنهم في انتظار دخوله إلى القاعة في خطاه السريعة الواسعة ووراءه الأخ محمد سكرتيره الخاص في ذلك الوقت حاملا حقيبة الأوراق التي كانت تكبر وتصغر على حسب ما تحتويه.

وإذا كان الرئيس في حالة نفسية طيبة كان يدخل القاعة وابتسامة متزنة على فمه .. ويحيي بعض الزملاء بكلمة هنا وكلمة هناك .. ابتسامة لهذا أو لذاك .. ونادرا ما كان يحيي أحدا بالمصافحة باليد إلا إذا كان من باب المجاملة لسبب من الأسباب أو تعبيرا عن تقديره الصامت لعمل قام به أحد الوزراء.

أما إذا كان "الريس" في حالة نفسية متعبة فإنه كان يدخل القاعة في خطوات سريعة وقد اكتسى وجهه بعلامات الجد ويقصد مقعده دون أن ينظر إلى ما حوله.

وبعد انتهاء رجال الصحافة والتلفزيون من التقاط الصور التقليدية ينصرف كل إلى حال سبيله وربما انتظر البعض منهم في القاعة المخصصة لهم في انتظار البيان الرسمي عن اجتماع المجلس الذي كان يمليه عليهم إما وزير الإرشاد أو وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء بعد انتهاء الجلسة.

وإذا انصرف رجال الصحافة يغلق باب القاعة، وتبدأ الجلسة.

وأثناء انعقاد الجلسة كان الوزراء يطلبون ما يشاءون من مشروبات ساخنة أو باردة أما "الريس" فكان دائما يكتفي بكوب من الليمون المثلج يوضع أمامه صيفا أو شتاء وأحيانا كان يتناول فنجانا "مضبوطا" من القهوة.

وكان من عادة "الريس" أن يدخن كثيرا أثناء انعقاد الجلسة ... وكان يخيل لي وأنا أراقبه أثناء التدخين أنه يكاد "يقضم" السيجارة التي في يده .. يأخذ منها "نفسا" عميقا بين الحين والحين ... ولكنه نزولا على أمر الأطباء – بعد أن اقتضت حالته الصحية ذلك – أقلع عن التدخين إلى غير رجعة، وأذكر أن الوزراء "المدخنين" اتفقوا وقتئذ على عدم التدخين أثناء انعقاد الجلسة مجاملة "للريس" ومراعاة لشعوره إلا أنه أحس بذلك من فوره وألح في أن يمارس الجميع هواياتهم في التدخين على الأقل حتى يضع قوة إرادته تحت الاختبار .. !!

وكان يتم تسجيل كل ما يدور في المجلس من مناقشات وقرارات بأجهزة تسجيل بواسطة سكرتارية الرئيس للمعلومات التي كانت تحتفظ بأشرطة التسجيل لديها كسجلات تاريخية للمجلس .. وفي الوقت نفسه كان سكرتير عام الحكومة يحضر جلسات المجلس ويدون مختصرا مفيدا لما يدور كما يسجل القرارات بمنتهى الدقة ليتم توزيعها بعد ذلك على الوزارات المختلفة حتى تعمل على تنفيذها.

ولم يكن صدور القرار هو نهاية المطاف بل كانت مرحلة المتابعة تبدأ بعد ذلك، وكان وزير الدولة يقوم بهذا الواجب ويرفع تقارير دورية بذلك إلى "الريس" على شكل جداول يوضح فيها القرار وتاريخ صدوره والخطوات التي تمت لتنفيذه أو الموانع التي تحول دون تنفيذه، وكان الرئيس يطلع على هذه التقارير ويناقش الوزراء فيها للتغلب على الصعوبات التي تحول دون سرعة التنفيذ.

وأحيانا كانت ترفع تقارير متابعة يومية عن بعض الموضوعات الهامة كانتشار وباء "الكوليرا" مثلا أو عن تطورات موقف سياسي معين له تأثير مباشر على الجمهورية.

أما عن الخطة الإنتاجية للدولة فكان وزير التخطيط يتقدم بتقرير متابعة كل ثلاثة شهور عن مدى سير العمل في مشروعات الخطة وما تم تحقيقه لزيادة الإنتاج ومستوى دخل الأفراد وأي تعديلات يتطلبها الموقف، وكان المجلس حينئذ يخصص أكثر من جلسة لمناقشة هذا التقرير.

وفي مجال المتابعة أيضا كان وزير الخزانة يقوم بعرض الشؤون المتعلقة بالميزانية بين وقت وآخر لإدخال التعديلات المناسبة في أوجه الإنفاق لمواجهة متطلبات عاجلة طارئة للقوات المسلحة مثلا تقتضي إجراء تعديلات مختلفة في أبواب الميزانية.

إذن كانت متابعة تنفيذ القرارات تنال عناية كاملة من مجلس الوزراء بل كان يخصص لها جلسات خاصة كما سبق التوضيح، وخزائن مجلس الوزراء حافلة بتقارير المتابعة تلك وتثبت في الوقت نفسه أن عملا كبيرا كان يتم .. وأن قرارات خطيرة كانت تتخذ .. وأن مناقشات غنية كانت تجري.

وكان كثير من الموضوعات التي تناقش في مجلس الوزراء يتم عرضها في اللجنة التنفيذية العليا، أو في اللجنة المركزية، أو في المؤتمرات القومية، فمثلا الموضوعات المتعلقة بميزانية الدولة، أو الخطة الإنتاجية، أو الموضوعات التي تتعلق ببعض الشؤون الداخلية كاضطرابات كانت تحدث أحيانا بين صفوف الطلبة أو العمال كل ذلك كان يناقش في تلك الجهات في وقت واحد وربما تم عرض ذلك في الصحافة وأجهزة الإعلام والندوات.

هذا كان يحدث وبصفة مستمرة، ربما نسيه البعض تحت وطأة الأحداث، وربما تناساه البعض تمشيا ومسايرة للأحداث.

ولكنه كان يتم رغما عن النسيان أو التناسي.

ولكن ماذا كان يدور في مجلس الوزراء؟ هذا سيكون حديثنا في الفصل التالي بإذن الله ...  

الفصل الثاني: ماذا كان يبحث في مجلس الوزراء

الموضوعات العامة والموضوعات المدرجة في جدول الأعمال – الرئيس وشنطة الخبز – الطلبات الجماهيرية فوق كل اعتبار – الوزير الحزبي والوزير السياسي – الانتقال إلى الجماهير وليس العكس – الجماهير ليست وحدة عسكرية – وأسقط في يد الوزير – الكلمة للجميع – اللجان الوزارية – مبادئ تحدد وحدة الفكر داخل مجلس الوزراء.

تواعدنا في الفصل السابق على الحديث عما كان يدور في مجلس الوزراء الذي كان يرأسه جمال عبد الناصر .. وما علينا الآن إلا أن ندخل مباشرة في الموضوع.

كانت جلسة مجلس الوزراء تنقسم دائما إلى فترتين:

الفترة الأولى وتبحث في الموضوعات العامة، والفترة الثانية وتبحث فيها الموضوعات المدرجة في جدول الأعمال.

وأحيانا كثيرة كانت مناقشة الموضوعات العامة تستغرق الجلسة بطولها.

والموضوعات العامة كانت موضوعات تتعلق بالمصالح المباشرة للجماهير يرى الرئيس أو أحد الوزراء إثارتها دون ترتيب سابق .. وكان الرئيس عادة يسجل النقاط التي يريد إثارتها في "نوتة" أو مفكرة من الحجم المتوسط حتى لا ينسى، ومن تعامل مع "الريس" يعرف تماما أنه لا ينسى فقد كانت له ذاكرة حديدية تحفر فيها الموضوعات فلا تضيع ... وبالرغم من ذلك فإنه كان يحتفظ دائما بهذه "النوتة" ليرجع إليها وقت أن يشاء.

وقد كانت الحالة التمويلية تنال اهتمامه بشكل واضح .. رغيف الخبز، الحلاوة الطحينية، الزيت، السكر، الشاي، الصابون، اللحوم، الجبن .. وفوق كل ذلك الأحوال السائدة في النكسة ورغما عن ارتفاع الأسعار العالمية وقلة المتيسر من العملة الحرة للاستيراد فإنه لم يحدث في ذلك الوقت أي عجز في المواد التموينية الرئيسية بل أمكن السيطرة تماما على الأسعار في السوق المحلية فاحترمت التسعيرة الجبرية وقلت حوادث التلاعب في الأسواق بعد أن سحبت تراخيص بعض التجار "المتلاعبين" وأقفلت بعض الحوانيت وقدم الآخرون للمحاكم لمواجهة الأحكام الرادعة.

ولقد كان توفر المواد التموينية بهذا الشكل الملحوظ موضع نقد في كثير من اللقاءات السياسية إذ كان البعض يرى أن الظروف التي تمر بها البلاد وهي تخوض حرب الاستنزاف تحتاج إلى مزيد من التقشف بالاستغناء عن توفير بعض السلع، ونوقشت هذه الاتجاهات أكثر من مرة في مجلس الوزراء إذ كان بعض الزملاء يرون صحة هذه الاتجاهات التي كانت تلاقي تجاوبا من قطاع كبير من شعبنا الطيب الحمول الصبور إلا أن "الريس" كان يقول "تقشف إيه يا جماعة؟ هيه الناس لاقية الضروريات علشان ننادي بالتقشف".

وفي إحدى الجلسات دخل الرئيس قاعة المجلس ومعه "الشنطة" متوسطة الحجم، وحينما بدأت الجلسة أخذ يفرغ محتوياتها وفوجئ الوزراء بأن المحتويات كانت عددا من "أرغفة" الخبز البلدي مأخوذة من بعض المخابز في عدد من أحياء القاهرة .. شبرا، وروض الفرج، الوايلي، سيدنا الحسين، الدرب الأحمر، مصر القديمة، مصر الجديدة .. وأخذ يلوح بها لوزير التموين معربا عن عدم رضائه عن حالة "الرغيف" سواء من ناحية الحجم أو اللون أو الشكل وكان يقول "مين يقدر منكم يأكل مثل هذا الخبز؟ هل هذا معقول؟" وطالب غاضبا بعلاج سريع للموقف وانتقال أجهزة الوزارة إلى المخابز حتى يتم إصلاح "الرغيف" وقد كان.

وكان أكثر ما يغضبه رؤية طابور أمام إحدى الجمعيات التعاونية – على ندرة ما كان يحدث في ذلك الوقت – وهنا يثير الموضوع في أول اجتماع للمجلس في صراحة وجدية مطالبا بإزالة الأسباب التي تدعو إلى ذلك، ولعل الجميع ما زالوا يذكرون ندرة مثل هذه الطوابير أمام الجمعيات التعاونية في ذلك الوقت.

في فترة من الفترات شحت "الحلاوة الطحينية" في الأسواق، وكان هذا الموضوع يؤرقه "فالرجل الفقير حياكل إيه؟ رغيف وقطعة حلاوة .. فإذا عجز الحكم حتى عن تقديم ذلك فعلينا جميعا أن نتخلى" واستمر يضغط ولم يهدأ له بال حتى أصبحت "الحلاوة الطحينية" في متناول الجميع.

وكان الرجل شديد الحساسية بالنسبة لعجز يحدث في إحدى المنتجات المحلية إذ كان من النادر في ذلك الوقت استيراد احتياجات الشعب من الخارج فكانت الأسواق لا تعرف "البضائع المستوردة" إلا عن طريق "التهريب" وأصبح الإنتاج المحلي يكفي ويزيد عن طاقة الاستهلاك، وأثبتت الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد وقت الحرب حكمة السياسة التي كانت متبعة بخصوص القطاع العام والتحكم في الاستيراد وعلى ذلك فلم يكن الرجل ليقبل أي عذر أو مبرر لعدم وجود سلعة من السلع في المحلات العامة، وعقب بداية العام الدراسي يخصص عددا من جلساته للاستعداد للمناسبة، فتبحث المواضيع المتعلقة بالكتب المدرسية وطاقة الطباعة في الدولة لتعبئتها حتى يكون الكتاب في يد الطالب منذ اليوم الأول للدراسة وكذلك الحال مع الكراسات والأقلام وغيرها من الأدوات المدرسية .. ثم توفير الملابس للطلبة من بلوفرات وجوارب وبنطلونات وبيجامات وأحذية وأقمشة المرايل .. وكان يغضب حين يرى المسؤولين في المدارس المختلفة يغيرون لبس الطلبة كل عام "ففي هذا عبء إضافي على ميزانية الأسرة وميزانية الدولة علاوة على أن هذه السياسة فيها عدم تقدير للمسؤولية وعدم وعي وتقدير للظروف السائدة" .. وفي نفس الوقت لم يكن يتصور أن سعر "البلوفر" يصل إلى جنيهين مثلا وكم سمعناه يقول "يعني لو واحد عنده خمسة أولاد يحتاج إلى عشرة أو عشرين جنيها لبند البلوفرات فقط عند افتتاح المدارس ويبقى عليه أن يدبر نقودا للأحذية والملابس الداخلية" ثم يهدد وزير الصناعة في ذلك الوقت "برفع الحماية الجمركية عن الإنتاج المحلي إذا لم تبذل الجهود الصادقة لخفض أسعار التكلفة وإلا والله نستورد الملابس من الصين الشعبية" ولم ينفذ "الريس" تهديده لأن الأمور عولجت في وقت معقول.

أما المواضيع المتعلقة "بالصحة العامة" فكانت تثار بين وقت وآخر خاصة عند انتشار "بعض الأمراض الصيفية" كالكوليرا مثلا .. كانت التقارير اليومية ترفع له موضحة عدد الإصابات أو الوفيات ومقدار توفر الأمصال في المستشفيات أو المخازن في كل أنحاء الجمهورية وحوادث الإهمال التي قد تحدث هنا وهناك، ولذلك فإن السيطرة على مثل هذه الأمراض الطارئة كانت تتم في أقصر وقت.

ويكفي للدلالة على ذلك تقارير الهيئات الدولية ثم اعتماد أغلب البلاد العربية وغيرها من البلاد الأفريقية والأسيوية على إنتاجنا المحلي من الأمصال التي كان الرئيس يأمر بإرسالها بالطائرات فور طلبها.

ويحضرني بهذه المناسبة قصة لها دلالتها، فقد وصل إلى علم الرئيس أن إهمالا ما حدث في بعض المستشفيات وقت حدوث بعض إصابات الكوليرا ووجه اللوم والعتاب إلى الدكتور عبده سلام وزير الصحة في ذلك الوقت، إلا أن "عبده سلام" وفي ثقة تامة لا تخلو من الانفعال الواضح أخذ يوضح الموقف بأرقام وإحصائيات لا تقبل الشك وكان الرجل يتحدث في صدق وعلامات التعب بادية عليه من قلة ساعات النوم التي كان يفوز بها أو يختلسها، وما لبثت علامات الرضا أن ظهرت على وجه "الريس" وقال "طيب يا سيدي إحنا متأسفين ومقدرين جهدك وجهد رجالك تمام التقدير".

وضحك ضحكته المشهورة، وأخذ "عبده سلام" يتخلى عن انفعاله ويعود بسرعة إلى طبيعته الهادئة بعد أن اطمأن أن الصورة أصبحت واضحة أمام عبد الناصر.

وكان "الريس" يحث الوزراء دائما على ترك مكاتبهم للاتصال بالجماهير للوقوف على مطالبها واحتياجاتها واتجاهاتها فالوزير مسؤول سياسي قبل أي اعتبار آخر مسؤولية ليست محصورة في نطاق وزارته فحسب بل تمتد إلى المسئولية الوزارية الشاملة بصفته عضوا في الحكومة التي تمثل سياستها ككل، وغفر الله لبعض الكتاب الذين تحدثوا عن هذه النقطة ووصفوا وزراء عبد الناصر بأوصاف غير لائقة وخلطوا بين "الوزير الحربي" و "الوزير السياسي" فليس بالضرورة "للوزير الحربي" أن يكون "وزيرا سياسيا" كما أن "الوزير السياسي" لا يتحتم أن يكون "وزيرا حزبيا" وعلى أي حال فهذا خارج عن موضوعنا الذي نحن بصدده وربما يكون لنا عودة له إن كانت الظروف ملائمة.

كان من الطبيعي والحالة هذه انتقال الوزراء إلى المحافظات لعقد الاجتماعات السياسية والوقوف على مطالب الجماهير لحل مشاكلها، وكان الوزراء يعرضون ما يلمسونه داخل المجلس إلا أن الزملاء تقدموا بالشكوى لعبد الناصر في إحدى الجلسات بأنهم كثيرا ما يجدون أنفسهم في حرج بالغ لعدم قدرتهم على حل بعض المشاكل البسيطة لعدم توفر الاعتمادات وأذكر أن الرئيس قال "بقي ده معقول؟ وزير قد الدنيا نازل المحافظة أو المركز ولا يمكنه البت في إصلاح جامع أو عمل قنطرة؟ لازم وزير الخزانة يخصص اعتمادا لمثل هذه الأمور". وفعلا وفي نفس الجلسة خصص الدكتور عبد العزيز حجازي وزير الخزانة مليوني جنيه تحت تصرف الوزراء للصرف منها لمواجهة المطالب الجماهيرية العاجلة.

وقد أثمرت هذه الطريقة وأصبحت اللقاءات الجماهيرية مثمرة وبناءة وكان ذلك تطورا ثوريا في مفاهيم الحكم إذ أصبح من المعتاد انتقال الوزراء إلى الجماهير وإجراء الحوار معهم ولم يكن ذلك مألوفا من قبل فإذا أضفنا إلى ذلك تنفيذ "نظام الحكم المحلي" والتنازل له تدريجيا عن بعض السلطات المركزية وانتشار وحدات الإتحاد الإشتراكي رغما عن بعض سلبياته لعرفنا أن الالتصاق الحقيقي بين الجماهير والسلطة كان يسير في الاتجاه الصحيح.

وكان الحماس يغلب بعض الوزراء وهم يعرضون آراءهم أثناء المناقشات فيقولون مثلا "يجب تحسين وسائل المواصلات .. أو يجب محو الأمية .. أو يجب العودة إلى الشريعة" وكان ذلك يثير عبد الناصر ويضايقه فيرد قائلا: "كل واحد عمال يقول يجب .. يجب .. يجب، طيب ما أنتم في المسؤولية .. لماذا لم تخططوا لذلك؟ لماذا لم تنفذوه؟ قبل ما نقول لازم ويجب علينا أن نفكر في كيف يتم هذا؟ لأننا عارفين إنه يجب ولكن يمكن مش عارفين كيف يتم ذلك؟ ويجب أن تتذكروا شيئا مهما للغاية .. الجماهير ليست وحدة عسكرية يمكن لو الواحد في الوحدة العسكرية أمر الجنود بالاتجاه إلى اليمين مثلا فالكل يطيع الأمر لكن لو أي فرد في ميدان الأوبرا واحتشدت الجماهير هناك وأمرهم بالاتجاه إلى اليمين قد لا يطيعه أحد أو يمكن واحد يتجه لليمين وعشرة لليسار وعشرين للخلف".

حدث في إحدى الجلسات أن مجلس الوزراء كان منهمكا في بحث "الخطة السنوية للدولة" وكيفية تدبير الأعباء المالية من العملة الصعبة أو العملة المحلية وإذا بالزميل عبد العزيز كامل وزير الأوقاف يلح في طلب الكلمة، وكان من عادة "عبد العزيز" أن يفاجئ الجميع بإثارة موضوع آخر بعيدا كل البعد عن الموضوع الذي يناقش كما كان معروفا عنه أنه كان دائما ما يعبر عن آرائه بجمل مطاطة لا تلزمه برأي معين، أعطاه الرئيس الكلمة بعد أن لمس إصراره وإلحاحه وإذا به يردد نفس ما يردده أحيانا على شاشات التليفزيون أو في الصحافة عن "ضرورة العودة للدين ونشر الدعوة بين الشباب لتوعيتهم بأمور دينهم وتاريخ السلف الصالح .." ورد عبد الناصر قائلا: "أنا موافق يا عبد العزيز، ولكن كيف؟ طيب يا أخي أنت وزير الأوقاف ولديك ميزانيتك الغنية الضخمة وتحت يدك الجوامع والخطباء وكافة أجهزة الإعلام، ما الذي يمنعك من تنفيذ ما تقول؟ هل تقدمت بخطتك لتنفيذ ذلك واعترضنا عليها؟ هناك فارق كبير بين الحديث عن شيء والعمل على تنفيذه".

وأسقط في يد "عبد العزيز" وتنبه إلى الفارق الكبير بين مجرد "الحكي" وبين "المسؤولية" الوزارية .. بين "مجرد الكلام" وبين "المقدرة على التنفيذ".

وزاد موقفه صعوبة حينما طالبه الرئيس بخطة كاملة تناقش داخل مجلس الوزراء خلال أسبوعين للتصديق عليها.

وفات "عبد العزيز" أن الريس دون الموعد في "النوتة" الشهيرة.

وفي الوقت المحدد سأل الرئيس عن "الخطة الدينية" التي كثيرا ما تحدث عنها "عبد العزيز كامل" واعتذار الرجل عن عدم إتمامها، ومن المؤكد أنها لم تقدم للمجلس حتى وفاة عبد الناصر رحمه الله ولا أظن أنه أتمها حتى الآن!! فالكلام شيء والتنفيذ شيء آخر، وإلقاء محاضرة هنا أو هناك شيء والقدرة على الخلق والبناء شيء آخر!!

وكان المجلس دائما ما يستعرض كلا من الموقفين الخارجي والعسكري .. فيلقي كل من وزيري الخارجية والحربية بيانا بالموقف وكان الكثيرون يشتركون بعد ذلك في الحوار والمناقشة، وفي حالة غياب محمود رياض وزير الخارجية في الخارج كان يستدعي نائبه لحضور مجلس الوزراء لاطلاعه على ما كان يجري، إلا أن الموضوعات العسكرية الحساسة كخطط العمليات المقبلة أو المشاكل التفصيلية للتسليح أو التصنيع الحربي كانت تستعرض بشكل سريع، وفي اعتقادي أن هذا أمر سليم، ولا أقول ذلك لأنني كنت وزيرا للحربية لفترة قصيرة بعد النكسة ولكني أقوله لأنه أمر معمول به في كافة الدول حيث تناقش مثل هذه الموضوعات في مجالس متخصصة كمجالس الحرب أو مجالس الدفاع أو في وزارة الحرب التي تشكل من عدد قليل من أعضاء مجلس الوزراء .. حدث هذا ويحدث في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل، ولذلك أسبابه ودواعيه فما الحيلة إذا كان للحوائط آذان كما يقولون؟!!

ولا أريد أن أسترسل أكثر من ذلك في "الموضوعات العامة" التي كانت تناقش في مجلس الوزراء في ذلك الوقت فهناك عشرات من الموضوعات التي يمكن أن تذكر وأكتفي بما سبق على سبيل المثال.

ولكن قبل أن ننتقل إلى موضوع آخر لا بد من وقفه.

فمن الغريب حقا أن كثيرا من أعضاء مجلس وزراء عبد الناصر تقاعسوا عن توضيح الأعمال الكبيرة التي اشتركوا فيها وتخاذلوا أمام الحملات التي قام بها البعض ليشوهوا كل ما حدث وهذا التقاعس والتخاذل أمر لا يجوز.

ولكن الأكثر غرابة أنني قرأت لبعض الزملاء السابقين – وأحمد الله أنهم قلة – نقدا عن أسلوب المناقشات داخل المجلس .. وتناهى إلى سمعي في نفس الوقت ما يردده البعض منهم عن مواقف "صلبة" و"عنتريات" لتلقين عبد الناصر درسا، وهذا أمر مؤسف.

لأنني أقرر هنا أن الفرصة كانت تتاح للجميع للمناقشة وللتعبير عن الرأي، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن باب المناقشة كان مفتوحا للجميع على مصراعيه فإن تردد البعض في الدخول فيه لأسباب تتعلق بشخصه فالتبعية تقع عليه، لأنني أتساءل: من من الزملاء طلب الكلمة ولم تعط له؟ أو أراد أن يتحدث في موضوع وحرم من ذلك؟ أو فتح حوارا ومنع من الاستمرار فيه؟

وإقدام نفر قليل ممن عمل تحت رئاسة عبد الناصر لسنوات أو شهور على التهجم عليه بعد أن مات يثير تساؤلا جادا عن سبب استمرارهم في العمل تحت رئاسة لا يرتاحون لأسلوبها؟! وأقف عند حدود التساؤل لأنني أن أجازف بإقحام الوفاء في الموضوع لأنه شيء – كما يبدو – انتهى وضاع.

ولننتقل الآن للحديث عن الموضوعات المدرجة في جدول أعمال مجلس الوزراء أو "الرول" لنتحدث عن طبيعتها وطريقة عرضها على المجلس.

كان هناك العديد من اللجان الوزارية واجبها بحث كافة الموضوعات التي ستعرض على مجلس الوزراء بحثا مستفيضا قبل إتمام عرضها وكان يصدر قرار من رئيس الوزراء عقب أي تشكيل وزاري يحدد هذه اللجان وأعضاءها وواجباتها ويرأس اللجنة أقدم الوزراء وكان يضم إلى عضويتها رؤساء بعض الأجهزة التي تتعلق أعمالها باختصاصات هذه اللجان وكان يمكن للجنة استدعاء من تراه من المتخصصين لبحث موضوع معين للاستنارة بآرائهم، وكانت سكرتارية الحكومة تتولى أعمال السكرتارية الخاصة بهذه اللجان، وكانت كل لجنة تعقد اجتماعا أو أكثر كل أسبوع في القاعة المخصصة لذلك بمبنى مجلس الوزراء.

وكان عدد اللجان ستا: لجنة الخطة التي تتولى بحث كافة الموضوعات المتعلقة بالخطة والميزانية، اللجنة الاقتصادية وكانت تبحث كافة الموضوعات الاقتصادية، لجنة إعداد الدولة للحرب، لجنة التنظيم والإدارة ومسؤوليتها بحث قوانين العاملين في الحكومة والقطاع العام، لجنة الخدمات لدراسة الموضوعات الخاصة بالتعليم والثقافة والصحة، اللجنة التشريعية لدراسة القوانين والتشريعات.

وكان يعرض على هذه اللجان الموضوعات التي تحول إليها من مجلس الوزراء أو من الوزارات المختصة أو من الأجهزة الرئاسية، وتعد لها دراسات متشعبة يتم دراستها داخل اللجان.

وحينما يصبح الموضوع جاهزا للعرض على مجلس الوزراء يوافق وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء على إدراجه في جدول أعمال المجلس ومن ثم يتم طباعته وتوزيعه على أعضاء مجلس الوزراء قبل عقد الجلسة المخصصة لدراسته بوقت كاف حتى يتسنى للوزراء دراسته وإبداء رأيهم فيه، وكان هذا النظام يحقق دراسة الموضوعات قبل البت في مجلس الوزراء دراسة وافية لذا لم تكن مناقشة الموضوعات تستغرق وقتا طويلا للبت فيها إما بالرفض أو الموافقة.

وكانت اللجان الوزارية بذلك مجالا آخر أمام الوزراء وأجهزتهم كذا المسؤولين الآخرين لإبداء الرأي في كافة الموضوعات.

وكان مجلس الوزراء بذلك مؤسسة تعمل بتنظيم دقيق وتعرض عليها كافة الموضوعات قبل إصدار قرار بخصوصها.

ومن ثم فليس من العدالة أن يقال إنه لم تكن هناك خطط مدروسة أو أن يردد بعض الحاقدين أن القرارات كانت عشوائية!! وإلا فبالله عليكم ما هو النظام الذي كان يمكن أن يسير عليه مجلس الوزراء خلاف ما حاولت أن أوجز شرحه؟!

وبالرغم من هذه الدراسات كانت المناقشات تدور لوقت طويل في الأمور المتعلقة بالخطة .. وكان الرئيس يضيق ذرعا بالطريقة المعقدة التي كانت تعرض بها الخطة في أوراقها الكثيرة وجداولها المتعددة فكان يطالب بتبسيط طريقة عرضها حتى يتمكن كافة الوزراء من مناقشتها لدرجة أنه كان يطالب بإرفاق موجز يوضح على سبيل المثال:

كم فدانا سيتم إصلاحه؟ الزيادة المتوقعة من إنتاج الحبوب أو القطن؟ كم دجاجة سيتم إنتاجها؟ عدد البيض المنتج؟ الإنتاج الحيواني؟ الأسماك؟ الحديد والصلب؟ العربات والثلاجات والسخانات والغسالات؟ الإطارات المنتجة؟ المدارس والمستشفيات؟ فرص العمالة التي تهيئها الخطة؟ زيادة الأجور؟ العمالة التي يمتصها قطاع الصناعة من قطاع الزراعة .. إلخ.

وكانت هناك مبادئ مقررة تحقق وحدة الفكر داخل المجلس:

القروض والتسهيلات الائتمانية يتم إنفاقها في المشروعات الإنتاجية وليس في الخدمات.

عدم الميل إلى الانكماش والعمل على زيادة الإنتاج ولم تقل الخطة الاستثمارية حتى في ظروف النكسة عن 300 مليون جنيه سنويا ورغما عن متطلبات إعداد الدولة للحرب.

عدم السماح للبنك الدولي بفرض شروطه رغما عن المحاولات العديدة التي تمت في هذا الاتجاه كإصراره على تخفيض قيمة العملة المصرية أو رفع الدعم أو إلغاء قوانين المكاسب العمالية أو الاتجاه إلى التركيز على الخدمات.

ولم يكن المجلس يلاقي أية صعوبة في تغطية احتياجات الخطة من العملة فكانت التسهيلات الائتمانية تتوفر من الغرب والشرق على حد سواء وكم ساهمت الدول الغربية إلى جانب الدول الشرقية في تنفيذ المشروعات المتعددة وإنشاء المصانع المختلفة والدليل على ذلك أنه بالرغم من ظروف النكسة فإن مشروعات عملاقة كان يتم بناؤها مثل: مشروع التوسع في مصنع الحديد والصلب ومشروعات الدرفلة، مشروع الألمنيوم، مشروع صناعة العربات، البدء في مشروعات مناجم أبو طرطور، مشروع الترسانة البحرية في الإسكندرية وغيرها من المشروعات.

وكان من أخطر المشروعات التي ناقشها مجلس الوزراء برئاسة عبد الناصر نقل مصانع منطقة القناة جميعها إلى داخل البلاد بعد أن أصبحت مهددة بنيران العدو القابع في الشرق وفعلا تم فك المصانع جميعها تحت نيران العدو الموجهة من طيرانه ومدفعيته فتم نقل الحوض العائم لهيئة القناة ومصانعها مثل مصانع الأحبال وإصلاح السفن ومصانع الإلكترونات ثم تم نقل معمل التكرير الضخم إلى مسطرد ومصانع السماد .. إلخ، وكان الجهد الذي بذل في ذلك يعادل تماما الجهد الذي بذله الاتحاد السوفيتي في نقل مصانعه إلى الأورال أيام الحرب العالمية الثانية مع مراعاة الموارد والإمكانيات المتيسرة هنا وهناك.

وبعد النكسة ظهرت بعض الآراء عن العمالة الزائدة والكف عن التزام الدولة بإيجاد عمل للخريجين من الجامعات ورفض الرئيس ذلك قائلا: "أي عائلة تنتظر انتهاء أولادها من التعليم حتى يجدوا عملا يدر عليهم دخلا، وكلنا مررنا بهذه الأوضاع، وعلينا ألا نخيب أمل العائلات بعد أن ذاقوا الأمرين حتى يتخرج الأولاد والبنات".

وارتفعت أصوات أخرى تهاجم مجانية التعليم تحت شعار أو آخر وكان عبد الناصر يغضب من ذلك فبالرغم من عيوب طريقة التحاق الطلاب بالجامعات وفقا لمجموع الدرجات الحاصلين عليها فإنه كان يجد ذلك محققا لمبدأ تكافؤ الفرص وكان يضرب مثلا بابنته التي لم يؤهلها مجموعها للالتحاق بالجامعة فاضطرت للالتحاق بالجامعة الأمريكية.

وعلينا أن نتذكر أن هذا ما كان يواجهه عبد الناصر في مجلس الوزراء إلى جانب المناقشات التي كان يحضرها في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي واللجنة المركزية واللجان العسكرية.

وأمنع نفسي مجبرا من الاسترسال لضيق المجال.

ولكن كيف كان يتعامل عبد الناصر مع وزرائه؟

سيكون هذا حديثنا في الفصل التالي بإذن الله.

الفصل الثالث: كيف تعامل عبد الناصر مع وزرائه

فضيلة الاستماع بصبر – مسؤول يدعي بإقالة لم تحدث – الترضية لا تصل إلى حد الاعتذار – وزير يبحث عن مسكن – عبد الناصر يتراجع – بلاغ كاذب إلى الرئيس – القرار بقانون رقم 97 لسنة 1969 – أزمة في وزارة الحربية – الوزير يفقد كرسيه – عبد الناصر ظن أن الفئران بدأت تغادر المركب لأنهم ظنوا أنها تغرق.

كيف كان يتعامل "عبد الناصر" مع وزرائه؟

كان من أهم خصال عبد الناصر قدرته على "الاستماع" .. وهي ميزة ثمينة لرجل الحكم ورجل الدولة .. كان في إمكانه أن يستمع لفترات طويلة دون أن يقاطع أو يتدخل فإذا انتهى الوزير من الإدلاء برأيه تبدأ المناقشة في هدوء في أغلب الأحيان، لأنه أحيانا كان يخرج عن هذا الهدوء إذا كان مزاجه متوعكا، أو إذا كان المتحدث غير ملم بموضوعه، أو إذا كانت هناك مزايدة لا تتواءم والإمكانيات الموجودة أو الظروف السائدة.

حدث مرة أن كلف وزير النقل بأن يقدم للمجلس خطة لإصلاح مرفق السكك الحديدية إذ كانت هناك شكاوى من أن حالة المرفق أصبحت تحتاج إلى عناية خاصة وطبعا رجع الوزير إلى المختصين للدراسة وتقدم بخطته في مذكرة لتعرض بصفة عاجلة على المجلس وكانت التكاليف المقدرة لتنفيذ إصلاحات المرفق 400 مليون جنيه، وبدأ الوزير في إلقاء بيانه ومبرراته وفجأة قاطعه عبد الناصر قائلا "أنت طالب 400 مليون جنيه لإصلاح المرفق، وأنت تعلم الظروف التي تمر بها البلاد وهي تخوض حربا لتحرير الأرض، لو كنت مكاني الآن من أين تحصل على هذا المبلغ دفعة واحدة؟ وحتى لو تيسر لنا ذلك هل لدى المرفق القدرة على إنفاق هذا المبلغ في السنة المالية الحالية؟" وأضاف عبد الناصر قائلا: "المسألة ليست التخلص من المسؤولية وإثبات مواقف، يجب علينا أن نتقدم بطلبات معقولة تتناسب مع الإمكانيات المتاحة، ولكن ما ألمسه في الطلبات المقدمة أنها طلبات غير مسؤولة". وطلب من الوزير إعادة الدراسة على أساس الطلبات العاجلة والطلبات التي يريدها في المدى الطويل.

ويردد رئيس هيئة السكك الحديدية الآن أنه فقد منصبه لأنه طالب بإصلاح المرفق في ذلك الوقت، وهذا غير صحيح بالمرة، فرئيس الهيئة ظل في منصبه ولم يمسه أحد وقد مضى على وفاة عبد الناصر عشر سنوات كاملة وما زال المرفق على حاله وربما تراجع كثيرا إلى الوراء، وأظن أن عشر سنوات تعتبر مدة كافية له لإصلاح ما كان يريد، خاصة وأنه استمر أغلب هذه الفترة مسؤولا عن المرفق مسؤولية كاملة ومباشرة.

وكان "الريس" إذا شعر أنه تجاوز الحد المعقول فإنه كثيرا ما كان يصلح من الموقف بطريقة تحمل معنى الترضية ولكنها لا تصل أبدا إلى حد الاعتذار.

وكان يفضل الاتصال التليفوني أو المذكرات المختصرة عن تكرار المقابلات الشخصية مع وزرائه لأنه ربما كان يعتقد أن اجتماعاته المنتظمة مع وزرائه في مجلس الوزراء أو في اللجنة المركزية تغني عن تعدد المقابلات الشخصية أو ربما كان وقته لا يتسع لمثل هذه المقابلات نظرا لمشاغله العديدة ولكنه لم يتردد في مقابلة أحد من وزرائه إذا طلب مقابلته.

وكانت مقابلاته تتم في الطابق السفلي بمنزله في منشية البكري في حجرة الصالون البسيط الذي كانت تتصدره صورة "أم تحنو على وليدها" وعلى رف المدفأة صور رؤساء بعض الدول المهداة إليه ... نكروما، تيتو، بندرانيكا، سوكارنو، نهرو ... وفي أحيان قليلة كانت تتم المقابلة في "المكتب" على يسار الداخل.

وكان الرجل يحيط زائره بكل رعاية .. استقبال جيد .. جلسة تحوطها البساطة .. ثم لا بد من مشروب بارد وآخر ساخن .. وتقديم سيجارة يحرص على إشعالها بنفسه للضيف، وبعد أن تنتهي المقابلة كان يحرص على توديع الزائر حتى الباب الخارجي ويظل واقفا حتى تتحرك عربة الزائر إلى باب الخروج، فتنشر المقابلة في الصحف أو لا تنشر حسب تعليمات "الريس" الشخصية.

ولم يكن من عادته ارتداء "البدلة الكاملة" في مقابلاته إلا إذا كانت هناك مناسبة تقتضي ذلك إذ كان يفضل ارتداء القميص والبنطلون والصندل وأما في الشتاء فيمكن أن يرتدي "بلوفر" من الصوف، ولم يكن في الوقت نفسه حريصا على أن يقابله "الوزير" في بدلته الكاملة.

كنت أرتدي "البوشرت" في إحدى مقابلاتي معه وكانت المرة الأولى التي يراني فيها بهذا الزي وبعد أن صافحني قال ضاحكا "أنت الآن مثل نيريري" إذ كان الرئيس التانزناني يحرص على ارتداء "البوشرت" بصفة دائمة، وفي تلك المقابلة أيضا أشعل لي سيجارة قدمها لي وحينما قدم السيجارة الثانية أشعلتها مستخدما عود ثقاب فلم يكن معي "ولاعة" فعلق قائلا "بقي يا أخي وزير وليس معك ولاعة" وأهداني في الحال بواحدة ما زلت أحتفظ بها في اعتزاز حتى الآن.

وكان يجامل وزراءه في الملمات كوفاة أحد الأقرباء أو في المرض كذلك كان يجامل في المسرات وأحيانا كان يحضر بنفسه للتعزية أو للاطمئنان على الصحة أو في الأفراح ولكنه كان عزوفا بصفة قاطعة عن حضور الدعوات الخاصة أو المآدب أو الزيارات وكانت زياراته الخاصة مقتصرة على منزل أو اثنين من منازل المقربين منه يذهب إليهما لبضع ساعات في الليل للترويح عن النفس.

ثم كان – في الوقت نفسه – يعاون في حل مشاكلهم الخاصة إذا وصلت إلى سمعه وربما استغل البعض عدم قدرته على رفض أي طلب خاصة إذا طلب في منزله استغلالا كان يحرج الرجل أحيانا ولكنه لا يظهر ضيقه إلا إذا فاض الكيل، ولكنه كان يبادر من نفسه لتقديم المعاونة في الحالات المعقولة.

فمثلا في حالة وفاة وزير أو فقده لمنصبه الوزاري كان يمنح الوزير أو العائلة معاشا استثنائيا ليحافظ على مركزه الاجتماعي من جانب ولعدم تورطه في أعمال غير لائقة من جانب آخر.

حدث أن "الدكتور حسن مصطفى" وزير الإسكان في ذلك الوقت كان يعاني من عدم وجود مسكن خاص له قبل استيزاره كان يعمل في الخارج وأجر مسكنه الخاص لأحد أساتذة الجامعة فلما عاد "حسن مصطفى" ليتولى منصبه الوزاري حاول أن يقنع المستأجر بإخلاء المنزل دون جدوى فسكن في "بدروم" المنزل في الطابق الأسفل وهذا وضع لا يليق، ولم يتمكن وهو وزير الإسكان من طرد المستأجر واستغل هذا الموقف وأخذ يرسل بالشكاوى العديدة إلى مختلف الجهات لقطع خط الرجعة على الوزير إن أراد أن يقدم على أي إجراء، ووصلت إحدى الشكاوى إلى "الريس" طبعا بصورة مشوهة، فاتصل بي غاضبا وطلب مني التحقيق، كان الأخ "حسن" وزيرا نزيها فاضلا عالما طيبا، وفي جلسة خاصة بيني وبينه اتضح الموقف ووضعت الصورة "الحقيقية" أمام "الريس" فأمر بأن يخصص له إحدى الشقق من "الحراسة" علما بأنه كان قد أصدر تعليماته ببيع مثل هذه المنازل في "المزاد العام".

وحدث نفس الشيء مع حافظ بدوي وزير الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت إذ كان يقطن في شارع الجيش في شقة رأى أنها أصبحت لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي الجديد وكان حافظ "يتردد" كثيرا في الاتصال بالرئيس لهذا السبب أو غيره، إلا أن الرئيس حينما علم بذلك أمر بتخصيص منزل له رغما عن الظروف السابق شرحها ورغما عن أنه كان يقدم على هذه الحلول وهو كاره محرج، وبهذه المناسبة كان "حافظ" عضوا في لجنة تنظيم الأسرة وكان باسم الله عنده "دستة" من الأولاد وكان ذلك محل تندر دائم من "الريس" إذ كيف يمكن له أن يقنع غيره "بتنظيم أسرته" وعنده مثل هذا "الجيش العرمرم".؟!!

وكما سبق القول فإن البعض كان يستغل مشاعر الرئيس في أمور محرجة فمثلا أراد أحد الوزراء أن يشتري بيتا من البيوت التابعة لإحدى الجهات الحكومية باسم زوجته وتقدم بمذكرة للرئيس أثناء إحدى مقابلاته معه في منزله فأشر الرئيس عليها "أمين هويدي للتنفيذ" إلا أنني أعدت عرض المذكرة على "الريس" مؤكدا أن هذا التصرف فيه مخالفة صريحة لمواد الدستور وللعرف المتبع "رجاء إعادة التوجيه". وفي اليوم التالي اتصل بي محمد أحمد السكرتير الخاص "للريس" وقال لي: "أنت عملت إيه؟ الريس هايج ويريدك أن تتصل به فورا على التليفون الخاص". إلا أنني ذكرت لمحمد أحمد أن الأفضل ألا أتصل بالرجل في حالة غضبه تلك وسأتصل به في المساء ورجوته أن يخبره بأنني لست موجودا وبأنه يحاول البحث عن مكاني، وحينما اتصلت "بالريس" تساءل عن مكان وجودي طول النهار، وعرفت أن عبد الناصر على علم بتفاصيل ما تم بيني وبين الأخ محمد أحمد فقلت له "أنا كنت في مكتبي ولم أتصل بسيادتك لأنني علمت أنك غاضب ففضلت الاتصال بعد أن يزول غضبك" ويبدو أن هذا لم يكن كافيا للتخفيف من ثورة الرئيس وانفجر قائلا: "يعني يا أمين أنا أصبحت غير قادر على تنفيذ تأشيراتي، نفذ التأشيرة فورا". وأنهى المحادثة وهو في ثورة غضبه، وفي اليوم التالي اتصل بي "الريس" وكان هادئ المزاج وأخبرني وسط الحديث بأنه "يمكن تجاهل الموضوع وعدم تنفيذه وأعمل إيه في الناس الذين يحرجوني" وفعلا تم إلغاء الموضوع، وهذه القصة تضاف إلى حساب عبد الناصر لأن موقفي لا يتعدى القيام بالواجب بأمانة أما أن يتراجع عبد الناصر عن تأشيرته ففيه عودة إلى الحق رغم موقفه المتصلب في اليوم السابق .. وكثيرا ما فعل الرجل ذلك على عكس ما يقال.

ولا بأس من ذكر قصة أخرى لتعزيز ما أقول ..

وصلت مذكرة كتابية من أحد رؤساء تحرير المؤسسات الصحفية الكبرى كان يحرص على إمداده بالمعلومات أو الأخبار عن انحراف قام به أحد أعضاء جهاز الرقابة الإدارية واتصل بي الرئيس – وكنت في ذلك الوقت وزيرا للدولة ورئيسا للمخابرات العامة – وأمرني بالتحفظ على الموظف والتحقيق معه، وكان "الريس" ثائرا ... وأرجعت ثورته إلى ثقل الاتهام وإلى حساسية الجهة التي ينتمي إليها الموظف وإلى ثقة الرئيس الكبيرة في رئيس التحرير المذكور.

وضقت ذرعا بالمأمورية الثقيلة لأنني منذ إشرافي على جهاز المخابرات العامة في 26/ 8 / 1967 وحتى تركته في فبراير – شباط 1970 لم أستخدم سلطة الضبطية القضائية التي خولني إياها القانون ولو لمرة واحدة بل ولم أوافق على استخدامها بواسطة أي فرد من الجهاز في الوقت نفسه منعت قيام الجهاز بواجب التحقيق المخول له قانونا وكنت أفضل إحالة كافة القضايا إلى النيابة العامة وإلى نيابة أمن الدولة وبذلك اقتصر واجب الجهاز على جمع الأدلة بوسائله الخاصة وتقديمها إلى سلطات التحقيق لترى ما تراه.

ولم يكن أمامي إلا أن أبدأ التحقيق مع المذكور، ووضح لأول وهلة براءته الكاملة مما أسند إليه إذ كانت المستندات التي تحت يده تثبت ذلك بصفة قاطعة ولم أتردد في الاتصال بالرئيس على الفور ليلغي قرار التحفظ وقبل أن أنتهي من عرض القضية تماما غضب الرئيس "فالموضوع يحتاج إلى مزيد من التمحيص ثم يا أخي أنا أمرت بالتحفظ ولازم ينفذ هذا الكلام ثم لازم تبطل دماغك الناشفة دي". وأنهى الرجل المكالمة.

ومر بعض الوقت وأنا أعاني من عوامل نفسية متباينة.

إلا أن "الريس" عاد واتصل بي ولمست لأول وهلة أن هدوءه عاد إليه وأخذ يطلب بعض التفاصيل وعلى الفور أمر بإلغاء التحفظ على المذكور مع استمرار التحقيق لمعرفة المتهم الحقيقي، وانتهى التحقيق إلى اتهام اثنين ببعض المخالفات الجسيمة وكانا شقيقين لعضوين من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا إلى جانب آخرين .. وعرض "الريس" الموضوع في أحد اجتماعات اللجنة التنفيذية ووقع على الشقيقين الجزاء المناسب.

وكانت التعديلات الوزارية التي يجريها "عبد الناصر" تتم في تكتم لدرجة أن الكثيرين ممن كانت تشملهم التعديلات لا يدرون بها إلا من الصحف أو قبل إعلانها بوقت قصير وفي أغلب الأحيان لم يكن يعرف أسباب خروج الوزير من الوزارة ولا يفضل الكثيرون هذه الطريقة في إجراء التعديلات التي تحدث في قمة السلطة إلا أنه لم يكن خصومة شخصية مع أي ممن تشملهم التعديلات الوزارية، فكان يمنح البعض معاشات استثنائية إذا كانت ظروفهم المالية تستدعي ذلك، ثم كان يعيد الوزير إلى منصبه الوزاري بعد فترة قد تطول وقد تقصر، أو كان يوافق على أن يشغل أي عمل في الداخل أو الخارج كرئيس هيئة من الهيئات أو كأستاذ في الجامعة أو كسفير في وزارة الخارجية أو في أي منصب في الهيئات الأجنبية إذ كان يعد ذلك مكسبا قوميا يجب أن نسعى إليه.

إلا أنه حدث بعد أحد التعديلات الوزارية أن التحق وزيران بشركات أجنبية لها أعمال تتعلق بوزارتيهما وكان التعيين بعد فترة قصيرة من إجراء التعديل الوزاري وغضب عبد الناصر وأثار الموضوع في أحاديثه "لأنه من الواجب إبعاد أي شبهة عن المنصب الوزاري خاصة في تعامله مع الجهات والشركات الأجنبية حيث إن مثل هذه التعيينات قد تثير تساؤلات وشكوكا عن طبيعة العلاقات بين الوزير والشركات التي كانت تتعامل مع أفرع وزارته وعلى أساس أن الموضوع لو ترك هكذا دون تنظيم فإنه قد يفتح مجالات يحسن قفلها". وأمر بإصدار قرار ينظم عمل الوزراء بعد خروجهم من التشكيل الوزاري. فصدر قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 97 لسنة 1969 بتنظيم العمل لدى جهات أجنبية بالنسبة لوظائف معينة ونصت المادة الأولى منه على أنه "لا يجوز للوزراء ونواب الوزراء ومن في درجتهم أن يعملوا لدى الحكومات أو المؤسسات الأجنبية بأشكالها المختلفة أو لدى الأجانب أو أن يقوموا بأي عمل لحساب تلك الجهات خلال الخمس سنوات التالية لترك مناصبهم ولا يسري هذا الحظر على من يعملون لدى الهيئات الدولية". ثم نصت المادة الثانية على أنه "يجوز بقرار من رئيس الجمهورية إضافة وظائف أخرى يخضع شاغلوها بعد انتهاء عملهم بها لأحكام هذا القانون".

وفي كل الحالات لم يمانع "الرئيس" في "إضافة وظائف أخرى" إلى من طلب التصديق بذلك بشرط أن يحافظ على كرامة المنصب الذي شغله من قبل، وقد حدث مثلا أن وزيرا سابقا للسياحة طلب الموافقة له على العمل بإحدى الهيئات الدولية ووفق على طلبه ولكنه ظهر أنه نقل مجال عمله الخاص إلى منطقة الخليج علاوة على أنه أساء إساءة بالغة في التعامل الذي خرج عن حدود الأمانة هناك، وعلم "الريس" بذلك فحدد إقامة الوزير السابق في منزله وأمر بوضعه على قوائم الممنوعين من السفر، وليس صحيحا ما كتبه الوزير من أنه اعتقل لأنه قال "لا" لعبد الناصر، ولكن حددت إقامة هذا الوزير لأنه لم يصدق حينما طلب الموافقة على عمله بإحدى الهيئات الدولية ولم يكن هذا صحيحا، ولأنه تعامل بطريقة تقرب من الاحتيال مع دول عربية ولم يكن هذا جائزا.

وكان "الريس" ملما تمام الإلمام بما يدور .. كان قارئا ممتازا يطلع على أحدث المؤلفات التي تصدر في الخارج فربما قرأ الكتاب كله وربما قرأ بعضا منه وربما أمر بتلخيصه حتى يقرأ موجزا عنه، ولا يمكن لأي فرد أن ينكر سعة اطلاعه وثقافته الواسعة وإلمامه بالتغييرات الدولية والعوامل المتجددة التي تدور على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

حدثت أزمة أثناء كنت وزيرا للحربية عقب النكسة .. كانت القيادة العامة للقوات المسلحة تعيش وقتئذ في نفس المناخ الذي عاشت فيه قبل النكسة ... فأراد عبد الناصر أن يقلم أظافرها بتعيين وزير مدني على رأسها يحاول أن يخضعها للمسئوليات الوزارية والبرلمانية كغيرها من الوزارات، ويحاول أن يرجعها إلى حدودها بعد أن كانت تمددت وتورمت وأصبحت تتداخل في أمور كثيرة خارج اختصاصها، ويحاول أن يخضعها إلى الرقابة المالية للأجهزة المسؤولة عن ضبط حسابات الدولة .. ولم يكن هذا الأمر سهلا بل سبب منذ الوهلة الأولى تصادمات وصراعات حتى والعدو جاثم على الضفة الشرقية للقناة .. وكنت أتناقش في إحدى المرات مع "الريس" فيما يحدث وابتسم الرجل في تعب وسألني "هل قرأت كتاب رجال البنتاجون"؟

Men of the pentagon – from Forrestal to Mcnamara – By C. W. Borklad.

وأسقط في يدي إذ لم أكن قرأته أو سمعت عنه، ونصحني الرجل أن أقرأه. أقرأه!!! متى "يا ريس" أقرأ كتابا وأنا لا أكاد أجد وقتا للنوم وأنا أمر على المطارات في الهليكوبتر من الفجر حتى آخر ضوء ثم على مواقعنا الدفاعية في القناة ثم قضايا التسليح والميزانية وإعادة تنظيم القوات ثم عملي في المخابرات العامة ..!! وأحضرت الكتاب وقرأته من الغلاف إلى الغلاف، وبعد أسبوعين سألني "الريس" عما إذا كنت قرأت كتاب "رجال البنتاجون"؟ فأجبته بالإيجاب. فتساءل عن رأيي وأجبته "لقد قرأت يا سيدي الرئيس عن الصراعات المريرة التي خاضها وزراء الدفاع مع رجال المؤسسة العسكرية حتى تكون القوات العسكرية خاضعة لسياسة الدولة". وأعجبني روبرت ماكنمارا الذي كان يصر على أن يسير العسكريون في الخط والذي كان يصر على أن يقود جهازه وليس العكس ولضخامة مسؤوليته فإنه قال لرئيس الولايات المتحدة إنه ما كان في مقدوره أن يستمر في موقعه دقيقة واحدة دون التأييد الكامل للرئيس في معاركه الصعبة، وفهم الرجل ما أقصد ولكنه لم يرد ... فأضفت قائلا "ولو لم يحدث ذلك يا سيادة الرئيس لحدث له ما حدث لجيمس فورستال الذي أفقده رجال البنتاجون عقله وانتهى به الأمر أن يغافل الجميع وهو يعالج في المستشفى وينتحر" وبعد ذلك تردد عبد الناصر كثيرا في حسم المسؤوليات والسلطة داخل القيادة العامة للقوات المسلحة وهنا أخبرته بتوقفي عن ممارسة مسؤولياتي كوزير للحربية حتى يحسم الموقف، وبعد أسابيع عديدة حسم الموقف بطريقته التي فضلها وتركت وزارة الحربية قبل أن أفقد عقلي أو أقدم على الانتحار!!!

وملحوظة سريعة .. رغما عن المحاولات العديدة التي حاولها "الريس" فقد صممت على موقفي ولم أتنازل عنه ورفضت تحمل مسؤولية غير واضحة المعالم ... ولكن الأهم من ذلك أن عبد الناصر لم يصبني بنازلة أو صاعقة كما يحاول البعض أن يصوروه وهم يبررون مواقف باركوها في حياته وتنكروا لها بعد مماته!!

وما دمنا نتحدث عن قراءاته فإن "الريس" كان يقرأ كل الموضوعات التي كانت تصله ولذلك كان ملما إلماما كاملا بما يدور ويحدث وكان من المستحسن لمن يعرض موضوعا من الموضوعات أو يسأل عن موضوع ألا يخوض فيه إذا لم يكن متمكنا منه مدركا لتفاصيله ملما بجوانبه لأنه كان سيجد نفسه بعد فترة وقد تورط حتى ركبتيه، وكان يطالب الوزراء أن يكونوا ملمين بما يجري في وزاراتهم خاصة بعد أن رفع عن كاهل الوزير كل شيء يمس التنفيذ وتفرغ للتخطيط والمتابعة، وقد حدث أن المرحوم أحمد توفيق البكري وزير الصناعة لم يكن يدري أن بعض الاضطرابات العمالية قد حدثت في قطاع الصناعة في الصباح إلا عند مناقشة الموضوع في مجلس الوزراء الذي تصادف وأن عقد إحدى جلساته في مساء نفس اليوم، وبعد أن أدلى وزير الداخلية شعراوي جمعة ببيانه التفصيلي عن طبيعة الاضطرابات ومطالب العمال والاتجاهات السائدة بينهم جاء دور "البكري" وعاتب وزير الداخلية على عدم إخباره بالأحداث وقت وقوعها، وهنا تساءل "الريس" بصوته المنخفض "كيف ذلك؟ كيف لا تكون قنوات الوزير مفتوحة على قطاعه؟ كيف لا يشعر الوزير بكل ما يجري في قطاعه؟ وإذا كان الوزير لا يعرف بالاضطرابات التي تحدث في المصانع وبأسبابها حتى يعالجها فماذا يتبقى له؟ كيف لم ينتقل الوزير إلى المصانع ليواجه العمال سياسيا ويبدأ الحوار معهم؟" ولم يعط البكري إجابات مقنعة.

ورغما عن أن الرجل – رحمه الله – كان فاضلا أمينا إلا أنه فقد منصبه الوزاري في نفس الليلة وعاد عزيز صدقي وزيرا للصناعة وبعد فترة وجيزة تولى "البكري" رئاسة مؤسسة الطيران ليواجه فيها متاعب جديدة نتيجة لوجود بعض الاضطرابات بين العاملين ولكنه كان يتتبع الأمر بعينين مفتوحتين تراقبان كل ما يحدث.

وفي أول اجتماع لمجلس الوزراء حضره عبد الناصر بعد النكسة هبت العواصف في أكثر من اتجاه .. كان أول من تحدث حسين الشافعي وبدأ يتحدث عن الأخطاء والسلبيات التي أدت إلى النكسة بصوته الهادئ العميق ... أخذ ينقد "الانفرادية في اتخاذ القرارات" ثم تناول موضوع "الحراسات" وأخذ يذكر الرئيس أنه تحدث مرارا إليه بخصوصه، واستمع الرئيس في هدوء وصبر حتى انتهى من حديثه.

وبدأ الرجل في الحديث وتساءل: لماذا لم يدل حسين الشافعي بمثل هذه الآراء من قبل؟ لماذا لم ينتقد أسلوب الحكم إلا بعد الهزيمة؟ لماذا يختار هذا الوقت بالذات؟ ثم ضحك بمرارة وهو يردد المثل الشائع "لما العجل يقع تكثر سكاكينه" وأخذ يعدد أمام المجلس القرارات الهامة التي أخذت قبل النكسة وأهمها سحب القوات الدولية وغلق خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية وأكد أنها تمت بموافقة الجميع، وقد أمن على حديثه السيدان زكريا محيي الدين وأنور السادات وكانا يحضران الجلسة، وأخذ الرجل يعدد الموضوعات والسيدان زكريا والسادات يؤمنان على ما يقول "الريس" ثم عاد لينفي أن الشافعي اعترض على الحراسات ولكنه كان يفاتحه في رفع الحراسة عن بعض أقربائه ممن طبق عليهم قانون تصفية الإقطاع وأكد أنه لم يستجب لرجائه حتى لا تكون هناك استثناءات في تنفيذ القانون، ثم عاد "الريس" ليتساءل: إذا كان أسلوب الحكم ليس محل رضائك لماذا لم تقدم استقالتك كما فعل البغدادي وكمال حسين وحسن إبراهيم؟ لماذا تبقى في حكم لا ترضى عن اتجاهاته؟ لماذا يظل في المسؤولية في ظل قوانين تتعارض مع معتقداته؟

ورد الشافعي "الاستقالة أبسط شيء لا تكلف الإنسان إلا قصاصة من الورق" ورد الريس "لماذا لا تقدم هذه القصاصة؟"

وتوقف الرجلان عند هذا الحد .. ولا أدري ماذا تم في الكواليس بعد ذلك.

ولكن الشافعي لم يقدم استقالته كما أن عبد الناصر لم يقدم على إقالته حتى يوم وفاته.

وتحدث بعض الوزراء لينقدوا قرارات شاركوا فيها ووقعوا عليها وأيدوها بل طالما ألقوا الخطب في الاجتماعات الجماهيرية ليمتدحوها ويبيعوها للجماهير، وهنا تساءل عبد الناصر والمرارة تكسو وجهه: "كل ما يحزنني هو أنكم تنقدون الآن ما سبق لكم أن أيدتموه" وقد لا أكون مخطئا أن تلك الجلسة كانت نواة لما عرف بعد ذلك ببيان 30 مارس.

ورأيت عبد الناصر في تلك الليلة وهو يغادر قاعة الاجتماعات وقد زاد انحناء ظهره وكأنه أصبح شيخا في الثمانين.

كانت صدمة النكسة قد هزت كيانه، ثم زاد من همومه "الردة" المحدودة التي حسبها فئرانا تغادر المركب الغارقة.

وبعد فترة قصيرة استعاد نفسه وبدأ يحاول أن يوجه الأحداث.

الفصل الرابع: أزمات داخل مجلس الوزراء

فات عبد الناصر أن يحيي جهد وزيره – أزمة حلمي مراد – الوزير الزئبقي – هز الحكم بين وقت وآخر – لا توجد إدارة اشتراكية أو إدارة رأسمالية ولكن توجد إدارة ناجحة – عبد الناصر لم تعجبه لحية الوزير.

في الفصل السابق كنا نتحدث عن بعض الأزمات التي كانت تحدث في مجلس الوزراء أيام عبد الناصر ولا بأس من تعداد مواقف أخرى اتسمت بالحدة.

عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 بعد نكسة 1967 عاد محمود رياض وزير الخارجية إلى القاهرة رأسا بعد أن طالت غيبته في الولايات المتحدة الأمريكية يحاول الحصول على أفضل قرار سياسي يمكن الحصول عليه ونحن في موقفنا العسكري الذي كنا عليه في ذلك الوقت.

ومن المعروف أن الولايات المتحدة حالت دون صدور قرار عادل من المجلس فلأول مرة في تاريخ مجلس الأمن يصدر قرار لا ينص على انسحاب القوات إلى المواقع التي كانت فيها القوات قبل حدوث التصادم، ومن المعروف أيضا أنه من الناحية الواقعية البحتة فإن أي قرار سياسي هو ترجمة حقيقية لما يحدث في مسرح العمليات بحيث لو وضع القرار السياسي في كفة ميزان والموقف العسكري في الكفة الأخرى لما رجحت إحدى الكفتين عن الأخرى بأي حال من الأحوال، فهذه قاعدة هامة من قواعد إدارة الصراع الدولي.

ووقت أن هبطت الطائرة علم محمود رياض أن مجلس الوزراء يعقد جلسته العادية فاتجه من فوره من المطار رأسا إلى قاعة الاجتماع في قصر القبة، ورحب عبد الناصر برياض وهنأه بسلامة الوصول ثم أضاف مبتسما "هل هذا هو كل ما أمكنك الحصول عليه يا رياض ..؟!"

ورغما عن أن "رياض" لا يحتد إلا في القليل النادر إلا أنني أحسست – وقد كان مكاني إلى جواره في المجلس – أن الرجل يبذل مجهودا خارقا ليسيطر على انفعالاته، وهو يقول "القرار ده لن ينفذ بواسطة إسرائيل إلا إذا أجبرناها عسكريا على ذلك، تنفيذ هذا القرار يتوقف أولا وأخيرا على جهدنا الذاتي ونمو إرادتنا" كان "رياض" يتحدث بصوت متهدج لأنه ظن أن "الريس" يقلل من قيمة الجهد الذي بذله في مجلس الأمن أمام عدو حصل على انتصار لم يكن يحلم به وحليف كبير يؤيده تأييدا لا حد له.

ولم يكن "الريس" يقصد ذلك على الإطلاق لأنه كان يقدر الموقف بطريقة واقعية ولذلك فإنه قال "فاتني أن أحيي الجهد الذي بذله رياض وهو في موقفه الصعب هناك في نيويورك، وأنا أوافقه تماما على ما قال لأنه لا يوجد شيء يدعو إسرائيل إلى الانسحاب".

وارتسمت علامات الرضا مرة أخرى على وجه رياض.

ولننتقل من هذا الموقف "الحاد" لنتحدث عن أزمة خلقها وصنعها "حلمي مراد" وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت.

وقبل أن أنطق بحرف واحد أريد أن أقرر أن حلمي كان يبادلني الاحترام والتقدير .. فكنت أقدر فيه صراحته وانفتاحه على أجهزة الإعلام حتى ولو رأى البعض أنها كانت تزيد من الحد الواجب .. وكان بدوره يقدر في شخصي – كما كان يقول دائما – إنني أستخدم في بعض تنقلاتي الأوتوبيس والمترو حتى وأنا أشغل منصبي الوزاري علاوة على أمانتي واستقامتي، وحتى الآن فإنني لا أنسى تقديري له ولا أظن أنه نسي بدوره.

ونعود ثانية إلى الأزمة التي خلقها حلمي مراد. في أحد اجتماعات مجلس الوزراء كلف "الريس" الدكتور حلمي رئاسة لجنة لاقتراح خطة لتنفيذ ما جاء في بيان 30 مارس من مبادئ وخطوط عامة وكان عضو اللجنة هو الدكتور عبد العزيز حجازي وزير الخزانة وكان على اللجنة – بموجب هذا التكليف – الاتصال بالوزارات والجهات المختلفة للوقوف على آرائها في التعديلات المقترحة.

وبنشاطه المعهود أنهى حلمي مراد أعماله ووزع خطته على الوزراء لدراستها تمهيدا لمناقشتها في المجلس، وقد ظهر عند إجراء المناقشة أن حلمي مراد انفرد باقتراح الخطة المقدمة فلا هو أخذ رأي اللجنة ولا هو اتصل بالوزراء أو الجهات الأخرى للوقوف على الآراء المختلفة وقد أثار ذلك مناقشات حادة واعترض الوزراء على ما ورد في التقرير المقدم لأنه على حد اعتراضهم يحوي آراء شخصية لا تتصل بالواقع، وواجه حلمي الاعتراضات بابتسامته الحائرة مشيدا بالروح الحرة التي تسود مناقشات المجلس، وتدخل "الريس" لينقذ حلمي فشكر له جهده ورجا أن تعيد اللجنة النظر في الاقتراحات المقدمة على أن يكون عملها جماعيا وعلى أن تتصل بكافة الجهات والقطاعات للوقوف على آرائها على أن يعاد مناقشة الموضوع مرة أخرى داخل المجلس.

إلا أن حلمي مراد رأى أن ينشر تقريره الذي سبق أن قدمه للمجلس في مجلة "روزاليوسف" قبل إعادة دراسته كتكليف مجلس الوزراء له لأن حلمي كان لديه ميل غريزي للنشر في الصحافة وحاول الزميل محمد فايق وزير الإرشاد في ذلك الوقت إقناعه بأن من الأوفق عدم النشر طالما لا يزال الموضوع محل بحث مجلس الوزراء إلا أن حلمي مراد أصر على النشر، وتم له ما أراد.

وفي أول اجتماع لمجلس الوزراء افتتح "الريس" الجلسة بإثارة موضوع نشر التقرير في مجلة "روزاليوسف" واعترض الرئيس على النشر لعدة أسباب:

فنشر التقرير على أنه تقرير "لجنة وزارية" لا يطابق الواقع إذ أن التقرير كان يعبر عن رأي رئيس اللجنة دون الرجوع إلى الأعضاء الآخرين.

ثم ما زال الموضوع معروضا على مجلس الوزراء لم يتم البت فيه بل كلف رئيس اللجنة بإعادة بحثه الأمر الذي لم يتم حتى نشر التقرير في المجلة وما كان يصح لأنه لم تجر العادة على نشر موضوعات ما زالت محل مناقشة المجلس إلا إذا رؤي فتح المجال على مصراعيه للوقوف على اتجاهات الرأي العام.

ثم كون التقرير يحتوي على نقد ثقيل لأغلب الوزارات والوزراء يصبح من حق هؤلاء الرد على ما أثاره التقرير ويبدو الوزراء أمام الرأي العام منقسمين على أنفسهم ويصبح رئيس الوزراء "طرطورا" أمام الجميع وهو يرى وزراءه في معارك صحفية مع بعضهم البعض.

واختتم "الريس" حديثه بأن العمل الذي قام به الدكتور حلمي عمل جانبه الصواب سواء من ناحية الشكل أو الموضوع.

وقد حاول حلمي أن يوضح وجهة نظره بطريقة لم تقنع "الريس" ولم تقنع زملاءه في نفس الوقت وحاول الاعتذار إلا أن الريس أكد له في صوت قاطع أن الأسلوب الذي اتبع يعيد إلى الأذهان المناورات الحزبية القديمة الأمر الذي يتعذر معه استمرار التعاون "بيني وبين الأخ حلمي مراد" .. وفجأة ترك الرئيس الجلسة غاضبا.

ووجد الدكتور حلمي مراد نفسه في وضع لا يحسد عليه .. ترك أوراقه على المائدة دون أن يكترث بجمعها وهرع خلف "الريس" محاولا اللحاق به للاعتذار وكان "الريس" في عربته يحادث الأخ محمد فوزي وزير الحربية وكان الدكتور حلمي ينتظر دوره إلا أنه بعد انتهاء "الريس" من حديثه مع وزير الحربية أمر عربته بالتحرك، ووجد الأخ حلمي نفسه مرة أخرى في وضع لا يحسد عليه.

إلا أنه لم ييأس واستقل عربته مسرعا ليلحق "بالريس" في داره بمنشية البكري" وألح في مقابلته لتقديم اعتذاره إلا أن الرئيس رأى ألا يقابله في تلك الليلة، ووجد الأخ حلمي نفسه مرة ثالثة في وضع لا يحسد عليه.

وحاول عدة محاولات في اليوم التالي دون جدوى وظل على محاولاته تلك إلى أن أعفي من منصبه وخلفه حافظ غانم وبعد فترة وجيزة وافق الرئيس على إعادة حلمي إلى الجامعة ليشرف على بعض الدراسات العليا.

سمعت الكثير عن هذه الأزمة مما يحتاج إلى تعليق ...

سمعت أن حلمي مراد هو الذي استقال وهذا غير صحيح إذ أن حلمي أعفي من منصبه بل حاول جاهدا أن يتلافى ذلك إلا أنه فشل في كافة محاولاته.

وسمعت أن الرئيس غضب عليه لأنه الوحيد الذي كان يقول "لا" في المجلس ولم يكن هذا صحيحا، بل يكذب ذلك تكذيبا قاطعا قصة تعيينه في الوزارة .. إذ أن حلمي مراد وقت أن كان وكيلا لجامعة القاهرة اعترض على أسلوب وزير التعليم العالي في ذلك الوقت المرحوم عزت سلامة في معالجته لموضوع "تطوير الجامعات" وكان الرأي السائد أن الوزير تخطى رأي الجامعات واعتدى على استقلالها، وأبلغني حلمي برأيه هذا بصفتي وزيرا للدولة فنقلت وجهة نظره تلك إلى السيد صدقي سليمان رئيس الوزراء في ذلك الوقت وإلى "الريس" وكانت وجهة نظر حلمي مراد محل اعتبار عند نظر القضية، وإثر هذا الموقف الشجاع رشحت حلمي – ولعله لا يعرف ذلك حتى الآن – مديرا لجامعة الأزهر إذ كنت في الوقت نفسه وزيرا للدولة لشؤون الأزهر ووافق الرئيس .. وقبل إتمام المناقشة مع "الريس" قال "ولماذا لا يتولى وزارة التربية والتعليم؟ إحنا عاوزين ناس لهم مواقف ..." إذن فسر اختياره وزيرا موقفه الشجاع أيام قضية "تطوير الجامعة" ولا يعقل أن تكون شجاعته وراء فقدانه لمنصبه الوزاري.

وسمعت أن سبب غضب الرئيس عليه هو أنه كان له رأيه الخاص فيما سمي بعد ذلك "بمذبحة القضاء" وللتاريخ فإن ما تم في القضاء في ذلك الوقت كان بموافقة اللجنة التنفيذية العليا وموافقة مجلس الوزراء وبعض رؤساء تحرير "السلطة الرابعة" وهي الصحافة بل وبعلم "مجلس الشعب" وكان الدكتور حلمي فعلا يريد معالجة الموضوع ككثيرين غيره عن طريق الحوار إلا أن لغطا كثيرا أثير في ذلك الوقت عن أن بعض مناقشات المجلس كانت تتسرب عن طريقه.

وسمعت أن القرار الصادر بمنع الوزراء من العمل لدى الحكومات أو المؤسسات الأجنبية خلال الخمس سنوات التالية لترك مناصبهم والسابق التحدث عنه في مقالنا السابق قد صدر خصيصا لمنع الدكتور حلمي من العمل، وقد سبق أن شرحنا في الفصل السابق ظروف صدور القرار إذ صدر بمناسبة تعيين وزيرين في شركتين أجنبيتين تزاولان نشاطهما في القطاعين اللذين كان يشرف عليهما الوزيران وذلك بعد خروجهما من الوزارة بمدة قصيرة ولم يكن الأمر يتعلق بالدكتور حلمي من قريب أو بعيد فعبد الناصر لم يكن في حاجة إلى إصدار قانون بدافع شخصي إذ كان يكفيه ألا يوافق على تعيين "حلمي" أو خلافه فينتهي الأمر، ثم لم يكن من عادة عبد الناصر تطويع القانون لإرادته الشخصية، ولم يكن من عادته التدخل في أعمال القضاء إذ كانت له فلسفته الخاصة في مثل هذه الأمور، ولم يكن "حلمي مراد" في يوم من الأيام من الخطورة السياسية حتى يصدر قانون خاص لتطويق نشاطه الذي يهدد الحكم، ثم أهم من كل ذلك فإن الرجل قد أعفي من منصبه في 10 أيلول – تموز 1969 وصدر القانون المشار إليه في 19 ديسمبر – كانون أول 1969 أي بعد الإعفاء بأكثر من خمسة شهور كاملة، وهذا الفاصل الزمني الكبير بين قرار الإعفاء وصدور القانون دليل قاطع على عدم علاقة صدوره بأي شخص من الأشخاص وعلى الأخص حلمي مراد، كان القانون إجراء تنظيميا أصدره الحكم لتحقيق نزاهة أفراده ومنعا لشبهات لا داعي لها.

ولكن هناك كلمة حق لا بد وأن تقال، فإنني لم أسمع أو أقرأ أن الدكتور حلمي مراد ردد ما سبق بنفسه ولسانه بل قرأت ذلك مرارا في بعض الصحف ذات الاتجاهات المعروفة لتغذية الحملة المسعورة ضد عبد الناصر، لأنني أعتقد أن الزميل حلمي مراد لا يمكن أن يتقول بما لم يحدث.

وكان اختيار الأفراد مهمة شاقة وصعبة وهي فعلا كذلك يشعر بصعوبتها كل من مارس الحكم فكل الأفراد لهم مزايا محددة، وكل الأفراد يتحدثون عن المبادئ والمثل، وأغلبهم ينافق ويتقرب من مراكز السلطة ولو على جثث المبادئ والأصدقاء، والفيصل الحقيقي للاختيار هو الممارسة الفعلية، ويظهر المعدن الأصيل عندما يمارس السلطة أو يؤتمن على المال العام، فالبعض يستغل السلطة للصالح الشخصي وهو ما زال يرفع عقيرته مناديا بالشعارات والمبادئ، والبعض يسيء استغلال المال العام وهو ما زال يتحدث عن النزاهة والأمانة.

والكفاءة العلمية ليست بالضرورة هي الفيصل، فالمراكز الحساسة شيء أكثر من التخصص في موضوع معين لأن إدارة الدولة خلاف العمل في مراكز الدراسات ومعامل البحوث وقد سئل روبرت مكنمارا عن سبب الفجوة التكنولوجية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية فذكر دون تردد أنها "فجوة إدارية فالإدارة هي التي تحول الأفكار الخلاقة إلى واقع ملموس" وقد أفاض مكنمارا من ذلك في كتابه "جوهر الأمن".

وكانت الترشيحات تتم عادة بواسطة الوزراء والجهات الرئاسية الأخرى وكان من المعتاد أن تتم عملية جمع المعلومات عن المرشحين بواسطة الأجهزة المختلفة وهو إجراء متبع في كافة الدول المتحضرة وهو أمر لا يتعلق بالولاء إنما يتعلق بالأمن بوجه خاص وتعتبر الدول المتحضرة أن هذا الإجراء إجراء مساعد في عمليات الاختيار، بل لا ينبغي أبدا أن تقتصر عملية المتابعة في فترات الترشيح بل لا بد وأن تستمر في فترات الممارسة وهو أمر لا يتعلق بالحرية الشخصية التي لا بد وأن تمارس في حدود مصلحة الدولة وأمنها.

وكان كثير من الوزراء يمارسون حقوقهم في الاختيار وتساعدهم جهات الأمن في تأكيد حسن اختيارهم أو الثغرات الواضحة في هذا الاختيار وكان الريس غالبا ما يوافق على ترشيحات الوزراء، ولكن كان وزراء آخرون لا يمكنهم ممارسة حقهم إلا بالتردد على مكاتب خاصة اعتقدوا أنها مركز السلطة الحقيقية، وهم لا يدرون أنهم بذلك خلقوا دوائر نفوذ لا يجوز وجودها ...

ولقد هاجم هذا الإجراء – إجراءات الترشيحات وجمع المعلومات عن المرشحين – الدكتور عبد الوهاب البرلسي وزير التعليم العالي على صفحات المجلات أيام انتشرت موجة مهاجمة "عبد الناصر" وظن الرجل الطيب أنه لا بد وأن يركب إحدى الموجات لعلها تلقي به حيث كان في يوم من الأيام أو على الأقل قريبا مما كان، واختلق أزمات لم تحدث ولبس ثياب المدافع عن كرامة رجال الجامعات ضد الأجهزة التي "تتجسس" عليهم، ولم يكن هناك شيء من ذلك على الإطلاق، ولكن ربما يكون الرجل الطيب لا يعرف الإجراءات الواجبة وربما يكون الرجل قد تصور أن تردده على بعض المكاتب وأخذ موافقة بعض الأشخاص كان بمثابة التصديق النهائي على ما يريد أو على ما يريد غيره له وهو لا يعلم أيضا أن هذه الإجراءات القانونية كانت تساعده على الاحتفاظ بحريته في انتقاء مساعديه بدلا من أن يتم الاختيار عن طريق غيره ولقطع خط الرجعة على هؤلاء الذين ارتضى أن يحركوه فلا يلقبونه إلا "بالرجل الزئبقي" والذين أسفوا لموقفه من عهد شارك فيه!!!

ومسائل التعيينات تلك لم تكن تناقش في مجلس الوزراء ولهذا مغزاه فالمسؤولية ملقاة على عاتق الوزير وهو الذي يختار معاونيه وبعد ذلك يكون مسؤولا عن عمله الجماعي وإنتاجه الجماعي أمام مجلس الوزراء، والوزير الذي يقبل أن يفرض عليه أحد معاونيه دون اقتناع منه بقدرته وإمكانية التعاون معه مقصر في حق نفسه ومقصر أيضا في حق مسؤوليته، كما أن الوزير الذي لا يقبل النصح في اختيار معاونيه وتشبث بهم ظالمين ومظلومين مقصر في حق نفسه وفي حق مسؤوليته.

وكان من عادة عبد الناصر أن يهز الحكم بين وقت وآخر بإجراء حركات تعيينات في أجهزة الإنتاج والخدمات على حد سواء، كان لا يميل كثيرا إلى أن "يستقر" فرد في مكانه لفترة طويلة، وكان هدفه من وراء ذلك إدخال الدم الجديد إلى شرايين أجهزة الدولة من جانب وإلى القضاء على "الشللية" و "التحزب" من جانب آخر، وكان الوزراء عادة ما يقومون بهذه التغييرات، وكانت هذه الطريقة لها حسناتها وعيوبها كأي طريقة من طرق وأسلوب ممارسة الحكم.

وكان عبد الناصر غير "متزمت" ولا يميل أبدا إلى التطرف، فالتطرف شيء والثورية شيء آخر، كان عبد الناصر ثائرا ولكنه لم يكن متطرفا ولا متزمتا، فبالرغم من أنه كان اشتراكيا بطبعه إلا أنه كان يفسر اشتراكيته في بساطة ويسر "فرجل الشارع لن يهتم بنا لو نادينا بالإشتراكية ليل نهار .. سيتركنا ننادي بالإشتراكية فإذا نظرنا إلى الخلف سنجد أن الشعب قد انصرف إلى همومه ولأننا نسير وحدنا خلف شعاراتنا .. الإشتراكية بالنسبة للأسرة عبارة عن أكل ضروري ومسكن لائق وأن الرجل يجد عملا له ولأولاده ثم يكون قادرا على تزويج بناته". ثم في أثناء تقييم الخطة أو أعمال القطاعات المختلفة يبدأ في مناقشة إيجابيات الإدارة وسلبياتها ويرد على أن الإشتراكية لا ينفذها إلا اشتراكيون "لا يوجد هناك إدارة إشتراكية أو إدارة رأسمالية ولكن يوجد إدارة ناجحة". ثم يقول "وما هو تقييمنا للإدارة الناجحة؟ أن التقييم أساسه الإنتاج وعلى ذلك لا بد وأن يكون لرئيس مجلس الإدارة الحرية الكاملة لتحقيق الأهداف المطلوبة، فإذا تعارضت آراء اللجان النقابية أو لجان الإتحاد الإشتراكي مع آراء الإدارة فإن الإدارة هي التي تنفذ ما تراه، إذ لا يمكن أن تعطى مسؤولية إلا بما يوازيها تماما من سلطة وإلا اختلطت الأمور".

ولذلك فإنه حينما أمم شركات المقاولات ترك أصحابها القدامى على رأسها يديرون ويبنون وكانت هناك في ذلك الوقت أفكار تنادي بالتغيير الشامل للإدارة إلا أنه وقف حائلا دون ذلك لأننا "ننفذ سياسة ولا نعزل أفرادا بعينهم فمن يثبت منهم صلاحيته يستمر ومن يثبت فشله يذهب ويغير". وقد استمر أغلب رؤساء هذا القطاع في أماكنهم حتى مات وزادت إمكانيات شركاتهم حينما عملت في إطار القطاع العام وتحسنت الأوضاع المالية لكثير من الشركات إذ كان أغلبها غارقا في الديون وتمكنت مصر بقطاعها العام للمقاولات من بناء السد العالي ومئات المصانع والمدارس والمستشفيات وآلاف الوحدات السكنية الاقتصادية التي كانت تؤجر للشعب بأسعار رمزية كما تمكنت مصر من شق الترع والمصارف والطرق بل خاض هذا القطاع معارك حقيقية تحت نيران العدو وهو يشارك في بناء المواقع الدفاعية وإنشاء المطارات والملاجئ الخاصة بها ونقل حوائط الصواريخ إلى الأمام وإخلاء المصانع وفكها من منطقة القناة المهددة وإعادة بنائها وتركيبها في الخلف وإلى جانب ذلك مد هذا القطاع في البلاد الأفريقية والعربية دون قيد على نشاطه.

وثبتت أقوال عبد الناصر من أنه "لا توجد إدارة اشتراكية أو إدارة رأسمالية ولكن توجد إدارة ناجحة".

وبالرغم من هذه المشاركة الفريدة لم ينس البعض لعبد الناصر إقدامه على تأميم ما كان يملك وانطلق هذا البعض لينضم إلى صفوف "الردة" بعد أن كانوا لا يكفون عن المدح والثناء!!!

وما دمنا في صدد الحديث عن عدم ميل عبد الناصر إلى التطرف فلا بأس من سرد القصة الطريفة التالية:

أطلق أحد الوزراء – قبيل وفاة عبد الناصر – لحيته، ولا يمكن لأحد أن يعترض على هذا الإجراء الشخصي "فواحد حامل ذقنه والثاني زعلان ليه"؟!! ولكن كان هذا الوزير علاوة على ذلك قد وقع تحت تأثيرات معينة جعلته يأتي بأفعال فيها غرابة!!! فمثلا كان من يجلس إلى جواره يسمعه أحيانا يردد بينه وبين نفسه وهو يبتسم "عليكم السلام ورحمة الله وبركاته". ويلتفت الذي يسمع يمينا ويسارا وخلفا باحثا عن القادم الجديد فلا يجد أحدا، فيسأل الوزير على من "ترد السلام والتحية"؟! فيجيب الرجل في ثقة وهو يمسك بذقنه "على سيدنا الخضر عليه السلام فقد مر أمامي الآن وأقرأني السلام فرددت عليه" ولا يمكن لأحد أن يقطع بصدق ذلك أو نفيه إلا أنه يبدو أن "الريس" لم يصدق أن هذا يمكن أن يحدث .. وقد يحدث والمناقشات دائرة في اجتماعات ضيقة عن اقتراحات معينة بخصوص إجلاء العدو عن أراضينا أن يبتسم هذا الوزير وهو يقول: "لم تجهدون أنفسكم هكذا؟ إنني موقن من انسحابهم وسيرسل الله عليهم طيرا أبابيل" وبالرغم من ذلك تستمر المناقشات الحادة وترتسم الابتسامة الهازئة على شفتي الرجل "فالطير الأبابيل ستقوم بالمهمة"...

على أية حال فإن "الريس" قد غضب من "لحية الوزير" لأنه ربما ظن أنها "ركبت" لا عن إيمان خالص لوجه الله، فأمر الوزير أن "يزيل" لحيته "وإلا والله سأجعل البستاني يزيلها بمقصه الذي يزيل به الحشائش" وفعلا "خلع" الرجل لحيته ولكنه عاد "فركبها" مرة أخرى بعد وفاة "الريس".

وكما أطلق "لحيته" أطلق "لسانه" في الرجل الذي مات بما حدث وبما لم يحدث.

ولا تسألوني لم استوزره عبد الناصر؟ فهذا سؤال يضاف إلى عشرات الأسئلة التي تحيرني ولا أجد لها جوابا!! وعزائي أنني لست وحدي في حيرتي!!!

ربما يكون ذلك قد تم وفاء للزمالة القديمة .. وربما يكون قد تم جمع للشمل .. والله أعلم. ولا أحب أن أتحدث كثيرا عن النوايا .. فالنوايا علمها عند الله.

الفصل الخامس: علاقة عبد الناصر بمجلس الأمة

رأيه في الفصل بين السلطات – كيفية إلقاء بيان الحكومة – ممثل الحكومة كوسيلة اتصال بين مجلس الأمة ومجلس الوزراء – أزمات داخل المجلس – التمتع الكامل بالحصانة البرلمانية داخل السجن – قانون التفويض – مجموعة المنيا – سلبيات كان من اللازم تلافيها.

موضوع حديثنا الآن على جانب كبير من الأهمية إذ سوف يكون عن علاقة جمال عبد الناصر ومجلس وزرائه بمجلس الأمة، وأرجو ألا يثير هذا القول دهشة أحد بعدما حاول البعض أن يصور الدولة أيام عبد الناصر وقد خلت من مؤسساتها الركينة وتقاليدها الأكيدة وعلاقاتها المتناسقة، كان عبد الناصر يحكم من خلال مؤسسات لها اتجاهاتها العقائدية الواضحة يحكمها "ميثاق عمل" واضح لا غموض فيه ودستور استفتي عليه الشعب ووافق عليه وأقره، ومن ضمن هذه المؤسسات مجلس الأمة الذي كان يتم انتخابه انتخابا مباشرا وفقا للدستور.

وبمناسبة ما ورد عن "الاستفتاء" فلنا وقفة قصيرة هنا، لم يكن من عادة عبد الناصر أن يفرط في إجراء "الاستفاءات" لأنه كان يعتبر ذلك نوعا من أنواع الدكتاتورية المقنعة ولم يكن هذا يتفق مع أسلوبه الذي كان يسمي الأسماء بأسمائها فإن رأى أن صالح الدولة يحتاج إلى قرار بعينه أقدم دون تردد ودون ما حاجة إلى ستار يتستر من ورائه أو غطاء يتدثر به حتى ولو كان القرار به تجاوزات هنا وهناك.

على أية حال .. إذا أردنا أن نتحدث عن العلاقة التي نحن بصددها علينا أن نقيمها في حدود أفكاره عن "السلطات في الدولة" فلم يكن عبد الناصر يؤمن "بالفصل بين السلطات" وكان يعتبر ذلك مجرد خدعة كبرى.

ولننقل رأيه بالحرف الواحد عن "الفصل بين السلطات" من المحاضر الرسمية لمحادثات الوحدة الثلاثية بين القاهرة ودمشق وبغداد والتي تمت في أبريل – نيسان 1963 في معرض الحديث عن السلطة في دولة الاتحاد "أنا أعتبر عملية فصل السلطة خدعة كبرى لأنه في الحقيقة ما فيش حاجة اسمها فصل السلطات لأن اللي عنده الأغلبية في البرلمان هو اللي بياخد السلطة التنفيذية والتشريعية. إذن القيادة السياسية اللي عندها الأغلبية بيبقى في إيدها حاجتين: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وإذا أصبح في إيدها السلطة التشريعية أصبح بالتالي في إيدها السلطة القضائية لأن السلطة القضائية خاضعة للسلطة التشريعية مهما قالوا عن أنها مستقلة، وإن الكلام ده اللي طلع في فرنسا أيام مونتسكيو عن فصل السلطات كلام نظري، نأخذ إنجلترا كمثل فحزب المحافظين دخل الانتخابات وأخذ الأغلبية يبقى البرلمان أي السلطة التشريعية في إيد مين؟ حزب المحافظين، حزب المحافظين شكل وزارة بقت السلطة التنفيذية في إيد مين؟ حزب المحافظين، إزاي نقول هنا إنه فيه فصل بين السلطات؟ إذا فقد الأغلبية في السلطة التشريعية بيحصل له إيه؟ لازم يسقط من السلطة التنفيذية، إذن اللي عاوز يحتفظ بالسلطة التنفيذية يجب يحتفظ بالسلطة التشريعية والتنفيذية، إذن القيادة للإثنين واحدة، فمبدأ الفصل بين السلطات ده عملية في الكتب ولكنها غير موجودة واقعيا أبدا، البلد الوحيد اللي ممكن يحصل فيها هذا الموضوع هي الولايات المتحدة الأمريكية ولكن مع وجود تضارب كبير في العمل وفيه أحد رؤساء الولايات المتحدة سموه الرئيس فيتو لأنه كان كل قرار يجي من المجلس يعمل عليه فيتو، ويرجعوا مرة أخرى للمجلس، ويحاولوا لغاية الآن يتغلبوا على هذه المشكلة بأن الرئيس لا يتقدم بأي قرار إلى الكونجرس إلا بعد أن يتشاور مع الحزبين".


ولسنا هنا في مجال تقييم الآراء بقدر ما نحن في موقف نحاول أن نسجل فيه الأحداث، فقد كان هذا هو فكره جاهز به في كل مناسبة ولعله كان واقعا تحت تأثير ما كتبه دوايت إيزنهاور رئيس الولايات المتحدة في كتابه "فرض السلام Waging peace" حينما انطلق الرجل يشكو في مرارة من العقبات والعراقيل التي لاقاها من أعضاء الكونجرس مما يتفق تماما ووجهة نظر عبد الناصر، إذ أثار الرجل تحت وطأة تجربته المريرة مع رجال الكونجرس عدة موضوعات على جانب كبير من الأهمية.

فمثلا تحدث عن "التعديل" الذي أصبح جزءا متمما للدستور الأمريكي والذي يقضي بعدم شغل الرئيس لمنصب الرئاسة لأكثر من مرتين وطالب بتطبيق هذا التحديد على الأعضاء أنفسهم حتى يقضي على ما سماه "بالإقطاع الدستوري" وحتى يفتح المجال أمام الدماء الجديدة لتسري في الجهاز التشريعي.

ثم عاد ليطالب بتعديل الفيتو الذي يقضي بأن يكون حق التصديق أو الاعتراض على القانون ككل وليس مادة مادة إذ أن هذا الوضع يجعل الرئيس "يعترض" على مواد صالحة في القانون أو يوافق على مواد غير صالحة في القانون، وأوضح أنه من الأنسب أن يكون حق الاعتراض أو التصديق على القانون مادة مادة.

ثم طالب بتعديل مدة خدمة أعضاء المحكمة العليا إذ لا يجوز أن تستمر مدة العضوية إلى مدى الحياة إذ يهدد هذا الوضع التوازن بين السلطات، فإن السلطة التشريعية – والتي لا ينكر أيزنهاور أن تعيين بعض أعضائها يرتكن إلى أسباب سياسية – إذا كونت لها اتجاها معينا بطول المدة يمكنها أن تغير النظام القائم تدريجيا حسب معتقداتها علاوة على أن نظام "مدى الحياة" لا يتناسب مع التطور.


ثم يحدثنا التاريخ القريب عن كيف أقدم "ريتشارد نيكسون" فيما سمي بيوم "السبت الأسود" على عزل "المدعي العام" الذي أمر رئيس الولايات المتحدة بأن يسلم أشرطة التسجيل للمحكمة أيام أزمة "ووترجيب" ويحدثنا التاريخ أيضا كيف قاتل نيكسون – وهو ممثل السلطة التنفيذية – بشراسة وحتى آخر دقيقة للحفاظ على منصبه ولكنه لم يستطع الصمود لحظة واحدة حينما سحبت السلطة التشريعية ثقتها به وحينئذ تقدم باستقالته المشهورة إلى هنري كيسنجر وزير الخارجية كنص الدستور الأمريكي.

ثم ما يريده حزب العمال أو المحافظين ينفذ طالما وصل هذا الحزب أو ذاك إلى السلطة ذلك لأن اقتراحات السلطة التنفيذية يسهل تحويلها إلى تشريعات نافذة عن طريق الأغلبية المسيطرة لها في المجالس التشريعية ولكنا يلمس الطريقة التي يتم بها حشد الأعضاء في جلسات التصويت لدرجة أن بعض الأعضاء المرضى يدخلون إلى المجالس وهم محمولون على النقالات.

وعلى أية حال فإنني أعتذر عن هذا الاستطراد على وعد بألا أعود إليه.

من التقاليد البرلمانية أن رئيس الوزراء يقدم برنامج حكومته إلى المجلس لمناقشته قبل إقراره ويكون ذلك إيذانا بالثقة إلا أن عبد الناصر بصفته رئيسا للوزراء لم يفعل ذلك ولو لمرة واحدة، ولكن كان برنامج الحكومة يقدم للمجلس بعد مناقشته في مجلس الوزراء بإحدى طريقتين: إما تكليف أقدم الوزراء بتلاوة بيان الحكومة كاملا وإما يقدم كل وزير برنامج وزارته إلى المجلس، ثم يناقش البيان داخل اللجان المختصة ثم تفتح المناقشات العامة في جلسات المجلس.


وكان رئيس المجلس في ذلك الوقت – أقصد بعد النكسة مباشرة وقبلها – هو السيد محمد أنور السادات ولا أظن أن الرجل منع أحدا من حقه في الكلمة حين طلبها ولا وضع قيودا على مناقشة أي موضوع تقدم أحد الأعضاء برغبة لمناقشته ولا سمح بالحرية تهدر داخل المجلس، أقول هذا ردا على ما قاله البعض عن إهدار الحرية داخل المجلس ووضع القيود على حرية الكلمة والمناقشات.

وليس معنى هذا أن "الريس" لم يلق بأي بيان أمام المجلس، فقد فعل ذلك عدة مرات في بعض المناسبات الهامة بل كان عقب إلقاء خطابه في بعض الأحيان يفتح باب المناقشة ولعل الجميع يعرفون أن الحوار والمناقشة والجدل كانت هواية عبد الناصر المحببة إذا فتح موضوع للمناقشة وحواره ومجادلاته في اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية والمؤتمرات السياسية أو المباحثات معروفة لا ينكرها عليه أحد.

وكان الرئيس يستمع إلى كل ما يجري من مناقشات داخل المجلس عن طريق خط تليفوني خاص مركب على ميكروفون حتى يوفق بين عدم حضوره الجلسات وبين ضرورة أن يعيش في الجو الذي تدور فيه المناقشات وحتى نوفر الجهد على من يتصيد في الماء العكر بأن يصور هذا العمل على أنه من فعل "الأجهزة" و "التجسس" إلى آخر هذه الكلمات التي ادخلت في قاموس "الجدل السياسي" لتخرجه عن موضوعيته نقول إن المناقشات في المجلس كانت علنية وحضورها مسموح للجميع ثم إن كل الرؤساء يفعلون ذلك ليمكنهم متابعة الجلسات التي لا تمكنهم ظروفهم من حضورها.

وللمحافظة على اتصال السلطة التشريعية بالسلطة التنفيذية كان عبد الناصر يعين أحد الوزراء مسؤولا عن الأعمال الخاصة بمجلس الأمة وكان دائما ما يقع اختياره على أحد الوزراء الذين يجتمعون بين منصبهم الوزاري وعضويتهم في المجلس وقد وقع اختياره على شخصي ولفترة قصيرة لأقوم بهذا العمل حيث كنت أحد الوزراء الذين يتشرفون بعضويتهم في المجلس وقد ظللت أتشرف بعضويتي في المجلس النيابي حتى بعد أن اعتذرت عن اشتراكي في الحكم بعد وفاة عبد الناصر بفترة قصيرة بل تم اعتقالي بواسطة أجهزة الأمن فيما عرف "بحركة 15 مايو" ووضعت في سجن "أبو زعبل" وسجن "القلعة" بل باشرت نيابة أمن الدولة التحقيق معي وأنا "متمتع" تمتعا كاملا "بالحصانة البرلمانية" !!

وكان عبد الناصر لا يوافق بعض الوزراء في مسايرتهم لاتجاهات أعضاء المجلس وطلباتهم تجنبا للمناقشة والجدل فكان يكرر في مجلس الوزراء بأنه على الوزراء الإقلاع عن ذلك والوقوف بجدية أمام ما يعتقدون أنه لا يتمشى مع اتجاهات الحكومة المحددة أو بما يتجاوز الإمكانيات المتاحة مما يصعب تنفيذه.

وقد حدث عقب النكسة أن مجلس الأمة انتقل بكامل هيئته إلى منزل عبد الناصر وتنازل له عن حقه الدستوري في إصدار القوانين المتعلقة بالنواحي الحربية كالميزانية والتسليح والاتفاقات أو الأمور المتعلقة بالتجنيد أو تجاوز الاعتمادات أو تجهيز الدولة للحرب أو تكوين الاحتياط الاستراتيجي من المواد ذات الحيوية الخاصة، وكلها أمور تتطلب سرعة الحسم والتنفيذ حيث كانت البلاد تخوض حرب الاستنزاف وتستعد في الوقت نفسه لحرب التحرير، إلا أن بعض الوزراء كان يرى أن المصلحة تقتضي استخدام "قانون التفويض" هذا اختصارا للوقت وما لبث أن توسع في استغلال الموقف وأصبح لا يحال موضوعات ذات أهمية خاصة إلى المجلس، وبالرغم من ذلك فإن المجلس لم يتحرك لتلافي هذا الوضع إلا أن عبد الناصر أثار الموضوع في إحدى جلسات مجلس الوزراء وأعطى تعليماته بأن تحال كافة مشروعات القوانين إلى مجلس الأمة بالأسلوب المعتاد "لأني في الواقع أنا ما كنتش عاوز التفويض ده إلا في المسائل الحربية وأنا لا أقرأ ما يعرض علي ومن الأسلم أن نضحي بالسرعة في سبيل الإتقان والجودة".

وفعلا نفذ ذلك بكل دقة لدرجة أنني لما طلبت إصدار قانون ببعض التعديلات في قانون المخابرات العامة رفض "الريس" التوقيع عليه وأمر بإحالته إلى المجلس في طريقه المعتاد.

وفي رأيي أن الإجراء الذي أقدم عليه المجلس كان إجراء يتسم بالعاطفية ربما تم تحت وطأة الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد في ذلك الوقت ولكن لا تعتبر ذلك مبررا كافيا لكي يتنازل مجلس الأمة عن سلطاته الدستورية في وقت كان يتحتم عليه التمسك بها بل التدقيق في ممارستها لا التفريط فيها وتسليمها، والشيء الغريب حقيقة أن كثيرا من الأعضاء ممن حرصوا على أن يكونوا في مقدمة "المتنازلين والمفوضين" في ذلك الوقت هاجموا عبد الناصر بعد وفاته واتهموه بأنه كان يركز السلطة في يديه !!! علما بأن أي رئيس لا يمكنه أن يفعل ذلك مهما كانت شخصيته ومهما كان جبروته إلا إذا حدث تنازل وتفريط كما حدث في "قانون التفويض".

وأكبر مثل على ذلك الصراع الذي حدث بين "ريتشارد نيكسون" ممثلا السلطة التنفيذية وبين الكونجرس ممثلا السلطة التشريعية فقد اعتدى نيكسون على سلطات الكونجرس في أكثر من مناسبة وأمر بدفع القوات الأمريكية إلى اختراق حدود دول ذات سيادة من وراء ظهر الكونجرس وقام بممارسة "الدبلوماسية السرية" هو ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر دون علم الكونجرس وما لبث أعضاء الكونجرس أن انتهزوا "سلطات الحرب War power عام 1973 يحتم على الرئيس في كل الظروف "أن يتشاور مع الكونجرس قبل أن يدفع بالقوات الأمريكية إلى مواقف معادية أو محتمل أن تكون معادية وعقب قيامه بذلك عليه أن يخطر الكونجرس في موعد لا يتجاوز 48 ساعة وإذا لم يوافق الكونجرس على ذلك يتحتم على الرئيس إعادة القوات وسحبها خلال 90 يوما".

أعود فأكرر أن التفريط في الحقوق هو الذي يفتح الطريق أمام أي حكم شمولي وأن أؤكد بالتالي أن وجود "مراكز القوى" في أي دولة هو ضرورة من ضروريات أي حكم ديمقراطي وربما تحتاج هذه النقطة بالذات إلى حديث مستفيض لا مكان له الآن.

وفي فترة بعد النكسة كان هناك في واقع الحال مجلسان: المجلس الذي تم انتخابه قبل النكسة ثم حل بعدها والمجلس الذي استمر بعد ذلك حتى وفاة عبد الناصر وكان مصيره الحل قبل استكمال مدته أيضا بعد ذلك، وقد واجه المجلسان موقفين دقيقين حينما انقسمت القيادة السياسية على بعضها أيام عبد الناصر وبعد عبد الناصر.

فقد حدث بعد النكسة مباشرة فراغ هائل إذ كان رد الفعل عنيفا للغاية على كافة المستويات بما في ذلك مجلس الأمة وانقسمت القيادة السياسية على نفسها انقساما لمسه الجميع حينما رفض المشير عبد الحكيم عامر – رحمه الله – أن يمتثل لأمر الرئيس بتركه قيادة القوات المسلحة وأقدم عامر بعد ذلك على تصرفات جامحة بأن اعتصم في منزله بالجيزة تحت حراسة أفراد السلطة العسكرية وحراس مدنيين استدعاهم من "المنيا" وهي المحافظة التي ينتسب إليها المشير واعتصم معه بعض خلصائه وكون عامر بذلك "جزيرة مقاومة" أمام السلطة الشرعية، وبدأ عامر علاوة على ذلك يوسع من اتصالاته لدى المدنيين ومن ضمن هؤلاء أعضاء مجلس الأمة وتكون في داخل المجلس ما عرف "بمجموعة المنيا" وهم أعضاء مجلس الأمة من تلك المحافظة التي ينتسب إليها المشير ولم يقدر هؤلاء الظروف التي تمر بها البلاد بل انضموا من فورهم إلى "ولد" بلدهم كما يقول أهل الصعيد فأحضروا له الحراس وبدأوا في توزيع المنشورات وحض الشعب على الثورة ضد النظام وواجه عبد الناصر العاصفة بثباته المعهود وتدخل رئيس المجلس أنور السادات لحسم الموقف فجمد عضويتهم في المجلس وعزلهم واقترح اعتقالهم ووضعهم تحت الحراسة، وتم القضاء على الفتنة داخل المجلس كما تم القضاء على الفتنة خارجه بأحداث انتهت بانتحار المشير عامر تحت وطأة مشاعره الضاغطة لبدء إحساسه بالكارثة التي قاد إليها البلاد ومن انكشاف زواجه العرفي من إحدى الممثلات والذي لم يكن معروفا من عائلته ومن كشف المؤامرة التي دبرها لقلب نظام الحكم التي تم التحقيق والفصل فيها أمام محكمة الثورة التي شكلت خصيصا لذلك.

وبعد فترة تم حل هذا المجلس وأجريت انتخابات جديدة لمجلس نيابي آخر.

وقد واجه هذا المجلس بدوره وفاة عبد الناصر، وانتقال السلطة إلى الرئيس الجديد، ثم لم تمر شهور معدودة على ذلك حتى واجه انقساما آخر في القيادة السياسية في أحداث مايو 1971 وقام المجلس بطرد رئيسه وفصل ستة عشر عضوا من أعضائه وبعد فترة قصيرة كان نصيب هذا المجلس الحل هو الآخر، وكما سبق وأن ذكرت فقد كنت عضوا في هذا المجلس عن دائرتي الانتخابية ولم يشملني قرار الفصل هذا وبقيت متمتعا "بحصانتي الدبلوماسية" حتى بعد أن تم اعتقالي وبدئ التحقيق معي بواسطة نيابة أمن الدولة وتفتيش منزلي ليلة بطولها بل وبقيت "متمتعا" "بحصانتي الدبلوماسية" حتى بعد أن تم التحفظ على أموالي وممتلكاتي وهي قليلة ولله الحمد .. وبعد فترة ليست بالقصيرة تنبه المجلس إلى الموقف فقرر "إسقاط" "الحصانة" عني وبذلك حرمت من "التمتع" بها بعد ذلك وتكرم "المجلس" وأبقى على عضويتي وأنا في السجن حتى صدر قرار حله ففقدت عضويتي مع الآخرين.

وكانت الحكومة تمثل في مناقشات المجلس بعدد من أعضائها ليشتركوا في المناقشات الدائرة أو ليجيبوا على طلبات الإحاطة أو الأسئلة التي توجه من الأعضاء إلى الوزراء المختصين وفي بعض المواقف كان الأمر يحتاج إلى اتصال الوزراء برئيس الوزراء للحصول على توجيهاته قبل مناقشة موضوع معين.

ولم تكن جلسات المجلس هادئة كلها بل في بعض الأحيان تميزت بالسخونة وقد حدث على سبيل المثال أن عبد الخالق الشناوي وزير الري كان قد أصدر تعليماته إلى ممثليه في المحافظات بخصوص بعض الموضوعات الفنية داخل وزارته وقد عن "لوجيه أباظة" محافظ "البحيرة" أن يحول دون تنفيذ هذه التعليمات وقام نواب المحافظة بتأييد موقف المحافظ وأثاروا مناقشة الموضوع في المجلس، فهب الشناوي وهو رجل "دغري" يدافع عن موقف الوزارة وحقها ويتهم "المحافظة" بأنها تفسد عليه أموره وأن هذا الحال لا يمكن السكوت عليه، وقام النواب بدورهم "بالواجب" وتصدروا للوزير "فإنهم أعلم بمتطلبات محافظتهم من السلطة المركزية وكان الواجب على الوزير قبل أن يصدر تعليماته أن يستطلع رأي المحافظة حتى تكون التعليمات متمشية مع الواقع، وغضب الشناوي واعتبر أن هذا ماس بالكرامة وأنه في هذه الحالة لا يمكنه أن يستمر في منصبه وخرج غاضبا لا يلوي على شيء، وطلب مقابلة عبد الناصر فورا فقابله "أبو خالد" ودارت اتصالات تم على أثرها تسوية الموقف وعاد الجميع إلى "قواعدهم" سالمين.

ومرة أخرى ودون سابق إنذار وقف "علوي حافظ" نائب "دائرة الدرب الأحمر" وطلب الكلمة وأعطاه رئيس المجلس أنور السادات الكلمة فورا، ووقف علوي حافظ وفي كلمات كطلقات المدفع الرشاش أخذ يكيل الاتهامات الثقيلة "لعلي صبري" أمين الإتحاد الإشتراكي في ذلك الوقت ثم وجه بعد ذلك عددا من "الطلقات" إلى منظمة الشباب ثم اتجه إلى الجهاز التنفيذي يكيل له الضربات وبالرغم من أن كلمة العضو بحكم "اللائحة" لم تكن لتتجاوز خمس عشرة دقيقة، إلا أن "علوي" تجاوز الوقت المحدد وربما كان التجاوز في حدود ضعف الوقت وربما أكثر من ذلك ولم يوقفه رئيس المجلس وأخذ علوي "راحته" ورجع إلى مكانه بعد أن كان قد أفرغ كل الطلقات التي كانت في جعبته، وانفضت "الجلسة" بعد ذلك وكان "علوي" ما زال في ثورته وانضم إليه آخرون، إلا أن الموضوع أيضا سوي بالطرق التي تسوى بها مثل هذه الأمور وذلك بالقفز فوق المشكلة حتى لا تنفجر في صانعيها وربما تنفجر في غيرهم ولو بعد حين.

وفي تقديري فقد كان يمكن للمجلس أن يتحرك بطريقة أفضل لو أنه تخفف من عدة قيود كانت تثقله وفي رأيي فإنها جميعا كانت من صنع أعضائه.

فكان هناك قيد الجمع بين "الوظيفة" و "عضوية المجلس" إذ كان يسمح بأن يجمع النائب بين عضويته في المجلس ووظيفته في القطاع العام وشركاته وكان هذا القيد يتمثل في التناقض بين "مسؤولية الوظيفة" و "مسؤولية النيابة". فالوظيفة مسؤوليتها تنفيذية والنيابة مسؤوليتها تشريعية ورقابية .. وبذلك كان العضو يجد نفسه في وضع لا يقوى فيه على محاسبة السلطة التنفيذية التي تتمثل في وزيره حفظا على "لقمة العيش" أو المركز، كما أن الوزير كان يصعب عليه في نفس الوقت أن يجد نفسه في وضع المحاسبة من مرؤوسه الذي لبس "قبعته" الثانية فأصبح يمثل السلطة التشريعية في المساء بعد أن كان يمثل السلطة التنفيذية في الصباح.

كما أن هناك قيد آخر تمثل في ولاء العضو "لحزبه الواحد" متمثلا في الإتحاد الإشتراكي، وزاد من صعوبة موقف العضو أن وجد نفسه في بعض الأحيان يحضر اجتماعين أهدافهما واحدة .. فكان عليه أن يحضر اجتماعات ما كان يسمى "الهيئة البرلمانية" في قاعة غير قاعة المجلس ليتم الاتفاق على قرارات معينة ثم يعود ليجتمع "ملتزما" في قاعة المجلس مرة أخرى ليوافق على نفس القرارات بطريقة رسمية، فكان العضو يجد نفسه والحالة هذه يتحرك بين أقطاب ثلاثة: الحزب، والهيئة البرلمانية، مجلس الأمة.

ثم زاد من صعوبة التحرك اتجاه بعض الأعضاء إلى الحصول على عمل إضافي إلى جانب عضويتهم في المجلس، فسعى البعض للتعيين "كحراس" في "الحراسة العامة" لتقاضي مرتبات شهرية لا يؤدون في مقابلها أي عمل جدي مما جعل "الحارس العام" في ذلك الوقت يرفع لي بصفتي وزيرا للدولة مذكرة بهذا المعنى وقد أمكن تدارك الموقف بعد مقابلتي لرئيس المجلس إذ تم الاستغناء عن خدماتهم فورا بدافع الحفاظ على كرامة "النيابة" وكان القليلون منهم قد استغلوا سلطاتهم بما يعاقب عليه القانون إلا أن مساءلتهم لم تتم لتغيير الأوضاع تغيرا كليا إثر وفاة عبد الناصر.

واتجه البعض لمحاولة الحصول على "شقق الحراسة" أو "شركات التأمين" وحينما انضم إلى موكب "المطالبين" أعداد كبيرة تم التصدي لهذا التيار برفع اقتراح وافق عليه "عبد الناصر" بإلغاء نظام "التخصيص" واستبداله بنظام "البيع في المزاد العلني".

ومن الغريب أن بعضا من هؤلاء وقف ليهاجم "الانحرافات" في حماس وقدرة يستوجبان الإعجاب والدهشة والأسف !!! وأصبح الشرفاء الأبرياء في موقف الاتهام وأصبح المتهمون في مقاعد الادعاء.

وقد تحدث الكثيرون في تقييم الأوضاع "البرلمانية" في تلك الفترة وأوردوا كلاما كثيرا عن عدم ممارسة الحرية داخل المجلس، وفي رأيي أن كثيرا مما قيل اتسم بالسطحية التي لا تمس الجوهر وتعمد أن يسير في الدروب الضيقة لتجنب السير في الطرق الفسيحة الواضحة.

فلا يمكن ممارسة الحرية لمن كبل يديه طائعا مختارا بل سعى إلى ذلك بإصرار قبل أن يضع نفسه في وضع الممارسة، فلا بد أولا أن يتخفف الإنسان مما يثقل السير ويعوق الحركة حتى ولو كان هذا الذي يثقله ولاؤه لحزبه أو ولاؤه لذاته فإن الولاء للوطن يجب الولاءين أو يجب أن يكون الأمر كذلك. حينئذ يشعر الإنسان في أي موقع بالقدرة على ممارسة حقوقه، وبالقوة التي تحفزه على عدم التنازل عن سلطاته.

وبلادنا في حاجة كبيرة إلى مثل هؤلاء، أو هكذا أظن وأعتقد.  

الباب الثاني: عبد الناصر واتخاذ القرار

الفصل السادس: مفاتيح شخصية عبد الناصر

مصريته – عروبته – عبد الناصر ليس ملاكا – الاستقامة – الفرق بين الثورة والانقلاب – المعرفة والاطلاع – عسكري يصل إلى طريقه من أقصر طرق.

"عبد الناصر واتخاذ القرار" موضوع كبير اختلفت فيه الآراء ...

قد يراه البعض أنه صانع العديد من القرارات التاريخية التي غيرت وجه "مصر" بل غيرت كل ما كان يجري في المنطقة من أحداث، وقد يراه البعض الآخر في صورة من يتخذ قراره كنوع من "ردود الفعل" أكثر منها قرارات نابعة من الذات تعبر عن الفعل وليس نتيجة لانفعال عاطفي، وقد يراه آخرون في صورة صاحب القرار المفرد الذي لا يستشير أحدا أو يستمع إلى أحد.

وهذا الاختلاف البعيد أمر طبيعي بالنسبة للعمالقة .. البعض يراهم في صورة الملائكة والبعض الآخر يراهم في صورة الشياطين .. وكان عبد الناصر عملاقا فهذا أمر لا شك فيه.

ولعلنا نكون بهذه المقدمة قد وضعنا "العربة" أمام "الحصان" فما كان يجب أن يكون في "الخاتمة" وضعناه في "المقدمة" ولكن لا بأس في ذلك خاصة أثناء معالجة موضوع متشابك مثل هذا الموضوع الذي يتعلق بإصدار القرار.

وقد أعجبني ما كتبه "تيودور سورنسون" أحد معاوني الرئيس "جون كينيدي" في كتابه "اتخاذ القرارات في البيت الأبيض" وهو مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في جامعة "كولومبيا" قبل ذلك إذ كتب يقول "قد ينشد الرئيس من الكونجرس المشورة وقد ينشدها من وزرائه أو مستشاريه بل قد يطلب آراء الصحافة أو الأحزاب أو قد يستطلع اتجاهات الرأي العام ولكن مهما تعددت مصادر المشورة فإنه عندما تحين اللحظة الحاسمة .. لحظة مواجهة الحقيقة لا يكون هناك مجال لتعدد الآراء ولا يبقى سوى شخص واحد يتخذ القرار بمفرده ويتحمل مسؤوليته، ذلك الشخص هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية".

ويقول جون كينيدي الرئيس الأسبق للولايات المتحدة "إن شعور الوحدة الذي يختم دائما على حياة الرئيس هو أحد جانبي الصورة لأن الرئيس هو في كل وقت أكثر الناس استقبالا للآراء والمشورات المتعارضة والأفكار الطنانة على أن هذه الآراء والنصائح ضرورية لعملية اتخاذ القرار فهي لا تعطي الرئيس ما يحتاج إليه من معلومات فحسب وإنما تضع أمامه أيضا احتمالات وحدود القرار المطلوب ومن ثم فإن الرئيس الحكيم يستمد قوته وأفكاره من الشعب ومع ذلك فهو في نهاية الأمر يقف وحده في انتظار القرار الذي يتحتم عليه اتخاذه".

ويقول الرئيس أندرو جاكسون "لقد عودت نفسي على تقبل آراء الآخرين بالاحترام ولكنني مسؤول دائما عن اتخاذ قراراتي بنفسي".

ونختتم هذه الأقوال بقول الرئيس هاردنج "إنني أصغي إلى أحد الجانبين فأجده على صواب ثم أصغي إلى الجانب الآخر فأجده لا يقل صوابا عن سابقه فأجد نفسي حيث بدأت .. يا إلهي ما أسوأه من منصب".

واتخاذ القرار يكاد أن يكون هو الواجب اليومي للرئيس فوسط تصارع الإرادات فوق مسرح الأحداث حيث تتدخل المفاجآت في الحسبان وحيث تنتشر السحب التي تغلف الحقيقة وحيث تتغير الأحداث تبعا لعوامل غير متوقعة عليه أن يتخذ قراره الذي لا بد وأن يتسم بالحكمة والوضوح والحسم واضعا في اعتباره ما لديه من قوة حقيقية فالسياسة كالسوق التجارية فعلى قدر ما في جيبك من نقود يمكنك أن تشتري، إذن أن تعرف القيمة الحقيقية لما في جيبك شيء هام، وأن تعرف مقدار ما يمكنك أن تشتري به شيء أهم وإلا كسب التاجر الصفقة .. قد يعطيك أقل مما تستحق، وقد يعطيك بضاعة فاسدة، أو قد يأخذ كل ما في جيبك دون أن يعطيك شيئا.

ولا أعتقد أن هذه المقدمة تعتبر كافية لتهيئة المناخ الذي يجعلنا نطمئن إلى الدخول في الموضوع بمفهوم مشترك في الأسس على الأقل، إذ حتى يمكننا أن نقيم "القرار" – أقصد أي قرار – علينا أن نتعرف على شخصية صانع القرار وهو عبد الناصر وعلى الظروف التي كانت سائدة وقت اتخاذ القرار، فنحن نتحدث مثلا في جملة واحدة عن عبور الجيوش الفرنسية جبال الألب بقيادة "نابليون بونابرت" ولكن باستعراض الظروف السائدة في ذلك الوقت – من شتاء قارص وثلوج تغطي كل شيء وجيوش الأباطرة تحتشد على أجناب قواته للقضاء عليه وافتقار جيوشه إلى الملبس والمأكل – لعرفنا أن "بونابرت" واحد كان يمكنه أن يتخذ قراره وينفذه ولذلك أفسح له التاريخ مكانه اللائق به رغما عن هزيمته وسط ثلوج روسيا والتي أجبرته على الانسحاب منهزما وهو يدق أبواب "موسكو".

فالدولة ليست مجرد هياكل تنظيمية يتربع الرئيس على قمتها لأنه لو صح ذلك لأصبح الرئيس مجرد دمية تحركها الأجهزة كيف تشاء ... فالحكومات وأنظمة الحكم ليست كيانا يضم مجموعة من القوى الصماء ولكنها مجموعة من البشر وهي بذلك ليست مجرد آلة تدور بل هي في حقيقتها كائن حي يتحرك، والحركة لا بد وأن تتجه إلى هدف معين والرئيس هو الذي يوجه ويقود فيحفظ للحركة اتزانها وتناسقها، فالحكومات والحالة هذه من صنع الساسة وليس العكس هو الذي يقود الرأي العام ولا يسمح للرأي العام أن يقوده ويحركه.

"فشارل ديجول" هو الذي أسقط الجمهورية الرابعة ليعطي المستعمرات الفرنسية حق تقرير المصير في ظل "الجمهورية الخامسة" وبالرغم من أن كلا من "لينين" و "ستالين" يدينان بنظريات إنجلز وماركس إلا أن هناك تباينا واختلافا واضحا في اتجاهات الثورة البلشفية أيام الرجلين ...

ولذلك فإن الدول تسعى دائما إلى جمع المعلومات عن الرؤساء الحاليين والمتوقعين لمعرفة مع من يكون التعامل ... هل التعامل مع حكيم يزن أموره فيعطي بقدر ما يأخذ؟! أم مع مجنون يجب العظمة ولا يرى إلا شخصه وذاته؟! أم مع متمسك بالحكم عزل نفسه عن شعبه فيسهل ابتزازه؟! أم مع من يعرف قدره وسط المساومات الدائرة فيعمل حسابه؟!

إذن فحتى نزيد الأمور وضوحا علينا أن نتحدث عن مفاتيح شخصية عبد الناصر:

  • كان عبد الناصر "مصريا" لحما ودما أو كما نقول "أبا عن جد" وبذلك فإنه كان متعصبا لمصريته إلى أقصى حدود التعصب فنجده حتى بعد أن وصل إلى قمة السلطة لا يميل إلا إلى اللبس المصري والأكلة المصرية والعادات المصرية فلم يحاول أبدا أن يتشبه بالأجانب في شيء ... السيجارة هي هوايته المفضلة قبل أن يقلع عن التدخين فلم يمارس تدخين "السيجار" أو "البايب" ... سعادته الغامرة حينما حلت السلعة المصرية محل السلع الأجنبية التي كانت تملأ الشوارع والمحلات، صراحته المتناهية في التعامل فالأبيض أبيض والأسود أسود في حين أن كثيرا من المواقف تتطلب أن يكون اللون "بين بين" ... ندرة سفره إلى الخارج فلم يكن يستريح إلا في بيته.
  • وكان "عبد الناصر" يعتز بعروبته .. كان من أكثر زملائه قناعة بالعروبة وأن مصر ما هي جزء من الوطن العربي الكبير، فوقف وحده يحارب معركة حلف بغداد ليخرج المشرق العربي من مناطق الخامس وهو في المنفى حتى عاد ثانية يتربع على عرش المغرب المستقل، ووافق على إلغاء الحكم الثنائي في السودان حتى يتيسر له حق تقرير المصير، ثم ألقى بثقله خلف ثورة اليمن حتى يتخلص من "الإمامة" الفاسدة، ثم وقف خلف ثورة "عدن" حتى حصلت على استقلالها، ثم أهم من كل ذلك حقق الوحدة العربية مجسمة في "الجمهورية العربية المتحدة" ...

وكل موقف من المواقف السابقة كان يحتاج إلى قرار .. وربما حدثت انتكاسة هنا أو فشل هناك ولكن عروبته كانت دائما ما تحول دون أن "يكفر" بما يحدث أو يرتد عما يؤمن به ...

  • وكان الرجل "بشرا" كالملايين .. له حسناته وله سيئاته ... له إيجابياته وله سلبياته يحب ويكره، يحنو ويقسو، يمرض ويعافي، يخطئ ويصيب، ينجح ويفشل، يصادق ويعادي وتقييم قرارات عبد الناصر على غير هذا الأساس في ظلم للرجل وللتاريخ.

فمن صوروا "عبد الناصر" على أنه "شيطان" تجاوزوا الحقيقة إذ تركوا لأحقادهم الشخصية العنان فشوهوا التاريخ وأساءوا إلى بلادهم خالطين بين دوفاعهم الشخصية ودوافعه العامة .. وهذا أمر لا يجوز.

ومن صوره على أنه "ملاك" لا يخطئ غلبت عليهم عوامل العاطفة والحماس وهذه مقاييس لا يعتد بها في وزن الأمور وتقييمها ذلك أن أي رئيس يجتاز في رئاسته الانتصار والفشل ومجالات الصواب والخطأ وتماما كالرسم البياني تكون الصورة ... ارتفاع وانخفاض، وهذا شأن "البشر" كما قلنا لأن "الملائكة" لا يعيشون على ظهر الكوكب الذي نحيا عليه.

كان عبد الناصر وهو يصنع قراره إنسانا أولا وآخرا بما له أو بما عليه.

  • وعرف الرجل بالاستقامة فلم يجسر أحد أن يتحدث عن "نزوة" أو "سقطة" كان مستقيما في شبابه الأمر الذي يعرفه عنه كل أصدقائه وزملائه فلم تكن له زلة واحدة مما يقع فيها الشباب عادة، وظلت هذه الاستقامة تلازمه إلى آخر يوم في حياته، فم تكن له جولات أو صولات في "الشوارع الخلفية" كبعض من يصلون إلى السلطة، هذه الاستقامة مكنته قبل الثورة من متابعة الحياة السياسية في مصر متابعة دقيقة عن طريق اتصاله بمعظم الأحزاب والجمعيات القائمة، كما مكنته بعد الثورة من أن يهب كل دقيقة في حياته إلى أمته مكبا على دراسة المشاكل المتلاحقة محاولا إصلاحها ... هذه الاستقامة انعكست على قراراته كلها فلم يتخذ قرارا واحدا فيه كذب أو نفاق "فنحن نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا". كان ربما يصدر قرارا خاطئا ولكنه كان دائما يصدر القرار الصادق إذ لا يضع في اعتباره وهو يصدر القرار إلا المصلحة العامة في ضوء ما يراه صحيحا، فكان قراره صريحا واضحا حتى ولو كان به تجاوزات فكان مثلا لا يعطي باليد اليمنى شيئا ليسحبه باليد اليسري، ولا كان يتستر وراء ساتر يغلف به قراره أو يبرره.
  • ونشأة عبد الناصر مفتاح هام لشخصيته ومعتقداته .. فقد نشأ الرجل في بيئة فقيرة تكاد لا تملك شيئا، وذاق طعم المعاناة كالملايين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى التي نشأ فيها، ربما عانى من عدم توفر تكاليف الدراسة ولم يكن التعليم بالمجان بعد ... وربما عانى من عدم توفر تكاليف الحياة الأخرى .. وربما عانى من غياب السند القوى الذي يدفعه في دروب الحياة ... ولم يكن غريبا على شخص عانى ما عاناه أن يقف دائما إلى جانب الكادحين من العمال والفلاحين والموظفين .. كان يشعر بإحساس هؤلاء وهو ما عبر عنه "بإحساس الطليعة الثورية بمشاعر الجماهير وإذا فقدت هذه الطليعة الثورية هذا الإحساس يحق لطليعة ثورية أخرى أن يقفز إلى السلطة لتحقيق آمال الجماهير وترفع عنها أسباب المعاناة". لم يكن في قراراته تلك يشعر أبدا بحقد على طبقة بعينها بل نجده مثلا في قرارات الإصلاح الزراعي يزيد من عدد الملاك ويحاول التقريب بين الطبقات، وفي قراراته الخاصة بالحراسة كان يهدف في معظمها إلى تمصير الشركات والبنوك بعد أن كانت في يد الأجانب وإلى القضاء على الإقطاع بكافة أنواعه وإلى إنهاء سيطرة رأس المال وإلى الحد من نشاط المجرمين وتجار المخدرات، صحيح حدثت أخطاء في التنفيذ قد تصل إلى حد وقوع التجاوزات ولكن الأمر الذي يمكن أن نقطع به أنه لم يصدر هذا بدافع من الحقد الطبقي أو الانتقام، وفي قراراته الخاصة بمجانية التعليم كان يقف إلى جانب العاجزين عن توفير تكاليف التعليم الباهظة، وفي قراراته الخاصة بالعمال كان ينحاز إلى طبقات العمال ليمنع عنهم استغلال راس المال.
  • ولم ينس عبد الناصر لحظة واحدة قبل الثورة أنه يجهز ويخطط لثورة كما لم ينس أبدا بعد أن وصل إلى السلطة أنه قائد لثورة فهو لم يورث حكما ولم يخلف غيره في سلطة بل هو الذي سعى ودبر وقاد زملاءه ليسقط عرش مصر ويغير نظام حكمها، ولم يكن الاستيلاء على السلطة في حد ذاته غرضا يسعى إليه بل كان مجرد وسيلة لتحقيق أهداف تطلع أن يحققها لصالح القاعدة العريضة للجماهير الكادحة، لأنه لو كان قد اكتفى بالوصول إلى السلطة لكان ذلك مجرد انقلاب وحتى نرى انعكاس ثوريته على قدراته لا بد أن نحدد الخلافات بين الثورة والانقلاب:
  • فالثورة تقوم ضد أفكار ومعتقدات لهدمها من أساسها ثم تغييرها أما الانقلاب فيقوم ضد أفراد .... البعض ذهب والبعض جاء ثم تسير الأمور كما هي حتى يأتي آخرون.
  • والثورة لا تعترف بالأمر الواقع بل تطلق رياح التغيير لتدك ما هو كائن حتى تقيم على أنقاضه بنيانا جديدا مختلفا تماما عما كان ... أما الانقلاب فيكتفي بإجراءات إصلاحية هنا وهناك لا تعالج الأساس المريض بقدر ما تضع "رتوشا" لتجميل السطح.
  • والثورة بذلك تكون لصالح الجماهير الكادحة وما دام الأمر كذلك فإنها تصطدم بالضرورة مع طبقات خاصة مستغلة أما الانقلاب فإنه يحاول أن يتقرب إلى هؤلاء وهؤلاء ويكتفي بالوعود الرنانة يحاول بها أن ينقل الجماهير من حاضرهم إلى مستقبلهم خلال دروب من الأحلام والوعود وهذا أمر لا يمكن أن يدوم.
  • ويكون للثورة على هذا الأساس لون خاص بها فلا تكون كالماء لا لون له ولا رائحة وبالتالي يكون لها أعداء وأصدقاء بعكس الانقلاب الذي يتلون كالحرباء لكل ظروف لونه ولا عجب بعد ذلك أن الانقلاب يخلط دائما بين الأصدقاء والأعداء فيضل الطريق ويقع فريسة بين مخالب الأعداء الذين يتوهم أنهم أصدقاء، ويبتعد عن الأصدقاء الذين يتخيل أنهم أعداء.
  • والثورة حركة تغيير مستمرة لا تقف عند حد فهي كالماء المتدفق يسري هنا وهناك أما الانقلاب فهو مجرد رعشة متخاذلة وإن حمل اسم الثورة وهو كمجرى ماء قد يجف بعض الوقت وقد تجري فيه بعض المياه أحيانا لتسكن وتتوقف ثم تتحول إلى ماء آسن رائحته تزكم الأنوف.
  • والثورة دائما معطاءة أخاذة فهي تأخذ من الغير وتعطيه فلا تتقاعس عن مساعدة غيرها من ثورات لأنها ترى في ذلك تحقيقا لأمنها وتوطيدا لمركزها ورصيدا لها تستخدمه وقت الشدة والعسر، أما الانقلاب فربما يرتعش في منتصف الطريق ثم لا يلبث أن يتراجع مسرعا إلى عقر داره وينتظر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
  • والثورة طريق شاق صعب تحفه المتاعب والأخطار أما الانقلاب فشيء يجيء ويذهب دون أن يشعر به أحد، وبذلك تكون السلطة في الثورة عبئا ومسؤولية بعكس السلطة في الانقلاب فهي مجرد غنم ورفاهية.
  • ثم كان عبد الناصر من العسكريين المقاتلين ذوي الاطلاع الواسع وكان هذا يميزه بالجسارة والحسم والجلد في العمل والتقشف في المعيشة ومحاولة الوصول إلى الغرض من أقصر طريق وعدم خشيته من خوض المعارك المتتالية والقتال من أجل ما يريد والإصرار على تحقيق الهدف ثم ميله دائما إلى المفاجأة وإلى جانب ذلك فإنه كان يميل إلى جمع المعلومات قبل إصدار القرار ثم ربما يضيق صدره من أي إجراء يعترضه عند التنفيذ، كان يحب الطاعة الكاملة بالرغم من أنه كان دائما يقول "لو الواحد أمر الجنود في وحدة عسكرية أن يدوروا إلى اليمين فإن الجميع يتجهون إلى اليمين استثناء ولكن لو الواحد وقف في ميدان الأوبرا وأمر الناس بالاتجاه إلى اليمين فالبعض يفعل ذلك والبعض الآخر قد يتجه إلى اليسار أو الخلف".

هذه المفاتيح التي ذكرتها تكون شخصية صاحب القرار.

فمصريته الممتزجة بعروبته جعلته يتخذ أخطر القرارات التي غيرت مسيرة الأمة العربية فعاش من أجل ذلك ومات وهو يفعل ذلك ولف جسده بالعلم العربي ثلاثي الألوان ذي النجمتين.

واستقامته التي اشتهر بها جعلته لا ينحني رأسه أمام أحد ويطالب الجميع بذلك قائلا "ارفع رأسك يا أخي".

ومعرفته الواسعة واطلاعه العميق على ما يدور في العالم وبالعالم أكسبته ثقة كبيرة في نفسه وجعلته عملاقا ضخما أثار أحقاد الكثيرين وغيرة العديدين.

وشجاعته المستمرة جعلته يخوض المعارك العديدة ربما بأكثر من موارده المتاحة وألبت عليه القوى المضادة ليحولوا بينه وبين آماله التي أسموها أطماعا وبين أحلامه التي سموها تسلطا. وعسكريته التي عاش فيها أحلى أيامه جعلته ربما يضيق بالجدل الذي يعرقل العمل والحوار الذي لا ينتهي إلى قرار.

في ضوء هذه الشخصية التي ربما أصبحت واضحة تماما أمام "رسامي الكاريكاتير" علينا أن نقيم قراراته.

ولكن في اعتقادي أن هذا لا يكفي.

فالشخصية هي أحد جوانب الصورة ولكن الجانب الآخر أهم وأكثر تأثيرا وهو الجانب الذي يستعيد الظروف التي عاش فيها صاحب القرار ...

فصاحب القرار دائما لا يملك حريته الكاملة يفعل ما يشاء .. فهناك إرادات أخرى أمامه وظروف ضاغطة تتفاعل مع رغباته وأحلامه.

ولا يمكن أن يكون الحكم على "قرار" إلا إذا قيم في إطار الظروف التي اتخذ فيها إذ ربما يكون قرار الأمس غير صالح لأحداث اليوم أو الغد فالظروف تتغير وتتبدل ولا بد يكون القرار مطابقا للظروف التي تواجهه وإلا أصبح كالسهم الطائش الذي ينطلق في الفضاء دون هدف أو غاية.  

الفصل السابع: الظروف والعوامل

التحالف الرهيب بين الاستعمار والرجعية – فلسطين ضرورة لأمن مصر – الاستعمار يحاول التطويق – المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسين – الخلل في الملكية والخلل في التمثيل النيابي – علاقات غير متوازنة بين طبقات المجتمع – الجيش لا يملك السلاح والعتاد – الضغوط الخارجية والداخلة – النكسة ...

تحدثنا حتى الآن عن "مفاتيح شخصية عبد الناصر" في معرض حديثنا عن "عبد الناصر واتخاذ القرار" وبذلك نكون قد استكملنا أحد وجهي الموضوع، وبقي أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها وقت إصداره لقراراته حتى نجلو الوجه الآخر، إذ لا يمكن تقييم أي قرار إلا بوضعه داخل إطار الظروف التي اتخذ لمواجهتها أو التي عاش فيها فأثرت عليه وتأثر بها.

فالقرار لم يكن في يوم من الأيام مجرد عملية حسابية صماء ولكنه إجراء معقد أشد التعقيد، وتفسير ذلك أن اتخاذ إجراء يمر بمراحل كثيرة متتابعة ومتداخلة أكثرها تحدث في المحيط المعنوي للمشكلة وأقلها يجري في المحيط المادي لها.

والجانب المادي من السهل تقديره وتحديده بدقة وربما يحتاج إلى عمليات حسابية دقيقة للوصول إلى نتيجة أقرب ما يمكن للصواب، ولكن الجانب المعنوي يضيف إلى مشكلة اتخاذ القرار عاملين هامين: الأول منهما يتعلق بالمخاطرة والعامل الثاني هو التكهن والاستنتاج. والمخاطرة لازمة من لوازم القرار ولا بد من التفريق بينها وبين المقامرة فللمخاطرة أسسها وقواعدها التي ربما تصيب وربما تخطئ أما المقامرة فهي مجرد ضربة حظ تتعلق بالقدر ولا تبنى على أساس من العقل والتدبر.

أما التكهن فيحتاج إلى المعرفة والعلم والمعلومات إلى جانب القدرة على الخيال والتصور فيكون بذلك قادرا على اختراق الضباب الذي يغلف المواقف نتيجة للإرادات المتصارعة التي لا يمكن تحديد اتجاهاتها تحديدا قاطعا والمعلومات المتضاربة التي تختلط فيها الحقيقة بالزيف ويمتزج فيها الوضوح بالغموض.

ولنضرب مثلا واحدا نقرب به ما نقول إلى الأذهان.

فإذا كان الجانب المضاد مثلا لديه 4 دبابات فالجانب المادي لمواجهة ذلك يبني على أساس أن التعامل سيكون فعلا مع الدبابات الأربع ولكن الجانب المعنوي يمكن أن يجعل التعامل مع دبابتين وربما ثماني!! إذ سوف يدخل في العملية الحسابية عوامل أخرى غير ملموسة مثل جودة الدبابة من الناحية الفنية، مدى المدفع، القدرة على المناورة، السرعة، درجة الرؤية المتيسرة في الضباب أو الليل نتيجة لاستخدام الأشعة تحت الحمراء مثلا، درجة تدريب الأفراد، مهارة القيادة، الروح المعنوية، الإيمان بالغرض، القدرة على التصرف أمام المواقف المفاجئة ... إلخ .. هذه العوامل غير محسومة ولكنها تؤثر تماما عند اتخاذ القرار، إذ لو أن صاحب القرار تناساها فإنه سيتعامل في واقع الحال مع ظروف أخرى لم يضعها في حسبانه ويصبح قراره بذلك لا يتعامل مع واقع ويكون أقرب إلى السهم الطائش لا يصيب هدفا ولا يحقق غرضا.

وبعد هذه المقدمة السريعة يمكن أن نتحدث عن الظروف التي عاش فيها عبد الناصر وهو يتخذ قراراته ...

  • كان المناخ الذي ولدت فيه ثورة يوليو – تموز 1952 يتميز بالتحالف الرهيب بين الرجعية والاستعمار واستمر الرجل إلى آخر يوم في حياته يخوض معركة ضارية ضد ذلك الحلف الذي شكل قوة ضاغطة مستمرة أثرت على قراراته وأجبرته على أن يخوض معركة تلو الأخرى دون أن تترك له فرصة لالتقاط الأنفاس ..

ويقول بعض "السذج" إنه كان على "عبد الناصر" تجنب المواجهة ومفاداتها ...

ولا أظن أن الرجل كان يطلب غير ذلك إذ لم يكن يريد حربا ولا كان يسعى إلى قتال، بل حاول جهده أن يتفاهم بالحسنى دون جدوى وأمضى السنوات الأولى للثورة في محاولاته تلك فكان يخرج من طريق مغلق إلى طريق مسدود دون أن يجد صدى لمحاولاته تلك.

كان البديل لذلك "الاحتواء" والدخول في "مناطق النفوذ" وهذا أمر لم يقبله.

وهنا اختلطت شخصيته "الثورية" "بالظروف الضاغطة" وتفاعلت معها ورفضتها وأصبح من المحتم عليه أن يتحرك ليكسر الطوق قبل أن يطبق عليه، إذ أن أخطر ما يصيب الثورة هو حالة الجمود التي تدفع إليها أو حالة الاستسلام التي تجر إلى الوقوع في حبائلها.

والشيء الغريب حقيقة أن كثيرا من الأقلام الناقدة تحدثت كثيرا تلوم عبد الناصر على محاولاته تلك وربما تجاوزت اللوم إلى حد الاتهام، ولكنها لم تحاول ولو لمرة واحدة أن تتحدث عن محاولات الرجعية والاستعمار مع الثورة وقائدها من يوم أن ولدت حتى تصيدها في يونيو – حزيران 1967، ولم تحاول ولو مرة واحدة أن تقترح البديل الذي كان على عبد الناصر اتباعه والسير فيه.

  • ثم وجد "عبد الناصر" ضمن ما وجد من "مخلفات" "مشكلة فلسطين" فالأنظمة العربية قبل ثورة يوليو – تموز 1952 هي المسؤولة عن خلق إسرائيل "الدولة" بعد أن فشلت في مقاومة إسرائيل "الفكرة أو الحلم" فعبد الناصر لم يكن مسؤولا عن خلق المشكلة بل كانت المشكلة أحد الأسباب التي دفعته إلى الثورة، وعلى أي حال فلن نستطرد أكثر من ذلك إذ لسنا في موقف نحدد فيه المسؤوليات ثم لم تعد هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب.

وكان المؤمل أن يتعلم حكام العرب من درس 1948 ويحاولوا ولو لمرة واحدة أن يتحدوا أمام الخطر الداهم الذي أصبح جاثما وسط الدار ولكن الكثيرين منهم رأوا أن الثورة أخطر عليهم وأكثر تهديدا لبقائهم فقاموا يحاربونها بكل ما وهبهم الله من قوة وثروة.

ويقول "السذج" و "المغرضون" الذين يقيمون الأحداث الآن إنه كان على عبد الناصر أن يترك فلسطين في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا وإنه كان على الرجل أن يقفل عليه حدوده وبذلك يتفادى الصدام مع إسرائيل ويجنب مصر تلك الحروب التي خاضتها.

ولكن ... هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك؟ هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956؟

لا نقول ذلك لتبرير حروب عبد الناصر فهي حروب عادلة لا تحتاج إلى تبرير إذ خاضها لكي يدفع العدوان أو هكذا كان يحاول ويتمنى، ذلك لأن أبسط قواعد الأمن القومي تشير إلى أن "فلسطين" هي من ضرورات "الأمن المصري" منذ عصور الفراعنة، ووجود دولة معادية هناك فيه تهديد قاتل "لأمن مصر".

إذن فسلامة فلسطين من ضروريات الأمن المصري إذا صح هذا التعبير إذ لا يوجد ما يسمى "بالأمن المصري" المنفرد عن "الأمن العربي" فلا أمن لمصر دون العرب ولا أمن للعرب دون مصر.

  • وكان الاستعمار يربض في كل مكان من أركان العالم العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي لتنفيذ استراتيجية "التطويق" عن طريق إقامة القواعد العسكرية على الساحة كلها .. قاعدة قناة السويس، عدن، منطقة الخليج، الظهران، الحبانية، الشعيبة، هويلس، بنزرت، الجزائر، المغرب، .. كانت القواعد كالأخطبوط الذي يخنق كل حركة وطنية، واعتبر عبد الناصر العربي – عن حق – أن معركة استقلال مصر هي جزء من معركة الاستقلال العربي فالمعركة واحدة متصلة إذ "أن الأمن واحد والمستقبل واحد والعدو واحد والمصير واحد، هكذا تقول لنا الخريطة وهكذا يقول لنا الواقع وهكذا يقول لنا الدين "إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء، ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم هذا المكان ... أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقة وفعلا لا مجرد كلام" .. واستمر عبد الناصر يتحدث في "فلسفة الثورة" عن الدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية حديثا أخذا في الاعتبار مركز مصر على خريطة العالم، ولست أدري كيف يمكن لبلد من البلدان كتب عليه أن يكون في هذا الموقع الحيوي أن يقفل على نفسه؟ كيف يمكن لمصر أن تقفل عيونها حتى لا ترى ما حولها؟ أو تجمد أحاسيسها حتى لا تحس الأخطار التي تحدق بها؟ بل لو أننا سلمنا جدلا أن مصر أقفلت عيونها وسدت آذانها وجمدت أحاسيسها فهل هذا يحول بين المتربصين وبين أن يقرعوا الأبواب ويقتحموا النوافذ؟ ولو سلمنا جدلا أنه بإمكاننا أن ننتقص من قدرنا ومكاننا فكيف نضمن أن غيرنا سيشاركنا هذا التقييم في سبيل سعيه لتحقيق أمنه ومصالحه؟ إننا جزء من منطقة نعيش فيها ... والمنطقة جزء من عالم متسع تدور فيه الأحداث وتتصارع فيه الإرادات .. والسياسة أخذ وعطاء ولذلك نجد أن الرجل أعطى في سخاء لثورة الجزائر وللمغرب ولليمن الشمالي والجنوب العربي .. فأزيلت القواعد وتحررت الإرادات ولذلك ضرب عبد الناصر عام 1956 لأن "القضاء على ثورة الجزائر لن يتم إلا عن طريق القاهرة" وعادوا فوجهوا إليه الطعنة النجلاء عام 1967 لأن "القضاء على الثورة العربية لن يتم إلا عن طريق القاهرة أيضا".

وبالرغم من ذلك فإن البعض يوجه إليه اللوم الثقيل بعد أن مات وكأن ما لاقاه من عداوة ومقاومة قبل أن يموت لم يكن فيه الكفاية، فمن قاومه قبل أن يموت ومن شرحه بعد أن مات كلاهما كان يطلب منه أن يريح ويستريح، ولكن كان هذا مستحيلا إذ لو توفرت له الرغبة فإنه ما كان من الممكن أن تتوفر له القدرة، لأن العدوان يدق الأبواب وينساب من النوافذ ويتسرب من الفجوات فلا هو يدع النائم في نومه ولا هو يدع المتيقظ يهنأ بتيقظه، فهو في حركة دائمة ونحن دائما أهدافه التي يسعى إلى السيطرة عليها لابتلاعها لعلها تسد شيئا من أطماعه.

  • وكان المجتمع المصري يقع تحت ضغطين رئيسين: الضغط الأول كان يتمثل في أنه مجتمع بطيء النمو، والضغط الثاني كان يتمثل في أن المجتمع كان يعيش في حالة خلل محزن وتناقض خطير في العلاقات التي كانت تنظم حركة المجتمع.

ومن ناحية الضغط الأول وهو بطء نمو المجتمع فإنه طبقا للإحصائيات العلمية الدقيقة كان المجتمع قد وصل إلى حالة ركود تكاد تكون تامة خلال أربعين سنة ما بين عام 1913 إلى عام 1953 ففي تلك الفترة كان معدل النمو لا يزيد في المتوسط عن واحد ونصف بالمائة سنويا وهي نسبة نمو كانت الزيادة في عدد السكان تستوعبها.

أما من ناحية الضغط الثاني فكان يتمثل في التفاوت الخطير بين الطبقات فكان واحد ونصف بالمائة من السكان يحصلون على نصف الدخل القومي، علاوة على أن الملكية من الأراضي الزراعية كانت قد تركزت في يد القلة المالكة التي كانت تتحكم في الأغلبية من الأجزاء ثم كانت ثروات مصر ليست ملكا لأبنائها فكل المرافق الحيوية كانت في أيدي الشركات الأجنبية مثل قناة السويس والسكك الحديدية وخطوط الترام ومرافق الكهرباء والمياه والبنوك والصناعات ومساحات كبيرة من الأراضي الزراعية.

وكانت العلاج تحت ضغط تلك الظروف ليس مجرد استرداد الثروات إلى ملاكها الحقيقيين عن طريق التمصير والتأميم وإنما كان إلى جانب ذلك إضافة وتوسيع بدأها مجلس الإنتاج بعد شهور من قيام الثورة ثم أشرف عليها بعد ذلك وزارة الصناعة التي أنشئت منذ عام 1956 والتي قامت تحت ظروف الحصار الاقتصادي الذي أعقب حرب السويس بوضع خطة ثلاث سنوات للصناعة مهدت لخطة التنمية الشاملة بعد ذلك والتي بلغ فيها معدل النمو زيادة سنوية قدرها ستة ونصف بالمائة وأثناءها دخلت مصر مرحلة الصناعة الثقيلة رغم تعقيداتها وبطء مردودها بهدف الاقتراب من أجل الاعتماد على النفس بقدر الإمكان من جانب لتغيير التكوين الاجتماعي من جانب آخر بنقل فائض العمالة في قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة للتغلب على مشكلة البطالة المقنعة الموجودة في قطاع الزراعة.

  • وترتب على هذا الخلل في الملكية خلل آخر في التمثيل النيابي إذ لا مندوحة أن تتكون في ظل هذا النظام المالي ديكتاتورية برلمانية تكون انعكاسا طبيعيا للسيطرة الاقتصادية، فكانت هناك مجالس نيابية يجتمع فيها نفس الفئة المتحكمة في الأرض وسوق المال، وبذلك تكون إقطاع سياسي إلى جانب الإقطاع الاقتصادي ولم يكن عجيبا بعد ذلك أن تلك المجالس لم تتحدث إلا نادرا عن مصالح الجماهير الكادحة وعن ضرورة تذويب الفوارق بين الطبقات، كانت تلك المجالس غطاء زائفا للحرية إذ أنها كانت توفر حرية الطبقة المتحكمة والحاكمة في نفس الوقت أما الحرية التي ترتبط بلقمة العيش فكان التحدث فيها محرما وممنوعا إلى أن جاء عبد الناصر ليبدأ في تساؤله الملح عن معنى الحرية؟ "فما هي الحرية بالنسبة للرجل الذي لا يجد لقمة العيش لأولاده في الليل؟ إن الحرية بالنسبة له ليست إلا أن يجد لقمة العيش لأولاده .. الحرية بالنسبة للفلاح الذي يشتغل عبدا في الأرض هي أن يكون حرا ويكون سيد نفسه .. الفلاح الذي يطرده صاحب الأرض من أرضه هو ومتاعه وعائلته لأنه لا يطيع الأوامر ولا يقبل أن يكون رقيقا أو عبدا أو خادما مطيعا .. إن الحرية عنده أن يكون مطمئنا على حياته ومستقبله .. والحرية بالنسبة للعامل الذي يفصل في كل وقت والذي لم يكن له الحق في أن يقول رأيه وإذا قال رأيه بجدية يفصل من عمله أياما .. إن الحرية بالنسبة له أن يكون مطمئنا على عمله ومطمئنا على مستقبله، كان من الواضح لنا بعد الدروس التي أخذناها في السنين الماضية أننا إذا أردنا أن نقيم الديمقراطية فإننا نهدف ونسعى إلى إقامة ديمقراطية سلمية لا ديمقراطية تتحكم فيها أقلية على الأغلبية أو ديمقراطية يتحكم فيها المستغلون وإنما كنا نعني ديمقراطية الشعب فالحرية لا تنفصل عن الرزق والمساواة لا تنفصل عن الحرية ولا يمكن أن يكون هناك حرية بدون مساواة ويكون هناك أناس مميزون ولهم الحق في كل شيء وأناس آخرون محرومون من كل شيء".

وكان عبد الناصر – كما سبق أن ذكرنا في مفاتيح شخصيته – قد نشأ في أسرة فقيرة وعاش الجو الذي عاد ليتحدث عنه ويعالجه وهو في الحكم ورأى مهزلة المجالس النيابية ولمس تحكم الإقطاع في الحياة السياسية، ولعله تأثر بكل ذلك حينما ألقى بثقله على الحرية الاجتماعية أحد جناحي الديمقراطية – كما كان يقول – فنالت منه رعاية كبيرة فاقت رعايته للجناح الآخر من الديمقراطية وهو الحرية السياسية.

  • وانعكس خلل الملكية على العلاقات التي كانت تتحكم في حركة المجتمع فأوجدت تناقضا خطيرا بين الحقوق والواجبات .. فالحقوق كلها للقادرين والواجبات كلها على الكادحين.

فالتعليم مثلا – وهو حق مشروع للجميع – كان قاصرا على طبقة خاصة قادرة على مواجهة تكاليفه، وكان العلاج وهو حق من الحقوق قاصرا على الطبقة القادرة على دفع نفقاته وكان العمل متاحا فقط للطبقات المميزة إلا الأعمال الدنيا فتركت لطبقاتها لا عن رغبة وزهد ولكن عن تعفف وازدراء، وكان المسكن اللائق من المناطق المحرمة التي لا تجوز للطبقات الكادحة حتى أن تفكر فيه، حتى الحذاء كان مجرد أمل بالنسبة لكثير من الفلاحين والعمال الذين كانوا يهيمون في حقولهم ومصانعهم بجلابيبهم الزرقاء المشهورة وهم حفاة.

وفي الوقت الذي حرمت فيه الغالبية من حقوقها كان عليها واجبات خطيرة من المحتم أن تقوم بها .. فالتصويت في الانتخابات واجب عليها لكي توفر الغطاء الشكلي لدفع ممثلي الطبقة المتحكمة فيهم إلى قاعات البرلمان ليكرسوا جهودهم لتعميق الوضع الظالم السائد، وفي نفس الوقت اقتصر دفع "ضريبة الدم" للدفاع عن الوطن على الطبقة التي كانت عاجزة عن دفع "ثمن الخلاص" من الجندية وهو يتمثل في عشرين جنيها كانت تسمى "البدلية" أي النقود التي تدفع بدل التجنيد أي في مقابله!!! وكأن شرف الدفاع عن الوطن قد اقتصر على الطبقة التي ليس لها حق التملك!! فكان التجنيد الإجباري في الواقع لا ينفذ إلا على التعساء من حثالة المجتمع الذين لا يملكون ثمن الخلاص الزهيد ... وكأن الذين لا يمتلكون أي شيء هم الذين وكل إليهم أمر الدفاع عن الذين لا يملكون كل شيء ....!! ثم كان على هذه الطبقة المعدمة دفع الضرائب للخزينة الخاوية، وكان الدفع يتم من "المنبع" كما يقولون، وكان "المنبع" في أغلب الأحيان جافا ليس به زاد أو ماء بينما القادرون لا يجسر أحد على الاقتراب من "منبعهم" المتضخم الزاخر المليء!!

  • ثم ووسط الضغوط الخارجية التي كانت تتعرض لها البلاد كان "الجيش" لا يملك عتادا ولا سلاحا وقد حاول الرجل سد الفجوة من بريطانيا في أول الأمر فتمنعت في انتظار دفع الثمن .. وتغطية الثمن في سوق السلاح لا يكون نقدا وعدا ولكن هناك طرق أخرى لتسديد الحساب أغلبها ربما يمس السيادة وينقص من الاستقلال .. ولما رأى الباب مسدودا حاول مع الولايات المتحدة الأمريكية دون جدوى أيضا، وكانت إسرائيل ترتع على الساحة تفعل ما تريد وبريطانيا قابعة بقواتها في قاعدة قناة السويس قاطعة خطوط مواصلات القوات المصرية التي كانت موجودة في سيناء فكان العدو بذلك أمام قواتنا الموجودة في سيناء وخلفها في نفس الوقت، وقام الرجل وسط كل هذه الضغوط بمعجزة "كسر احتكار السلاح" فكانت صفقة التسليح السوفيتي التي تبعتها صفقات.

وبالرغم من ذلك يتعرض عبد الناصر إلى اللوم الذي يصل إلى حد الاتهام لأنه أخطأ بأخذ السلاح الذي دفع به القدر إليه، فكيف "يدنس" يده بسلاح سوفيتي حتى ولو كان "الجيش" يقف تحت رحمة العدو ليل نهار؟ كيف يسمح بتسرب السلاح السوفيتي حتى لو كان الجيش أعزل أمام عدو يتسلح كيف يشاء؟ لماذا لم يرفض السلاح "المحرم" حتى لو رفض الجميع إمداده به حتى مع استعداده لدفع الثمن فورا نقدا وعدا؟ لماذا ارتكب الرجل تلك الخطيئة ولماذا أقدم على هذا المحظور؟ لقد ارتكب الرجل – هكذا يقولون – شيئا إدا وقطف "الفاكهة المحرمة".

  • ووسط هذه المواقف الصعبة كانت البلاد تتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية وبصفة مستمرة كل هدفها إسقاط النظام، وكان هناك أكثر من عشر محطات إذاعية سرية توجه إليه ليل نهار وكانت الضغوط الاقتصادية التي ارتفعت إلى حد الحصار الاقتصادي تلتف حول عنقه في كل وقت، ثم كانت الحروب التي تفرض عليه حينما تفشل الوسائل الأخرى في إسقاطه تتتابع بين وقت وآخر.

وكان المفروض على عبد الناصر – كما يقول اللوامون – أن يقابل السيئة بالحسنة حتى يمحوها وهم لا يدرون أن الأنبياء العزل لا مكان لهم في غابة السياسة، ثم كان عبد الناصر كما قلنا ونحن نتحدث عن مفاتيح شخصيته إنسانا نبيا أو ملاكا .. وإلا بالله عليكم ما هي الطريقة التي كان يواجه بها عبد الناصر تلك المؤامرات الخارجية؟ وما هي الطريقة التي كان يمكن أن يواجه بها عبد الناصر المؤامرات الداخلية وتعرضه المتكرر للاغتيال؟ علما بأننا نكرر أن الرجل كان إنسانا يحب ويكره يعدل ويظلم، يخطئ ويصيب.

كان عبد الناصر يعيش في بحر هائج تختلط فيه التماسيح المتصارعة مع الأنواء العاتية والعواصف المدمرة وهو نفس الجو الذي تعيش فيه دائما الثورات الأصيلة.

ووجد عبد الناصر نفسه بعد الانفصال في موقف صعب مع المؤسسة العسكرية بقيادة المشير عبد الحكيم عامر.

كان أهم ما شغل الثورة منذ قيامها تنظيم العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية فكانت العلاقة واضحة ومحددة أيام حرب التحرير عامي 1953، 1954 ضد القوات البريطانية في قناة السويس، وكانت العلاقة واضحة ومحددة في حرب السويس وحتى حدوث الانفصال فلم يكن كل شيء هادئا في كواليس قيادة يوليو عندما صدر الميثاق الوطني عام 1962 ولا عندما صدر بعده في سبتمبر – أيلول إعلان دستوري بنقل السلطة إلى مجلس الرئاسة كمحاولة لإيجاد قيادة جماعية بعد نجاح الانفصال، وحاول المجلس أن يدخل التوازن بين سلطات المشير عامر وبين السلطة الرئاسية المتمثلة في القيادة السياسية بعد فشل المشير أيام العدوان الثلاثي وأيام الوحدة وقد أعد قرار تحديد اختصاصات المشير بما يجعل سلطة تعيين قادة الوحدات في القوات المسلحة من مسؤولية مجلس الرئاسة وليس من مسؤولية المشير ولم يحضر عبد الناصر جلسة مجلس الرئاسة التي نوقش فيها هذا الموضوع فطلب المشير تأجيل بحثه وانضم إليه كمال حسين الذي كان قد بدأ يقترب من دائرة الظل ويبتعد عن المناصب التسعة التي كان يستحوذ عليها ولكن الغالبية وافقت على القرار وأصدرته ولم يمتثل عامر إلى ذلك وخرج غاضبا وقدم قادة القوات البرية والجوية والبحرية وبعض كبار القادة استقالاتهم وحدثت حالة هياج بين قادة القوات المسلحة المقربين من المشير واجتمعوا في القيادة وأصروا على عودته إلى موقعه.

وقد كان !!!

وأدرك عامر أنه يستمد سلطته من القوات المسلحة فوثق صلته بقادتها وظل يواصل العطاء والمنح لكل من يطلب وأصبح للمشير أظافر وأنياب، وكان من الواجب حسم مثل هذه الأمور عند بدايتها ولكن إهمال ذلك أدى بالقيادة العسكرية لكي تشكل بروزا وورما خطيرا أصبح من الصعب اسئصاله وأصبحت القيادة السياسية ينقصها القدرة – ولا أقول الرغبة – لإزالة هذا الورم وهنا اهتزت كل الأمور فتغيرت طبيعة العلاقات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية ثم اهتزت طبيعة العلاقات داخل القيادة العسكرية فهبط ميزان الكفاءة ليحل محله ميزان الولاء وأصبح التأمين الذاتي وليس الأمن القومي هو محل الرعاية والاهتمام.

وهنا يتساءل الكثيرون – وأنا معهم – لماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف، ربما يكون ذلك لعجز في القدرة بعد اختلاف موازين القوى بين القيادتين وربما تكون القيادة السياسية قدرت أنه لتصحيح الأوضاع لا بد من صدام ولكنها لم تكن مستعدة لهذا الصدام إلا على الأرض الملائمة وفي الوقت المناسب.

ولكن يبقى سؤال قائم! ولماذا لم تعالج القيادة السياسية الموقف قبل أن يستفحل؟ والإجابة على السؤال صعبة، ربما يرجعها البعض إلى عامل الصداقة، وربما يرجعها البعض الآخر إلى تغلب عامل التوازن بين اتجاهات أعضاء مجلس الثورة القديم. والله أعلم.

  • ثم جاءت النكسة عام 1967 ليعيش عبد الناصر في ظل الهزيمة بعد انتصاراته الكبرى في معاركه السابقة وانعكس ذلك على قراراته ولا شك، أصبح الرجل أكثر حذرا وأقل اندفاعا عما قبل، كان يحسب ويعيد الحساب بأسلوب تميز بالمرونة والواقعية.

فبعد أن اجتاز قمة اليأس وخيبة الأمل التي دفعته إلى اتخاذ قرار التنحي في 9 يونيو – حزيران 1967 ابتدأ يستعيد نفسه يوم 10 يونيو – حزيران 1967 حينما استجابت للرغبة الملحة في بقائه، ووسط الحطام الذي تناثر من حوله بدأ في محاولاته لإزالة آثار العدوان تحت ضغط ظروف قاسية وشبح الهزيمة لا يفارقه لحظة واحدة وكان كل ما يتمناه أن يظل حيا حتى إزالة آثار العدوان ولكن انهيار حالته الصحية لم يتح له ذلك فلقي ربه قبل أن تتحقق الآمال.

ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن عبد الناصر واجه تحديات كبرى في الداخل والخارج على حد سواء، ولم يكن الرجل يؤمن بالمبدأ الإصلاحي في معالجة الأمور ولكنه كان قائد ثورة ثم أصبح زعيم أمة أعطته ثقتها في الانتصارات والهزائم على حد سواء.

ولا شك بعد كل هذا الذي قلناه فإن عبد الناصر كان شجاعا إلى أقصى حدود الشجاعة وهو يواجه كل الضغوط التي وجهت إليه فلم يتردد في خوض معركة تلو الأخرى حقق في معظمها انتصارات كبيرة تركت بصماتها في الداخل والخارج على حد سواء.

وبحكم طبيعته واجه التحديات بإجراءات حاسمة وبطريقة مباشرة لا تعرف الالتواء .. الأسود أسود والأبيض أبيض بينما يغلب على الألوان في ميدان السياسة أن تكون بين بين.

كانت المشاكل الموروثة هائلة وكان يسابق الزمن، كان يريد أن يقفز في خطوات واسعة كقفزات النمر بينما يرى ناقدوه أنه كان عليه أن يسير في تؤدة كالسلحفاة .. والنمر يصل والسلحفاة تصل فلم يكن هناك داع إذن للسرعة أو التسرع.

وكلمة أخيرة عما قيل من أن قرارات عبد الناصر كانت قرارات غلب عليها "رد الفعل" ويقصدون بذلك أن قراراته كانت مجرد فورات عاطفية وانفعالات شخصية، وهذا قول بعيد عن الواقع، إذ اتضحت سياسة مصر طوال تاريخها في كافة الميادين مثلما اتضحت أيام عبد الناصر ولعل السرعة الخاطفة التي اتسمت بها ضرباته ترجع إلى وضوح الرؤية والتحضير المسبق وقد اعترف الأعداء قبل الأصدقاء لعبد الناصر بهذه الميزة.

وحتى لو ذهبنا مع هؤلاء في أن عبد الناصر كان يتخذ قراراته في نطاق "ردود الأفعال" فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن مصر لم تكن تبدأ أحدا بالعداوة كما يرددون، ويعني أن مصر أصبح لها إرادة وربما يكمن الفرق بين سياسة الدول المستقلة وسياسة الدول المغلوب على أمرها في القدرة أو العجز عن رد الفعل، بل فلا يجوز أن ننسى أن أهم قاعدة من قواعد اللعبة السياسية في عالمنا المعاصر هي التوازن بين القدرة على توجيه الضربة الأولى والقدرة على توجيه الضربة الثانية .. أي التوازن بين القدرة على الفعل والقدرة على رد الفعل، بل نجد أن القدرة على رد الفعل هي التي تتحكم يحسب في القدرة على الفعل وليس العكس.

إذن فليس عيبا ما يقولونه عن أن قرارات عبد الناصر كانت قرارات يغلب عليها رد الفعل ولكن .....

هل قيامه بالثورة في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

هل إسقاط أسرة محمد علي يدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

هل قانون الإصلاح الزراعي وقوانين التمصير والقوانين الإشتراكية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

هل إقامته دولة الوحدة وسياسته العربية والأفريقية وعدم الانحياز تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

هل مقاومته الاستعمار والعمل على إزالة القواعد العسكرية تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

هل بناء السد العالي ومئات المصانع والمدارس والمستشفيات تدخل في نطاق الفعل أو رد الفعل؟

كل ذلك أسقطوه من حسابهم وهم يقيمون قرارات عبد الناصر وللأسف فقد سمعت لهم بعض الأذان وأطاعتهم بعض الأقلام لأن من سوء حظ الأمة العربية ومن سوء حظ عبد الناصر أن القدر لم يمهله حتى يتم إزالة آثار النكسة فمات.

الباب الثالث: استراتيجية عبد الناصر لإزالة آثار العدوان

الفصل الثامن: استراتيجية عبد الناصر لإزالة آثار العدوان.

خسرنا معركة لم نخسر حربا – ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة – 100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية – لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا – قنوات مفتوحة مع واشنطن – الخط الحرج – خط الأمر الواقع – السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل – خطة جرانيت – كلام كلام ... قتال قتال – مخلفات عبد الناصر.

حلق بي الخيال، وأنا أفكر فيما وصل إليه الحال فوجدتني أمام خاطر غريب وسؤال عجيب!! ماذا لو لم يمت عبد الناصر؟ وفكرت كثيرا في السؤال الغريب وعقدت العزم على أن يكون السؤال هو عنوان هذا الفصل ...!! ولكن سرعان ما تبين لي أن السؤال بصورته تلك سوف يحرك كثيرا من المشاعر المتباينة والحسابات الثقيلة.

فالكثيرون ممن سيقرأون العنوان المثير ربما يغمضون عيونهم لفترة من الوقت ويرفعون أكفهم نحو السماء ويدعون الله لو أن الخيال أصبح حقيقة!!! هؤلاء هم الغالبية العظمى من الواعين والكادحين من العمال والفلاحين والوطنيين وكل المنتسبين إلى الحركات الثورية في كل مكان، بينما يصيب الخاطر الغريب البعض بالذعر والانزعاج وربما يلقي بعضهم بالكتاب بعيدا في غضب وهم يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم، وربما لا يخفى البعض الآخر سخطه على الكاتب وأفكاره السقيمة، وهؤلاء هم الإقطاعيون والانتهازيون والمنحرفون وآخرون ممن داسوا على الوفاء وتنكروا للزمالة والصداقة وغيرهم ممن لا يجدون لهم مجالا إلا في كنف الاستعمار.

وقد يرزح البعض أياما تحت ثقل الخاطر المستحيل، بل وقد يبدأ البعض وهم تحت وطأة هذا "الكابوس" بمراجعة حساباتهم وموازنة أمورهم .. فمن يدري؟ خاصة وأننا في زمن أصبحت فيه المستحيلات ممكنة وجائزة .. ويذكرني هؤلاء بقصة "نابليون بونابرت" مع الصحافة الفرنسية بعد أن فر من منفاه في جزيرة "ألبا" فبمجرد أن انتشر خبر فرار "الإمبراطور السابق" كانت عناوين الصحف تدور كلها حول "هروب السفاح بونابرت" أو "فرار المجرم بونابرت" !! ولكن حينما تأكد خبر نزوله على الساحل الفرنسي بدأت نفس الصحافة بنفس محرريها تتحدث عن "نابليون بونابرت" دون أوصاف أو ألقاب !! وحينما وقف على أبواب "باريس" ومعه نفر قليل من أفراد "الحرس الإمبراطوري" ممن عاصروا هزائمه وانتصاراته بدأت نفسه الصحافة بنفس المحررين تتحدث في حماس عن "الإمبراطور الذي عاد" !!!

فالبشر هم البشر في كل زمان ومكان ... !!! وحتى نتفادى تلك المشاعر المتباينة وخوفا من أ، نجنح إلى الخيال استبدلنا السؤال الغريب بالعنوان الجديد .. وأعرف سلفا أن ما سأقوله سيثير مشاعر متباينة أيضا وهذه إحدى الصعوبات التي تقفز أمام من يكتب عن "العمالقة" .. إذ يعتبرهم البعض "ملائكة" بينما يعتبرهم آخرون مجرد "شياطين" ولو أنني اعتقد أن الفجوة بين الآراء لن تكون واسعة إلى هذا الحد خاصة بعد أن حصرنا حديثنا في قضية واحدة هي "قضية التحرير" والتي ما زلنا نعالجها حتى الآن وبعد مرور سنوات عشر على وفاته.

فبعد النكسة مباشرة كانت "مصر" والبلاد العربية قد خسرت كل شيء .. وكان "عبد الناصر" كالتاجر الذي خسر كل رأسماله في السوق .. وفي مثل هذه المواقف قد ينسحب بعض التجار من السوق بصفة نهائية وهم يؤثرون السلامة، بينما يصر آخرون على البدء من جديد ليعودوا كما كانوا وربما أحسن وأفضل، وقد أصر "عبد الناصر" على أن يستعوض الخسارة الفادحة على الساحة العربية ولذلك فإنه نادى من أول وهلة "أننا خسرنا معركة ولكننا لن نخسر الحرب" وأن الغرض هو "إزالة آثار العدوان وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني" وأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلى بالقوة". وبذلك حدد الغرض .. كما حدد وسيلة الحصول على الغرض، وأخذ يعمل دون هوادة لتحقيق ذلك ضمن استراتيجية فيها ذكاء ودهاء تحتاج منا إلى مراجعة وشرح، وربما يساعدني في توضيحها أنني كنت بعد "النكسة" قريبا من دائرة اتخاذ القرار، أعلم الكثير مما كان يجري ويحدث.

100% من أوراق اللعبة تعتمد على إرادتنا الذاتية

منذ اللحظة الأولى للهزيمة أوضح "عبد الناصر" إن الإرادة الذاتية هي العامل الفاصل لتحديد نتيجة المعركة ... فالمعركة معركتنا، واللعبة لعبتنا، والأوراق أوراقنا، إن 100% من أوراق اللعبة في يدنا ونحن لا يجوز أن نتركها في يد الغير، فليس معقولا أن تكون 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة مثلا أو في جيب الاتحاد السوفيتي !! وإلا فأين الإرادة الذاتية للقيادة الواعية وللشعوب المكافحة؟!

وانطلاقا من هذا المبدأ السليم أخذ يعيد بناء القوات المسلحة، صحيح كان الاتحاد السوفيتي قد أصيب بخيبة أمل كبرى في أصدقائه بعد الهزيمة الكبيرة التي منوا بها وظن الشعب السوفيتي لفترة ليست بالقصيرة أن "السلاح السوفيتي" هزم أمام "السلاح الأمريكي" إلا أن "عبد الناصر" كان يعتقد – عن حق – أنه كلما استوعبنا السلاح الذي بيدنا أكثر وأسرع كلما كان الإمداد بالأسلحة متناسبا مع درجة الاستيعاب.

وإلى جانب ذلك اتخذت عدة إجراءات لتقوية الإرادة الذاتية .. منها:

  • تهيئة مسرح العمليات الذي يتسع ليشمل كل أنحاء الجمهورية في حرب لم تعد تعرف واجهات بالمعنى المفهوم بعد أن كثف العدو غاراته في العمق وأنشئت الطرق والمطارات والموانئ التبادلية.
  • بناء مخزون استراتيجية من المواد مثل المواد البترولية والغذائية ومواد تصنيع الأسلحة والذخائر.
  • إنشاء الجيش الشعبي لحراسة المنشآت في منطقة خطوط المواصلات وزيادة كفاءة الدفاع المدني لمواجهة الغارات المعادية.
  • حشد الجهود العربية عن طريق المساعدات الاقتصادية العديدة واستغلال العمق العربي في إعادة التوزيع الاستراتيجي لقواتنا فقد أصبحت ميناء بور سودان مثلا في خدمة وحدات الأسطول ومطارات واد سينا مكانا لتمركز قاذفاتنا الثقيلة ومنطقة جبل الأولياء لوجود بعض الوحدات البرية الأخرى علاوة على الوحدات العربية التي كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الوحدات المصرية على القناة والوحدات السورية في الجولان.
  • الاستمرار في خطط التنمية بأقصى معدل ممكن.


لا نلعب بالاتحاد السوفيتي ولا يلعب بنا

حددت علاقاتنا مع الاتحاد السوفيتي على أساس أهمية وجوده داخل اللعبة لأن انفراد إحدى القوتين الأعظم بالمسرح فيه الطاقة الكبرى "فلص" واحد ينفرد بالغنيمة ولكن اثنين يتنازعان عليها ولا يجدان الوقت للانفراد بها وقد حددت علاقاتنا مع "موسكو" على أسس واضحة .. فهي قوة عظمى لا يمكننا أن "نلعب بها"، ونحن دولة مستقلة لا نسمح لهم أن "يلعبوا بنا".

وعلى ذلك فلا بد أن "نلعب معا" كفريق تلاقت مصالحه واضعين في الاعتبار ألا تتعارض "مصالحنا المحلية مع مصالحه العالمية". فلم يكن التواجد السوفيتي في بعض المناطق أو الأوقات احتلالا بأي صورة من الصور بل كان يتم وفق مخطط استراتيجي واع يدل على ذكاء وعمق، فعلاوة على القلق البالغ الذي يسببه هذا التواجد لدى الطرف الآخر مما يجعله في خوف من زيادته واستمراره مما يهيئ حافزا على البحث عن حل فإنه يخدم أغراضا استراتيجية محلية.

وعلى سبيل المثال، كان تواجد بعض قطع الأسطول السوفيتي في ميناء الإسكندرية وبور سعيد حائلا دون أن تقوم القوة الجوية الإسرائيلية بضربهما فتتعطل بذلك منافذنا الوحيدة التي تصلنا بالعالم الخارجي وتقطع خطوط إمداداتنا التي نستورد عن طريقها احتياجاتنا الضرورية.

وكان لوجود بعض الطيارين السوفيت فائدة كبرى في توفير طيارينا للقيام بعملياتهم الهجومية على العدو ولا نقل بالحرف الواحد من كتاب هنري كيسنجر "سنوات البيت الأبيض" صفحة 572 " أخبرني إسحاق رابين سفير إسرائيل في واشنطن يوم 24 أبريل – نيسان 1970 أن الطيارين السوفيت يقومون بمهمات دفاعية في داخل مصر وبذلك فقد تحرر الطيران المصري من واجباته الدفاعية ليركز على الهجوم على المدافع الإسرائيلية على طول القناة وأصبح السلاح الجوي المصري أكثر قدرة على الهجوم علاوة على أن اشتباك الطيارين السوفيت مع الطيارين الإسرائيليين أصبح لا يمكن تفاديه". وكان ما يقوله "رابين" يتمشى مع قواعد اللعبة الجارية كما سنرى فيما بعد.

قنوات مفتوحة مع واشنطن

ليس معنى أن الولايات المتحدة وهي إحدى الدولتين الأعظم قد اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل ضد الأماني العربية عدم فتح الحوار معها .. بل كانت هناك قنوات مباشرة رسمية وقنوات غير مباشرة سرية على أسس وثيقة من التعامل ومعرفة واعية بإجراء الحوار على مستوى الدولتين الأعظم.

كان تقدير عبد الناصر – عن حق أيضا كما نلمس الآن ونقرأ في كل صفحة من كتاب هنري كيسنجر المشار إليه – أن "الإدارة الأمريكية كانت تنقسم إلى رأيين":

الرأي الأول: يرى الإسراع في حل النزاع العربي الإسرائيلي خوفا من دخول الاتحاد السوفيتي إلى المنطقة برجاله ومن هؤلاء رجال البنتاجون وعلى رأسهم "ملفين ليرد" وزير الدفاع ورجال الخارجية الأمريكية وعلى رأسهم "وليم روجرز".

الرأي الثاني: وينفرد به "هنري كيسنجر" مستشار "الرئيس نيكسون" لشؤون الأمن القومي وكان يرى أن عدم حل النزاع سيجعل العرب ينصرفون عن الاتحاد السوفيتي ويتجهون إلى واشنطن بعد أن يتأكدوا إنه إذا كان في مقدور الاتحاد السوفيتي إعطاء السلام فإن الولايات المتحدة هي القادرة الوحيدة على إعطاء الأرض، وكان عبد الناصر سيلعب على زيادة التواجد السوفيتي لتعزيز "الرأي الأول" ونسف "الرأي الثاني". لأنه إذا ما انفردت الولايات بالمنطقة وهي المعروفة بصداقتها الأبدية لإسرائيل فإنها "ستبيع وتشتري" في المنطقة كما تريد .. لا بد أن يكون هناك "منشط" أو "حافز" أو "منافس". هكذا كان يرى عبد الناصر في إدارته الماهرة للصراع في الفترة الحرجة التي عاشها.

الخط الحرج الذي لا ينبغي تجاوزه

هناك "خط فاصل" متفق عليه بين "الدولتين الأعظم" في ممارستهما اللعبة السياسية عليهما عدم تجاوزه خوفا من تصادم ذري بينهما نتيجة لاختلال التوازن أو العدوان الثقيل على المصالح فضلنا أن نسميه "بالخط الحرج" وقد شرحت هذه النظرية بالتفصيل في كتابي "الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي".

ويتحقق أنسب وضع للصدام المحلي حينما تتفق نتيجة الحسابات المحلية مع نتيجة حسابات الدولة الأعظم، والمسافة التي تقف عندها الدولة الأعظم من "الخط الحرج" في الصراع العالمي تتناسب تناسبا عكسيا مع "الأماني القومية" فكلما قل البعد عن "الخط الحرج" كلما زادت الأماني القومية سلامة وأمنا والعكس بالعكس.

والدولتان الأعظم موجودتان – شئنا أم أبينا – في كل منطقة من مناطق العالم وقربهما أو بعدهما من "الخط الحرج" يتفق تماما مع مصالحهما في المنطقة، وكان عبد الناصر يحاول دفع الاتحاد السوفيتي قريبا من "الخط الحرج" لأن الولايات المتحدة كانت قريبة بالفعل منه لاعتبارها أن مصالحها متطابقة مع الوجود الإسرائيلي.

كانت وسيلته إلى ذلك تتلخص في العمل على زيادة ثقل الوجود السوفيتي في المنطقة حتى يكون ذلك حافزا للطرف الآخر على إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي.

فكان تواجد بعض أطقم الصواريخ من الروس يتمشى مع هذا الاتجاه.

وكان تواجد بعض قطع الأسطول الروسي في نفس المياه التي كان ينفرد بها الأسطول السادس الأميركي يتمشى مع هذا الاتجاه.

وكان تلاقي القاهرة وموسكو في محاربة "الإمبريالية ليتمشى مع هذا الاتجاه ولنوضح ما نقوله بالرسم التوضيحي الآتي:

شكل توضيحي.JPG

الشكل (1) يمثل تماما موقف الدولتين الأعظم بعد نكسة 1967، فالموقف الأمريكي (م) يبعد عن الخط الحرج الذي لا يجوز تخطيه بمقدار المسافة (ل) والموقف (م1) يبعد عن الخط الحرج بمقدار المسافة (ل1) أكبر من المسافة (ل) وترتب على ذلك أن الأماني القومية لإسرائيل وجدت نفسها في درع صلب جعلها تتشبث بالأمر الواقع وكان هذا هو الوضع الأمثل لإسرائيل.


شكل توضيحي.JPG2.JPG

وكان من الطبيعي أن يحاول "عبد الناصر" تغيير الوضع ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا أصبحت المسافة (ل1) = المسافة (ل) أو أقل منها، وتم هذا كما في الشكل (2) بعد زياراته المتعددة إلى موسكو ووصول الصواريخ سام 3 وسام 6 بأطقمها وتواجد بعض الطائرات بطياريها.

وسأنقل أيضا من كتاب هنري كيسنجر "سنوات البيت الأبيض" فيقول "في 31/ 1/ 1970 سلم دوبرين رسالة من أليكس كوسجين إلى الرئيس وفي نفس الوقت سلمت رسالة مماثلة إلى كل من ويلسون وبومبيدو، تحذر من استمرار إسرائيل في هجماتها في عمق مصر لأن هذا سيجبر الاتحاد السوفيتي على النظر في إمكان إمداد الدول العربية بوسائل تحول دون ذلك، وناشد الدول الأربع إجبار إسرائيل على إيقاف هجماتها بأسرع ما يمكن من الأراضي المحتلة". ويستمر كيسنجر قائلا "بمجرد التأكد من وصول الجنود السوفيت إلى مصر – هذه أول مرة تتمركز فيها قوات سوفيتية على أرض غير شيوعية – وجهت سفيرنا في موسكو جاكوب بيم لمقابلة جروميكو للوصول إلى حل لإيقاف النيران، إلا أن موسكو رفضت ذلك ورفضت الحد من التسلح إلا بعد انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ثم قابلت دوبرونين سفيرهم في واشنطن في 10/ 2/ 1970 وأخبرته بأن التواجد السوفيتي في الشرق الأوسط تنظر إليه الولايات المتحدة نظرة خطيرة وأنني اخترت هذه الطريقة للحوار حتى نتجنب المواجهة، وأننا على استعداد للتفاوض من أجل إيجاد حل للمشكلة" ثم يستطرد "كيسنجر" فيقول: "بعد وصول الأفراد السوفيت ألقى البنتاجون اللوم على إسرائيل فهي التي تسببت بعنادها في ذلك واقترح الوصول إلى حل سلمي ومعنى ذلك أن رجال البنتاجون يريدون لجهة أخرى أن تحل المشكلة كما حدث في فيتنام وعلاوة على ذلك فقد أيدت وزارة الخارجية اتجاهات البنتاجون بل علق نلسون على ذلك بأن السياسة الإسرائيلية هي أساس المشاكل الحالية وأن الهزيمة العسكرية للعرب 1967 هي نصر سياسي للسوفيت فأصبحوا هم أصدقاء العرب ونحن أعداؤهم" ثم يعود فيقول "في يوم 10/ 6/ 1970 قابلت دوبرونين وسألته: هل يمكن ربط انسحاب السوفيت من المنطقة مع خطة سلام شامل؟".

وهذه هي سياسة الترابط Linkage المعمول بها في الصراع الدولي .. خلق مشاكل عديدة تجعل الطرف الآخر يعيد حساباته على أساس "الأخذ والعطاء" لأن السياسة لا هي أخذ فقط ولا هي عطاء فقط، هي مزيج بين هذا وذاك.

إذن حققت هذه السياسة حتى الآن ومن واقع كتاب "سنوات البيت الأبيض" لهنري كيسنجر: انقساما في الإدارة الأمريكية، الكل عدا هنري كيسنجر يلقي باللوم على إسرائيل، فرض القيود على إرسال الأسلحة إلى إسرائيل لدرجة أن وليم روجرز صرح بأنه في تقدير واشنطن فإن القدرة الجوية الإسرائيلية كافية لمتطلباتها في الوقت الحالي.

خط الأمر الواقع

وكان "عبد الناصر" يركز اهتمامه على خط آخر هو "خط الأمر الواقع". وإن كان "الخط الحرج" يتأثر "بالحرارة" فلا بد من إشعاله وبصفة مستمرة حتى يقتنع "العدو" أن فرض الأمر الواقع خارج قدراته وحتى يجبر الدولتين الأعظم على التدخل لإطفاء النيران المشتعلة حتى لا تمتد وتنتشر فتهدر مصالحها وهنا تصبح المواجهة بينهما أمرا أكثر احتمالا.

"والردع" هو الذي يفرض الأمر الواقع .. لأن "الردع" هو القوة التي تردع الجانب الآخر عن القيام بأي عمل يغير من الأمر الواقع، والردع يعتمد على "القوة الحقيقية المتاحة" وبذلك فإن الجانب الذي يمتلك "القدرة على الردع" في إمكانه تحقيق أغراضه بالتهديد باستخدام القوة دون الحاجة لاستخدامها بطريقة فعلية، وبذلك يمكنه استغلال وجود الأسلحة والتلويح بها دون استخدامها أي "بتعجيز" الطرف الآخر عن طريق القمع والقسر.

وفرض الأمر الواقع يحتاج إلى وقت لإقراره.

"والردع" هو الذي يوفر هذا الوقت، وبذلك فإن "الردع" هو "درع" الأمر الواقع وأداته.

وخطورة الردع في "تأثيره النفسي" ويتضح ذلك من المعادلات الآتية:

الردع= التأثير النفسي + التأثير المادي = فرض الأمر الواقع.

الردع = التأثير المادي = صدام مباشر = رفض الأمر الواقع.

الردع – التأثير النفسي = صدام مباشر = رفض الأمر الواقع.

وكان لدى إسرائيل كل وسائل الردع خاصة "الذراع الطويلة" المتمثلة "في قوتها الجوية" خاصة بعد احتلالها لمطاراتنا في سيناء وإصرار الولايات المتحدة على إمدادها بكافة أنواع الطائرات الحديثة.

وبالرغم من ذلك رفض "عبد الناصر" الاستسلام رغما عن الغارات في العمق التي كانت توجه إلى أغراضنا المدنية وبذلك فقد كسر أخطر مبدأ في مبادئ الردع وهو التأثير النفسي، وأخذ يشن "حرب الاستنزاف" ومعها تضرب الوحدات الفدائية داخل إسرائيل وأعود فأنقل من صفحة 349 من كتاب "سنوات البيت الأبيض" لهنري كيسنجر إذ يقول "في فبراير – شباط 1969 أبلغتنا المصادر الإسرائيلية أن 1288 حادث تخريب وإرهاب تمت منذ حرب الأيام الستة، منها 920 حادثة من الحدود الأردنية، 166 من الحدود المصرية، 37 حادثة من خط إيقاف النيران مع سوريا، 35 حادثة من الحدود اللبنانية، 130 من قطاع غزة، وكانت خسائر الإسرائيليين هي 234 قتيلا، 265 جريحا من العسكريين، 37 قتلى، 330 جرحى من المدنيين، وهذه نسبة مخيفة لدولة تعدادها 2.5 مليون وهي لا تساوي 20.000 قتيل، 100.000 جريح لدولة في حجم الولايات المتحدة". بل نجد أن هاعولام هازيه نشرت في العدد 1640 بتاريخ 26/ 3/ 1969 خطابا أرسلته إحدى القارئات إلى رئيس التحرير تقول فيه: "نحن نريد مزيدا من الأرض" وقد نشرت المجلة ردها على الرسالة بلسان أحد الجنود الإسرائيليين ليقول: لو كنت تجلسين في المناطق المحتلة وتفقدين أصدقاءك القريبين الذين يموتون كل يوم بواسطة لغم أو بواسطة الطلقات أو بغير ذلك ما طالبت باحتلال المزيد من الأرض" ونجد أن "رئيس قسم ضحايا الحرب" بوزارة الدفاع الإسرائيلية وهو يهودا نيرون يعلن عن حجم الخسائر للجيش الإسرائيلي حتى مايو – أيار 1969 فيؤكد أنها 713 قتيلا في حين أن إسرائيل خسرت في الحرب 780 قتيلا.

السباق بين الاختراق والاعتراض وبين القدرة على رد الفعل والقدرة على الفعل

وبعد أن كسر "عبد الناصر" إحدى دعائم "الردع" المتمثلة في "التأثير النفسي" برفضه "الاستسلام" وإصراره على مواجهة القتال اتجه ثقله إلى كسر "الجانب المادي" ولم يكن الأمر سهلا.

كانت محاولاته تتركز في إيجاد حالة من التوازن بين "قدرة العدو على الاختراق" و "قدرتنا على الاعتراض" وكذلك بين "قدرة العدو على الفعل" و "قدرتنا على رد الفعل".

وتفسير ذلك أن الصراع المسلح هو عبارة عن مبارزة لا تنتهي بين الأسلحة التي "تخترق" والأسلحة التي "تعترض" فمثلا إذا كانت وسيلة العدو في الاختراق – كما يحدث في ذلك الوقت – هي التفوق في القوة الجوية فلا بد أن يكون التركيز على تقوية "دفاعنا الجوي" إلى أن يتيسر لنا الحصول على "القوة الجوية القادرة على الاختراق".

وفعلا في زيارته الشهيرة إلى موسكو حصل عبد الناصر على صواريخ سام 3 وصواريخ سام 6 بل وأطقم هذه الصواريخ من السوفيت حتى تيسير تدريب الأطقم المصرية، ثم بعد ذلك استغل عبد الناصر الفترة غير المستقرة بعد قبوله "مبادرة روجرز" عام 1970 لنقل حوائط الصواريخ قريبا من القناة بحيث تحمي قواتنا على الضفة الغربية وفي الوقت نفسه تستر وتغطي أي عملية عبور في المستقبل إلى الضفة الشرقية.

وقد تم عبور 1973 تحت ستار حائط صواريخ عبد الناصر الذي أنشأه عام 1970 ولم تتمكن قواتنا من التقدم خطوة واحدة أبعد من مدى حماية هذه الصواريخ بالرغم من أنه كان من الممكن استخدام وسائل أخرى.

ولنرجع مرة أخرى إلى هنري كيسنجر في كتابه "سنوات البيت الأبيض" لنجده يقول "في 15 أغسطس – آب 1970 قابلني إسحاق رابين وأكد أن 14 موقع صواريخ سام "2" معززة بثلاثة مواقع صواريخ سام 3 حركت في المنطقة العازلة وأن إسرائيل فقدت 5 طائرات فانتوم في يوم واحد" ثم يقول: "استخدم عبد الناصر مبادرة روجرز لتحريك صواريخه للأمام وأصبحت هذه الصواريخ لا توفر الحماية للقوات المصرية في القناة فحسب بل أصبحت قادرة على حماية أي عملية إنزال مصرية على الجانب الآخر وقد انتهز عبد الناصر فترة إيقاف النيران لأن الصواريخ ستكون مؤمنة ضد الضرب" ثم عاد ليكتب "في 22 يوليو – تموز 1970 بدأ الروس والمصريون في إنشاء خط دفاعي بمحازاة القناة وعلى مسافة 20 – 30 ميلا وهذا الخط يشمل 3 مواقع سام 3، 11 موقع سام 2 وسوف تقوى وتعزز هذه المواقع في المستقبل وأصبحت قادرة على حماية مواقع المدفعية المصرية التي تقذف الإسرائيليين في الشرق بل وتعتبر في الوقت نفسه قاعدة للهجوم المصري المنتظر.

وأصبح على الأمريكيين مواجهة النظرية الروسية التي تستخدم الوجود السوفيتي لتعزيز نفوذها الجيوبوليتيكي فما بدا على أنه وجود لمنع الاختراق الإسرائيلي انتهى إلى كونه وسيلة ضغط لانسحاب إسرائيل".

هذا من ناحية السباق بين "القدرة على الاختراق" و "القدرة على الاعتراض".

فماذا كان عليه الموقف في السباق بين "القدرة على الفعل" و "القدرة على رد الفعل"؟

كان لدى إسرائيل السلاح الرادع متمثلا في الطائرات بعيدة المدى من الفانتوم والسكاي هوك فلو أمكن لمصر الحصول على الطائرة بعيدة المدى أيضا لبطل مفعول السلاح الرادع الإسرائيلي، وهذه نتيجة حتمية في إدارة الصراع الذي يعتمد على الردع فامتلاك القوتين الأعظم الأسلحة الذرية في مخازنهما أبطل استخدام القوة الذرية في الصراع وامتلاك الغازات السامة للأطراف المتعددة يمنع استخدامها.

ولم تكن الطائرة بعيدة المدى متيسرة لدى مصر في ذلك الوقت رغما عن محاولاتنا المتعددة مع الاتحاد السوفيتي فلم تكن حساباته قد تطابقت مع حساباتنا في هذا المجال بعد، كان يخشى بدوره دفع الأمور بأكثر مما تحتمل فينجم عن ذلك المواجهة التي يريد تجنبها.

ولكن تدخل الحظ فجأة وحدثت ثورة "الفاتح" من سبتمبر – أيلول 1969 بقيادة الأخ "معمر القذافي" وسعى الرجل في استماتة حتى تيسر له في أوائل عام 1970 الحصول على صفقة فرنسية وافق عليها الرئيس الفرنسي بومبيدو وتتعلق بشراء ليبيا مائة طائرة ميراج يتم توريدها على أربع سنوات، وتم الحصول على عدد من هذه الطائرات وضعت تحت تصرف القيادة المصرية .. وأصبح لدى مصر سلاح رادع في مقدوره ضرب إسرائيل في العمق، وكان هذا من أخطر التطورات الاستراتيجية في الصراع الدائر.

وأصبحت مصر قادرة على "رد الفعل" وبذلك كسرت القاهرة بفضل سياستها العربية الجناح الآخر من معادلة "الردع" ويرجع الفضل في ذلك إلى "معمر القذافي" وأقول هذا للتاريخ.

وقد تحدث هنري كيسنجر في كتابه "سنوات البيت الأبيض" عن ذلك أثناء حديثه عن زيارة بومبيدو للولايات المتحدة في نهاية فبراير – شباط 1970 وكيف استقبل الرجل هو وزوجته استقبالا سيئا من العناصر اليهودية لموافقته على عقد تلك الصفقة ويقول بالنص "ولم يكن لدى ليبيا الطيارين الذين يقودون هذه الطائرات وأصبح من الواضح أنها اشتريت لدولة أخرى من المحتمل أن تكون مصر". ولم يغفر بومبيدو أبدا للولايات المتحدة استقبالها السيئ له مما أثر على العلاقات بين البلدين وبذلك أصبح لدينا القدرة على الاعتراض وتساقطت الطائرات الإسرائيلية على ضفتي القناة ... كما أصبح لدينا القدرة على رد الفعل الذي يمكن أن يتضاعف في الأسابيع التالية:

وحينما تم لعبد الناصر ذلك أقدم على أعظم خطوة في إدارة الصراع وهي قبوله لمبادرة روجرز.

خطة جرانيت

وفي أثناء ذلك كانت خطط العبور تجهز في سرية وتكتم ويجري عليها التعديلات بين وقت وآخر على حسب تطور التقدم في التسليح والتدريب وتجهيز مسارح العمليات، كان الغرض هو العبور ثم الوصول في مرحلة واحدة إلى مناطق الممرات، وكان الاسم الكودي للخطة هو "جرانيت" وكتجارب ابتدائية للتنفيذ أخذت قواتنا تعبر إلى البر الشرقي في وحدات صغيرة في أول الأمر، ثم زاد حجمها إلى "سرايا بأسلحة معاونة" لتدمير العدو والحصول على معلومات عن دفعاته والقبض على الأسرى.

وقد قامت المخابرات بتصوير خط "بارليف" بحيث اتضحت معامله تماما، وقامت في الوقت نفسه بإتمام دراسة مستفيضة عن الأعياد الإسرائيلية لاختيار إحداها لبدء الهجوم إذا رؤي ذلك، كما قامت بإجراء دراسات مستفيضة عن كافة الأهداف الاستراتيجية داخل إسرائيلية وكيفية التعامل معها ووضعت كل ذلك على الخرائط وتخت الرمل بل عملت "ماكيتات" من الخشب والورق المقوى للأغراض ذات الأهمية الخاصة، وفي الوقت نفسه قامت المخابرات الحربية بدفع دورياتها بعيدة المدى خلف خطوط العدو في سيناء لتبقى هناك أياما قصيرة أو طويلة حسب الواجبات المنوطة بها.

كان عبد الناصر في لعبته الكبيرة يستعد "للمعركة الكبرى" إذا فشلت وسائله الأخرى في تحقيق الجلاء عن أراضينا، وتعمدت إلا أقول "القتال" لأنه لم يتوقف يوما واحدا إلا بعد قبولنا لمبادرة "روجرز".

كلام كلام ... قتال قتال

Talk Talk, Fight Fight

الحوار في الصراع الدولي ديالوج .. نقاش وتبادل أفكار وصراع إرادات.

ووسيلة تنفيذ ذلك هي الألفاظ والكلمات والمذكرات جنبا إلى جنب مع القنابل والمدافع والطائرات، هذه لهجة وهذه لهجة أخرى تكون في مجموعها لغة الحوار في الصراع المحلي أو العالمي على حد سواء.

والحوار يسير في بحر هائج مليء بالأخطار والأمواج المتلاطمة، الخط الحرج أحد شواطئه والأمر الواقع هو الشاطئ الآخر، ويتأثر الشاطئ الأول بمصلحة الدولتين الأعظم بينما يتأثر الشاطئ الآخر بمقدار إصرار القوى المحلية سواء تلك التي تصر على "رفض" الأمر الواقع، أو تلك التي تصر على "فرض" الأمر الواقع.

والربان الماهر هو الذي يقود سفينته وسط هذا الخضم بمهارة وشجاعة وصدق وإلا غرق مع سفينته إلى القاع وأصبح طعاما شهيا للحيتان، وعلى الربان وهو يقود سفينته أن يتذكر أنه خير له أ، يكون موضع رهبة وخوف في دنيا السياسة من أن يكون موضع عطف ومديح وعليه أن يكون ثعلبا ليعرف مكان الفخاخ وفي الوقت نفسه يكون ليثا ليخيف الذئاب، وعليه قبل كل ذلك أن يكون عالما بلغة الحوار ... كلام وقتال .. فالكلام وحده لهجة أحيانا يصعب عليها التأثير .. والقتال لهجة قد تؤثر وتلين وتجبر الطرف الآخر على إعادة حساباته.

وكان عبد الناصر يستخدم طول الوقت اللهجات المختلفة للحوار .. قتال لا يتوقف ومحادثات مستمرة في نفس الوقت حتى عندما قبل إيقاف النيران بعد مبادرة "روجرز" قبل ذلك لفترة 90 يوما واستغلها في نقل حائط الصواريخ قريبا من القناة.

فتح قلبه "لجونار يارنج" وظل الرجل ينتقل في المنطقة "كالمكوك" حتى تقطعت أنفاسه، وشجع المباحثات الثنائية بين موسكو وواشنطن إلا أن "هنري كيسنجر" كان ينسفها من وراء ستار، وشجع المباحثات الرباعية بين موسكو وواشنطن وباريس ولندن إلا أن "هنري كيسنجر" كان لها بالمرصاد أيضا ...

ولكنه كان يعلم تماما أن الحل أولا في مسرح العمليات: فلا يمكن أن يتحقق السلام العادل إلا بعد تعديل موازين القوى على الطبيعة: كان لا بد له أن يكسب معركة الاعتراض، وكان لا بد له أن يكسب معركة رد الفعل والقدرة عليه، وكان لا بد أن يغير مواقع الدولتين الأعظم من الخط الحرج، وكان لا بد له أن "يقلقل" الوضع على خط الأمر الواقع.

وحينئذ يمكن أن يتحرك إلى "الحل" من قاعدة وطيدة أساسها الاعتماد على النفس.

وقبل "مبادرة روجرز" .. وانقل من صفحة 327 من كتاب سنوات البيت الأبيض لهنري كيسنجر عن الاتجاه الرسمي الأمريكي لهذه المبادرة "لقد كنت أعترض على قيام الولايات المتحدة بأي مبادرة في ظل التواجد السوفيتي، وفي ظل تطرف عبد الناصر، وفي ظل أعمال الفدائيين، وبالرغم من ذلك تقدمت وزارة الخارجية بورقة مبادئ عامة تقر أن المفاوضات القادمة تعتبر مجرد اتفاق وليس بالضرورة معاهدة سلام، وإن المباحثات المباشرة ليست ضرورية في المراحل الأولى وإن كان من المحتمل أن تتم في مرحلة لاحقة، وإنه على إسرائيل الانسحاب من مصر والأردن إلى حدود ما قبل الحرب مع تعديلات طفيفة فقط في الحدود مع الأردن، وفي 10 مارس – آذار وافق نيكسون على مقترحات الخارجية على أن تقدم ورقة المبادئ إلى إيبان عند زيارته ثم تناقش نقطة نقطة بعد ذلك مع دوبرينين ثم تعتبر أساسا للمفاوضات الرباعية".

وحينما مات عبد الناصر في 28 أيلول 1970 كان ضمن مخلفاته أشياء كثيرة أهمها: جيش أعيد بناؤه، خطة جرانيت والتمرين عليها، حائط صواريخ يستر القوات على القناة ويستر أي عملية عبور ثقيلة، سلاح ردع متزايد هو طائرات الميراج، جبهة داخلية سليمة، خطة تنمية طموح رغما عن الظروف الصعبة، قناة السويس معطلة الملاحة كوسيلة ضغط، موقف عربي مساند، باب المندب مسيطر عليه نتيجة لمساعدته لثورتي اليمن الشمالي والجنوبي، تنسيق كامل مع الاتحاد السوفيتي كإحدى الدولتين الأعظم يوازن به الموقف الأمريكي المعادي، انقسام في الرأي داخل الإدارة الأمريكية، مبادرة روجرز، موقف أوروبي متعاطف.

ولعل البعض يتساءل: "لماذا كان الاعتماد على "هنري كيسنجر" كمصدر أساسي لتقييم رد فعل إجراءات عبد الناصر، والإجابة بسيطة، ظاهرة، ففيه إرضاء لكل من أصدقاء الرجل وأعدائه على حد سواء.

فالأصدقاء – وهم يثقون فيه – لا يمكنهم أن يتنكروا لشهادة صديق، والأعداء – وهم يشكون فيه – يرحبون بشهادته على أساس أن أصدق شهادة هي الاعتراف بالحق من جانب الأعداء.

ولعل الكثيرين – وأنا واحد منهم – "يتطلعون في شوق إلى الجزء الثاني من كتاب هنري كيسنجر" "سنوات البيت الأبيض" وفيه سيتحدث عن فترة ما بعد عبد الناصر!!!

الباب الرابع: ومات عبد الناصر

الفصل التاسع: اليوم الطويل

أيلول الأسود – في السادسة والربع مات عبد الناصر – ترتيبات الجنازة الحزينة – بدأت الأسافين وجثة الرئيس لم تخرج من منزله بعد – الجثمان في قصر القبة – الجلسة المشتركة بين اللجنة التنفيذية ومجلس الوزراء – التقرير الطبي عن وفاة الرئيس – أعمال المادة 110 من الدستور – نائب الرئيس ينعى عبد الناصر إلى الشعب.

في صيف عام 1970 كان الوضع في الأردن قد أصبح في غاية التعقيد وقد أصبح واضحا أن صداما دمويا بين الملك حسين والمنظمات الفدائية الموجودة في الأردن أمر لا يمكن تفاديه، إذ وجد الملك حسين نفسه بمرور الوقت بين شقي الرحى: المنظمات الفلسطينية تزيد من سلطاتها داخل دولته مما اعتبره اعتداء على سلطته الشرعية ولم يكن من السهل عليه قبول ذلك.

وإسرائيل تهدد "بذراعها الطويلة" وتتوعد بالانتقام إن لم يعمل على إيقاف العمليات الفدائية التي تتم من أراضيه.

وكان خوف الملك الحقيقي من المنظمات الفدائية إذ كان يعتبرها بمثابة التهديد الخطير لعرشه ولم يكن يخشى في واقع الحال – في ذلك الوقت – من أي تهديد إسرائيلي إذ كان تأمين العرش الأردني أحد أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية في ذلك الوقت وكانت إسرائيل تعلن أنها سوف تتدخل عسكريا في حالة أي تهديد يوجه إلى الوضع القائم في الأردن.

وفي يوم 12 سبتمبر – أيلول أعلن الملك حسين الأحكام العرفية في الأردن واستبدل حكومته المدنية بحكومة عسكرية برئاسة اللواء محمد داود إذ كان الملك قد عقد العزم على سحق المنظمات الفدائية في بلاده، وما لبث الموقف أن تفجر بين قوات الملك من جانب والقوات الفلسطينية من جانب آخر وخاض الطرفان معارك وحشية استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المتاحة.

وبدأت سوريا في حشد قواتها على الحدود الأردنية استعدادا للتدخل في الوقت المناسب:

وأعلنت الولايات المتحدة الأميريكية أنها قد تضطر للتدخل في الأردن إذا هددت سوريا والعراق النظام الملكي في الأردن.

وبدأت واشنطن تستعد لكافة الاحتمالات فأعلنت حالة التأهب بين بعض القوات الأميركية وتم استنفار الفرقة 82 المحمولة جوا ثم أمرت سفن الأسطول السادس بالقيام بعملية "استعراض العلم" بالتحرك في اتجاه ساحل لبنان وإسرائيل ثم وجه ريتشارد نيكسون إنذارا شديدا إلى الاتحاد السوفيتي يحثهم فيه على ردع السوريين كما اتصل بالملك حسين ليطمئنه على أنه لا يقف وحده.

وقام الاتحاد السوفيتي بدوره بشجب الاستفزازات العسكرية الأميركية ولفت نظر واشنطن إلى أن تتبع الحذر في خطواتها التي تقوم بها بصدد الموقف المعقد في الشرق الأوسط وأن أي تدخل سيزيد الموقف تعقيدا ...

إلا أن تطورا غريبا حدث في الموقف إذ رأت واشنطن أن تستعين بإسرائيل للتدخل لحسم الموقف في حالة توغل القوات السورية في الأراضي الأردنية وكانت "جولدا مائير" رئيسة وزراء إسرائيل قد وصلت إلى نيويورك في زيارة رسمية وقرر نيكسون مفاتحتها في قراره هذا عند لقائه لها في اليوم التالي وكتمهيد لهذا اللقاء وافق على طلب إسرائيلي بمساعدة قدرها 500 مليون دولار وإرسال 18 طائرة فانتوم في موعد مبكر عن البرنامج الزمني المحدد له، وكان هذا الطلب يتسكع في أدراج الرئيس لفترة طويلة قبل بداية الأزمة.

وفي نفس اليوم 18 سبتمبر – أيلول 1970 تقدمت القوات المدرعة السورية في اتجاه "إربد" من الشمال الغربي من الأردن وزادت كثافة الدبابات السورية التي عبرت الحدود الأردنية في اليوم التالي وأرسل الملك حسين رسالة يقول فيها "سقطت إربد في أيدي السوريين" وطالب بمساعدة الأمريكيين والبريطانيين له.

وبدأ التعاون الأمريكي – الإسرائيلي في رسم الخطط للتدخل وكان يمثل الجانب الأمريكي هنري كيسنجر والجانب الإسرائيلي إسحاق رابين سفيرهم في واشنطن في ذلك الوقت وكان هيكل الخطة الإسرائيلية شن هجوم على القوات السورية في منطقة إربد تقوم به القوات المدرعة الإسرائيلية المتمركزة في الجولان باتجاهها شرقا وجنوبا على أن تتقدم المدرعات الأردنية من الجنوب في اتجاه إربد على أن تقوم المدفعية الإسرائيلية بتقديم المساعدة بالنيران من الضفة الغربية ويقوم الطيران الإسرائيلي بضرب إربد من الجو واتفق على أن يقوم الجانب الأمريكي بالتنسيق مع الأردن مع التأكيد للملك حسين بأن القوات الإسرائيلية سوف تنسحب من الأردن بعد انتهاء العملية.

وبدأت الاستعدادات الإسرائيلية المحمومة بطريقة علنية في الضفة الغربية للأردن وفي مرتفعات الجولان.

وفي يوم 23 سبتمبر – أيلول 1970 عقد مؤتمر القمة العربي بالقاهرة ومنذ بدايته كان هناك اتجاهان في الرأي: كان هناك القذافي وجعفر النميري وغيرهما يرون اتخاذ موقف حاسم من الملك حسين، وكان آخرون من بينهم عبد الناصر يرون أن الغرض من المؤتمر هو وقف المذبحة الحالية وعلى ذلك فإن اتخذ موقف التشدد من الملك حسين فإن المؤتمر بذلك يكون قد أعطاه المبرر لقطع اتصالاته بالحكومات العربية والمضي في مذبحته ضد المقاومة، وفي 24 سبتمبر – أيلول سافر إلى عمان وفد برئاسة جعفر النميري للوقوف على ما يجري ومحاولة تهدئة الموقف وعاد الوفد دون نتيجة وأخذ الوفد يعرض نتائج مباحثاته على المؤتمر.

ويحسن أن أنقل من كتاب "الطريق إلى رمضان" لمحمد حسنين هيكل جانبا من النقاش الذي تم في هذه الجلسة حتى نوضح الجو الذي ساد المؤتمر.

الملك فيصل: إني متفق مع فخامة جمال عبد الناصر أن ذلك كله يبدو كأنه خطة لتصفية المقاومة.

القذافي: إني غير متفق معكم في الجهود التي تبذلونها وأعتقد أنه لا بد من إرسال قوات مسلحة إلى عمان ... قوات مسلحة من العراق وسوريا.

الملك فيصل: تريد أن ترسل قواتنا المسلحة للقتال في الأردن؟ هذا ليس عمليا.

عبد الناصر: أظن أن علينا أن نتحلى بالصبر.

فيصل: أظن أنه إذا كان لنا أن نرسل جيوشنا إلى أي مكان فلا بد أن نرسلها لتقاتل اليهود.

القذافي: إن ما يفعله حسين أبشع مما يفعله اليهود .. والمسألة كلها في الأسماء.

عبد الناصر: الصعوبة هي أننا إذا أرسلنا جنودا إلى الأردن فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تصفية بقية الفلسطينيين وأريد منكم أن تستمعوا إلى رسالة تلقيتها هذا الصباح من الاتحاد السوفيتي، إنهم يطلبون منا التمسك بأقصى قدر من ضبط النفس لأن الموقف الدولي أصبح دقيقا للغاية وأي خطأ في التقدير يمكن أن يؤدي إلى أن نفقد نحن العرب كل السمعة التي اكتسبناها خلال السنوات الثلاث الماضية.

القذافي: ما زلت معترضا فإننا إذا كنا نواجه مجنونا كالملك حسين يريد أن يقتل شعبه فلا بد أن نرسل من يقبض عليه ويضع الأغلال في يديه ويمنعه من أن يفعل ويحمله إلى مستشفى المجانين.

فيصل: لا أظن أن من اللائق أن تصف ملكا عربيا بأنه مجنون.

القذافي: لكن أسرته كلها مجانين.

فيصل: حسنا، ربما كنا كلنا مجانين.

عبد الناصر: في بعض الأحيان حينما ترون جلالتكم ما يجري في العالم العربي أن ذلك ربما يصبح صحيحا وأقترح أن نعين طبيبا يكشف علينا بصورة منتظمة ليتبين من هم المجانين بيننا.

فيصل: أريد أن يبدأ طبيبك بي لأني أشك بالنسبة لما أراه في أني أستطيع الاحتفاظ بتعقلي.

عبد الناصر: على أية حال. دعونا نعود إلى موضوعنا الأصلي، إني أقترح أن يصدر على الفور بيان باسم الرئيس النميري يقول إن الملك حسين قطع للوفد عهدا بإنهاء القتال.

القذافي: الملك حسين لن يتراجع ما لم يحس بخنجر فوق عنقه.

ووسط كل هذا الذي يجري كان اللواء محمد داود رئيس الحكومة الأردنية الذي عينه الملك حسين خلفا لعبد المنعم الرفاعي لمواجهة الموقف في القاهرة، وإذا به يعلن استقالته لأن "الحكومة العسكرية التي شكلت برئاستي في الأردن حملت بما لا ذنب لها فيه ولم يكن بيدها من أمر توجيه الأمور شيئا وأنه يريد الآن أن يفسح المجال لتشكيل حكومة وطنية تستطيع أن تعيد السلام إلى الأردن".

وانتهى الموضوع كله حينما شن الملك حسين هجوما شاملا ضد القوات السورية محدثا بها خسائر فادحة وأخذت قاذفاته من طراز هوكر هنتر تقذف المدرعات السورية وهي منسحبة من الشمال وحينما تأكد الملك حسين من سيطرته التامة على الموقف قبل الدعوة في 27 سبتمبر – أيلول 1970 لحضور مؤتمر القمة في القاهرة ووقع على اتفاق مع ياسر عرفات على وقف فوري لإطلاق النيران وانسحاب كل قوات الجيش وقوة المقاومة من كل مدينة من الأردن مساء ذلك اليوم.

كان عبد الناصر طوال هذه الأزمة يعيش في الطابق الحادي عشر في فندق "النيل هيلتون" وبعد أن وقع الاتفاق بين الملك وأبي عمار يوم 27 قرر العودة إلى منزله في منشية البكري لينام مبكرا إذ كان عليه في اليوم التالي توديع المسافرين من الملوك والرؤساء.

وفي اليوم التالي 28 سبتمبر – أيلول 1970 ذهب إلى مطار القاهرة الدولي لتوديع الملوك والرؤساء وفي أثناء توديعه لأمير الكويت شعر بأنه غير قادر على الوقوف وطلب سيارته لتقله من حيث يقف لأنه أصبح عاجزا عن السير إليها وركب السيارة وهو يجر رجليه وطلب أن يحضر الأطباء.

وفي الثالثة والنصف كان قد وصل إلى منزله ليجد قرينته وأولاده في انتظاره على مائدة الغذاء ولكنه اتجه مباشرة إلى حجرة نومه في الطابق الثاني.

وبدأت محاولات الأطباء اليائسة دون جدوى، كانت الأزمة القلبية أثقل مما ينفع معها أي دواء. وفي السادسة والربع مات عبد الناصر.

بزغت شمس 28 سبتمبر – أيلول 1970 وكنت في ذلك الوقت وزيرا للدولة لشؤون مجلس الوزراء، كان علي أن أحضر بعض الاجتماعات العاجلة في الصباح أما بعد الظهر فكان علي أن أمر على مستشفى المعادي حوالي الخامسة بعد الظهر للاطمئنان على حرم المرحوم فاروق حمد الله عضو مجلس الثورة السوداني والذي أعدمه النميري بعد ذلك في صيف عام 1971 كما كان علي أن أزور الأخ سعد الصباح وزير الدفاع الكويتي زيارة عمل في منزله بالزمالك الساعة الخامسة والنصف وفعلا ذهبت إلى الزيارتين ولذلك لم أكن حاضرا وقت وقوع الحدث الجلل.

وأثناء مروري على منزل العائلة وكانت الساعة حوالي السابعة أخبروني أن رئاسة الجمهورية طلبتني عدة مرات ويرجو المتحدث أن أتصل به في رقم هاتف تركه بمجرد وصولي، وطلبت الرقم ولما عرف المتحدث اسمي صرخ وهو يبكي وينتخب "أنت فين؟ تعال فورا .. الريس مات، الريس مات". وكان الرجل يكرر العبارة بعد أن ألقيت سماعة الهاتف من يدي وكأنها أفعى لدغتني .. وجريت لا ألوي على شيء، لم أكن أصدق ما سمعت.

وحينما وصلت منزل "الريس" دخلت من فوري حجرة الصالون التي اعتاد أن يستقبلنا فيها ووجدت هناك السادة أنور السادات، حسين الشافعي، وعلي صبري، ومحمد فوزي، شعراوي جمعة، محمد أحمد، سامي شرف، والليثي ناصف، محمد حسنين هيكل .. وبعض أفراد الحرس الخاص.

كان الحزن يخيم على الجميع ... حزن صامت من البعض .. وبكاء من أغلب الحاضرين ولم يكن من السهل فتح أي موضوع للتحدث فيه. وبدأ البعض منا يثير أسئلة من تلك التي تثار في هذه المناسبات .. واتفق الرأي في هذه الجلسة على الآتي...

  • أن يذيع السيد أنور السادات بيانا على الشعب العربي بالحدث الأليم.
  • أن يتم اجتماع عاجل لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في قصر القبة الساعة العاشرة مساء.
  • تتكون لجنة برئاسة الأخ محمد أحمد لتنظيم مراسم وإجراءات الدفن.
  • نقل الجثمان فورا من منشية البكري إلى قصر القبة.

وقمت بصفتي وزيرا للدولة لشؤون مجلس الوزراء بإخطار مكتبي للدعوة إلى الاجتماع المتفق عليه وبعد أن فرغت من ذلك مباشرة ارتفع صوت حرم الرئيس وهي متعلقة بجثمانه الذي حمله البعض من الدور العلوي إلى الدور الأسفل لنقله بواسطة عربة الإسعاف المنتظرة على الباب الداخلي.

واستغرقت هذه العملية بعض الوقت وكنت أنا مع شعراوي جمعة وسامي شرف في الحديقة وإلى جوارنا محمد حسنين هيكل يروح جيئة وذهابا وهو يردد "مش معقول، مش معقول".

ويقول حسن التهامي في مذكرات نشرت في صحيفة الأهرام – على ما أظن – إنه حينما رآنا هكذا وقوفا في الحديقة أيقن أننا نتآمر ضد السادات ثم يستطرد، ليقول: "دخلت من فوري لأخبر السادات بأن شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي يتآمرون في الخارج وعليك أن تضرب ضربتك قبل فوات الأوان". ويستطرد قائلا إن الرئيس السادات قال له "ليس هذا وقت هذا الكلام".

لقد حدث هذا باعتراف الزميل حسن التهامي قبل أن تخرج جثة الرجل العظيم من المنزل ولما يمض على موته إلا ثلاث ساعات!!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولست أدري حتى الآن كيف وصل الزميل إلى هذا الذي وصل إليه؟ كيف يعرف الرجل ما كنا نتحدث فيه بمجرد مروره هكذا في الحديقة علما بأنني أؤكد للزميل أن هذا لم يحدث على الإطلاق، كانت مجرد الكلمات العادية لا تقوى على الخروج من فم الإنسان وكان التفكير مشلولا لا يقوى على مثل هذه الظنون، وإنني أحسده على قوة أعصابه التي مكنته من هذا التصور في مثل هذا الموقف العسير!!!

ثم هناك سؤال آخر: إذا كان الزميل المحترم قد أوقع على هؤلاء هذا الاتهام الغليظ فكيف يطاوعه ضميره – وهو رجل دين وتقوى – ألا يتأكد قبل أن يقطع بالظن وهو يعلم أن الله يقول "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة"؟! ثم كيف يطاوعه ضميره – وهو الرجل الذي انصرف إلى التقرب إلى الله – بأن يقبل أن يكون عضوا أيسر في المحكمة التي حاكمت هؤلاء ضمن آخرين فيما سمي بأحداث 15 مايو – أيار 1971 خاصة وأنه اتهم فعلا دون أن يتحقق وأصبح طرفا في الموضوع؟!

وهذا يجعلني أشك كثيرا في أنه أخبر الرئيس السادات بهذا الاتهام وإلا ما كان الرجل قد عينه عضوا في محكمة تحاكم أفرادا قطع مسبقا بأن بعضا منهم مذنبون!!!

وعلى أية حال فلا فائدة من الإطالة ولكنني أعود فأكرر أن هذا ظن باطل وأنه لم يحدث لأن كل همنا كان منحصرا في المصيبة التي وقعت على رأسنا فجأة ودون إنذار!!!

سامحه الله وسامح غيره وكلنا يعلم أن الله شديد العقاب.

وفتح الباب الخارجي على مصراعيه ووضع الجثمان الطاهر في عربة الإسعاف وتبع عربة الإسعاف عربتان أو ثلاث كنت في إحداها مع الزميلين شعراوي جمعة وسامي شرف وأخذ الموكب الحزين طريقه إلى قصر القبة.

وكانت هذه آخر مرة تطأ فيها قدماي منزل عبد الناصر في منشية البكري.

كانت الشوارع هادئة فلم يكن الخبر قد أذيع بعد .. ولم يكن هؤلاء الذين يسيرون في الشوارع الموصلة إلى القصر أن الموكب يحمل أغلى من في مصر كلها ولم يكن هؤلاء يعلمون بالكارثة التي حلت وبالحادث الجلل الذي وقع.

وحمل الجثمان وسط نحيب الضباط والجنود الذين تجمعوا وهم لا يصدقون ما يحدث أمامهم إلى غرفة "العيادة" بالقصر حيث وضع جثمانه على السرير الوحيد بالغرفة وقد غطي بملاءة بيضاء، ووقف على الباب حراس بأسلحتهم. وجهزت الثلاجة الخاصة بالقصر وحينما تم ذلك نقل الجثمان إليها ليبقى هناك حتى يوم تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير في جامع عبد الناصر بكوبري القبة حيث كانت قيادة الجيش التي سقطت في يد قوات الثورة يوم 23 يوليو – تموز 1952.

ويقول الأخ الدكتور صلاح هدايت وزير البحث العلمي السابق إنه أخذ صورة وجه عبد الناصر على نوع خاص من "الجبس" حتى يحتفظ بملامحه الحقيقية عنده ولست أدري هل ما زال يحتفظ بها حتى الآن.

ولم يبق أمامنا إلا انتظار عقد اجتماع المجلس المشترك الذي سيحضره كل من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء.

وكانت الإذاعة والتليفزيون قد قطعا برامجهما العادية واقتصرا على إذاعة القرآن الكريم ... وبدأ الشعب يحدس ويخمن عما وقع ولكن لم يخطر ببال أحد أن آيات الله تتلى على روح عبد الناصر بعد أن فارق الحياة!!!

وتم عقد اجتماع مشترك لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في قاعة الاجتماعات الموجودة بقصر القبة وهي القاعة التي كان يعقد فيها عبد الناصر اجتماعات المجلس بصفة دائمة.

وكان كثير من الوزراء في ملابس الميدان إذ كانوا قد رجعوا من فورهم من الجبهة على قناة السويس فقد كان الوزراء – كل فيما يخصه – يذهب لزيارة الجبهة بين وقت وآخر لحل المشاكل على الطبيعة، ولم يكن بعض هؤلاء قد علم بالحادث الجلل بعد، وانفجر أغلب الوزراء في البكاء وكانت علامات الحزن والأسى وربما الضياع قد ظهرت على وجوهنا جميعا.

وجلس الوزراء كل في مكانه وترك مكان الرئيس الراحل شاغرا لم يجلس فيه أحد.

كان جسد الرئيس موضوعا في غرفة "العيادة" بقصر القبة على خطوات معدودة من اجتماع المجلس بعد أن تم نقله من منزله "بمنشية البكري" ولم يكن قد تم نقله إلى ثلاجة القصر في انتظار تشييع الجنازة بعد.

وتولى السيد أنور السادات "نائب رئيس الجمهورية" رئاسة الجلسة.

وبدأ في تبليغ الأعضاء تفصيلات ما حدث والذهول مخيم على الجميع.

وبدأ حسن التهامي وزير الدولة التعليق باتهام صريح للهيئة الطبية المشرفة على علاج الرئيس متهما إياها بالتقصير والإهمال، واستدعى الدكتور "منصور فايز" على الفور ليدلي ببيان تفصيلي عما حدث واستغرق بيان "الدكتور فايز" حوالي ربع ساعة أنهاه بقوله "لقد نفذت إرادة الله ولم تكن هناك قوة تحول دون ذلك، إن المستحيل عمل من أجل الرئيس ولكن علينا أن نؤمن بأنه لا راد لقضائه". وانصرف الرجل النبيل والحزن يكاد يعتصره وهو لا يقوى على السير.

ثم عاد أنور السادات ليتحدث عن الهيكل العام لتشييع الجنازة.

وحينما أراد الانصراف على عجل ليذهب إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون بشارع "ماسبيرو" ليلقي بيانه على الشعب أثار لبيب شقير بحكم رئاسته لمجلس الأمة في ذلك الوقت موضوع السلطة بعد وفاة الرئيس الراحل وقال الرجل بالحرف الواحد "إن المادة 110 من الدستور تنص على أنه في حاله استقالة الرئيس أو عجزه الدائم عن العمل أو وفاته يتولى الرئاسة مؤقتا النائب الأول لرئيس الجمهورية ثم يقرر مجلس الأمة بأغلبية ثلثي أعضائه خلو منصب الرئيس، ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز 60 يوما من تاريخ خلو منصب الرياسة .. وتطبيقا لهذا النص الدستوري أقترح أن يتولى الرياسة المؤقتة السيد أنور السادات".

والتفت إليه السيد أنور السادات وهو يهم بمغادرة قاعة الاجتماع قائلا: "ليس هذا هو الوقت المناسب لمثل هذه الأحاديث وعلى أية حال اعملوا دراسة دستورية عن هذا الموضوع". إذ كان من رأي سيادته الذي يصر عليه خلال الأيام التالية ألا يتولى الرياسة إلا بعد إتمام إزالة آثار العدوان.

وليس صحيحا ما قاله البعض من أنه كان هناك مناورات أو تردد في إعمال نص الدستور في تلك الليلة وما تلاها من أيام إذ كان الجميع قد أصروا على أن تنقل السلطة بسرعة وبالطريق الدستوري الذي اعتادوا أن يحترموه من قبل إذ أن الجميع كانوا يشعرون أن العالم كله ينظر إليهم ويحسب عليهم تصرفاتهم وخطواتهم بعد رحيل الزعيم.

ولذلك بادر رئيس مجلس الأمة بعد انتهاء الاجتماع مباشرة إلى إعلان النص الدستوري إلى مندوبي الصحف والإذاعة والتليفزيون مضيفا أن السيد "نائب رئيس الجمهورية سيحضر في اليوم التالي اجتماعا مشتركا للجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في الساعة 12 ظهرا بالقصر الجمهوري بالقبة".

وفعلا نشرت كل الصحف نص التصريح في اليوم التالي وأذاعته الإذاعة والتليفزيون وتناقلته كافة وكالات الأنباء.

وفي الساعة الحادية عشرة إلا خمس دقائق من ليلة 28 سبتمبر – أيلول 1970 وجه أنور السادات بيانا نعى فيه للأمة العربية ابنها وبطلها وقائدها .. قال:

"فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية، وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال، هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة والربع من مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970 بينما هو واقف في ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل يوم انتصارها.

"لقد تعرض البطل الذي سيبقى ذكره خالدا إلى الأبد في وجدان الأمة والإنسانية لنوبة قلبية حادة بدت أعراضها عليه في الساعة الثالثة والربع بعد الظهر، وكان قد عاد إلى بيته بعد انتهائه من آخر مراسم اجتماع مؤتمر الملوك والرؤساء العرب الذي انتهى بالأمس في القاهرة، والذي كرس له القائد والبطل كل جهده وأعصابه ليحول دون مأساة مروعة دهمت الأمة العربية.

"إن اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء وقد عقدا جلسة مشتركة طارئة على إثر نفاذ قضاء الله وقدره لا يجدان الكلمات التي يمكن بها تصوير الحزن العميق الذي ألم بالجمهورية العربية المتحدة وبالوطن العربي والإنساني إزاء ما أراد الله امتحانها به في وقت من أخطر الأوقات.

"إن جمال عبد الناصر كان أكبر من الكلمات وهو أبقى من كل الكلمات ولا يستطيع أن يقول عنه غير سجله في خدمة شعبه وأمته والإنسانية مجاهدا عن الحرية، مناضلا من أجل الحق والعدل، مقاتلا من أجل الشرف إلى آخر لحظة من عمره.

"ليس هناك كلمات تكفي عزاء في جمال عبد الناصر.

"إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفي بحقه وبقدره هو أن تقف الأمة العربية الآن كلها وقفة صابرة صامدة شجاعة قادرة حتى تحقق النصر الذي عاش واستشهد من أجله ابن مصر العظيم وبطل هذه الأمة ورجلها وقائدها.

"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".

"والسلام عليكم ورحمة الله".

وكان هذا اليوم الطويل الحزين يوم 28 سبتمبر – أيلول 1970 يوافق ليلة "الإسراء والمعراج" كما كان يوافق يوم انفصال الإقليم الشمالي عن الإقليم الجنوبي في الجمهورية العربية المتحدة.

ويا للمصادفة!!!

الفصل العاشر: وقائع تحتاج إلى وقفة

رفض تشييع الجنازة من الأزهر – استقر الرأي على أن تشيع الجنازة من الجزيرة – بدأت وفود المعزين في الوصول – اجتماع للبت في موضوع إيقاف إطلاق النيران وحقيقة ما تم فيه – حقيقة ما تم في اجتماع مدينة نصر – بعض الجهود تهز الصورة والجثمان لم يشيع بعد.

ما زلنا نتحدث عن اليوم الطويل الحزين، وكنا قد توقفنا عند إلقاء بيان السيد أنور السادات الذي وجهه إلى الأمة العربية وذلك بعد انتهاء الاجتماع المشترك لأعضاء اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء.

وانصرف كل إلى حال سبيله.

ولعلنا نذكر أنه كان قد تم الاتفاق على تشييع الجنازة من الأزهر الشريف وتوجهنا إلى هناك حوالي الساعة الواحدة من صباح يوم 29 سبتمبر – أيلول 1970، كان الموجودون هناك شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي ومحمد أحمد وحسن طلعت مدير المباحث العامة وآخرون. وقطعنا الميدان جيئة وذهابا نحاول أن نتصور سير الجنازة وكيف يكون.

وهنا ألقى رجال الأمن برأيهم القاطع في عدم صلاحية المكان لتشييع الجنازة ولم تلفح الآراء المضادة لإثنائهم عن القرار الذي وصلوا إليه ...

فالميدان مفتوح تصب فيه شوارع وطرق كثيرة ولذلك فإنه من المستحيل السيطرة على سيل المعزين المنتظر ثم الشوارع هناك ضيقة لن تتسع لكثافة عربات الملوك والرؤساء ووفود المعزين، والمنازل قديمة لن تتحمل ضغوط الحشود المنتظرة علاوة على أن كارثة ستحدث إذ من عادة السكان أن يتجمعوا في المنازل المطلة على الموكب ولن تتحمل المنازل القديمة من سيتجمعون فيها.

وأمام هذه الآراء المعقولة أخذ المجتمعون يقلبون الأمر من جديد وأخيرا اتفق الجميع على أن يبدأ في تشييع الجنازة من مبنى "مجلس الثورة" بالجزيرة فأهمية المكان التاريخية لا تحتاج إلى تعليق علاوة على أنه مكان مقفول نسبيا إذ يمكن التحكم في الكباري والجسور التي توصله بشاطئ النيل إذ يصبح من السهل إقامة الأسلاك الشائكة وحشد القوات وإذا اضطر الأمر يمكن فتح الكباري فيتعذر على تجمعات البشر أن تقتحم المكان المخصص لتشييع الجنازة.

ووافق الجميع على المكان المختار وترك للأخ محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس الراحل عمل باقي الإجراءات ووضعنا ما يمكن أن نبذله جميعا من جهد تحت تصرفه، وكانت الشمس قد ظهرت في الأفق من جديد حينما انصرفنا إلى منازلنا لتغيير ملابسنا واستئناف العمل لمواجهة ما أمامنا من مسؤوليات.

وفي هذا اليوم بدأ الرؤساء وأعضاء الوفود في الوصول للاشتراك في تشييع الجنازة.

وبدأت عدة اتصالات مع أعضاء الوفود ورؤسائها في الفنادق التي ينزلون بها.

وقد تم اجتماع مساء يوم 30 سبتمبر – أيلول 1970 في مكتب وزير الحربية الفريق محمد فوزي بكوبري القبة حضره كل من محمود رياض وزير الخارجية وشعراوي جمعة وزير الداخلية وحافظ إسماعيل رئيس المخابرات العامة وسامي شرف وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية ومحمد حسنين هيكل وزير الإرشاد وأمين هويدي وزير الدولة.

كان الغرض من الاجتماع هو الوصول إلى قرار بشأن تجديد قرار وقف إطلاق النيران الذي كان ينتهي في 9 نوفمبر – تشرين ثاني 1980 والذي كانت مصر قد قبلته بعد موافقتها على مبادرة روجرز.

ويقول هيكل في كتابه "الطريق إلى رمضان" بهذا الخصوص "لم يكن التوصل إلى قرار في هذا الأمر سهلا وكان شعوري أن علينا أن نمد وقف إطلاق النار لأسباب سياسية بحتة، صحيح أن الاستعداد لعملية جرانيت كانت تمضي في طريقها ولكن من الذي كان يستطيع في ذلك الوقت أن يتحمل مسؤولية إصدار الأمر بتنفيذها؟ كان اليوم آنذاك آخر سبتمبر – أيلول وكان لا بد لمن سيختار رئيسا جديدا أن يثبت في منصبه باستفتاء عام يستغرق الإعداد له معظم شهر أكتوبر – تشرين أول، وليس من الإنصاف أن نتوقع منه إصدار الأمر ببدء الحرب ولما تمض عليه في منصبه إلا بضعة أيام، ثم هل من الإنصاف أن نزج بالبلاد على الفور في معركة وهي لا تزال ممزقة بالحزن؟ وهكذا أعلنت أنني في جانب مد وقف إطلاق النار، وتحدث البعض مؤيدين الإجراء العاجل وخطر لي أن خير وسيلة لحسم الموضوع هي سماع رأي الرجل المحترف، وتحدث الفريق فوزي وقال ما يفهم منه أن مصر العليا أي الصعيد لم تستكمل شبكة الصواريخ فيها بعد، وسألته: قل لي ... هل أنت مستعد من الناحية العسكرية المحضة لاستئناف القتال؟ قال: أنا جندي وإذا صدر أمر مكتوب إلي فإني سأنفذ ما تطلبه مني القيادة السياسية. وكان ذلك غريبا إذ لم يحدث طوال حياة عبد الناصر أن طلب الفريق فوزي أية أوامر مكتوبة وقلت: ليس ذلك بالضبط هو الجواب على سؤالي. السؤال هو: هل يناسبك من الناحية العسكرية أن تبدأ القتال على الفور أم أنك تفضل أن يتاح لك مزيد من الوقت للاستعداد؟ ورد على الفور: إذا منحت فرصة شهرين آخرين فإني أظن أن موقفي سيكون أحسن، ستكون بطاريات الصواريخ في مصر العليا قد استقرت في مواقعها وسأشعر عندئذ بمزيد من الأمن، وقلت: أظن أن في هذا ما يجيب على تساؤلنا وإذا كان الجيش يرى أن من الأفضل أن تتاح له فرصة شهرين آخرين فخير وبركة، والفرق ليس كبيرا بين شهرين وثلاثة وأظن أن علينا أن نوصي بمد وقف إطلاق النيران فترة ثلاثة شهور أخرى، وقد احتج بعض الحاضرين بأن هذه طريقة مفاجئة بلا داع لإنهاء المناقشة، لكن الحقيقة أنه لم يكن بينهم من كان مستعدا للمضي في المناقشة في الاتجاه المعارض".

وانتهى كلام محمد حسنين هيكل، ولكن لنا وقفة طويلة أمام ما كتبه صراحة وما تركه يسقط بين السطور لإعطاء إيحاء معين ربما تطلبه الموقف حينما كتب ما كتب، ولست أعلق على ما قاله تلبية لما ذكره في مقدمة كتابه من أنه سوف يكون من "أسعد الناس لو أن أحدا قال لي إنك كتبت كذا وكذا .. ولكن الحقيقة كانت كذا وكذا .. ولو أنني اقتنعت لسجلت اقتناعي ولتراجعت عما كتبت شاكرا ومقدرا لشعاع من الحقيقة أنار أمامي ما كان شاحبا أو معتما" ولكن تعليقي نابع من عقيدة تأصلت في النفس تؤمن بأن الإنسان إما أن ينطق بالحق إلا فالصمت أفضل.

وقبل التعليق أطرح النقاط التالية:

  • فلا أظن أن تصحيح واقعة أو وقائع "بصراحة" يمكن أن يغير من علاقة قامت بين هيكل وبيني أساسها الاحترام المتبادل رغما عن ندرة اللقاء.
  • ولا أظن في الوقت نفسه أن أحدا يمكن أن يصنفني على حساب مجموعة أو شخص، فلست واحدا ممن أسماهم "هيكل" بمجموعة 15 مايو – أيار، وهيكل نفسه يعرف ذلك، إلا أنني بالرغم من اعتذاري عن الاشتراك في الوزارة منذ نوفمبر – تشرين ثاني 1970، وبالرغم من اعتزالي العمل السياسي وتفرغي لكتابة كتابين عن "كنت سفيرا في العراق" و "كيف يفكر زعماء الصهيونية" في وقت واحد إلا أنني وجدت نفسي وقد اعتقلت مع الآخرين، وتنقلت في سجون عديدة مع الآخرين، وحقق معي على أشياء لا أعرف كنهها حتى الآن مع الآخرين، ثم حكم علي أمام نفس المحكمة التي حاكمتهم .. ولا أقول هذا تنصلا فليس هذا من عادتي ولا تباعدا فليس هذا من شيمتي ولكنها الحقيقة التي لم يطاوعني قلبي أن أقولها أمام المحقق حتى لا تفسر تفسيرا خاطئا أو تترجم ترجمة بعيدة عن المقصود.

وليس معنى هذا أنه لا تربطني بالكثيرين منهم صداقات عزيزة.

معنى كلامي هذا أن حديثي حديث رجل محايد يقدم شهادته للتاريخ، وهناك فارق كبير بين الشهادة الخاصة لوجه الله وبين الادعاء على الغير أو الدفاع عن النفس.

  • إن كل ما كتب حتى الآن عن تلك الفترة كتب من وجهة نظر واحدة بالرغم من اختلاف وربما تناقض من كتبوا عنها، ولكن الظروف التي كتبوا فيها وحدت بين الاتجاهات والأهداف .. وهذا ليس شأني، ولكن ما أهتم به هو أن كل ما كتب لم يحاول أن يفرق في عدالة بين الأشخاص والمواقف ولا بين الحقيقة وبين ما حتمته الظروف.
  • أؤكد أنه حينما عقد هذا الاجتماع كان قد تقرر وبصفة قاطعة الخطوات الدستورية لنقل السلطة ووافق عليها السيد أنور السادات، وكان قد تم تحديد تواريخ عقد اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا واللجنة المركزية ومجلس الأمة وموعد إجراء الاستفتاء على رئاسة الجمهورية بدقة كاملة لقطع خط الرجعة على أية محاولات تحاول الصيد في الماء العكر، ولعل هذا يلقي شعاعا من الحقيقة على الظلال الكثيفة التي تركتها كلمات الأخ هيكل هنا وهناك.

وبعد نقاط النظام هذه نوضح الآتي بخصوص الناحية الموضوعية ...

  • فلم يكن الأخ هيكل هو الشخص الوحيد الذي سيطر على هذا الاجتماع كما يبدو واضحا من حديثه: فهو الوحيد الذي تكلم، وهو الوحيد الذي وجه المؤتمر وجهة خاصة، وهو الذي افتتح المؤتمر ثم هو الذي أنهاه، ثم هو الذي استجوب وزير الحربية وهو الذي قدم التوصية وهو الذي حسم المناقشة بعد ذلك، وتصوير الموقف بهذه الصورة أمر غير مقبول وغير مطابق للواقع، فالموضوع متشعب النواحي متعددة الأجناب فكانت له جوانبه السياسية علاوة على جوانبه العسكرية خاصة تلك التي تتعلق بتجهيز مسرح العمليات، وكل من الحاضرين كانت له آراؤه ونصائحه.
  • لم يكن هناك خلاف على الإطلاق بين أعضاء المؤتمر على ضرورة مد إيقاف النيران لنفس الأسباب التي أوضحها هيكل في كتابه والتي لم يذكرها أبدا في المؤتمر إذ لم يكن هناك ما يدعو إلى ذلك لاتفاق وجهات النظر اتفاقا كاملا.

ودفاعه الحماسي فيما كتب يلقي ظلالا كثيفة على نوايا من حضروا المؤتمر أو على بعضهم على أقل تقدير إذ يوحي بأن هناك من كان يهدف من طرح "الإجراء العاجل" لإحراج القيادة السياسية للتورط في قتال قبل أوانه الأمر الذي لا أظن أنه كان في خاطر أحد من الحاضرين.

  • كانت نقطة الخلاف الوحيدة والتي دار النقاش حولها هي المدة التي تقبل فيها إيقاف إطلاق النيران وربما كنت أنا الوحيد الذي أثار هذه النقطة وقد أوضحت أهمية ذلك حتى ترتبط القيادة العسكرية أمام القيادة السياسية بموعد تكون جاهزة فيه لاستئناف القتال وهذا يعطي للقيادة السياسية في تحركها المقبل مرونة كاملة إذ ستكون قادرة على التحرك من قاعدة وطيدة صلبة وحاول الجميع بما فيهم هيكل إقناعي بغير ذلك.

وبالرغم من ذلك فقد كانت توصية المؤتمر هي "مد إيقاف إطلاق النيران" وليس كما ذكره هيكل في كتابه "مد وقف إطلاق النيران فترة ثلاثة شهور أخرى" والدليل على ذلك أن القتال لم يستأنف منذ ذلك الوقت إلا حينما تفجر الموقف كله في 6 أكتوبر – تشرين أول 1973 أي بعد عامين كاملين.

  • لم يكن هناك ما يستدعي دهشة هيكل حينما قال الفريق محمد فوزي وزير الحربية "أنا جندي. وإذا صدر لي أمر مكتوب فإني سأنفذ ما تطلبه القيادة السياسية" فهذا أمر طبيعي معمول به دائما وهو ما يعبر عنه "بأمر القتال" الذي يحدد فيه الغرض من استئناف القتال كذا المهمة المطلوب تحقيقها، تلك الدهشة التي قيلت عرضا في حديث هيكل تلقي ظلالا وشكوكا على مؤتمر كان يبحث مسألة قومية بطريقة مجردة وكان الجميع لا يقلون وطنية ولا غيرة عن الأخ هيكل في نظرتهم تلك، أما أن هذا الوضع لم يكن معمولا به من قبل فإن معركة يونيو 1967 لم تتوقف يوما واحدا حتى قبول إيقاف النيران عام 1970 بل دخلت مصر في معارك الصمود ثم حرب الاستنزاف دون أن توقف العمليات يوما واحدا.
  • لم يكن هناك احتجاج من بعض من حضروا المؤتمر على قيام هيكل بإنهاء المناقشة بطريقة مفاجئة كما يقول فلم يكن من حق الزميل أبدا – مع احترامي وتقديري لشخصه – أن ينهي أعمال المؤتمر أو يجعله أو يوجهه كيفما يشاء خاصة في حضور الشخصيات التي ذكرها.

ومناورته التي ذكر أنه قام بها للرد على من كانوا يؤيدون "الإجراء العادل" بأنه وجد أن خير وسيلة لحسم الموضوع هي سماع رأي الرجل المحترف مناورة لم تحدث على الإطلاق، فكما قلت فإن الموضوع كله لم يكن يستدعي مناورات لأنه كان من البديهي ونحن نبحث موضوعا يتعلق بإيقاف إطلاق النيران وفي مكتب وزير الحربية أن نسمع لرأي الرجل ولم يكن هذا يحتاج إلى حسم أو مناورة!!!

كان الموضوع خطيرا شأن الموضوعات الكثيرة التي كنا نناقشها، وتمت المناقشة في حدود الارتفاع إلى مستوى المسؤولية من جميع الزملاء الحاضرين، ولم تكن هناك أية اتجاهات تحتاج إلى استغراب أو دهشة ولا إلى رموز وتشكك!! كانت المناقشة تجري في سهولة ويسر بين زملاء يقدرون الكارثة التي يواجهونها تسيطر عليهم روح الفريق وفي مخيلة كل منهم أن القائد مات في أحرج الأوقات والعدو يدق الأبواب والعالم كله ينظر إلى ما يجري في القاهرة وكل يجري حساباته ويعيد تقديرها من جديد في ظل المتغيرات التي حدثت أو التي ينتظر حدوثها.

واجتماع آخر أجدني رغم أنفي أتعرض له أجدني رغم أنفي أتعرض له لأروي حقيقة ما تم فيه، وأجدني – للأسف الشديد – ولثاني مرة أخالف الأخ محمد حسنين هيكل فيما رواه عنه ... وأيضا سأنقل رواية هذا الاجتماع عما قاله الأخ الفاضل في كتابه "الطريق إلى رمضان" ... "وفي أثناء خروجنا من الاجتماع – يقصد الاجتماع السابق الذي كنا نبحث فيه موضوع إيقاف النار – اقترب مني شعراوي جمعة وقال: أظن أننا يجب أن نذهب إلى مكان نجلس فيه ونتحدث أنت وأنا وسامي وأمين هويدي، فقلت لا بأس، وركبنا نحن الأربعة السيارة الرسمية لوزارة الداخلية المخصصة له، وجلس هو في المقعد الأمامي بينما جلسنا نحن في المقعد الخلفي، وتبعتني سيارتي، كان شعراوي وسامي وأمين هويدي اتفقوا على أن يقضوا الليل في مبنى هيئة قناة السويس في جاردن سيتي ومن هناك يستطيعون بسهولة أن يصلوا إلى مبنى مجلس الثورة في الجزيرة حيث يبدأ في تشييع الجنازة، أما أنا فكنت سأقضي الليل في منزلي على النيل مباشرة، وهكذا فإننا كلنا كنا متجهين الوجهة نفسها، لكن عندما وصلنا إلى العباسية على بعد 4 أميال من وسط المدينة كان الميدان وأصبح مغلقا تماما وطلب شعراوي إلى السائق أن يتجه شمالا وأن يحاول السير في الطريق الخلفي الذي يمر بالقلعة وعندما اقتربنا من أمام كلية البوليس أوقف السيارة والتفت ناحيتنا وقال: أولئك الثلاثة أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري ينزلون في قصر القبة ويتصرفون كأنهم حكومة ثلاثية مثلهم في ذلك كوسيجين وبودجورني وبريجنيف بينما نحن الناصريين الحقيقيين وأقرب الناس إلى عبد الناصر لم نفعل شيئا للتنسيق في ما بيننا أو الاتفاق على أسلوب مشترك في العمل، وهذا ما يجعلني أرى ضرورة البحث في الموقف بعضنا مع بعض، فقلت له: لنكن واضحين بشأن موقف كل منا هناك نقطة نظام أضعها، ونصيحة صغيرة أقدمها أما نقطة النظام فهي أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق فيما بينكم بصفتكم وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضوري لأني قد استقر رأيي على الخروج وترك الوزارة، وقد أثار قولي غضبا شديدا لدى سامي شرف وقال: لا .. أما أن نخرج كلنا أو نبقى كلنا، فقلت إني لم أكن أبدا جزءا من السلطة كما هو الحال بالنسبة إليكم، كنت دائما صحفيا ولم أقبل منصب وزير الإرشاد إلا تحت ضغط شديد من جانب عبد الناصر وتعهدت بقبوله لمدة سنة فقط وقد انقضت الآن ستة أشهر وانتقل عبد الناصر إلى رحاب الله وهكذا فقد قررت أن أتحلل من وعدي، واعترض سامي بأني إذا فعلت ذلك فسأبدوا كأني غير مستعد للعمل تحت رئاسة أي شخص آخر غير عبد الناصر في حين أنهم سيظهرون في مظهر المستعد لخدمة أي شخص، وقلت لسامي إنه يبالغ وإن النهاية إلى صراع على السلطة وإذا حدث تصادم في الآراء فإني سأؤدي دوري فيه كصحفي أما إذا نشب صراع على السلطة قائم على الأشخاص فلن يكون لي شأن به وستعاني البلاد كلها منه، وازداد سامي انفعالا وراح يصيح: عبد الناصر لم يمت. فقلت له: اسمع لا بد أن تواجه حقائق الطبيعة. إن الرجل مات وسيحكم على كل منكم فقط من الآن فصاعدا بما يمكن أن يقدمه من أجل مصلحة البلد، إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعا، وبدأ سامي يبكي ويصرخ بأننا إما أن نبقى كلنا أو نخرج كلنا، وعندئذ فقدت أعصابي ونزلت من السيارة واتجهت إلى سيارتي وكانت تقف وراء سيارة شعراوي مباشرة، وعدت إلى القاهرة".

هذه رواية "هيكل" عن هذا اللقاء وقبل أن أبدأ في التعليق أوضح الآتي:

  • لم يمسني هيكل في حديثه من قريب أو بعيد ولم يمسني الرجل في أحاديثه التليفزيونية التي أجراها عقب أحداث مايو – أيار 1971 ولا في مقالاته التي نشرها في "الأهرام" وهو رئيس تحرير له .. فهكذا أخبرت بعد فترة من وقوع كل ذلك إذ كنت في ذلك الوقت في "زنزانتي" أعاني من "الحبس الانفرادي" لا يسمح لي بالاستماع إلى "الراديو" ولا بقراءة الصحف بل ولا بالحديث مع أحد .. أما توفر قلم وورق للكتابة فكان ترفا لم أحلم به أو أفكر في حدوثه في تلك الفترة الصعبة.
  • وكان من الحكمة – والحالة هكذا – أن أقفز فوق ما قيل وأعبره كما يفعل الكثيرون ولكني بذلك أكون كاتما للشهادة الأمر الذي نهانا عنه الله تعالى في كتابه العزيز، ثم لا أظنني أضير أحدا – حتى هيكل – بقولي ما حدث دون تحريف وإلا كان من الأفضل أن أقلد "القرد الحابس" الذي سد أذنه حتى لا يسمع وأغمض عينيه حتى لا يرى وقفل فمه حتى لا يتكلم، وأنا في كثير من الأحيان أرغب في ذلك ولكني تحت وقع أحداث معينة لا أقدر على الامتثال للرغبة الجامحة في السكوت .. تماما كما حدث في مساجلاتنا معا أيام ما كتبه عن "زوار الفجر" وإصراري على الإيضاح كما أفعل الآن مع فارق الزمان والظروف .. فقد مرت على تلك المساجلات عشر سنوات كاملة حدثت فيها أحداث وأحداث. ثم أصبح كلانا من ناحية الظروف مهاجرا بقلمه وفكره بحكم الأحداث والأحوال.
  • ثم – وهنا أضع خطين تحت ما أقول – فإنني لا أدافع عن أحد ممن ذكرهم هيكل في حديثه فكل واحد منهم يفوتني قدرة في الدفاع إن كان الأمر يتطلب ذلك، فكما سبق وأن قلت فإنني لا أنتسب إلى "جماعة" أو "شلة" حتى من أيام عبد الناصر من كان يريد أن يتقرب فأهلا به ولكني ما سعيت إلى الاقتراب من أحد، وإذا كان هذا قد تم في الماضي أيام وجودي في "حفرة ومأزق" السلطة فالأجدر به أن يتم بعد "التخفف" من أثقال السلطة ومحاذيرها.
  • لا يعني قيامي بالتصحيح أنني اتخذت موقفا من أحد فالحوار لا يعني من وجهة نظري إلا وسيلة لزيادة التقارب وتيسير اللقاء لأنه يساعد على وحدة الفكر الخاصة في مواضيع أصبحت في ذمة التاريخ، والحوار في الوقت نفسه عامل مساعد للتاريخ للأحداث فإنه بدلا من أن يحصر الأمر في مصدر واحد فإنه يساعد على خلق مصادر متعددة تساعد على الدقة.

وبعد ذكرنا من نقاط النظام هذه نبدأ في التعليق ...

  • فلم يتم اللقاء – كما قال هيكل – أمام كلية الشرطة وبعد انتهاء الاجتماع الذي تم في مكتب وزير الحربية في كوبري القبة ولكن بداية اللقاءات تمت في قصر القبة، فقد ذهبت أنا وشعراوي وسامي إلى القصر لنرى سير الأمور في زيارة خاطفة وتركنا سامي في الشرفة الخارجية لفترة طويلة عاد بعدها فجأة ومعه هيكل، ولم أكن أعلم بوجوده في القصر ولم أكن أعلم أن اتفاقا بين ثلاثتهم على اللقاء، وبذلك كنت الوحيد الذي يجهل أن لقاء سوف يتم.
  • ولم يتم الاجتماع بطريقة مفاجئة كما يقول هيكل ولكن باتفاق مسبق فإنه من الجائز أن يكون قد اندفع بغريزته الصحفية لمثل هذا اللقاء حتى يتحسس الأوضاع بنفسه .. ربما لنفسه، وربما لغيره، وربما للغرضين معا .. وليس في هذا عيب فمن الحكمة أن يعرف كل فرد أين يضع قدمه، وعلى ما أذكر فإن الاجتماع تم في مدخل مدينة نصر أمام كلية الشرطة بالرغم من أن هذا لا يغير قليلا أو كثيرا في الموضوع.
  • لم يلق هيكل أبدا بكل هذه النصيحة عن الناصرية والسلطة والصراع ..

ولم يتحدث شعراوي جمعة أبدا عن السادة: السادات والشافعي وعلي صبري كما لم يتحدث عن "الترويكا" الروسية ..

ولم يصرخ سامي أو يبكي ولا هو أنكر وفاة عبد الناصر ...

أبدا لم يحدث شيء من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحفية التي تبعث على التشويق.

ولكن كل ما ذكره شعراوي لهيكل هو أننا قررنا التخلي عقب تشييع الجنازة وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية وسأله عن رأيه في ذلك ...!!

  • رحب "هيكل" أيما ترحيب بالفكرة وذكر أيضا أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير الأهرام حيث كان الرجل يجمع بين المنصبين مضيفا أنه لكل زمن رجاله وعلى الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم وسوف تتعدد اللقاءات في الأيام القادمة، وسلم الرجل واتجه إلى عربته دون أن يفقد أعصابه ودون أن يغضب واتجه إلى منزله واتجهنا نحن إلى مكتب سامي شرف وهنا انفجرت في الرجلين لتوريطي في اجتماع لم أخطر به وتساءلت عن سبب أخذ رأي هيكل في موضوع يتعلق برغبة كل واحد منا وبإرادته ثم لم يكن الموضوع في حاجة إلى مناقشته في مدينة نصر وكان الأفضل مناقشته في قصر القبة حيث كنا أو في مكتب أي فرد فينا.

كنا قد اجتمعنا مرارا وهذا أمر عادي وقررنا أن نتخلى عقب نقل السلطة بالطريقة الدستورية لنفسح المجال للسيد أنور السادات ليختار معاونيه ولو أنني كنت مزمعا على أن أتخلى في أقرب وقت ممكن، ورأى شعراوي أن يستشير هيكل في الأمر لأن من عادته أنه كان يستشير هيكل وسامي في كل أمر يقدم عليه.

وكما نرى فإن الموضوع الذي تم بسيط للغاية ولكنه حسم بطريقة تلقي الظلال على النوايا ...

ولا شك أن هذه الظلال كانت بالضرورة تترك آثارا في النفوس تتعمق بمرور الأيام ...

وحتى لا ننسى .. كانت جثة عبد الناصر ما زالت موجودة في قصر القبة لم يتم تشييعها بعد إلى مثواها الأخير ...

الفصل الحادي عشر: الوداع الأخير

ثلاث استقالات – ترتيب نقل السلطة – الكل عازم على أن تنقل السلطة بأسرع ما يمكن وبطريقة دستورية – وساطة إلى جعفر النميريعزيز صدقي يصدر بيانا – سرادق كبير في عابدين – الوداع يا جمال يا حبيب الملايين – واختلط الحابل بالنابل – وقفل باب المقبرة – ماذا قيل في وفاة عبد الناصر – دموع على جمال ودموع على وفاء الرجال.

انتهينا في الفصل السابق إلى بعض ما كان يحدث بعد وفاة الرئيس وقبل مواراة جثمانه ولا بأس من سرد تفصيلات أخرى ..

ففي خلال أيام قليل من وفاته قدمت ثلاث استقالات:

  • الاستقالة الأولى من الدكتور محمد فوزي وكان ذلك في أول اجتماع للجنة التنفيذية العليا بعد وفاة الرئيس ويبدو أنه كان متأثرا من عدم حضوره أول اجتماع مع الوفد السوفيتي برئاسة كوسيجين وأراد أن يجس النبض بالنسبة لوضعه في النظام الجديد، ولذلك فإنه سحب استقالته بالسرعة التي قدمها بها بمجرد أن أبدى أعضاء اللجنة تمسكهم به!!
  • الاستقالة الثانية قدمها محمد حسنين هيكل من منصبه الوزاري كوزير للإرشاد إلا أن السيد أنور السادات رأى ألا يبت فيها إلا بعد الاستفتاء على منصب رئاسة الجمهورية الذي قد تحدد في ذلك الوقت!!
  • الاستقالة الثالثة قدمها السيد حسين الشافعي وامتنع فعلا عن الذهاب إلى اجتماع اللجنة المركزي الذي كان سيتم فيه مناقشة قرار اللجنة التنفيذية العليا لترشيح السيد أنور السادات لمنصب رئيس الجمهورية، وكان سبب تقديمه للاستقالة هو تمسكه بمنصب رئاسة الوزراء طالما أن السيد أنور السادات ترشح لرئاسة الجمهورية، ويبدو أن أحدا لم يتصل بسيادته بخصوص هذه الاستقالة وبالرغم من ذلك فإنه سحبها في اليوم التالي كما علمنا!!

وكان سيادته هو العضو الوحيد في اللجنة التنفيذية العليا الذي اعترض على ترشيح السيد أنور السادات للرئاسة وذكر أنه متأكد أن سيادته ربما لا يحصل على الأصوات الكافية للترشيح وهنا تصبح الثورة نفسها وقد سحب الشعب الثقة منها إلا أن السيد أنور السادات تقبل هذا الاعتراض بروح ديمقراطية سمحة.

وفي الوقت الذي كانت تقدم فيه تلك الاستقالات كان العمل الجاد لإكمال الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية يتم على قدم وساق فاستقر الرأي على الآتي:

  • يعرض الترشيح على اللجنة التنفيذية العليا يوم السبت 3 أكتوبر – تشرين أول 1970.
  • يعرض الترشيح على اللجنة المركزية يوم الإثنين 5 أكتوبر – ترشين أول 1970.
  • يتم الاستفتاء يوم الخميس 15 أكتوبر – تشرين أول 1970.
  • إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم يجتمع مجلس الأمة يوم السبت 17 أكتوبر – تشرين أول 1970، ليؤدي رئيس الجمهورية أمام المجلس اليمين الدستورية وفقا لنص المادة 104 من الدستور.

وانصرف كل فيما يخصه لبذل كافة جهده حتى يتم نقل السلطة بالطريقة الدستورية في صورة رائعة وقد نمت كل هذه الخطوات في دقة أذهلت العالم وكانت محل تعليقات من كافة الجهات الرسمية والصحافة وأجهزة الإعلام العالمية وقد التزم الجميع بالدستور القائم التزاما لا شك فيه ولذا فإن أية محاولات وتقولات تذكر هنا وهناك عن التشكيك من قيمة الجهد الذي بذل في ذلك الوقت أو في النوايا منها تشويه ضار للصورة الجميلة الرائعة الصادقة التي تمت بها الأمور في ذلك الوقت.

وإلى جانب هذه الاستقالات حدثت بعض المحاولات لتآلف الجهود والوحدة الوطنية في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، ولقد قيل الكثير في نوايا القائمين بها وقيل أكثر في الأسباب التي تختفي وراء الظواهر، ولا شأن لي بالنوايا فعلمها عند الله، وما أحاوله هو مجرد تدوين ما حدث بصدق وأمانة.

ففي أحد الاجتماعات التي تمت مع جعفر النميري في فندق هيلتون وقبل أن تشيع الجنازة تحدث الرجل عن إحدى هذه المحاولات، كان موجودا مع الأخ فاروق أبو عيسى وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في الخرطوم وكان موجودا من الجانب المصري شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي.

وقد تحدث الرجل بأن أمين شاكر – وزير السياحة السابق – اتصل بوزير المواصلات السوداني محمود حسيب وأخبره أن بعض أعضاء مجلس الثورة القدامى يريدون مقابلة الرئيس النميري ليكون واسطة خير مع السيد أنور السادات حتى يتم تآلف الجميع في تلك الفترة العصيبة، وتساءل النميري عن مدى ترحيب السادات بهذه الخطوة .. وهنا تدخل فاروق أبو عيسى ذاكرا أنه يرى ألا يتدخل الرئيس النميري في مثل هذه الموضوعات وقد اتفق معه على ذلك وهم يخبرونا بالمحاولة لمجرد العلم.

وفي فجر هذا اليوم كنا مع السيد أنور السادات في قصر القبة حيث كان يمضي ليلته وقص سامي شرف ما سمعه على سيادته وفوجئنا بأن سامي يقترح اعتقال "أمين شاكر" إلا أن سيادته رد في الحال "لا اعتقال أنا لا أريد أن نبدأ إجراءاتنا بعد وفاة عبد الناصر باعتقالات" أما عن المحاولة نفسها فقد رفضها سيادته وأخذ يتحدث بمرارة عن الصراعات التي كانت موجودة في مجلس الثورة القديم .. ثم تركنا كل هذا وأكملنا حديثنا بخصوص نقل السلطة وإعمال الدستور وتحديد تواريخ الخطوات اللازمة لذلك.

وفي اليوم التالي مباشرة أرسل أعضاء مجلس الثورة القدامى إلى السيد أنور السادات مذكرة مكتوبة يعرضون فيها إعادة تكوين مجلس الثورة على أساس ديمقراطي ويتولى سيادته الرئاسة وقد وقع على المذكرة كل من السادة عبد اللطيف البغدادي، زكريا محيي الدين، حسن إبراهيم، كمال الدين حسين ورفض السيد أنور السادات مقابلتهم كطلبهم في المذكرة وذكر أنه سيكتفي بمقابلة بغدادي لأنه يرتاح إليه دون الآخرين وقد تمت المقابلة ولا أدري شيئا عما تم فيها.

وأصدر الدكتور عزيز صدقي بيانا إلى العمال قال فيه: "لقد ناضل جمال عبد الناصر طوال حياته في سبيل تدعيم الإشتراكية في بلدنا ليحقق لكل مواطن الكفاية والعدل وعندما كان يطبق هذه المبادئ فإنما كان في ذلك منفذا لإرادة هذا الشعب ومعبرا عن آماله وأحلامه، ولقد سار خلف جمال عبد الناصر أعوان له ساهم كل منهم بنصيبه فيما رأى عبد الناصر أنه قادر عليه وهناك من تخلف بعد جزء من الطريق وهناك من أكمل الشوط حتى نهايته وكان الشوط الذي لا يرضي الرئيس الراحل عنه بديلا لمن يبقيه معه في مسيرته إيمانه بالمبادئ التي نادى بها الشعب .. إيمانه بالإشتراكية، في وقت الشدائد يجب أن نتصارح بالحقيقة فهي التي تقينا من الوقوع في أوهام باطلة، لن يقود المسيرة – مسيرة الإشتراكية – إلا الذين يؤمنون بمبادئه الإشتراكية .. وإني أطمئنكم أننا لن نسمح لمن ارتد أو تخلف أو ظن أن الإشتراكية تنتهي بموت عبد الناصر أن يرفع رأسه أو أن يكون له مكان في مسيرتنا، إن عبد الناصر في أثناء حياته أصدر حكمه وعبر عن رأيه في كل من عملوا معه، لم يبق معه إلى نهاية الشوط إلا الذين أمن لهم واطمأن إلى أنهم يعتنقون المبادئ الأساسية التي عمل من أجلها وأنهم سيكونون قادرين على الحفاظ عليها".

وواضح أن عزيز صدقي في بيانه هذا يغمز ويلمز أعضاء الثورة القدامى الذين تركوا السلطة أو تركتهم السلطة أيام عبد الناصر، وقد أثار هذا الأمر عبد اللطيف البغدادي فكتب كتابا شديدا وجهه إلى عزيز صدقي وأرسله مع سائق إلى منزله يسبه فيه ويوجه إليه الاتهامات الثقيلة التي وصلت إلى حد السب والقذف إذ تحدث الرجل عن الكذب والانتهازية والرجولة .. بلهجة قاسية وصمم عزيز على الرد إلا أن بعض النصائح المخلصة أقنعته بالتمسك بالصمت .. وقد اقتنع.

ووسط الاستقالات العديدة وسحبها والرجوع عنها، والبيانات الحماسية والخطابات التي ترد عليها، والمذكرات الكتابية وتجاهلها، لم تعدم البلاد بعض من أخذوا يعملون بصمت وبالتزام وبصدق حتى تسير الأمور في مجراها الدستوري، ولا يقلل من ذلك الجهد الذي بذل في تلك الفترة ما قيل عنهم بعد ذلك وهم في السجون أثناء محاكمتهم بتهمة غليظة هي "الخيانة العظمى" أو "الاشتراك فيها".

وبعد الوفاة مباشرة أقيم سرادق كبير في ساحة عابدين في نفس المكان الذي كان يلقي فيه "الريس" خطاباته العديدة لتقبل العزاء، ووسط قراءة آيات القرآن الكريم كانت وفود الشعب تتوافد واختلط المعزون بمن يتقبلون العزاء وتوافدت النساء مع الرجال متخطين عادة وعرفا وتقليدا يقضي بألا تذهب النساء إلى سرادقات العزاء، وكانت النساء حتى الفقيرات منهم يولولن ويصحن ويصرخن عن "الأسد" الذي تركهن وعن "السبع" الذي غادرهن إلى غير رجعة، وكان الشبان يبكون في حزن والشيوخ تسيل دموعهم على الأذقان وهم يترحمون ويطلبون من الله أن يعينهم على بلواهم.

وفي الليلة السابقة على تشييع الجنازة اتفق بعض الأصدقاء على أن نمضي الليلة في مبنى هيئة قناة السويس بجاردن سيتي على النيل حتى نتفادى أمواج البشر التي كانت قد ملأت الشوارع فقد خرجت الملايين لتشييع زعيمها في موكب وزحام لم يتكرر من قبل ولا أظنه سيتكرر من بعد.

وسهرنا الليلة بطولها فلم يكن أحد راغبا في النوم.

وكان الشعور ما زال يسيطر على البعض من أن الريس كان ما زال معنا لمجرد أن "جثته" لم تدفن بعد . لم يكن هناك إحساس حقيقي بحدوث الموت عند الكثيرين ولم يكن هناك إدراك بمدى الفراغ الهائل الذي سوف يحدث .. كان عبد الناصر ما زال موجودا في "قصر القبة" وكان الكل يعلمون حسابا لذلك حتى وهو جثة هامدة لا تقوى على شيء .. كان ما زال يشد "الإسراع" قبل أن تقطع وترتخي.

كنا نتحدث عما سنفعله في اليوم التالي وكأنه أحد الواجبات التي كان يكلفنا بأدائها في حياته وكانت العاطفة هي التي تتحكم في العقل وتسيطر عليه، لم يفكر أحد فيما بعد وفاة عبد الناصر إلا تفكيرا عاطفيا سطحيا أقرب إلى أبناء فقدوا الأب الذي كان يرعاهم.

وكان هذا تقصيرا ما بعده تقصير.

بل كان مجرد محاولة الانتقال إلى التفكير العقلاني يثير ثائرة بعض الموجودين فحينما كنا نتحدث مثلا عن عائلة الرئيس بعد رحيله فكرنا أن نتقدم باقتراح بتخصيص منزله الذي عاش فيه لزوجته طوال حياتها لأن الرجل نسي في غمرة مسؤولياته أن يترك لعائلته منزلا ينتقلون إليه بعد الوفاة وتخصيص معاش لها هو نفس مرتب "الريس" الذي كان يتقاضاه لأنه نسي وسط مشاغله أن يترك لعائلته مصدر رزق آخر!!! هنا اقترح البعض وسط الانفعال السائد أن يطلق على الرئيس الراحل لقب الزعيم وعلى زوجته حرم الزعيم ولما اعترض البعض على ذلك لما يترتب عنه من حساسيات يجب تجنبها ترك هؤلاء المبنى بمن فيه غاضبين من هؤلاء الذين خانوا الزعيم الذي لم يدفن بعد ... !!

وتحدث البعض عما يمكن أن يفعل لتخليد ذكرى الراحل العظيم .. وكانت الصحف قد بدأت تتحدث عن عشرات المشروعات لتخليد ذكراه وتكونت لجنة تحت إشراف جريدة الأهرام، وبدأ البعض يطرح بعض الاقتراحات العاطفية وحينما بذلت محاولات لنقل الجميع إلى أرض الواقع ثارت المناقشات الحادة التي تبودلت فيها الاتهامات وسط الأعصاب المشدودة والنفوس الثائرة والقلوب الحائرة.


أمور لا تجوز .. ولكنها حدثت.

وانطلق طوفان البشر طول الليل ينشد بصوت واحد مهيب كلمات أغنية حزينة وما لبثنا أن وجدنا أنفسنا ننشد مع الناشدين والدموع تسيل بغزارة مياه النيل الذي يمر أمامنا، كانت الأغنية تقول ...

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع.

ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين .. الوداع.

أنت عايش في قلوبنا يا جمال الملايين .. الوداع

أنت ثورة، أنت جمرة نذكرك طول السنين .. الوداع.

أنت نوارة بلدنا واحنا عذبنا الحنين .. الوداع.

أنت ريحانة زكية لأجل كل الشقيانين .. الوداع.

الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع.

وحتى الآن لا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انطلق هذا النشيد من كل هذه الألسنة ولا يعرف أحد على وجه التحديد كيف انتشر بين ملايين البشر ولا كيف حفظوا كلماته وألحانه!!!

قيل إنه في اليوم السابق للجنازة طافت شوارع القاهرة فرقة فنية من أبناء بورسعيد المهاجرين يرددون الشعارات ووسط هتافاتهم الحزينة ولدت هذه الأغنية، من ألف كلماتها؟ لا أحد لديه الجواب، كانت بدايتها بيتا من الشعر كتبه "عبد الرحمن عرنوس" مدرب فرقة "شباب البحر".

كان البيت يقول "الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .. الوداع" وانطلق أفراد الفرقة يرددونه في نغمات حزينة وانضم إليهم ملايين البشر فولدت الكلمات تباعا وسط البكاء والولولة .. أما اللحن فقد وضعته الجماهير من خلال نواح النساء وعويلهن.

وطبعت منه ملايين الاسطوانات والأشرطة ليسمعها كل بيت في طول البلاد وعرضها.

ومر الليل الثقيل ولم ينم أحد .. كانت الأمة كلها ساهرة تحضر "للموكب الجنائزي" الذي ستشارك فيه في اليوم التالي . وامتلأت الشوارع والحدائق والمنازل ... كانت الجمهورية كلها خرجت في العاصمة وفي الأقاليم لتودع القائد الزعيم.

وحينما خرجنا في الصباح الباكر لنعبر "كوبري قصر النيل" إلى أرض الجزيرة حيث يوجد "مجلس الثورة" ظهر لنا أن كل ما خططنا له يصعب علينا تنفيذه، فلم يكن من الممكن أن نسير عشرات الخطوات التي تفصلنا عن "الجسر" ولم يكن أمامنا إلا أن نعبر النيل في الزوارق إلى الشاطئ الآخر، وخوفا من أن يفعل آخرون مثل ما فعلناه وما ينجم عن ذلك من خسائر محتمة صدرت التعليمات إلى كل الزوارق بأن تترك الشاطئ الغربي للنيل إلى الشاطئ الشرقي أو إلى وسط النهر الخالد.

وكان النظام خارج "بناء مجلس الثورة" سائدا، وقفنا نستقبل المعزين من رؤساء الدول ومندوبيهم البعض كان يبكي، والبعض الآخر كان حزينا في صمت، والقليل منهم كان يؤدي الواجب الرسمي، ووصل الجثمان في طائرة هليكوبتر نقلته بعد أن صلي عليه في قصر القبة، وكان النعش قد صنع بطريقة خاصة لأنه كان متوقعا أن تخطفه الجماهير وقوى الهيكل الخشبي بصفائح من الحديد تلتف حوله وبأقفال يصعب فتحها ثم ثبت على عربة المدفع التي تجرها الجياد ويحرسها مئات الضباط والجنود.

وكانت الدقائق تمر وكأنها الساعات والكتل البشرية تمكنت من التسرب رغما عن نطاقات الأسلاك الشائكة المضروبة في كل مكان .. كان التسرب قليلا في بادئ الأمر ثم ما لبث أن أصبح عاما بمرور الوقت أخذت الكتل البشرية الباكية الناحبة تطغى على المكان الذي ستمر فيه "الجنازة".

وبعد دقائق من سير الجنازة لم يعد هناك نظام أو سيطرة فقد اختلط الجنود المكلفون بحفظ النظام بباقي طوائف الشعب ولم يعد في إمكان أحد أن يسيطر على النظام.

وكان من الصعب على الرؤساء الذين يشيعون الجنازة أن يستمروا في تأدية الواجب الثقيل حتى نهايته ولم يكن من المناسب أن تتكبد الوفود الأخرى كذلك المشقة الهائلة التي أخذت تتصاعد عند وصول الجنازة إلى كوبري قصر النيل، فأشير على هؤلاء بأن يعودوا مرة أخرى إلى السرادق وقد فعل البعض منهم ذلك وأصر الكثيرون على مواصلة السير.

وحينما وصل الموكب إلى قرب "الهيلتون" شاق الطريق وزادت صعوبة السير وسقط البعض تحت الأقدام وقد ساهمت مع آخرين في عمل حلقة دائرية حول هؤلاء لنمنع كارثة محققة وحملنا بعض من سقطوا إلى أسطح بعض العربات التي كانت واقفة هناك وتم نقل هؤلاء بعد ذلك بواسطة آخرين إلى داخل الفندق.

وظهر خطر جديد بطريقة فجائية إذ أصر البعض على نزع النعش، من على عربة المدفع التي تجرها الخيول وهنا استمات الجنود الموجودون حول "النعش" ليحولوا دون ذلك وأعطى أحد الضباط التعليمات لتعدو الخيول بعربة المدفع حتى تتفادى الكارثة ثم نقل النعش بعد ذلك إلى إحدى العربات ليصل إلى جامع "عبد الناصر" في كوبري القبة حيث سيتم الدفن.

وتركنا موكب الجنازة بصعوبة وأخذنا بعض العربات من الطريق الجانبية ولحقنا "بالنعش" في الجامع وحضرنا الصلاة على الجثمان.

وكانت هناك جماعة الدفن جاهزة خارج المسجد لمواراة الجثمان الطاهر في مثواه الأخير وكان يشرف على الجماعة التي ستسد المقبرة المهندس علي السيد رئيس إحدى شركات المقاولات في ذلك الوقت ووزير الإسكان بعد حركة 15 مايو – آيار 1971.

ورأيت الجثمان محمولا إلى داخل المقبرة ووضع بجوار الحائط الغربي، ورأيت عبد الناصر الذي ظل واقفا طوال حياته يناضل ويكافح وقد استراح أخيرا في مثواه الأخير، أصبح العملاق شأنه شأن أي فرد مجرد جثمان وضع إلى جوار حائط ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا عظمة إلا لله، ولا بقاء إلا لله.

واندفع بعض الضباط ومعهم محمد أحمد وبعض أولاد "الريس" ليودعوه الوداع الأخير ونظروا من خلال الحائط الذي كان يبنى وتضيق فتحاته شيئا فشيئا وصفوف "الطوب أو الطابوق" ترتفع شيئا فشيئا ثم انسحب الجميع إلى الخارج وقد ارتفعت أصواتهم بالبكاء والعويل.

وكنت ما زلت واقفا أراقب وأتأمل وقد هانت أمامي الدنيا وما فيها، هل حقيقة هذه هي الدنيا؟! هل حقيقة أن الرجل الذي ملأ العالم أجمع بصورته وصوته وعمله قد انتهى به الأمر هكذا إلى جوار حائط وهو مدد على الأرض؟!!

ووسط هذه التأملات تقدم مني أحد الضباط من حرس "الريس" قميصه مفتوح وقد ضاع غطاء رأسه والدموع تسيل من عينيه وهو ينتحب وأدى التحية العسكرية وهو مشدود الأعصاب وسألني "هل صحيح أن عبد الناصر مات؟" فقلت له "نعم" فقال: "طيب" واشتد نحيبه. وبحركة عسكرية دار إلى الخلف، وذهب.

وانصرفت بعده وقد جفت دموعي.

كتب "رجاء النقاش" مقالا في العدد الخاص لمجلة الهلال الذي أصدرته في نوفمبر – تشرين ثاني 1970 عن جمال عبد الناصر تحت عنوان "أدباؤنا ومواقف لا تنسى لعبد الناصر" .. جاء في المقال عن موقف عبد الناصر من توفيق الحكيم أن إسماعيل القباني الذي عين وزيرا للمعارف في بداية الثورة تقدم إلى مجلس الوزراء بطلب فصل توفيق الحكيم من دار الكتب لأنه لا يؤدي عمله كموظف على الوجه الأكمل ودهش عبد الناصر من اقتراح القباني واعترض عليه أشد الاعتراض واعتبر وجود "الحكيم" في دار الكتب تشريفا لها، ومرة أخرى وقف عبد الناصر موقفا رائعا من توفيق الحكيم ففي أواخر الخمسينات شن الناقد الكبير أحمد رشدي صالح حملة عنيفة ضد توفيق الحكيم محورها أن كثيرا من أعمال الحكيم المسرحية والروائية مقتبس من أصول أجنبية وكان يعني بذلك – على حد قول النقاش – أن توفيق الحكيم لم يكن أديبا ولا فنانا بل مترجما ولصا أدبيا وتأثر الحكيم أيما تأثر بهذه الحملة الظالمة وخلال هذه الحملة اتخذ الرئيس جمال عبد الناصر قرارا رائعا حيث منح توفيق الحكيم أعلى وسام في الدولة.

ويقول رجاء النقاش عن موقف عبد الناصر من يوسف إدريس حينما رفض جائزة قدرها ألفي جنيه خصصتها مجلة "حوار" التي كانت في بيروت عن "منظمة حرية الثقافة العالمية" له كأحسن أديب في العام وقد رفض "إدريس" الجائزة لأنه علم وتأكد أن المجلة خاضعة للتوجيه الأمريكي وحينما علم عبد الناصر بموقف "يوسف إدريس" أمر بصرف قيمة الجائزة كاملة له كما منحه وسام الأدب والفنون.

ثم تحدث رجاء النقاش عن موقف عبد الناصر من نزار قباني بعد 5 يونيو 1967 حينما كتب قصيدته المشهورة "هوامش على دفتر النكسة" فهاجمته بعض الصحف المصرية وطالبت بمنع دخوله إلى الجمهورية العربية المتحدة، كما طالبت بمنع إذاعة أغانيه وهنا أرسل "نزار" قصيدته بخطاب إلى عبد الناصر الذي قرأ القصيدة والرسالة وكتب بخط يده على رسالة نزار بالسماح للقصيدة بالدخول إلى مصر وإيقاف أية إجراء ضد الشاعر وشعره.

ولذلك لم يكن غريبا أن يكتب نزار قباني بعد موت عبد الناصر قصيدته المشهورة:

قتلناك يا جبل الكبرياء

وآخر قنديل زيت

يضيء لنا في ليالي الشتاء

وآخر سيف من القادسية

قتلناك نحن بكلتا يدينا

وقتلنا المنية

لماذا قبلت المجيء إلينا؟

فمثلك كان كثيرا علينا.

وكتب الدكتور عبد العزيز كامل في نفس العدد من مجلة الهلال تحت عنوان "الإسلام عند جمال عبد الناصر" ليقول: "هذا الإيثار والحب كان المحور الرئيسي في حياة الرئيس، آثر وطنه الكبير .. آثر العطاء على الأخذ .. والتعب على الراحة .. والنضال على المهادنة .. وحل قضايا الحياة اليومية للملايين .. سعادته من أن تشيع السعادة وراحته في أن يستريح الناس". ثم واصل حديثه بوصية أوصاه بها عبد الناصر في إحدى مقابلاته له إذ قال عبد الناصر: "من اليسير أن نكتب ومن العسير أن نطبق ذلك على الناس فإنك قد تجد السوء ممن تنتظر منه التعاون والخير فلا تجعل ذلك يصرفك عن هدفك" ثم يقول: "لقد كان عبد الناصر يعيش الإسلام في نفسه، في زهده وتواضعه، في إعادة الدين إلى بساطته وإلى تطبيقه في حياته اليومية على نفسه وعلى الناس، كان متخففا في طعامه، طاهرا في بيته وشرابه وأهله ... كان الإسلام عنده إسعاد الناس".

ثم كتب الشيخ أحمد حسن الباقوري في نفس العدد "إن في عبد الناصر جوانب كثيرة كبيرة موصولة بعقل ذكي ونظر بعيد فهو أهل لكل صفة كريمة تسبع عليه ولكل كلمة خير تقال فيه فالذين يرونه شجاعا ومصلحا لا يعدمون لكل صفة من هذه الصفات أصولا تستند إليها وشواهد تدل عليها".

وكتبت السيدة سهير القلماوي تحت عنوان "الثورة الناصرية في الثقافة" في نفس العدد "ولعل أهم ما قدمته الثورة الناصرية للشعب في ميدان الثقافة والفن هي الكرامة .. كرامة الفنان فقلدته أرفع الأوسمة وأسمى الجوائز وكرامته في كل ميدان وبكل وسيلة، أما المناخ الذي تتنفس فيه الفنون ومن أخطرها الكلمة فقد هبت عليه ريح اقتلعت كل المقاييس القديمة وإذا الكلمة تعبير حر لا يلقى في سبيلها الكاتب عنتا ولا اضطهادا، كم ذا ملئت السجون بأصحاب الكلمة الشريفة!! كم ذا هدد الكتاب والشعراء في أرزاقهم في عهد الملكية!! أما الكلمة في الثورة الناصرية فهي التعبير الحر عن الفكر الملتزم بقضية الشعب، ولم تقف الثورة ضد أي فكر إلا الفكر المقوض لمكاسبها أو المخرب لخطواتها المنتصرة في سبيل كرامة الكلمة المعبرة عن الشعب، يمكن أن يقف القلم إذا رؤي ضرره ولكن صاحبه لا يضار بسبب الكلمة، والكلمة الشريفة مهما تكن الزاوية التي ترى منها صالح الشعب فإن لها المجال لأن تعبر ولأن تبني قضايا الشعب بأي وسيلة تراها".

وقال "صالح جودت" في قصيدة بعنوان "بعد الوداع":


هوى الذي كان ارتفع السها
وانهار من كان كشم القلاع
إرادة الله .. وما جهدنا
إزاءها إلا رضا وانصياع
إرادة الله قضت أمرها
ونهجه أولى بكل اتباع
جمال قد أرسى لكم نهجه
ونهجه أولى بكل اتباع
يا زورق الأحلام قم وانطلق
وانشر على مد الحياة الشراع
وسر على درب جمال ولا
تهن وضاعف من خطاك السراع
مسيرة الثورة لا تنتهي
أما نعي الملاح في الغيب ناع
فكلنا ملاحها .. كلنا من
غرس هذا العبقري الشجاع


وكتب "أحمد زين" يوم 29 – 9 – 1970 في الأخبار يقول: "لقد أعطى عبد الناصر الأرض للفلاح وللعامل المصنع، وللجيل الجديد العلم والنور مجانا، ولأول مرة تساوت الفرص وقلت الفوارق وأحس كل فرد بالحرية الحقيقية .. ماذا يستطيع القلم أن يكتب؟ أن المجلدات الضخمة تعجز عن التعبير فما بالك بالكلمات؟! .. هل تستطيع أن تتحدث عن البسمات التي أدخلها على القلوب البائسة؟ هل يمكنها أن تتحدث عن الآمال التي وضعها في القلوب البائسة؟ هل يمكنها أن تصنف فرص العيش التي توفرت والحياة التي تحققت؟".

وكتب "أنيس منصور" في نفس العدد من الأخبار "أما ذلك اليوم الأسود يوم تنحي عبد الناصر عن الحكم فكان أتعس أيام الأمة العربية فقد أحسسنا جميعا بأننا يتامى، أما اليوم فإن عبد الناصر لم يتنح عنا بل وضعنا أمام إرادة الله، فلا شيء يعوضنا عن خسارته المروعة". ثم عاد ليكتب يوم 1- 10- 1970 "إننا في عصر ما بعد عبد الناصر نتكلم أكثر ونصرخ أكثر وهو لا يتكلم، ونخاف أكثر فقد كان هو الأمان وصمام الأمان، فاللهم ارحم عبد الناصر وارحمنا من بعده .. ومن أنفسنا".

وكتب "عبد الرحمن الشرقاوي" في نفس العدد "فالرجل الذي تلخصت فيه أحلام أمة بأسرها .. الإنسان الذي شكلت نبضات ملايين القلوب خطاه .. الزعيم الذي ارتبط اسم الوطن باسمه كما لم يرتبط اسم وطن بزعيم من قبل .. المعلم الذي عمر الوجدان بالثقافة والقيم الفاضلة ... الأب الذي ملأ القلوب الخائفة بالأمن ... الرائد الذي فجر من الجوانح عزة الكبرياء ... رجل الدولة الذي فرض على عالمنا هيبة العرب .. الأب الذي شعر أبناء الوطن في ظلاله بالطمأنينة والثقة في المستقبل .. الأخ الذي جعل حياته كلها آثارا نبيلة من نضال جبار لا يهدأ حتى ينتصر الحق ويسود العدل ...".

وكتب سيد مرعي في الأهرام 1/ 10/ 1970 يقول تحت عنوان "كلمة وفاء" "إلى روحك الطاهرة يا من حررت ملايين الفلاحين المصريين، يا من أدركتهم بعد شقاء آلاف السنين فجئتهم في موعدك وكسرت عن أيديهم الأغلال والقيود وأطلقت فساروا وراءك على أشرف طرق .. لا زالت ماثلة أمامي صورتك بين الفلاحين في منطقة دميرة توزع عليهم وثيقة تحررهم وتملكهم الأرض التي عاشوا عليها عبيدا لها فأصبحوا بفضلك أسيادا، ثم في منطقة الزعفران وأنت تواصل نفس الرسالة وكانت البلاد تحتفل بالعيد الأول لثورتها التي قامت بقيادتك، إنك لم تتخلف عن رد حقوق الفلاحين إليهم فبعد ستة أسابيع من قيام ثورتك أعلنت قانون الإصلاح الزراعي وفي عيدها الأول قمت بتوزيع الأرض على الفلاحين .. وسيظل دائما عبد الناصر هو أسلوبنا في الفكر وهو مصدر الأمل ومفجر طاقات العمل".

وكتب نجيب محفوظ في أهرام 2/ 10/ 1970 حوارا تحت عنوان "كلمات من السماء" ..

- حياك الله يا أكرم ذاهب.

- حياكم الله وهداكم.

- إني أحني رأسي حبا وإجلالا.

- تحية متقبلة ولكن لا ننسى ما سبق من قولي "ارفع صوتك يا أخي".

- نحن من الحزن في ذهول شامل.

- لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظائم الأمور.

- يعزينا بعض الشيء أنك إلى جنة الخلد تمضي.

- وسيسعدني أكثر أن تجعلوا من دنياكم جنة.

- إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكرى.

- لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدي وهما "الميثاق" و "بيان 30 مارس".

- وراءك فراغ لن يملأه فرد.

- ولكن يملأه الشعب الذي حررته.

- سيبقى ذووك في صميم الأفئدة.

- أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء.


ونشر الأهرام في 2/ 10/ 1970 أن مجلس إدارة الأهرام قرر أن يتعهد الفكرة التي دعا إليها توفيق الحكيم بإقامة تمثال عبد الناصر وقد نشر توفيق الحكيم بيانا قال فيه: "لقد جسد الشعب فيك صورة حريته لقد جعل منك تمثال الحرية لنا فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا في ميدان التحرير ليشرق على الأجيال ويكون دائما رمزا للآمال وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة، لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يقيمه". وكانت السيدة أم كلثوم قد اقترحت أن يطلق على "السد العالي" اسم "سد ناصر" كما كان يطلق على بحيرة ناصر تخليدا لذكرى الرجل الذي بنى السد وصنع البحيرة.

ونشرت "رويتر" تعليقا لمناحم بيجن زعيم كتلة جحل في إسرائيل قال فيه "إن الرئيس عبد الناصر كان أخطر أعداء إسرائيل، إن وفاة عبد الناصر تعني وفاة عدو مر، إنه كان أخطر عدو لإسرائيل ولهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في حديث النفاق الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدرته وحكمته وزعامته ..." ولعل بيجن كان من القليلين الذين صدقوا مع أنفسهم فلم يغير لون جلده بمرور الوقت كما تفعل الحرباء.

وبعد هذا الذي قرأت لم يعد في استطاعتي أن أقرأ أكثر ولا أن أكتب أكثر!!

وتوقفت عن القراءة والكتابة وجمعت ما أمامي من أوراق وأعدتها إلى المكان الذي كانت فيه.

وأخذت أقارن بين هذا الذي قيل بالأمس، وما يقال اليوم .. وهالني ما وجدت!!

وذرفت بعض الدموع .. بعضها على جمال .. وأكثرها على وفاء الرجال !!

وشعرت في نفس الوقت بالقلق عما ستكتبه الأقلام المارقة الآن وفي كل أوان عن الحكام وأصحاب الصولجان لو تغير اتجاه الريح في يوم من الأيام، أو إذا وافاهم الأجل بعد عمر طويل .. فالموت حق على الجميع، بل هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة!!!

وفي الوقت نفسه نظرت إلى صفحات التاريخ التي نتداولها بين وقت وآخر بين الشك والارتياب .. فربما تكون أقلام الأمس التي كتبت ودونت شبيهة بأقلام اليوم التي تغيرت وتبدلت !!!

وأقول ربما ... لأنني لم أصل بعد إلى حد اليقين !!!

الباب الخامس: قضايا تحتاج إلى إيضاح

الفصل الثاني عشر: الليلة العصيبة

وحان وقت الإيضاح – علاقة المؤسسة العسكرية بالقيادة السياسية – المؤسسة العسكرية أصبحت ورما داخل الدولة – النكسة – العدوان على الشرعية – تورطات – تجاوزات – القرار الحاسم – محاكمة عامر في منشية البكري – تصفية منزل الطحاوي – تحديد إقامة عامر – ومات المشير – سقوط دولة المخابرات.

لم الحديث والإيضاح الآن؟

مر على الليلة العصيبة التي سوف نتحدث عنها أكثر من ستة عشر عاما بالتمام والكمال، كانت الليلة ليلة 25/ 26 أغسطس 1967 وفيها تم نزع سلطات المشير عبد الحكيم عامر وزالت عنه كل صفاته الرسمية، ولم يكن تنفيذ ذلك بالأمر السهل عن طريق إجراءات عادية خاصة بعد النكسة الخطيرة التي حلت بالبلاد والتي تسبب فيها "القيادة العسكرية" وعلى رأسها القائد العام للقوات المسلحة الذي هو المشير عامر، كانت الهزيمة وحدها كافية أن تسهل أمر إبعاده وتنحيته ولكن لم يقبل المشير عامر – حتى والآلاف من أفراد القوات المسلحة يذبحون ويؤسرون في سيناء أو يموتون عطشا – أن يتخلى عن منصب قيادة القوات المسلحة بل لم يقنع بمنصب نائب رئيس الجمهورية الذي عرضه عليه عبد الناصر في ذلك الوقت، بل أصر رغما عن كل شيء أن يظل محتفظا بكافة مناصبه وسلطانه معتمدا في ذلك على أفراد قيادته العسكرية التي ساندته دوما في اعتداءاته المتكررة على السلطة الشرعية قبل النكسة والتي أصبحت معه في سفينة واحدة بعد النكسة إن تركها قائدها غرقت بمن فيها وحينئذ يصبح وضعهم في قفص الاتهام سهلا ميسرا، فالخوف من المصير جعلهم يتكتلون وراءه مما جعله يتصلب في موقفه ويعلن العصيان.

وبالرغم من أن القوات المسلحة فقدت كل شيء في سيناء إلا أنه جمع أعوانه من الضباط في منزله بمحافظة الجيزة لا يغادرونه ليل نهار بل شدد وكثف الحراسة على هذا المنزل "بحرس خاص" تكون من وحدات الشرطة العسكرية والعربات المصفحة كما أحضر من بلدته "أسطال" بمحافظة المنيا أكثر من 300 فرد مدني معظمهم من الفلاحين لتعزيز الحراسة على منزله، وأصبح المكان بمن فيه "ورما" خارجا على "الشرعية القائمة" والأخطر من ذلك أن الغالبية العظمى من وحدات وأفراد القوات المسلحة كانت متعاطفة معه وأذكر أنه بعد تعييني وزيرا للحربية بعد النكسة كيف كانت صور المشير عامر معلقة في الوحدات رغم زوال سلطاته الرسمية عنه ولم يكن أي سلطة في البلاد بقادرة حينئذ على أن تعطي الأوامر بإزاحة صورة الرجل الذي لم يعد له صفة رسمية توجب استمرارها في أماكنها، كما أذكر أنه في أول مؤتمر للقادة الكبار عقدته في مكتبي بحضور الفريق محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة والفريق عب المنعم رياض رئيس هيئة أركان حرب أن كنت أعطي تعليماتي بخصوص موضوعات على جانب كبير من الخطورة: الموقف الراهن، إجراءاتنا في المدى القريب، التسليح، إعادة تنظيم القوات، أوضاعنا في اليمن، علاقاتنا العربية .. أقول وسط كل هذه الموضوعات الخطيرة تساءل أحد القادة الكبار عما إذا كان "من الممكن تلقي توجيهات بخصوص استمرار وضع صورة المشير في الوحدات"؟! كان الرجل وهو يوجه سؤاله يعلم تماما حساسية ما يطلب الإجابة عنه، ولما لم يكن من السهل في ذلك الوقت معرفة "الموطئ الصحيح للقدم" تظاهرت بالغضب وأجبت "بأه يا أخي نحن نتكلم عن هذه الموضوعات الخطيرة ثم يأتي سؤالك عن هذا الموضوع الفرعي؟!" وكتب لي "عبد المنعم رياض" على ورقة صغيرة دفعها لي "الحمد لله لقد تخطينا أول حفرة".

إذن لم يكن الأمر سهلا ولا عاديا، وخشية أن نستطرد في الموضوع دون التمسك بالتسلسل المعقول الذي لا بد وأن يعرض به نتوقف هنا عند هذا الحد.

ونعود إلى شاغلنا الأصلي: لم الإيضاح الآن؟ لم التحدث بعد فترة ستة عشر عاما في هذا الموضوع الحساس علما بأنني كنت أعتذر دائما عن الخوض في مثل هذه الموضوعات من قبل؟! وهناك دوافع كثيرة حتمت ذلك:

  • فقد مرت تلك الفترة التي خيل لي أن الغالبية العظمى أصيبت بظاهرة "كتابة المذكرات" أو "التذكر" أو "الذكريات" وكانت الجهود المحمومة قد ركزت على عبد الناصر وفكره وعقيدته لتصيبها في مقتل، كانت الثورة المضادة قد خاضت حربا غير مقدسة ضد كل ما فعله عبد الناصر طوال ثمانية عشر عاما حافلة بالأحداث وفضلت في ذاك الجو المشحون الذي غاب منه جانب العقل أن أركز على موضوعات أكثر أهمية مثل أضواء على النكسة وحرب الاستنزاف، حروب عبد الناصر، مع عبد الناصر الأمن العربي في مواجهة الأمن الإسرائيلي ... إلخ كلها كتب صدرت لي في تلك الفترة الحزينة من تاريخ مصر، وحتى لا أشارك في موضوعات فرعية من السهل أن تكشف عن زيفها الأيام.
  • ونشر في هذا الموضوع بالذات كتب عديدة ومقالات كثيرة وتطوع من يعرف ومن لا يعرف بذكر ما حدث مؤكدا على أن ما يقوله هو الحقيقة الكاملة علما بأنه لم يكن شاهدا على ما حدث، ولا طرفا في الحوادث ولا صانعا لها، وكنت أدهش حقيقة من قدرة البعض على صياغة الأحداث وتلوينها بصورة أبعد ما تكون عن الحقيقة.
  • ثم رأيت أن بعض الذين كانوا على قرب من مركز الأحداث اهتموا بالتأريخ لأدوارهم وصوروا على أنهم كانوا هم "كل شيء". حتى عبد الناصر نفسه ظهر إلى جانبهم وكأنه لا حول له ولا قوة، فهم المخططون وهم المستشارون بل هم المنفذون، وظهر من خلال ما كتبوه أن عبد الناصر لم يكن لا صاحب قرار أو نفوذ أو سلطان، فهم الذين حركوا كل شيء، والشيء الغريب أنه بالرغم من بعد هذا عن الحقيقة إلا أن الأكثرية صدقت وسلمت بما قيل وأخذته على أنه حقيقة لا رجعة فيها، وقد شارك في هذا وللأسف الشديد بعض الرجال والقادة الذين لم يتورع البعض منهم عن الاعتداء على الحقيقة والانتقاص منها أحيانا أو الإضافة إليها أحيانا أخرى.
  • ثم رأيت بعض المؤرخين يتقدمون الصفوف ليكتبوا ويحللوا عن وقائع معينة صانعوها ما زالوا على قيد الحياة، وهؤلاء قد شاهدوا الحدث وعاينوه وشاركوا فيه إلا أن هؤلاء المؤرخين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن المصدر والمنبع للأخذ منه، ثم محاولة التثبت من ذلك من آخرين، أبدا لم يحدث شيء من هذا، فمن قال إن "المشير" قتل ثم لم يكتف بذلك بل استنتج طريقة القتل ووسيلته، وبنى على ذلك قصصا وقدم هذا كله على أنه "تاريخ" ومن صور ما حدث بين "عبد الناصر" و "عامر" على أنه صراع على السلطة علما بأن ما حدث كان عدوانا على الشرعية التي حاولت – ولديها كل الحق – أن تعيد الأمور إلى أصلها "وتصحيح" الأخطاء الكبيرة التي سببت النتائج الوبيلة، ومن أطلق الصفات الرذيلة على الجميع بعد أن خلع ثوب العلم وارتدى ثياب النفاق وتهيأ وتجهز ليوزع أكبر قدر من المال ولو كان ذلك على حساب الحقيقة والصالح العام.
  • ثم الأخطر من كل هؤلاء "أعداء تظاهروا في ثوب الأصدقاء" وهؤلاء وهم يدافعون عن مسئوليات لم يحسنوا أداءها، وإبعاد الاتهامات صريحة تحيط بهم، وتوجيها لسير الأحداث إلى وجهة تطمس الحقيقة .. أقول إن هؤلاء جسموا صغائر الأعمال التي قاموا بها حتى يتستروا على حجم الخطايا التي ارتكبوها، وكتبوا عن إيجابيات فرعية تكتيكية ليخفوا بها هزائم رئيسية استراتيجية!!

إزاء كل هذا الذي حدث اهتزت ثقة الرأي العام فيما يقال، وزهد الناس في سماع المزيد من الأكاذيب والافتراءات خاصة بعد أن رأوا الكبار ينزلون إلى مستوى الصغار، وهنا تريثت الأقلام الحاقدة والجهود المحمومة مما أوجد مجالا لكلمة الحق أن تقال وربما تسمع في نفس الوقت.

وأحب أن أحدد موقفي من البداية، فإنني أعترف أنني لست ملما بتفاصيل العلاقة المعقدة التي كانت بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر ولذلك فلن أخوض فيها إلا بالقدر الذي أعلمه تمام العلم، ولكن يمكنني – وبكل ثقة – أن أتحدث عن تلك الليلة العصيبة بتفاصيلها لأنني كنت مع آخرين شهودا على أحداثها بل مشاركين في صنعها، فلم يكن ما حدث في تلك الليلة جهدا قام به فرد واحد – كما جاء في بعض الروايات – ولكن الحدث تم بجهود مشتركة بذلت قبل حدوثه بوقت ليس بالقصير وظلت هذه الترتيبات – حفاظا على السرية – محصورة في نفر قليل ممن شاركوا في إعدادها.

هؤلاء المشاركون لم يكونوا "جماعة واحدة أو شلة متضامنة" ولكنهم كانوا جميعا ممن يعملون مع عبد الناصر والذين كانت تربطهم به علاقة العمل أو الحب والولاء أو الإيمان بمبادئه، أقول هذا بالرغم من أن كثرة المشاركين حوكموا بعد ذلك فيما سمي "بأحداث مايو 1971" والذين أطلق عليهم "مراكز القوى" وبالرغم من أن هذا حدث لهؤلاء فإنهم لم تضمنهم "جماعة أو شلة واحدة" بل كانوا على الأصح متناقضين ولعل هذا التناقض هو الذي جعل هذه الجماعة تصبح فريسة سهلة للجانب المتربص الذي كان يعرف تماما حقيقة العلاقات القائمة بين هؤلاء فاستغل ذلك بذكاء في القيام بالثورة المضادة على مبادئ عبد الناصر بل بلغ تناقض هؤلاء المشاركين قمته حينما كان البعض منهم في قفص الاتهام والبعض الآخر كان خارج القفص لا يدخر جهدا في إثبات الاتهام الظالم بل شارك في الحملة المسعورة على عبد الناصر نفسه بطريقة أو أخرى موجها سهامه إلى "جماعة مايو" وإن كان يعني ويقصد توجيهها إلى "عبد الناصر" وربما كان الدافع لهذا الالتواء إبعاد الحروجة أو ربما بقية من حياء.

وبالرغم من ذلك كان هناك دافع مشترك بينهم للمشاركة في أحداث تلك الليلة وإن لم يكن بينهم اتفاق مشترك على هذه المشاركة إذ دخل هؤلاء المشاركون في العمل في أوقات متفاوتة متتالية، كان الدافع المشترك بينهم أنهم هالهم الموقف الذي أصبحت فيه البلاد بعد النكسة مما كان يحتم "تصحيح المسار" ولم يكن هذا ممكنا إلا "بتنحي عامر" عن السلطة أو على أقل تقدير بإبعاده عن القوات المسلحة، ولم يكن هناك لتنفيذ ذلك إلا طريقان: طريق "الشرعية" بأن ينفذ "عامر" قرار القيادة السياسية ولكنه أبى ورفض وإزاء ذلك لم يكن هناك إلا الطريق الآخر وهو استخدام القوة لإعادة "الشرعية" لممارسة سلطاتها بالطريقة السلمية، كان من غير الممكن أن تستمر علاقة "المؤسسة العسكرية" بالدولة كما كانت قبل النكسة بل كان من الواجب إعادتها مرة أخرى لتعمل في إطار "الدولة" لتنفذ أهدافها وتحقق استعادة الأراضي المغتصبة فما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة.

العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية

والعلاقة بوجه عام بين القيادتين علاقة معقدة وبالغة الأهمية خاصة في البلاد النامية التي تحدث فيها التغييرات الداخلية عادة باستخدام القوات المسلحة والتي لا يتحدد فيها أسلوب نقل السلطة بطريقة تمنع الهزات والرجات، إن إخلال التوازن في العلاقة بين القيادتين يتسبب في مخاطر كثيرة تؤثر على الأمن القومي للبلاد مما يحتم معالجة الموضوع معالجة حاسمة وحكيمة وواضحة.

وإيجاد التوازن أمر صعب إذ تتعدد مؤسسات الدولة التي لا تقل إحداها أهمية عن الأخرى ولكن على هذه المؤسسات أن تسير داخل إطار واحد في خطوات متزنة ثابتة وإلا تعثرت الدولة كلها وترنحت وهي تتصارع في غابة السياسة الدولية المليئة بالذئاب والثعالب، فتحقيق التوازن بين مؤسسات الدولة تجعل منها "أوركسترا" واحدا متناسقة الأنغام بالرغم من أنه يتكون من آلات موسيقية متعددة لكل منها نغمه الخاص.

وبالرغم من أن هذا مرغوب فيه إلا أنه صعب كما سبق القول ويزداد الأمر صعوبة حينما تقوم القوات المسلحة بالتغيير وحينما يكون لقائدها العام دور بارز في إحداث هذا التغيير، فما لم يتدارك الموقف من أول الأمر تتفاقم المشكلة مما يؤدي إلى ازدواجية خطيرة ينهار من جرائها الإطار الصحيح الذي ينظم السلطات داخل الدولة مما يهز "الشرعية" من أساسها.

فحينما تولى المشير عامر قيادة القوات المسلحة عقب قيام الثورة كان هذا الإجراء يتفق وطبيعة الأشياء، فالثورة أي ثورة – لها الحق في تأمين نفسها خاصة في القوات المسلحة التي يمكن أن تتجه إليها جهود الثورة المضادة إن هي فكرت في استعادة السلطة والمشير عامر كان أهلا للقيام بهذا الواجب فشخصيته تتميز بالتسامح والدقة والإنسانية إلا أن علاقاته الخاصة كانت ترجح انضباطه الذي من المحتم أن يكون صفة مميزة لمن يتولى قيادة رفيعة كتلك التي كان يتولاها، ثم فوق كل ذلك كان عامر هو الشخص الأقرب إلى قلب عبد الناصر قائد الثورة وزعيمها، ولقد قام المشير عامر بتحقيق هذا الواجب في يسر وكفاءة حببت فيه القوات المسلحة وفي الوقت نفسه زادته قربا من الرئيس مما أثار حفيظة بعض الزملاء، وغيرة بعض الأصدقاء فتسبب عن ذلك صراعات وخلافات كانت تحسم دائما لصالح المشير عامر(1)

ولكن أن يستمر "عامر" بعد أن حقق هذا الواجب في تولي القيادة الفعلية للقوات المسلحة فهو أمر ما كان يجب أن يحدث خاصة وأن سياسة القاهرة الوطنية في ذلك الوقت أثارت عليها الاستعمار، وأصبح الأعداء يتكاثرون وهم يواصلون الليل بالنهار للكيد والتدبير بل اقتضت مصالح الجمهورية في ذلك الوقت نشر بعض الوحدات المسلحة خارج الحدود مرات متعددة وفوق كل ذلك كانت هناك إسرائيل تتحين الفرصة لتنقض، ومعنى هذا أن القوات المسلحة لا بد وأن تكون على أعلى مستوى من ناحية الكفاءة القتالية وهذا يحتاج إلى نوع خاص من القيادة يتصف إلى جانب الكياسة والليونة بالمعرفة العملية العميقة بأصول الحرب وما لحقه من تطور الأمر الذي لم يكن متوفرا لدى المشير فإذا أضفنا إلى ذلك إفراطه في تغليب العامل الإنساني في المعاملة وتودده الذي يتميز بالطابع السياسي لعلمنا مقدار ما أصاب معايير الانضباط من سلبيات اهتز معه الضبط والربط وانعدم الاحترام الواجب بين الرئيس والمرءوس وتحطمت سلسلة القيادة وهي بمثابة العمود الفقري للقوات المسلحة، وقد لمس الجميع ذلك وتحدثوا فيه بل كانت كل قيادات القوات المسلحة راضية عنه تسايره وتشجعه دون أن يرتفع صوت واحد يحذر أو ينذر.

ولقد كان من الواجب تنحية "عامر" عن قيادة القوات المسلحة عقب العدوان الثلاثي عام 1956 وقد كان هذا ممكنا حتى ذلك الوقت في يسر وسهولة لأن إدارة المعركة كانت في مستوى مقلق ولولا المهارة السياسية التي أديرت بها دفة الأمور ما كان نصر عام 1956، وإذا كان التغيير لم يتم بعد العدوان الثلاثي ربما للشعور السائد في ذلك الوقت بأن الأمور قد فاجأتنا وداهمتنا فإنه كان من اللازم إحداث هذا التغيير بعد جريمة الانفصال بين سوريا ومصر عام 1962 خاصة وأن المشير عامر كان هو المسئول عن إدارة الأمور المتعلقة بالوحدة بل كانت كل الأمور تدار بواسطته في الإقليم الشمالي حيث أعطيت له اختصاصات رئيس الجمهورية.

وربما منذ ذلك الوقت بدأ الصراع بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، كان صراعا خفيا يدور بينهما ولا يلمسه إلا رجال المطبخ الداخلي للرجلين مع حرصهما على التظاهر أمام الرأي العام بمظاهر الود والإخاء وقد دفع هذا المشير عامر إلى أن يتخذ من الترتيبات التي تجعل من الصعب التخلص منه في المستقبل كما تم التخلص من الزملاء الآخرين، وهنا لم يتقيد في اختيار معاونيه فأسقط من حسابه قواعد الاختيار المتعارف عليها مما كان له أثره في نكسة 1967 دون شك، لم يعد مهما العلم أو المعرفة بل لم يعد مهما توفر الخلق أو السمعة الطيبة أو القدوة الحسنة، ولكن كان الأهم من كل ذلك أن يتم الاختيار على أساس الولاء لشخصه ولأعوانه، كانت المجموعة المحيطة بالمشير كافية للإساءة إليه بالإفراط في اللهو وأسباب المتعة، فكانت الألسن تتحدث عن إفراط بعض كبار رجال القيادة العامة للقوات المسلحة في علاقاتهم الجامحة وسهراتهم الحمراء مما كان محل تحقيق السلطات المعنية في بعض الأحيان، وكان المفروض في هؤلاء أن يكونوا قدوة لغيرهم من الضباط، ومن الملفت للنظر أنه جاء وقت كان ثلاثة من القيادة العامة متزوجين من فنانات: المشير عامر وقد تزوج من السيدة "برلنتي عبد الحميد" زواجا عرفيا، وعلي شفيق وقد تزوج من السيدة "مها صبريعبد المنعم أبو زيد وقد تزوج من السيدة "سهير فخري" والتي كانت متزوجة من قبل من الأستاذ محمد كامل حسن المحامي وهي صديقة لبرلنتي عبد الحميد وكانت أول من عرف بزواجها من المشير (2)

وأغدق "عامر" على ضباطه دون حساب وفتح لهم أبوابه وآذانه لاستقطابهم وقد نجح المشير في تحقيق ذلك إلى حد كبير وفي وقت قصير بحيث إن عبد الناصر أصبح بمرور الوقت غير قادر على تغيير المشير حتى لو رغب هذا التغيير.

وليس معنى هذا أن محاولات لم تبذل لتطويق هذا الموضوع فعند تشكيل مجلس الرئاسة كمحاولة للقيادة الجماعية بعد الانفصال بدأ المجلس يبحث في الحد من سلطات المشير عامر بعد فشله في إدارة الأمور والذي أدى إلى وقوع الانفصال وبأفراد من مكتبه أثناء وجوده هناك وقد ظهر مقدار عجزه عن التصرف إزاء الأحداث المؤسفة كان مجلس الرئاسة قد فكر في أن تكون سلطة تعيين ونقل قادة الكتائب والألوية في القوات المسلحة من اختصاصه، وقد أعد عبد الناصر القرار بنفسه في نوفمبر 1962 ولكنه لم يحضر الجلسة التي ناقشته بحضور عبد الحكيم عامر الذي طالب بتأجيل مناقشته وأيده في ذلك كمال الدين حسين (3)

إلا أن باقي أعضاء مجلس الرئاسة أصروا على مناقشته ووافقوا على القرار وخرج عامر غاضبا من الاجتماع وكتب استقالته وسافر إلى مطروح دون أن يبلغ أحدا من زملائه، كانت الاستقالة تتحدث عن الديمقراطية وضرورة العودة إلى نظام الأحزاب ومن الواضح أن عامر لم يكن مقتنعا بذلك ولكنه كان يقصد أن تكون استقالته تحت ستار قضية عامة وبسببها إذ أنه بعد أن سويت المسائل لم يعد إلى طلباته تلك إلا بعد نكسة 1967 حيث أعاد طباعة الاستقالة بواسطة زوجته برلنتي عبد الحميد وتم توزيعها على نطاق واسع.

إلا أن عبد الناصر ربما حرصا على تماسك القوات المسلحة، وربما عزوفا عن الدخول في معركة لا يضمن فيها الفوز رفض الاستقالة واحتفظ بعامر بالرغم من رد فعل ذلك على باقي أعضاء مجلس الرئاسة، وقد أخبرني كل من السيدين عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين بأن الرئيس عرض عليهما تولي أمور القوات المسلحة إلا أنهما اشترطا أن يقوم عبد الناصر أولا بإزاحة أعوان المشير من المراكز التي كانوا يتولونها.

عبد الناصر قادرا على التدخل في القوات المسلحة بأي صورة من الصور.

وقد بلغ هذا الوضع إلى درجة إصدار "عامر" لقرار نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رقم 168 لسنة 1966 بشأن إعادة تنظيم القيادة العليا للقوات المسلحة تقرر بموجبه.

1- دمج مكتب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ومكتب رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة في إدارة واحدة بالقيادة العليا للقوات المسلحة.

2- تنشأ إدارة جديدة تتولى أعمال الأركان حرب بالقيادة العليا برئاسة ضابط يسمى مدير الأركان بالقيادة العليا.

3- يستمر مكتب نائب القائد للشئون العامة في مباشرة اختصاصاته الحالية ويسمى مكتب نائب القائد الأعلى ويتبع مباشرة لنائب القائد الأعلى للقوات المسلحة.

4- تشمل القيادة العليا: نائب القائد الأعلى ومكتبه، مساعد نائب القائد الأعلى، رئيس هيئة أركان حرب، إدارة الأركان العليا.


وتصدر جميع مكاتباتهم معنونة برسم القيادة العليا للقوات المسلحة.

5- باقي أجهزة القوات المسلحة يعنونون مكاتباتهم برسم القيادة العليا للقوات المسلحة.

6- يتبع مدير الأركان وإدارته إلى رئيس هيئة الأركان ويعمل بتوجيهات منه.


7- يتخذ رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة الإجراءات التنفيذية ويصدر تعليماته بتنظيم واختصاصات إدارة الأركان بالقيادة العليا وأسلوب عملها.

وواضح من القرار تقليص اختصاصات رئيس هيئة أركان حرب ودمجه بمكتبه في مكتب نائب القائد الأعلى وعلاوة على ذلك إخراج مكتب نائب القائد للشئون العامة الذي يتولاه "المقدم شمس بدران" من سلسلة القيادة ليتبع مباشرة نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو عبد الحكيم عامر.

والشيء الغريب أن الجميع وافقوا ونفذوا عن طيب خاطر!!!

ثم عاد المشير ليصدر أغرب قرار غير دستوري يمكن أن يصدر عن جهة مسئولة وهو قرار نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رقم 367 عام 1966 في شأن تحديد اختصاصات ومسئوليات السيد شمس بدران وزير الحربية في نطاق القوات المسلحة:

مادة أولى: يتبع وزير الحربية أجهزة القوات المسلحة الآتية:

إدارة كاتم أسرار حربية

إدارة القضاء العسكري

إدارة المخابرات الحربية

إدارة الشئون العامة

إدارة التوجيه المعنوي

ويصدر بتحديد الاختصاصات والسلطات في كل منها قرار بالتفويض من نائب القائد الأعلى.

مادة ثانية: يختص وزير الحربية بكافة الشئون المالية والإدارية وشئون الخدمات الطبية والعلاجية وتتبعه الأجهزة الحالية التي تعمل من هذا المجال ويصدر بتنظيمها وتحديد مهامها وأسلوب عملها في نطاق القوات المسلحة قرار من وزير الحربية.

مادة ثالثة: تنقل تبعية الأجهزة المنقولة من وزارة الحربية إلى القوات المسلحة بموجب قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 117/ 1964 إلى وزير الحربية عدا الهيئة المصرية العامة للطيران (هذه الأجهزة هي:

مصلحة السواحل والمصايد وحرس الجمارك، المؤسسة الاقتصادية للقوات المسلحة، المؤسسة العامة للمحاربين القدماء، المؤسسة العامة للطيران عدا شركة الطيران العربية المتحدة، مكتب المستشار الصناعي بكلولون ومكتب المستشار الصناعي بموسكو، ومكتب التظلمات العسكرية).

مادة رابعة: وزير الحربية والأجهزة التابعة له بالقوات المسلحة هي الجهة المسئولة عن اتصالات القوات المسلحة بالوزارات والأجهزة المركزية للدولة وتتم عن طريقها. مادة خامسة: يلغي مكتب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة وتؤول كافة اختصاصاته ومهامه إلى مكتب وزير الحربية.

ويلاحظ على هذا القرار الخطير الآتي:

1- أنه صادر من القائد العام للقوات المسلحة لتحديد اختصاصات وزير من الوزراء وهذا من واجب القيادة السياسية ثم صدر القرار لشمس بصفته الشخصية، يعني لا تسري هذه الاختصاصات على أي وزير حربية يأتي بعده.

2- أن الأجهزة الخطيرة المتعددة والتي تم فصلها عن سلسلة القوات المسلحة القيادية أصبحت لا تؤدي دورها بطريقة سليمة لخدمة هذه القوات مثل إدارة كاتم أسرار والمخابرات الحربية والتوجيه المعنوي.


3- أن القرار ألغى مكتب نائب القائد الأعلى الذي سبق وتكون بموجب القرار السابق – من دمج مكتبي نائب القائد الأعلى ورئيس هيئة أركان حرب وتحولت اختصاصات هذا المكتب الملغى إلى مكتب وزير الحربية.

4- أن وزير الحربية أصبحت في يده كل وسائل السيطرة على ضباط القوات المسلحة دون رقيب فأصبح في يده وحده: تنقلاتهم وترقياتهم وإنهاء خدماتهم، الموضوعات الخاصة بالتأمين، الترفيه، النواحي المالية، العلاج، المكاتب الخارجية .. إلخ.


وصدر القرار دون تدخل من جهة من الجهات لتعديله بما يتفق والنظام المتعارف عليه في الدولة، أما قادة القوات المسلحة العظام فقد وافقوا ونفذوا ولم يعترضوا!!!

وكم عانيت من هذه القرارات بعد تعييني وزيرا للحربية بعد النكسة إذ كانت وجهات النظر كلها ما زالت متأثرة بالأوضاع السابقة ولما لم يكن في استطاعتي تصحيح الأوضاع فضلت ترك منصبي رغما عن المحاولات الكثيرة التي بذلت للضغط على بقائي ... وهذه قصة أخرى.

وسأحكي قصتين شاهدت وقائعهما بنفسي إحداهما تجسم طبيعة المشير والأخرى تصور طبيعة العلاقات بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم (4)

في أوائل 1965 وكنت سفيرا للجمهورية العربية المتحدة في بغداد حضر المشير عامر على رأس وفد إلى بغداد للزيارة وذلك ردا على زيارات متعددة قام بها الرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية وقتئذ إلى القاهرة، وقبل إتمام الزيارة حضرت إلى القاهرة للترتيب لها وأرسلت في الوقت نفسه إلى "المشير" مذكرة مختصرة عن الأوضاع في العراق، والموضوعات الهامة التي يمكن أن تثار، ومعلومات عن الشخصيات التي سيقابلها عند وصوله إلى بغداد، وذهبت لمقابلة المشير فاستقبلني ببشاشته ولطفه ورقته التي يعرفها عنه كل من احتك به، وسألته عما إذا كان قد قرأ المذكرة التي أرسلتها له؟! فقال: مذكرة إيه؟ لم تصلني مذكرات، واستدعى "علي شفيق" وسأله عن المذكرة فقال له: "آه دي وصلت من زمان" فرد عليه "طيب يا ... لم لم تعرضها علي؟!" وانتهى الأمر عند ذلك، وكان من ضمن البرنامج إقامة حفل استقبال كبير على شرف الزائر الكبير وهنا استدعى "عامر" "علي شفيق" المبلغ في لمحة عين وأنا في غاية الدهشة مما يتم، واعتذرت عن قبول المبلغ شاكرا وقلت سيادة المشير لا تحمل هم أي شيء، الماهية كفاية للصرف على مثل هذه المناسبات" فقال لي: "والنبي أنت ساذج وأول واحد يرفض، أنت حر".

وعند حضوره إلى بغداد نزل ضيفا على الحكومة العراقية التي أحاطت الزيارة بكل مظاهر التكريم والحفاوة وأقام المشير في قصر بغداد هو ومرافقوه، وفي الصباح الباكر لليوم الثاني من الزيارة اتصل بي تليفونيا في منزلي عضو السفارة الذي خصصته للإقامة مع الوفد في قصر بغداد وطلب مني الحضور فورا إلى القصر، ورفض الزميل أن يزيد حرفا واحدا على ذلك، وحينما وصلت إلى هناك كان أحد ضباط القصر في انتظاري على الباب ومعه عضو السفارة وسلمني مظروفا ذكر أن به أوراقا وجدوها متناثرة بالأمس على سرير المشير أثناء وجوده بالقصر الجمهوري ورأوا من الأمانة أن يعيدوها داخل مظروف مغلق، وفتحت المظروف وكدت أصعق!!! كان بداخله عدة تقارير اصطحبها المشير معه من القاهرة ليقرأها وهو في بغداد تمس وتسيء إلى العلاقة بين عبد الناصر وعارف وتتحدث عن عارف حديثا شائنا مشككا، كانت التقارير سرية للغاية ومع ذلك تركت هكذا دون اهتمام ليطلع عليها من يشاء!!! كان من المؤكد أن الرئيس عارف اطلع عليها وقد يكون المختصون – وهذا مؤكد – قد احتفظوا بصورة منها وأعادوا لنا الأصل!!!

وذهبت إلى المشير لأقص عليه ما حدث، لم ينزعج الرجل بل قابل الموضوع بمنتهى السخرية والاستهزاء!!! ولم يكن في يدي أكثر من أن أعنف المسئول عن جمع أوراق المشير ولما ذهبنا للاجتماع مع الرئيس عارف كان الرجل بادي التأثر وأخذ في حديثه يرد على ما أثير في التقارير – مما يؤكد اطلاعه عليها – وأخذ يحذر بين وقت وآخر ممن يحاولون الوقيعة بين بغداد والقاهرة.

وتذكرت هذه القصة بعد حدوث النكسة وإجراء التحقيقات بخصوص "قضية تآمر المشير وانحراف المخابرات" حينما تأكد للمحققين أن "عامر" كان يترك ملفاته "سري للغاية" والتي بها الخطط والتقارير والميزانية .. الخاصة بالقوات المسلحة في الفيلا التي كان ينفرد فيها مع زوجته "السيدة برلنتي عبد الحميد" في منطقة الهرم لكي يطلع عليها من يشاء!!!

لم تكن هذه نهاية مفاجآت تلك الزيارة إذ حدثت المفاجأة ليلة إقامتي حفل استقبال "المشير" كان الحفل كبيرا فخما أقيم في "دار السفير" بالوزيرية حضره أكثر من ألف مدعو من رجالات العراق وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي، ودعوت الرئيس عارف للحضور فوعد بذلك تكريما "للمشير" الذي يمثل "عبد الناصر" وعندما وصل ركب الرئيس عارف إلى دار السفير دعوت المشير – وكان بالداخل – لنخرج سويا لاستقبال الضيف الكبير وفوجئت بأنه يرفض ذلك رفضا باتا مصرا على الاكتفاء باستقباله في إحدى القاعات الداخلية في الدار، وهرولنا لاستقبال "عارف" الذي دخل معنا إلى الدار ليحيي المشير عامر حيث شاء أن يبقى، وبعد فترة من الوقت دعوت الجميع للخروج لتحية الضيوف في حديقة الدار إلا أنني فوجئت برفض المشير أن يغادر محله، ولم يجد الرئيس عارف بدا من أن يخرج وحده إلى الضيوف ونحن معه تاركين المشير حيث هو بالداخل مما أحدث اسيتاء عميقا لدى المدعوين الذين حضروا خصيصا لتحية مندوب عبد الناصر.

وكنا في موقف لا نحسد عليه وعجزنا أن نجد تبريرا لما حدث!!!

قصة تدل على أحد جوانب شخصيته رحمه الله.

والقصة الثانية حدثت يوم وفاة عبد السلام عارف في حادث الطائرة المعروف في أبريل 1966، كنت يومئذ وزيرا للإرشاد القومي واتصل بي الرئيس عبد الناصر تليفونيا في الصباح الباكر، كان الرجل شديد التأثر على وفاة عارف وأخبرني بأني سأسافر إلى بغداد كعضو في بعثة يرأسها المشير لتقديم التعزية الواجبة، وذكر لي الرئيس أن المشير سيحضر لمقابلته الساعة الحادية عشرة من هذا اليوم قبل السفر إلى بغداد وكان علي بناء على حديثه أن أمر عليه في منزله بمنشية البكري قبل ذلك بنصف ساعة للتحدث في أمر علاقتنا مع بغداد على ضوء التطورات المحتملة بعد وقوع الحادث، وذهبت في الموعد المحدد وكان لدى الرئيس كثير من المعلومات والتعليمات، كان مما ذكره "إننا لا نريد من بغداد شيئا إلا العلاقة الأخوية والكلمة الأخيرة ستكون لك عند حدوث أي تطورات هناك وأرسل لي بشفرتي الخاصة عن أي أشياء تريد إبلاغها أو أخذ الرأي فيها" وحان وقت حضور المشير واستأذنت من الرئيس لكي أذهب إلى المطار حتى أترك الرجلين وحدهما، إلا أن الرئيس استمهلني ومرت الدقائق ولم يحضر المشير في الوقت المحدد وعبد الناصر ينظر في ساعته وقد قطب جبينه وبدت الحيرة في عينيه، ولما تجاوز وقت التأخير الحد المعقول وقف الرئيس وهو يقول "أعمل إيه في المشير بتاعكم ... حتى الموعد الذي أحدده أصبح لا يحترم". وخرجت لأنتظر المشير في المطار لكي أسافر في صحبته إلى بغداد.

وفي بغداد حدثت قصة لا بد وأن تحكى.

كان الوفد الذي يصحب المشير يتكون من الأخوين فتحي الديب وعبد المجيد فريد علاوة على شخصي، وفي الطائرة فوجئنا "بعبد الحميد السراج" نائب رئيس الجمهورية أيام الوحدة إلى جوار عبد الحكيم عامر، وتعمد عبد الحميد أن ينفرد بالمشير طوال الرحلة ويبدو أنهما كانا يتحدثان في موضوع هام، وعند الوصول إلى بغداد وجدنا أن محاولات تبذل ليخلف الدكتور عبد الرحمن البزاز المرحوم الرئيس عارف إلا أن الأمور تطورت بعد ذلك ليخلف اللواء عبد الرحمن عارف أخاه في رئاسة الجمهورية وكان عبد الرحمن (أبو قيس) في زيارة لموسكو ولما يعد بعد إلى بغداد.

ولكن قبل أن تستقر الأمور إلى هذا الاتجاه كنا في حركة دائبة مع أصدقائنا في بغداد وكنت ألح على "المشير" في أن يستقبل الأخوة وكان يوافق على مضض وكأنه كان يضمر شيئا!!! رجعت إلى قصر بغداد في الليلة التالية لوصولنا حوالي منتصف الليل وهناك أخبرني القائم بالأعمال أنه أرسل برقية من المشير إلى الرئيس بحضور الأخ عارف عبد الرزاق (5) إلى بغداد في طائرة تصل فجر نفس اليوم لتولي السلطة إذ أن كل شيء جاهز ومرتب لذلك، وعرفت أن هذا تدبير عبد الحميد السراج وربما استقروا على ذلك قبل تركهم القاهرة.

كانت الأخبار التي وصلتني تعتبر كارثة، فإن حضور عارف عبد الرزاق من القاهرة هكذا دون ترتيب .. رغما عما قيل لن يمكنه من النجاح على الإطلاق، علاوة على أن "أبا رافع" لم يكن محل رضاء إخوانه الذين كانوا في السلطة فضلا عن رد الفعل المضاد له من الرأي العام بعد فشله في القيام بانتداب – وهو رئيس وزراء العراق وفي غيبة الرئيس عبد السلام عارف في أحد المؤتمرات في الخارج.

وذهبت مع القائم بالأعمال "إلى مبنى السفارة" وكانت في "كرادة مريم" وهناك اطلعت على البرقية التي أمر المشير بإرسالها، ولم أتردد أن أرسل برقية أخرى إلى "الرئيس" مقترحا إلغاء كافة الترتيبات لحضور "عارف" موضحا أن الأمور ستسير سيرها الطبيعي وأن غالبية الآراء اتفقت على تعيين عبد الرحمن عارف خلفا لأخيه وكنت أدعو الله ألا تحول الظروف غير العادية دون وصول البرقية قبل قيام الطائرة فجرا فكنا بذلك في سباق مع الزمن، إذ كان لا بد من "تشفير" البرقية في بغداد بشفرة مكتب الرئيس الخاصة التي كانت في جيبي والتي استلمتها يوم سفري إلى بغداد، هذا وحده يستغرق وقتا طويلا، ثم عند وصول البرقية إلى القاهرة كان لا بد من فك شفرتها ولن يتم ذلك إلا بعد وقت طويل أيضا، كان تقديري أن الأمور لو سارت في طبيعتها فإن وصول برقيتي إلى الرئيس سوف يستغرق ثلاث ساعات وهذا ما حدث فعلا، وحينما قرأ "السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات" البرقية أصابته الدهشة الشديدة وكانت المشكلة التي واجهته هي: هل يوقظ الرئيس من نومه في مثل هذه الساعة المبكرة وهو يعرف أنه يذهب إلى فراشه في ساعة متأخرة من الليل؟ ولم يتردد وأيقظ الرئيس إذ كان "عارف" قد تهيأ للسفر والطائرة جاهزة في مطار ألماظة ولم يبق على الفجر إلا ساعتان، وكان لا بد من قرار.

وحينما قرأ "سامي" البرقية على الرئيس أمر بإلغاء سفر "عارف عبد الرزاق" آخذا بوجهة نظري، علق الرئيس بعد ذلك على ما حدث أمامي بأنه كان يستبعد أن المشير يتخذ مثل هذا القرار ويرسل برقيته قبل أخذ رأيي في الموضوع كما نبه عليه ولذلك فإنه وافق على البرقية الأولى وحمد موقفي على أنني أرسلت برقيتي الثانية.

وفي الصباح استدعاني "عبد الحكيم عامر" لأتناول طعام الإفطار في حجرته بقصر الضيافة ولم أكن قد ذقت للنوم طعما طول الليل، وأثناء تناول الطعام كان الرجل يركز نظراته على وجهي في شك قاتل وسألني "أنت تعبان جدا ويظهر إنك لم تنم طوال الليل، كنت مشغول ولا إيه؟!" ورددت بكلمات غامضة إذ كنت أستعد للسؤال الحاسم، وجاء السؤال سريعا "يا أخي أنا أرسلت أمس للرئيس آخذ رأيه في موضوع هام كان المفروض أن يتم الآن ولكن القاهرة لم ترد علي بالنفي أو الإيجاب، أنا شامم إن واحد "ابن ..." عمل ملعوبا ألغى ما دبرناه".

ورددت عليه أيضا بجمل غامضة محاولا توجيه الحديث وجهة أخرى .. وانتهى تناول الطعام وبدأنا نعد أنفسنا لمهام اليوم الجديد ولم يعلم أحد بما دار ولا أظن أنهم يعلمون حتى الآن.

هكذا كان المشير مغامرا في كل شيء، متدخلا في كل شيء، مهتما بكل شيء عدا شيء واحد لم يلق اهتماما منه وهو الاطمئنان على كفاءة قواته المسلحة وقدرتها القتالية حتى يؤمن الأمن القومي للبلاد.

وبعد أن صورنا طبيعة العلاقات بين القيادتين السياسية والعسكرية وأعطينا فكرة عامة عن شخصية "المشير" رحمه الله لا بد وأن نحدد العلاقة الواجب تواجدها بين القيادتين والمتعارف عليها في الدول المستقرة (6):

  • الأمن القومي، وهو عبارة عن الإجراءات الشاملة التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية من مسئولية القيادة السياسية ومجاله الاستراتيجية العليا أو العظمى Grand Strategy ويصبح الأمن العسكري جزءا من الأمن القومي وهو من مسئولية القيادة العسكرية وبتوجيه وتحت إشراف القيادة السياسية ومجاله الاستراتيجي وهو فن إدارة المعارك لتحقيق الغرض من الحرب أو هي فن القيادة العسكرية أو باختصار فالقيادة العسكرية هي إحدى الوسائل المتيسرة لدى القيادة السياسية لتحقيق أهداف الدولة تأتمر بأوامرها وتنفيذ المهام التي تكلف بالقيام بها.

وفي حدود ذلك نحدد العلاقة بين القيادتين في الآتي:

  • إعلان الحرب وانتهاؤها وإيقاف القتال أو استئنافه من أعمال القيادة السياسية ومعنى ذلك أن توجيه الضربة الأولى قرار سياسي لأنها تعني إعلان الحرب.
  • للقيادة السياسية الحق في تحديد أغراض ذات أهمية استراتيجية خاصة ومن الواجب على القيادة العسكرية وضع ذلك في الاعتبار عند وضع الخطط وتوزيع القوات لمشكلة بها في العمليات إذ قد ترى القيادة السياسية في ذلك فائدة سياسية أو يمكن اعتبارها ورقة رابحة في أية مفاوضات تالية.
  • للقيادة السياسية حق التعيين والعزل للقيادة العسكرية وهذا أمر طبيعي يحدث في كل وقت ومكان، لأن القيادة العسكرية إذا حاولت تغيير القيادة السياسية فإن هذا يعتبر خيانة عظمى في حالة فشل المحاولة وقد يعتبر ثورة أو انقلابا في حالة نجاح المحاولة فتنشره وسائل الإعلام في صدر أخبارها تماما كما علمونا في الصحافة "إذا عض كلب رجلا لا يعتبر هذا خبرا صحفيا ولكن إذا عض رجل كلبا يعتبر هذا خبرا صحفيا".
  • للقيادة العسكرية أن تعترض على كل المهام التي تكلف بها – أو على بعضها، فإذا صرنا القيادة السياسية على المهمة مع استمرار عدم اقتناع القيادة العسكرية عليها أي على القيادة العسكرية – أن تترك موقفها لمن يقبل تنفيذ المهمة، ولكن إذا قبلت القيادة العسكرية القيام بالمهمة فإنها تصبح مسئولة عن نتائجها.
  • وزير الحربية مسئول مسئولية كاملة عما يجري في القوات المسلحة وهو ممثل القيادة السياسية في قمة الجهاز العسكري وعليه أن يقود جهازه ولا يسمح بحدوث العكس، ولذلك فإن الجميع بين منصبَي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة إجراء خاطئ وشاذ إذ يسقط رقابة الدولة الواجبة على وحداتها العسكرية ويجعل وزير الحربية ذا القبعتين دون رقابة على أعماله في واقع الحال، أقول هذا بالرغم من أنني كنت صاحب اقتراح الجمع بين المسئوليتين وأنا على وشك تركي لمنصبي كوزير للحربية للظروف الاستثنائية التي كانت سائدة كإجراء مؤقت يتناسب مع موقف معين ولكن استمرار هذا الوضع فيه خطورة أكيدة من "خروج" المؤسسة العسكرية عن إطارها المفروض أن تعمله داخله.
  • القيادة العسكرية خاضعة لرقابة الدولة من خلال مناقشة سياستها في المجالس المتخصصة أو في مجلس الوزراء وفي المجالس النيابية بل وفي الصحافة، كما يجب أن تخضع مصروفاتها لرقابة الأجهزة المختصة في الدولة شأنها في ذلك شأن الأجهزة الأخرى بغض النظر عن السرية حتى تتأكد الدولة من الإنفاق السليم الصحيح للموارد المتاحة، مع تفرغ القوات المسلحة لواجباتها دون أن يناط بها واجبات أخرى.
  • توفر القيادة السياسية المناخ السياسي الملائم لعمل قواتها المسلحة كما توفر لها الإمكانات المالية اللازمة لتوفير المعدات الملائمة وعليها ألا تتدخل في كيفية قيام القوات المسلحة بتنفيذ المهام الملقاة على عاتقها ولكن لا يمنع هذا من إبداء النصح وإعطاء المشورة.
  • تتم التعيينات في المناصب العسكرية الكبرى بتصديق وموافقة القيادة السياسية إذ يتوقف الأمن القومي للبلاد على حسن اختيار هؤلاء الأفراد.

علاقات واضحة متوازنة كما نرى ولكنها وللأسف الشديد لم تكن مرعية عند التعامل ووسط ذلك أمسكت بتلابيبنا حرب 1967 والتي انتهت بالنكسة.

النكسة


لن يكون قصدي – ولو للحظة واحدة – أن أتحدث عن النكسة وما حدث فيها إذ سبق أن ذكرت تفاصيل ذلك في كتابين صدرا لي وهما: كتاب أضواء على أسباب نكسة 1967 وعلى حرب الاستنزاف ثم كتاب حروب عبد الناصر، ولكن كل ما نقصده ذكر بعض الحقائق المتعلقة بالموضوع الذي نحن بصدده والتي قادت إلى الليلة العصيبة.

الحقيقة الأولى هي أن القرارات السياسية لم تصدر من خلف ظهر القيادة العسكرية وهنا لا بد وأن نفرق بين القائد السياسي والقيادة السياسية، فالقائد السياسي هو الرئيس الذي يمارس سلطاته بموجب الشرعية القائمة سواء كانت شرعية ثورية أو شرعية دستورية أما القيادة السياسية فهي المجموعة التي تعاونه في إصدار القرار، وفي حالتنا كان القائد السياسي هو عبد الناصر وكانت قيادته السياسية ممثلة في مجلس قيادة الثورة ثم في مجلس الرئاسة ثم أخيرا في اللجنة التنفيذية العليا، وكذلك الحال مع القائد العسكري وهو "عبد الحكيم عامر" والقيادة العسكرية المتمثلة في القادة الكبار في القوات المسلحة.

وكان عبد الحكيم عامر القائد العسكري ممثلا دائما في القيادة السياسية بصفتيه: نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، وكان يعتبر أقوى الأعضاء من حيث تجميع المسئوليات ومن حيث السلطات، ولا يمكن أن يخطر ببال أحد أن "عامر" كان عاجزا في أي وقت من الأوقات عن الاعتراض على أي قرار، وهنا يلاحظ ملحوظة هامة ففي الوقت الذي كان "عامر" لا يجد أي عقبات في أن يتواجد في القيادة السياسية فإنه كان في نفس الوقت يمنع القيادة السياسية من أن تباشر سلطاتها داخل القيادة العسكرية ويحول بينها وبين ذلك بكل الوسائل.

والدليل على أن القيادة العسكرية كانت على علم بكل ما يجري منذ بداية الأزمة أن خطابا بتاريخ 16/ 5/ 1967 وجه من الفريق محمد فوزي رئيس هيئة أركان الحرب بناء على أوامر من "عامر" إلى الجنرال "ريكي" قائد قوة الطوارئ الدولية رسالة بسحب قواته فورا من نقط المراقبة على الحدود الشرقية علما بأن هذا الموضوع ليس عسكريا بل كان المفروض أن يتولاه وزير الخارجية المصري وفعلا تولى وزير الخارجية الأمر مع يوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة الذي أصدر أوامره بسحب القوات يوم 17/5/ 1967، وهنا يجب أن نلاحظ كيفية صدور الأوامر داخل القيادة العليا للقوات المسلحة دون دراسة أو ترو لدرجة أنه بعد صدور الخطاب الأول إلى الجنرال ريكي بسحب القوات من الحدود الشرقية رأت القيادة إيقاف توجيه الخطاب إلى المرسل إليه ولكن كان الخطاب قد وصل فعلا إلى الجنرال "ريكي" دون النجاح في الحيلولة دون وصوله، ويلاحظ أيضا تجاوز القيادة العسكرية اختصاصاتها إلى مجالات أخرى الأمر الذي كانت قد اعتادت عليه منذ زمن طويل.

يعني كانت القيادة العسكرية تعلم وتنفذ دون أن تعترض أو تناقش!!!

والموضوع الأخطر هو موضوع غلق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، كان الغلق يعتبر من وجهة نظر إسرائيل بمثابة إعلام الحرب إذ أنها كانت قد أعلنت ثلاث حالات تعني من وجهة نظرها إعلان الحرب ضدها: اختراق حدودها وغلق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية وتغيير نظام الحكم في الأردن، هذا الموضوع ناقشته القيادة السياسية بطريقة سليمة داخل اللجنة التنفيذية العليا ووافق عليه جميع أعضاء اللجنة دون استثناء، ولما تساءل السيد صدقي سليمان رئيس الوزراء في ذلك الوقت عن تأثير ذلك على رد فعل إسرائيل رد عامر بحدة "لا يمكن لقواتي التي تمركزت هناك أن ترى العلم الإسرائيلي وهو يمر أمامها" وصدرت أوامر القيادة العسكرية إلى قائد قوات شرم الشيخ بغلق الخليج دون ذكر تفصيلات مبنية على دراسة ... المشير قال يغلق شرم الشيخ ... والقيادة تبلغ قائد شرم الشيخ بغلق الخليج وانتهى الأمر!!! تسبب عن هذه الطريقة "الببغائية" في إعطاء الأوامر تخبط قائد شرم الشيخ وتساؤلاته العديدة ووصلته الأوامر التفصيلية بعد ذلك بأيام!!!

الموضوع إذن نوقش في القيادة السياسية ووافقت عليه دون اعتراض أحد من الأعضاء وبحضور وموافقة القائد العسكري الذي اجتمع مع أعضاء قيادته العسكرية وأعطاهم التعليمات بعد أن كانت القوات قد تمركزت في مواقعها، ووافق الجميع وأصدروا التعليمات دون دراسة أو مناقشة، لم يعترض أحد ولم يناقش أحد!!

أقول هذا لأن الجميع بعد ذلك ودون استثناء أخذوا "يتفلسفون" ويتساءلون وينتقدون ويناقشون، وكانت المصيبة قد وقعت والكارثة قد حلت، فحرب الكلام أسهل وأيسر من حرب السلاح!!!

الحوادث التي ذكرناها تعني أن القائد العسكري كان على علم بتفاصيل تطور الأزمة السياسية وكان بدوره يطلع أفراد قيادته العسكرية على كل ما يجري، ولم يثبت أن أحدا اعترض أو ناقش، ومعنى ذلك أيضا أن القيادة العسكرية قبلت التصدي للمهمة ووافقت على تطور الأحداث، لو أنها اعترضت على ما يجري أو بعض ما يجري وأصرت القيادة السياسية على السير في طريقها كان على القيادة العسكرية أو من اعترض منها أن يتنحى ويستقيل ويذهب ويخلي محله لمن يرغب في التصدي والقيام بالمهمة، ولكن أما وقد وافقوا جميعا على القيام بالمسئولية فإنهم يتحملون نتائجها وتبعها.

الحقيقة الثانية: هي أن القيادة العسكرية حركت قواتها إلى سيناء وهي تعلم أن صداما أكيدا سيحدث مع إسرائيل، قيل كلام على أن القيادة السياسية كانت تتخذ خطواتها من باب "التهويس" وأنها لم تكن تتوقع أن قتالا سينشب وأن مفتعلة كان يراد بها مجرد الضغط السياسي.

ولنأخذ هذا على أنه حقيقة مسلمة – وإن كان الأمر على خلاف ذلك – ونناقشه على هذا الأساس، القوات المسلحة – بغض النظر عن أهداف القيادة السياسية – أصبحت في حالة تأهب كامل وتحركت من أماكنها في القاعدة عبر خطوط المواصلات إلى أماكنها تمركزها في الخطوط الدفاعية الأمامية وأصبح بينها وبين العدو في بعض المناطق مسافات لا تتجاوز 2 – 3 كيلو مترات، ما هي الترتيبات التي اتخذتها القيادة العسكرية لتأمين قواتها ضد أي إجراء مفاجئ يقوم به العدو خاصة بعد أن أصبحت قاب قوسين أو أدنى منه؟ ما هي الخطط التي أعدتها لمواجهة أي ظروف غير متوقعة؟ جائزة للقيادة السياسية أن تستخدم قواتها المسلحة كعامل ضغط للحصول على مكاسب سياسية ولكن غير جائز أن تقترب القوات المسلحة من مكمن الخطر وهي غير مستعدة أو غير متأهبة خاصة أمام عدو غادر تصل الأخبار المتوالية عن استعداداته وتجهيزاته.

وعلينا أن نستمر في مجاراة هذا الكلام الذي قيل، ما دخل هذا الغرض السياسي في أن القوات المسلحة لم تخض قتالا بالمعنى المفهوم؟ فلا هي هاجمت ولا هي دافعت ولا هي انسحبت بل كل ما فعلته القيادة العسكرية أنها انهارت وتفككت وأصبحت غير قادرة على توجيه قواتها الوجهة السليمة في مواجهة الضربة المتوقعة وليس معقولا أن تلعب القيادة السياسية بالقوات المسلحة حتى لو كان غرضها من وراء ذلك غرضا سياسيا، لأن اللعب بالقوات المسلحة كاللعب بالنار يحرف من لا يجيد اللعبة أو يتهاون في ممارستها، من المؤكد أن القوات المسلحة كان يمكنها أن تمنع قيام الحرب أصلا لو أنها أتقنت استعداداتها، وسدت الثغرات الموجودة في تنظيماتها، وخططت التخطيط المتكامل لردود فعل ناجحة على أفعال العدو المتوقعة ... أقول لو أن القوات المسلحة قامت بواجباتها فعلا قبل بداية الأزمة فإن العدو المتيقظ كان سيشعر بذلك وما أقدم على ما أقدم عليه لأن مجرد الاستعداد الصادق يمنع العدوان.

بعد مناقشة هذا الغرض علينا بعرض الحقائق الآتية التي تثبت أن القوات المسلحة كانت على يقين من قيام العدوان:

1- ففي يوم 14/ 5/ 1967 عقد المشير عامر مؤتمرا في قيادة القوات الجوية حضره قادة أفرع القوات المسلحة وكبار القادة وأعطى توجيهاته – بناء على ما وصله من معلومات تؤكد وجود حشود كثيفة للقوات الإسرائيلية على الحدود السورية – وقد تحدد موقفنا أنه إذا وقع عدوان على سوريا فلا بد من تدخل القوات المصرية تنفيذا لاتفاقية الدفاع المشترك بين القاهرة ودمشق ثم أعطى توجيهاته لحشد قوات في مسرح سيناء تكون قادرة على الدفاع بل على القيام بأعمال هجومية إذا لزم الأمر(7)

ولم يعترض أحد من القيادة العسكرية لأنه لو تم اعتراض لحدثت "فرملة" لتوالي الأحداث بعد ذلك.

وفي يوم 15/5 أصدر المشير في مؤتمره الذي عقد في مكتب قائد القوات الجوية والدفاع الجوي برفع درجة الاستعداد لوحدات الدفاع الجوي إلى أعلى درجات الاستعداد، كما أصدر توجيهاته بالسيطرة على التحركات كما أمر رئيس أركان حرب بإعداد الطلب الخاص بسحب قوات الطوارئ الدولية وفي نفس اليوم بدأ مركز القيادة المتقدم في العمل وعين الفريق عبد المحسن مرتجي قائدا للجبهة.

ولم يعترض أحد ولم يذكر أحد أعضاء القيادة العسكرية شيئا عن عدم استعداد القوات المسلحة أو عجز تدريبها كما حدث بعد وقوع المصيبة على رأسنا بل كثرت التصريحات الصحفية وأضاف المشير إلى قراره توجيهات بأن هذا الإجراء قد يكون مبررا لقيام إسرائيل بعمل عسكري خصوصا بعد ظهور تحركات إسرائيلية في اتجاه حدودنا ثم أضاف المشير بعض التفصيلات إلى الأعمال التعرضية التي ستقوم بها قواته عند بدء القتال، بل إذا قرأنا الخطاب المرسل إلى الجنرال ريكي والموقع من رئيس الأركان لوجدنا أنه ينص على أنه "أصدر أوامره لقواته لتكون مستعدة لأي عمل ضد إسرائيل في نفس اللحظة التي ترتكب فيها أي عمل عدواني ضد أي دولة عربية وطبقا لهذه الأوامر فإن قواتنا تحشد الآن في سيناء وعلى حدودنا الشرقية".

ومن يطلع على يوميات الحرب يجد المزيد، وفي هذا ما يكفي.

2- ثم تجد أن شمس بدران وزير الحربية في مقابلته يوم 26/ 5/ 1967 لالكسي كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي يصور الموقف كالآتي وكما أنقله من نقاط متفرقة من مذكراتي.

أ – أود أن أبلغكم والرفاق أننا في غاية القوة وقادرون على الموقف الحالي تماما ولا تخشوا علينا شيئا.

ب – حينما وصلتنا معلومات من سفارتنا بموسكو يوم 13/ 5/ 1967 وكذلك في نفس اليوم من رئيس أركان حرب الجيش السوري عن الحشود الإسرائيلية على الجبهة السورية اتخذنا قرارا سريعا بتحريك جزء كبير من قواتنا إلى سيناء وتم حشد هذه القوات ومركزتها في 48 ساعة من صدور الأوامر.

ج – الروح المعنوية عالية جدا فالقوات المسلحة لا تنسى عدوان 1956 وقد زار المشير القوات ووجدنا روح الضباط والجنود عالية لدرجة أننا كنا كمن نلجم الحصان.

د – أن قواتنا موزعة في عدة محاور حتى أن إسرائيل اليوم لا تعرف من أين سيأتيها الهجوم ولذلك سحبت قوات كبيرة من الجبهة السورية إلى جبهة سيناء ومركزتها أمامنا وأصبحت حرية الحركة أمامها محدودة جدا وواضح من توزيع قوات إسرائيل وبعثرتها أنها في حيرة.

ه – قواتنا في شرم الشيخ قادرة على قرار منع الملاحة الإسرائيلية في الخليج وقادرة على حماية نفسها ولها قاعدة إدارية خلفية وقوات جوية قادرة على عمل ستارة جوية في جميع الأوقات وهذه القاعدة الجوية مؤمنة ضد أي هجوم عليها.

و – قطاع غزة حولناه إلى جذر دفاعية قوية بحيث لا يمكن لإسرائيل أن تحتل أي مدينة منه ولقد صممنا أنه إذا حاولت إسرائيل قطع الطريق بين غزة ورفح فإن هذا معناه الحرب ودخول قواتنا إلى داخل إسرائيل.

ز – إسرائيل حتى بعد أسبوع من الاستعداد لن يمكنها عمل شيء ضد قواتنا وإلا ستنال ضربة قاصمة وحتى إذا وجهت جميع قواتها إلى جبهتنا وتركت باقي الجبهات خالية فنحن مستعدون لإسرائيل ومن هم وراء إسرائيل فلا يهمنا أمريكا ولا خلاف أمريكا لأننا أصحاب حق صحيح نحن لسنا في قوة الولايات المتحدة ولكن إذا تدخلوا في المعركة فسوف نتصدى لهم إلى آخر قطرة من دمائنا وهذا ليس كلام حماسي ولكنه تقرر فعلا.

والحديث يصور الحالة التي كانت تعيشها القيادة العسكرية في وقت الأحداث وأحب أن أؤكد بناء على اتصالاتي الشخصية في ذلك الوقت أن جميع من قابلتهم كانوا تحت شعور الثقة الزائدة في دحر إسرائيل ولم يكن حديث شمس بدران هذا إلا انعكاسا واقعيا لشعور القيادة دون استثناء.

3 – في المؤتمرات التي عقدت بعد ذلك كان الموقف يشير إلى تصعيد خطير علاوة على تأكيد القائد السياسي بأن صداما مسلحا أصبح هو الحل الوحيد للأزمة السياسية القائمة أمام إسرائيل، ففي مؤتمر 25/ 5/ 1967 الذي رأسه عبد الناصر نوقش موضوع الضربة الأولى والضربة الثانية واتخذ قرار بعدم قيامنا بالضربة الأولى، وفي مؤتمر 2/ 6/ 1967 برئاسة عبد الناصر أيضا حدد الرئيس تقديراته في أن إسرائيل سوف تبدأ عملياتها يوم 5/ 6/ 1967 وأنها ستبدأ عملياتها بضربة جوية وأنها ستحاول حسم الموقف عسكريا في فترة قصيرة.

ولم يكن هذا تقدير الرئيس وحده بل كان البعض يتفق مع هذا التقدير، ففي مقابلة لي للفريق مدكور أبو العز محافظ أسوان في ذلك الوقت وكنت أنا وزير الدولة في أوائل يونيو 1967 وقبل العدوان أكد لي مدكور أنه يتوقع قيام العدو بضربة جوية كاسحة واتفقت معه في ذلك تماما وكان هذا – إلى جانب مزايا عديدة يتمتع بها مدكور – سببا في أن أرشحه قائدا للقوات الجوية بعد النكسة وقد وافق الرئيس على الترشيح واستلم فعلا عمله الجديد في 11/ 6/ 1967 على ما أذكر.

والشيء الغريب حقيقة أن القيادة العسكرية – ورغما عن كل ذلك – لم تواجه الأمر بما يستحقه من اهتمام ولا هي ترجمت هذه التوقعات أو القرارات إلى خطط عسكرية أو إلا تعديلات في الخطط القائمة بدليل أن "المشير" اختار يوم 5/ 6/ 1967 بالذات للقيام بزيارة سيناء وتم القضاء على قواته الجوية وهو ما زال في الجو ومعه قائد القوات الجوية وقائد الدفاع الجوي في نفس الوقت ورئيس هيئة العمليات وفي نفس الوقت كان كل أعضاء القيادة العسكرية في القاهرة في منازلهم يتناولون طعام الإفطار، وكانت قيادات سيناء كلها في مطار تمادا في انتظار وصول "المشير" !!! يعني لم يكن هناك عضو واحد من أعضاء القيادة العسكرية في موقعه ليدير المعركة وقت الضربة الجوية ....!!!

ولنا أن نتصور مصير قوات بلا "رأس" أي بلا قيادة!!! وبعد هذا التفريط يجد البعض الشجاعة بعد ذلك ليتحدث عن عيوب وسلبيات خاصة بعد أن تأكدوا أن "المشير" قد انتحر وأن "الرئيس" قد مات وبعد "خراب مالطة" كما يقال، فكانوا بذلك كمن سكت دهرا ونطق كفرا.

والشيء الغريب حقيقة أن القيادة العسكرية لم تحاول أن تغير من الأوضاع القائمة مع تغير الأحداث والظروف بالسرعة الرهيبة التي كانت تتطور بها ولا هي حاولت أن تعيد تقدير موقفها في تلك الفترة.

1- فحينما بلغها من سفيرنا بموسكو يوم 13/ 5/ 1967 بالحشود الإسرائيلية ضد سوريا، وحينما بلغها ذلك أيضا من رئيس أركان حرب الجيش السوري اندفعت دون روية إلى حشد قواتها في سيناء دون أن تتحقق في ذلك من مصادر المخابرات المختلفة أو بالقيام بطلعات جوية، بل حينما بلغها نفي لهذه الحشود من سوريا نفسها بعد ذلك بواسطة رئيس الأركان المصري الذي قام بزيارة سوريا للتنسيق لم تحاول القيادة العسكرية – كل في اختصاصه – تعديل أوضاع قواتها بما يتناسب مع المعلومات الجديدة.

2- في مقابلة شمس بدران وزير الحربية في ذلك الوقت لأليكسي كوسيجين رئيس الوزراء السوفيتي يوم 26/ 5/ 1967 استمع من الأخير المعلومات التالية والتي حصلت عليها المصادر السوفيتية وسوف أنقلها من مذكراتي الخاصة:

أ – وصلت معلومات اليوم من داخل إسرائيل تفيد بنشاط كبير ويقال إنه في نهاية مايو من الممكن أن تبدأ العمليات العسكرية وأنهم يجهزون عملية لتوجيه الضربة ومن المعروف أنه عندما تنشب العمليات لا يهتم أحد بمن الذي بدأها أولا.

ب – بعض الدوائر في إسرائيل ترى أن كل تأجيل لحسم الموقف ليس في صالح إسرائيل وهم يحضرون أنفسهم بمساعدة الولايات المتحدة لللقيام بالعدوان.

ج – سوف يشترك في التجهيز العسكري ليس فقط رئيس الأركان الحالي بل موشي دايان وهم يحفرون خنادق في تل أبيب ويقوون الدفاع الجوي والدعاية تغذي المشاعر والناس مندفعون في حماس للدفاع عن وطنهم إلى آخر قطرة.

وأضاف رئيس الوزراء السوفيتي بأنهم سيلبون احتياجات القاهرة من السلاح ولكن يجب إلا يساعد هذا على قيام الحرب فقيام الحرب ليس من صالح الجمهورية العربية المتحدة ولا من صالح القوى التقدمية ولا بد نم التصرف العاقل وأن يكون الفكر باردا والمهم ألا نعطي الفرصة للاستفزازات، أننا نفضل اللقاء على المائدة بدلا من المعركة الحربية، إن تسليح الاتحاد السوفيتي لمصر وسوريا هو لتدعيم السلام من خلال القوة وهدف هذه المساعدة ألا يحدث اشتباك مسلح، وتحريك القوات معناه زيادة التوتر ولا يمكن أن نقول إن تحريك القوات يؤدي إلى تخفيف التوتر.

وبالرغم من هذه المعلومات الخطيرة (8) لم تحاول القيادة العسكرية التأكد منها أولا ثم تعديل مواقفها مع التغييرات الجديدة إن وجدت ثانيا.

3 – بل حينما قررت القيادة السياسية في مؤتمر 25/ 5/ 1967 عدم قيامنا بتوجيه الضربة الأولى وأن علينا قبولها من العدو – وهذا من اختصاص ومسئولية وسلطة القيادة السياسية – لم تحاول القيادة العسكرية ترجمة هذا القرار إلى خطة فعلية بتكثيف دفاعاتها وسحب قواتها الجوية الموجودة في الأمام إلى الخلف وزيادة تيقظها واستعدادها ليل نهار، بل حينما أبلغت القيادة السياسية في مؤتمر 2/ 6/ 1967 القيادة العسكرية مجتمعة أن الحرب ستحدث يوم 5/ 6/ 1967 لم يبلغ ذلك إلى القيادات الأصغر ولم يكن هناك رد فعل لإعادة النظر في التخطيط القائم فلكل ظروف ما يلائمها من إجراءات.

قد يبرر البعض هذا الجمود "ببيرواقراطية القائد العسكري" ولكن هذا كلام غير مقبول لأنه علينا أن نتساءل: هل قام المختصون مثلا – وهذا واجبهم – بترجمة التطورات السياسية إلى إجراءات عسكرية تتفق معها؟ دار حديث كثير عمن أعطى قرار الانسحاب؟ والذي أعرفه عن يقين هو أن "عامر" هو الذي أعطاه وقد تعرضت لذلك بالتفصيل في كتبي التي تحدثت فيها عن الموضوع ولكن ليست هذه هي القضية القضية الأساسية – في رأيي – هي كيف تم الانسحاب – كيف تم السيطرة عليه؟ أين كان المسئولون وقت ذلك؟ وما الذي فعلوه ليواجهوا الموقف العصيب الذي وضعوا قواتهم فيه؟ هذه هي القضية وليست أبدا من الذي أصدر القرار أو صدق عليه؟ سواء كان عبد الناصر قد صدق عليه أم لم يصدق عليه فإن الموضوع الرئيسي يبقى هو: كيف تمت العملية؟ فهذا هو السؤال.

وللدلالة على عدم خوض القيادة العسكرية أي قتال بالمعنى المفهوم نورد الإحصائية التالية للخسائر (9)

ففي الوقت الذي بلغت خسائر أفراد القوات الجوية والدفاع الجوي 4% من القوة للطيارين كانت الخسائر في المعدات 85% وبلغت خسائر أفراد القوات البحرية صفر% وخسائرها في المعدات صفر % أيضا، وبلغت خسائر القوات البرية في الأفراد 17% من القوة بينما كانت خسائرها في المعدات 85%.

وبلغت خسائر القوات الجوية من القاذفات الثقيلة 100% والقاذفات الخفيف 100% أيضا ومن المقاتلات القاذفة والمقاتلة 85% وقد دمرت أغلب الطائرات وهي على الأرض ويا ألف خسارة ...!!!


واتضح بعد المعركة أن الفرقة المدرعة التي عدد دباباتها 200 دبابة دمر منها 12 دبابة فقط واستشهد فيها 60 فردا أما الـ 188 دبابة فقد تركت دون أفراد الأمر الذي يوضح أن 6% فقط من الأفراد هم الذين التزموا بمعداتهم .. !!! ويا ألف خسارة أيضا ...!!!

وكما نرى كان في يد القيادة العسكرية أسلحة كثيرة جيدة ولكن هذه القيادة لم تكن قادرة على استخدامها بكفاءة، فالعبرة ليست بالسلاح أو المعدة ولكن العبرة قبل ذلك بمن هم وراء هذا السلاح وقبل ذلك بالعقل الذي يوجهه ويستخدمه أفضل استخدام لتحقيق النصر ولصيانة الأمن القومي للبلاد، وكان من نتيجة ذلك أنه لم يكن هناك قتال بالمعنى المفهوم، كان يمكن أن نناقش المبررات التي ذكرها بعض أعضاء هذه القيادة لو أن معركة دارت أو قتالا حدث أو لو أن القيادة العسكرية ناورت وحاورت وصدت وهجمت وانسحبت وتحملت الضربات المضادة، ولكن لم يتم شيء من ذلك.

فالقيادة العسكرية خذلت بلادها وقواتها وتسببت في نكسة ثورة بكاملها ضاعت مكاسبها وسط حطام النكسة.

ظروف أخرى تمهد لليلة العصيبة

يمكن أن يقال إن الخطوة التمهيدية لهذه الليلة العصيبة تمت يوم 11/ 6/ 1967 وفي مكتب "السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات" دخلت عليه ظهرا في مكتبه والانكسار يثقل أكتافنا من هول ما نحن فيه، العدو على الساحل الشرقي للقناة التي تعطلت فيها الملاحة من جديد، وخسرنا سيناء والضفة الغربية وغزة والقدس والجولان والآلاف من الضباط والجنود يواجهون مصيرهم دون أن يتمكن أحد من تقديم المعونة لهم، والجيش أصبح دون سيطرة عليه وبعض جنوده يهيمون في الشوارع بملابسهم الرثة، وعيونهم الزائغة، وحينما يتعبون يلقون بأنفسهم في الحدائق بالمئات، والبعض الآخر استقل القطارات أو وسائل النقل الأخرى إلى بلادهم التي أتوا منها، والأعزاء الآخرون يقتلون ويؤسرون في سيناء، لقد فقدنا كل شيء.

كان هناك كل من اللواء عماد ثابت والعميد أحمد سيد أحمد نصر (10) وهما من خيرة ضباط القوات المسلحة بوجه عام وضباط المدرعات بوجه خاص، حضرا ومعهما كنز ثمين، إذ أكدا أنه في إمكانهما حشد أكثر من 150 دبابة في الضفة الغربية للقناة لصد أي محاولة يقوم بها العدو لعبور القناة في طريقه إلى القاهرة ... مائة وخمسون دبابة!!! قوة كبرى بالنسبة لما كنا فيه.

وكتب سامي المعلومات في "النوتة" ليبلغها للرئيس، وانصرف الضابطان ليؤديا واجبهما (11) وسألني "سامي" ما رأيك في هذه القوة التي هبطت علينا من السماء؟!

وكان ردي "قوة إيه يا سامي؟ كان عندنا آلاف من المدرعات فأين هي؟ لا بد من التغيير ولن يحدث أي تصحيح في ظل الظروف القائمة، لا بد من أن يترك المشير القوات المسلحة كخطوة أولى لا بد منها إن أردنا مواجهة الهزيمة مواجهة جادة".

وقام سامي من كرسيه ليقبلني ويؤمن على ما قلت، وانصرفت وأنا مثقل بهمومي.

ونقل "سامي" الحوار إلى عبد الناصر ربما في نفس الوقت والساعة.

ولن أحاول أن أكرر تفاصيل معروفة كتب فيها الكثير من قبل ولكنني سأحاول ذكر الجديد من الأحداث التي لمستها بنفسي، في تلك الفترة كان المشير قد تورط في عدة أحداث كبيرة ..

1 – الحدث الأول: وهو الهزيمة النكراء التي مني بها الجيش على يديه، والشيء الغريب حقيقة أن هذه الهزيمة لم تؤثر في المشير بل أجمع كل من شاهدوه في منزله يوم 7، 8/ 6/ 1967 على أنه كان عاديا لا يظهر عليه أي شعور بالندم أو الانزعاج، وكان من ضمن من زاروه كثير من الساسة والصحفيين ورجال القوات المسلحة وقد أخبرني الأخ شعراوي جمعة – وكان أحد من زاروه في منزله – أن "المشير نزل وكان زي الورد بعد أن كان قد انتهى لتوه من الاستحمام".!!!

2 – الحدث الثاني: وهو التمادي في العدوان على الشرعية القائمة فبعد أن قبل الرجل أن يتنحى يوم 8/ 6/ 1967 عن قيادة القوات المسلحة إلا أنه عاد فتشبث بمناصبه حتى لا تفسر استقالته تلك على أنها بسبب الهزيمة العسكرية فقد اتخذ المشير هذا الخط بعد النكسة – وهو خط أن السبب في الهزيمة هو سبب سياسي وليس سببا عسكريا – وتمسك به مساعدوه حتى مماته، كان مستشاروه قد أقنعوه بأن بعده عن القوات المسلحة في تلك الفترة معناه فتح الأبواب كلها لاتهامات يحسن تجنبها، ولذلك فإن الرجل لم يقبل بأي حال من الأحوال أن يكتفي بتولي منصب نائب رئيس الجمهورية بل تمسك بكل قواه بالمنصب الأهم – خاصة في تلك الفترة وهو منصب القائد العام للقوات المسلحة وكسبا للظروف غير المتوقعة بدأ الرجل في تحويل منزله بالجيزة إلى قلعة حقيقية نقل إليها الكثير من الأسلحة والعتاد وكثف قوة الحراسة الموضوعة على منزله بقوات من الشرطة العسكرية بل استدعى – وكما سبق القول – 300 رجل من بلدته بالمنيا لمضاعفة الحراسة، ولا شك أن هذا التصرف لم يكن حكيما ولا لائقا ولكنه حدث وكان الخطر الأكبر لهذا العصيان على الشرعية هو الانقسامات التي بدأت تحدث في القوات المسلحة بل وتحركت بعض الوحدات بقيادة ضباطها في مظاهرات صاخبة تهتف بحياة المشير، وبدأ ولاء الضباط يتزعزع وأصبحت القوات المسلحة حقلا خصبا للشائعات بل للاستقطاب، وللدلالة على مقدار الفوضى التي خلقها عصيان "المشير" في المحافظة على الأمن أن أحد الضباط – أثناء إلقاء القبض عليه بناء على تعليمات سابقة بالقرب من منزل المشير بالجيزة وكان من ضمن الضباط المعتصمين هناك – استغاث بزملائه في المنزل فأغاثه خمسة أفراد يرتدون الجلابيب والعمة ومعهم بنادق آلية، وبدأوا في إطلاق النيران على القوة قاصدين القضاء على أفرادها ثم بدأ إطلاق النيران من داخل منزل "المشير" من عدة اتجاهات ثم تحركت أربع عربات جيب من حول منزل المشير لمطاردة القوة في شوارع الجيزة وهي تطلق النيران (12)

ثم تحديا لكل التقاليد والقوانين أمر "المشير" يوم 21/ 7/ 1967 وبعد أن استقر في منزله بالجيزة بعد تركه منزله بمعسكرات الحلمية بنقل الأسلحة التي كانت موجودة في منزل الحلمية إلى محل إقامته الجديد، وللدلالة على مقدار خطورة هذا الإجراء نورد إحصائية دقيقة لما كان يراد نقله(13) من أسلحة وعتاد: 100 بندقية آلية 7.62 مم عديم الارتداد.

4 مدفع 82 مم عديم الارتداد

4 مدفع 90 مم

4 رشاش متوسط 7.62

7 رشاش خفيف، 21 مسدسا 9 مم

165.000 طلقة عيار 7.62 معبأة في 103 صناديق.

4500 طلقة عيار 7.62 كاشفة معبأة في 2 صندوق

92300 طلقة عيار 7.62 معبأة في 15 صندوق

125 قنبلة يدوية هجومية إيطالي معبأة في 2 صندوق

وفي الوقت نفسه بدأ "المشير" في توزيع استقالته التي سبق وقدمها إلى الرئيس في أزمة 1962 والخاصة بتعيينات الضباط من الرتب الكبيرة بتصديق المجلس والسابق الإشارة إليها.

وللتاريخ نثبت هذه الاستقالة ومن الملاحظ أن المشير لم يقدمها إلا بغرض الإحراج والضغط بدليل أنه لم يطالب بما ورد فيها حينما حلت الأزمة وأيضا أنه لم يعد للمطالبة بما فيها إلا بعد النكسة عام 1967.

نص الرسالة:

عزيزي الرئيس جمال عبد الناصر

بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرى من الواجب وأيضا الوفاء يقتضيني أن أكتب إليك معبرا عن رأي مخلص رغم الأحداث الأخيرة، فبعد عشر سنين من الثورة وبعد أكثر من عشرين سنة من الصلة بيني وبينك لا يمكنني أن أتركك وأعتزل الحياة العامة دون أن أبوح لك بما في نفسي كعادتي دائما.

إنني أعتقد أن الانسجام والتفاهم بين المجموعة التي تشارك في الحكم أمر ضروري وأوجب من ذلك الثقة المتبادلة بين أفراد هذه المجموعة، وقد وجدت في هذه الفترة الأخيرة أن الأسلوب الغالب هو المناورات السياسية ونوع من التكتيك الحزبي فضلا عما لا أعلمه من أساليب الدس السياسي الذي قد أكون مخطئا في تصوره ولو أن الحوادث كلها والمنطق تدل على ذلك والنتيجة التي وصلنا إليها اليوم خير دليل على هذا التصور فقد استطاع هذا الأسلوب أن يتغلب على ما كنت أعتقده مستحيلا وهو تحطيم صداقتنا وما نتج عن ذلك من أحداث لا داعي لسردها فكلها لا تتفق مع المصلحة العامة في شيء.

المهم في الموضوع أنني لا أستطيع بأي حال أن أجاري هذا الأسلوب السياسي لأنني لو فعلت ذلك لتنازلت عن أخلاقي وأنا غير مستعد لذلك بعد أن انقضى نصف عمري.

الذي أريد أن أحدثك عنه بخصوص نظام الحكم في المستقبل، أنني أعتقد أن التنظيم السياسي القادم ليكون مستمرا وناجحا يجب أن يبنى على الانتخابات من القاعدة إلى القمة بما في ذلك اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وإن أتت اللجان العليا بدون انتخابات حقيقية فستكون نقطة ضعف كبرى في التنظيم الديمقراطي للاتحاد وأن ما يجب أن نسعى إليه هو تدعيم الروح الديمقراطية بعد عشر سنوات من الثورة والتي لا أتصور بعد كل هذه الفترة وبعد أن صفي الإقطاع ورأس المال المستغل وبعد أن منحتك الجماهير ثقتها دون تحفظ أن يكون هناك ما نخشاه من ممارسة الديمقراطية بالروح التي كتب بها الميثاق وخصوصا أن الملكيات الفردية الباقية والقطاع الخاص لا يشكلان أي خطر على نظام الدولة كما أنه ليس هناك ما يمنع إطلاقا أن تنسجم هذه القطاعات مع النظام الاشتراكي كذلك الأمر بالنسبة للصحافة فيجب أن تكون هناك ضمانات تمكن الناس من كتابة آرائهم وكذلك تمكن رؤساء التحرير والمحررين من الكتابة دون حذف أو تحفظ وقد تكون هذه الضمانات عن طريق اللجنة التنفيذية العليا مثلا أو أي نظام آخر يكفل عدم الخوف من الكتابة وتوهم الكاتب أنه سيطارد أو يقطع رزقه وخصوصا أن الآراء التي ستعالج لن تخرج عن مشاكل الناس والمسائل التنفيذية وبعض المناقشات في التطبيق الاشتراكي وفي هذا فائدة كبيرة لأنه سيعبر عن الآراء التي تدور في خلد المواطنين.

دعني وأنا أودعك أن أحدثك عن الحكومة ورأيي فيها، قبل كل شيء لا يمكن أن تسير أي حكومة في طريقها الطبيعي وهو الحكم السليم إذا كان نظام الحكم في حد ذاته ممسوخا مشوها فيجب أولا أن نستفيد من تجارب العالم وحكوماته التي عاشت مئات السنين مستقرة منتظمة دون حاجة لتغيرات شاملة كل فترة قصيرة من الزمن، ففي رأيي أن النظام الطبيعي للحكم يكون كالآتي: إما حكومة رئاسية ويرأس الوزارة فيها رئيس الجمهورية ويكون مسئولا أمام البرلمان مسئولية جماعة مع وزرائه، وبدون الدخول في التفاصيل يمكن أن يكون هناك نائبا للرئيس ويجب أن تكون أنت رئيسا للدولة ورئيسا للحكومة أو حكومة برلمانية يرأسها رئيس الجمهورية ويكون رئيس الإتحاد الإشتراكي هو رئيس الوزراء أو ربما يكون رئيس الوزراء ليس رئيسا للاتحاد الاشتراكي ولا أريد أن أدخل أيضا في التفاصيل لكن تكون أيضا مسئولية الوزارة جماعية أمام البرلمان كما ورد في الميثاق.

على كل أي من هذه الحلول ووجودك في النظام أو على رأسه على الأصح ضرورة وطنية.

أنا لا أقول ذلك مجاملة فهناك كثيرون مستعدون للمجاملة أو الموافقة على رأيكم بمجرد إبدائه ولكن أعتقد أن أي تصرف غير ذلك سيكون بداية لنهاية لا يمكن معرفة مداها.

ودعني أيضا قبل أن أودعك أن أقول لك إن اختلاطك الشخصي بالناس ضروري فإنه يعطي الثقة المتبادلة ويعطي إحساسات متبادلة ويعطي أيضا أفكارا متبادلة، وهذا هو الطريق الطبيعي للارتباط بأفراد شعبنا في المستقبل أما انعزالك التام فإنه سيجعل صور البشر عندك أسطرا على الورق أو أسماء مجردة لا معنى لها، وهذا في رأيي لا يمثل الواقع، فالعقل والعاطفة من مكونات الإنسان ولا نستطيع أن نفصل بينهما كلية لكن يجب الجمع بينهما في الطريق الصحيح وهذا لا يمكن إلا بالاتصال الشخصي.

وهذا أيضا هو الطريق الوحيد لإظهار شخصيات قيادية نعتز برأيها دون خوف ولكنها في الوقت نفسه تثق بقيادتها وتحترمها، وهذا النوع من الناس أنت في أشد الحاجة إليه بل وبلدنا كلها محتاجة إليه، نوع جديد لم يتمكن منه حب المنصب ليسكت على الخطأ ولم تأخذ الأضواء نور بصره فيضحي بكل القيم ليعيش فيها. وأنا أودعك أيضا وأرجو من الله ألا يحدث مني أو منك ما يجعل ضميرنا يندم على الإقدام عليه ويجعلنا صغارا في أعين أنفسنا.

ويكفي في رأيي ما حققه أهل السوء حتى الآن فقد نجحوا فيما تمنوا وفيما كانوا يعتبرونه مستحيلا.

لا أريد أن أطيل عليك ولكني أبديت آرائي لك فيما أعتقده بأنه المصلحة العامة وليكن فراقنا بمعروف كما كانت عشرتنا بالمعروف، والله أسأل أن تتم حياتنا بشرف وكرامة كما بدأناها بشرف وكرامة، ورغم كل شيء ورغم كل ما أعلم فإني أدعو لك من قلبي بالتوفيق وأتمنى لك الخير وأدعو ربي أن يوفقك في خدمة هذه الأمة ولخيرها والسلام.

عبد الحكيم عامر

القاهرة في 1/ 12/ 1962


وثبت بعد ذلك في التحقيقات أن الذي طبعها هي "زوجته السيدة برلنتي عبد الحميد" وقد ضبطت آلة الطباعة في قريتها، وكان يتولى توزيع هذه الاستقالة والتي كتبت في عام 1962 بعض ضباط القوات المسلحة داخل الوحدات وبعض أعضاء مجلس الأمة وهم ما أطلق عليهم "مجموعة المنيا" والذين فصلهم السيد أنور السادات الذي كان يرأس المجلس من عضوية المجلس وآخرين.

بل أخذ المشير يلجأ إلى وسائل ما كان يجب عليه أن يلجأ إليها مهما كانت الظروف فقد سلم السيد عباس رضوان 5000 جنيه ذهب داخل خمسة أكياس لحفظها طرفه وقد تم ضبط الذهب مدفونا في أرض زراعية "بالحورانية" داخل حقيبة جلدية وقد تبين نقص الأكياس ولكن تم ضبط الباقي منها في "قرية نزلة السمان" ثم وبعد أن توليت رئاسة المخابرات العامة صباح 26/ 8/ 1967 اعترف لي مدير مكتب السيد صلاح نصر الرئيس السابق للجهاز أن السيد صلاح نصر استلم 60.000 جنيه من المصروفات السرية للجهاز دون إيصال وأنه يحاول منذ أيام أن يقنعه بكتابة الإيصال حتى يودعه ملف المستندات إلا أنه رفض وأضاف المسكين "أودعني السجن لأن خزنتي ناقصة" وقد أبلغنا جهات التحقيق وكانت المخابرات الحربية قائمة به وتم العثور على حقيبتين مدفونتين "بالحورانية" أضا وبفتحمهما تبين أن بهما مبلغ 49.360 جنيها وكذا عدد 40 رشاش قصير، 5 صناديق ذخيرة، 108 طبنجة، وقد اعترف السيد عباس رضوان في التحقيق بأنه استلم المبلغ والأسلحة والذخيرة من السيد صلاح نصر لإخفائها في "الحورانية" ولكنه لم يتمكن من إعطاء التبريرات المقنعة لاختفاء باقي المبلغ وقدره حوالي 11000 جنيه.

كان المشير عامر يريد أن يهدم المعبد على كل من فيه فلم يكفه "النكسة" الثقيلة التي أصاب بها الأعمال العظيمة لثورة يوليو والتي أضاعت وغطت على حلاوة انتصاراتها الكثيرة والكبيرة ولكنه تمادى في أعماله تلك وأخذ يتورط في أعمال أخرى خطيرة.

3 – مؤامرة قلب نظام الحكم وتخطيطه للاستيلاء على السلطة والشيء الغريب أن جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية كانا على علم بما يدبر وأبلغت إدارة المخابرات الحربية ما لديها من معلومات للجهات المختصة ولكن المخابرات العامة وكان يتولى رئاستها السيد صلاح نصر حتى مساء 25/ 8/ 1967 لم تبلغ ما لديها من معلومات إلى الجهات المسئولة ويعد هذا التصرف إخلالا كاملا بمسئولية وأمانة المسئولين عن ذلك واستمر هذا التكتم حتى توليت رئاسة الجهاز في 26/ 8/ 1967.

فبعد أن قدم المشير استقالته – والذي عاد وسحبها مرة أخرى – بذلت محاولات كثيرة من المحيطين به وبموافقته لإعلان العصيان فقد قاموا بجمع عدد من الضباط لعمل مظاهرة للمطالبة بعودة المشير بل قام ضباط حراسة المشير بمظاهرة عسكرية مسلحة بالعربات المدرعة واتجهوا من الحلمية إلى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة، وفي نفس الوقت كان يتم اتصال أعوان المشير بقوات الصاعقة الموجودة في أنشاص في ذلك الوقت وكان يتم استدعاء بعض الضباط لمقابلة المشير ليلا في منزله بالجيزة.

وكان المشير يستقبل علاوة على ذلك بعض المدنيين سرا في منزله ولزيادة سرية هذه المقابلات أمر المشير بفتح ثغرة في السور الذي يفصل بين المنزل "والمشتل المجاور" وأخذت المقابلات تتم في هذا المشتل كل ليلة وأخذ بعض الضباط يزودون المشير بتقارير عن أوضاع وحداتهم ويتلقون منه الأوامر لنشر الشائعات وتوزيع استقالته السابق الإشارة إليها، وفي نفس الوقت لوحظ نقل كميات من الأسلحة والذخيرة من معسكر الحلمية إلى منزل المشير بالجيزة كما لوحظ عدد كبير من الأفراد المدنيين يحملون السلاح ويقومون بحراسة منزل المشير ويمنعون الاقتراب منه وقام بعض الضباط المقيمين في منزل المشير بتدريبهم على إطلاق النيران وبذلك أصبح منزل المشير والمنطقة المحيطة به منطقة ممنوعة على سلطات الأمن كما لوحظ تردد أعضاء مجلس الأمة عن محافظة المنيا وبعض محافظات الوجه القبلي على منزل المشير وكلف البعض منهم بإثارة مناقشات سياسية بقصد إحداث بلبلة سياسية في نفوس أعضاء مجلس الأمة والشعب ووزع على بعضهم صورة من الاستقالة مع تحريضهم على القيام بنشر أنباء مضللة عن أسباب الهزيمة العسكرية.

لكل هذه الشواهد تم وضع المنطقة كلها تحت المراقبة بواسطة الأجهزة المختصة بل تم عمل كافة الترتيبات الدقيقة لمعرفة كل ما يجري داخل المنزل في كل وقت وتم تجهيز "رسم كروكي" للمنزل من الداخل والخارج وللمشتل ولكل المنطقة المحيطة بالمنزل تحسبا للظروف.

وبدأت هذه التجهيزات والترتيبات التي يقوم بها المشير تتبلور في مؤامرة حقيقية لقلب نظام الحكم حدد لتنفيذها يوم 27/ 8/ 1967 وكان الغرض منها الاستيلاء بالقوة على القيادة العامة للقوات المسلحة.

كنت الخطة سوف تتم على مرحلتين:

أ – المرحلة الأولى وهي الجانب التمهيدي والدعائي داخل أفراد القوات المسلحة لإحداث بلبلة في الأفكار وإثارة الفتن ببث الدعايات المسمومة والمغرضة والسعي إلى نيل تأييد أكبر عدد ممكن من الضباط لتأييد المخطط وتهيئة الأذهان لتقبل الوضع الجديد.

ودعوة الضباط إلى منزل المشير وتقصي أحوال القوات المسلحة وأسرارها منهم وتوزيع استقالة المشير وإقناعهم بأن للمشير قضية عامة هي مطالبته بالديمقراطية وإطلاق الحريات.

ب – الشق الثاني ويتمثل في الجانب العسكري التنفيذي ويعتمد على قوات الصاعقة الموجودة في "أنشاص" والتي كان عليها تأمين وصول المشير إلى القيادة الشرقية في منطقة القناة ثم تنصيبه قائدا عاما للقوات المسلحة ثم يقوم المشير بإعلان مطالبه لرئيس الجمهورية من هناك فإذا لم يستجب له الرئيس تحركت قطاعات من القوات المسلحة لفرض هذه المطالب بالقوة وذلك بمعاونة القوات الجوية لضمان نجاح الخطة، وتم تحديد القوات اللازمة لتنفيذ العملية ودرست الطرق التي سوف تتحرك عليها هذه الوحدات وحددت التوقيتات اللازمة للتنفيذ كما وزعت المهام والواجبات لكل منهم فكان موكولا إلى السيد شمس بدران مثلا تأمين الشرطة العسكرية والفرقة المدرعة والسيد عثمان نصار تأمين منطقة دهشور العسكرية والسيد عباس رضوان تأمين منطقة القاهرة واعتقال بعض المسئولين في الدولة بمعاونة أطقم المخابرات العامة بعد موافقة السيد صلاح نصر وكان على رأس المعتقلين شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي وهؤلاء تم اعتقالهم بعد ذلك أيضا بواسطة السادات.

4 – انكشاف زواجه العرفي من السيدة برلنتي عبد الحميد ولن أتعرض لتفاصيل هذا الموضوع لأنه أولا يمثل جانبا من حياة المشير الشخصية، ولأنه أمر عادي يجري في كل الأوقات وفي كل الطبقات ... ولكن كان المشير حريصا كل الحرص على إخفاء هذه العلاقة بالرغم من أن السيدة برلنتي كانت لا ترضى أن يكون زواجها سرا بل كانت تلح في إعلانه وتوثيقه ولكن كان الرجل يخشى تأثير ذلك على حياته الزوجية وعلى حياته العامة، كان يعرف أنه بمجرد زوال سلطاته فإن أمورا كثيرة سوف تتكشف وتظهر الأمر الذي بذل جهده في السنوات الماضية لكي يظل سرا مكتوما.

وقد حدثني الرئيس جمال أن المشير كان يحضر له دوما ليشير عليه أن يكون له "أبواب خلفية Back doors" فكيف يمكن للرئيس أن يعيش هكذا داخل أربع حيطان لا يتمتع بالدنيا ولا يروح عن نفسه وكان المشير يضرب أمثلة بالعديد من رؤساء الدول والشخصيات الكبرى وكيف أن لهم "أبوابا خلفية متعددة" فالمرء يحتاج دائما إلى التفريج عن نفسه فساعة لقلبك وساعة لربك.

كان يخشى مثلا أن ينكشف أنه اشترى منزلا في "إيكنجي مريوط" مركز القسم الشرقي بالعامرية محافظة الصحراء الغربية بحوض برنجي وإيكنجي مريوط رقم 3 ضمن القطعة رقم 209 وهو المنزل الذي اشتراه من السيدة أنطوانيت جريك واختار اسما له محمد عبد الحكيم على بن علي حفيد عامر أثناء إتمام الإجراءات الرسمية، كان هذا المنزل هو الأقرب إلى قلبه للاختلاء بزوجته وبعض الأصدقاء، كان هذه العلاقة سرية تماما لا يعرفها إلا القليلون جدا من دائرة المشير الضيقة ومطبخه الداخلي ولا أظن أن أحدا من المسئولين كان يعرف ذلك إلا المرحوم الرئيس أنور السادات الذي كان يحضر بعض المناسبات بين وقت وآخر.

ولنقف عند هذا الحد إلا أننا نريد أن نؤكد مرة أخرى أن الرجل كان لا يريد أن تكشف هذه العلاقة وكان يرغب أن تبقى سرا.

إذن كان المشير متورطا في أكثر من اتجاه، وكان بذلك مهيئا للقيام بأي إجراء غير محسوب أو خطوة يائسة إذا ظل هكذا مطلق الحرية يفعل ما يريد، ولذلك فإنه كان من الواجب إيقاف الأمور عند حدها حتى لا تتطور وتتضخم وأن تعود الشرعية مرة أخرى لتمارس سلطاتها لمواجهة الموقف الصعب الذي وجدت فيه البلاد ولو أن هذا كان ينبغي أن يتم منذ وقت طويل قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد ولكن لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب.

خطة جونسون

صدرت تعليمات الرئيس عبد الناصر إلى كل من شعراوي جمعةسامي شرفأمين هويدي بوضع خطة لمواجهة الموقف وتحديد إقامة المشير عامر، وكان اقتناع الرئيس باتخاذ هذه الخطوة في حد ذاته عملا إيجابيا حقيقة إذ لم ينجح في إقناعه أحد من زملائه رغما عن تكرار المحاولة وكان هذا يرجع أولا إلى أن الأمور وصلت إلى منتهاها وأن الصراعات على القمة التي كانت موجودة داخل "الحرس القديم" لم يكن لها أثر في "الجماعة المختارة" فكانت حسابات الرئيس هنا أسهل وأيسر.

وكانت المأمورية دقيقة وصعبة ولكنها كانت واجبة وكانت المناصب التي يتولونها في ذلك الوقت كالآتي:

شعراوي جمعة وزيرا للداخلية

أمين هويدي وزيرا للحربية

سامي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات

كانت المأمورية دقيقة لأنها كانت تتعلق "بالمشير" والرجل لم يقدم لأحد منا من الناحية الشخصية سوءا أو ضررا ثم كان الرجل بسلطاته التي ما زالت تترك بصماتها على كل أجهزة الدولة يمثل قوة حقيقية لا بد وأن نعمل لها حسابا ثم كان لا بد من التصرف بحكمة تامة حتى لا نجعل من التصفية صداما حقيقيا يمكن أن يتسع فيشعل الحرائق في كل شيء.

وكانت المأمورية صعبة لأن الأجهزة الحساسة كلها كانت متعاطفة مع المشير عامر فالمخابرات العامة وعلى رأسها السيد صلاح نصر كانت قد حددت موقفها إلى جواره، القوات المسلحة متعاطفة وإن كان البعض قد أظهر جانب الحياد إلى أنه لم يكن ليتردد في اتخاذ موقفه إلى جوار المشير عند أول بادرة نجاح لجهوده في سبيل الاستيلاء على السلطة أما أجهزة وزارة الداخلية فلها حساباتها المعقدة في مثل هذه الأحوال ولا داعي للخوض في تلك الحسابات حتى لا نخرج عن الموضوع.

وكانت المأمورية واجبة فالعدو في شرق القناة والبلاد تمر في أخطر مراحلها وكان لا بد من ترتيب البيت الداخلي حتى يمكن البدء في مواجهة العدوان.

ولذلك فقد قررنا أن نلتزم بالسرية المطلقة في اتخاذ إجراءاتنا وكذلك بالسرعة المعقولة لأننا كنا في سباق خطير مع الزمن فلم يكن الجانب الآخر عند بداية وضع الخطة بواسطتنا قد حددت موعد تحركه بعد وكنا بذلك نتحرك في المجهول، من ناحية السرية لم يخطر أحد غير ثلاثتنا في المراحل الأولى بهذا الأمر وأي قول غير هذا عار تماما عن الصحة وادعاء باطل تورط فيه البعض حتى يظهر أنه كان على علم ببواطن الأمور.

واتفقنا أن نطلق الاسم الكودي "جونسون" على العملية كلها خوفا من التورط أثناء حديث أو مكالمة تليفونية كما اتفقنا على أن تكون اجتماعاتنا في "نادي الشمس" بمصر الجديدة، وكانت الاجتماعات تتم في وقت متأخر من الليل بعد أن يكون النادي قد أغلق أبوابه حول حمام السباحة وأمامنا لفائف من سندويتشات الفول والطعمية التي كان يحضرها من يكلف بذلك، وكنا نصل دائما إلى مكان الاجتماع في مواعيد متقاربة وبطريقة فردية.

كان تقديرنا لأول وهلة أنه إذا استدرج "المشير" بحيث يكون منفردا أو معه أقل عدد ممكن من الحراس فإنه في هذه الحالة يمكن وبسهولة تدبير طريقة نتحفظ بها عليه في أي مكان أمين حتى يتم تصفية الجيوب الباقية في منزل الجيزة مثلا.

ولذلك وبعد بحث عدة بدائل استقر الرأي على الآتي:

1 – أن أصلح مكان لذلك هو طريق "صلاح سالم" حيث كان المشير يستخدمه ذهابا وإيابا للقيام ببعض الزيارات الخاصة ويمكن تحديد الوقت بالتقريب بمراقبة تحركاته على الطريق عدة مرات.

2 – إن أنسب وقت لإتمام العملية هو في طريق عودته إلى الجيزة فالوقت يكون متأخرا في ذلك الحين وتقل حركة المرور ثم يكون المشير في حالة يقظة غير كاملة.

3 – أن يتم سد الطريق عند إحدى فتحاته بحيث تضطر عربة المشير إلى التهدئة والانحراف إلى الجانب الآخر من الطريق.

4 – في هذه اللحظة يمكن السيطرة على العربة بمن فيها مع التأكد من أن تتم الأمور بسرعة لتفادي أي اشتباك ثم يوضع المشير في مكان أمين مجهز من قبل.

كانت هذه هي الخطة العامة التي وضعنا لها كثيرا من التفاصيل الدقيقة وعرض الموضوع على الرئيس بواسطة سامي شرف ووافق الرئيس على ذلك.

وعقب ذلك بفترة قصيرة استدعانا السيد زكريا محيي الدين استدعاء فرديا لمقابلته في منزله بالدقي وكان يؤكد على كل فرد ألا يخطر أحدا بالمقابلة على أن يترك كل فرد عربته بعيدا عن المنزل وتبادلنا هذه المعلومات رغما عن التنبيه علينا مرارا بعدم إخطار أي فرد باللقاء وصممنا أن نذهب إلى السيد زكريا مجتمعين وفي وقت واحد وبعربة واحدة، وفوجئ الرجل بذلك إلا أنه قابل الموقف بضحكته المعهودة التي قد تعني شيئا أو قد تعني أشياء عديدة أو قد لا يعني شيئا، إلا أنه استقبلنا في بشاشته الكريمة وبكرمه المعتاد.

وتناقشنا في الخطة وكان على علم بها، كان الرئيس قد أطلعه عليها وأشركه في التنفيذ أو على الأقل في مراجعة تفاصيل ما سوف يتم، وخرجنا ونحن جميعا على اتفاق كامل على التنفيذ، لم يكن أحد يعلم بالموضوع إلا نحن فقط بعكس ما ورد في روايات عديدة قرأتها وتعجبت منها ولها.

ولكن حينما تكررت اللقاءات بدأت عيوب كثيرة تظهر أمامنا لهذه الخطة:

1 – فقد اكتشفنا أنها معقدة غاية التعقيد والخطة يجب أن تكون بسيطة.

2 – ثم إنها خطة جامدة أي أنها تتبع توقيتا دقيقا، ومقتل أي خطة هو في جمودها وعدم ترك فسحات من الوقت للظروف غير المتوقعة أو الطارئة.

3 – ثم إن احتمال عدم الاشتباك ضئيل للغاية ويعتمد على الحظ والاعتماد على الحظ أكثر من الدقة ليس صحيحا في أي أمر من الأمور.

4 – ثم من يضمن عدم كثافة المرور في هذه الساعة التي ستتم فيها العملية وليس لائقا أن تتم عملية مثل هذه مع نائب رئيس جمهورية سابق حتى تصبح حديثا تلوكه الألسن في العاصمة.

5 – ثم من يضمن ألا يكون المشير في وعيه الكامل استثناء من الظروف العادية؟

وهنا قررنا إلغاء الخطة من أساسها واستبدالها بأخرى تتلافى عيوب الخطة السابقة.

وتوالت الاجتماعات وأغلبها في نفس مكاننا في نادي الشمس بمصر الجديدة وكنا في سباق مع الزمن لعدة أسباب:

1 – فمؤتمر القمة العربي سوف يعقد في الخرطوم في 29/ 8/ 1967 ولا بد أن يحسم الوضع قبل سفر الرئيس إلى الخرطوم وإلا لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه فإن تأجيل سفر الرئيس سوف يصبح أمرا حتميا، وكان البديل لهذا الموقف – في حالة عدم إمكانية الحسم – أن يصطحب الرئيس "المشير عامر" معه إلى هناك ولو في هدنة مؤقتة.

2 – كان الجانب الآخر قد ضاعف نشاطه وأصبح ظاهرا أن عملية ما قد أصبحت جاهزة للتنفيذ لموالاة الضغط على السلطة الشرعية وكان لا بد لجانب الشرعية أن يضرب ضربته أولا.

3 – كان الموقف في القوات المسلحة يزداد سوءا فحالة القلقلة والتميع كان سائدة ولا أنسى في هذه المرحلة زيارتي إلى القاعدة الجوية في أنشاص وبرفقتي الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة والفريق مدكور أبو العز قائد القوات الجوية كانت الزيارة لن تستغرق أكثر من ساعة نفتش فيها على إنشاء الدشم والدفاعات الأرضية والجوية على القاعدة وحالة المواصلات والخطط الموضوعة وطريقة إصلاح الممرات في حالة ضربها بواسطة العدو وخطط التمويه والخداع واستكمال النقص في الأفراد والأسلحة والمعدات، إلا أن موقف البلبلة السائد بين ضباط القاعدة جعلني ألغي زيارتي للقواعد الجوية الأخرى وصممت على عدم ترك أنشاص إلا والاقتناع سائد بين كل الأفراد وقد كان.

4 – كان العدو يركز على انهيار الجبهة الداخلية كوسيلة لإسقاط النظام وكان لا بد من رأب التصدع الذي حدث بأسرع ما يمكن حتى تعود الجبهة الداخلية إلى تماسكها، وتعود القوات المسلحة إلى وحدتها وانتظامها ويتفرغ الجميع للمسئولية الثقيلة التي تواجههم.

إذن كان لا بد للخطة أن تكون بسيطة وشاملة وتشمل كل الجيوب التي تشارك في حالة العصيان القائمة: المشير بشخصه على رأس القائمة، قلعة منزل المشير بالجيزة، جهاز المخابرات العامة بعد أن أصبح من المؤكد أن رئاسته تلعب دورا خفيا في تغذية وتأييد العصيان.

وكانت الخطة في إطارها العام كالآتي:

1 – يستدعي المشير إلى منزل الرئيس في منشية البكري ليلا لأي سبب يراه الرئيس صالحا لهذا الاستدعاء حيث يبلغ بتحديد إقامته

2 – في نفس الوقت تتجه قوة من القوات المسلحة إلى منزل المشير بالجيزة لحصاره والقبض على من فيه على أن يتم ذلك قبل أو ضوء.

3 – في اليوم التالي مباشرة يعاد النظام إلى جهاز المخابرات العامة.

ووافق الرئيس على الخطة ورأى أن يحضر معه في لقائه بالمشير في منزله كل من السادة زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات ولم يكن أحد من الثلاثة يعلم بما سوف يتم إلا السيد زكريا محيي الدين فقط ويظهر هذا واضحا من رواية السيد أنور السادات في كتابه البحث عن الذات في الصفحة 248، فبالرغم من أنه، على عادته المعروفة يميل إلى أن يجعل نفسه دائما مركز الأحداث أيام عبد الناصر، وهذا غير حقيقي بالمرة، إلا أنه قال "بعد ذلك في أغسطس أثناء زيارة تيتو لنا استدعاني عبد الناصر في قصر رأس التين فذهبت إليه ووجدت علامات الحيرة على وجهة وقال: والله أنا عايز أقول لك على موضوع يا أنور، أنا مشغول قوي بحكاية عبد الحكيم وأنا تكلمت مع تيتو وحكيت له الحكاية كلها تيتو قال لي ضروري تأخذ إجراء في العملية دي وإلا البلد مجروحة وبعدين أي صراع داخلي وخصوصا إذا كانت فيه القوات المسلحة حيتوسع وينقلب إلى صراع كبير، قلت له: يا جمال أنت سمعت منا كلنا رأينا في الموضوع ده وفعلا ضروري أنت بالذات تواجه عبد الحكيم باللي بيعمله وتحسم الموضوع نهائيا، فقال: فعلا أنا لازم آخذ إجراء، كان ذلك في 13 أغسطس ولم يفصح عبد الناصر عن نوع الإجراء الذي سيتخذه، كل ما حدث أن الإجراء تأخر إلى يوم 25 أغسطس، لماذا تردد رغم خطورة الموقف؟ هنا مرة أخرى تظهر علامة الاستفهام الكبيرة في كل ما يختص بالعلاقة بين عبد الناصر وعامر". ثم قال: "في هذه الأثناء كان عامر قد جعل من بيته المطل على النيل في الجيزة قلعة بكل معنى الكلمة مما جعل عبد الناصر يقرر أخيرا إقامة عامر في بيته بعد أن تسحب منه جميع الأسلحة وبناء عليه أرسل إليه يطلب حضوره للقائه في منزله مساء الجمعة 25 أغسطس وقال لنا: اسمعوا يا جماعة أنا عاوزها جلة مواجهة وأنتم تكونوا موجودين، وأنا وزكريا محيي الدين وحسين الشافعي كنا موجودين في هذه الجلسة". وبعد ذلك أخذ يسرد القصة ويركز على أنه هو الوحيد الذي كان يتكلم في الجلسة وهو الوحيد الذي اصطحب المشير إلى دورة المياه وهو الوحيد الذي بقي معه، وكل هذا لم يحدث لأنني كنت موجودا هناك أرى كل شيء وأسمع كل شيء.

ربما خانته ذاكرته فكثيرا ما خانته هذه الذاكرة وهو يقص أو يكتب التاريخ والذي كان يؤيده دائما بأشخاص انتقلوا إلى رحمة الله.

وصف السادات لعبد الناصر بالتردد هنا ومحاولته إثارة علامات استفهام فيه مبالغة كبيرة لأنه لم يكن يدري أن الترتييبات كانت تعد قبل 13 أغسطس الذي تحدث عنه بوقت طويل، ثم واضح من حديثه أنه كان يجهل كل شيء حتى استدعاه الرئيس يوم 25 أغسطس إلى منزله في المساء.

ويلاحظ في قصة السادات أنه أغفل ذكر أسماء الثلاثة الذين قاموا بالعملية لسبب هام جدا سيظهر من سرد الأحداث لأنه يتعلق تماما بأحداث مايو 1971، فكان إسقاط الأسماء الثلاثة عن قصد وعمد، ولا نريد أن نسبق الأحداث.

وعذرا لهذا الاستطراد، قرر الرئيس أيضا أن أتولى رئاسة المخابرات العامة بعد حسم موقف المشير وجماعته علاوة على منصبي كوزير الحربية، وقلت للرئيس في ذلك الوقت إنه ليس في مقدور بشر أن يقوم بالمسئوليتين في وقت واحد خاصة في هذا الوقت العصيب فأكد لي أن هذا الجمع بين المسئوليتين بصفة مؤقتة حتى ينجلي الموقف. وأصبح كل شيء معدا للتنفيذ.

الليلة العصيبة

اتصل الرئيس تليفونيا وبنفسه بالمشير يوم 24/8/ 1967 ودعاه للاجتماع به في المنزل في منشية البكري الساعة السابعة مساء يوم 25/ 8/ 1967 ووافق المشير على الفور مرحبا، وكان سبب الموافقة المعرفة العميقة التي اكتسبها من تعامله مع عبد الناصر طوال تلك المدة، فهو يعلم أنه في الأزمات السابقة فإن الرئيس كان يعمل دائما على إصلاح الأوضاع وسد الثغرات، ألم يسافر له إلى اليمن لمصالحته وقت أن غادر المشير البلاد عقب إحدى الأزمات ليبقى ويبتعد هناك؟ ألم يتصل به في مرسى مطروح عقب أزمة مجلس الرئاسة وتعيينات كبار الضباط وحسم الموقف لصالحه؟ ألم يعرض عليه منصب نائب رئيس الجمهورية حتى بعد أن أوصلنا إلى النكسة التي نحن فيها؟ ظن عبد الحكيم أن الرئيس سوف يصلح الأمور وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي بل ربما يكون قد ظن أنه سيحدثه في مرافقته إلى مؤتمر الخرطوم يوم 29/ 8/ 1967، ولكن في رأيي أن موافقة المشير على هذا اللقاء كانت لتخدير الرئيس حتى يكسب وقتا ثمينا لتنفيذ عملية يوم 27/ 8/ 1967، باستيلاء على القيادة الشرقية في الإسماعيلية، فإن صالحه الرئيس في اللقاء على أساس جمعه بين منصبي نائب رئيس الجمهورية وقيادة القوات المسلحة فهذا خير وبركة، وإن لم يصلا إلى اتفاق لا يكون قد خسر شيئا بل يكون قد اكتسب الوقت لتنفيذ عمليته التي كان قد تم إعدادها وتجهيزها في ذلك الوقت.

إلا أن أنصار المشير حينما بلغهم نبأ اللقاء المنتظر انقسموا إلى قسمين: قسم يرى أن يذهب المشير للقاء على أساس أنه فاتحة خير قد تنهي الأزمة القائمة، وقسم آخر أوجس خيفة من اللقاء وعارضه بشدة، واستمر حوارهم مدة طويلة، ولم يكن الحوار الدائر خافيا على الرئيس إذ كان ينقل له كافة التفصيلات التي تحدث داخل منزل المشير أولا بأول.

وقد فضلنا عدم إلقاء الأوامر النهائية إلا في آخر لحظة ممكنة أي بعد ظهر يوم 25/ 8/ 1967 وفي الساعة الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم تم الاتصال بالرئيس لأخذ موافقته النهائية على البدء في التنفيذ فأمر بأن تدور العجلة.

وقد اتصلت بالفريق محمد فوزي وكان في منزله يشعر بوعكة خفيفة واتفقت معه على أن نتقابل الساعة السادسة في مكتب السيد سامي شرف وأن يحضر معه كلا من اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية والعميد سعد عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية ثم اتصلت مع شعراوي جمعة وسامي شرف واتفقنا على أن نتقابل نحن الثلاثة في مكتب الأخير الساعة الخامسة بعد الظهر.

وفي تمام الساعة الخامسة اجتمعنا حسب الاتفاق السابق لنضع اللمسات النهائية للخطة واتفقنا على أن يقوم شعراوي جمعة وسامي بالقبض على مرافقي المشير عند وصوله إلى منزل الرئيس وبعد دخوله لمقابلة الرئيس مباشرة واتفقنا أيضا أن تكون عربتي وسائقها "الأسطى عثمان" في الانتظار على باب منزل الرئيس الداخلي لنقل المشير فيها إلى منزله بعد الانتهاء من تصفية منزل الجيزة.

وفي الساعة السادسة مساء تم عقد المؤتمر المتفق عليه في مكتب "سامي" وكان الحاضرون هم:

شعراوي جمعة وزير الداخلية

أمين هويدي وزير الحربية

سامي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات

الفريد محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة

اللواء محمد صادق مدير الخابرات الحربية

العميد سعد عبد الكريم مدير الشرطة العسكرية.

وبدأت بصفتي وزيرا للحربية إعطاء التعليمات والأوامر لتنفيذ الجزء العسكري الخاص بمحاصرة منزل المشير بالجيزة وتصفية المقاومة وشددت على تجنب أي صدام أو تبادل إطلاق النيران كما أمرت باللجوء إلى الحيلة والصبر واتفقنا أن يكون القائد العام على اتصال مستمر معي طوال تنفيذ العملية كما اتفقنا على أن يبلغني فور الانتهاء من تصفية منزل الجيزة.

وقد حضر المشير مبكرا عن الموعد بحوالي ثلث ساعة فقام كل من شعراوي وسامي بتنفيذ الجزء المخصص لهما في العملية وبقيت مع الآخرين حتى أنهيت تعليماتي على عجل وانصرف ثلاثتهم للتنفيذ. لم تكن هناك مشكلة في تجهيز القوات لأن قوات الشرطة العسكرية وعربات المخابرات الحربية كانت في حالة استعداد دائم.

وعاد شعراوي وسامي بعد أكثر من ثلث ساعة بعد أن أتما المأمورية فتم القبض على سائق عربة المشير كما تم القبض على العقيد محمود طنطاوي أحد أفراد مكتب المشير وهو من خيرة ضباط القوات المسلحة خلقا وعلما ولكن للضرورة أحكامها إذ دفعته الظروف دفعا ليجد نفسه من الصف المناهض للشرعية ... ولما سألت شعراوي وسامي عن سبب طول مدة تنفيذ العملية أخبراني بأن الأخ "محمد أحمد" السكرتير الخاص للرئيس أثار ضجة كبرى إذ بمجرد شعوره بما يحدث استنكر أن يتم ذلك من وراء ظهره ودون إخطاره واعتبر ذلك عدم ثقة من الرئيس بسكرتيره الخاص وقد تمادى "محمد أحمد" في احتجاجاته فاضطرا إلى البقاء معه حتى يهدئا من ثورته.

ثم وضع عربة المشير في الجراج الخاص، وأمرت السائق "عثمان" أن يقف بعربتي على الباب الداخلي لمنزل الرئيس، والرجل لا يدري ماذا يحدث لا في الخارج ولا في الداخل إلا أنه لا بد وأن شعر أن شيئا غير عادي يجري تنفيذه.

وفي حوالي التاسعة مساء فضلت أن أدخل منزل الرئيس وبقي "سامي" و "شعراوي" في مكتب الأول واتفقت مع "سامي" أن يحول لي المكالمة التليفونية المنتظرة من "محمد فوزي" بمجرد اتصاله وفعلا دخلت منزل الرئيس ووجدت في "الصالة الخارجية" بعض "ضباط الياوران" وجلست بجوار حجرة الصالون حيث كان اجتماع الرئيس بالمشير لألتقط أنفاسي كان في الداخل خلاف الرئيس والمشير كل من السادة "زكريا محيي الدين" و "حسين الشافعي" و "أنور السادات ... وكان الذي يتكلم هو الرئيس وكان الذي يرد هو "المشير" وقد سمعت الرئيس وهو يقول للمشير "عليك يا عبد الحكيم تقدير الموقف الصعب الذي تمر فيه البلاد، وعليك أن تلزم منزلك في هذه الفترة الحرجة" وسمعت المشير وهو يرد على الرئيس قائلا "يعني بتحدد إقامتي وبتحطني تحت التحفظ، قطع لسانك" وكرر ذلك أكثر من مرة، كان الحديث يدور هادئا في معظم الأحيان ولكن كانت الأصوات ترتفع في حدة في أحيان أخرى، ولكن لم يكن في مقدوري متابعة ما يجري لأنه لم يصل إلى أذني إلا بعض الكلمات بين وقت وآخر وكنت منهكا وتعبا بحيث كنت أميل للاسترخاء قليلا قبل ما ينتظرني في اليوم التالي.

وكان المشير – وحتى منتصف الليل –مصرا على موقفه المتعنت، ولا شك أن "تجمع أصدقائه" في الجيزة كان له دخل كبير في إصراره هذا، كان الرجل يلعب على عامل الوقت لعل وعسى أن يلين الرئيس كما كان يحدث في المرات السابقة.

وفي هذه الأثناء كان "فوزي" قد اتصل بي مرتين: مرة حينما وصل إلى منزل الجيزة على رأس قواته ليخبرني بإتمام حصاره المنزل، ومرة أخرى ليبلغني أن حرائق شوهدت في المنزل والتي ظهر بعد ذلك أنها عبارة عن عملية حرق الأوراق الهامة بواسطة بعض الضباط الموجودين في منزل الجيزة والتي قد تدينهم لو تم القبض عليهم وقد أخبرت الرئيس بذلك وأكدت له أن هذه علامة على حالة الانهيار التي أصبح فيها هؤلاء الضباط.

وفي منتصف الليل تقريبا خرج الرئيس من حجرة الصالون ولما وجدني بالخارج اصطحبني معه واضعا ذراعه في ذراعي إلى حجرة المكتب على الجانب الآخر من "الردهة الخارجية" وكان كلانا يدخن بشراهة وخيل لي أن الرئيس يكاد يقضم سيجارته، وفور دخوله إلى المكتب طلب عباس رضوان تليفونيا من رقم مباشر من الذاكرة وقال له "يا عباس أنت المسئول عن فض الموقف في الجيزة" ولست أدري هل تم اتفاق الرئيس مع عباس قبل هذا الاتصال أم لا لأن كلام الرئيس لعباس كان موجها لشخص يعرف ما يجري، وبعد ساعة أخرى خرج الرئيس من الصالون للمرة الثانية واتجهت معه إلى المكتب ليعاود الاتصال مع "عباس" وكان حديثه هذه المرة محتدا قاطعا وهو يقول له "أنت يا عباس مسئول عن عدم فض الموقف" وبعد انتهاء المحادثة ذكر الرئيس أن الموقف في نظره يتعقد وأن عباس يتلاعب ورددت على الرئيس "ما زال أمامنا أربع ساعات حتى الفجر وأن حل الموقف هناك في منزل الجيزة وأن المشير سيبقى على عناده طالما بقي منزل الجيزة على أوضاعه" وأمن الرئيس على ذلك وصعد إلى الدور العلوي بمفرده ليستريح بعض الوقت، وليس صحيحا ما ذكره الرئيس السادات في كتابه "البحث عن الذات" من أن السيدين زكريا محيي الدين وحسين الشافعي صعدا مع الرئيس إلى الدور العلوي وأنه بقي وحده مع المشير في حجرة الصالون.

ولكن هي عادة الرئيس السادات في أن ينسب كل شيء إلى ذاته ولو تم ذلك على حساب الحقيقة.

ودخلت حجرة الصالون وسلمت على الجميع، كان المشير جالسا على أريكة من الأرائك وحينما رآني قال "أهلا وسهلا بوزير حربيتنا، الله ده الموقف مجهز تماما والمسألة محبوكة على الآخر". كان أنور السادات هو الوحيد الذي يجلس صامتا والدموع على خديه أما السيد حسين الشافعي فكان يبدو غير مهتم بما يجري أما السيد زكريا فكانت ملامحه جامدة لا تدل على شيء.

وهنا خرج المشير ذاهبا إلى دورة المياه وخرجت معه وكان الرجل ودودا معي يتحدث في ابتسامته الهادئة، كانت أعصابه هادئة ولم يكن منفعلا بالرغم من أنه كان يدرك الموقف الحرج الذي أصبح فيه، وفجأة خرج المشير من دورة المياه وفي يده كأس زجاجي به بعض المياه وقال بأعلى صوته وهو يرمي الكأس على طول ذراعه "اطلعوا بلغوا الرئيس أن عبد الحكيم خد سم لينتحر". ودخل في هدوء إلى حجرة الصالون ليجلس على الأريكة ذاتها وهو يبتسم في هدوء وكأنه لم يفعل شيئا، وقد انزعجت أشد الانزعاج حينما سمعت بذلك وصعدت إلى الدور العلوي حيث يوجد الرئيس قفزا فوق الدرج واستقبلني الرئيس من أعلى السلم وقلت له "المشير خد سم وانتحر" فقال لي الرئيس "عبد الحكيم أجبن من أن ينتحر، لو كان عاوز ينتحر كان انتحر لما ودانا في داهية" ويبدو أن درجة انزعاجي كانت شديدة لدرجة أن الرئيس كان يحلو له بعد ذلك أن يحكي عن ذلك في مناسبات عديدة وكان يضيف قائلا "تمثيلية عبد الحكيم خالت علي أمين".

حدث هرج ومرج بين الموجودين أما "الثلاثة الكبار" فكانوا على حالهم لم يتحركوا أو ينفعلوا ولكن خيل لي أن عبرات الرئيس السادات زادت كثافة، ودخل الدكتور الصاوي طبيب الرئاسة مسرعا وفي يده شنطته العتيدة ولما لم يستجب المشير للعلاج الذي كان يريده الدكتور الصاوي تقدم السيد حسين الشافعي "ليعبط" المشير حتى أعطاه الدكتور "الحقن اللازمة". وهدأ كل شيء من جديد.

ورأى المشير أن يخرج إلى الحديقة ليشم بعض الهواء وخرجت معه، كان الرجل وفي حركات تمثيلية يكثر من النظر إلى السماء ثم يتنهد ثم يعود لينظر إلى السماء، وهنا دار بيني وبينه الحديث الآتي:

أمين: كيف حالك الآن؟

عامر: أنا كويس والحمد لله.

أمين: سيادة المشير، هل يصح هذا الذي يحدث؟ هل يمكن أن يطور المشير الموقف إلى هذا الحد؟ أنا لا أكاد أصدق أن الأمور تصل إلى ما تصل إليه الآن.

عامر: يا أمين أنت لا تعرف شيئا.

أمين: كيف لا أعرف؟ الوقت يمر ولا بد من حسم الموقف.

عامر: لحساب من يا أمين يحسم الموقف؟ اسكت أنت لا تعرف أي شيء.

وسادت الصمت بيننا وأخذ يتمشى جيئة وذهابا ودخلنا إلى حجرة الصالون، ولم أجد هناك السيد حسين الشافعي وحينما خرجت إلى الصالة الخارجية وجدته جالسا وأمامه طبق من الفاكهة وهو مقبل عليه في اطمئنان، ودعاني إلى تناول بعض الفاكهة ولكن لم يكن لي شهية لأي شيء وأنا أرى ما أرى، وأخيرا قال: أنا رأيي إن المشير يعود إلى منزله والموضوع "مش نافع" الفجر قارب الظهور فماذا سيقول الناس عندما يرون ما يحدث في منزل الجيزة؟!...

وبقينا ندور في حركة مفرغة، كان الجميع يلعبون على عامل الوقت وفي حوالي الساعة الخامسة صباحا استدعاني أحد ضباط الياوران إلى التليفون ذاكرا إن "الفريق محمد فوزي على الخط" وأخذت التليفون وكان فوزي على الجانب الآخر من الخط يقول "المأمورية انتهت يا فندم دون أي صدام، والمنزل خالي الآن" فقلت له "الحمد لله ومتشكر" وأسرعت إلى الدور العلوي لأبلغ الرئيس بالسيطرة على الموقف دون صدام، فرد الرئيس "الحمد لله" ولم أدخل حجرة الصالون ولم أشاهد أحدا بعد ذلك بل غادرت منزل الرئيس وعبرت الشارع إلى مكتب "سامي" حيث وجدته جالسا هو وشعراوي. ومن خلال النافذة رأينا إحدى العربات تتحرك بعد فترة من الوقت وفيها ثلاثة: المشير عبد الحكيم عامر والسيد زكريا محيي الدين والسيد حسين الشافعي.

ولا أدري ماذا كان يعتمل في صدر المشير ولكنه أصبح الآن شخصا غير الذي وصل أول الليل إلى منزل الرئيس، كان شخصا نزع عنه سلطانه وعاد إلى الشرعية بعد ليلة عصيبة ورغم أنفه.

وأترك للفريق فوزي الحديث عن تفاصيل ما قامت به قوته وهي تحاصر منزل الجيزة نقلا من كتابه "حرب الثلاث سنوات 1967 – 1970" .. "بعد أن صدر الأمر توجهت إلى منزل الرئيس بمنشية البكري وعلمت أن المشير قد حدد له موعد لمقابلة الرئيس عبد الناصر في الساعة 7 مساء نفس اليوم بمنزل الرئيس وأن المشير سيبقى هناك حتى انتهاء مهمتي في تطهير المنزل .. وعندما وصلنا إلى باب المنزل الرئيسي لمنزل المشير وجدته مقفلا بسلسلة حديدية وقفل خلف الباب كان يقف شمس بدران وعثمان نصار وعبد الحليم عبد العال وجلال هريدي وآخرون وجميعهم مسلحون بالرشاشات القصيرة وفي أيديهم وجيوبهم قنابل يدوية وأخطرت شمس بدران فلم يذعن للأمر وفي تلك اللحظة وصل عباس رضوان (14) وهو يقيم بمنزل قريب من منزل المشير ليسأل عليه وعندما علم بعدم وجوده بالمنزل طلب مني الانتظار فترة لحين معرفة الموقف داخل منزل المشير واصطحب معه شمس بدران بينما بقي الباقون خلف باب الحديقة الخارجي، خلال النقاش صدرت بعض طلقات الرصاص من فوق سطح المنزل للإزعاج ولم يرد عليها أحد من القوة حسب أوامري كما وصلني بلاغ عن مشاهدة دخان حريق علمت فيما بعد أن مجموعة شمس بدران قامت بحرق وثائق وخرائط سرية تجرمها لو وقعت في يدي، ثم خرج عباس رضوان وشمس من داخل المنزل (15) وفتحا باب الحديقة الخارجي وطلبا مني الدخول مع قائد القوة قائلين: إحنا مستعدين لتنفيذ ما تطلبه، وشاهدت ضباط شمس بدران يلقون أسلحتهم والقنابل اليدوية على الأرض، وأصدرت الأمر رقم (1) من الميكروفون اليدوي طالبا نزول جنود سريتي الشرطة العسكرية بدون أسلحة وذخيرة أولا حيث كانت لواري حمولة 3 طن، جاهزة لركوبهم بعد تفتيشهم حيث أخذوا إلى السجن الحربي، تلا ذلك صدور الأمر رقم (2) وهو يخص نزول الأفراد المدنيين بدون أسلحة أو ذخيرة وانتظرت تنفيذه مثل الأمر الأول ثم أصدرت بقية الأوامر على التوالي كل أمر يأخذ وقته في التنفيذ قبل صدور الأمر الذي يليه وهكذا رحلت الضباط المتقاعدين إلى السجن الحربي وكان آخرهم شمس بدران الذي رحل إلى سجنه القلعة، ثم بدأنا في جمع الأسلحة من البدروم والدور الأول والسطوح والجراج ورحلت إلى معسكر عابدين في حمولة 13 لوري سعة 3 طن واستغرقت هذه العملية طوال الليل، ثم عينت الحراسة على منزل المشير وعينت اثنين من العمداء للحراسة 24 ساعة على المنزل وتم تركيب تليفون خارج المنزل للاتصال، وعند وصول المشير إلى منزله تم تحديد إقامته بين أهله وأولاده تحت الحراسة الشرعية للدولة".

هذه رواية الفريق فوزي عن مأموريته التي كلف بها في إطار العملية وقد يكون في سرد بعض المعلومات الأخرى والتي تعيها الذاكرة فيه استكمال للصورة فقد أعلن الضباط عند وصول القوة أنهم سوف يقاومون بالقوة واحتلوا أماكن داخل المنزل سبق إعدادها لذلك بالاشتراك مع المدنيين المسلحين الموجودين داخل المنزل، وقام كل من شمس بدران وجلال هريدي بتوجيه الحديث إلى أفراد القوة التي تحاصرهم بغرض استمالتهم إلى جانبهم وعدم تنفيذ الأمر الصادر باعتقالهم.

وفي أثناء التفتيش عثر على كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والقنابل اليدوية كما عثر على أعداد كثيرة من استقالة المشير عام 1962 وكانت معدة في مظاريف لتوزيعها كما عثر أيضا على بعض ماكينات الكتابة وآلات الطبع.

وفي حوالي الساعة السادسة صباحا يوم 26/ 8/ 1967 وبعد انتهاء الليلة العصيبة اتصل الرئيس تليفونيا بسامي شرف ليطمئن على الأحوال وأخبره بأنه يريد أن يحدثني وفعلا بدأت الحديث مع الرئيس، كان يسأل ليطمئن، وقال: "شكرا على ما بذلته، والله كانت ليلة عصيبة، هل أفطرت؟" فقلت له "نعم والحمد لله" ولم نكن قد ذقنا للأكل أو النوم طعما، ثم سأل عن المأمورية الأخرى وهل كل شيء جاهز فطمأنته أن كل شيء معد.

كان يقصد ذهابي إلى جهاز المخابرات العامة واستلامي السلطات هناك.

جلسنا نعيد ترتيباتنا لهذه المأمورية الثقيلة وكان علي أن أبدأ الساعة العاشرة في الذهاب إلى هناك.

جلسنا نعيد ترتيباتنا لهذه المأمورية الثقيلة وكان علي أن أبدأ الساعة العاشرة في الذهاب إلى هناك.

تولي رئاسة المخابرات العامة

أثناء إعدادنا لعملية "جونسون" وقرارنا بأن يدخل جهاز المخابرات ضمن العملية كلفني الرئيس بأن أتولى رئاسة الجهاز بعد تصفية منزل الجيزة وكما سبق أن ذكرت فإنني طلبت من الرئيس أن يكون جمعي للمنصبين – منصب وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة – بصفة مؤقتة بالرغم من أنه ظهر من حديث الرئيس أن ذلك لم يتم إلا بعد فترة ليست بالقصيرة.

وسبق أن ذكرت أنه في يوم 24/ 8/ 1967 اتفق الرئيس مع المشير لمقابلته في منزله بمنشية البكري مساء يوم 25/ 8/ 1967.

وفي اليوم نفسه أي يوم 24/ 8/ 1967 اتصلت بالسيد محمود عبد السلام وهو من الضباط السابقين في القوات المسلحة نقلته إلى العمل بجهاز المخابرات العامة منذ أواخر الخمسينات حينما نقلت بالجهاز نقلا من القوات المسلحة، والرجل زميل وصديق ويتمتع بمزايا كثيرة جعلتني أتصل به في ذلك اليوم لمقابلتي بالمنزل.

وقد حدثته في هذه المقابلة عن أن تغييرات هامة سوف تجري خلال الساعات القادمة في بعض أجهزة الدولة، وأنني سأتولى رئاسة جهاز المخابرات خلال الساعات القليلة القادمة وسوف أكون في الجهاز الساعة العاشرة يوم 26/ 8/ 1967 وعليه أن يكون في انتظاري لأنه سيعمل معي كمدير لمكتبي منذ لحظة وصولي.

ووافق الرجل دون أية تساؤلات أو تردد، فالثقة كاملة بيننا، واتفقت معه قبل أن ينصرف على عدم تبادل الاتصال في الساعات القادمة وحتى وصولي إلى الجهاز في الموعد المتفق عليه وإن حدث تغيير في الموعد لظروف طارئة فإن الاتصال سوف يكون من جانبي.

وفي صباح يوم 26/ 8/ 1967 وبعد الانتهاء من عملية "جونسون – المرحلة الأولى" تأهبت للذهاب غلى المخابرات العامة وكان من رأى شعراوي وسامي أن تسبقني إلى هناك فصيلة شرطة عسكرية تحسبا لأي مواقف مفاجئة إلا أنني استبعدت هذا الحل في الحال استبعادا كاملا إذ كيف أتولى رئاسة جهاز خدمت فيه من قبل خمس سنوات كاملة وأعرف جميع من فيه تقريبا في ظل حماية من الشرطة العسكرية؟ هذا غير معقول وغير جائز، واخترت أن أذهب إلى الجهاز وحدي وبعربتي الخاصة ودون سائق أو مرافق.

وحين مغادرتي مكتب "سامي" اتفقت معه على الاتصال مع "السيد وجيه عبد الله" مدير مكتب السيد صلاح نصر لإخطاره بصدور أوامر الرئيس بتعييني رئيسا للجهاز وبأنني في الطريق إليه.

وفعلا كنت على الباب الخارجي الرئيسي للمبنى في تمام العاشرة صباحا ولما سألني رئيس مكتب الأمن عن شخصيتي أخبرته بأنني رئيس الجهاز الجديد، وكان "وجيه" قد أعطاهم خبرا بذلك، فأدارا التحية الواجبة وأخذت المصعد إلى الدور الأول في طريقي إلى مكتب رئيس الجهاز وحدي وكنت أعرف طريقي تماما حيث كنت من مؤسسي هذا الجهاز منذ الخمسينات.

كنت أكره هذا المكتب ولا أستريح إليه، فالطريق إليه خافت الضوء، والمكتب نفسه متسع مترامي الأطراف أثاثه قاتم ملحق به حجرتان أخريان، كان أشبه بالشقة الخاصة المقبضة، ويزيد من كآبة المكتب ضوءه الخافت حتى بالنهار بحيث كان من الضروري إضاءة الأنوار ليل نهار، وعلاوة على ذلك فقد شاهدت فيه بعض الأحداث والتصادمات في فترة خدمتي السابقة كنائب لرئيس الجهاز في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينات تركت ترسبات في نفسي، والشيء الغريب أن شعوري بالانقباض من هذا المكتب لازمني طوال فترة رئاستي لهذا الجهاز من 26/ 8/ 1967 حتى 25/ 4/ 1970 وما زلت أذكر كيف شعرت بالراحة العميقة وأنا أخرج من الباب الرئيسي بعد أن سلمت قيادة الجهاز لخلفي بعد ثلاث سنوات بدأتها بدخولي من نفس الباب بتلك الطريقة الغريبة .. وشعرت حينئذ أن حجرا ثقيلا أزيح عن كاهلي ونمت تلك الليلة بطولها لأول مرة منذ زمن بعيد دون أن توقظني أجراس التليفونات العديدة بأخبار كلها سيئة مثيرة للأعصاب ومشاكل ثقيلة كان لا بد من مواجهتها بقرارات عاجلة وفي الحال.

وتأخر محمود عبد السلام ساعة كاملة عن الموعد ... ولكني بدأت في الحال، اتصلت بمنزل السيد صلاح نصر لأسأل عنه إذ كان مريضا أو معتكفا في منزله منذ أيام، ولأبلغه أيضا بأنني توليت رئاسة الجهاز، ثم للتحدث إليه بالحديث المعتاد في مثل هذه المناسبات الشاذة والثقيلة، إلا أن المتحدث على الخط الآخر وبعد أن غاب فترة من الوقت اعتذر لي بأنه نائم، فرجوته أن يخبره باتصالي وبأن يخبره أيضا بأن يتصل بي في مكتب رئيس المخابرات العامة إذ صدرت التعليمات برئاستي للجهاز وشددت عليه في ذلك وبعد أن يستيقظ مباشرة، ولكن "صلاح" لم يتصل، وهي نفس عادته – رحمه الله – في عدم قدرته على المواجهة ولذلك فإنه كان نادرا ما يرد على الاتصالات التليفونية إلا إذا كانت من أفراد معينين وتبعا لحالة العلاقة بينه وبين المتحدث، وليس صحيحا ما كتبه "الأخ صلاح" بعد ذلك على صفحات المجلات بأنني اقتحمت جهازه، فليس في قدرة "فرد" وبمفرده أن يقتحم جهازا خطيرا كهذا الجهاز عليه الحراسات المتعددة وإلا كان في هذا التعبير – إن كان يعنيه حقيقة – تقليل من قدرة الجهاز وشأنه، ثم ما حيلتي وقد قمت من جانبي بالاتصال مع الرجل لأخطره وأستأذنه في مباشرة عملي الجديد إلا أن الرجل فضل ألا يتصل ويرد؟!

على أية حال لن أخوض في شيء يخصني إلا بقدر المحافظة على ارتباط الأحداث، فالرجل انتقل إلى رحمة مولاه، وللموتى قدسية يجب احترامها كما أمرنا وتعلمنا.

كانت أهم الواجبات التي لا بد من تنفيذها في الساعات القادمة هي:

1 – التحفظ على بعض المسئولين ممن تجمعت عنهم معلومات بالإساءة في التصرف للتحقيق معهم.

2 – إعطاء بعض المسئولين إجازات إجبارية حتى يسهل تصحيح المسار.

3 – إجراء حركة تعيينات جديدة في الأجهزة الحساسة.

4 – استمرار الجهاز في تحمل مسئولياته في الداخل والخارج في الوقت العصيب الذي تمر به البلاد ولملاقاة حالة التقصير الشديد التي كانت تنتابه.

5 – عقد اجتماع عاجل مع "كبار" رجال الجهاز للتقليل من حالة القلق الحتمية التي ستسود الجميع نتيجة للإجراءات السابقة وتوضيح الخطوط العامة الرئيسية بالاتجاهات الجديدة لسير الجهاز وعلاقاته بالأجهزة الأخرى.

وحوالي الظهر كان محمود عبد السلام يتولى عمله الجديد كمدير لمكتب رئيس المخابرات العامة وبقي "وجيه عبد الله" كمساعد له وبدأت العجلة تدور وقد تمت كافة العمليات الثقيلة المؤسفة التي كانت الظروف تحتم اتخاذها بالرغم من المشاعر الحزينة التي كانت تسيطر على النفس فتم التحفظ على 11 من الأفراد وأعطي 7 آخرون إجازات إجبارية وأصدرت حركة التعيينات الجديدة والتي شملت تغيير عشر قيادات حساسة، وقد تم ذلك كله في ساعات قليلة، وقد أطلق الرئيس على هذه العملية بعد ذلك تعبير "سقوط دولة المخابرات".

وبدأت الأعمال تسير ببطء وحذر، وكان هذا وضعا طبيعيا تحت الظروف الضاغطة السائدة، وكانت أهم الأحداث التي واجهتنا في الأسابيع القليلة التالية حادثتين أو واقعتين: الواقعة الأولى وهي الخاصة باستلام السيدين صلاح نصر وعباس رضوان مبلغ الستين ألف جنيه وقد سبق الحديث عنها وأحلنا الواقعة إلى مدير المخابرات الحربية الذي كان يتولى التحقيق في قضية "مؤامرة المشير للاستيلاء على القيادة الشرقية" أما الواقعة الثانية فكانت تتعلق "بالسم" الذي أعطاه صلاح نصر من قسم السموم بالمخابرات العامة إلى "المشير" والذي استخدمه في الانتحار وهذا ما سوف نتحدث عنه في الصفحات التالية.

ووسط كل هذه التعقيدات قفزت أمامنا قضيتان كبيرتان: القضية الأولى بخصوص تجمع بعض معلومات ابتدائية مذهلة عن انحرافات خطيرة كانت تتم على مدى سنوات طويلة وهي التي عرفت بعد ذلك بقضية "انحراف المخابرات" والقضية الأخرى هي التي عرفت بعد ذلك بقضية "تعذيب المخابرات والتي كان الدكتور عبد المنعم الشرقاوي المجني عليه الوحيد فيها".

بخصوص قضية "انحراف المخابرات" نجد أن القضية أثارت موضوعا حساسا من أعمال المخابرات وهو موضوع "استخدام وسائل السيطرة" Control في الجهاز وهو أحد الموضوعات التي تعتبر من "الأعمال القذرة" للمخابرات في العالم، وهو عمل مشروع إذا استخدم لصالح الدولة أو لتحقيق غرض يخدم أهداف المخابرات أما إذا استخدمت السيطرة لتحقيق مصالح فردية فهنا يصبح هذا الاستخدام غير شرعي، وقد أشرت على الرئيس في ذلك الوقت ألا أقوم بنفسي بالتحقيق في هذا الموضوع كما كان يرى، فالمسئوليات الكبيرة في القوات المسلحة وإعدادها، والمخابرات العامة وإدارتها تحول بيني وبين هذا الواجب الإضافي، ثم العلاقات المتوترة بيني وبين "السيد صلاح نصر" من زمن طويل والتي اضطرتني إلى تقديم استقالتي في أوائل الستينات وفشلي في إعادة العلاقات إلى طبيعتها بعد ذلك كل ذلك تجعل قيامي بالتحقيق فيه شبهة الانتقام وهذا أمر لا أرضاه، واقتنع الرئيس بهذه المبررات وظل السؤال قائما: ومن يقوم بالتحقيق إذن؟ ولقد وافقني الرئيس أيضا على ما اقترحته عليه من استبعاد قيام أحد كبار رجال الجهاز بهذا التحقيق ففي هذا حرج ما بعده حرج، وقد اقترحت بعد ذلك على الرئيس أن يكون القائم بالتحقيق الابتدائي شخص يتوفر له حسن العلاقة مع السيد صلاح نصر، واخترت السيد حلمي السعيد رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة للقيام بهذه المأمورية لصداقته الشديدة مع "صلاح" من جانب ولأنه ليس طرفا في الموضوع من جانب آخر، ووافق الرئيس على ذلك، وبدأ السيد حلمي السعيد في التحقيقات المذهلة والتي عرضت بعد ذلك على محكمة الشعب برئاسة السيد حسين الشافعي والتي حكمت على السيد صلاح نصر بالسجن 40 سنة مع الأشغال الشاقة وهو أطول حكم سجن في تاريخ مصر وجاء في نصر الحكم "ثبت للمحكمة أن المسئول الأول عن هذا الانحراف هو المتهم صلاح نصر رئيس المخابرات السابق الذي كان يعد – بحكم وضعه وسلطاته – المسئول الأول عن كل عمل تدخل فيه جهاز المخابرات بوسائل غير مشروعة، كما أنه مسئول عن استغلال وظيفته وسلطاته في أغراض شخصية غير مشروعة مما انعكس أثره على سمعة الجهاز وأضر بالأمن القومي للدولة وهو ما يعتبر خروجا على المبادئ التي قامت عليها الثورة، فقد تخلى رئيس المخابرات العامة السابق عن أداء واجبه في الحفاظ على الأمن القومي للدولة وانصرف إلى العمل على تحقيق أطماعه وشهواته الخاصة واستغل في ذلك إمكانيات جهاز المخابرات وطبيعة عمله السري لفرض سيطرته على أشخاص معينين لمآرب خاصة لا تمت للصالح العام بصلة، ثم أراد تدعيم مركزه فسعى إلى إنشاء علاقات شخصية خاصة بينه وبين المشير عامر مكنت له من فرض سيطرته عليه، وقد ظهر للمحكمة هذا الارتباط واضحا من العلاقات الشخصية التي كانت قائمة بينهما مما مكن المتهم من الاستناد إلى مركز القوة الذي كان يمثله المشير ويعتمد عليه وإخفاء الحقائق عن المسئولين، ومن المؤسف أن تصرفات صلاح نصر الشخصية وانحرافه في سلوكه قد أدت إلى إساءة سمعة جهاز المخابرات العامة في نظر الشعب بينما الواقع أن جهاز المخابرات وجد ليحمي الشعب من أعدائه في الداخل والخارج" (16)

أما القضية الأخرى وهي عمليات التعذيب فقد فوجئنا بأن جريدة الأهرام تثيرها في تركيز شديد وبعناوين ضخمة وقد كان الاهتمام بها شديدا لدرجة أن رئيس التحرير نفسه السيد محمد حسنين هيكل علق عليها تعليقا مثيرا، وكان وقت إثارة القضية مقلقا بالنسبة لي إذ كنت أعاني في تلك الفترة من دفع أفراد الجهاز إلى التفرغ إلى أعمالهم الكبيرة معيدا إليهم الثقة بأنفسهم، فالمطلوب منا تحقيقه كان شاقا ومصيريا وكان الجهد مركزا على خلق الجو الصالح للإنتاج السليم...

وقد بدأت ألمس نتيجة هذه السياسة بنفسي وتلمسها الأجهزة التي تستفيد من عمل الجهاز إلا أن إثارة هذه القضية فجأة عادت بنا إلى أول الطريق من جديد!!! وكنت أعلم تمام العلم أن القضية لا أساس لها من الصحة وإلا لكنت أثرتها بنفسي ولا أتستر عليها، وحدثني الرئيس في ضرورة إحالة الموضوع إلى التحقيق بواسطة النيابة العامة وصارحته بما يجول في خاطري وبالظروف المستحيلة التي أشق وسطها طريقي في وزارة الحربية وجهاز المخابرات إلا أن الرئيس أصر على إحالة القضية كلها إلى التحقيق.

وفعلا حققت النيابة العامة مع المسئولين وأحالت أربعة منهم إلى محكمة الشعب برئاسة السيد حسين الشافعي إلا أن المحكمة أصدرت حكمها ببراءة الجميع مما أسند إليهم وقررت في أسباب الحكم أن الدكتور الشرقاوي لم يتعرض إلى أي نوع من أنواع التعذيب، ولكن كان علينا – لكي يتفرغ الجميع إلى عملهم – بذل جهود مضاعفة إذ من المستحيل على مثل هذه الأجهزة الدقيقة الحساسة أن تعمل في ظل عدم الثقة أو في ظل القلقلة المستمرة.

وفي الأيام القليلة التالية لبداية عملي بهذا الجهاز تم الآتي:

1 – في اجتماع مع رئيس نيابة أمن الدولة في ذلك الوقت اتفقت معه على ترحيل كافة المتهمين الموضوعين تحت التحفظ في المخابرات العامة على ذمة قضايا خاصة بها وذكرت له أن الجهاز لا يريد هؤلاء فإن كانت النيابة ما زالت تطلبهم لسبب أو آخر فعليها ترحيل هؤلاء إلى أي مكان تراه وقد تم ذلك فعلا ولم يتحفظ في الجهاز بعد ذلك ولمدة ثلاث سنوات قضيتها رئيسا له على أي فرد إلا السيد عثمان أحمد عثمان حينما رأت النيابة التحفظ عليه على ذمة إحدى قضايا الجاسوسية ولكن أفرج عنه بعد 24 ساعة من القبض عليه وحينما ظهر للنيابة براءته مما كان منسوبا إليه.

2 – أعدنا النظر في كل الموضوعين على قوائم الممنوعين من السفر أو الدخول بواسطة المخابرات العامة ورفعناهم جميعا من القوائم قود حرصت على مقابلة الجميع أو من يتيسر وجوده منهم بنفسي وأفهمتهم الأسباب التي وضعوا في القوائم من أجلها منبها عليهم بتلافي ذلك، ولم يوضع فرد واحد بعد ذلك على القوائم بواسطة المخابرات العامة طوال فترة رئاستي لها.

3 – أصدرنا التعليمات التفصيلية والسرية لوضع الحدود التي تتم في إطارها "الأعمال القذرة" للمخابرات العامة مثل عمليات "السيطرة Control" وتزوير الجوازات أو الوثائق أو الصور أو تزييف العملة أو السموم والتي قررت إقفال القسم الخاص بها واتبعت هذه التعليمات بمنتهى الدقة.

4 – أصدرت التعليمات بعدم قيام الجهاز بأية تحقيقات من أي نوع وأن تحال كافة هذه التحقيقات إلى النيابة لإجرائها ولم يتم تحقيق بواسطة الجهاز إلا في قضية واحدة عرفت بعد ذلك "بقضية كاسيماتس" كانت خاصة بالتلاعب في إحدى شركات القطاع العام، وعرضت توصيات الجهاز بخصوصها على اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي والتي وافقت على التوصيات، والسبب في هذا الإجراء أن اثنين ممن ثبتت مسئوليتهما في القضية كانا شقيقين لعضوين في اللجنة التنفيذية العليا.

5 – تم تركيز سلطة الضبطية القضائية في يد رئيس الجهاز ولم تستخدم هذه السلطة إطلاقا طوال رئاستي لا بواسطتي ولا بواسطة أي فرد من الأفراد رغم أن هذه السلطة كانت مخولة لنا بواسطة قانون المخابرات العامة والقوانين المعدلة له.

6 – وضع نظام دقيق للمصاريف السرية وطريقة المحاسبة لإنفاقها بواسطة الجهات المختلفة داخل الجهاز ولنا هنا وقفة:

أ – طلب عبد الناصر – بعد النكسة – من كافة الأجهزة التي تحت يدها مصاريف خاصة أو سرية تقديم حسابات شهرية عن إنفاقها.

ب – حينما اعترض أحد رؤساء الهيئات داخل جهاز المخابرات العامة على نظام المحاسبة استبدلته بغيره في الحال حتى يكون مثلا لغيره.

ج – شكلت لجنة فنية لمراجعة حسابات الجهاز في الظروف المؤسفة لأحداث "15 مايو 1971" وكتبت اللجنة في تقريرها عن المراجعة "إن النظام المعمول به في جهاز المخابرات العامة مثل يجب أن يحتذى في كل الأجهزة التي يوجد تحت يدها مثل هذه المصروفات فهو نظام يتميز بالدقة والوضوح" وتظهر أهمية هذا التقرير من ظروف كتابته إذ كنت أتنقل في ذلك الوقت من سجن إلى آخر من سجون الرئيس السادات وكان المطلوب طبعا من اللجنة أن تكيل الاتهامات لمن أصبح وراء القضبان.

ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يتفرغ الجهاز للقيام بأعماله الخطيرة في ظل عودة الثقة إلى أعضائه، وفي ظل التعليمات الواضحة التي حددت الإطار السليم لتحركاته مما بدأ ينعكس على أعماله الداخلية والخارجية على حد سواء.

ماذا حدث في الأسابيع التالية لليلة العصيبة؟

وحتى نكمل الصورة لما حدث بعد تلك الليلة وما تلاها من تطورات خطيرة وجدتني في حيرة حقيقية عن الطريقة الموضوعية لإتمام ذلك ... فقد شاركت بنفسي في بعض هذه الأحداث كما شارك غيري فيها كل بمقدار جهده وبمقدار مسئوليته عن حدوثها، ويمكن أن يكون ذلك المنبع الرئيسي الذي آخذ منه معلوماتي ولكن قد يكن هذا الإجراء غير محايد في نظر البعض.

ثم أمامي عشرات المراجع التي كتبها البعض ليعرض الحقيقة واعترف أن هؤلاء قلة، وهناك أيضا عشرات المراجع التي كتبها البعض بحثا عن الحقيقة واعترف أن هؤلاء نادرون، وبالرغم من ذلك فقد تعد مثل هذه المراجع رافدا آخر يضاف إلى المنبع الأصلي للمشاركين في الأحداث ولكن قد لا يبعث ذلك الطمأنينة الكاملة في نفوس البعض.

ثم أمامي بعد ذلك مئات من المراجع والمقالات التي استبعدتها من فوري إذ أنها كتبت لا ذكرا للحقيقة، ولا بحثا عنها ولكن كانت الكتابة بقصد تشويهها وإضاعة معالمها لدوافع متباينة.

فبعض الكتاب جرى وراء المال ومصادره كثيرة مغرية خاصة وأن هذه المصادر لا تدقق في صحة ما ينشر فكل همها الإثارة كحافز للبيع وجمع الربح في سوق النشر الغريب، والبعض لبس ثوب المؤرخ ولكنه بدلا من أن ينقل من صفحات الواقع أخذ يكتب من الخيال فيخلق قصصا لم تحدث، ويدون أوهاما ويحاول أن يقنع القارئ على أنها حقيقة، والبعض الآخر – بدافع الحقد والكراهية وتصفية الحساب – حول قلمه إلى فأس وشمر عن ساعده وأخذ يضرب ويحطم في جبال الحقيقة الشامخة ولكنه اكتشف بعد فترة أنه لم يخدش إلا السطح وفأسه قد تكسرت في يده والناس يمرون عليه وهم ينظرون إليه في أسف وازدراء ...

أمام هذه البدائل الصعبة اخترت مصدرا واحدا يقص علينا الحقيقة، هذا المصدر هو كتيب صغير أسود الغلاف كتبه "المستشار محمد عبد السلام" اسمه "سنوات عصيبة – ذكريات نائب عام" (17) والسبب في هذا الاختيار يرجع إلى عوامل كثيرة موضوعية:

1 – فهو صادر أولا عن دار الشروق، وهي دار وهبت نفسها لدوافع معروفة لتشويه صورة عبد الناصر وعهده وذلك فهي لا يمكن أن تكو دارا تروج لشيء إلا هدم عبد الناصر وأعماله والتشكيك فيه.

2 – ثم صدر الكتاب عام 1975 وهي السنة التي شاهدت تصاعد الهجمات على عبد الناصر من قمة الإدارة الحاكمة إلى صحافتها إلى مؤسساتها ومعنى ذلك أن ما ينشر وسط هذا المناخ لا بد وأن يكون مسايرا له.

3 – ثم مؤلف الكتاب مستشار من رجال العدالة، ثم هو نائب عام في فترة الأحداث التي ضمنها كتابه ثم كان هو المحقق في تلك الأحداث التي تلت "الليلة العصيبة" ثم يبدو من كتاباته أنه لم يكن مقتنعا بالعهد الذي خدم فيه العدالة في أخطر مناصبها فرسم الغلاف نفسه يدل على ذلك إذ يصور "خنجرا" مصوبا إلى كتاب ضخم ربما يرمز إلى الدستور والدماء تسيل بغزارة .. يعني يريد أن يقول إن "العدالة كانت تذبح" ثم وللتدليل أكثر على ما نقول نجده يكتب في مقدمة كتابه ويوقع على ما كتب النص الآتي وهو يوضح للقارئ كيف كان معتذرا عن قبول منصب النائب العام حينما عرض عليه في أغسطس 1963 (18) "كنت أدرك وأفهم المصاعب والمخاطر التي تصادف النائب العام في الظروف العادية فما بالك الظروف الاستثنائية التي كانت بلادنا تمر بها في سنة 1963 وكنت أدرك كذلك أن هذه المصاعب قد تتصاعد إلى درجة الخطر عند التعامل مع حكام لم يكن بعضهم قد نسي بعد صفته العسكرية وكان من العسير عليهم فهم معنى العدالة وقداستها أو إدراك المبدأ، البسيط والصحيح دائما وفي كل الظروف والذي يحصل في العبارة الخالدة: العدل أساس الملك ..." إزاء عقيدته تلك فإن قوله في سرد الأحداث لا يمكن أن يتهم بالتحيز لنظام هذه شهادته عنه.

4 – ثم نجد أن الرجل تقديرا منه لخطورة الأحداث التي سيتولى تحقيقها بعد الليلة العصيبة يتخذ من الإجراءات التي تجعل "التحقيق مجردا من أي رأي مسبق رغما عن أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أن المشير عامر مات منتحرا بتناول مادة سامة هي مادة الأكونتين" فحرص النائب العام أن يتولى "بنفسه التحقيق" بل وينبه على معاونيه من أعضاء النيابة أن يلتزموا في تحقيقاتهم أقصى ما يطالب به المحقق النزيه من الحيدة وعدم التأثر بفكرة معينة وإفساح المجال لإثبات أي أقوال تبدي مهما تكن خطورتها لتكون بعد ذلك محلا للفحص والاستنباط واستخلاص النتائج الصحيحة منها" ويستطرد قائلا "رأيت أن أسأل – انطلاقا من هذه الاعتبارات – الفريق أول محمد فوزي والمرحوم الفريق عبد المنعم رياض وغيرهما من الضباط والأطباء ومن الناحية المضادة سؤال أسرة المشير الذين اتهموا السلطات الحاكمة بقتله وقد رأيت أن أسأل أفراد الأسرة في منزلهم حتى يكون التحقيق بعيدا عن أي مظهر من مظاهر السلطان أو أي مظنة من مظان الإرهاب وطلبت لنفس الاعتبارات من ضباط المباحث العامة وغيرهم من رجال الشرطة الذين صاحبوني في الطريق أن يبقوا بعيدا عن المنزل مسافة تزيد عن المائة متر ..." ثم يقول "ولما كان كل من أسرة المشير يبدي استعداده للتوقيع على أقواله بعد تسجيلها فكنت أصر على ألا يوقع إلا بعد أن يطالع ما أثبت على لسانه" إذن فالرجل اتخذ كل حيطة يمكن لمحقق أن يتخذها لكي يكون تحقيقه عادلا لا شبهة عليه.

فاعتمادنا على هذا المصدر إذن لا بد وأن يهدئ من الشكوك التي كان يمكن أن تثار لو أننا لجأنا إلى البدائل الأخرى التي سبق أن ذكرها أو هكذا أعتقد، فماذا قال الرجل في كتابه من حقائق؟

الحقيقة الأولى:

استدعى المشير في منزله يوم 25/ 6/ 1967 إلى منزل رئيس الجمهورية حيث أفهم أن النية اتجهت إلى تحديد محل إقامته فحاول الانتحار بمادة سامة وأسعف بالعلاج وأعيد إلى منزله وقد أيقن ن حريته قد تتعرض في وقت ما لمزيد من القيود فظلت فكرة الانتحار مسيطرة عليه وهيأ نفسه لتنفيذها إذا ما وصل الأمر إلى تقييد حريته بدرجة تفوق قوة تحمله.

الحقيقة الثانية

في يوم الأربعاء 13/ 9/ 1967 أصدر رئيس الجمهورية أمرا بنقل المشير عامر من منزله إلى استراحة أعدت بالمريوطية في منطقة الهرم ليقيم فيه منفردا تحت الحراسة تمهيدا للتحقيق معه في شأن ما أسند إليه، وقد نقل وزير الحربية (19) هذا الأمر إلى الفريق أول محمد فوزي لتنفيذه فقام ومعه الفريق عبد المنعم رياض والعميد سعد عبد الكريم وعدد من الضباط والجنود ووصلوا إلى منزل المشير الساعة الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم وانضم إليهم قائد الحرس المحلي العميد محمد سعيد الماحي، وقابل العميدان سعد والماحي المشير في غرفة الاستقبال وأخطراه بأمر رئيس الجمهورية فأبى تنفيذه، ودخل الفريق رياض ليحاول بنفسه إقناعه ولكنه أصر على الرفض وغافل الحاضرين وتناول بقصد الانتحار مادة الأكونتين السامة ممزوجة بقطعة من الأفيون وورقة من السلوفان للتخفيف من آلام التسمم وعندئذ شوهد يلوك في فمه مادة أدرك الفريق رياض والسيدة نجيبة كريمة المشير على الفور أنها مادة سامة وأنه تناولها بقصد الانتحار ونقل المشير إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي وكان يلوك أثناء الطريق تلك المادة وقبل بعد إلحاح شديد من الفريق رياض إخراجها ولفظ ما في فمه في يد الرائد عصمت محمد مصطفى من الشرطة العسكرية والذي كان يرافقه في العربة وكانت عبارة عن ثلاث ورقات سلمها الرائد عصمت إلى المستشفى عند وصوله وقد أجريت له الإسعافات اللازمة هناك وأصر الفريق أول فوزي على نقله إلى استراحة المريوطية بعد هذه الإسعافات.

الحقيقة الثالثة:

وصل المشير إلى المريوطية الساعة الخامسة والنصف مساء يوم 13/ 9/ 1967وترك هناك تحت رعاية النقيب طبيب مصطفى بيومي حسنين الذي ظل يتردد عليه طول الليل ولاحظ أنه يشكو من سعال وقيء فأعطاه عقاقير مهدئة وبعض الإسعافات وف يالساعة العاشرة صباح يوم 14/ 9/ 1967 تسلم الرائد طبيب إبراهيم البطاطا نوبته في الرعاية الطبية ولاحظ توالي القيء وأصيب المشير بحالة هبوط لم يتمكن بسببها من تناول طعام الغذاء فاضطر الطبيب ولاحظ توالي القيء وأصيب المشير بحالة هبوط لم يتمكن بسببها من تناول طعام الغذاء فاضطر الطبيب إلى تغذيته عن طريق الحقن في الوريد بمحلول الجلوكوز وفي السادسة مساء دخل المشير إلى دورة المياه وكان يتقيأ ثم عاد إلى فراشه ولكنه مات في حضور الطبيب الساعة 6. 35 مساء.

الحقيقة الرابعة

تولت النيابة التحقيق قبيل منتصف الليل بواسطة النائب العام وفحص الجثة ظاهريا بحضور وكيل وزارة العدل لشئون الطب الشرعي ووكيل عام المصلحة .. وجد أسفل جدار البطن من الناحية اليسرى قطعة مستطيلة من ورق لاصق يخفي شريطا معدنيا يحتوي على ثلاث فجوات بكل منها مسحوق من مادة ثبت من التقرير الطبي الشرعي والتحليل أنها مادة الأكونتين السامة وأن المشير توفي بسبب تناول هذه المادة ممزوجة بالأفيون منذ محاولة نقله من منزله في الساعة 2.30 بعد ظهر الأربعاء 13/ 9/ 1967.

وتحدث عن تقرير الطب الشرعي الذي أورد أن سم الأكونتين مخبأ وهو ممتزج بالأفيون على جسد المشير، وأن ما تناوله مغافلا الحراس في منزله كان من هذه المادة، وأن الشريط اللاصق الذي يخفي مادة الأكونتين السامة والمخبأ في وضع دقيق من جسم المشير قد تكرر نزعه وتثبيته بما يصلح تفسيرا لمحاولة الانتحار أكثر من مرة، وأن استمرار أعراض القيء يومي 13، 14 يحتمل معه أن تكون وفاة المشير قد حدثت نتيجة تسمم من مادة الأكونتين التي تناولها في منزله ممزوجة بالأفيون يوم 13 وهي مادة يمكن أن يكون أثرها فوريا أو يتراخى إلى أكثر من 18 ساعة وأن هناك احتمال أن يكون المشير قد استبطأ مفعول السم فتعجل النهاية وأخذ قدرا آخر منه عندما دخل دورة المياه يوم 14 قبيل وفاته، ثم ربط التقرير بعض ما أثبته فحص أوراق السلوفان التي لفظها المشير في السيارة من احتوائها على أجزاء مفضضة لامعة بها آثار مضغ وبين ما هو ثابت من وجود مسحوق الأكونتين معبأ في جزء من شريط معدني مفضض لامع ومخبأ على جسم المشير بورق لاصق مستخلصا من ذلك أن المشير تناول في منزله قدرا من مادة الأكونتين الموضوعة في الشريط المعدني المفضض مع احتمال أن يكون هذا القدر وحده هو الذي تسبب في حدوث الوفاة واحتمال أن ما عجل بها هو القدر الآخر الذي أخذه في الاستراحة.

الحقيقة الخامسة

أما عن مصدر المادة السامة فقد ثبت أن المشير حصل عليها من إدارة المخابرات (20) إذ أن السيد صلاح نصر استلم في 10/ 4/ 1967 ستمائة ملليجرام من مادة الأكونتين السامة معبأة بمقادير متساوية في ست فجوات من المعدة أصلا لوضع حبات الريالتين في الأوراق المعدنية الخاصة واعترف السيد صلاح نصر باستلامه مادة سامة وضعها في مكتبه وظلت فيه بحالتها إلى أن مرض يوم 13/ 7 وانتقل من مكتبه يوم 23/ 7 إلى إحدى الاستراحات حتى أعفي من منصبه يوم 26/ 8/ 1967 دون أن يدري شيئا عن مصير المادة التي تركها في مكتبه وقد ضبط بإدارة المخابرات العامة باقي المادة ومعها ورقات معدنية من المعدة لوضع حبات الريالتين وثبت من التقرير الشرعي والصور الشمسية أن إحدى هذه الورقات تكمل الورقة المضبوطة على جثمان المشير وبها مادة الأكونتين وبذا تحقق أن المشير حصل على المادة السامة التي انتحر بها من إدارة المخابرات.

الحقيقة السادسة

نفت أسرة المشير في أقوالها انتحاره إلا أن النائب العام يرد على ذلك بأن هذه الشبهات فوق أنها مردودة بما سبقت الإشارة إليه من أدلة قاطعة بوقوع الحادث انتحارا فإنها لا تعدو أن تكون ظنونا ليس من شأنها أن تؤدي إلى النتيجة التي تصورتها ابنتا المشير إذ الواضح أن أقوالهما صدرت عن عاطفة الأبوة من جهة وبفعل الصدمة التي تعرضتا لها بوفاة والدهما في ظروف أليمة من جهة أخرى، ولا جدال في أن المشير مات منتحرا ولا جدال في أن ابنتيه كانتا على غير حق في تصوير الحادث على أنه فعل عمد.

الحقيقة السابعة

وأخيرا يقرر النائب العام أن المشير هو الذي تناول بنفسه وبمحض إرادته المادة السامة التي أدت إلى موته لا جدال في أن المشير مات منتحرا.

وفي موضع من الكتاب يقول قولا يختم به هذه الأحداث، من وقت أن بدأ التحقيق إلى ما بعد انتهائه يزمن طويل وحتى كتابة هذه الذكريات والتساؤل يلاحقني في كل مجلس يضمني مع آخرين ويأتي فيه ذكر الحادث – هل انتحر المشير حقا؟ وكثيرا ما كان التساؤل يرد في لهجة استنكارية مفعمة بالشك بل كان البعض يؤكد أنه قتل رميا بالرصاص على الرغم من الماديات التي قطعت بأن جسده كان خاليا من أية آثار للمقاومة أو العنف أو الإصابات الظاهرة أو الباطنة وعلى الرغم من أن التحقيقات وأقوال الشهود والتقارير الطبية والكيماوية وظروف الحال أكدت أنه مات منتحرا بتناول مادة سامة هي مادة الأكونتين.

الليلة العصيبة في الميزان

لا شك أن يومي 25، 26 أغسطس 1967 من الأيام الخطيرة التي مرت بها ثورة يوليو 1952، فما تم وما تلاها من أحداث كانت منحنى حقيقيا في مسار الثورة خاصة وهي تمر بأقسى الاختبارات والتحديات التي واجهتها بعد النكسة إذ أصبحت من جديد في مواجهة أقسى أنواع الاحتلال، والضغوط الاستعمارية الكبيرة.

1 – فقد تم فيها حسم استمرار خروج القيادة العسكرية على الشرعية وإصرارها على ذلك بحيث أصبحت بروزا لا بد من إزالته، ولقد بذلت محاولات كثيرة قبل هذه الأحداث لتقويم ما اعوج من أمور ولكن فشلت كل هذه المحاولات رغما عن أن الذي قام بها هم "رجال الحرس القديم" من رجال مجلس الثورة، ولا شك في أن هؤلاء يتحملون مسئولية ليست بالقليلة في عدم حسم الأمور قبل أن تتفاقم بالصورة التي وصلت إليها، ومن الشعور بالرهبة الذي أحس به البعض منهم – مثل كمال حسين والبغدادي – في رفضهما أن يحلا محل المشير في قيادة القوات المسلحة حينما عرض عليهما الرئيس ذلك.

ويبدو أن الأمر لم يكن ينظر إليه إطلاقا في ضوء انعكاسه على الأمن القومي للبلاد بدليل أن استقالات بعض أعضاء مجلس الثورة كانت لأسباب أخرى غير هذا السبب، ثم الصراع الذي كان يحتدم بين هؤلاء – سواء كان صراعا أفقيا أو رأسيا – كان يجعل القائد السياسي دائما في موقف حرج يعيد فيه حساباته دائما وربما لا يصل إلى قرار حاسم وسط الانقسامات الموجودة طول الوقت وقد أخبرني السيد أنور السادات مرارا وفي مناسبات عديدة "الله يساعد المعلم (21) معانا، إحنا وحشين أوي يا أمين". لو أن الجهود ركزت منذ وقت مبكر على حسم موضوع القيادة السياسية مع القيادة العسكرية لما تطورت الأمور إلى الحالة التي وصلت إليها، والدليل على ذلك أنه لم يكن من الصعب إقناع "القيادة السياسية" بعد النكسة بضرورة الحسم رغما عن أن الظروف كانت شائكة وخطيرة، فحينما كانت الأمور ميسرة سهلة في ظل اختفاء الصراعات في ذلك الوقت كان القرار بالتالي واضحا وقاطعا رغم خطورة الإقدام على حسم الوضع في مثل الظروف التي سبق شرحها، وف وسط الانقسام الذي كان يهدد وحدة القوات المسلحة.

2 – ولقد أراد الرئيس عبد الناصر استغلال النجاح الذي تحقق في ليلة 25، 26 أغسطس وفي يوم 26 أغسطس 1967 بأن يكون وزير الحربية وهو ممثل السلطة السياسية مشرفا حقيقيا على المؤسسة العسكرية لأن في تحقيق ذلك تأكيدا لمبدأ خضوع القيادة العسكرية للقيادة السياسية الأمر الذي لا تستقيم الأمور إلا بحدوثه، هذا الموقف جعلني بعد محاولات كثيرة، سابقة أتقدم باقتراحي في هذا المجال أحدد فيه الإطار السليم الذي يحقق ذلك.

فكان الاقتراح المقدم مني للرئيس في مذكرة كتابية في أوائل أكتوبر 1967 يحدد الهدف من تنظيم العمل في الأجهزة العليا لوزارة الحربية ليكون الآتي:

أ – تكوين جهاز متناسق يعمل في يسر وسهولة لرفع كفاءة وتجهيز القوات المسلحة في زمن السلم ونجاح قيادتها في وقت الحرب.

ب – إيجاد الضمان الكافي للرقابة الفعلية تبعا لما يحدده الدستور على القوات المسلحة ليضمن الشعب دائما أن قواته قادرة على الدفاع عن أمانيه مع اتخاذ الترتيبات اللازمة لضمان السرية.

ج – إمكانية تنسيق المجهود المدني اللازم لمواجهة احتياجات المجهود الحربي.

د – إدارة القوات العسكرية المتيسرة واللازمة لمساندة سياستنا الخارجية بأقل التكاليف الممكنة.

واستمرت المذكرة تقول "وفي رأيي فإنه لم يكن لدينا وزارة للحربية طوال السنوات الماضية بالمعنى الحقيقي التي توجد عليه في سائر الدول مما انعكست آثاره على المراحل الأولية الحالية لإنشاء هذه الوزارة ولا بد من الحزم الكامل لإدخال كافة الأجهزة التابعة للوزارة ضمن إطارها لتعمل جميعا تحت رئاسة واحدة مع تحديد الاختصاصات والمسئوليات وأسلوب العمل" ووزير الحربية "شأنه شأن أي وزير آخر في أي وزارة أخرى مسئول عن سياسة وزارته مسئولية كاملة حددها الدستور وبقدر هذه المسئولية يجب أن يعطى السلطة الكاملة لتنفيذ سياسة الدولة في هذا القطاع وإلا فإن الأجهزة تصبح مسيرة له حسب ما هو قائم لا أن يكون هو الذي يوجه هذه الأجهزة كما ينبغي أن يكون، ولذلك فإن وزير الحربية يعتبر المستشار الأول لرئيس الجمهورية في شئون الدفاع عن البلاد والمتحدث الرسمي باسم الحكومة عن كل ما يتعلق بسياسة البلاد الدفاعية يساعده في ذلك نخبة ممتازة من الأفراد القادرين، وبوجه عام فإن مسئولية وزير الدفاع يجب أن تنحصر في التأكيد – بصفة مستمرة – في كفاءة القوات المسلحة للدفاع عن البلاد وتبعا لسياسة تعبر عن سياسة الدولة كذا فإن من واجباته تعبئة كافة الجهود المتيسرة في الجمهورية لتحقيق ذلك، ولتنفيذ الواجب الأول فإن السياسة العامة للدفاع عن البلاد يجب أن تناقش وترسم داخل "مجلس الدفاع الوطني"، ولتحقيق الواجب الثاني فإن الأمر يقتضي إنشاء "مجلس احتياجات الدفاع الوطني" أما القائد العام للقوات المسلحة فمتروك له قيادة قواته وإعدادها للقتال وأن يكون مسئولا مسئولية مباشرة أمام وزير الدفاع، ومن الطبيعي فإن تشكيل جهاز قادر لوزير الحربية يقوم بأداء هذه الواجبات أمر يدحض الأفكار التي تنادي بتوحيد أجهزة القيادة العامة للقوات المسلحة مع أجهزة الوزارة لأن طبيعة الأعمال في كليهما مختلفة إلى حد كبير في مستواها ونوعها علاوة على أن استمرار الوضع على ما هو عليه سوف ينتهي بالأمور لكي تصبح أجهزة القيادة العامة للقوات المسلحة هي الموجهة للوزير وليس العكس لفقدانه مقومات التوجيه بانعدام أجهزة تدرس وتخطط وتقيم".

ولكن ليس – لأسباب رآها – لم يحسم الموقف لفترة طويلة الأمر الذي جعلني أكف عن العمل في وزارة الحربية ثلاثة أشهر كاملة حتى يبت في هذه الأمور الخطيرة عارضا في نفس الوقت تركي للعمل بالوزارة إذا رأى الرئيس خلاف ذلك – وحسما للموقف المتأزم عرضت توحيد منصبي وزير الحربية والقائد العام بصفة مؤقتة وتم تركي وزارة الحربية على هذا الأساس.

ويعتبر هذا الحل استغلالا محدودا للنجاح الذي تحقق في ليلة 25/ 26 أغسطس 1967 إذ كان الضامن الوحيد لنجاح هذا الوضع في تلافي العيوب السابقة أن الرئيس أشرف بنفسه على كل تفاصيل القوات المسلحة، ولكن الحل الأمثل هو وجود وزير حربية ممثلا للقيادة السياسية على قمة المؤسسة العسكرية يقع على كتفيه كل من المسئولية البرلمانية والوزارية في توجيه قدرات البلاد المتاحة لخلق قدرة عسكرية رادعة للعدوان أو قادرة على الانتصار في معركة أجبرت على خوضها، إن فصل منصب الوزير عن القائد العام أمر تحتمه الدروس القاسية الماضية حتى تتوفر الرقابة السياسية بصفة مستمرة على القوات المسلحة.

ولذلك فإن استغلال النجاح كان محدودا حتى بعد حسم موضوع خروج القوات المسلحة على الشرعية القائمة في ذلك الوقت، وفي تقديري فإن هذا الموضوع حتى في أيامنا هذه يحتاج إلى معالجة واعية لأن وزير الدفاع إذا تولى أيضا القيادة العامة للقوات المسلحة يصبح مسئولا أمام نفسه فلا رقابة على تصرفاته أمام أي جهة من الجهات الأمر الذي يصبح فيه أمن البلاد موكولا لتقدير شخصي وهو أمر يبعث على القلق وسط أجواء مشحونة بالعدوان تفتتت فيه سلطات المنظمات الدولية وأصبح اختراق الحدود وضم الأراضي سمة من سمات الصراع الإقليمي.

3 – ثم كانت تلك الليلة فاصلا – وبحق – بين ما كان يتم قبلها وبين ما تم بعدها، إذ سادت الشرعية بعد القضاء على الوضع الشاذ الذي اكتسبته القيادة العسكرية والذي تعقد بمرور الزمن حتى أمكن القضاء عليه بهذا الجهد والذي كانت المخابرات العامة – بعد أن تورطت في أعمال ليست من مسئوليتها ولا هي داخل العلاقات الطبيعية لعملها – تؤيدها فيه تأييدا مطلقا، وانصرفت الجهود بعد ذلك لتنفيذ سياسة مغايرة في ظل بقاء المبادئ الثابتة للثورة:

أ – فانصرفت الجهود إلى إعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا لتحرير الأرض.

ب – وركزت المخابرات العامة جهودها – بعد إعادة تنظيمها – على تحقيق واجباتها سواء من ناحية الحصول على المعلومات عن العدو أو منع العدو من الحصول على معلومات عنا أو القيام بأعمال إيجابية عديدة مما جعل الرئيس يقول دائما "إن المخابرات تخترق إسرائيل في كل مكان".

ج – صدور بيان 30 مارس.

د – الانتخابات تتم من القاعدة إلى القمة في وحدات الإتحاد الإشتراكي أو الجماعات النقابية أو مجلس الأمة.

ه – وضع مبادئ جديدة لتصفية الحراسات وهي المبادئ التي جمعت في قانون رفع الحراسات والذي صدر عام 1971 بنصها وقطعنا شوطا طويلا في ذلك بحيث لم يكن هناك إلا 128 حالة موضوعة تحت الحراسة عند وفاة الرئيس.

و – العمل على زيادة الإنتاج في مجالاته المختلفة.

إذن فكانت هذه الليلة بمثابة مولد أسلوب جديد يحاول تصحيح الأخطاء التي حدثت في التطبيق من قبل ولكن في ظل نفس المبادئ التي حددها الميثاق.

وكان عبد الناصر في تلك الفترة يحاول دفع بعض الوجوه الجديدة إلى مراكز الصدارة والتي أطلق عليها البعض – عن جهالة – لفظ "مراكز القوى" بعد حركة مايو 1971 وأنا شخصيا أرحب بإطلاق هذا اللفظ على هؤلاء الأفراد الذين كنت أحدهم ولكن على أساس التفسير الحقيقي لهذا اللفظ والذي كتبت في جريدة الأهالي (22) قائلا "الرئيس في النظام الديمقراطي يتخذ قراره بعد حوار يجري بين "مراكز قوى" مؤيدة وأخرى معارضة كل منها يريد أن يفرض رأيه باستخدام كل الوسائل المتاحة:

المؤسسات الموجودة، لجان تقصي الحقائق، استفتاءات الرأي العام، الانتخابات، وسائل الإعلام المختلفة، وبذلك يصبح صاحب القرار هو أحد مراكز القوى وليس مركز القوة الوحيد وهناك فارق ضخم بين الوضعين، فالدولة دولة الجميع والبلد بلد الجميع وهذه الملكية الجماعية تحتم أن يكون أمنها من مسئولية جميع ساكنيها لأن هذا المجموع هو الذي سيحل أوزار القرار الخاطئ ونتائجه، وهو الذي سيجني ثمار القرار الصائب وعوائده، وسوف تظل الديمقراطية رافعة أعلامها طالما ظل الحوار مستمرا بين مراكز القوى التي يشكل صاحب القرار إحداها أما إذا نجح صاحب القرار في أن يصبح هو مركز القوة الوحيد فإن الحوار سوف يتغير إلى صراع".

كان عبد الناصر بعد الليلة العصيبة يريد خلق حوار بين مراكز قوى متعددة هو إحداها على طريقة "الديالوج". أما السادات بعد أحداث 15 مايو فكان يريد للحوار أن يتم بواسطة مركز قوة واحد على طريقة "المونولوج" ولا نريد أن ندخل في الأسباب التي دعت إلى تغيير شكل وأسلوب الحوار لأن هذا سوف ينقلنا إلى الحديث عن أحداث 15 مايو 1971 وهو حديث يجعل الإنسان يسير على الشوك إذ أنه حديث عن "الرفاق" يدمي القلب، ويلجم اللسان ....

4 - ثم كانت تلك الليلة هي البداية الحقيقية لحركة مايو 1971 والتي قام بها الرئيس السادات، ولعل في هذا القول جدة ولكنه حقيقة لا شك فيها، فمن تصرفات القدر أن "عامر" سقط من كشف المنافسين ولم يكن السادات أو غيره من المنتظرين يحلم بالرئاسة إطلاقا في حالة بقائه، إنني لا أقصد ولو للحظة واحدة أن السادات خطط لذلك أو عمل له فأنا أتحدث عن القدر وتصرفاته ... ثم استمر القدر في لعبته وإذا بالسيد زكريا محيي الدين يتنحى ولم يبق في حلبة السباق إلا السيدان حسين الشافعي وأنور السادات، وسرعان ما وجه القدر ضربته الثالثة والحاسمة حينما قام الرئيس عبد الناصر بتعيين السادات نائبا للرئيس، فأصبح بذلك قاب قوسين أو أدنى من "كرسي السلطان" !!!وبهذه المناسبة فإن الأخبار التي كتبها البعض عن نية عبد الناصر في التغيير هي أقرب إلى الأحلام منها إلى الحقيقة، فبقدر علمي فإن عبد الناصر وإلى يوم وفاته لم يشر إلى احتمال تغييره للسيد أنور السادات.

كان هذا استطرادا ضروريا حتى يمكن تفسير ما نقصده، فالسيد أنور السادات – بعد وفاة الرئيس – وفي اجتماع في قصر القبة فجر يوم 30/ 9/ 1970 حضره معه كل من شعراوي جمعة وسامي شرف وأمين هويدي ولم يكن الرئيس الراحل قد ووري التراب بعد – عرض عليه الاقتراحات الآتية بخصوص نقل السلطة:

أ – يرشح سيادته لمنصب رئيس الجمهورية.

ب – يعرض الترشيح على اللجنة التنفيذية العليا يوم السبت 3/ 10/ 1970 وعلى اللجنة المركزية يوم الإثنين 5/ 10/ 1970

ج – دعوة مجلس الأمة لاجتماع غير عادي صباح الأربعاء 7/ 10/ 1970

د – يجري الاستفتاء يوم الخميس 15/ 10/ 1970

ه – إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم يجتمع مجلس الأمة يوم السبت 17/ 10/ 1970 ليؤدي الرئيس اليمين الدستورية وفقا لنص المادة 104 من الدستور.

ولم يكن الرئيس السادات مصدقا ما يقال وكان ذلك ظاهرا على ملامح وجهه إلا أنه تظاهر بالرفض وهو يقول "يا جماعة هذا مش وقته، لن يتم شغل منصب رئيس الجمهورية إلا بعد إزالة آثار العدوان، وسأتولى بالنيابة إلى حين" ولكنه إزاء إعادة العرض عليه مرارا سأل كل واحد منا عن رأيه في حضور الآخرين، فوافق الجميع على حتمية شغل المنصب وعلى أن يشغله السيد أنور السادات وهنا – وحينما وثق من عدم وجود أية اعتراضات – وافق قائلا "على بركة الله" وأخذ يتمتم بشفتيه كما كان يفعل دائما متظاهرا بأنه يردد ما تيسر من كتاب الله.

ولقد ذكرت ذلك بالتفصيل في فصل "الوداع الأخير" من هذا الكتاب والذي نشر ووزع هنا في القاهرة عام 1980 في حياة السادات وقبل مقتله في حادث المنصة إذ قلت بالنص "ووسط الاستقالات العديدة وسحبها والرجوع عنها – وكنت أقصد استقالة السيد محمد حسنين هيكل والدكتور فوزي – والبيانات الحماسية والخطابات التي ترد عليها – وكنت أقصد كما وضحت في الكتاب بيان عزيز صدقي ورد البغدادي عليه – والمذكرات الكتابية وتجاهلها لم تعدم البلاد بعض من عملوا في صمت والتزام حتى تسير الأمور في مجراها الطبيعي الدستوري ولا يقلل من ذلك الجهد الذي بذله في تلك الفترة ما قيل عنهم بعد ذلك وهم في السجون أثناء محاكمتهم بتهمة غليظة هي الخيانة العظمى أو الاشتراك فيها" وفي مكان آخر قلت "وفي فجر هذا اليوم كنا مع السيد أنور السادات في قصر القبة حيث كان يمضي الليلة هناك .. ثم أكملنا حديثنا بخصوص نقل السلطة وإعمال الدستور وتحديد تواريخ الخطوات اللازمة لذلك".

هذا حقيقة ما حدث بالضبط، وليس صحيحا ما قاله الرئيس السادات من أن الرئيس محمد جعفر النميري كان له دخل في الموضوع لأنه – كما يتضح في جزء آخر من الكتاب – لم يرد أن يتدخل في هذه الموضوعات وما كان له أن يتدخل والتزم الرجل بهذا الموقف حتى استقل طائرته عائدا إلى الخرطوم.

ولم ينس السادات أبدا هذه الليلة خاصة بعد أن "تولى" بل أسقطها من كل كتاباته وأقواله عن ذاته وهي كثيرة تملأ مجلدات ضخمة.

ولكنه لم ينس في نفس الوقت "الليلة العصيبة" فإن الذي قام بها هم الثلاثة "شعراوي وسامي وأمين" تحت قيادة عبد الناصر، وخشي الرجل أن تتكرر، وما كان له أن يخاف أو يخشى فإن ما تم في تلك الليلة كان في إطار الشرعية ولتثبيت دعائمها، وحينما لم ينس اتخذ جانب الحذر أولا ثم اتخذ طريق الإزاحة بعد أن ثبتت أقدامه وتوطدت، والدليل على نه لم ينس أبدا هذه الليلة أنه أسقط ذكر أسماء هؤلاء الثلاثة في كتاباته وأحاديثه عن ذاته وهي كثيرة تملأ مجلدات ضخمة كما سبق القول.

وهذا لا ينفي أن الرئيس السادات لعب لعبته بمهارة وذكاء في غفلة من الآخرين الذين ألهتهم الشكليات الزائلة، وانغمسوا في منافسات لا معنى لها، وأظنهم لم يفيقوا إلا بعد فترة كما علمت وسمعت ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، كان الرجل حذرا طول الوقت – وهذا حقه – ولكن لم يكن حذره هذا على أساس، ولم يكن شكه على حق لأن الجميع كانوا خاضعين مطيعين ولم يكونوا يضمرون شرا، ولكن الرجل - كما قال – كان قد قرأ كتاب "الأمير لنقولا ميكيافيلي" واستوعبه وطبق ما جاء فيه وهو يمارس لعبة السلطة التي لا ترحم.

فكان لا بد – من وجهة نظره – أن يتخلص ممن ساعدوه وكانت هذه عادته .. حتى من ساعدوه في حركة مايو 1971 تخلص منهم أيضا وبسرعة: الزيات بعد أن رفعه إلى درجة نائب رئيس وزراء، محمد حسنين هيكل مهندس حركة مايو مصممها، الفريق محمد صادق وزير حربيته الذي قال عنه إنه سيبقى في منصبه مدى الحياة، محمد الليثي ناصف الذي سقط من شرفة عالية في لندن وهو يعالج من مرض عضال، ممدوح سالم بوضعه في منصب لا يقبله الكثيرون له ولا يحبه له عارفوه.

فكما سبق وأزاح "جماعة مايو .. بفرع جميز – على رأي محمد حسنين هيكل – فإنه أزاح "جماعة التصحيح" بنفس الفرع أو ربما بغيره ولكن بفارق واضح: إذ يبدو أن جماعة مايو كانت تقلقه للدرجة التي كان لا بد من محاكمتها فنالت بذلك أوسمة لا تستحقها، أما الآخرون فيبدو أنهم لم يكونوا على نفس الدرجة من الأهمية فكان من حظهم إجراءات أقل شأنا، ليس هذا رأيي ولكن قد يكون هذا تصوره.

أكرر أن الرجل كان يسير على قاعدة التخلص ممن ساعدوه فما بال ثلاثة ساعدوا ثم اشتركوا في الليلة العصيبة؟!

5 – ثم كانت الليلة العصيبة حركة تصحيح جادة لمسار الثورة إذ كانت ضد نائب رئيس جمهورية وقائد عام للقوات المسلحة رفع راية العصيان ضد الشرعية القائمة، ورفض تركه للقوات المسلحة بعد أن دمرها ودمر البلاد معها، ثم نجده وقد اعتصم في منزله تحت حراسة مدنية وعسكرية، وجمع حوله زملاءه وأعوانه في صورة خارجة عن القانون، وكانت هناك قضية، القضية هي أن السلطة الشرعية فقدت قدرتها على فرض قراراتها ولم يكن في استطاعتها تنفيذ أوامرها بعد أن وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه، واستشرى الوضع إلى أجهزة أخرى مثل المخابرات العامة الأمر الذي كان يمكن معه أن تمتد الفتنة إلى أجهزة أخرى.

ولذلك فإن الليلة العصيبة كانت معركة حقيقية بين الشرعية والعصيان ... والأمر يزداد خطورة حينما يحدث هذا العصيان والعدو يحتل الأرض فهو بذلك يحول دون المواجهة الحتمية مع العدو الإسرائيلي والطريق لإتمام ذلك طويل محفوف بالصعاب، ولا يمكن مواجهة هذا الموقف مواجهة ناجحة في ظل جبهة داخلية مفتتة منقسمة تعجز الشرعية فيها عن مواجهة الخطر الخارجي.

وكان الأمر بذلك يختلف كلية عما حدث بعد ذلك بأربع سنوات فيما سمي بحركة مايو .. ثم بثورة مايو ... !! كان هناك خلاف في الرأي وليس حالة عصيان، ثم كان الجميع في منازلهم يعدون استقالاتهم وترك الأدوات التي كان يمكن أن يستخدموها في إحداث الانقلاب المزعوم لأن من يريد أن يحدث انقلابا لا ينزع أسلحته أولا ثم يقوم بمعركته ثانيا، وعلاوة على ذلك فإن أحدا لم يعتصم معترضا على قرار صدر من السلطة القائمة، فقد ظل الجميع في منازلهم بعد أن تركوا كل شيء حتى تم القبض عليهم ... وما لبثت حركة القبض والتصفية أن اتسعت لتشمل كل من عمل مع عبد الناصر تقريبا وكان من ضمن هؤلاء أشخاص – مثلي – تركوا السلطة وبما فيها بمحض اختيارهم منذ شهور سبعة ولا يدرون عما يحدث أي شيء، وعقب القبض قدم الجميع إلى محكمة خاصة حيث حوكموا محاكمة تمت في الظلام علما بأن محاكمة من قبض عليهم عام 1967 تمت علانية.

كان عبد الناصر نفسه هو الذي وضع في قفص الاتهام لتلطخ صورته وتهتز مبادؤه حتى يمكن تنفيذ الخطوات التالية.

ولنا أن نتساءل بالأسئلة الآتية عن أحداث أو حركة أو ثورة مايو هذه: ضد من قامت هذه الثورة؟ ولصالح من؟ وبمن؟ كانت الأحداث مهزلة حقيقية لعب فيها أبطالها والكومبارس معهم أدوارهم بمهارة، انظر مثلا إلى اثنين من أعضاء مجلس الأمة هما مصطفى كامل مراد ومحمد شاهين وهما يرددان في فخر بأنهما عادا إلى منزليهما في تلك الليلة ليتسلحا بمسدساتهما!!! يا ستار !!! ضد من هذا التسليح؟ ضد عزل استقالوا وقبعوا في المنازل لا يقوون على شيء؟! حتى لو كانوا يضمرون شيئا فأنى لهذه المسدسات أن تقف وتقاوم وحدات كاملة قيل وأشيع أنها أداة للانقلاب المزعوم؟!! تمثيلية كبرى لم تكن لتتم إلا في تلك الظروف المؤسفة.

ونقطة أخرى لا بأس من ذكرها، فقد تمت الليلة العصيبة في ظل المبادئ التي كانت سائدة قبلها والتي ظلت سائدة بعدها وحتى وفاة عبد الناصر، كانت الليلة وما تم فيها تقصد وبحق إعادة الشرعية مع ثبات المبادئ التي سجلت في الدستور والميثاق وطبقت فعلا في كافة المجالات .. ولم يحدث انحراف عنهما، أما حركة مايو 1971 فإنها كانت تهدف – قبل كل شيء – إلى تغيير المبادئ القائمة بأخرى لم تكن تدور بخلد أحد تحت تغيير بعض الأشخاص بغيرهم .. أشخاص كانا قد تخلوا عن مقاعدهم فعلا ولكن لم يكونوا هم المستهدفون بقدر ما كانت المبادئ التي خلفها عبد الناصر، يعني وبوضوح كان الغرض الحقيقي من 15 مايو 1971 هو الانقضاض على مبادئ ثورة يوليو 1952 نفسها وكان الغرض الظاهري "فرم" بعض أشخاص تخلوا فعلا عن السلطة، والدليل على ذلك – إن كان الأمر ما زال يحتاج إلى دليل – الهجوم الضاري المباشر على عبد الناصر على لسان رئيس الدولة وفي مؤسساته وعلى صفحات صحفه الرسمية وعلى شاشات التليفزيون ومن ميكروفونات الإذاعة ثم تحريم ذكر "الميثاق" بل التهكم على ما ورد فيه من مبادئ عظيمة ثم بعد ذلك تم الانعطاف الخطير والتحول المثير في السياسة الخارجية والداخلية وفي نفس الوقت ظل النظام الجديد أو الثورة المضادة الجديدة تردد أناشيد ثورة يوليو وتلعنها، وتعزف ألحانها المجيدة وتطعنها، وتتمسح في ذيلها وتنقض عليها، كانت الليلة العصيبة هي "ليلة التصحيح" الحقيقية ولكن ما حدث في مايو 1971 كان وبحق انقلابا مضادا على ثورة يوليو بكل المقاييس والمعاني.

ثم لم يكن ذلك – بعد انتهاء الليلة العصيبة – ضجة إعلامية ولا صخب مفتعل، انتهت الليلة دون توزيع المكاسب والأنفال وانصرف كل إلى حال سبيله، لم يؤرخ لها ولم تصبح علامة شهيرة يقف الجميع عندها أو حتى يذكرها، كان يكتفي في ذلك الوقت باحتفال ذكرى الثورة الوحيدة، الثورة الأم التي صححت نفسها بنفسها وسارت بعد ذلك في طريقها لا تلوي على شيء، ذلك لأن أعمالا كثيرة خالدة قامت بها الثورة قبل تلك الليلة وكانت أعمالا عظيمة وخطيرة تنتظر الرجال بعدها، ولا يمكن أن يتم العمل الناجح والتطبيل الصاخب في وقت واحد، كانت الثورة الأم غنية بما حققت من انتصارات ولكنها وفي نفس الوقت تئن تحت وطأة ما حدث لها من هزيمة في نفس الوقت.

أما حركة مايو فقد صحبها طبل وزمر، واحتاروا في تسميتها، سميت أول الأمر "حركة"!!!! ثم بعد ذلك وفي خجل واضح أطلق عليها البعض "ثورة" !! ولكن ما لبث الجميع أن رفع برقع الحياء مرة واحدة وأطلق عليها "ثورة التصحيح" !!! فالنظام الجديد يريد أن يكون له ثورة خاصة به بعد أن تنكر للثورة الأم ويريد أن يحقق انتصارا حتى ولو كان ذلك في معارك وهمية.

وبهذه المناسبة تحضرني قصة سمعتها وأنا سفير لبلادي في العراق في أوائل الستينات.

كان عبد الكريم قاسم الذي انفرد بحكم العراق عقب ثورة يوليو 1958 يكره عبد الناصر من أعماقه للدرجة التي لم يكن يطيق معها ذكر اسمه على لسانه، كان من ضمن ما يقض مضجعه من أعمال عبد الناصر تأميم قناة السويس وكان لا يشفي غليل الرجل إلا أن يقوم بعمل عظيم ينافس به عبد الناصر ولكن العراق لم يكن به قناة كقناة السويس، فماذا يفعل قاسم؟ لم يتردد طويلا أمام حل نزل عليه من السماء، أمر بحفر قناة على المحيط الخارجي لبغداد أسماها "قناة الجيش" وكان يذهب كل يوم ليرى قناته التي حفرها، وكان شعب العراق كله يتندر على الرئيس الحقود بقوله "إنه حفر القناة وسوف يعلن عن تأميمها في إحدى خطبه كما أمم عبد الناصر قناة السويس" ....!!

ولكن لم ترك عبد الناصر الأمور لتصل إلى ما وصلت إليه؟

وهو سؤال واجب وصعب، فلا بد أنه فرض نفسه علينا جميعا ونحن نستعيد هذه الأحداث وأحب أن أبدأ أولا بنص ما قاله عبد الناصر أمام مجلس الأمة في نوفمبر 1968 ... قال "حصل أنه اكتشفت انحرافات في جهاز المخابرات وحينما اكتشفت ما سبتهاش، اللي اشتركوا في هذه الانحرافات اعتقلوا وتعرضوا للتحقيق وقدموا للمحاكمة أمام محكمة الثورة، فيه ناس بيقولوا لوم هذه الانحرافات على النظام، أنا بدي أقول إن الانحرافات بتحصل في كثير من أجزاء العالم، المهم إننا نلحق نفسنا ونبتر هذه الانحرافات، الانحرافات التي حصلت في هذا الجهاز تعرفوها أو يمكن سمعتم عنها ... أكثرها انحرافات رخيصة ومش ده المجال الحقيقة إني أنا أتكلم فيه، حصلت في كثير من أجزاء العالم أمثلة مشابهة، برضه جات لي جوابات إزاي أنت ما كنتش تعرف وأزاي الريس ما كانش يعرف باللي جاري وبهذه الانحرافات، أنا بأقول النهارده فرصة إني أنا أرد على هذه التساؤلات ويمكن أنتم بينكم وبين بعض أنه تم هذه التساؤلات ... إذا كانت الانحرافات حصلت في المخابرات .. إذا كانت المخابرات هي المفروض إنها تقول لي على الانحرافات اللي بتحصل في البلد .. ما كنشي ناقص إلا إني أنا أعمل مخابرات على المخابرات وأعمل مخابرات على رقابة جهاز المخابرات وهكذا .. لا ننتهي، يمكن أنا أقول اللي حصل برضه كان نتيجة الاتجاه نحو مراكز القوة والاتجاه نحو خلق مجموعة تستطيع أنها في المستقبل تحكم ونسيت نفسها فانحرفت وما وصلتش قبل ما توصل إلى هدفها اللي هو الحكم وجدت أنه سهل الانحرافات وجدت أنه سهل الانحراف فانحرفت، أنا بأقول لكم بصراحة إني أنا كنت أرى بعض مظاهر الانحراف قبل 5 يونيو ولكن لم أكن أتصور مداه .. حاولت بكل ما أستطيع، نجحت أحيانا ولم أر الحقيقة كلها في أحيان أخرى .. وأنا فعلا كنت أشفق على البلد من تكتلات القوى ومراكز القوى .. وكان حديثي دائما أمام انتخابات الرئاسة وبعد كده وعندكم هنا ومرة جيت قلت لكم .. هل نعمل حزب أو حزبين أو لا؟ ووضعت لكم مجموعة من الأسئلة وكان حديثي عن الديمقراطية والمزيد من الديمقراطية، الآن ده كان السبيل الوحيد إن إحنا نغطي على الانحرافات .. هو أنا من تجربتي الماضية الناس بتخاف من إثارة أي شيء إما في مجلس الأمة أو في الصحف ولكن بعد كده ما بيهمهاش إن الشخص منحرف والناس تتهامس مبيهمش، طالما الموضوع لم ينشر .. لم يفتح في مجلس الأمة أو في الجرايد خلاص، ولهذا أنا أيضا مرة اتكلمت معاكم هنا على أساس إن إحنا في حاجة إلى مجتمع مفتوح لكن طبعا بتوع المخابرات كانت وسائل الإخفاء كانت مباحة بالنسبة لدولة المخابرات اللي وجدت واللي تغلبت واللي انحرفت، أنا باعتبر إن هذه الدولة سقطت وأن هذا السقوط مسألة في منتهى الأهمية وأنا أعتبرها من أهم الجوانب السلبية اللي تخلصنا منها في سبيل تطهير الحياة العامة في مصر".

وذكر أيضا في إحدى جلسات مباحثاته مع الملك حسين ملك الأردن (23) وهو يعدد أسباب النكسة بعض الأسباب نقتطف منها ما يخص الإجابة على السؤال الذي طرحناه، قال "القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية شعرت بثقة في نفسها وفي قدراتها بأكثر من الواقع وصلت أحيانا إلى حد التبجح، كما أنها اعتمدت في اختياراتها للمراكز الرئيسية على عامل الولاء أكثر من الكفاءة والخبرة العسكرية فمثلا كان واضحا من معارك وممارسات عسكرية سابقة أن قائد الطيران ليس على مستوى الكفاءة الملطوبة لتلك القيادة ورغم ذلك تمسكت به (24)"

تم ذكر في إحدى جلسات مجلس الوزراء بعد النكسة مباشرة ردا على ما أثاره السيد حسين الشافعي من أن السياسة قبل النكسة اهتمت بموضوع "الأمن" أكثر من اللازم من أنه "لولا ذلك ما استمرت هذه الثورة حتى الآن وسط الظروف الصعبة التي أحاطتها منذ قيامها وحتى الآن".

ومن مضمون هذه اللقطات يمكن أن نلخص الآتي كإجابة للسؤال الحساس على لسان الرئيس عبد الناصر إذ يرجع الأسباب إلى الآتي:

1 – القيود على حرية الصحافة.

2 – الاختيار تبعا للولاء أكثر من الكفاءة والخبرة العسكرية في تعيينات القوات المسلحة.

4 – انحراف أهم جهاز من أجهزة الرقابة وهو المخابرات العامة.

5 – الأمن.

كل هذه الأسباب يمكن أن تكون كلها أو بعضها سببا في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه ولكن وبصراحة فإنها لا تجيب إجابة شافية على الموضوع المثار، وفي رأيي أن الوضع كله كان يمكن أن يتم بحق في إطار التوازن بين الأمن القومي والتأمين الذاتي وقد سبق أن تعرضت إلى هذا الموضوع الحساس في العديد من كتبي ومقالاتي إذ أنه من أكثر المواضيع خطورة بالنسبة لأي من نظم الحكم في دول العالم الثالث.

ولا بد أولا من تحديد المفاهيم حتى يكون هناك وحدة فكرية ونحن نعالج هذا الموضوع، فالأمن القومي هو الإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقتها للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل مع مراعاة المتغيرات الدولية وهذا التعريف يتضمن الآتي:

1 – تشمل الإجراءات كافة المجالات في الدولة فمسائل الاقتصاد والدبلوماسية والدفاع والأمن كل لا يتجزأ.

2 – أن تكون هذه الإجراءات في طاقة الدولة إذ أن الآمال الطموحة التي تتجاوز الإمكانيات المتاحة تؤدي إلى التهلكة.

3 – التخطيط للحاضر والمستقبل القريب والبعيد.

4 – مراعاة المتغيرات الدولية التي تحتاج إلى إعادة التقييم بين وقت وآخر ومطابقة الإجراءات مع المتغيرات الحاضرة والمنتظرة.

أما التأمين فهو الإجراءات التي يتخذها أي نظام من الأنظمة لتركيز وضعه وتثبيته ضد أية محاولات داخلية أو خارجية.

ومن الطبيعي فإن أي نظام من أنظمة الحكم يهتم بالموضوعين: الأمن والتأمين بالمفهوم الذي شرحناه، ولعل التأمين يكون ذا أسبقية خاصة في بداية التغيير، إذ أن أي ثورة لا بد وأن تمر بما يسمى "بفترة الاختبار" أو "فترة عجم العود" سواء من أعدائها في الداخل أو الخارج، فالجهود تركز إما على إسقاطها لصالح الأنظمة المضادة أو على احتوائها بمحاولة تطويقها ووضع العراقيل في طريقها أو ربما باختراقها حتى في حلقاتها الداخلية، ومن هنا كان اهتمام الثورة بالتأمين عند قيامها ولفترة طويلة تالية.

ولعلنا جميعا نذكر الشهور الأولى بعد قيام الثورة، فالبريطانيون يحتلون قناة السويس وعلى بعد لا يتعدى مائة كيلو متر من العاصمة والولايات المتحدة تعمل جاهدة لاحتواء الثورة قبل أن تتعمق جذورها وتنطلق رياح التغيير الحقيقية مهددة الأنظمة المجاورة التي تسيطر عن طريقها على المنطقة وإسرائيل لم يمض على قيامها سوى أربع سنوات ولكنها تتربص بالنظام الجديد الذي تعلم قطعا قرب تصادمها معه، وفي الداخل وقفت الأحزاب القديمة التي أسقطتها الثورة في صف واحد مع الرجعية ورأس المال المستغل والإقطاع تتحرش بالثورة وتتحداها، والطليعة الثورية نفسها خرجت من بين صفوف الجيش لتلتحم من أول دقيقة مع القاعدة الشعبية لتقوض النظام القائم، هذه الطليعة التي تتكاثر عليها القوى الضاغطة من أكثر من اتجاه لا يمكنها أن تقدم شيئا من المكاسب للجماهير التي طال انتظارها فالإمكانيات محدودة والرؤية غير واضحة وتنفيذ الإصلاحات يستغرق وقتا ربما يطول للافتقار إلى الخبرة .. فمن يدري – مع كل هذه العوامل المتضافرة – أن ضربة ستوجه في الظلام لتقضي على الثورة وهي ما زالت وليدة تتعثر في سيرها؟ ومن يدري أن وسيلة هؤلاء المتربصين سوف تكون من الجيش الذي خرجت منه الطلائع الثورية صباح يوم 23 يوليو 1952؟ ويزداد الأمر خطورة أمام السلطة القائمة لأنها ربما تعرف أكثر من غيرها، وربما لأنها هي المستهدفة، وربما لأن الأطراف المضادة تضغط على أعصابها بأخبار ملونة حتى تتعثر الجهود وتتشتت (25).

وسط هذه الظروف لم تكن الثورة مخطئة حين نظرت إلى تأمين نفسها ولم يكن لها من سند إلا الجيش، والتأييد الشعبي، ولكن بينما كان الجيش منظما فإن الجماهير تحتاج إلى تنظيم، ولذلك فإنها وضعت عبد الحكيم عامر على رأس الجيش بقصد تأمينه بهدفين: ضمان تأييد الجيش للثورة ومنع اختراقه بواسطة العناصر المضادة، ثم تحت ضغط الظروف غير المنظورة يمكن استخدام التصدي لأي خطر داخلي أو خارجي يهدد بقاء الثورة أو استمرارها.

ولكن لماذا عبد الحكيم عامر بالذات؟ كان "عامر" من ضباط الجيش المعروفين تتلمذ عليه كثيرون من الضباط خصوصا هؤلاء الذين يحاولون الالتحاق بكلية أركان الحرب عن طريق اجتياز اختبارات صعبة تحتاج إلى مساعدة، وكان "عامر" اتصال بالكثيرين الذين كانوا يلجأون إليه لتحقيق ذلك، ثم كان الرجل ولا شك خدوما له علاقاته الإنسانية، متواضعا، محبوبا ليس فيه تزمت الضباط من ذوي الرتب الرفيعة، ثم كان "عامر" عضوا في مجلس الثورة، - وهذا هو الأهم – كان الرجل صديقا لعبد الناصر وقريبا إلى قلبه وموضع ثقته، ثم كان في نفس الوقت على علاقة بالرئيس محمد نجيب الذي تصدر الثورة وقت قيامها ولحين حدوث الانشقاق في صفوفها في حركة مارس 1954، كانت فيه كل المزايا التي ترشحه للقيام بالواجب المنوط به لتأمين الثورة.

ومما يذكر عن اهتمام عبد الناصر بالتأمين في ذلك الوقت أنه كان يتولى رئاسة أركان الحرب أحد الضباط وهو الفريق محمد إبراهيم، وكان الرجل سريع الغضب، كثير الانفعال، ينفر منه الضباط الصغار بتهجماته التي لا تنقطع، وقد أزعجت كراهية الضباط لرئيس أركان الحرب أحد الضباط القريبين من عبد الناصر فذهب منزعجا وأخبر عبد الناصر بما يقلقه، ولدهشة الزميل نظر إليه عبد الناصر وهو يبتسم ابتسامته الواثقة وقال له في اختصار "طيب واحنا عاوزينهم يحبوه ليه؟" والمعنى واضح تماما لما ذهب إليه عبد الناصر.

ومما زاد من أهمية التأمين أن بعض التيارات المعاكسة كانت تظهر بين الوقت والآخر في صفوف الضباط، وبالرغم من أن هذه التيارات طبيعية لا بد من حدوثها في فترات الانتقال إلا أنها كانت تترك آثارها العميقة من الشك والقلق مما كان ينعكس بدوره على زيادة الاهتمام بالتأمين ...

ثم زاد من هذه المشاعر القلقة ما تعرضت له الثورة من ضغوط خارجية وصلت إلى قمتها بالعدوان المسلح، فاشتبكت الثورة في معارك التحرير في القناة قبل تحقيق اتفاقية الجلاء ثم لم يمر عامان إلا وكانت جيوش ثلاث دول تهاجمها فيما سمي بالعدوان الثلاثي وكان القصد إسقاط النظام الذي أصبح يسبب المتاعب السياسية الاستعمارية في المنطقة ويثير الخوف في إسرائيل، كانت كلاب الصيد تلاحق الثورة وتطلب رأسها.

بعد العدوان الثلاثي كان لا بد من وقفة، إذ كانت خمسة أعوام كاملة قد مرت على قيام الثورة، فهي فترة كافية لتحديد المفاهيم وهذا درس هام إذ أن الاستمرار على نفس الأسلوب دون تغيير لا بد وأن يسبب التأكل والانحدار، لأن الظروف تغيرت، فمصر كان قد حصلت على استقلالها، وتحررت إرادتها، وعادت إليها قناتها، والثورة بدورها عرفت طريقها وازدادت خبرتها، والتفت جماهير الشعب حولها عن قناعة، ثم إذا كانت الأحوال قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تغيير فإن المخاطر الخارجية لا بد وأن تتزايد وتتعاظم، كل هذه المتغيرات كانت تحتاج إلى وقفة عاقلة كما سبق القول .. وأهم ما يمكن التفكير فيه في تلك الوقفة هو بناء الجيش على أسس سليمة وتحديد موقع الجيش من الثورة ... أي تحديد مركز القيادة العسكرية وعلاقتها بالقيادة السياسية حتى لا تستفحل الأمور وتتعقد وتصبح عسيرة الحل.

1 – فكان لا بد من تحديد مفهوم التأمين على أسس متغيرة تماما عما كان عليه المفهوم من قبل، فالتأمين لا يتم عن طريق التساهل في تطبيق المفاهيم المتعارف عليها، فليس معنى التأمين التمادي في تلبية احتياجات الأفراد ومتطلباتهم، وليس هو كسب الحب والولاء على حساب الضبط والربط، وليس هو تعيين الأفراد مع التغاضي عن خبرتهم وكفاءتهم، أبدا ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للتأمين، وأعود فأكرر أنه وإن كانت الأمور قد اقتضت في الأيام الأولى للثورة تفسير التأمين بهذه التفسيرات الخاطئة المدمرة فإن استمرار ذلك إلى ما بعد العدوان الثلاثي كان إجراء بعيدا عن الحكمة.

مفهوم التأمين كما حاولت أن أطبقه وأنا وزير للحربية بعد النكسة كان يحمل اتجاهات أخرى مغايرة .. وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، إبعاد الجيش عن التيارات السياسية المتناقضة، التفرغ للتدريب، ورفع مستوى كفاءة الوحدات، التسليح الجيد، تفرغ الأفراد تفرغا كاملا لواجباتهم الأساسية، تلبية مطالب الجيش واحتياجات الأفراد، التربية المعنوية، تفهم الظروف السياسية الداخلية والخارجية بعمق كامل ووعي عميق حتى يؤمن الأفراد بقضية يدافعون عنها.

2 – ثم كان لا بد أن تنتقل الثورة إلى مرحلة "الأمن القومي" بعد تطوير مفاهيم "التأمين الذاتي" ومجرد الانتقال إلى بناء عناصر الأمن القومي فيه بالتالي تحقيق للتأمين الذاتي وليس الأمن القومي مرتبطا فقط بتوفير المعدات والأسلحة الجيدة ولكنه – وكما سبق أن شرحنا – أوسع وأشمل من ذلك بكثير، فعلاوة على الاهتمام بنواحي الأمن المتعددة فإن الاهتمام بالرجال الذين يمسكون السلاح والذين يقفون خلف المعدات هو الشيء الحيوي الهام، فالنكسة لم تحدث أبدا كما يقال نتيجة لقلة العتاد والأسلحة، أو لعدم وفرة القوات، أو لتخفيض الميزانية، أو لخطأ ارتكبته القيادة السياسية، إن سبب النكسة الرئيسي كان في عدم صلاحية وأهلية القيادات الموجودة بأفرادها الذين كانوا قد تخلفوا عن التطورات التي تحدث من حولهم، والذين تركزت اهتماماتهم في النواحي الشخصية وإن كان ذلك على حساب واجبهم الأساسي، إن مجرد التحديد الواضح لمفهوم الأمن القومي كان سيحدد المفاهيم الأخرى للجزئيات تحديدا سليما واضحا، إذ أن تحديد مفاهيم الأساسيات هو الأصل في تحديد الفرعيات.

3 – كان لا بد من تغيير القيادات التي استمرت فترة معقولة في أماكنها فكان هذا التغيير يعني أيضا تغيير المفاهيم السائدة والتي استمرت كما هي رغما عن المتغيرات الكثيرة والخطيرة التي كانت تحدث، وإن كان التغيير شيئا أساسيا ومطلوبا باستمرار فإنه أكثر أهمية في القوات المسلحة خاصة في القيادات العليا، فإسرائيل مثلا تحتم تغيير قياداتها كل ثلاث سنوات يمكن أن تمتد إلى أربع، لأن هذا التغيير يجعل الدماء الجديدة تتدفق في قنوات القوات المسلحة، أما أن يمكث عبد الحكيم عامر 15 عاما في مكانه ومعه ضباطه الكبار من قادة الأسلحة فأمر لا تعرفه المؤسسات العسكرية، إذ هذا يغرس في نفس القائد العسكري الشعور بأن قيادته أصبحت وقفا عليه ثم تتضخم الأمور أمام نظره لكي يصبح مجرد التفكير في التغيير معناه عدوان على شخصه، ومساس بحقوقه، والأخطر من ذلك فإن هذا الشعور ينتقل بالتالي إلى أفراد قيادته وتصبح القيادة تعيش في ظل هذا التفكير الخاطئ اهتمامها بالبقاء أكثر من اهتمامها بالعطاء، إن هذه الرغبة في البقاء في حد ذاتها تخل الموازين عند الاختيار، فتخبو موازين الكفاءة والصلاحية أمام اعتبارات الولاء، ومن عادة الكفاءة أن تتوارى أمام الجهالة لأن الغث من الشيء هو الذي يطفو دائما على السطح وكما يقال فإنه "لا يبقى على المداد إلا شر البقر".

إن تحديد مدة التغيير وفتراته يجعل القائد يهتم أولا وآخرا بعمل شيء جديد يكون بمثابة بصمات يتركها لمن يخلفوه، وهذا في حد ذاته يجعله أكثر اهتماما باختيار القادرين على الإبداع من ذوي الكفاءة والخبرة، فالمدة محدودة بزمن معين، والواجب واضح لا بد من تنفيذه وإلا فسيف التغيير موجود جاهز للبتر، والمنافسة قائمة بين قيادات صالحة دءوبة كل يريد أن يتميز على غيره ولا يرضى التخلف في السباق الدائر.

4 – ثم كان لا بد من تحديد العلاقة الواضحة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وبين القائد السياسي والقائد العسكري حتى لا يطوف خاطر "الازدواجية" في بعض النفوس، وأقصد بذلك "ازدواجية الرئاسة" ونحن نعرف أن المركب تغرق لو تولى قيادتها ربانان، هناك ربان واحد للسفينة وكل من يخرج عن طاعته فهو خارج عن الشرعية وهذا أمر خطير لا يجوز السماح به، كما كان من الواجب أن تخضع تلك القيادة العسكرية إلى الرقابة والمساءلة بتحديد العلاقة بين الوزير والقائد العام وبين هؤلاء وبين الإطار العام للدولة فالكل أفراد في الفرقة الموسيقية وهناك "مايسترو" واحد ينظم الإيقاع حتى تكون هناك أنغام متناسقة وقد سبق لنا تحديد العلاقة بين القيادتين ولا داعي للتكرار.

5 – وكان لا بد من إيقاف عملية استنزاف القيادات الصالحة خارج القوات المسلحة وأحب هنا أن أقرر حقيقة واقعة أن تطعيم القطاع المدني بتلك القيادات كان في أغلب الأحيان تدعيم للقطاع المدني ورفع مستواه في مواقع كثيرة حساسة وهو أمر معمول به في كافة دول العالم، ولكن أن يتم ذلك لدواعي التأمين، أو أن يتم ذلك على حساب القدرة القتالية للقوات المسلحة فهذا أمر خطير، وكم من قيادات مرموقة وكفاءات نادرة تركت مواقعها في القوات المسلحة بينما كانت الآمال معلقة عليها والأنظار متجهة لها .. وللتاريخ فإن هؤلاء أدوا خدمات جليلة في مواقعهم الجديدة ما كان يمكن لغيرهم أن يؤديها بعكس ما قيل ويقال.

لو أن هذا تم في عام 1956 لكانت الأمور غير الأمور، وهناك سؤال ملح: هل كان من الممكن أني تم ذلك في سهولة ويسر؟! والإجابة – دون تردد – بالإيجاب، فكان النقاء الثوري ما زال موجودا، والطاعة ما زالت مقدسة، والتطلعات كامنة، والحدود معروفة، والخروج على الشرعية مستحيل، والعلاقات الشخصية سائدة وباقية، ويبقى السؤال قائما: إذا كان كل ذلك متوفرا فلم لم تحدث الوقفة؟ ولم لم يحدث التغيير؟ ولم لم يحدث التحديد؟

أعود فأكرر أن السبب كان يرجع إلى تغليب عامل "التأمين الذاتي" على عامل "الأمن القومي" ثم إلى المفهوم الخاطئ للتأمين.

وإن كانت الوقفة لم تحدث بعد عام 1956، وإن كان هناك تبريرات في صالح ذلك فإن هذه التبريرات لا تستقيم أبدا بعد حدوث الانفصال بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة، فقد ظهر للجميع عجز المشير عامر عن مواجهة أحداث الانفصال، وظهر للجميع أيضا أن تصرفات عامر ورجاله في ممارسة شئون الوحدة هيأت المناخ الصالح للقوى الرجعية والاستعمارية أن تحقق الانفصال وتقضي على أعز أحلام الأمة العربية والتي تجسدت في وحدة الإقليمين.

وكلنا نذكر أن عبد الناصر أراد التغيير في ذلك الوقت وبعد عشر سنوات كاملة من بداية الثورة كان التغيير طفيفا وذلك بإعطاء مجلس الرئاسة حق التصديق على التعيينات في المناصب الكبرى في القوات المسلحة ولكن المشير رفض والرئيس تراجع أمام الرفض.

وكان سبب ذلك تغليب "التأمين الذاتي" على عامل "الأمن القومي".

أذكر في تلك الفترة أن المشير حينما اختفى في مرسى مطروح بعيدا عن الأنظار بدأت تجمعات خطيرة في القوات المسلحة تتكتل لمواجهة احتمال إقدام الرئيس على تغيير المشير، وحضر عندي في منزلي أحد الزملاء الأعزاء من كبار رجال القوات المسلحة وطلب مني بحق الزمالة أن أحدد موقفي إلى جانب المشير كباقي زملائه حتى لا يقدم الرئيس على تغييره وكنت في ذلك الوقت نائبا لرئيس المخابرات العامة، إلا أنني نصحته بأن هذا الاستقطاب ضار بالصالح القومي وخارج عن الشرعية وأن من في مقدوره رأب الصدع فليفعل ومن في غير مقدوره أني فعل ذلك فعليه ألا يزيد من اشتعال الموقف، وقد أطاعني الرجل وطلب مني أن يبقى ذلك سرا وقد حدث رغما من حساسية الموقع الذي كنت أشغله في ذلك الوقت.

وقد أخذ عبد الحكيم عامر من هذه الأزمة درسا لم ينسه، فلقد أقدم صديقه على الحد من سلطات أصبحت حقا له بحكم التقادم وبالرغم من أن الرئيس تراجع بناء على حساباته الخاصة إلا أنه من يضمن عدم تكرار ذلك في المستقبل؟ ومن هنا تحول "التأمين الذاتي للثورة" إلى "التأمين الذاتي لشخصه" وأصبحت القوات المسلحة منطقة ممنوعة بالنسبة لعبد الناصر وحدث في القوات المسلحة ما حدث حتى وقعت النكسة.

في الفترة من 1962 حتى 1967 لم يكن عبد الناصر بقادر على التغيير حتى لو أراد فقد "شرد الحصان الجامح" ولم يكن أحد بقادر على كبح جماحه .. حتى بعد أن هزم هزيمة ماحقة، وحتى بعد أن دمر جيشه ودمر البلاد علاوة على ذلك ظل في موقعه يريد البقاء بل أقدم على خطوة أخطر وذلك بالتفكير في إزاحة القيادة الشرعية لو عصت أوامره أو وقفت أمام أطماعه.

فكانت الليلة العصيبة التي لولاها ما تمكنت قوة في البلاد من زحزحة عبد الحكيم عامر ورجاله وصلاح نصر وجهازه من مواقعهم الخطيرة التي ظلوا يحتلونها أكثر من عشرة أعوام كاملة وظنوا أنها أصبحت وقفا عليهم لا خدمة للوطن ولكن خدمة لأغراضهم الذاتية وأطماعهم الخاصة.

ويبقى سؤال أخير، هل حاول عبد الناصر تلافي السلبيات السابقة بعد الليلة العصيبة؟ وهل كان راغبا في التغيير؟ وهذا سؤال آخر حساس سوف نجازف بالرد عليه.

لا شك أن عبد الناصر بعد الليلة العصيبة أصبح قادرا وبلا حدود على إحداث التغييرات المرموقة، وأصبح ولأول مرة قادرا على ممارسة اختصاصاته كقائد أعلى للقوات المسلحة اسما وفعلا، وفتحت الطرق أمامه للتغييرات الكبيرة لتحديد العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، وكانت الأمور أمامه واضحة تمام الوضوح إذ حينما أخبرني بتعييني وزيرا للحربية سألته سؤالا مباشرا عن الغرض الذي يحدده من تعيين وزير للحربية بغض النظر عن الشخص الذي يشغل المنصب الخطير .. وكانت إجابته واضحة أسعدتني إذ قال بالنص "أريد إدخال القوات المسلحة في الإطار العام للدولة بعد أن كانت بروزا ناتئا فيها" وكان هذا طريقا سليما .. ومنذ اللحظة الأولى لعملي بالوزارة وضعت هذا الغرض السليم أمام ناظري ورأيت من الحكمة تأجيل تحديد الاختصاصات في القيادة العليا فترة من الزمن حتى تتضح الأمور عند الممارسة الفعلية، وحينما حل الوقت لتحديد كل شيء تردد عبد الناصر في تحديد الاختصاصات لفترة طويلة من الزمن وكانت حساباته قد بدأت بخصوص "التأمين" خاصة بعد القضاء على المؤامرة التي كان يقودها المشير.

حتى وهي يكلفني بمنصب رئاسة الوزارة في أواخر شهر سبتمبر سألته عما إذا كان الوقت قد حان لتحديد الاختصاصات في القيادة العليا للقوات المسلحة إلا أنه أجل البت في ذلك لحين عودتي من زيارة موسكو التي سافرت إليها لحضور احتفالات أكتوبر هناك وللتفاوض من أجل اتفاقيات التسليح ثم – وعلى حد قوله – ليعرفني رجال المكتب السياسي هناك، وحينما رجعت من رحلتي وجدت أن الأمر يدعو إلى كتابة أفكاري في مذكرة أوردت مقتطفات منها فيما سبق من حديث، إلا أن الرئيس تردد في البت رغما عن خطورة الأوضاع وحساسيتها، وحينئذ امتنعت عن ممارسة عملي كوزير للحربية ولم أدخل الوزارة بعد ذلك – أي من أول نوفمبر 1967 على ما أذكر – وحتى تركي المنصب لأتفرغ لرئاستي لجهاز المخابرات في 24/ 1/ 1968.

أقدم عبد الناصر في أول الأمر وبحماس ولكنه تردد بعد ذلك.

وبالرغم من محاولات كثيرة ورغبة كريمة من الرئيس في العودة عن قراري إلا أنني تمسكت بموقفي فكفي ما لاقيناه من غموض العلاقات بين الأجهزة في السابق ولم أرغب في المشاركة بما لا أعتقد في صوابه.

وبالرغم من كل ذلك فالرئيس لم يرسلني وراء الشمس، ولم يؤذني بل استمع إلى رأيي وكل ما خسرته كان منصبا وكان غيره في الانتظار، يا ليت القيادة العسكرية فعلت ذلك في مواقف مشابهه قبل النكسة، ويا ليت أعضاءها كانوا قادرين على المناقشة والحوار قبل صدور القرار .. !!!

أقول يا ليت لأن الإنسان ليس في إمكانه الآن إلا أن يتمنى.

وإزاء هذا الإصرار من جانبي بدأ الرئيس يبحث عن بديل فعرض على السيد زكريا محيي الدين أن يخلفني في منصب وزير الحربية إلا أنه رفض وقد أخبرني بذلك الرئيس نفسه، ولما سألت السيد زكريا عن السبب الذي من أجله رفض المنصب ذكر ضاحكا "أنا سألت الريس ماذا تريد مني في هذه الوزارة؟ أمين موجود فلماذا تولى المنصب ولماذا يريد تركه الآن؟!" وأصر الرجل على اعتذاره، ولم يكن أمام الرئيس إلا الأخذ بمشورتي بالجمع بين منصبي القائد العام ووزير الحربية على أن يتولاها قائد واحد ولو بصفة مؤقتة حتى لا تظل المناصب الحساسة شاغرة في الموقف الخطير الذي تمر به البلاد.

ثم كان الرئيس يرغب في التغيير حتى أوائل عام 1970 حينما استدعى السيد حافظ إسماعيل من باريس حيث كان يعمل سفيرا لنا هناك ليخلفني في رئاسة المخابرات، ولقد دهشت حقيقة حينما كلفني الرئيس بالاستمرار في الإشراف على جهاز المخابرات العامة حتى في وجود الرئاسة الجديدة إلا أنني اعتذرت فرئيس الجهاز لا بد وأن يتبع رئيس الجمهورية مباشرة دون مزيد من الحلقات، إلا أن الرئيس استمر في تحويل كل موضوعات المخابرات لي حتى وفاته بل في هذا اليوم – أي يوم وفاة الرئيس بل في ساعة الوفاة – كنت في اجتماع مع الشيخ سعد الصباح (26) وزير الداخلية في ذلك الوقت والمسئول عن أعمال المخابرات في الكويت في منزله بالزمالك ومعنا السفير حمد الرجيب سفير الكويت بالقاهرة (27) في ذلك الوقت.

وقد علمت بعد ذلك أن السيد حافظ إسماعيل كان قد استدعي ليتولى منصب رئيس أركان حرب الجيش حينما يقترب موعد عبور القناة لتحرير الأرض وكان عليه أن يمضي فترة انتقالية في القاهرة في موقع يطلع فيه على الأمور قبل انتقاله لتولي منصبه الذي استدعي من أجله، ويقول حافظ إنه استدعي لتولي منصب وزارة الحربية وقيادة الجيش وقد يكون حافظ أصدق مني في روايته.

وكما نرى فإن الرئيس لم يستغل التغيير الذي حدث بعد الليلة العصيبة استغلالا كاملا وتردد كثيرا في الإقدام على خطوات جذرية في هذا الاتجاه كان المطلوب ضمان بقاء القوات المسلحة ضمن إطار الدولة وشرعيتها، وكان المطلوب أيضا حسم العلاقة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية وقد تحقق ذلك بوجود شخص عبد الناصر كضامن وحيد يضمن عدم تطور العلاقة إلى وضعها الشاذ الذي تسبب في النكسة.

إن السؤال يبقى حتى كتابه هذه السطور: ما هو الفاصل بين الجانب السياسي والجانب العسكري في قمة القيادة العسكرية؟ ثم من يراقب هذا الجهاز الحساس في ظل توحيد المسئولية السياسية والعسكرية في يد واحدة؟ ويزداد الأمر خطورة في غياب جهات قادرة على أن تبحث وتنقب عما يحدث داخل هذه المؤسسة المعقدة الخطيرة، ويزداد الأمر خطورة أيضا في انعدام رغبة هذه المؤسسة في عرض موضوعاتها للمناقشة وإصرارها على التستر وراء حجاب كثيف في الغموض والسرية في حين أن موضوعات الدفاع في الدول المتحضرة معروضة للنقاش والجدل.   وأخيرا ....!!

كانت الليلة العصيبة من أخطر الليالي التي مرت بها ثورة يوليو المجيدة .. الغالبية العظمى لا تذكرها ولا تعرف عنها شيئا لأن البعض تجاهلها، والبعض الآخر تعرض لها بمعلومات ناقصة مبتورة بني عليها فرضيات كثيرة واستنتاجات أكثر تركت على الساحة تساؤلات أكثر مما تركت من إجابات.

ولقد التزمت الصدق والصراحة في معالجة الموضوع من البداية حتى النهاية، أما عن الصدق فهو عادة ملازمة لا يمكنني التحرر منها حتى ولو تعلق ما أقوله بشخصي، أما عن الصراحة فكان مبعثها عدة عوامل:

1 – خطورة العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية وتأثير عدم وضوحهما على الأمن القومي للبلاد.

2 – تقديرنا الشديد لعبد الناصر لا يمنعنا من ذكر سلبيات وقع فيها لأن مبادئ عبد الناصر تدعو دائما إلى النقد والنقد الذاتي.

3 – أن الرجل كان يحاول دائما في ظل ظروف صعبة ضاغطة أن يصحح ويغير ولكن ربما كانت حساباته التي أجراها وقت الأزمة تختلف كثيرا عن الحسابات التي يجريها بعد انتهائها.

الفصل الثالث عاشر: القنوات الخلفية لعبد الناصر

قبل كلام كثير عن القنوات الخلفية التي كان يفتحها عبد الناصر مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء، البعض حاول أن يختلق اتصالات لم تحدث، والبعض الآخر حاول أن يستغل اتصالات حدثت فعلا ليلوي حقيقتها ويلقي ظلالا على أهدافها والغرض من ورائها.

وقبل أن نبدأ في الحديث عن ذلك في إطار معلوماتي وضمن ما تسمح به القيود المفروضة على السرية لا بد وأن نحدد ما نعنيه بالقناة الخلفية Back Channel أو القناة السرية Secret Channel.

فصاحب القرار علاوة على الاتصالات التي تقوم بها أجهزته الرسمية سواء كانت اتصالات علنية أو سرية لتزويده بالحقائق الكافية لإعطاء قراره أو تنفيذه فإن له الحق في أن تكون له قنواته الخاصة التي تتم إما بطريق مباشر معه أو عن طريق غير مباشر مع أحد أجهزته لتزويده بمعلومات ربما لا تكون في متناول أجهزته الرسمية، أو ربما لا يريد الطرف الآخر لها أن تعرف إلا – كما يقال – عن طريق الهمس ومن الفم إلى الأذن دون وسيط أو طرف ثالث، أو القيام بإجراءات قد تسبب الحروجة للأجهزة الرسمية إن هي قامت بتنفيذها.

هذه القنوات في غاية الأهمية خاصة بالنسبة لطبيعة الصراعات القائمة سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى العالمي، فهي صراعات يمتزج فيها القتال بالتفاوض، ويمتزج فيها الوفاق مع التناقض، وهي علاقات بالتالي معقدة وخطيرة يخشى فيها أن يفلت الزمام مما يحتم وجود هذا الاتصال في حالة الوئام وفي حالة الخلاف، لأن العلاقات الدولية علاقات مصالح قد يحدث فيها تكامل وقد يحدث فيها تعارض، وحينئذ لا يكون الاتصال واجبا بين الأصدقاء فحسب بل هو واجب أيضا مع الأعداء وقد يصل التناقض بين دولتين إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن هذا لا يمنع أبدا من استمرار الاتصال عن طريق الوسائل المعروفة أحيانا أو عن طريق القنوات الخلفية أحيانا أخرى. فهذا أحد ضروريات ممارسة السياسة.

وهناك فارق كامل بين القناة الخلفية أو القناة السرية وبين العمل السري، فالعمل السري يتم من وراء الظهر وهو يدخل في أعمال المخابرات أو الجاسوسية ولكن القناة الخلفية تتم بمعرفة الدولتين أو الأطراف المعنية ويحدد مستواها تبعا لاتفاقها على هذا المستوى، ووجود القناة السرية لا يمنع القيام بالعمل السري فكلاهما وسيلتان ضروريتان في كافة الأحوال أعني في حالة الصداقة والعداوة على حد سواء.

وهناك فارق أيضا بين القنوات الخلفية والأبواب الخلفية فالأخيرة هي علاقات شخصية تتجاوز الأصول الواجبة والتي يمارسها صاحبها في الخفاء وبتكتم شديد وهي لا تدخل في حديثنا من قريب أو بعيد.

ولنأخذ مثلا إحدى القنوات الخلفية الشهيرة وهي ما تعرف بعملية "بنسلفانيا" وهو الاسم الكودي لبدء الاتصالات السرية واشنجطن وهانوي أثناء الحرب الفيتنامية والتي قام بها هنري كيسنجر حتى بدأت المفاوضات الرسمية في باريس بين الجانبين، بدأت القناة بداية مثيرة في مارس عام 1967 حينما كان يعمل كيسنجر مستشارا لهنري كابوت لودج سفير الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبية بناء على مواقفه "الرئيس لندون جونسون" الذي حدد له مأموريته في البحث في موضوع "التورط الأمريكي في فيتنام" وانتهى كيسنجر إلى قرار وافق عليه الجميع هو الانسحاب من فيتنام مع حفظ الهيئة الأمريكية، ولكن كيف يتم ذلك؟ هذه هي المشكلة إذ رفض الجانب الآخر الاتصال رفضا باتا.

إذن كان لا بد من الاتصال عن طريق طرف ثالث لإنشاء قناة خلفية بعيدة كل البعد عن القنوات الرسمية ... وتم ذلك في الوقت السابق عندما اجتمعت "البجواش" في باريس وكان من أهم قرارات المؤتمر الاهتمام بمشكلتي الشرق الأوسط وفيتنام مع التركيز على ضرورة بدء الاتصالات لحل مشكلة فيتنام من خلال الحكومة الفرنسية التي تسمح علاقاتها الخاصة بذلك، وقد اختار "ديجول" اثنين للقيام بذلك "ريموند أو براك" و "ماركوفتش" وكان الأول على علاقة وطيدة مع هوشي منه الذي تعرف به أثناء ذهابه إلى باريس عام 1946 للتفاوض مع الحكومة الفرنسية للحصول على استقلال بلاده وسكن بجوار أوبراك وتصادق الرجلان إلى حد أن هوشي منه عمل كالأب الروحي لأحد أبناء أوبراك، وسافر الرجلان إلى هانوي ليفتحا باب الاتصال بين الجانب الأمريكي والجانب الفيتنامي إلا أن الجانب الآخر كان يرفض ذلك إلا بشروط فلا يجوز أن يغيب تحت رفع شعار السلام "من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه لأن مجرد رفع هذا الشعار يضع الولايات المتحدة وهانوي على قدم المساواة" واستمر الوضع على ما هو عليه أي اتصال الجانبين عن طريق طرف ثالث حتى تمكن أحد أصدقاء كيسنجر من الفرنسيين وأحد المشتركين عام 1946 في المفاوضات بين فيتنام وفرنسا ويدعى "جان سانتيني Jean Sainteny" من فتح الطريق أمام كيسنجر للاتصال مع "إكسوان ثوي Xuan Thay" وزير خارجية هانوي لتبدأ المفاوضات السرية بين الجانبين دون علم باقي المؤسسات الرسمية إلا بالقدر الذي تحتمه الضرورة (28)

وقيل كلام كثير عن قيام الرئيس أنور السادات بفتح قناته الخلفية مع وشنجطن عن طريق أجهزة المخابرات في البلدين وهي التي تمت من خلالها تبادل رسائل كثيرة قبل حرب أكتوبر 1973 وبعدها أثارت الكثير من علامات الاستفهام، بدأت تلك القناة في فبراير 1973 حينما قام "رونالد كانرال رئيس مجلس إدارة البيبسي كولا" بترتيب لقاء بين حافظ إسماعيل مستشار الرئيس السادات لشئون الأمن القومي وبين هنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي أيضا في وشنجطن ومن تلك الفترة بدأت هذه القناة الخلفية في العمل بنشاط ومن وراء ظهر الدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء، وقد تم من خلال هذه القناة تبادل أخطر رسائل حددت النتائج التي أفرزتها حرب أكتوبر 1973 من أخطر الرسائل المتبادلة في تلك الفترة هي الرسالة التي أرسلتها القاهرة في 7/10/ 1973 إلى هنري كيسنجر والتي تقول:

1 – إن الاشتباكات التي تحدث حاليا في المنطقة لا يصح أن تثير أي دهشة لدى جميع أولئك الذين تتبعوا الاستفزازات الإسرائيلية المستمرة ليس على الخطوط السورية أو اللبنانية فحسب بل أيضا على الجبهة المصرية وكثيرا ما لفتنا النظر إلى مثل هذه الاستفزازات التي لم تتوقف قط رغم الإدانة الدولية.

2 – وعلى ذلك فقد كان على مصر أن تتخذ قرارا بمواجهة أية استفزازات إسرائيلية جديدة بالحزم وبالتالي أن تتخذ الاحتياطات الضرورية لكي تواجه أي تصرف إسرائيلي من قبيل ذلك الذي جرى فوق سوريا يوم 13/ 9/ 1973.

3 – المصادمات التي حدثت على جبهة القناة كنتيجة للاستفزازات الإسرائيلية كان المقصود منها من جانبنا أن نظهر لإسرائيل أنه لم يكن يساورنا الخوف أو أنه لا حول لنا ولا قوة وأننا نرفض الاستسلام لشروط تخطيط عدواني يهدف إلى احتجاز أرضنا كرهينة للمساومة.

4 – وكنتيجة للاشتباكات فإن موقفا جديدا قد نشأ في المنطقة ولقد كان طبيعيا توقع تطورات جديدة في خلال الأيام القليلة القادمة فإننا نود توضيح إطار موقفنا.

5 – إن هدفنا الأساسي لا يزال – كما كان دائما – تحقيق سلام في الشرق الأوسط وليس تحقيق تسويات جزئية.

6 – إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة.

7 – وأؤكد لكم مرة أخرى الرسالة التي لا بد وأن تكون قد وصلتكم من مستر روكفلر والتي كانت تؤكد على.

أ – أن إسرائيل لا بد وأن تنسحب من جميع الأراضي المحتلة.

ب – وعندئذ سنكون على استعداد للمساهمة في مؤتمر سلام بالأمم المتحدة.

ج – إننا نوافق على حرية الملاحة في مضايق تيران ونقبل كضمان تواجدا دوليا لفترة محدودة (29)

وبناء على ما ورد لكيسنجر عن طريق هذه القناة الخلفية فإنه دعا لجنة الأمن القومي لاجتماع عاجل تم عقده في نفس اليوم ودارت المناقشات داخل اللجنة تحاول تحديد الموقف العربي إلا أن كيسنجر قال في ثقة ردا على ما قاله أحد الأعضاء من أنه من الصعب عليه تصور أن السادات سيبقى على الضفة الشرقية للقناة "إن رأيي أنه سوف يبقى هناك، إنني أعرف أنه لن يتقدم أكثر من ذلك".

ويضيف كيسنجر في مذكراته (30) "إن السادات حافظ على عهده – في اتصالاته سابقة – بألا يثير الكراهية ضدنا لا خدمة لنا ولكن لأنه لم يكن يرغب في دفعنا أكثر إلى جانب إسرائيل في الخطوات القادمة، كانت خطة إنشاء علاقة معنا تجعلنا ليس فقط من الناحية الرئيسية بل من الناحية النفسية وسطاء".

قصدت من هذه الإطالة إظهار مدى خطورة هذه القنوات الخلفية في تقرير مصير الدول والشعوب ولم أقصد أبدا تقييم "السياسات" التي تبودلت خلال هذه القنوات والتي دار عليها نقاش حاد في أجهزة الإعلام المختلفة إذ أن هذا قد يكون له مجال آخر، هذه القنوات الخلفية تؤدي أدوارا أخطر كثيرا مما تؤديه القنوات الرسمية أو العلنية كما شاهدنا.

ولكن هذه القناة الأخيرة التي قيل إنها فتحت أيام الرئيس السادات كانت مفتوحة من قبله ومن أيام عبد الناصر وهذه حقيقة معروفة تثبتها الوثائق الرسمية، ولكن كان الرئيس السادات – كما كان الحال مع بعض فراعنة مصر – دائما ما ينسى الماضي أو يشوهه وكان في الوقت نفسه ينسب كل شيء إلى ذاته بالحقيقة أو بالباطل.

فتحت هذه القناة في يونيو 1969 بين المخابرات العامة المصرية وبين وكالة المخابرات المركزية CIA في وشنجطن ضمن قنوات اتصال متعددة بين البلدين أقلها كان يتم عن طريق مكتب الإشراف على المصالح ولكن أكثرها كان يتم بطرق خلفية متعددة، فبعد قطع العلاقات الرسمية بين البلاد العربية والولايات المتحدة الأمريكية كان الزائرون يتنقلون في زيارات متبادلة يحاولون فيها سبر غور المواقف هنا وهناك وكان تبادل الرسائل قائما، رسائل تصل ويرد عليها، رسائل تصل ولا يرد عليها، إلى أن تطور الأمر إلى وضع أكثر صراحة ورسمية بإنشاء مكاتب الإشراف على المصالح هنا وهناك والتي كانت في الواقع أقرب إلى مكاتب البريد منها إلى الإشراف على المصالح، كانت الرسائل الواردة أو الصادرة تصل إليها لتعيد توزيعها على من يهمهم الأمر، فمثلا كانت مبادرة روجرز المشهورة عبارة عن رسالة شفهية قرأها "برجس" المشرف على المصالح الأمريكية في القاهرة من أوراق مكتوبة كانت في حوزته.

وكانت وكالة المخابرات المركزية تلح من جانبها على فتح هذه القناة بعد انتهاء حرب 1967 مباشرة وقام بالمحاولة أحد رجال المخابرات المركزية وهو "وليم بروميل" وكان خبيرا بالشرق الأوسط، كان الرجل في العراق قبل أن تفجرت ثورة تموز عام 1958 وحضر قيام الثورة هناك وسقوط العرش الهاشمي وإقامة الجمهورية، وكان في القاهرة عام 1966 وحضر حرب 1967 ومكث فترة بعدها، ثم كان في طهران بعد ذلك إلى أن أرسلته وكالته إلى القاهرة في يونيو 1969 لتكرار المحاولة.

قام بمحاولته الأولى لفتح القناة الخلفية بعد الحرب مباشرة كما سبق القول ولكن لم تكن الظروف تسمح بذلك على الإطلاق، فلم تكن الأمور قد وضحت بعد، وكان التركيز كله على إعادة ترتيب المنزل من الداخل، كنا نبني من جديد بعد النكسة الشديدة التي أصابتنا، ولم يكن في تقديرنا في تلك الفترة أن اتصالا من هذا النوع يمكن أن يعود بنتائج إيجابية من تلك النتائج التي يمكن الحصول عليها عن هذا الطريق، فالاتهامات ثقيلة بالنسبة لقيام الولايات المتحدة الأمريكية بدور خطير في تدبير العدوان ثم كان موقفها بعد ذلك موقفا معاديا على طول الخط وذهبت في تأييدها لإسرائيل إلى حد بعيد، ثم كان – في اعتقادنا – أن أي حوار مثمر لا يمكن أن يتم إلا من مصدر قوة وكانت قوتنا قد أهدرت في سيناء، وهذا لم يمنع قيام الحوار عن طريق قنوات أخرى كثيرة.

كان الموقف في يونيو 1969 مختلفا عنه عقب النكسة مباشرة بالنسبة لقبول أو رفض فتح هذه القناة الخلفية، فقد كان الموقف في الولايات المتحدة أصبح جاهزا لذلك من وجهة نظر المخابرات العامة المصرية إذ تبلور الموقف في رأيين داخل الإدارة الأمريكية.

كان الرأي الأول يرى الموقف من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية، إذ تنظر إليها دائما من ناحية انعكاس نتائجها على الصراع القائم بين وشنجطن وموسكو على المستوى العالمي، وفي إطار هذه النظرة فإن أصحاب هذا الرأي كانوا يرون عدم الإقدام على حل الأزمة بل الاكتفاء بإدارتها إذ أن طول الوقت وامتداده سوف يجعل العرب المؤيدين للاتحاد السوفيتي ينتقلون إلى الجانب الآخر نتيجة ليأسهم من الوصول إلى حل عن طريق مشاركة الاتحاد السوفيتي وترتيبا على ذلك فلقد رفعوا شعارين:

الشعار الأول أنه لا يمكن إيجاد حل عن طريق النظم الثورية – أي التي تتعامل مع موسكو – بأي حال من الأحوال، وكان الشعار الثاني أنه لا يمكن للسلاح السوفيتي أن ينتصر على السلاح الأمريكي بأي حال من الأحوال، ولذلك فإنه من الواجب الوقوف أمام أي حل سلمي تشترك فيه موسكو وعرقلته وفي نفس الوقت الإمداد المستمر لإسرائيل بالأسلحة المتطورة بحيث يكون التوازن دائما في جانبها.

أما الرأي الثاني فكان ينظر إلى الموقف – كنظرة أصحاب الرأي الأول تماما – من خلال النظرة التقليدية للسياسة الأمريكية إلى الصراعات الإقليمية أي النظر إليها من ناحية نتائجها ومردودها على الصراع العالمي بين وشنجطن وموسكو، ولكنهم كانوا يختلفون في النتائج المترتبة على ذلك، فبقاء الأزمة دون حل سلمي لها سيوطد العلاقات بين النظم الثورية وبين الاتحاد السوفيتي بل سيتيح للاتحاد السوفيتي الفرصة لكي يمد علاقاته إلى دول أخرى في المنطقة على أساس معاداة وشنجطن للأماني العربية مع وقوف الاتحاد السوفيتي مؤيدا لها، ثم تأثير عدم الوصول إلى حل نتيجة المواقف الأمريكية سوف يؤثر دون شك على النظم التقليدية في المنطقة والتي على علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية إذ أنها ستجد نفسها في موقف لا يمكن تبريره، وأخيرا فإنه لا يمكن إغفال تأثير بقاء المنطقة دون حل أزمتها الراهنة على المصالح الأمريكية الموجودة خاصة المصالح النفطية ولذلك فإنهم كانوا ينادون بفرض القيد على التسليح الأمريكي لإسرائيل وضرورة فتح الحوار مع النظم العربية على اختلاف معتقداتها.

وبناء على ذلك فإنه كان من صالحنا فتح القناة حتى يمكننا أن نؤثر في الحوار الدائر في وشنجطن فلم يكن من المعقول أن نظل بعيدين عنه، وكنا نعتقد بأن هذا – لو تم – فإنه سيكون حوارا من نوع آخر غير الذي يقوم به الدبلوماسيون بطريقتهم التي تزيد من تعقيد الأمور ولا تحلها خاصة وأن الحوار سيتم بطريقة غير رسمية وفي الوقت نفسه فهو حوار غير ملزم لأي طرف من الأطراف، فلا يعقل مثلا أن يتم الحوار بين وزراء الخارجية أو بين رؤساء الدول على أساس شخصي أو غير رسمي علاوة على أن هؤلاء يحاولون أثناء قيامهم بالحوار أن يثبتوا دائما أنهم أكثر لباقة من الطرف الآخر بطريقة حذرة تحسب فيها الكلمات بالموازين الدقيقة.

كانت هذه هي الصورة التي أوضحتها للرئيس عبد الناصر وأنا أعرض عليه رأينا بخصوص "فتح هذه القناة الخلفية" حينما علمت بوصول "وليم بروميل" إلى القاهرة وبعد المقابلات التمهيدية التي تمت بينه وبين بعض المساعدين.

ووافق عبد الناصر بعد تردد لأن الرجل كان قد فقد ثقته نهائيا في الولايات المتحدة الأمريكية شاكا في نواياها حذرا من تصرفاتها، وقد أثبتت الأيام أنه كان على حق في شكوكه وحذره، ولكنه وافق على أساس أن المصلحة تقتضي ذلك فليس للعداوة أو الصداقة الكلمة الأولى في ممارسة السياسة.

وبناء على ذلك حددت موعدا لمقابلة وليم بروميل مندوب وكالة المخابرات المركزية، وكان الرجل سعيدا بالمقابلة لأن ذلك في حد ذاته كان يعتبر رسالة لحكومته بأننا – رغما عن حماقتها وعداوتها – راغبون في الحوار، وأننا لسنا كما كتب البعض بعد ذلك – مع الأسف الشديد – من أنصار غلق أبواب الحوار وسدها.

لقد كان هناك اتفاق عام ومن أول وهلة على ضرورة تحديد الغرض من هذه القناة الخلفية وعلى أن يكون الغرض عند تحديده مثمرا وإيجابيا فكل إنسان في استطاعته إقامة اتصال وعلاقة، ولكن أن يكون هذا الاتصال مثمرا والعلاقة إيجابية فهذا شيء آخر.

ولم يكن من المتصور أن يكون الحوار من خلال هذه القناة الخلفية في نطاق التعاون بين جهازي المخابرات في البلدين، لأن مفهوم التعاون في هذا المجال يبنى على وجود هدف واحد مشترك تسعى الدولتان لتحقيقه كأن يكون مثلا القضاء على نظام ما في دولة أخرى وهنا لا بد من إطلاع كل طرف على ما لدى الطرف الآخر من معلومات تمكن من تحقيق الهدف المشترك، ولم يكن الأمر هكذا بين الدولتين فكل منهما تريد "قطع رقبة الأخرى" ولكن بفارق رئيسي أن إحدى الدولتين معتدية والأخرى معتدى عليها.

ولم يكن من المتصور أيضا أن يتم الحوار على أساس اختلاف أهداف الطرفين مع عدم تعارضهما أو تصادمهما، فإن الأغراض كانت مختلفة ولا يسير هذا الخلاف في خطوط متوازية ولكنها خطوط متقاطعة معقدة.

ولم يكن هناك خلاف على ذلك بين وجهتي النظر إذ يتم الحوار في هذه المجالات بصراحة كاملة لا يترك وراءها شكا أو غموضا.

ولكن بقي جانب واحد يمكن الاتفاق على العمل في إطاره وهو ضرورة وجود استقرار في المنطقة يبنى على أساس سلام عادل، إلا أن بروميل – وهو ينقل رأي وكالته – أضاف بعض التوضيحات، أن الهدف المشترك لفتح هذه القناة في رأيهم – هو إيجاد حل للأزمة الإسرائيلية بدون حرب كذا إيجاد طريقة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى أن تسهم بطريقة ما في تنمية مصر، وكان الرجل قلقا من تزايد العلاقة بين القاهرة وموسكو وعلى ثقة في الوقت نفسه من أن القاهرة قد استعادت قدرتها بصورة ملحوظة خلال العامين السابقين.

وتم الاتفاق على أن يكون الغرض هو تبادل وجهات النظر بصورة صريحة ودقيقة قد لا تسمح بها الاتصالات الرسمية الأخرى دون ترديد وجهات النظر القائمة على أنها منزلة من السماء، كما تم الاتفاق على أن يكون ممثلهم هنا هو "يوجين ترون" الذي أمضى ثلاث سنوات كاملة في سيلان وفي قبلها خدم في لبنان والعراق، وقدم اسمه إلى وزارة الخارجية المصرية للحصول على موافقتها لينضم الرجل عند مجيئه إلى مكتب الإشراف على المصالح الأمريكية في القاهرة.

وتمت الموافقة، وحضر "يوجين ترون" ليتولى مع مندوبنا فتح قناة خلفية جديدة مهد لها "وليم بروميل" من قبل ...!!

وبدأت القناة في عملها المثير .. ولكن ماذا تم فيها؟!!! .. هذا ليس ملكنا فلا يجوز إذن أن نتحدث عنه، وأظنه سيبقى كذلك لوقت طويل قادم.

كانت هذه القناة إذن قناة غير مباشرة للرئيس عبد الناصر بين جهازين سريين على قرب من دائرة اتخاذ القرار ومؤثرين فيه وبالرغم من كل ذلك فإن الحوار غير ملزم، كان الحوار يسجل وبدقة ويرفع للرئيس أولا بأول ليعطي فيه توجيهاته.

وقد فتحت قنوات خلفية قبل ذلك بواسطة أفراد عديدين ربما مع وكالة المخابرات المركزية وربما مع غيرها، ولكن البعض من هؤلاء أداروا "القناة الخلفية" لحسابهم أو ربما لحساب "الوكالة" أو "لغيرها" .... البعض من هؤلاء "سقط" والبعض الآخر كان أذكى من أن "يسقط".

واستمرت هذه القناة الخلفية من العمل حتى بدأ الرئيس أنور السادات في استخدامها، وهنا تحولت القناة إلى قناة ملزمة إذ كان على أحد طرفيها قمة القيادة السياسية وعلى الطرف الآخر بعض أفراد من الحلقة الداخلية، وتحولت بالتالي إلى قناة تبحث عن أي حل وبأي ثمن بدلا من أن كانت وسيلة تحاول أن تضغط وتؤثر على الطرف الآخر.

وهنا يمكن أن تكون هذه القناة الخلفية قناة "قديمة" و "جديدة" .. !! "قديمة" في نشأتها ولكنها "جديدة" في هدفها وأسلوبها.

ولذلك فإن من يقول إنها "قناة قديمة" فهو صادق، ومن يقول إنها "جديدة" فإنه لا يتجاوز الحقيقة ...

موضوع آخر لم أتحدث عنه من قبل كسابقه إلا بعد أن رأيت أن البعض تحدث فيه وصوره على غير حقيقته وهو موضوع الاتصالات التي تمت مع "ناحوم جولدمان".

وقبل أن نبدأ الحديث عن الموضوع نقرر أن هذه الاتصالات لا تدخل إطلاقا ضمن ما يطلق عليه "قناة خلفية" أو غيرها، إذ كانت العملية كلها عملية مخابرات بحتة مما يدخل في نطاق "الحصول على معلومات" كذا من ناحية "العمليات الإيجابية" التي تقوم بها أجهزة المخابرات وهذا غير ما صورت به هذه الاتصالات سواء في وسائل النشر الداخلية أو الخارجية.

إذ أن العملية عملية "مخابرات بحتة" قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية، وأي حديث غير هذا لا يستند إلى الواقع.

وللدلالة على أن هذه الاتصالات لم تكن في إطار "القنوات الخلفية" التي نتحدث عنها نعرف القارئ أولا "بناحوم جولدمان" (31)

ولد ناحوم جولدمان في لتوانيا في 10/ 7/ 1895 وبعد ولادته بفترة ست سنوات لحق بأبويه اللذين هاجرا @@ إلى فرانكفورت وتركاه في رعاية جده لأمه وبذلك فإنه ولد في أوروبا الشرقية وترعرع في أوروبا الغربية والتحق بالحركة الأرثوذكسية اليهودية وهي حركة محافظة كانت تنادي بابتعاد اليهود عن الثقافات الأجنبية حتى لا يذوبوا في غيرهم من الشعوب، وطوال دراسته الثانوية كان لا يكف عن الدعاية للحركة الصهيونية عن طريق إلقاء المحاضرات وكتابة المقالات بل بلغ من حماسته أنه كان يتصدى للمبشرين البروتستانت الذين اعتادوا التبشير في الأوساط اليهودية الفقيرة لتعميدهم نظير مغريات مادية، ثم التحق بجامعة هيدلبرج ليدرس القانون، ولم يكن جولدمان طالبا مواظبا بل كان كثير التغيب عن دراسته لانشغاله بملذاته وبنشاطه الصهيوني، ولذلك فإنه كان يستعيض بمن يلخص له دروسه رجاء أجر زهيد عن هذا التغيب لينجح بأي ثمن واجتاز الامتحان ثم تقدم للحصول على الدكتوراه وأعد رسالته بتجميع عدد من مقالات كان يكتبها في إحدى المجلات بعد أن أضاف إليها بعض الدراسات القانونية !!!! ولدهشته قبلت الرسالة وأصبح "الدكتور جولدمان" حاملا للقب العلمي المرموق، وفي تلك الفترة تكونت شخصيته الصهيونية على أساس محاربة "الاندماج" أي اندماج اليهود مع غيرهم من الديانات، وعلى أساس العلاقة الحتمية بين يهود المنفى ويهود الوطن أن حياة المنفى ضرورة لاستمرار اليهود على الأرض، فلا يمكن لأرض الميعاد أن تستغني عن يهود المنفى والرجل كان وراء عدة مشروعات صهيونية فقد كان من مؤسسي "دائرة المعارف اليهودية" وأصدر منها عشرة أجزاء باللغة الألمانية، وكان وراء موضوع التعويضات الألمانية لإسرائيل، والمشرف الوحيد على المفاوضات التي دارت بخصوصها حتى وقع الاتفاق في 10/ 9/ 1952 في لكسمبورج وقد وقعها اديناور مستشار ألمانيا الاتحادية وموشي شاريت وزير خارجية إسرائيل وناحوم جولدمان نيابة عن اليهود وكان من نتيجة هذه الاتفاقية أن دخل الخزانة الإسرائيلية ستون مليون مارك علاوة على بلايين أخرى حصلت عليها إسرائيل لتعويضات وهمية، وهو يدين بمبدأ أن ما لا يمكن الحصول عليه بالعنف يمكن تحقيقه عن طريق السياسة والتحايل وعاد بعد إنشاء الدولة يعبر عن رأيه في الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صدام بين حقين ولذلك فإن لكل من العرب واليهود حقا في أرض فلسطين.

ويتضح من هذه المعلومات أن أهداف "جولدمان" الصهيونية لا شك فيها ولكنه كان يؤمن بالسياسة والتحايل لتحقيق الأغراض الصهيونية وتثبيتها إذ أن استخدام القوة بصفة دائمة في سبيل تحقيق ذلك فيه خطر على إسرائيل، وهذا حق تؤيده أحداث التاريخ.

والرجل أيضا – كما رأينا – كان لا يأخذ الحياة بمجمل الجد خاصة بعد أن عاش في الخارج ولم يرض بالعيش داخل إسرائيل لا قبل نشأتها ولا بعد نشأتها وإن كان لا يتردد في تقديم أي خدمة يراها واجبة في سبيلها بالصورة التي يرضاها وتتفق مع أفكاره.

ثم كان الرجل – بعد أن استكان إلى حياة الدعة والراحة – يميل إلى إعطاء نفسه صورة على غير حقيقتها، وكانت حياته فخمة سواء في شقته في باريس أو محل إقامته في وشنجطن حيث دأب على التنقل بين دول أوروبا والولايات المتحدة يسهل له ذلك موارده المالية الكافية الميسرة.

وبالرغم من أنه كان بعيدا عن السلطة في إسرائيل وبالرغم من أنه لم يكن ذا تأثير على القرار الإسرائيلي بأية صورة من الصور إلا أن كثرة اتصالاته مع الشخصيات العالمية والإسرائيلية، وكثرة تنقلاته في أنحاء العالم، ولخبرته التي لا شك فيها نتيجة لتاريخه السياسي الطويل .. كل ذلك جعل الاتصال به من ناحيتنا عملا مفيدا، ولا بد أن نوضح بدقة طبيعة هذا الاتصال:

1 – فلا يمكن أن نعتبر مجرد اتصال يتم مع شخصية كشخصية "الدكتور جولدمان" عبارة عن فتح "قناة خلفية" في حدود المفهوم الذي سبق وحددناه إذ لو كانت الحاجة تدعو إلى فتح هذه القناة مع إسرائيل لكان الأجدى مباشرة على الكثيرين ممن لهم سلطة اتخاذ القرار أو التأثير في اتخاذه وهم كثيرون علاوة على توفر الرغبة الملحة في ذلك.

2 – ولا يمكن تصور أن الاتصال الذي قمنا به معه عن طريق غير مباشر أن الرجل كان يعرف ذلك أو حتى كان يرحب به، بل هو اتصال عادي مع رجل من المصلحة أن نتصل به في غير نطاق عمل رسمي أو سري.

3 – لم يكن الاتصال مع الدكتور جولدمان أيضا بقصد أهداف سياسية أو القيام باتصالات سياسية أو التمهيد لها كما ذكر في بعض الروايات إذ لم يكن الرجل في وضع يمكنه من ذلك.

كان الغرض من الاتصال بالرجل دون أن يعرف أو يحس بذلك – والذي حددناه لمن كلفناهم بهذه الاتصالات ينحصر في الآتي:

1 – الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن إسرائيل ثم إعادة تقييمها بواسطة المختصين في مرحلة ثانية.

2 – مده ببعض المعلومات والاتجاهات مع التأكد أنه سينقلها إلى الطرف الآخر خدمة لأهدافنا دون أن يقصد ذلك أو يدري به.

3 – وتطور الموقف بعد ذلك كما سنرى ليكون الغرض إحداث زعزعة أو فرقعة داخل الائتلاف الحاكم في إسرائيل بعد أن أثارت الصحافة العالمية بما عرف "بمسألة جولدمان" في ذلك الوقت.

ولم تكن المعلومات التي حصلنا عليها بطريق غير مباشر من الدكتور جولدمان بذات قيمة حقيقية إذ كانت في بعض الأحيان ناقصة وعامة وفي أحيان أخرى تنقصها الدقة سواء في مجالات المعلومات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، إلا أن القيمة الحقيقية بالنسبة لهذا الرجل كانت تتمثل في معرفته الدقيقة بالتيارات السياسية داخل إسرائيل وبالعوامل المعقدة التي تتحكم في الحياة السياسية فيها في إطار إيمانه بضرورة إيجاد مصالحة بين إسرائيل والبلاد العربية وبصفة عامة بينها وبين القاهرة على وجه الخصوص أما كنه هذه المصالحة فلم تكن واضحة إطلاقا في أحاديثه.

كان الرجل يكرر في معاملاته المتعددة التي كانت تصل إلينا بين الحين والحين أنه يريد أن تدعوه القاهرة لزيارتها، وكان يؤمل كثيرا في نتائج هذه الزيارة، كان اقتراحه هذا نابعا من رغبتين متنازعتين، رغبة حقيقية في المساهمة في حل الأزمة التي كان يعتقد بخطرها على إسرائيل أو على حد قوله أنه يريد إبعاد إسرائيل من نفسها، ورغبة شخصية بتطلعه إلى العودة إلى الأضواء مرة أخرى إن تحققت رغبته تلك إذ سيكون – لو تمت الزيارة – أول يهودي على هذا المستوى يكسر حاجز الاتصال مع مصر أكبر الدول العربية جميعا.

ولم ترد القاهرة أبدا على هذا الاقتراح بالرفض أو القبول كان الرجل يتحدث حديثا عاديا وكان المستمع له يسمع ما يقول دون أن يعلق، ولما طال الوقت بالدكتور جولدمان شد رحاله إلى إسرائيل ليجس النبض بخصوص أفكاره، وما هو رد الفعل الذي يمكن أن يحدث لو تحققت هذه الأحلام؟!!

وفعلا سافر الرجل في أوائل 1970 – ربما في أبريل أو مايو هذا العام – إلى إسرائيل حيث بدأ اتصالاته مع رجال الائتلاف الحاكم، وحصل على موافقة إبا إيبان وموشي دايان وزيرا الخارجية والدفاع على التوالي بصفة شخصية وفردية وحينما اتصل بجولدا مائير رئيسة الوزراء في ذلك الوقت وطلب رأيها في زيارته القاهرة لو دعي إليها أجلت إبداء الرأي حتى ترجع إلى الحزب للاستشارة برأيه، وقد انزعج "جولدمان" من موقف جولدا مائير هذا وحذرها من الرجوع إلى مجلس الوزراء لأخذ رأيه في هذه المرحلة لأن الخبر سيتسرب دون شك إلى الصحافة وهنا ستكون الكارثة قد حلت بكل آماله.

كنا على علم بهذه التطورات وكانت الأمور تسير حسب ما نرجو ونأمل.

وفعلا عرضت جولدا مائير موضوع زيارة جولدمان إلى مصر على مجلس الوزراء وإن لم يكن قد وافق أو اعترض عليها أحد – واتخذ المجلس قرارا بعدم الموافقة على الزيارة ولم يكن القرار بالإجماع بل وافق البعض على ذلك بينما كان عدد من الغائبين عن الإجماع أيضا لا يعترضون على إتمامها.

وتسرب الخبر إلى الصحافة وأذيع على العالم أجمع، وكانت فرقعة لها دوي.

قامت المظاهرات في بعض المدن بعضها يؤيد الزيارة والبعض الآخر يعارضها ومقالات في الصحافة مؤيدة وأخرى معارضة بل وفي أثناء اجتماع عقد في جامعة تل أبيب حضره جولدمان نفسه أخذت الأصوات على الزيارة التي لم يدع إليها بعد فكانت النتيجة : 118 مؤيدون للزيارة، 90 معارضون لها، 16 امتنعوا عن التصويت.

وهوجم جولدمان من البعض بأنه رجل لا يعرف إسرائيل فهو يعيش خارجها وبالرغم من ذلك كان جولدمان سعيدا بزيارته لإسرائيل بعد إعادته إلى الأضواء من ناحية وجعلته يلمس بنفسه أن إحساسه بأن كثيرا من الشباب الإسرائيلي قد زهد في الحرب والقتال كان على أساس وكان يردد في سعادة تامة أن نفس الشعارات التي كان الشباب يهتف بها "إلى المطبخ يا جولدمان إلى القاهرة يا جولدمان".

وحتى بعد وصول الموقف إلى ما وصل إليه كان جولدمان يأمل أن تصله يوما دعوة من القاهرة لزيارتها وإن حدث ذلك فإن إصدار بيان بعد إتمامها سوف ينتج عنه تأثير حقيقي داخل إسرائيل يؤدي إلى إحداث تمزق في الائتلاف الحكومي القائم الأمر الذي يعتبر الركيزة الأولى في تغيير الموقف المشدد للحكومة الإسرائيلية.

كان الرجل ما زال متعلقا بأمل صنعه بنفسه ولنفسه وظل مسيطرا عليه لفترة طويلة، كان يريد أن يحيط نفسه بهالة الماضي وكان يردد أمام زائريه قصصا فيها مبالغة ولا ينقصها الخيال.

كان يتحدث مثلا عن دعوة وجهت إليه من "تيتو" رئيس يوغوسلافيا لزيارة بلغراد ليمضي من زيارته المأمولة إلى القاهرة وعن موافقة عبد الناصر على إتمامها بشرط أن تكون علنية وبعد موافقة الحكومة الإسرائيلية نفسها، ولكنه لم يكن قادرا على تفسير السبب الذي توسط من أجله عبد الناصر صديقه تيتو في هذا الأمر؟ ولم لا يتم العرض مباشرة!

وكان يتحدث مثلا عن محاولات يقوم بها الاتحاد السوفيتي لدعوته إلى موسكو بعد معرفة مواعيده المتاحة، وأنه ما زال يفكر في قبول الدعوة أو الاعتذار عنها لمشغولياته المتعددة.

وكان يتحدث عن زيارته للولايات المتحدة للتأثير على الزعماء اليهود هناك لعلهم يفهمون موقفه.

حتى رسائله – والتي قدم إحداها إلى أحد الصحفيين المصريين الكبار يطلب فيها دعوته لزيارة مصر – كانت تكتب على ورق مصقول مطبوع عليه بالخط البارز "الدكتور جولدمان".

وبمناسبة الحديث عن الصحفيين لا بد أن نذكر الخدمات التي أداها أحدهم وقت أن كان يعمل في "روزاليوسف" فقد كان أحد المتصلين بالدكتور جولدمان وبغيره عن طريق المخابرات العامة.

وهناك محاولات كثيرة لفتح "القنوات الخلفية" كانت تتم بين وقت وآخر ولكنها جميعا كانت تقابل بالرفض.

فالمخابرات الإيطالية في ذلك الوقت وكانت تحت رئاسة الأدميرال "هانكي" عرضت فتح قناة كفلت لها كل عوامل السرية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض.

و"ليوهامو" مدير الاستعلامات الفرنسي والناطق الرسمي باسم الحكومة الفرنسية والمعروف بميوله لإسرائيل حاول عقد لقاء بين مسئولين في مصر وإسرائيل على أي مستوى وبصفة سرية وتحت إشراف الحكومة الفرنسية إلا أن المحاولة قوبلت بالرفض أيضا ومحاولات أخرى كثيرة تمت ولكننا لا يمكن أن نحكي تفاصيلها، السبب الذي من أجله حكينا "قصة جولدمان" أن البعض حكاها يحاول أن يخلق منها بطولة، والأمر خلاف ذلك كما رأينا/ اتصال عادي مع رجل لم يكن في الإمكان تجاهله لتحقيق أغراض واضحة تحققت كلها دون أن يكون الأمر في حاجة إلى بطولة أو أبطال.

الفصل الرابع عشر: استراتيجية عبد الناصر في البحر الأحمر

يحدد الواقع الجغرافي للبحر الأحمر أهميته القصوى المستمرة بالنسبة للسياسة المصرية منذ القدم وليس أدل على ذلك أنه سمي في الأزمنة السحيقة بالبحر الفرعوني قبل أن يسمى بعد ذلك ببحر العرب وبحر القلزم ثم البحر الأحمر، وأن بطليموس أنشأ مواني على سواحله الغربية (32)، كما أنشأ البطالمة الطرق البرية التي تربط مواني البحر الأحمر بوادي النيل، ثم قام محمد علي ومن بعده إسماعيل ببناء المواني العديدة على سواحله جنوبا والتي ما زالت قائمة حتى الآن.

وتضاعفت الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر في وقتنا الحالي لأسباب عديدة أهمها:

1 – فهو قناة وصل بين البحار المفتوحة في المحيطين الأطلنطي والهندي عبر البحر المتوسط المقفول وقناة السويس والبحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن فالمحيط الهندي وتتزايد أهميته تلك في ضوء إعادة التوزيع الاستراتيجي للقوات المتضادة عقب الحرب العالمية الثانية.

2 – وهو المتحكم في مخارج ومداخل البحر المتوسط والخليج العربي(33) فأي تحرك في البحر المتوسط لا بد وأن ينتهي إلى البحر الأحمر عبر قناة السويس، كما أن أي تحرك في الخليج العربي إلى أوروبا لا بد أن ينتهي بالضرورة إلى البحر الأحمر عن طريق مضيق هرمز – خليج عمان – المحيط الهندي – باب المندب.

3 – ويعتبر بمثابة خط أنابيب لنقل البترول الخام من مناطق إنتاجه في الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وتعتمد أوروبا الغربية على البحر الأحمر في نقل احتياجاتها من بترول الخليج بنسبة 100% كما أن إسرائيل كانت تعتمد حتى أواخر الستينات والسبعينات بنفس النسبة على نقل احتياجاتها البترولية من إيران أيام حكم الشاة محمد رضا بهلوي إلى البحر الأحمر ثم إيلات ثم إلى أسدود عبر خط أنابيب إيلات – أسدود (34)

وبذلك فإن للبحر الأحمر أهميته الكبرى بالنسبة للأمن العربي والأمن الإسرائيلي والأمن العالمي، لأنه إن كان الخليج العربي يعتبر مركز ثقل في الاستراتيجية الإقليمية والعالمية من ناحيته الاقتصادية فإن هذا الثقل يعتمد على باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس من ناحية النقل والتسويق، ولو توقفت الحركة عبر البحر الأحمر في أي جزء من أجزائه فإن نتائج خطيرة تترتب على ذلك إذ تجف معامل التكرير في ميناء روتردام ويجف تبعا لذلك خط الأنابيب روتردام – بلجيكا – فرنسا وبالتالي ينقطع مرور البترول إلى أوروبا الغربية عن طريق خط الأنابيب سوميد" الممتد من السحنة على البحر الأحمر إل شواطئ البحر المتوسط الجنوبية وهذا هو الحافز الحقيقي وراء موافقة الدول الأوربية الغربية على خط غاز سيبريا رغما عن اعتراضات الولايات المتحدة الأمريكية.

ولذلك فإنني مع الذين يعتبرون أن منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر منطقة استراتيجية واحدة لا يمكن الفصل بينهما من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية فإحداها وهي منطقة الخليج منطقة إنتاج النفط والمنطقة الأخرى هي منطقة خطوط المواصلات لنقل هذا الإنتاج، إذن فهذا الاعتماد المتبادل يخلق نظرة استراتيجية واحدة للمنطقتين.

4 – ثم بالنسبة للتحركات الاستراتيجية والاقتصادية فإن البحر الأحمر يلعب دورا خطيرا من ناحية عامل الوقت والمسافة فهو يوفر الوقت والوقود إذا قورن بالمرور عن طريق رأس الرجاء الصالح لأنه إذا كانت المسافة من ميناء "نورمانسيك" السوفيتي على بحر البلطيق إلى المحيط الهندي عن طريق رأس الرجاء الصالح 12.000 ميل فإنها من مواني البحر الأسود إلى المحيط الهندي عبر قناة السويس لا تتجاوز 3000 ميل ولذلك نجد أن الولايات المتحدة كانت راضية عن استمرار تعطيل الملاحة في قناة السويس بعد عدوان 1967 حتى ينهى تورطها في حرب فيتنام إذ أن استمرار قفل القناة جعل مساعدة الاتحاد السوفيتي لفيتنام الشمالية صعبة للغاية ولم يترك أمامها إلا الطريق البري عبر الصين الشيوعية وهو أطول ويتعرض إلى ضغوط سياسية.

وبالرغم من هذه الأهميات التي تعتبر عامة بالنسبة للسياسة العالمية والتي يجب وضعها في الحسبان عند "التخطيط الاستراتيجي المصري" إلا أن هناك اعتبارات خاصة بالنسبة لنا تضاعف من أهميته:

1 – فالبحر الأحمر متاخم لكيانات سياسية محل اهتمام مصر ولها معها علاقات: اليمن الشمالي واليمن الجنوبي والسعودية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وجيبوتي وإثيوبيا والصومال والسودان على ساحة الغربي.

2 – وهو أيضا قريب للكثير من المناطق الحساسة لمصر فهو قريب من "منابع النيل وروافده" التي تمد مصر بالمياه وينظم ذلك اتفاقيات دقيقة لدول حوض نهر النيل ثم هو يؤثر ويتحكم – كما سبق أن قلنا – في منطقة أخرى تشبه منطقة حوض النيل وهي منطقة الزيت في الخليج والسعودية والتي تعتبر بمثابة منطقة المنبع التي تنقل إنتاجها عبر منطقة خطوط مواصلات خطيرة أهمها البحر الأحمر، هذه الأهمية وهذا التحكم دعت "مانشين أوماتزيني" وزير خارجية إيطاليا في القرن 19 يقول "إن مفاتيح البحر المتوسط تقع في البحر الأحمر" وهو ما نسميه بخطة ماتزيني ذي الذراع الواحدة" إذ كان من رأيه – وهو رأي صواب – أنه يمكن لأي قوة تسيطر على سواحل البحر الأحمر الغربية أن تندفع غربا خلال كردفان ودارفور من السودان ليتصل بمناطق نفوذ لها على ساحل البحر المتوسط في حركة التفاف كبرى تهدد بها مركز ثقل المنطقة كلها وهي مصر وفي الوقت نفسه تتحكم في السواحل الجنوبية للبحر المتوسط (35) وبالمثل فإن أية قوة تتحكم في سواحله الشرقية أو جزء منها كما يحاول الاتحاد السوفيتي الآن – يمكنها أن تندفع شرقا إلى منطقة الخليج الحساسة لتتصل بمناطق نفوذ لها في الشرق في حركة التفاف واسعة إلى بحر قزوين، هذه الخطة نسميها "الخطة ذات الذراعين" ذراعها اليسرى هي "ذراع خطة ماتزين" بالارتكاز على إثيوبيا في البحر الأحمر وليبيا في المتوسط أما ذراعها اليمنى من اليمن الجنوبي مرتكزة على عدن إلى أفغانستان، أما الولايات المتحدة فتحاول كسر الذراعين وتمنعهما من إتمام حركة "الكماشة الكبيرة".

3 – ويطل البحر الأحمر على الأرض التي يوجد بها الأماكن المقدسة للمسلمين وتقوم السفن بنقل الحجاج عبر البحر الأحمر من ميناءي السويس وسفاجة إلى ميناء جدة وهي الميناء البحري لمكة مكان الكعبة التي يحج إليها المسلمون من كافة أنحاء العالم وقبل أن تصبح السعودية دولة بترولية كانت مصر ترسل "كسوة الكعبة" وتمدها بمساعدات كبيرة في مجال التعليم والطب ونشر الدين واستمر ذلك إلى وقت قريب (36)

4 – ثم العلاقات التاريخية بين العرب بوجه عام ومصر بوجه خاص بالدول الإفريقية ويمكن أن يقال إن مصر كانت قد تمكنت في منتصف القرن الماضي من تحقيق أقصى اتساع لعمقها بالامتداد إلى السودان ومنه جنوبا حتى المناطق الشمالية من بحيرة فيكتوريا وبالسيطرة على كل الساحل الغربي للبحر الأحمر والامتداد منه إلى الجانب الأفريقي مضافا إليها – ولو لفترات محدودة – السعودية واليمن في الشرق وسواحل الصومال المطلة على المحيط الهندي لدرجة أن صمويل بيكر كتب الآتي: "لا شك أن مصر وحدها هي التي تستطيع أن تدخل الحضارة إلى إفريقيا النيلية بإنشاء حكومة نظامية فيها وبذلك تضمن حماية الرحالة والسائحين في تلك الجهات وتفتح أواسط إفريقيا للحضارة والعمران ويكفي دليلا على ذلك أن السائح الأوروبي أصبح في مقدوره أن يجوب الأماكن البعيدة التي امتد إليها الحكم المصري دون أن يخشى على نفسه أكثر مما يخشاه من سيره عند غروب الشمس في حديقة هايدبارك".

5 – وإسرائيل التي فرضت نفسها في المنطقة أضافت إلى اهتمامات السياسة المصرية بالبحر الأحمر إذ أصبحت كل من القومية العربية والقومية الصهيونية وجها لوجه، وكانت إحدى صور المواجهة تتم في خليج العقبة والبحر الأحمر إذ بدأت إسرائيل في إنشاء إيلات لاتخاذها قاعدة لاختراق إفريقيا بمساعدة الدول الاستعمارية عن طريق التمثيل الدبلوماسي ثم عن طريق التبادل التجاري خاصة وأن قناة السويس كانت مقفولة أمام الملاحة الإسرائيلية فركزت إسرائيل على البحر الأحمر للوصول إلى دول شرق أفريقيا ووسطها ولحليفتها جنوب إفريقيا.

الموقف عند قيام ثورة يوليو في منطقة البحر الأحمر

كان الموقف عند قيام الثورة معقدا غاية التعقيد مليئا بالمشاكل الخطيرة والتحديات الكبرى:

1 – فعلى امتداد قناة السويس المدخل الشمالي للبحر الأحمر كانت هناك القاعدة البريطانية التي قدر عدد القوات التي كانت تتمركز فيها بما لا يقل عن 80.000 مقاتل وكانت تشمل علاوة على ذلك بعض المطارات والمخازن المليئة بالمعدات والأسلحة، وقد اكتسبت القاعدة البريطانية صفة الشرعية بعقد معاهدة 1936 والتي رضي بها أغلب الأحزاب التي كانت قائمة في ذلك الوقت ولكن في عام 1951 كانت المعاهدة قد فقدت هذه الشرعية بعد أن ألغتها حكومة الوفد، وبالرغم من هذا الإلغاء القانوني للمعاهدة وبالرغم من الصدامات الدامية التي وقعت بين المصريين والبريطانيين على المستويين الرسمي والشعبي إلا أن القوات الأجنبية تشبثت بمواقعها في القناة، وعلاوة على أن منطقة القناة كلها كانت قاعدة لقوات أمنية فإن القناة نفسها كانت تدار بواسطة الاحتكارات الأجنبية ممثلة في شركة قناة السويس التي كانت تستولي على إيراداتها فيما عدا حصة ضئيلة لا تتجاوز المليونين من الجنيهات تعطى للحكومة المصرية، وكانت هذه الشركة وبحق دولة داخل الدولة.

2 – وكانت إسرائيل قد وطدت أقدامها في فلسطين المحتلة وأخذت تعزز مواقعها في خليج العقبة لتتخذ من البحر الأحمر شريانا للاتصال بالدول الأفريقية وتعويضا لها عن قفل قناة السويس أمام ملاحتها وكان الوضع الاستراتيجي لإسرائيل خطيرا للغاية إذ قسم ولأول مرة البلاد العربية جغرافيا بعد أن كانت هذه البلاد تشكل كتلة استراتيجية واحدة وقد تم لها ذلك حينما استولت على النقب ثم على أم رشرش التي حولتها بعد ذلك إلى ميناء إيلات وبذلك فإن الثورة ورثت مشكلة فلسطين ولم تصنعها.

3 – كان السودان ما زالت تحت الحكم الثنائي المصري البريطاني من الناحية الشكلية إذ كان الحكم بريطانيا، وبالرغم من أن الملك كان قد اتخذ لنفسه لقب ملك مصر والسودان ودارفور، وبالرغم من أن الأحزاب كانت تنادي بضم السودان إلى مصر، وبالرغم من أن بعض القوات المصرية كانت موجودة في الخرطوم وجبل الأولياء وبور سودان إلا أن بريطانيا كانت هي التي تحكم وتقرر.

4 – أما الصومال الذي يعتبر همزة الوصل بين عرب إفريقيا وزنوجها في الشرق الأوسط فكان تحت وصاية الأمم المتحدة والإدارة الإيطالية وكان الأمم المتحدة قد أنشأت هيئة تابعة لها هي "المجلس الاستشاري" منذ عام 1950، مكونة من مندوبين عن مصر وكولومبيا والفلبين بقصد الإشراف على الإدارة في الصومال والتأكد من تطوير البلاد نحو الاستقلال خلال فترة تنتهي عام 1960، وكان وجود مصر في هذا المجلس شكليا قبل قيام الثورة فلم يكن لدى مصر الرغبة أو القدرة على الاصطدام بالمصالح الاستعمارية من أجل تحقيق آمال القوى الوطنية في الصومال.

5 – أما الحبشة تحت حكم الإمبراطور العجوز هيلاسلاسي فكانت تحاول توسيع أراضيها في شرق إفريقيا في ظل حكم رجعي متأخر يقع تحت وهم تمثيله للقاعدة الحبشية الوطيدة في إفريقيا يقف حارسا أمينا ضد الانتشار الإسلامي في القارة.

6 – أما على الساحل الشرقي للبحر الأحمر كانت هناك السعودية واليمن تعيشان في ظل حكم رجعي استبدادي يستند إلى طريقة حكم القرون الوسطى أما عدن فكانت قاعدة بريطانية كبرى وبذلك كانت بريطانيا تتحكم في المدخل الشمالي للبحر الأحمر عن طريق قاعدة قناة السويس وتتحكم أيضا في مدخله الجنوبي وهو باب المندب عن طريق قاعدتها في عدن ثم كانت في نفس الوقت تتحكم في منطقة الخليج بقواعد هناك.

وكانت هذه الأوضاع تتناقض مع مبادئ الثورة الوليدة وتقيد تحركاتها بعد أن وضحت سياستها في تحقيق الاستقلال، وتطهير أراضيها من القوات الأجنبية، وعدم الدخول في أحلاف تدخلها إلى مناطق النفوذ، وأن مصر لا تستطيع أن تعيش وحدها إذ تعتبر الثورة نفسها جزءا من ثورة التحرر الوطني في العالم بوجه عام والتحرر العربي بوجه خاص، وكان هذا إيذانا بالتصادم الذي استمر لسنوات قادمة.

النظرة الاستراتيجية للثورة المصرية للبحر الأحمر

كان البحر الأحمر – ومن اللحظة الأولى – له مكانته الهامة في السياسة المصرية كما يتضح من التفاصيل التالية:

منطقة قناة السويس:

إذا كان البحر الأحمر يؤثر في قناة السويس إيجابيا وسلبيا فإن قناة السويس تؤثر في البحر الأحمر تأثيرا خطيرا ومباشرا فالقناة أنبوب يصل بين بحيرتين مقفولتين تسيطر البلاد العربية على إحداهما بالكامل وهو البحر الأحمر وتسيطر على الأخرى وهي البحر المتوسط من ساحليه الجنوبي والشرقي وموضع مصر من هذا الوضع "الجيوليتيكي" يؤكد أنها هي المنطقة الحاسمة في أية مواجهة بين القومية العربية وأعدائها وهذا هو قدر مصر شاءت أم أبت، كان هذا في الماضي وسيظل أيضا في الحاضر والمستقبل، وأية محاولة للتقليل من هذا الدور أو احتوائه تهدف إلى احتواء المنطقة العربية كلها والسيطرة عليها وإذا كانت مصر هي خط الدفاع الأول عن القومية العربية فإن سيناء التي يحددها خليج العقبة شرقا وخليج السويس وقناة السويس هي الأرض الحيوية في المنطقة الدفاعية عن مصر التي تكون دائما هدفا للمعتدي وتكتمل هذه النظرة في الإطار الآتي:

  • ومن سيطر على القناة سيطر على مصر وعلى البحر الأحمر.
  • ومن سيطر على مصر سيطر على العرب.

منطقة خليج العقبة:

إذا نظرنا إلى الفاصلين المائيين اللذين يشقان الساحة العربية وهما الخليج العربي والبحر الأحمر بمنطقة خليج العقبة نجد أنهما يكملان بعضهما البعض، أحدهما منطقة إنتاج الزيت والآخر منطقة خطوط نقله، ومنطقة الخليج العربي تفصل بين قوميتين: القومية الفارسية والقومية العربية وبين طائفتين من دين الإسلام هما طائفة الشيعة وطائفة السنة، كما أن البحر الأحمر بخليجيه وقناته يفصل بين البلاد العربية الإفريقية والبلاد العربية الآسيوية خاصة بعد احتلال إسرائيل لإيلات والنقب وهما يفصلان أيضا – أقصد خليج العقبة وسيناء – بين قوميتين العربية والإسرائيلية وبين دينين هما الدين اليهودي والدين الإسلامي.

ويتحكم في منطقة خليج العقبة والذي يقع عليه ميناءى العقبة الأردني وإيلات الإسرائيلي جزيرتا "تيران" و "صنافر" السعوديتان وعن طريق هذا المضيق يمكن التحكم في أية تجارة إسرائيلية مع بلدان شرق إفريقيا وغيرها فهي تصدر الموالح والصناعات نصف المصنعة أو كاملة التصنيع إليها وتستورد منها المواد الخام علاوة على اتصالاتها بجنوب إفريقيا علاوة على نقل البترول الإيراني إلى أسدود عبر أنبوب إيلات – أسدود – الذي كان قطره 8 بوصات ثم زاد إلى 12 بوصة.

منطقة باب المندب والجزر المحيطة:

إذا كان من الممكن السيطرة على خليج العقبة بواسطة جزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن السيطرة على البحر الأحمر والخليج العربي من باب المندب "الترويكا المتحكمة" في المنطقة الاستراتيجية التي نتحدث عنها هي مضيق هرمز – باب المندب – قناة السويس، إذ أنها تتحكم في بعضها تحكما متبادلا، وعلاوة على ذلك فإن للمنطقة الجنوبية للبحر الأحمر مميزات هامة:

  • فإذا كانت السواحل الشرقية والغربية للبحر شمال هذه المنطقة عربية بالكامل فيما عدا الساحل الصغير الذي تقع عليه إيلات الإسرائيلية في خليج العقبة فإن الساحل الغربي الجنوبي تقع عليه أرتريا التي هي مطمع للإمبراطور هيلاسلاسي كما يقع عليها جيبوتي المستعمرة الفرنسية أما الساحل الشرقي في المنطقة فهو ساحل عربي.
  • يضيق البحر في هذه المنطقة تدريجيا كلما اتجه نحو الجنوب حتى يصبح في أضيق اتساع عند باب المندب تماما بين ساحلي عدن وجيبوتي وهي المنطقة التي تصل البحر الأحمر بخليج عدن الذي يطل عليه القرن الإفريقي ثم البحار المفتوحة في المحيط الهندي.
  • منطقة بهذه الأهمية لا بد وأن تكون محل صراع عالمي في المستقبل القريب خاصة إذا تمكنت مصر من إجلاء البريطانيين عن القناة.

هذه النظرة الاستراتيجية جعلت عبد الناصر يقول في فلسفة الثورة "إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء، ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم المكان، أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بتاريخها وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقة وفعلا لا مجرد كلام؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها وشاء أيضا أن يكون فيها اليوم صراع مروع حول مستقبلها وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا سواء أردنا أم لم نرد؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشاهدها حقائق التاريخ؟ وكما قلت سابقا فإن القدر لا يهزل".

التحرك المصري لتنفيذ الاستراتيجية البحر أحمرية للثورة الاستقلال الوطني وحرب التحرير

حددت الثورة هدفها منذ اليوم الأول في ضرورة انسحاب القوات البريطانية من مصر انسحابا كاملا وبذلك يتحقق للبلاد استقلالها الذي كافحت من أجله أجيال عديدة وبذلت في سبيله آلاف الضحايا.

وقد كان تقدير الموقف الاستراتيجي في منتصف عام 1952 من واقع الوثائق الرسمية يتلخص في الآتي:

  • تواجه القوات المصرية عدوين في وقت واحد: بريطانيا في القناة وإسرائيل على الحدود الشرقية.
  • لا يمكن لأية مفاوضات سياسية مقبلة مع بريطانيا للجلاء أن تنجح إلا بمساندة العمل الحربي على أن يعطى ثقل خاص للعمليات الفدائية في منطقة القناة.
  • لا يمكن لمصر خوض أية معركة عسكرية ناجحة سواء كانت دفاعية أو هجومية ضد إسرائيل طالما ظلت القوات البريطانية في منطقة القناة تهدد خطوط مواصلاتنا نحو الشرق وتتحكم فيها.
  • العدو الرئيسي في الوقت الحالي هو القوات البريطانية في القناة والعدو الفرعي هو القوات الإسرائيلية.
  • قبل تحريك العمل الفدائي ضد البريطانيين في القناة لا بد من إخلاء سيناء من قواتنا العسكرية حتى لا يكون هناك ضغط علينا، إذ يمكن للقوات البريطانية أن تمنع مرور الإمدادات والذخائر من كوبري الفردان أو من أية أماكن أخرى عبر القناة وتتخذ من ذلك ورقة ضغط في يدها في الأيام التالية.

وفعلا أخليت سيناء من القوات المسلحة المصرية فيما عدا بعض الوحدات الرمزية في المناطق الحساسة، وقبيل بدء المفاوضات عبر عبد الناصر عن استراتيجية مصر في ذلك الوقت بالآتي: "إننا سنناضل بكل ما أوتينا من قوة حتى لو اقتضى ذلك إراقة الدماء إذا ما أرغمونا على ذلك ونحن نعرف أنه ليس في استطاعتنا هزيمة القوات البريطانية ولكننا نعرف أنه في إمكاننا جعل الوجود البريطاني في القناة عديم الفائدة لها ولحلفائها على السواء".

وبدأت أعمال الفدائيين قبل بدء المفاوضات وأثناءها على أساس نظرية "كلام كلام، قتال قتال Talk Talk, Fight Fight" كما بدأت المفاوضات في 23/ 4/ 1953 وقطعت يوم 6/ 5/ 1953 إذ لم تكن الضربات العسكرية المصرية قد اقنعت البريطانيين بعد بالوصول إلى اتفاق فاشتدت الهجمات على المعسكرات البريطانية وبدأت الحرب النفسية والاقتصادية بإعلان الحصار الاقتصادي على القوات البريطانية في القناة، ونتيجة لهذه الضغوط وقعت اتفاقية الجلاء يوم 27/ 7/ 1954 وكانت تنص على تحقيق الجلاء خلال 30 شهرا مع بقاء أجزاء من القاعدة في حالة تصلح للاستخدام على أن تقدم مصر لبريطانيا التسهيلات لمواجهة أي هجوم مسلح من دولة خارج المنطقة على أي بلد يكون طرفا في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو على تركيا، وكانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ التوقيع، وهكذا تحررت القناة جزئيا وكمرحلة أولى من السياسة المصرية البحر أحمرية.

تأميم قناة السويس وحرب 1956 والاستيلاء على القاعدة البريطانية في القناة:

قبل حدوث التأميم كان عبد الناصر قد حقق عدة انتصارات كبرى: معركة رفض الدخول في مناطق النفوذ، معركة حرب التحرير والجلاء، معركة عدم الانحياز، معركة كسر احتكار السلاح، معارك القضاء على الرجعية والإقطاع، ولذلك فإن ربط العدوان الثلاثي عام 1956 بالتأميم فقط ليس ربطا دقيقا من الناحية التاريخية إذ أن التأميم كان "القشة التي قصمت ظهر البعير" بعد أن اتجهت مصر اتجاها خطيرا لم تعهده الدول الاستعمارية من قبل.

وكان من نتيجة العدوان الثلاثي والصمود الذي ووجه به تحقيق الآتي:

  • ألغيت المعاهدة وتم الاستيلاء على القاعدة البريطانية وبذلك تطهر المدخل الشمالي للبحر الأحمر.
  • أصبح الطريق مفتوحا نحو الشرق في سيناء دون تهديد أجنبي لخطوط مواصلاتنا وعادت قواتنا إلى أماكنها في سيناء تبعا للخطط الموضوعة.
  • تم تمصير الممتلكات الأجنبية.
  • ارتفع شأن مصر في المجال الدولي بصفة عامة وفي المجال العربي والأفريقي بصفة خاصة.
  • تم بناء السد العالي.

ولكن تخلف عن هذه الحرب نتيجتان هامتان كان لهما تأثيرهما الكبير في حرب 1967:

1 – المسألة الأولى وجود القوات الدولية في سيناء بوجه عام وشرم الشيخ بوجه خاص ثم حرية الملاحة في خليج العقبة بالنسبة لإسرائيل وهو وضع استغلته الأنظمة العربية عام 1967 في هجماتها الدعائية الضارية.

2 – والمسألة الثانية خاصة بتعطيل الملاحة في قناة السويس أثناء العدوان، صحيح أعيد فتح القناة للملاحة من جديد ولكن بعد أن أحست الدول العظمى بتأثير ذلك عليها وبأنه كان ورقة رابحة في يد مصر الذي جعلها تتخذ من الاحتياطات التي قللت من تأثير غلق القناة مرة أخرى أثناء عدوان 1967.

السودان:

كان الزعماء الوطنيون والحكومات السابقة في مصر قبل قيام الثورة يطالبون بسيادة مصر على السودان أو بحق ضمه إلى مصر بل أعلن الملك فاروق نفسه ملكا على مصر والسودان وكانوا يستندون في ذلك إلى الروابط المتينة التي تربط شعبي وادي النيل منذ القدم، وكثيرا ما تحطمت المفاوضات التي كانت تدور بين مصر وبريطانيا على صخرة السودان.

إلا أن السياسة المصرية في بداية الثورة فاجأت الجميع حينما أعلنت عن تصميمها على إنهاء الاحتلال الثنائي للسودان أولا والدعوة بعد ذلك إلى وحدة وادي النيل من خلال الاعتراف بحق الشعب السوداني في تقرير مصيره ووافق عبد الناصر على إجراء استفتاء عام في السودان من أجل تحقيق ذلك بعد تحقيق المناخ الحر وذلك بالاتفاق على فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات يتم فيها تصفية الإدارة الثنائية، كما تقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس ارتباطه بمصر في أية صورة من صور الارتباط أو الاستقلال التام أي الانفصال عن مصر، كما تقرر سحب القوات البريطانية والمصرية من السودان فورا عندما يعلن البرلمان السوداني عن رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير، ورغم أن مصر عملت طول فترة الانتقال على إقناع الشعب السوداني للارتباط بمصر لتحقيق وحدة وادي النيل إلا أنه حينما رأت أن الغالبية العظمى للشعب السوداني تفضل الاستقلال بادرت على الفور بتأييد هذا الاتجاه وسحبت قواتها من السودان تاركة أسلحتها الثقيلة هدية للجيش السوداني فاضطر البريطانيون إلى سحب جيشهم منهيا احتلال السودان.

وهكذا فإن كانت مصر قد فشلت في تحقيق الوحدة مع السودان إلا أنها كانت قد نجحت في طرد البريطانيين من هناك واكتساب صداقة الشعب السوداني بل فتحت مجال العمل في إفريقيا كلها وبإخلاصها والتزامها بالمبادئ الأساسية التي قامت عليها سياستها الإفريقية بعد ذلك وهي تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير (37) وحينما تحقق تصفية القاعدة البريطانية بعد ذلك في قناة السويس عام 1957 أصبح كل الساحل الغربي للبحر الأحمر حتى كسلا ونهاية الحدود السودانية خاليا من القوات الأجنبية باختلاف وسيلتين مختلفين في مجال السياسة: الدبلوماسية كما حدث في طرد البريطانيين من السودان والضغط العسكري إلى جانب التفاوض كما حدث في طرد البريطانيين من القناة.

الصومال:

في أوائل الخمسينات تلخص الموقف في الصومال ذات الموقع الاستراتيجي الهام في القرن الإفريقي في الآتي:

  • وجود صومولات خمسة هي الإيطالي والإنجليزي والفرنسي والإثيوبي والكيني.
  • وضع الإقليم تحت الوصاية للأمم المتحدة التي أنشأت "المجلس الاستشاري" منذ عام 1950 مكونا من ثلاث دول هي مصر وكولومبيا والفلبين للإشراف على البلاد لتحقيق استقلالها عام 1960.
  • كان الإيطاليون الذين يملكون السلطة الإدارية ويسيطرون على اقتصاديات البلاد ويملكون معظم الأراضي الخصبة لا يريدون تغيير الأوضاع فكانوا يعرقلون أي جهد يقوم به المجلس الاستشاري لإشراك الوطنيين في الإدارة وتدرجهم نحو الاستقلال.
  • البريطانيون لا يعارضون في استقلال "هرجيسية – الصومال الإنجليزي" على أن يتحد مع الصومال الإيطالي بع استقلاله في دولة مستقلة تدخل رابطة الكومونولث البريطاني.
  • إثيوبيا تسعى إلى ضم الإقليم الذي تديره إلى الوطن الأم كما ضمت الأوجادين من قبل تؤيدها الولايات المتحدة.

كانت كل هذه القوى المتصارعة تتفق على شيء واحد هو القضاء على الملامح العربية للصومال وإيجاد علاقة اقتصادية بينها وبين إسرائيل.

وسط هذه المؤامرات الضخمة أعلنت مصر عام 1952 عن سياستها بمساندة القوى الوطنية في الصومال من أجل الاحتفاظ بمقومات الشخصية الصومالية بجذورها العربية الإسلامية ووحدة أراضيه وقطع الطريق على إسرائيل حتى لا تدعم علاقاتها الاقتصادية مع البلاد، وقد استندت مصر في نشاطها إلى وضعها القانوني في المجلس الاستشاري الذي كان يعطيها حق محاسبة الإدارة الإيطالية عن طريق الأمم المتحدة كما أعطاها حق الوجود في مقديشيو الاتصال بكافة الهيئات والتنظيمات السياسية وتقديم المساعدة لها (38) فقدمت مصر مساعداتها الإيجابية عن طريق إمداد المدارس العربية التي تفتتحها الجمعيات والأحزاب السياسية بالمدرسين والكتب العربية وأعطت كثيرا من المنح الدراسية في المعاهد والمدارس والجامعات لأبناء الصومال كما فتح الأزهر أبوابه لأعداد هائلة من الصوماليين وقام بإرسال بعثة أزهرية إلى الصومال كان أعضاؤها يخطبون في الجوامع بجانب رسالتهم التعليمية ثم عملت مصر على استيراد جزء كبير من احتياجاتها من الماشية من الصومال الأمر الذي ربط مصالح التجار بالقاهرة وجعلهم يترددون عليها.

وقد استقل الصومال عام 1960 وأصبح عضوا في الجامعة العربية.

اليمنان – العملية 9000 والعملية صلاح الدين

توفي الإمام أحمد حميد الدين في سبتمبر 1962 وتولى ولده محمد البدر الإمامة من بعده ولم تنقض إلا أيام قليلة على توليه الحكم حتى قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 أطاحت به وبملك أسرة حميد الدين، وفر هاربا إلى الجبال ظهر مرة أخرى بعد أسابيع ليحشد قوات لمقاومة قوات الثورة في صنعاء.

وهنا حقيقتان لا بد من التركيز عليهما:

  • كان حكم أسرة حميد الدين استبداديا لا يعترف بالتعليم أو الانفتاح على العالم.
  • أن السعودية هي التي بدأت التدخل في ثورة اليمن عقب قيامها بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا وقامت بإنشاء محطة إذاعة للملكيين تندد بالنظام الجديد ودفعت الأمير الحسن عم البدر إلى الجبال للمقاومة حتى ظهر البدر من جديد من مكان اختفائه واتخذت من منطقتي جيزان ونجران قاعدة كبرى لعمليات القوات الملكية بقيادة البدر وتحت إشراف الخبراء الأجانب ثم أخذت تستأجر الجنود المرتزقة بأجور خيالية لتدفع بهم إلى داخل اليمن وأخذت الولايات المتحدة تمد السعودية بالسلاح لتغذي حرب العرب ضد العرب بينما قامت بريطانيا بمساندة عمليات شريف بيجان من الجنوب وتعمل على تفتيت اليمن الشمالي بفصل جنوبه من الشوافع عن شماله من الزيود ثم التركيز على مستعمراتها في عدن (39)

أمام هذا التدخلات قامت الجمهورية الوليدة بطلب مساعدة مصر حتى يمكنها مواجهة الضغوط الكثيفة التي تواجهها ووافقت القاهرة على مساعدة صنعاء في عملية كبرى كان اسمها الكودي العملية 9000 ولكن إلى جانب تدعيم الحكم عسكريا أخذت مصر تدخل الحضارة إلى اليمن: فأنشأت جهازا للدولة لأول مرة في تاريخ اليمن، وأسست المدارس والمستشفيات والطرق وتحسين المواني وإنشاء المطارات، وفتحت الطريق أمام المساعدات العربية لبناء اليمن، ثم قام الاتحاد السوفيتي والصين ودول المعسكر الاشتراكي بإنشاء المواني والطرق وتقديم المساعدات المختلفة.

وحدث فجأة ما كانت تخشاه القوى المضادة فاشتعلت الثورة في عدن واليمن الجنوبي وساعدتها مصر بكل قواها "العملية صلاح الدين" ففتحت بذلك جبهة جديدة أمام الاستعمار وعمت الثورة أنحاء البلاد إلى أن وقعت بريطانيا معاهدة مع اليمن الجنوبية تعترف فيها باستقلالها التام وأخذت تنسحب من قاعدتها إلى غير رجعة وفي نفس الوقت أخذ مركز الجمهورية في الشمال يقوى ويتدعم وأصبحت قوى القومية العربية تسيطر سيطرة كاملة على باب المندب.

وكانت نتائج أحداث اليمنيين خطيرة بحق:

  • فقد قامت الجمهورية اليمنية وهبت رياح التغيير لتخرج شعب اليمن من الظلمات إلى النور وانطلقت حركة التغيير والتعمير في الجزيرة العربية بما فيها السعودية نفسها خوفا من رياح الثورة العاصفة.
  • خرجت دولة اليمن الجنوبية إلى الوجود كدولة مستقلة.

السيطرة العربية على باب المندب وأصبح البحر الأحمر بحرا عربيا بحق.

وسط هذه التغييرات الخطيرة التي أحدثتها الثورة المصرية اختمرت خطة التآمر لضرب القاهرة بعد أن فشلت كل المحاولات والضغوط لإبقاء القاهرة محصورة في حدودها فكانت حرب 1967 والتي انتهت بنكسة تشابهت مع الضربة التي وجهت إلى محمد علي بعد ضرب الأسطول المصري في معركة نفارين عام 1840 بتآمر الدول الكبرى.

وقد استغلت إسرائيل نكسة 1967 لتزيد من تواجدها في البحر الأحمر، واتخذت في سبيل ذلك عدة إجراءات منها: بناء بعض المطارات في سيناء التي يمكنها عن طريقها الوصول إلى أغراض بعيدة من البحر أو حوله ضمن سياسة أمنها، نقل بعض الزوارق الحربية برا من موانيها في البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، محاولات البحث عن البترول في مياه خليج السويس، محاولة التدخل في إدارة قناة السويس عند فتحها مرة أخرى للملاحة أي المشاركة في الإدارة.

ولم تقبل القاهرة في ذلك الوقت تغيير الأوضاع في البحر الأحمر فقاومت المحاولات الإسرائيلية الاستعمارية كلها.

  • فمن ناحية زيادة النقل العسكري الإسرائيلي في البحر الأحمر قامت مصر بنشر سفنها التابعة لأسطول البحر الأحمر في بعض المواني المصرية وميناء بور سودان، كما قامت بنشر قواتها الجوية في مطارات السودان في الجنوب كذا بعض قواتها البرية في جبل الأولياء وبذلك قدمت السودان أراضيها لزيادة العمق المصري.
  • قاومت مصر أية محاولات إسرائيلية للبحث عن البترول في خليج السويس فلما أرادت إسرائيل الحفر في خليج السويس عن البترول مستخدمة "كينتج Kenting" ومر في أبيدجان عاصمة ساحل العاج بعملية إيجابية للمخابرات المصرية تعد من أعظم عمليات المخابرات في تلك الحرب، وقد قمت بنفسي بالتخطيط لهذه العملية والإشراف على تنفيذها بنجاح أيام رئاستي لجهاز المخابرات العامة ومعي جماعة من الرجال الأكفاء ذوي العزم والقدرة، كان الحفار إنجليزيا اشترته شركة أمريكية كندية سجلت نفسها في "دنفر عاصمة كولورادو" بالولايات المتحدة يجره جرار هولندي، وتمت المحاولة الأولى لضربه في "داكار" عاصمة السنغال يوم 19/ 2/ 1970 إلا أن الحفار غادر الميناء فجأة قبل تنفيذ العملية ونجحت محاولتنا الثانية في تعطيل الحفار في أبيدجان يوم 8/ 3/ 1970 (40) وقفل راجعا إلى ميناء "تيما Tima" في غانا حيث بيع بعد ذلك كخردة.
  • أما عن موضوع قناة السويس فقد رفضت مصر في عهد عبد الناصر أية مبادرات للانسحاب الجزئي على أساس إعادة فتح قناة السويس في مقابل ذلك ثم رفضت كل المحاولات التي قامت بها الدول الاستعمارية عن طريق مندوبيها لجعل منطقة القناة منطقة حرة .. من ضمن هذه المحاولات محاولة كان يقوم بها مليونير أمريكي يدعى "ديتويللر" حضر ومعه صديقته الحسناء في يد وفي اليد الأخرى حافظة أوراق بها خرائط مدروسة كاملة لجعل القناة ولمسافة عشر كيلو مترات شرقها وأخرى غربها منطقة حرة تقسم بين الدول لتمارس نشاطها فيها وتكون كمنطقة عازلة بيننا وبين إسرائيل وقد قابلت الرجل وأخذ عبد الناصر علما بقدوم الرجل واطلع على مشروعاته دون أن يقابله ولكنه رفض كل هذه المحاولات على أساس أن القناة مصرية ولا بد أن تبقى مصرية.

والشيء الغريب حقيقة أن موقف إسرائيل في ذلك الوقت كان أضعف مواقفها فقد أثمرت السياسة المصرية الإفريقية فطقعت كل الدول إفريقيا علاقتها مع إسرائيل وتوقفت حركة التجارة معها ثم توقف ضغط البترول الإيراني الذي ما كان يمكن أن يمر في السفن عبر باب المندب وثبت أنه إذا كان من الممكن حصار إيلات من مضيق العقبة بجزيرتي صنافر وتيران فإنه يمكن قفل مضيق العقبة عن طريق باب المندب.

وثبت أكثر من ذلك أن مصر – وليس غيرها – هي الدولة المتحكمة في الملاحة في البحر ففي حربين متتاليين تمكنت مصر من السيطرة على الملاحة في البحر الأحمر عن طريق قناة السويس وأنه أمكنها أن تثبت للعالم أجمع أنه يمكنها أن تكون أداة "فصل" كما يمكنها في الوقت نفسه أن تكون أداة "وصل" مهما قيل غير ذلك.

تقييم للسياسة الناصرية البحر أحمرية

لا شك أن عبد الناصر كان يتمتع بالقدرة على النظرة الشاملة للمسرح السياسي الذي تحرك عليه بمهارة ضمن ما يسمى "بالمخطط الكبير Grand Design" وهذا هو أهم أسباب صموده أمام الظروف الصعبة الضاغطة التي عمل في ظلها، كان يعلم من التاريخ أن الخطر يداهم مصر دائما من الشرق وأن قناة السويس كان موقع جذب للطامعين، ولم ينس أبدا كيف استغلها البريطانيون عام 1882 في كسر قوات عرابي إذ خاضوا معه معركة خداعية في كفر الدوار ثم نزلوا في القناة رغما عن الاتفاقيات الموجودة ليضربوه من الخلف، لم ينس عبد الناصر أبدا ذلك ولذلك فإننا نجد أن كل معاركه دارت حول قناة السويس، معركة التحرير من عام 19521954، معاهدة الجلاء، تأميم القناة، العدوان الثلاثي، حرب 1967، حرب الصمود والاستنزاف.

كان للرجل تطلعات كبيرة ضخمة ربما فاقت الإمكانيات المتاحة لدرجة أن البعض يقول إن عبد الناصر وجد في غير عصره، ولكنه كان يتغلب دائما على قلة الإمكانيات بقدرته الفائقة على السرية والمفاجأة، وسرعة توجيه الضربات في الوقت السليم، والاستخدام المتميز للرسائل العسكرية ممزوجة بالوسائل الدبلوماسية، ثم الجرأة الهائلة عند مواجهة الأحداث .. لقد أخطأ في بعض حساباته أحيانا ولكن لا يجوز القطع بذلك إلا في إطار المناخ الذي اتخذ فيه قراراته، فنزع الظروف السائدة عن نوعية القرار لا تجعل وزن الأمور يتم بطريقة سليمة أو موضوعية.

كانت الدائرة العربية هي إحدى دوائره الثلاث التي ملأت قلبه وفكره، وكانت الدائرة الأفريقية تشحذ خياله وآماله، وكانت الدائرة الإسلامية تعزز الجانب الروحي لأهدافه، كانت الدائرة العربية تختلط دائما في تحركاته بالدائرة الإفريقية ومن ينظر إلى الخريطة أداة الرجل السياسي يلاحظ بصماته عليها بوضوح.

فإذا كان "مانشين أوماتزيني" أكد في القرن 19 أن "مفتاح البحر المتوسط يقع في البحر الأحمر" فإنه فشل في تحقيق ذلك إذ لم يمكنه أن يصل بذراعه الطويلة الممتدة من مصوع إلى البحر الأحمر المتوسط، كذلك الحال مع "ببيتو موسوليني" فإن كان الرجل أنشأ قاعدته في الحبشة والصومال في الجنوب وأنشأ مستعمرته في ليبيا في الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط إلا أنه فشل في "بناء الذراع الطويلة الكاملة" إذ كان يحول بينه وبين ذلك وجود السودان، وفشل الرجلين راجع إلى اعتماد كلاهما على حق الغزو والاستعمار واستخدام الوسيلة العسكرية كعامل وحيد لتنفيذ السياسة، ولكن عبد الناصر نجح في ذلك تماما فكانت الذراع المحيطة بمصر تمر كلها في أراض صديقة نتيجة لسياسته الخلاقة .. الصومال الذي وقف إلى جانبه حتى حصل على استقلاله، الحبشة التي هادنها في أناة وصبر رغما عن استفزازات الإمبراطور العجوز، السودان الصديق شعبا وحكومة، ثم إلى ليبيا بعد قيام ثورتها عام 1969 وقضائها على القواعد الأجنبية هناك، كانت الذراع الطويلة قد تحققت وظلت كذلك حتى وإسرائيل في الضفة الشرقية للقناة، بل نجده وقد نجح في بناء "الذراع الأخرى ناحية الشرق: من اليمن الجمهوري الذي حارب معه في العملية 9000، إلى اليمن الجنوبي الذي كافح معه في العملية "صلاح الدين" إلى منطقة الخليج العربي ببغداد ثم الاتحاد السوفيتي الصديق .. فكان بذلك حتى وهو يواجه هزيمة بحرب لا تهدأ ومقاومة لا تنفذ مسيطرا على الأمور في المنطقة وعلى البحر الأحمر في شماله إلى جنوبه، وقد تم كل ذلك عن طريق خوض المعركة ممزوجة بالدبلوماسية الخلاقة.

ولكن كيف ترك عبد الناصر الموقف بعد أن رحل إلى جوار ربه في 28/ 9/ 1970؟

كان الصراع ما زال محتدما مع إسرائيل في كل المجالات رغما عن إيقاف إطلاق النيران بموجب مبادرة روجرز والذي أوشك على أن تنتهي مدته الأولى وهي ثلاثة شهور ومن المعروف أن مبادرة روجرز كانت تقضي بإعادة سيناء إلى مصر مع إجراء تعديلات طفيفة مع حدود الدول العربية الأخرى لا تحمل معنى الغزو إلا أنه رفض ذلك لأنه كان حلا فرديا.

وكانت القوات المسلحة المصرية قد استردت جزءا كبيرا من قدرتها القتالية على الضفة الغربية للقناة وتقوم بمناوراتها التدريبية على خطة العبور، وكان حائط الصواريخ المضاد للطائرات قد تحرك منذ أيام عبد الناصر إلى مسافة قريبة من غرب القناة تسمح بستر عملية العبور المنتظرة وقد تم ذلك بعد قبول مبادرة روجرز مباشرة مما أثار ما يعرف "بأزمة الصواريخ" وهذا الحائط هو الذي عبرت في حمايته قواتنا القناة في 6 أكتوبر 1973، وكانت قناة السويس ما زالت معطلة أمام الملاحة الدولية، واتسع عمق مصر غربا بعد قيام ثورة ليبيا في أول سبتمبر 1969 والتي أمدت المقاومة العربية لأول مرة بطائرات الميستير التي تصل إلى عمق إسرائيل، كما اتسع العمق جنوبا في السودان الذي جعل من أرضه تكملة لمسرح العمليات فانتشرت فيه قواتنا البرية والجوية والبحرية كما سبق القول، وكانت الدول الإفريقية قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل، ومصر ما زالت متمسكة بموقف عدم الانحياز وكل دول هذا المعسكر تقف إلى جانبها وفوق كل ذلك كان الاتحاد السوفيتي ما زال يدعم مصر في مواجهة الانحياز الكامل للولايات المتحدة وإسرائيل.

وكان العرب رغم اختلافاتهم المعتادة مجمعين على استعادة حقوقهم قائمين بالتزاماتهم تظللهم الجامعة العربية بالرغم من سلبياتها المعروفة مؤكدة أقل حد من الوفاق، وكما سبق أن قلنا كانت الدول الإفريقية – دون استثناء – تؤكد الحق العربي تظللهم منظمة الوحدة الإفريقية التي لعب عبد الناصر دورا أساسيا في تكوينها، وفوق كل ذلك كان التوازن في البحر الأحمر ما زال معقولا إذ كان تحرك إسرائيل في هذا الممر الضيق محفوفا بالمخاطر.

وفوق كل ذلك كان الشعب صامدا والجبهة الداخلية صلدة جامدة رغما عن التضحيات الكبرى التي قدمها لمدة طويلة.

كان توازن القوى من الناحية السياسية معقولا وكان توازن القوى من الناحية العسكرية يقترب من مرحلة التعادل بخطوات ثابتة وكانت العروض السياسية التي ألقيت في الساحة تتناسب إلى حد كبير مع التوازنات القائمة.

سياسة مصر البحر أحمرية بعد الفترة الناصرية

في ظل هذا التوازن المعقول ارتكبت السياسة المصرية بعد وفاة عبد الناصر خطأين استراتيجيين فادحين أخلا بالتوازن كله حتى قبل أن تبدأ المعركة إذا استبعدت ورقتا ضغط هامتين من مسرح الأحداث، كان الخطآن الكبيران هما:

1 – الخطأ الأول ضرب "الناصرية" بطريقة غامضة في أول الأمر ثم بطريقة مكشوفة مركزة بعد ذلك كوسيلة لإرضاء "جبهة الثورة الإقليمية" ولإبعاد صفة "الثورة" عن النظام المصري أي كان الهدف طمأنة "الثروة الإقليمية ومن وراءها" على حساب "الثورة الإقليمية" وقد يكون هذا جائزا في مجال السياسة والصراع ولكن ما هو المقابل لهذه الخطيئة الكبرى؟ لا شيء، بل حدث العكس إذ خضعت الإدارة المصرية بعد هذه الخطوة وبعد أن غيرت ثوبها إلى ابتزاز سياسي تم خطوة في أول الأمر ثم بعد ذلك تحول الابتزاز إلى تغيير كامل للأهداف والنوايا.

2 – والخطأ الثاني كان طرد الخبراء الروس وبعد أن تم الطرد أخذ النظام في المطاردة وإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي بعد أن كان النظام قد أعلن عن مبادرة يتم بمقتضاها الانسحاب المحدود عام 1971، ويزيد من جسامة هذا الخطأ أن الطرد تم بدون مقابل ثم تبعت عملية الطرد عملية المطاردة.

ومن المعروف أن السياسة الأمريكية تقوم على ثلاثية معروفة: المحافظة على بقاء إسرائيل كقوة إقليمية عظمى في المنطقة، ألا يتم أي حل عن طريق أي نظام ثوري، ألا يسمح بتغليب السلاح السوفيتي على السلاح الأمريكي.

وإذا كانت هذه هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية فإن التفريط في المبدأين الآخرين من الثلاثية الموضوعة فيه تعزيز للمبدأ الأول وهو زيادة قوة إسرائيل، وقد أخطأت السياسة المصرية في ذلك دون ثمن لدرجة أن هنري كيسنجر لم يصدق وكالات الأنباء حينما نقلت خبر طرد الخبراء السوفيت ولما تأكد من ذلك قال "لو أن السادات طلب مني أي شيء في مقابل هذا الإجراء ما ترددت في تلبيته".

وبذلك اختلت التوازنات كلها في الداخل، وعلى الصعيد العربي، ثم على الصعيد العالمي، ووسط ذلك قامت الحرب ولكن كيف يكون القتال في ظل عدم التوازن هذا؟ إلى أي مدى تصل قواتنا داخل سيناء؟ كيف تمزج المعركة بالدبلوماسية أي كيف يمكن مزج لهجة القتال مع لهجة الكلام؟ أسئلة لم تكن – كما ظهر بعد الحرب – قد وجدت لها جوابا في ذهن السياسة المصرية وهي تدير "الحرب المحلية المحدودة" التي بدأتها في 6 أكتوبر 1973 رغما عن خطورة هذا الغموض ونتائجه، إذ في "الصراعات الإقليمية" يمكن لأية دولة أن تبدأ الحرب في الوقت الذي تحدده، وفي المكان الذي تختاره، وبالصورة التي تحددها، ولكن بعد إطلاق الطلقة الأولى تفقد الدولة – لعوامل متعددة – قدرتها على إيقاف الحرب والقتال في الوقت المرغوب، ولا بالأوضاع التي تحددها ولا بالصورة التي تريدها، وليس في نيتنا على الإطلاق أن ندخل في تفاصيل هذه الحرب (41) فكل ما نريده هو توضيح نتائجها على السياسة المصرية البحر أحمرية.

فما هي نتيجة هذه الحرب على السياسة المصرية البحر أحمرية؟

لقد حققت هذه الحرب عملا إيجابيا هو "ترك" إسرائيل لسيناء، وهو عمل إيجابي رغما عن الإدارة المصرية المنقوصة على هذا الجزء الغالي من الوطن، ورغما عن تواجد القوات متعددة الأجناس التي تقترب بتواجدها هذا وبمحطات الإنذار القابعة في جبل أم خشيب من القاعدة الأجنبية ورغما عن القيود الموضوعة على تواجد قواتنا هناك، أقول رغما عن كل هذه القيود الثقيلة فإن مجرد ترك قوات إسرائيل لسيناء هو عمل إيجابي.

ولكن إلى جانب هذه الإيجابية اختل التوازن في السياسة المصرية كلها.

فمن ناحية السياسة العربية وجدت مصر نفسها تقف وحدها أمام إجماع عربي – عدا عمان والصومال والسودان – وسقطت زعامة مصر في العالم العربي، ونقلت الجامعة العربية إلى تونس، وقلت السفارات العربية في القاهرة وفتحت السفارة الإسرائيلية مبناها.

أما عن سياستنا البحر أحمرية فقد أصيبت بنكسة حقيقية فقد قطعت الدول البحر أحمرية عموما علاقاتها مع القاهرة فيما عدا الصومال والسودان، ومن ناحية الذراع اليسرى لخطة عبد الناصر أو ذراع ماتزيني الطويلة نجد أنها قطعت وبترت إذ أنها أصبحت لا تمر بالحبشة التي أثارها وعود السادات لإسرائيل بمدها بمياه النيل رغما عن مخالفة ذلك لاتفاقية مياه النيل الموقعة من الدول المعنية، ولم تعد تصل هذه الذراع إلى ليبيا الصديقة والشقيقة في الساحل الشمالي لإفريقيا أو الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، أما عن الذراع اليمنى لخطة ناصر فقد بترت نهائيا، فبالرغم من أن اليمن الجنوبي شاركت معنا في قفل باب المندب في أثناء حرب أكتوبر 1973 وبالرغم من وقوف دول الخليج إلى جوارنا في الحرب وكذلك العراق إلا أنها قطعت علاقاتها معنا أما عن نهاية هذه الذراع فإنها أصبحت عاجزة عن الوصول إلى الاتحاد السوفيتي الذي عادته السياسة المصرية دون سبب.

وبعد أن وجدت مصر نفسها مجمدة في الجامعة العربية وفي مؤتمرات دول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي وفي منظمة الوحدة الإفريقية تباعدت عن سياسة عدم الانحياز كطريق يمكن أن يخفف من عزلتها.

فنجدها وقد رحبت وبحماس أن تكون شريكا في توافق الاستراتيجيات مع الولايات المتحدة الأمريكية وبذلك أصبحت من الناحية الاستراتيجية في حلف واحد مع إسرائيل ثم اتبعت ذلك بوضع قواعدها الجوية في خدمة القوات الأمريكية وهي تقوم بعمليتها الفاشلة لفك الأسرى الأمريكان في طهران ثم وجدت القوات المسلحة المصرية نفسها وهي تقوم بتدريبات مشتركة مع القوات الأمريكية الأمر الذي لم يحدث من قبل حتى مع إحدى القوات العربية.

ولكن الخطر الحقيقي على حياد البحر الأحمر وقع حينما وافقت مصر على إعطاء الولايات المتحدة تسهيلات في ميناء رأس بناس في البحر الأحمر وأخذت القوات الأمريكية تقيم المنشآت والمباني لعمل قاعدة حقيقية خصص لها الكونجرس الأمريكي الاعتمادات اللازمة (42)

وأصبح البحر الأحمر بعد ذلك مفتوحا للصراعات الدولية، فاتخذت الولايات المتحدة قواعد لها في جزيرتي "سنتيان" و "دهلك" اللتين تقعان على بعد 6 أميال بحرية من باب المندب بعد أن استأجرها من إثيوبيا لمدة 25 عاما تعزيزا لقواعدها في "ديجوجارسيا" و "مالاديف" و"موريشيوس" وفي نفس الوقت يقف الاتحاد السوفيتي في عدن بناء على "التسهيلات" التي أعطيت له هناك ليعزز من تسهيلات أعطيت له في "الأوجادين" الذي يتنازعه كل من الصومال والحبشة علاوة على تواجده في مواني أنجولا وموزمبيق، كما يتردد أن إسرائيل موجودة هي الأخرى في جزيرتي "حنش الكبرى" و "حنش الصغرى".

هذه النتائج المقلقة تشير إلى أن مصر في تلك الحقبة – وحتى تولي الرئيس حسني مبارك الحكم – كان ينقصها "المخطط الكبير Grand Design" فكانت تقرر فجأة أن تصل إلى "القمر" ولكنها لا تفكر أبدا كيف تعود مرة أخرى إلى الأرض، فحينما اتخذ قرار الذهاب إلى القدس كان ذلك صعودا إلى القمر، ولكن أن يظل الإنسان في القمر أمرا مستحيلا ولا بد من عودته مرة ثانية إلى الأرض وإلا تعرض للفناء، فكيف العودة إلى الواقع؟ إلى الأرض؟ هذا هو السؤال الذي لم تعرف السياسة المصرية له جوابا وهي تتحرك على مسرح الأحداث.

فنجد أنه بعد أن قام الرئيس السادات بإلقاء خطابه في الكنيست ظن أن إسرائيل ستلبي له كل طلباته إلا أن بيجن قال له "سيادة الرئيس، نحن الآن وصلنا إلى القمر وعلينا أن نهبط إلى الأرض حيث نعيش". وكان مناحم فولفو فتتش بيجن يقصد "دعنا من الحركات المسرحية وعد بنا إلى الواقع الذي لا نتعامل مع سواه".

ثم كانت السياسة المصرية حريصة على استبدال مكاسب ضخمة يحصل عليها الطرف الآخر في مقابل مكاسب أمنية محدودة لدرجة أن جيمي كارتر قال في مذكراته بعد الوصول إلى اتفاقية كامب دافيد "أمضيت طول الليل قلقا وأنا أتساءل: هل ذبحت السادات؟" وكان الرجل وكأنه يقرأ المستقبل قبل حدوث عملية المنصة بعد ذلك بسنوات محدودة، كانت الاستراتيجية المصرية في ذلك الوقت أميل للعطاء أكثر من ميلها للأخذ، ثم الأخطر من ذلك أن السياسة المصرية في ذلك الوقت عجزت عن فهم "سياسة الترابط – Linkage" فبينما هي تتحدث عن الحلول الشاملة Solutions Comprehensive" نجدها تقبل حلولا جزئية لا تعالج القضية الشاملة من كل جوانبها وتقبل سياسة كيسنجر اللئيمة "خطوة خطوة – Step By Step" والتي كانت تعني قطعة كبيرة من السلام في مقابل قطعة صغيرة من الأرض.

وباختصار فبينما كانت القيادة السياسية تتحدث كثيرا عن "قدرتها الاستراتيجية" إلا أنها في واقع الحال كانت تتحرك في إطار تكتيكي وحتى ضمن هذا الإطار كان التحرك متعثرا يخضع للابتزاز، وقد وصل الحد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تهزأ من قدرة تحركنا الاستراتيجي أن وصل الأمر بكيسنجر حينما كان يجلس مع السيد أنور السادات أن يقول له في جدية "سيادة الرئيس، إنني أريد أن أتعلم منك كيفية التعامل مع الاتحاد السوفيتي" بل وصل الأمر بألكسندر هيج وزير الخارجية في بداية عهد رونالد ريجان – وهو تلميذ هنري كيسنجر ومساعده في إدارة الأمن القومي – أنه حينما وصل إلى القاهرة في أول زيارة له أن ذكر في تصريحه الصحفي في المطار وأمام عدسات السينما والتليفزيون وميكروفونات الإذاعة "أهم ما جئت من أجله هو تلقي بعض الدروس الاستراتيجية من السيد أنور السادات" !!

ولم يكن غريبا بعد كل هذا التخبط وغياب الرؤية السليمة أن البحر الأحمر أصبح مجالا للصراعات الدولية، ولم يكن غريبا بعد ذلك اختلال التوازن بالنسبة للسياسة المصرية من هذه البقعة من العالم والتي تؤثر على الأمن القومي المصري والعربي تأثيرا مباشرا.

  وأخيرا

لا شك أن الظروف قد تغيرت في السنوات التي تلت انتقال عبد الناصر إلى جوار ربه والتي تلت مقتل السادات في حادثة المنصة، أهم هذه المتغيرات يمكن حصرها في الآتي:

1 – فقد تركت إسرائيل سيناء ولكن يوجد هناك حاليا القوات متعددة الأجناس، وهناك القيود الكثيرة على تواجد الإدارة المصرية بكاملها، سيناء منطقة مفرغة ليست مصر حرة في ملئها في الوقت الذي تريده وبالطريقة التي تختارها.

2 – وفتحت قناة السويس للملاحة العالمية وكذلك خليج العقبة وأصبحت إسرائيل حرة في استخدام هذه القنوات المائية بموجب المعاهدات والاتفاقيات الموجودة، ثم عاد السكان المهجرون إلى منطقة القناة وعاد الاتصال بين سكان الوادي وسكان سيناء.

3 – واختلفت العداوة والصداقة اختلافا جذريا مما يؤثر على الاتجاه الاستراتيجي فلا يمكن أن يقال أن إسرائيل ما زالت عدوة للقاهرة الرسمية، كما أن الاتحاد السوفيتي الذي أمدنا بالسلاح – ما زال يساعد القضية العربية ويقف في موقف العداوة الكاملة مع إسرائيل والولايات المتحدة فيما يخص قضيتنا انتقل من "خانة" الصداقة إلى "خانة" العداوة، أما الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في "خانة" العداوة لمساعدتها لإسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية، فقد انتقلت إلى خانة "الصداقة" رغما عن استمرارها في مساعدة إسرائيل وتحيزها لها تحيزا كاملا ضد المصالح العربية واضطربت العلاقات المصرية العربية اضطرابا خطيرا خاصة بالنسبة للبلاد العربية البحر أحمرية كما سبق القول.

4 – وأصبح للولايات المتحدة قاعدة أو تسهيلات في رأس بناس وجزر أخرى في البحر الأحمر وكذلك للاتحاد السوفيتي وربما لإسرائيل.

5 – وزادت أهمية البحر الأحمر نتيجة للخطط الطموحة للاستغناء عن مضيق هرمز كبوابة لخروج النفط إلى البحار الواسعة بعد أن مدت السعودية خط أنابيب سعة مليون وربع المليون برميل في اليوم من منابع البترول في الظهران إلى ميناء ينبع وبعد أن صممت بغداد على توصيل خط أنابيب من حقولها إلى الخط السعودي لينقل ولأول مرة عبر الأنابيب بترول الخليج إلى البحر الأحمر مباشرة ومما يثير التساؤل أن ينبع مام رأس بناس بالضبط وأن وصول خط الأنابيب السعودي إلى ينبع لم يتم إلا بعد أن أرست الولايات المتحدة أقدامها في رأس بناس، فهل ترى الأيام القادمة توصل خط مباشر من ينبع إلى رأس بناس؟ وهل ترى الأيام القادمة توصل الخط السعودي بالخط المصري الذي يبدأ في عين السخنة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر وينتهي عند سيدي كرير على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط؟ نعني بذلك أن البحر الأحمر زادت قيمته استراتيجيا واقتصاديا وإذا كان الخليج العربي قد جذب الاهتمام بعد رحيل القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس فإن الأيام القادمة سوف ترى التركيز على البحر الأحمر كأنبوب رئيسي لنقل البترول من منابعه على الخليج متفاديا "ترويكا المضايق" في هرمز وباب المندب وقناة السويس.

ونحن نوافق على تصريح وزير الدفاع المصري في أخبار اليوم بتاريخ 13/ 2/ 1982 حينما قال "نحن ننظر إلى البحر الأحمر بصفته إحدى المناطق الاستراتيجية الهامة المؤثرة على أمن مصر ولذلك فإننا نرى أن يكون البحر الأحمر آمنا ولا نفوذ أو سيطرة فيه لأية قوة خارجية وإنما للدول التي لها شواطئ عليه والتي لها مصالح استراتيجية مرتبطة بخطوط الملاحة التي تمر فيه خاصة وأن البحر الأحمر يؤثر على قناة السويس التي نعتبرها أحد المصادر الرئيسية القومية لاقتصادينا المصري، ولذا فمن المهم جدا أن يظل البحر الأحمر نظيفا، معظم سواحله عربية وبناء عليه فيجب أن تكون هناك استراتيجية عربية متكاملة لتأمين البحر الأحمر تماما، ولا نقصد بعروبة البحر الأحمر منع ملاحة الدول الأخرى وإنما المحافظة على سلامة المرور البري والحر لجميع خطوط المواصلات البحرية بمعنى أن التجارة الدولية التي تمر بالبحر الأحمر نريدها دائما حرة ولا يتحكم فيها أحد، فحوالي 50% من تجارة البترول تمر في البحر الأحمر ونحن نؤمن بألا يكون هناك أية إعاقة للملاحة ولا خطورة على مرورها وهذا هو الغرض الرئيسي من الأمن الاستراتيجي للبحر الأحمر".

والسياسة معقولة لا غبار عليها .. بقي الإجابة على السؤال الآتي: وكيف يتم هذا؟ ثم أليس من الأفضل لمن يريد أن ينفذ سياسة ما أن يبدأ بنفسه؟

الهوامش

  • (1) أمين هويدي – أضواء على أسباب نكسة 1967 وعلى حرب الاستنزاف – دار الطليعة – بيروت – 1957 – ص 24.
  • (2) أحمد حمروش، قصة ثورة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – مارس 1957.
  • (3) كان كمال الدين حسين يقترب من دائرة الظل ويبتعد عن مناصبه التي شملت في وقت واحد (رئيس المجلس التنفيذي، المشرف العام على الاتحاد القومي، وزير الإدارة المحلية، رئيس المجلس الأعلى للعلوم، رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، رئيس المجلس القومي للبحوث، نقيب المعلمين، رئيس المجلس الأعلى للجامعات، رئس المعاهد القومية.
  • (4) أمين هويدي – أضواء على أسباب نكسة 1967 – مرجع سابق.
  • (5) تولى رئاسة الوزارة أيام الرئيس عبد السلام عارف وقام بحركة انقلاب فاشلة غادر على أثرها بغداد ليقيم في القاهرة هو وأسرته، وقام بعد ذلك بحركة انقلاب أخرى فاشلة ضد عبد الرحمن عارف.
  • (6) أمين هويدي – في السياسة والأمن – معهد الاتحاد العربي – بيروت – 1982 – ص 262.
  • (7) الفريق صلاح الحديدي – شاهد على حرب 1967 ومن بعض الأحاديث التي نشرت للقادة العسكريين.
  • (8) هناك من يحاول "زحلقة" المسئولية على القيادة السياسية بخصوص مقابلات شمس بدران وزير الحربية في ذلك الوقت في موسكو – لقد قيل إن التقرير رفع عن طريق وزارة الخارجية إلى الرئيس مباشرة في مظروف مغلق عليه إشارة "شخصي وعاجل جدا" وأن الرئيس لم يطلع عليه إلا يوم 13/ 6/ 1967، الحقيقة خلاف ذلك، فوزير الحربية لا بد وأنه قام بإخطار نتيجة هذه المباحثات إلى القيادة العسكرية أو إلى القائد العسكري على أقل تقدير، وأن المباحثات كانت من الخطورة بحيث كان من الواجب أن تكون بوضع التقدير، وهناك حقيقة أخرى هي أن شمس بدران قام بتوزيع هذا التقرير – أقصد تقرير بنص المحادثات – على بعض الجهات التي يهمها الأمر وذلك عقب عودته مباشرة من موسكو بل وبالذات في 29/ 5/ 1967، ولا يعقل أن يقوم شمس بدران بتوزيع هذه المحاضر على جهات خارج القوات المسلحة ولا يبلغ القوات المسلحة بها، ثم حتى لو أن شمس بدران لم يوزع نتيجة مقابلاته هل سأل رؤساء الأفرع المعنية عن نتيجة هذه المباحثات لوضعها في الاعتبار عند التخطيط؟!.
  • (9) الفريق أول محمد فوزي – حرب الثلاث سنوات – دار الوحدة – بيروت – 1983 – ص 160، ص 161.
  • (10) يحتمل أن يكون اللواء علي عبد الخبير هو الذي كان برفقة عماد ثابت وليس أحمد سيد أحمد نصر.
  • (11) أحيل هذان الضابطان بعد أسابيع من هذا الموقف إلى المعاش ضمن آخرين ومهما كانت الأسباب التي دعت إلى ذلك فما كان يجب أن ينسى لهما موقفهما هذا بأي حال من الأحوال في وقت ندرت فيه الكلمة الصادقة أو الموقف الشجاع

.

  • (12) حدثت هذه الحادثة يوم 5/ 8/ 1967 وتبلغت لي من الشرطة العسكرية وكنت قد توليت منصبي كوزير للحربية منذ 21/ 7/ 1967، وكان المتسبب في الحادث المقدم متقاعد جلال هريدي قائد قوات الصاعقة السابق.
  • (13) تم ضبطها بواسطة الشرطة العسكرية بناء على ما هو مدون في مذكراتي الخاصة.
  • (14) لا بد أن هذا تم بعد اتصال الرئيس به في المحادثة التليفونية الأولى والتي تمت من غرفة المكتب.
  • (15) في هذه الفترة كان الرئيس قد اتصل بعباس في منزل المشير في محادثة التليفونية الثانية التي تمت أمامي والتي كان فيها الرئيس محتدا.
  • (16) الأخبار المصرية – 1/ 9/ 1975.
  • (17) المستشار محمد عبد السلام – سنوات عصيبة – ذكريات نائب عام – دار الشروق – القاهرة – 1975 – ص 106 وما يليها.
  • (18) استمر سيادته يتولى المنصب حتى آخر أغسطس 1969 يعني ست سنوات كاملة.
  • (19) أمين هويدي.
  • (20) يقصد المخابرات العامة إذ أن ضابط قسم السموم اعترف لي أن السيد صلاح نصر أخذ منه كمية من المادة السامة منذ مدة طويلة وبعد اتصالي بوزير العدل الأخ عصام حسونة وزير العدل أشار بتحويل الموضوع إلى القائد العام وقد كان.
  • (21) كان السادات يطلق دائما هذا اللفظ على "الرئيس".
  • (22) أمين هويدي – العدد 38 بتاريخ 30/ 6/ 1982.
  • (23) عبد المجيد فريد – كتاب محاضر وأسرار ووقائع – محادثات الحسية مع عبد الناصر – جريدة الرأي الأردنية – عمان – السبت الموافق 9 إبريل 1963.
  • (24) بعد عام 1956 حاول عبد الناصر تغيير قائد القوات الجوية ثم تغيير قائد القوات البحرية إلا أن المشير تمسك بها في رجال – في تلك الفترة – وقبل عبد الناصر الرجاء، لم ينس هؤلاء الجميل وردوه للمشير بالوقوف معه في أزمة مجلس الرئاسة وتعيين الضباط عام 1962.
  • (25) أمين هويدي – الأمن العربي في مواجهة إسرائيل – 1975 – دار الطليعة – بيروت ص 42.
  • (26) رئيس وزراء الكويت حاليا.
  • (27) وزير الشئون الاجتماعية في الكويت.
  • (28) أمين هويدي – كيسنجر وإدارة الصراع الدولي – مرجع سابق.
  • (29) الأهالي المصرية في 18/ 5/ 1983.
  • (30) Henry Kissinger – Years of uphearal p. 432..

(31*) أمين هويدي – كيف يفكر زعماء الصهيونية – طبعة أولى – دار المعارف بالقاهرة عام 1974 ص 83 طبعة ثانية – دار الموقف العربي بالقاهرة عام 1983 ص 75.

  • (32) منها ميناء أوسينوي (السويس حاليا) على خليج هيروبوليس (خليج السويس حاليا)، وميناء فينولير (سفاجة حاليا)، وهيوس هورموس وبرنمي في مقابل أسوان.
  • (33) نحن نسميه الخليج العربي وتسميه إيران الخليج الفارسي وإن ورد اسم الخليج الإسلامي على لسان بعض قادة الثورة الإيرانية، والصينيون يسمونه الخليج الغربي الفارسي، وآخرون بما فيهم دول الخليج يسمونه بالخليج فقط.
  • (34) بعد ثورة الخميني توقف ضخ البترول من الحقول الإيرانية واستعاضت إسرائيل عن جزء كبير من احتياجاتها بعد ذلك ببترول سيناء بناء على اتفاقية كامب دافيد والاتفاقية الثانية لفك الاشتباك وبناء على ضمانات أمريكية مكتوبة في اتفاقيات مرفقة تضمن إمداد إسرائيل باحتياجاتها البترولية تحت أي ظرف من الظروف مع توفير وسائل النقل اللازمة.
  • (35) أثناء التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في القرن 19 تصدت فرنسا لأطماع إيطاليا في تونس وهنا تمكن "مانسشين أو ماتزين" بمساعدة بريطانا من احتلال "مصوع" على الساحل الشرقي للقارة ليتخذها لنشر النفوذ الإيطالي على سواحل البحر الأحمر ثم التوغل في السودان المصري – في ذلك الوقت – غربا إلى دارفور حتى يصل إلى نفوذ الإيطالي تدريجيا من اتجاهه شمالا إلى إقليم طرابلس وبذلك تستطيع إيطاليا أن تبسط نفوذها على سواحل البحر المتوسط الجنوبية وهذا ما كان يحاوله موسوليني بالاتكاز على منطقة نفوذه في الصومال على سواحل أفريقيا الشرقية وليبيا على شواطئ البحر المتوسط وباستيلائه على الحبشة بعد ذلك.
  • (36) حينما احتل العثمانيون مصر والحجاز واليمن في القرن 16 أعلنوا أن "البحر الأحمر يطل عليه الأمن الذي تتشرف بوجود الأماكن المقدسة فيها فيحرم على السفن المسيحية المرور في هذا البحر". وكان هذا الحرمان مقصودا به السفن البرتغالية لأن البرتغال في ذلك الوقت كانت من أشد أعداء الشعوب الإسلامية ودفعها حقدها على الثروات التي كانت تتكدس في أيدي التجار العرب لاحتكارهم تجارة الشرق عن طريق المحيط الهندي والبحر الأحمر وكرهها لانتشار الإسلام أن ترسل بعثاتها للدوران حول أفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح للقضاء على الطريق التجاري من ناحية وللاتصال بملك الحبشة المسيحي من ناحية أخرى للتعاون معه في تطويق الانتشار الإسلامي إلى الجنوب.
  • (37) محمد فائق – عبد الناصر والثورة الإفريقية – دار الوحدة - بيروت.
  • (38) في مارس 1957 اغتيل المندوب المصري كمال الدين صلاح الذي كان شوكة حقيقية في حلق المحاولات الاستعمارية لتعطيل حصول الصومال على استقلاله، وبالرغم من أن التحقيق لم يصل إلى نتيجة حاسمة إلا أن أصابع الاتهام كلها تشير إلى قيام الإدارة الإيطالية بتنفيذ الجريمة لتصفية الوجود المصري وللقضاء على نشاط الفقيد الذي يقدره الشعب الصومالي حق تقدير.
  • (39) أمين هويدي – حروب عبد الناصر – 3 طبعات – آخرها عام 1982 – دار الموقف العربي – القاهرة.
  • (40) تم شرح تفاصيل هذه العملية في كتابي أضواء على نكسة 1967 وأضواء على حرب الاستنزاف.
  • (41) كيسنجر وإدارة الصراع الدولي – فيتنام، الوفاق الدولي، أيلول الأسود، حرب أكتوبر 1973 – دار الطليعة بيروت – 1979 – ص 250.
  • (42) الجهات الرسمية الأمريكية نسميها قاعدة رأس نباس – بالرغم من أننا نطلق عليها "تسهيلات".