مفكرون وقضبان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مفكرون وقضبان
حكايتي مع السجن

بقلم : حنفي المحلاوي

الدار المصرية اللبنانية

تمهيد

الحكاية الأولى : مصطفى أمين

الحكاية الثانية : محمود السعدني

الحكاية الثالثة: د. عبد الصبور شاهين

الحكاية الرابعة: ميلاد حنا

الحكاية الخامسة: لطفي الخولي

الحكاية السادسة: جمال الغيطاني

الحكاية السابعة: صلاح عيسى

الحكاية الثامنة: جمال بدوي

الحكاية التاسعة: مختار السويفي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه

صدق الله العظيم

( سورة يوسف ) جزء من الآية (33)

مفكرون وقضبان :

حكايتي مع السجن

كم مرة ....

دخلت فيها السجن ؟؛

رأيت من حقي وقبل بداية رحلتنا داخل عقول المفكرين الذين هم ضيوف هذه الصفحات .. أن أتساءل .. ( كم مرة ....؟) ولكنني سرعان ما أدركت خطأ السؤال.. الذي ربما ستكون الإجابة عليه خطأ أيضا لأنني أعرف طبقا للقواعد العامة من أن ما بني على خطأ فهو خطأ .. ومع ذلك وجدت بداخلي إصرارا غريبا لتوجيه هذا السؤال.. رغم اقتناعي الكامل أنه سوف يثير في النفس الشجون، ويسترجع من اللاوعي الألم والفزع..

- كم مرة دخل هذا المفكر أو ذاك السجن؟ وعاش خلف القضبان؟

والعبرة من الحصول على الإجابة لم يكن معرفة الزمن، أو لمدة التي قضاها هناك أو هنا، بقدر ما كانت الرغبة في معرفة الكثير عن الماضي القريب، فكنت على يقين من أنني حين أوجه هذا السؤال على الرغم من ألفاظه التي لا يتعرف بها المفكر .. فسوف أحصل على القدر الكافي من خلاصة التجارب التي عاشها أو سجلها المفكر سجين القضبان.. الذي وجد نفسه بين لحظة وأخرى وسط عالم غريب.. ربما لم يتصوره مرة واحدة في كتاباته وأفكاره..

ولا شك أن الآلاف غيري .. بل إن شئت قل الملايين الذين هم في شوق الآن .. يريدون أن يعرفوا الإجابة على السؤال.. والظروف التي واجهتني نفسيا حين كنت ألقي به على ضيوفي عير هذه الصفحات.

بداية .. وللأمانة وللتاريخ.. أسجل هنا.. وبقلمي.. أنني عبر رحلتي الطويلة التي استغرقت كل هذه الأوراق.. بعدما نقلت فوقها أحاسيس هؤلاء المفكرين، وسجلتها في جلسات طويلة.. قد شعرت أنهم أي المفكرون في حاجة مثلي إلى توصيل انطباعاتهم عما لاقوه في داخل السجون.. بالرغم من أن كل واحد منهم قد عبر عن فترة وجوده خلف القضبان بطرق شتى، وبآلاف الصفحات.. وبألوان متعددة من أدوات الاتصال ما بين رواية أو قصة أو مسرحية وسيناريو فيلم وما بين كتاب مطبوع.

وكانت البداية دائما- عبر أسلاك التليفون- ومن قبلها كنت أعيش لحظات تعيسة.. أبحث خلالها عن أرق الكلمات التي سوف تكون سبيلي لإقناع محدثي على الخط الآخر بالموضوع وجديته.. ومن ثم الفوز بقاء نتحاور فيه وندخل خلاله سويا ولو للحظات إلى زنزانة .. وكثيرا ما أنجح.. وقليلا ما أفشل.. وأنا كلي تقدير لهؤلاء الأعلام المفكرين الذين قبلوا أن يفتحوا إلى قلوبهم وصدورهم.. ولم يصبني اليأس ن فتكرار المحاولة يعني المزيد من الجدية.. والحمد لله.. اقتربت كثيرا من عالم هؤلاء العظماء الذين في غفلة من الزمان وضعوهم وراء القضبان مع نخبة من المجرمين والقتلة.. وتحدثنا كثيرا.. وعدت إلى نفسي مرارا أسال عن المدخل والمخرج.. وأجرى وراء كل حرف أعيد سماعه من الشرائط العديدة التي سجلت عليها هذه الحوارات... والتي هي خلاصة ما كتبته فوق هذه الأوراق.. مستعينا بتلك الكتابات التي سطروها آنذاك على هذا المفكر أو ذاك.. لأنني أجلس الآن أمامهم بعد مرور عشرات السنين على هذه التجربة.. ومطلوب أن أسجل ما بداخلهم بأمانة وما أشعر به أنا أيضا بأمانة.. وما سوف تشعرون أنتم به أبضا.. وكان شاغلي الشاغل أن أحصل ولو حتى على عناوين هذه المؤلفات أو السطور التي كتبوها ولو فوق جدران الزنزانة..

ومن أجل تأكيد منهجي في التكفير والتعريف بضرورة أن يعيش المؤلف لحظات الآخرين حين يكتب عنهم.. ما سمعته من أحدهم وهو يروي عن واقعة لمفكر مصري دخل السجن.. وأبعدوه في الواحات حيث الصحراء.. وجردوه من كل شيء حتى اسمه.. وحولوه إلى شيء يتحرك ويحمل رقما.. هذا الفنان المفكر طبقا لرواية الراوي.. رغم أنه عاش حياة صعبة كلها تعذيب وتغريب فقد كان في أوقات فراغه يحن إلى ما يفكر فيه ويسعى جاهدا إلى أن يخرج فكره فنا مكتوبا أو مرسوما.. ورغم عدم وجود الأدوات التي تعينه على ذلك فقد استمر يحفر بأظافره فوق باب خشبي مهمل ألقوه في فناء السجن.. ولما اكتشفوا حيلته.. بعد أن أكمل حفر اللوحة.. قذفوا بالباب في النار.. واعتبروا أن ذلك هو آخر مطاف تقييد المفكر الفنان وحرمانه من أدوات التوصيل التي اكتشفها هو رغما عنهم.. ولم يصبه اليأس فقد لجأ غلى باب الزنزانة نفسها.. ومع ليالي القمر وآهات التعذيب ودموع الفرح والضيق.. أخذ يحفر ويحفر.. بأسنانه وأظافره وأخيرا.. وبعد سنوات تحول الباب إلى لوحة .. وتحولت جدران السجن إلى متحف..

وبعد سماع هذه القصة .. سعيت للقاء هذا المفكر الفنان.. لكني عرفت أنه رحل عن عالمنا.. وعلى أية حال لقد تعلمت منها الكثير وسعدت حين علمت أن باب الزنزانة معروض الآن في أحد المعارض الفنية.

وكانت تلك هي المرحلة الأولى.. لقاء وأكثر من اتصال..إقناع.. ثم حوار وتسجيل كل لقاء مع مفكر عملاق.. كنت أشعر بأن واقعة السجن أو الحبس أو الاعتقال.. بالنسبة له كانت واقعا بدا مؤلما ثم تحول غلى حلم جميل كانت تتخلله لحظات رعب بين الحين والحين.. عندما تتدخل أدوات التعذيب ولكمات الزبانية.. فقد اعتبرها معظمهم فترة لإعادة الحسابات واختبار النفس.. وبداية الانطلاقة نحو التمسك بالفكرة والموت من أجلها، بل وكانت بالنسبة لبعض هؤلاء فرصة اللقاء والمحاورة والتأمل.. مع أنه كان ينقصها أدوات التعبير من أوراق وأقلام.. تلك المشكلة التي نجح في التغلب عليها المفكرون والفنانون الذين كانوا يعبرون عن واقعهم حتى بدمائهم ويستخدمون القش في رسم هذا الواقع.. كما كانوا يحفرون بأصابعهم وأسنانهم.. وأظافرهم على الجدران.

والسؤال الثاني الذي رايت أن أعرف الإجابة عليه مثلكم.. هو ( لماذا .. هؤلاء.. ؟ ) لأن المعرفة وكما يقول أصحاب الفكر هي بداية الطريق نحو الفكر، فما دمنا نريد أن نعرف فسوف نبحث.. ما دمنا نبحث سوف نعثر على الحقيقة أو لا نعثر عليها.. عندئذ تبدأ مرحلة التفكير حتى نستطيع أن نميز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي.. والمعرفة التي اقصدها محددة بكلمات السؤال.. وهي تختلف عن المعرفة المطلقة.. أو المعرفة التي ليس لها حدود.. والتي لها أسماء متعددة في عالم الفلسفة والاقتصاد.. والتخصصات العلمية والأدبية الأخرى.

لكنني سرعان ما عدت مستدركا كلمات السؤال.. قبل الوقوع في الخطأ فكيف أسأل عن لماذا هؤلاء..؟ .. وأنا لم أبين من هم ..؟ إذن علينا منذ هذه اللحظة.. أن نعرف ضيوف هذا الكتاب.. عددهم.. اتجاهاتهم.. أفكارهم.. الدور الذي لعبوه.. ميولهم السياسية والاجتماعية.. وليس المقصد أن نصنفهم.. فالفكر يرفض التصنيف.. بل علينا أن نتعقب خطواتهم وكلماتهم ولا نبغي من وراء ذلك سوى أن نعيش معهم وبهم داخل الزنزانة أو خارجها.. نعرف كيف كانوا يفكرون؟ .. وكيف كانوا بيننا رغم وجودهم هم داخل جدران سوداء وأسوار عالية، وحراسات مشددة؟..

لقد وقع اختياري على مفكرين مصريين معاصرين.. ما زالوا يمشون بيننا تاريخا.. مكسوا باللحم والعظام القادرة على الحركة والتحمل رغم أن معظمهم بلغ من العمر عتيا .. آثروا حياتنا الفكرية في مختلف نواحيها.. فمنهم الصحفيون والأدباء والكتاب والعلماء.. وأساتذة الجامعة بدون تفرقة.. وكنت في حيرة من أمري حين قررت الاختيار. لنني لابد وأن أقع في المحظور قبل أن أعيش الفكر معنى ولفظا ودورا.. وهذه قصة أخرى.. فقد جاوزت حدود الأوراق وعشت لحظات طالت وقصرت من أجل أن أبحث عن معنى الفكر ودور المفكر.. ووجدت ضالتي في قواميس اللغة ودوائر المعارف ، وعلى أفواه كبار مفكرينا هنا وهناك.. ولن أسوق ما عثرت عليه في هذا المجال .. إلا حين نستكمل سويا بقية الإجابة على السؤال ( لماذا هؤلاء.. ؟ ).

والاقتراب من مجال الإجابة على السؤال: لماذا هؤلاء بالذات ؟ سوف يدخل بنا في عالم التاريخ ويجعلنا نطوف داخل دروبه القديمة والمتوسطة والحديثة.. بحثا عن المفكرين الذين عاشوا تجربة السجن أو النفي أو الاعتقال ولكننا آثرنا ألا نبتعد كثيرا.. لأن التاريخ بصفحاته الصفراء المتهالكة يحمل ألوانا من تجارب هؤلاء المفكرين الذين كانت تهمتهم الوحيدة أنهم كانوا يفكرون ويحلمون بواقع وحياة جديدة.. ولا هدف لهم في الحياة سوى الأخذ بيد أفراد مجتمعهم للسير نحو الأمام.. وكثيرا ما أدى بهم الخلاف مع رجال الحكم إلى غياهب السجون.. إن تجارب هؤلاء المفكرين تملأ آلافا من الكتب التي تعد سجلات تحمل علامات صفراء وحمراء وسوداء.. هي نقاط يتوقف عندها الزمن أسفا وحزنا.. لأن معنى أن نزج بالمفكر داخل السجون أنك تحرم المجتمع من أفكاره.. ولن أناقش هنا.. هل تكون هذه الأفكار ضد المجتمع أو معه.. لأن المفكر لا شاغل له فيما يفكر سوى تقديم عصارة فكره في ألوان من التعبير لصالح الجماعة .. إلا قليلا.. فنادرا ما تجد طائفة من هؤلاء يسعون إلى خراب المجتمعات.. إلا إذا وقعوا تحت وطأة الدعاية التي تلون أفكارهم وتلوثها.. ولا يحدث مثل ذلك إلا حينما يصطدم هؤلاء بالسلطة ورجال الحكم.. عندئذ يصورونهم شياطين بأجنحة وأنياب مصاصي الدماء..

والصدام بين رجال الفكر وأصحاب المصلحة من رجال الحكم.. قديم قدم الإنسان على الأرض.. ولا يخلو عصر من العصور القديمة أو الحديثة من قصة أو قصص تروي لنا كيف كان مصير هؤلاء المفكرين الذين يحلمون بالتغيير والذي كان حتما ينتهي بالموت حرقا أو تعذيبا.. والتاريخ بصفحاته المتهالكة يحوي هذه الحكايات لمن يريد المزيد.. ولكننا سوف نتوقف عند ذكر المفكرين المصريين المعاصرين الذين رحلوا عن عالمنا.. ولم يبق بيننا سوى كلماتهم وعصارة أفكارهم.. هؤلاء المفكرون الذين عاشوا تجربة السجن والاعتقال.. ولسوف نذكر بعضهم.. ولا يعاتبنا أحد إذا أغفلنا مفكرا منهم.. لأن ذلك بالفعل لن يكون عن عمد.. فأنا أقف منحنيا لهؤلاء الذين حملوا مشاعل الفكر وأضاءوا بالكلمات أنوار الواقع والمستقبل.. ولكل منهم دوره البارز الذي لا يزال يعيش بيننا.. ويكفي أنهم قد ودعوا عيش الحياة الهادئة ونذروا أنفسهم وأقلامهم وعصارة أحلامهم لنا.. وللأجيال القادمة.

ولسوف نحاول أن نرسم دائرة .. وبها أركان متعددة.. نلصق بكل ركن فيها اسم أحد هؤلاء الأعلام في الفكر المصري المعاصر.. الذين عاشوا تلك التجربة .. وقضوا أياما وراء القضبان .. ولن يكون هناك ترتيب مسبق.. فإنني أعود وأكرر أن المفكر الحق.. لا يعنيه أن يكون في المقدمة أو في المؤخرة من حيث الترتيب.. لأن أعمال المفكرين دائما تتقدم وتعلن عن نفسها حتى ولو حاولوا إخفاء أو طمس أعمالهم.

وبالحديث عن أسماء هؤلاء المفكرين الذين لم يسعدنا الحظ من أجل استضافتهم عبر صفحات هذا الكتاب مثل غيرهم من المفكرين الأحياء.. نكون قد أكملنا إجابة السؤال عن السبب الذي حدا بنا غلى هذا الاختيار.. فأنتم معي، أنني كنت على حق وما زلت في اعتقادي أن المفكرين الأحياء.. سوف يثرون التجربة ويضيفون إليها لقطات حية قد تكون غير حاضرة.. ونسوا تسجيلها داخل أوراقهم القليلة التي عبروا بها عن أيام القضبان.. أضاف إلى ذلك أن اللقاء مع هؤلاء المفكرين الأحياء.. أضاف عنصر الحيوية الذي نتج عن الحوار المتواصل .. والفرق شاسع بين أن نتعامل مع كلمات مكتوبة سماء.. وبين أن نتعامل مع أصحاب هذه الكلمات وجها لوجه.. وبمجرد أن نذكر أسماء مفكرينا الذين رحلوا عن عالمنا.. سوف نشعر بالفرق.. ليس من حيث القيمة والهدف والمعلومة أو الفكرة.. ولكن من حيث الحيوية التي تنبض بها كلمات هؤلاء، فإذا ما وضعت أصبعك على كلمة لمفكر لا يزال يعيش بيننا.. حتما سوف تشعر بأن الدماء لا تزال تجري في حروفها.. والعكس صحيح.. فكلمات غير هؤلاء تجدها باردة.. حيث تجمد الدم في حروفها ولا نقل أنه قد ماتت، فالأفكار ووسيلتها الكلمة لا تموت أبدا.. ولكن ربما يتغير مفهومها.. ومع ذلك تظل نفس الكلمة نابضة بما فيها من فكرة.

لقد أخذتنا الشجون بعيدا.. عن ذكر أساتذتنا من المفكرين الذين رحلوا عن عالمنا.. وحتى لا نتهم بداء النسيان الآن.. علينا ذكر أسمائهم مع الإجلال والتقدير.. لأن أعظم ما في الحياة هي الكلمة الطيبة ومصدرها الفكر.. فالكلمة الطيبة أبدا لا تكون فارغة.. بل هادفة. ويأتي في مقدمة هؤلاء المفكرين المعاصرين.. الذين عاشوا تجربة الغربة داخل جدران السجون ووقفوا ساعات طويلة بالليل والنهار خلف القضبان الحديدية عباس محمود العقاد.. الدكتور لويس عوض.. الدكتور يوسف إدريس.. سيد قطب.. الشيخ حسن البنا.. توفيق دياب.. الكاتب الصحفي محمد التابعي وآخرون.. ومن الأمور الإجرائية التي صادفتني وأنا أتحدث عن تجربة سجين الفكر.. هو كثرة ترديد عدة ألفاظ.. تصب جميعها في معنى واحد هو تقييد حرية الفكر.. فكثيرا ما سمعت ألفاظا مثل " الاعتقال" " التحفظ" " السجن" .. وكلها تدور في فلك واحد.. أقصد أنها تؤدي إلى نتيجة واحدة مؤداها أن يتم إبعاد المفكر عن واقعه.. وحرمانه من الحرية والحياة وأدوات التعبير أيضا.. واستخدامي لكلمة الأمور الجنائية.. هي بالطبع في محلها.. لأنني أتحدث بالفعل عن إجراءات قانونية تصاحب عادة الزج بالمفكر وراء القضبان.

ولكن إذا ما فتحنا المجال لحديث القانون وإجراءاته.. فلن تسعفنا هذه الصفحات القليلة.. لذا سوف نمس هذا الموضوع مسا سريعا.. حتى تكتمل وظيفة المعرفة لدينا.. ونكون قد وفينا المفكرين حقوقهم.. وإلا كيف نتحدث عن السجن والقضبان ولا نتحدث عما يصاحبها من إجراءات..

تقول كتب القانون الجنائي.. إن السجن يعني إحدى العقوبات المحكوم بها في الجنايات مثل الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة..

أما الحبس فهو إحدى العقوبات المحكوم بها في الجنح.. بالإضافة إلى الغرامة التي لا تزيد على مائة جنيه. وبالتالي السجن والحبس يعنيان في أصولهما تقييد الحرية.. إلا أن السجن يعد درجة أشد من حيث نوع العقوبة وطريقة المعاملة.. لأن السجن في العادة يرتبط بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.. ويكون ذلك في الليمانات إلا إذا كان اقل من ثلاث سنوات..

كما أن السجن والحبس بالإضافة غلى ذلك هما عقوبتان مرتبطتان بحكم قضائي صادر عن قاضي المحكمة وممول بالنفاذ. بخلاف ذلك هناك ما يسمى قانونا بالتحفظ أو الاعتقال، وهو إجراء يسبق المثول أما المحكمة تقوم به جهة الضبط الممثلة في رجال الشرطة لضمان عدم هروب المتهم، وعادة لا يجوز أن تزيد مدة التحفظ هذه على 48 ساعة.. وهو ما يسميه في القانون الجنائي " بالقبض" أما في القانون العسكري فإن مدة التحفظ بالنسبة للعسكريين لا يجوز أن ت زيد على عشرة أيام..

أما من حيث أهمية اتخاذ مثل هذا الإجراء وفقا للقانون الجنائي.. فهي مجرد مجموعة احتياطات الهدف منها التحقق من شخصية المتهم.. ويجوز فيها حجز المتهمين ووضعهم في مكان أمين تحت تصرف رجال الشرطة..

وهناك أيضا ما يسمى في القانون بالحبس الاحتياطي.. وهو إجراء يتم تنفيذه أو اتخاذه بعد مثول المتهم أمام المحكمة.. وهو قدر يطول لشهور وتختلف فيه الجريمة الجنائية عن الجرائم العسكرية.. والمهم يجب ألا تطول مدة الحبس الاحتياطي عن ستة أشهر . ويكون السبب في ذلك راجعا إلى الخوف من التأثير على أدلة الجريمة أو الخوف من الانتقام من المجرم نفسه أو منه على غيره.. وأخيرا ضمان سير التحقيق..

وإذا ما عدنا من جديد إلى الفكر وجرائم المفكرين إن جاز هذا التعبير قانونا.. وجدنا أن هناك ارتباطا وثيقا بين مفهوم الحية.. ومفهوم الفكر.. الأمر الذي جعل الكثير منا يربط بين المفهومين لغويا.. فكثيرا ما نسمع ونقرأ في بعض الكتب " الحرية الفكرية" أو " حرية الفكر" .. رغم أن هناك اختلافا كبيرا معنى ولفظا بين الكلمتين.. وإن كان هناك ارتباط وثيق بين وظيفتيهما داخل المجتمع.. الأمر الذي جعلني أحاول أن أتلمس هذه الفروق.. حتى تكون الفائدة مكتملة خاصة بعدما تناولنا هذه التفرقة فيما يسمى بـ " السجن" أو " الحبس" أو " الاعتقال" .. رغم أن الهدف منها واحد وهو تقييد حرية الإنسان..

وبالنسبة لمدلول الحرية.. وكما يقول الأستاذ الدكتور عبد المنعم محفوظ : هي كلمة أرق من أن تكتب على ورق، وأطهر من أن تنطق من ثنايا شفتين، رغم أنها كانت وما زالت سببا في كثير من ألأحداث والثورات والصراعات على مر العصور.. فكم قاست شعوب وقهرت من أجل الحرية.. وكم ضحت أمم ودمرت دول من أجل الحرية .. وكم قاسى مظلوم وعذب سجين ومات بريء من أجل الحرية.. وقد تبارى آلاف من الفلاسفة منذ فجر التاريخ في تعريف هذه الكلمة.. ووضع المفاهيم لها.. وكانت كلها تصب في معنى واحد وهو أن الحرية ليست مجرد " أمنية" وإنما هي " إرادة" ..

وبالتأسيس على ذلك تتأثر الحرية بالإمكانات المتاحة للإنسان، فكلما تدعمت إمكاناته المادية والمعنوية كلما زادت حريته.. وعلى ذلك فإن الحرية المطلقة لا وجود لها.. ولا يمكن أن يكون الإنسان حرا في جميع الأوقات بشكل مطلق.. لأن الحرية يحدها النظام..

ومع عدم تحديد معيار واضح ودقيق لمفهوم الحرية فقد اختلف الفلاسفة وعلماء السياسة ورجالها وفقهاؤها في تحديد هذا المفهوم .

ويجرنا هذا الحديث إلى ضرورة معرفة أنواع الحريات التي ترتبط بحياة الإنسان داخل مجتمعه.. وإن كانت تختلف من مجتمع لآخر.. ومن عصر لآخر، رغم أن الفقهاء استطاعوا أن يحددوا أنواع الحريات العامة وحصروها في عدة أنواع هي: الحريات والحقوق التقليدية، والحريات الاجتماعية، والحريات والحقوق الاقتصادية ، وأخيرا الحريات والحقوق الفكرية، أو بمعنى آخر هناك الحريات المادية التي تمثلها حريات الأمن والتملك وحرية المسكن، وكذلك حرية العمل.. وهناك أيضا حريات معنوية مثل حرية العقيدة والاجتماع والتعليم والصحافة.. وكلها تصب في إطار تطلق عليه " حرية الفكر" وهذا هو ما نعنيه ونرمي إليه من هذه الدراسة.. لأنها ترتبط بموضوعنا الذي هو مادتنا الأساسية في هذا الكتاب.. ولأنه من الضروري بيان هذه الحرية ومواصفاتها.. حتى تستطيع أن تلتمس الفروق الكبيرة بين ما يقوم به المفكر ودوره في المجتمع وبين ما يقوم به اللصوص والمجرمون من جانب آخر وفقا لنظرة القوانين.. ومدلول الحرية.. وقبل أن نعيش هذه التفرقة نود أن نبين أولا ماهية الفكر .. وتعريفه وأهميته ودوره في المجتمع.. وسبيلنا إلى ذلك قواميس اللغة العربية وبعض المعلومات التي عثرنا عليها في دوائر المعرفة..

    • في القاموس .. وتحت حرف " الفاء" تجد أن الفكر جمعها أفكار.. ومعناه تردد الخاطر بالتأمل والتدبر لطلب المعاني.. وشارد الفكر يعني غافل وساه.. والفكرة تعني إعمال الخاطر في الأمر..
    • في دوائر المعارف.. تحت كلمة فكرة : نجد المعنى يقول: الفكر والتفكر والتفكير هو التأمل.. ورجل فكير أي كثير التفكر.. والتفكير من أبحاث علم النفس وهو عملية نزوعية تهدف إلى الوصول إلى حقيقة مجهولة كحل مشكلة من المشاكل التي تعترض الإنسان.. لهذا كان التفكير من الصفات التي ينفرد بها الإنسان لأن التفكير يحتاج إلى استجماع لتجارب ماضية وإدراك العلاقات بينها في ضوء حقيقة ماثلة أمام الأفراد.. فكل عملية تفكير هي في الحقيقة استخلاص حقيقة جديدة من ثنايا حقيقة قديمة أو جملة حقائق وقد يكون التفكير إلى جانب ذلك في صورة تفسير مجموعة من الحقائق المشابهة وهو ما يعرف بالاستنباط تمييزا له عن القياس.. إن التفكير في جميع صوره ما هو إلا محاولة العقل لحل مشكلة من المشاكل التي تواجهه.

وقد اقترب مفهوم التفكير لدى الدكتور زكي نجيب محمود من هذا المعنى كثيرا.. حيث يرى شيخ الفلاسفة المصريين والعرب في العصر الحديث أن التفكير هو عملية ذهنية نرسم بها خريطة العمل المؤدي إلى تحقيق هدف ما، وبعد ذلك فلتتنوع الأهداف ما شاء لها صاحبها أن تتنوع، لكنها جميعا تلتقي عند هذا الأصل.. أو بمعنى آخر كما يقول الدكتور عبد المنعم محفوظ في كتابه " علاقة الفرد بالسلطة" : إن عملية التفكير تقتضي من رجل الفكر أن يرسم لفكره هذا خريطة على هداها من أجل الوصول إلى هدف منشود.. وفي حالة تدخل رجال السلطة لإضافة ملامح لهذه الخريطة أو حذف بعض معالمها، كان ذلك بمثابة تدخل سافر من أجل ألا يبلغ المفكر الغاية التي يستهدفها، وحين نتحدث عن جانب من جوانب المنهج العلمي في التفكير باعتباره جانبا بالغ الأهمية.. نجد أن كل تفكير منهجي مهما كان موضوعه لابد وأن يبدأ من أساس يوضع وضعا.. وهذا يدل دلالة واضحة على أن حركة الفكر ديناميكية ولا تبدأ أبدا من فراغ..

ولن ندخل في تفاصيل ما يتعلق بموقف الفلاسفة من الفكر باعتباره أساس وجود الإنسان فوق الأرض، ونظرتهم لهذه الأصناف من البشر الذين يحملون هذه المهمة الشاقة فوق أكتافهم لصالح المجموع قبل صالح الفرد أو صالحهم الشخصي.. ويمكن القول بأن فيلسوفا عظيما هو "كانت" قد قال عبارته المشهورة: " أنا أفكر إذن أنا موجود".. وبالتالي فقد نفى صفة الوجود لهؤلاء البشر الذين لا يفكرون.. لأن العبرة من وجهة نظره أن يعيش الإنسان بالعقل قبل الجسد..

وليست الفلسفة هي وحدها التي نادت بضرورة أن يكون الإنسان مفكرا بل قبل الفلسفة جاءت الأديان السماوية التي عظمت تفكير الإنسان.. جعلته الطريق الحقيقي للوصول إلى الحقيقة..

هذا باختصار هو مضمون الفكر ومدلولات الحرية.. باعتبار وجود علاقة تواصل وتفاعل بينهما.. وبقي لنا أن نتحدث عن حرية الفكر من حيث التوصيف القانوني والدستوري وهو موضوع يطول الحديث فيه.. حيث تناولته العديد من المؤلفات وتصدى له أساتذة وفقهاء القانون في مصر وفي غيرها من الدول الأوربية.. ولكننا سوف نحاول إيجاز القول حتى نعرف موقع هذه الحرية بشقيها داخل المجتمع.. وموقف سلطة الدولة منها.. أو بمعنى آخر معرفة ما تثيره الحريات من تأثيرات في مواجهة الآخرين.. وفي مواجهة السلطة العامة..

والحديث القادم يستند على القاعدة التي تقول : إن الفكر يختمر في عقل الإنسان ثم يخرج عن إطاره الداخلي إلى المجتمع الذي نعيش فيه وأن الأفكار تتجسد في قدرة الإنسان على التعبير عن ذاته.. وهو ما يسميه رجال القانون بالقدرة على التقرير الذي يقوم على الاختيار.. وعادة ما ينعدم هذا التقرير إذا حرم الإنسان من حث الاختيار أو وسيلة التعبير .. ثم إذا فرض عليه مضمون هذا الاختيار رغما عنه..

وحرية الفكر مثل غيرها من الحريات الأخرى لابد وأن تتجسد في الممارسة لأنها تبدأ بتكوين الفكرة ثم الإقدام على ممارستها أي تنفيذها.. ووفقا لهذا المفهوم ، وكما يقول الدكتور محفوظ، فقد تضمنت كل مواثيق الحرية والدساتير في الدول المعاصرة النص على حرية الفكر.. أيا كانت فلسفات هذا الحكم.. وقد لاحظ فقهاء القانون صعوبة تصنيف حرية الفكر ووضع ضوابط محددة لها.. والسبب في ذلك يرجع إلى التداخل بين الخطوات التي تمر بها الفكرة.. كما يعود من جانب آخر إلى الخلط بين الفكر والرأي والعقيدة، وصعوبة تحديد ضوابط ومعايير التفرقة فيما بينهم..

ورغم ذلك.. فقد وضعت تصنيفات متعددة لهذه الحرية نذكر منها: حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية الصحافة وحرية التعليم.. وكذلك حرية المسرح والسينما.. إلا أن حرية الرأي تعتبر في المقام الأول.. ويعدها الفلاسفة أهم هذه التصنيفات لأنها تمثل العمود الفقري للأنواع الأخرى.. والدليل على ذلك أن " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948 قد نص في المادة "19" أن لكل إنسان الحق في حرية الرأي وحرية التعبير بما يتضمنه ذلك من حرية اعتناق الآراء بمأمن من .. وكذلك حرية طلب الحصول على المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها بمختلف الوسائل دون التقيد بحدود الدولة..

والشيء اللافت للنظر.. وكما تقول كتب القانون .. إن حرية الرأي هذه مازالت تعد من أكثر الحريات التي أثير حولها الجدل داخليا والسبب في ذلك ربما يرجع غلى ما يمكن أن تثيره هذه الحرية من هزات اجتماعية عندما تتدخل السلطة لدى من يمارسها..

وفي الواقع .. وبعيدا عن النصوص المكتوبة.. اتضح أن العبرة ليست بتدوين هذه النصوص في كتب والتزين بها.. تلك التي تتحدث عن هذه الحرية بالذات.. سواء على المستوى العالمي أو مستوى كل دولة.. وإنما اتضح أن الأهم من هذه النصوص المدونة وتلك الدساتير والمواثيق هو القدرة على الممارسة التي تعني الإقدام على استخدام هذا النوع من الحرية.. وفي الوسائل النفسية قبل المادية التي توفرها الدولة. والقدرة على الممارسة هذا بمعناها العملي تعني الشجاعة التي يقوم بها الفرد على ممارسة حريات فكره.. وعلى وجه الخصوص حرية رأيه في مواجهة السلطة العامة..

وخلاصة القول لقد.. اتضح أن حرية الرأي.. وموقف السلطات من المفكرين عبر العصور قد جعلت الدول المعاصرة تتدخل بالتشريع لتنظيمها ووضع الحدود لها.. وكذلك ضوابط ممارستها.. ولكن كيف يتم ذلك؟ .. يؤكد الفلاسفة ورجال القانون وفقهاؤه أن دور الدولة يتجسد في دور السلطة العامة.. لأن هدفها هو تحقيق النظام العام في الظروف العادية.. وقد اصطلح على تسمية هذا الدور قانونا بـ "الضبط الإداري" .. وهو عبارة عن مجموع ما تفرضه السلطة العامة من أوامر ونواه وتوجيهات ملزمة للأفراد بغرض تنظيم الحريات لصيانة النظام العام في المجتمع..

ومدلول كلمة " الضبط الإداري" فق فقه القانون يقوم على فكرة اختصاص السلطة العامة في أن تفرض على الأفراد قيودا تحد بها من ممارسة حرياتهم.. ويستمد النظام العام الذي يطبق هذا المفهوم قوته من ثلاثة عناصر هي: الأمن العام، والسكينة، والصحة العامة.. وعادة ما تلجأ الدول إلى العديد من الوسائل لتحقيق هذا النظام الذي يكون ضحيته في المقام الأول حرية الفكر..

في بداية رحلتنا مع هذه الكلمات تساءلنا كثيرا.. واتخذنا العنوان من عدد المرات التي دخل فيها المفكر السجن.. ورأينا أن خير ختام لجولتنا عير هذا الفصل هو تسجيل أحاسيس هؤلاء المفكرين لحظة الخروج من وراء القضبان.. والاستعداد للرحيل بعد الإفراج.. لأننا عرفنا مسبقا.. أنه في الغالب يتم القبض على المفكر وإيداعه السجن دون علم مسبق منه.. كما أن الاعتقال أو الخروج.. يتوقف على حالات متنوعة وأوامر غيابية في غالبية الأحيان تصدر من فوق.. وسبق أن قدمنا جولة قصيرة داخل عقل فقهاء القانون أوضحنا فيها هذه المفاهيم.. المهم الآن أن نسجل لكم هذه الأحاسيس من واقع كلمات كتبها عملاق الأدب ا لعربي عباس محمود العقاد.. الذي ألف كتابا حكى لنا فيه عن تجربة السجن في حياته كرجل إنساني.. وكمفكر إنساني أيضا..

يقول العقاد في كتابه " عالم السدود والقيود" الذي نشره عام 1937 ( يوم الإفراج ، أو يم البعث والنشور.. أو يوم الحرية.. أسماء كثيرة يسمي بها يوم الخروج من السجن، والناس يحسبونه أسعد أيام المسجون لأنه اليوم الذي انتظره مئات أو ألوف الأيام.. ويحسبون أن المسجون إذا قارب فجره تغمض عيناه سرورا بلقياه، وأوشك أن يطير فرحا بالوصول إليه.. ويظل السجين ينتظره ويطيل انتظاره بالأشهر والأسابيع وتأمله من كل جانب ويحسب المسافة بينه وبين الأشهر والأسابيع والأيام والساعات.. ولا يفكر في شيء غير هذا التفكير.. حتى إذا جاء اليوم الموعود إذا بالسجين يراه كأنما وجه قديم وأد من النظر إليه.. فهو منظر من مناظر الماضي السحيق وليس بمنظر طريف ولا بموعد جديد.. ) هذا عن إحساس الرجل العام الذي لا يعيش الفكر.. فما بالك بإحساس العقاد المفكر.. الذي يقول عن نفسه : ( جاءني مأمور السجن عصر اليوم الذي سأغادر في غده.. وقل لي إنه لا يعلم في أي ساعة سيكون الإفراج، فيحسن بي أن أكون على استعداد للخروج منذ الصباح الباكر، وأنه سيرسل لي الحلاق ليحلق رأسي ولحيتي التي مضت عليها ثلاثة أيام.. ولا يحب رجال السجن أن يخرج السجين من عندهم في هذا الحال.. لأن رؤية اللحية الطويلة تلقي في الروع أن السجين خارج من مكان يكثر فيه الإهمال وتقل فيه النظافة والنظام).

    • ترى هل هذه الصورة ما زالت على ما هي عليه.. بعد مرور أكثر من خمسين عاما.. أم تغيرت.. ؟ .. وكيف عاش مفكرو مصر في السنوات العشرين الأخيرة خلف هذه الجدران .. هذه الأسئلة وغيرها .. هي موضوع كتابنا الذي بين يديك .

حنفي المحلاوي


الحكاية الأولى : مصطفى أمين

الحكاية الأولى يرويها مصطفى أمين:

تزعمت عصابة من المساجين لتهريب الورق والقلم

لم أصدق حين قال لي أستاذنا الكاتب الصحفي " مصطفى أمين" أنه كان زعيما لعصابة داخل السجن..

ولكن وقبل أن تدور الكلمات برأسي وتأخذني علامات التعجب بعيدا عما يقصده.. أضاف بقوله بالفعل كنت زعيما لعصابة من المساجين .. تعبت كثيرا في تكوينها.. والسبب يرجع إلى إدارة السجن نفسها التي جاءتها أوامر عليا.. لحرماني من الورق والقلم.. حتى ورق التواليت منعوه عني حتى لا أستخدمه في الكتابة..

لحظات صمت.. حسبته خلالها.. يكتب مقدمة مشوقة لحديث طويل.. واعتبرت كلماته السابقة.. بداية ساخنة لهذه المقدمة.. ولكنني وبالرجوع إلى الكتب الكثيرة التي كتبها في السجن رغم هذا الحصار.. والتي ذكرها لي أثناء الحوار.. اكتشفت فعلا أن الكاتب الكبير مصطفى أمين قد نجح غلى حد بعيد في تكوين هذه العصابة التي فشلت إدارة السجن لسنوات طويلة في الكشف عنها..

يقول " مصطفى أمين" في أحد هذه الكتب:

القلم ممنوع .. الورق ممنوع.. الحبر ممنوع..

لقد تنقلت بين عدة سجون .. وفي كل السجون والمعتقلات التي دخلتها كان يقال لي إن القلم ممنوع والورق ممنوع.. والحبر ممنوع.. وبلغ الأمر بمأمور طره أن منع دخول ورق التواليت خشية أن أكتب عليه.. وفي بعض هذه السجون كانت الكتابة ممنوعة على الإطلاق.. وفي سجن ليمان طرة مثلا كانت الأوامر والتعليمات التي أصدرها وزير الداخلية آنذاك بشأن معاملتي.. ألا يوضع وق أو حبر أو قلم في زنزانتي.. وأن أضعها في مكتب ضابط العنبر، وأن أكتب إلى أسرتي مرتين في كل شهر، وألا يزيد كل خطاب عن نصف ورقة كراس، وأن أكتب بالخطاب في مكتب الضابط وفي وجوده..

وكنت مسجونا نموذجيا، أطيع الأوامر والتعليمات مهما كانت سخيفة وجائرة.. وكل تعليمات السجن سخيفة وجائرة.. ولكن التعليمات الوحيدة التي قررت أن أثور عليها وأخالفها هي الخاصة بعدم الكتابة، وذلك لأن الكتابة بالنسبة للكاتب أشبه بالتنفس ، وكان معنى هذه التعليمات الجائرة أن أتنفس مرتين في الشهر..

وبدأت بمعاونة عدد من زملائي المسجونين عملية تهريب الورق والقلم، ثم عملية تهريب الرسائل إلى أخي على أمين في لندن وسعيد فريحة في بيروت.. كانت عملية خطرة وشاقة ومستحيلة.. وكان الذين يقومون بها يعرضون حياتهم للخطر ومن أجل عدد من المسجونين السياسيين لم يخافوا أبدا.. واستطاعت هذه الرسائل كلها أن تخترق الحصار المضروب وأن تقحم كل القيود المفروضة.. ولم تضبط رسالة واحدة..

وحينما نتوقف عند كلمات مصطفى أمين واعترافاته فيما يتعلق بتكوين هذه العصابة الغريبة التي وصف أفرادها بالرجال الشجعان الشهداء.. نكتشف قيمة الورق والقلم.. حتى ولو كانت قصاصات بالية.. وأقلام بلا أسنان أو أحبار .. كما تكتشف قيمة الرجال في الشدائد.. وإلا فكيف يتحول الكاتب والمفكر ومن حوله من زملاء الزنزانة إلى أفراد عصابة تقوم بعمل نادر.. لا لتهريب الذهب والماس والأموال .. بل لتهريب الورق والقلم..

وقبل الدخول في تفاصيل الدور الذي كانت تقوم به عصابة مصطفى أمين، وكيف تكونت، ومن هم أفرادها .. وكيف استطاعوا اختراق حصار هذه السجون المنيعة.. تعالوا..نبدأ الحوار الذي دار بيني وبين المفكر الكبير مصطفى أمين الذي استغرق تسعين دقيقة في مكتبه في أخيار اليوم .. بعد خروجه من السجن وعودته إلى الحياة الصحفية والفكرية بأكثر من عشرين عاما..

في مثل هذه الظروف .. تبدأ أولى خطوات المرحلة في مكتب السكرتير الخاص الذي تفضل مشكورا بالاتصال بالمفكر الكبير وحدد لنا موعدا معه.. وفور علمي بالموعد الذي حدده أعددت كل شيء.. الورق والقلم والأحبار.. جهاز التسجيل.. وعيون الكاميرا.. وشيئا آخ رمهما جدا.. هو الاستعداد النفسي لمجابهة العملاق ، ودعوات في صدري من أجل أن يطول الحوار ساعات طويلة.

وقبل الاستغراق الذاتي لتحديد معالم هذا الحوار الذي أعددت عناصره مسبقا.. انطلق مدير مكتبه بأدب: تفضل.. مصطفى بك في انتظارك..

وعلى بعد خطوات .. طرقت الباب برفق .. ودخلت .. صحيح أنها لم تكن المقابلة الأولى بين كاتب هذه السطور وبين مصطفى أمين.. إلا أنني شعرت وكأنما أراه لأول مرة.. وقبل أن يزحف التراجع إلى نفسي.. بادرني بالتحية.. وكأنما قرأ ما يدور في ذهني.. خاصة أنني جئت إليه هذه المرة.. أذكره بهموم ماضية، والأيام السوداء التي قضاها خلف القضبان.. وجاءت ابتسامته .. التي عبرت عن فرحه بهذا اللقاء.. بداية طيبة لي حتى أستكين .. وأركز وأحدد بداية الحوار.. وجلست أمام مكتبه البيضاوي الضخم.. أتطلع إلى كيانه الكبير، ورأسه التي هي مصدر كل همومه ومشاكله.. ومن بين أسناني .. خرجت أولى كلمات الحوار..

• نبتدي يافندم؟..

- اتفضل..

ومن قبلها.. أعطيت إشارة البدء لجهاز التسجيل.. واستعد المصور بآلاته.. وانسابت الكلمات في هدوء .. أنا أسأل .. وهو يجيب..

• كم مرة دخل فيها الكاتب الصحفي الكبير مصطفى أمين السجن؟

وقبل أن يجيب بصراحته المعهودة..

استدركت الكلمات.. لأنني أحسست أنها عبارة قاسية مغلفة في كلمات أحسست من وقعها وكأنني ساويت بين المفك الكبير وبين غيره من عتاة الإجرام.. لذا وجدتني أعيد السؤال في صيغة أخرى رأيت أنها أكثر تهذيبا وتليق بالمفكر والمفكرين..

• عفوا أستاذي.. هل تعرضتم لأي نوع من أنواع العقوبات.. قبل تجربة السجن الأخيرة؟ .. في عهد الرئيس عبد الناصر..؟

- لقد قبض على عدة مرات.. لكنها كانت عقوبة بسيطة.. ففي عام 1928 ( أوقفت التسجيل.. حتى يتمكن الأستاذ من الرد على مكالمة تليفونية خاصة) .. ومن بعدها أخذ الكاتب الصحفي مصطفى أمين يروي لي قصته مع القضبان.. وأخذ يحيطني بأسرار ربما يذيعها لأول مرة.. وحتى لا نقطع تسلسل الكلمات وأفكار الأستاذ.. سوف أنقل لكم تفاصيل هذا الحوار.. بدون تدخل من كاتب هذه السطور لا بالأسئلة ولا بالتعليق..

في عام 1928.. كانت بداية تعاملي مع السجون ، وما نطلق عليه الآن " الحجز" حيث قبض على أنا وأخي المرحوم على أمين لأننا كنا نهتف في محطة مصر ضد الدكتاتور محمد محمود باشا.. ووضعنا في السجن ثلاثة أيام.. ثم أفرج عنا.. ومرة أخرى قبض على وأنا عندي 16 سنة .. وكنت أيامها طالبا في الخديوية الثانوية.. حيث نظمت إضرابا في المدارس من أجل إلغاء الدستور ويومها دخلت السجن ومكثت فيه ثلاثة أيام، واعتبرتها وقتها عقوبة قاسية جدا.

وابتداء من عام 1950 وحتى قبيل الثورة ، تم إلقاء القبض على 26 مرة.. أثناء عملي الصحفي.. حيث كانوا يلقون القبض على في الصباح بتهمة نشر أخبار صحفية ضد الحكومة.. واستمر في الحجز.. وفي المساء يتم عرضي على القاضي الذي يأمر بالإفراج عني فورا، وبكفالة في نفس اليوم.. وأنا أذكر أن مجموع المبالغ التي دفعتها في الكفالات خلال هذه الفترة التي ذكرتها أكثر من ألف وثلاثمائة جنيه.. ولا تنس أن المبلغ كان عام 1950، والفرق في قيمة العملة بين الأمس واليوم معروف لأنني كنت أدفع في المرة الواحدة كفالة 50 جنيها .. والشيء المضحك والمبكي في آن واحد.. أن الثورة حين قامت وعلم عبد الناصر بهذه الغرامات.. أعاد إلى مبلغ ألف جنيه من قيمة هذه الكفالات..

على أن أهم رحلة كانت لي عبر السجون.. تلك الفترة الأخيرة التي حدثت في بداية الستينات في عصر جمال عبد الناصر.. وأذكر تفاصيلها تماما.. وقد سجلتها في أكثر من كتاب صدر لي لأنها فترة كانت صعبة إذ ارتبطت في ذهني بعدة صور كان أهمها صورة التعذيب البدني البشع الذي نالني على أيدي رجال السجن الحربي آنذاك..

وأذكر أنهم حين جاءوا للقبض علي في عام 1965، في منزلي بالإسكندرية ورأيت الحرس يملئون حديقة المنزل، تصورت أن الرئيس جمال عبد الناصر قد حضر لزيارتي.. ثم تصورت بعد ذلك أنه حدث انقلاب، وأن رجال الانقلاب الجدد جاءوا يقبضون على، لأنني واحد من المتصلين بالرئيس عبد الناصر..

وعندما تبينت الحديقة تصورت أن عملية القبض تمت بغير علم الرئيس عبد الناصر، وقد سبق أن قبض على مرة في أول الثورة، ومرة أخرى بعد بضعة أشهر من قيامها.. بدون علم جمال عبد الناصر.. وعندما علم في المرتين بأمر القبض على وعلى أخي على أمين أمر بإطلاق سراحنا.. ولكن عندما رأيت أن القوة التي جاءت تقبض على صحبت معها مصورا لالتقاط صوري.. تأكدت أن المسرحية مدبرة..

ووضعوا القيد الحديدي في يدي، وأركبوني سيارة خلفها وأمامها عدة سيارات، حراس من جهاز الأمن يحملون المسدسات والمدافع الرشاشة.. ومشى الموكب في الطريق الزراعي في طريقه إلى القاهرة..

أما عن تأثير تجربة السجن على حياتي كإنسان وكمفكر وصحفي وكاتب وصاحب رأي فقد اختلف التأثير من فترة لأخرى.. وإن كان تأثير التجربة الأخيرة التي حكيت عنها أقوى هذه التجارب.. ولكن بشكل عام داخل السجن شاهدنا أشياء لم أتخيل أبدا أنها موجودة بالسجون المصرية.. ولو روى لي سجين هذه الحقائق ونقل لي هذه الصور قبل أن أدخل السجن لما صدقت.. ويكفي أن أقول لك أنني دعيت في عام 1964 إلى زيارة سجن طره .. وكان ذلك قبل إلقاء القبض علي في المرة الأخيرة بعام أو أقل.. وكانت زيارة صحفية من أجل نقل صورة صادقة لما هو عليه السجن في مصر في تلك الفترة.. وهناك فرشوا لي الرمل الأصفر بلونه الجميل وكأنما زيارة رسمية .. واستقبال حافل من الضباط ومن المدير.. وأخذت خلال هذه الزيارة أتجول في أنحاء السجن.. مثلا أخذوني إلى المطبخ وفيه شاهدت أطباقا نظيفة بها قطع كبيرة من اللحوم وحين سألت عن هذه القطع الكبيرة قالوا أنها لمسجون واحد.. ثم عرضوا عل رغيفا من العيش مصنوعا بشكل جيد.. كما أخذوني في جولة لزيارة بقية أجزاء السجن فشاهدت حدائق كثيرة واسعة.. وأخبروني أن هذه الحدائق من أجل نزهة المساجين..

ثم بعد ذلك دخلت السجن.. ففوجئت بصورة مختلفة تماما..

رغيف العيش وجدته معجونا بالتراب وحجمه صغير جدا.. ووجدت أن اللحم الذي يصل إلى المسجون كله دهن، ولم نكن نرى في الطبق المقدم إلينا سوى نقط اللحم.. يمكن أن تراها فقط تحت الميكروسكوب.. أما بخصوص الحدائق فكانوا ينبهون علينا أن من يغامر ويخرج إلى الحديقة سوف يحبس ويضرب بالنعال، لأن هذه الحدائق المزعومة كانت مخصصة للضباط وليس للمساجين من أمثالنا.. وكنت قد عرفت قبل دخول السجن هذه المرة متهما.. أن السجن به مكتبة.. ولكل سجين الحق والحرية في القراءة والكتابة.. ولكن هذه الصورة تغيرت أيضا فكانوا يمنعون عنا الكتب وكل شيء يتعلق بكتابة والقراءة.. وقد اكتشفت أن هذه التعليمات خاصة بي فقط.. والسبب أنني وجدت خطابا قد سبقني إلى هنا موجها من وزير الداخلية آنذاك إلى مدير السجن فيه تعليمات صريحة بمنعي أنا مصطفى أمين على وجه الخصوص من كتابة حتى الخطابات إلا مرتين في الشهر فقط..

لقد اكتشفت أن ما شاهدته في رحلتي للسجن قبل القبض على هو ديكور وهمي.. تم تركيبه قبل زيارتي من أجل أن أكتب عنه وأنقله للقراء.. وللأسف كنت كثيرا ما أشاهد هذا الديكور يتم تركيبه وترتيبه من جديد كلما زار السجن مسئول كبير.. وبعد الزيارة سرعان ما تعود الأوضاع السيئة على ما هي عليه بل إلى أسوا .. وأنا أذكر في مرة من هذه المرات.. أن زيارة المسئول الكبير قد شملت مستشفى السجن.. وكنت وقتها أعالج فيها.. وعلى الفور تم استبدال المفروشات المتسخة والقذرة بغيرها نظيفة.. بل أكثر من ذلك جاءوا بزجاجات الدواء ورصوها بجوارنا بالقرب من الأسرة التي ننام فوقها.. لقد كانت بالفعل مسرحية هزلية..

ورغم ما قاسيته داخل جدران السجن.. من عذاب وتعذيب إلا أن السجن لم يكن شرا كله.. فهو عالم جديد عليك خاصة أن تعيش فيه لأول مرة .. وفيه تتم صداقات حميمة نقية بعيدة عن الرياء والزيف.. لقد كانت لي صداقات من هذا النوع داخل السجن، وامتدت حتى بعد الخروج والإفراج عني.. وأكثر هذه الصداقات التي تأثرت بها وأثرت في نفسي.. أنني تعرفت في السجن على رجل عظيم عرض على أن يهربني إلى الخارج.. وكان مستعدا لدفع مبالغ طائلة كي تتم عملية تهريبي من السجن .. ولكنني رفضت مع أنني لم أقابل هذا الإنسان الطيب من قبل.. ويبدو أنه كان من قرائي الأعزاء.. وعلى أية حال ما زالت علاقتي به قائمة حتى الآن..

• وهل يمكن الإفصاح عن اسمه الآن؟

- لا ..

أما الإنسان الثاني أو الرجل العظيم الآخر الذي تأثرت به وبصداقته فهو مأمور سجن طره اللواء عبد الله عمارة.. ذلك الرجل الذي كاد أن يرفت بسببي.. ولهذه الحكاية قصة.. فقد نما إلى علمي وأنا داخل السجن أن وزير الداخلية آنذاك وهو على ما أذكر شعراوي جمعة علم أن مصطفى أمين يحصل على أطعمة خاصة داخل السجن وـاتيه من الخارج.. وقد نجحوا في إثبات ذلك عن طريق الحصول على رسالة كانت ابنتي المرحومة رتيبة قد لعثت بها إلى مأمور سجن طره وبها قائمة الطعام التي تريد إرسالها إلى داخل السجن.. وقاموا بزيارة مفاجئة للسجن ضمت وزير الداخلية وعباس قطب مدير مصلحة السجون آنذاك وعددا كبيرا من ضباط الوزارة .. وتفقدوا السجن.. وفي نهاية الزيارة طلب شعراوي جمعة قائمة الطعام المشار إليها ، والتي تم ضبطها في مكتب مأمور السجن وأخذ يقرأ ما بها بصوت مرتفع.. وكان بالقائمة طلب لإدخال جبنة " روكفورد" .. حينئذ تقدم شعراوي جمعة من مأمور السجن وسأله : هل تأكل هذه الجبنة في منزلك؟

وقبل أن يجيب مأمور السجن المسكين أصدر شعراوي جمعة قراره الفوري بنقل مأمور السجن اللواء عبد الله عمارة وحرمانه من الترقية.. وأفهمه أن ذلك هو إجراء مخفف فبدلا من الرفد..

وخلاف ذلك كان معي مساجين كثيرون. التقيت بهم بعد الخروج والإفراج عني..وقابلتهم .. وقدمت إليهم مساعدات كثيرة حين علمت أنهم في حاجة بالفعل إذ هذه المساعدات.. ومع ذلك فإنني أعتبر ما قدمته لهؤلاء قليل جدا بالنسبة للخدمات التي كنوا يقدمونها إلى ..

وحين ينتقل الحوار إلى جانب آخر من جوانب تأثير تجربة السجن على الكاتب والمفكر مصطفى أمين .. يقول:

- بالنسبة لأهم النتاجات الفكرية التي ولدتها تجربة السجن هذه .. أقول لك إن كل الكتب التي أصدرتها .. كتبتها داخل السجن.. وأذكر لك بعضا منها مثل " سنة أولى سجن" و " ثانية سجن" و " ثالثة سجن" وهكذا .. ثم قصة " أشرف امرأة في الشارع" .. وقصة " سنة أولى حب" وقصة " صاحب الجلالة الحب" وأيضا قصة " لا " وقصة " الآنسة هيام" .. بالإضافة إلى كتاب سياسي بعنوان " من واحد لعشرة" يعني نقدر نقول إن كل هذه الكتب ألفتها في السجن وكانت العصابة تهربها ورقة بعد ورقة..

والشيء الغريب أنني لم أكتب عن السجن بعد الإفراج عني، لأنني كتبت كل انطباعاتي هناك خلف هذه الجدران الصماء..

• وهل السبب ربما يرجع إلى اعتباركم هذه الفترة سوداء في حياتكم؟

- أبدا .. لم تكن فترة سوداء على الأقل بالنسبة لي .. فأنا دائما أذكرها وأتذكرها. هذا من حيث تأثير التجربة على مصطفى أمين شخصيا.. أما عن تأثيرها على حرية الرأي والفكر في مصر بشكل عام.. فأولا أنا دهشت لأنني اكتشفت أن هذا السجن قد دخله غيري من الشخصيات العظيمة جدا أو الهامة جدا.. وللأسف لم يكتبوا عن هذه التجربة.. إلا القليل منهم مثل الأستاذ العقاد ومحمد التابعي وتوفيق دياب.. فمثلا الدكتور أحمد ماهر دخل السجن مدة طويلة.. وكذلك النقراشي وإبراهيم عبد الهادي .. وربما يرجع السبب إلى أنهم كانوا يريدون نسيان هذه الفترة من حياتهم، أما بالنسبة لي فالعكس صحيح.. لم أكن أريد أن أنساها.. لأنني بالإضافة إلى ما ذكرته سابقا إنني اعتبره دافعا للتقدم إلى الأمام.. والشيء الثاني الأهم أنني وجدت في قاع المدينة المتمثل في المساجين ما هو أكثر قيمة ووفاء وأصالة مما كنت أجده في مجتمع قمة المدينة.. وهم الناس الذين كانوا خارج الأسوار.. لقد كان الناس داخل السجن لديهم وفاء وشجاعة وفدائية وأخلاق..

• هل تذكرون بالضبط فترة السجن الأخيرة؟..

- طبعا .. كانت ثماني سنوات ونصف بالضبط.. فقد اعتقلت عام 1965 ولم أخرج إلا عام 1974.. قضيت نصفها في عهد عبد الناصر ونصفها الآخر في عهد السادات الذي سمعت أنه كان ينوي الإفراج عني فور توليه منصبه كرئيس للجمهورية خلفا لعبد الناصر.. ولكن ذلك تأخر ثلاث سنوات.. وربما يرجع السبب إلى وشاية نقلت إلي الرئيس السادات جعلته يحجم عن إتمام الإفراج.. فقد وصل إلى علمه أن مصطفى يعقد اجتماعات سرية مع على صبري وسامي شرف في السجن.. وقد أكد لي هذا القول الرئيس السادات نفسه.. وقد اتضح فيما بعد أن أصل هذه الحكاية يرجع إلى رسالة نقلت إلى الرئيس السادات الذي بادر من فوره بالاتصال بوزير داخليته آنذاك ممدوح سالم.. كي يسأله عن تفاصيل ما نقل إليه..

- إيه الحكاية يا ممدوح.. بقى مصطفى أمين وسامي شرف وعلى صبري يجتمعون يوميا في زنزانة واحدة ويكتبون كتابا أسود عني..

ورغم تأكيد وزير الداخلية بعدم صحة هذا القول.. حيث أبلغ الرئيس السادات أنني مسجون في زنزانة وهم في زنزانة أخرى .. إلا أن القرار قد تأخر.. ولم يصدر إلا في 18 مايو عام 1974 بالقرار الجمهوري رقم 58 لسنة 1974..

• ذكرتم في بداية هذا الحوار.. إنكم قد تعرفتم على شخصيات سياسية وصحفية كثيرة داخل أسوار السجن.. ولم تفصحوا لنا إلا عن بعضها ومنهم رجال طيبون وأصدقاء.. نريد أن نعرض بعض الشخصيات التي التقيتم بها هناك..؟

- في السجن بقيت 9 سنوات.. التقيت خلالها خاصة بعد هزيمة عام 1967، بالعديد من القيادات السياسية التي سجنها عبد الناصر بعد الهزيمة وأذكر منهم الفريق صدقي محمود قائد الطيران في حرب 1967، الذي قال لي إنه نصح عبد الناصر بأنه إذا لم نقم نحن بالضربة الأولى فسوف نهزم.. ولكن عبد الناصر أصر على أننا لا نضرب الضربة الأولى.. كما التقيت أيضا بالشيخ الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين،وقلت له آنذاك ( أنا متوقع أن عبد الناصر هيفرج عن كل المسجونين السياسيين وهيسألهم عن رأيهم في هذه الكارثة)..

وعلى ذكر حكاية الإفراج عن الكاتب مصطفى أمين الذي تأخر أربع سنوات.. تحدثنا كثيرا خلال هذا الحوار عن دور أم كلثوم في إتمام هذا الإفراج.. حيث أكد لي أن أم كلثوم كان لها دور بارز في الإفراج عني خاصة لدى عبد الناصر الذي لم يستجب لرأيها.. ولكن ليست أم كلثوم وحدها، رغم أن دورها كان دورا رئيسيا حتى أيام الرئيس الراحل أنور السادات.. فقد كانت هناك شخصيات أخرى كثيرة قامت بهذا الدور غير أم كلثوم .. أذكر منهم.. الأمير طلال والملك فيصل.. وسعيد فريحة ومحمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان. وسفير العراق بالقاهرة آنذاك فايق السمرائي .. وكثير من زعماء الدول العربية المعاصرين لجمال عبد الناصر والسادات..

وكانت هناك عدة محاولات من أجل تبرئتي من التهمة الظالمة التي قبضوا علي بسببها ودخلت من أجلها السجن.. قام بها أيضا العديد من الأصدقاء.. أذكر منهم رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد محجوب الذي كان قد ذهب إلى جمال عبد الناصر بعد محاكمتي وسأله: هل حقيقة مصطفى أمين جاسوس؟ .. فرد عليه عبد الناصر أبدا.. وأكد له أنه هو الذي كلفني بالاتصال بالأمريكان .. وكل ما هناك أن مصطفي أمين قال لهم إنكم تريدون أن تقطعوا المعونة من أجل أن يركع عبد الناصر.. وأنا يا أخ محجوب لا أركع لأحد.. فقل له رئيس السودان آنذاك.. علشان هذه الكلمة .. يبقى تضعه في السجن؟ .. فما كان من عبد الناصر إلا أن رد عليه : إنني حبيت أن أؤدبه لكن أنا في الوقت نفسه مستعد أن أفرج عنه الآن.. لكن لو حدثت ذلك فمعنى ذلك أن أفرج الشيوعيين والإخوان.. وإلا قالوا إن أمريكا هي التي أجبرتني على ذلك.. ولكن على العموم حين تحضر غلى مصر المرة القادمة ستجده في بيته.. ولم يحدث ذلك.. وكذلك فائق السمرائي سفير العراق في القاهرة الذي طلب مقابلة عبد الناصر لنفس الغرض .. فذكر له نفس حكاية القمح والركوع.. وأنه أي عبد الناصر سوف يفرج عني من السجن وأيضا ذلك لم يحدث..

وفي غمرة حديث كاتبنا الصحفي عن تجربته داخل السجن.. وجدتها فرصة كي أعرف منه رأيه في عقوبة السجن وتأثيرها على الفكر بشكل عام.. وهل من الضروري أن يكون للمفكرين سجون خاصة بهم؟.. كذلك أردت أن أعرف منه بصراحته المعهودة رأيه في سجون مصر الآن.. وهل هي في رأيه وسيلة صالحة من وسائل التأديب والإصلاح، أم تساعد على زيادة جرعة الإجرام.. وأشياء أخرى كثيرة متعلقة بهذا الموضوع..

بادرني الأستاذ مصطفى أمين قائلا:

- والله شوف.. السجن لوحده مؤلم.. ولكن أسوأ ما فيه رغم ما يسببه من آلام نفسية ناجمة عن حبس الحرية.. هو أنظمة السجون في بلادنا.. فأول شيء يقابل الإنسان داخل السجن أن يجرد من كرامته.. لأنه لا يسمح لك بحمل ساعة أو فلوس أو ملابس أو أي شيء آخر.. ألم أقل لك إنهم داخل الجدران يجردون الإنسان حتى من كرامته.. إنهم يعطونك رقما بدلا من الاسم.. ويظل المسجون يتحرك داخل جدرانه المرتفعة والمرعبة تحت وطأة هذا الرقم.. فالإنسان المصري بشكل عام يتحول داخل السجن إلى إنسان بلا كرامة..

لذا لابد أن تكون للمفكرين سجون خاصة بهم.. فليس من المعقول أن أضعهم مع غيرهم من مرتكبي الجرائم الأخلاقية أو جرائم القتل وتجار الحشيش وأصحاب السوابق وقطاع الطرق.. والشيء الذي نظري خلال الفترة التي قضيتها خلف هذه الجدران أن مفهوم السجين السياسي لم يكن موجودا لا في اللوائح ولا في عقول المشرفين عليه .. وكثيرا ما كانوا يعاقبون أهل الكفر بوضعهم في العنابر الموبوءة بالأمراض خاصة مرض الجرب.

وبشكل عام.. إن حالة السجون في مصر كانت سيئة للغاية.. لذا حين خرجت كثيرا ما كتبت مطالبا إعطاء مراتب للمساجين .. وأبلغوني أنها عممت.. ولكنني غير مصدق .. لأنني طالبت من عدة وزراء داخلية بعد خروجي من السجن بزيارة سجون مصر فرفضوا طلبي..

وهذا بالطبع يجرنا إلى سؤالك عن أننا يمكن أن نعتبر السجون في مصر الآن وسيلة ناجحة من وسائل التأديب.. أم أنها تساعد على توالد الجريمة وزيادتها.. وأقول لك.. إن السجون بوضعها الحالي.. تزيد من أعداد للمجرمين .. فهي عكس ما يقولون .. ليست تهذيبا ولا تأديبا.. وربما يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب.. أولها أن السجانين أنفسهم أغلبهم غلاظ القلوب.. رغم أن منهم آدميين ويتصفون بالرحمة، ولكن للأسف عددهم قليل ..

ولقد تقابلت مع النوعين.. الوحوش والآدميين.. واكتشفت أن الفرق بينهم كالفرق بين الإنسان الحيوان .. ويحضرني عنا قصة سمعتها كثيرا تتردد داخل السجن.. فقد كان هناك ضابط من هؤلاء الوحوش.. همه الأول في الصباح والمساء تعذيب وضرب المساجين.. وكان عنده عسكري " مراسلة" حكى لنا أن هذا الضابط كانت تضربه زوجته كل يوم في الصباح.. فيبدو أنه كان يعكس علينا معاملة زوجته السيئة له..

• ما هو تصور الكاتب الصحفي والمفكر الكبير مصطفى أمين عما يجب أن يكون عليه السجن في مصر.. وخاصة بالنسبة للمفكرين ؟..

- أولا لازم تعرف أنه في كل البلاد الحرة، لا يوجد ما نسميه نحن بالسجون السياسي.. ولا تجد صحفيا أو كاتبا أو صاحب رأي في السجن.. لكننا نشاهد مثل ذلك وأكثر في البلاد غير الديمقراطية.. وما دمنا غير مكتملة الديمقراطية ولا نستطيع أن تكون دولة ديمقراطية بنسبة 100% في الوقت الحاضر، فلابد وأن نكون ديمقراطيين حتى 80% مثلا.. ونقيم سجونا خاصة بالمفكرين والسياسيين حتى لا نضع السياسي مع المجرم ودعني أذكر لك.. أن هذه السمات غير الديمقراطية التي أثرت على أوضاع السجون كانت أيضا قبل الثورة وأذكر لك مثالا على ذلك.. زمان.. محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية حكم عليه بالسجن المؤبد وألحقوه بالعمل داخل السجن.. مكوجي.. والأستاذ توفيق دياب عمل ترزيا داخل السجن..

إنني آمنت دائما بأن لا مستقبل لمصر إلا بالديمقراطية .. وكلما أصيبت الديمقراطية بأزمة أو نكسة تضاعف هذا الإيمان.. إن الآمال العظيمة لا تتحقق إلا بتضحيات عظيمة..

مصر عرفت الديمقراطية عدة مرات ، وفقدت الديمقراطية عدة مرات أيضا.. ولم ييأس هذا الشعب .. لقد طالب عمر مكرم بالديمقراطية .. وطلب أحمد عرابي بالديمقراطية .. وقام الشعب بزعامة سعد زغلول يدعو لحكم الشعب وبأن الأمة مصدر السلطات.. إنني متفائل جدا بمستقبل بلادنا على عكس ما يرى الآخرون.. ولعلك تلاحظ أن من سمات عدم وجود الديمقراطية في مصر الآن بشكلها المتكامل والمتعارف عليه حضاريا .. أن المفكر أو الصحفي أو السياسي لا يعتقل ولا يسجن إلا بقرار من رئيس الدولة؟. والمفروض ألا يقبض على المفكر وصاحب الرأي إلا بقرار من المحكمة.. ويحاكم أمام محاكم مدنية وليست عسكرية.. إن ثبت تورطه في أي جريمة من الجرائم التي ينص عليها القانون المدني. كما تلاحظ كذلك أن الإفراج عن المفكر المعتقل لا يتم إلا بقرار سياسي كما تم من قبل اعتقاله بقرار سياسي..

وهناك ظاهرة طيبة تدل على أننا نسير في الطريق الصحيح نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام آدميته.. هو أن عدد المسجونين السياسيين والمفكرين خلف القضبان قد قل كثيرا في أيام الرئيس السادات لأنه أفرج عن عدد كبير منهم فور توليه الحكم.. وأيضا في هذه الأيام قلت ظاهرة اعتقال المفكر بشكل ملحوظ.. حتى وصلت إلى أدنى معدلاتها.. وقد بدأ الرئيس مبارك فترة حكمه بالإفراج أيضا عن المسجونين السياسيين وأهل الفكر..

ولابد أن يكون واضحا لك ولغيرك .. أن الدولة حين تتفرغ للحكم على الفكر وتقبض عليه وتسجنه.. معناه أن الدولة قد تحولت إلى سجان.. وكل البلد تحولت إلى سجن كبير ليس للمفكر فقط.. بل لجميع الناس، وهذا يدل دلالة واضحة على وجود خلل ما في المجتمع لأن الفكر لا يحاكم وكذلك أصحاب الرأي.

• في كلمات تلغرافية.. ماذا يقول الأستاذ مصطفى أمين للمفكر المصري.. وكذلك للمسئولين عن السجون؟

- أقول أولا للمفكر إنه يجب أن يعرف أنه ما دامت هناك ديمقراطية ناقصة فهو معرض في أي لحظة وفي أي يوم أن يدخل السجن.. لذلك عليه من الآن .. توظيف عقله وفكره وقلمه من أجل العمل على تحسين معاملة المسجونين.. وللمسئولين عن السجن أقول : أذكركم بأن بعض الذين وضعوا لوائح السجن في مصر دخلوا السجن وطبقت عليهم.. فليتعظوا.

الآن توقف دوران شريط التسجيل.. كي أعيده على الوجه الآخر .. الوجه الذي حكى لي فيه المفكر الصحفي الأستاذ مصطفى أمين حكاية عصابة تهريب الورق والقلم التي كونها.. ونجح من خلال أعمالها المتقنة أن يوصل صوته غلى خارج السجن، وبالتالي نجح في تهريب أكثر من تسعة آلاف رسالة.. وأكثر من كتاب..

وبعد لحظات صمت جاء صوت مصطفى أمين يحدثني، وكأنما يشدو بأغنية يعشقها.. ولم أكن أتخيل في لحظة من اللحظات أن يعترف لي هذا العملاق أنه كان في يوم من الأيام زعيم عصابة..

- حينما منعوني من الكتابة فكرن أن أهرب الخطابات.. فقمت بتأليف عصابة من بعض المسجونين غير السياسيين.. واخترتهم بدقة من المظلومين، لأنني أعتقد أن المظلوم هو أكثر شجاعة من غيره.. هؤلاء اخترتهم من أجل تهريب ما أكتبه خارج السجن.. وحين تسألني كيف.. فلذلك قصة طويلة.. لقد كونت هذه العصابة في سجن طرة وهو آخر سجن أقمت به.. وكنت فيه أقيم في زنزانة بالدور الرابع.. وقبل حكاية التفاصيل أقول لك إنني تنقلت في أكثر من خمسة سجون.. سجن الاستئناف.. والسجن الحربي وسجن المخابرات وسجن القناطر وأخيرا سجن طره.. وفي كل سجن كنت أقضي بعض الوقت .. في السجن الحربي مثلا أقمت أربعة أشهر.. وفي سجن الاستئناف ستة أشهر.. وكذلك سجن القناطر قضيت به عدة أشهر.. أما في سجن طره فقد قضيت بقية المدة..

- وفيه تكونت هذه العصابة التي تعتبر عصابة من نوع خاص.. نوع شريف لتهريب الأفكار.. كما ذكرت لك كنت نزيل الزنزانة الأولى بالدور الرابع.. وكان في نفس الدور نزيل آخر بالزنزانة رقم (14) رأين فيه السجين المظلوم الذي زج به في السجن معنا بعد اتهامه في قضية ثأر ظلما.. والشيء العجيب أنه كان رجلا أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة.. وقد اخترته نائبا لزعيم عصابة تهريب الخطابات لهذا السبب، بحيث لا يكون موضع شك من جانب المسئولين عن السجن فيما يقوم به من مهام أكلفه بها.. وكل دوره أنه كان يهرب لي الورق والقلم عن طريق استلام هذه المهمات وتسليمها إلى بقية المساجين أعضاء العصابة الآخرين الذين وزعتهم على بقية أدوار السجن .. ومهم من كانت زنزانته قريبة من الزنزانة التي أنزل بها..

كنا خمسة مساجين .. أنا والرجل الأمي وثلاثة آخرون في بقية الأدوار.. يحتل كل واحد منهم الزنزانة الأولى في الدور الذي يقيم به..

هؤلاء كانت مهمتهم إطلاق كلمة السر المتفق عليها بيننا وبصوت نسمعه جميعا حين تبدأ حملات التفتيش.. وعلى الفور تختفي الأوراق والأقلام وتزحف من يد إلى يد حتى تصل إلى الزنزانة (14) التي يقيم فيها نائب زعيم العصابة والذي كما قلت لم يكن يقرأ أو يكتب، وبالتالي كانت زنزانته بعيدة عن ذهن رجال السجن الذين لم يقوموا ولو مرة واحدة بتفتيشها.. وهكذا كنت أكتب وأهرب الورق إلى نائب زعيم العصابة.. الذي يحتفظ بها حتى تحين فرصة تهريبها إلى الخارج.. وكان ذلك يحدث رغم أنهم كانوا يفتشون زنزانتي مرتين في اليوم وبلا مواعيد مسبقة..

• وما هي كلمة السر التي كان متفق عليها؟..

- كانت اسم ضابط سجن طرة سابق اسمه أحمد عبد الرحمن..

• ولماذا هذا الضابط بالذات..

- لأنه كان مشهورا بوحشيته وجبروته.. وكان اسمه يخيف أي مسجون..

وخلال هذا الحوار الذي قارب على الانتهاء كنت أتعمد أن أثير قضايا كثيرة ومتنوعة.. وكنت أفترض أن الأستاذ مصطفى أمين سوف يعترض عليها.. ولكنه كان يجيب في سماحة والابتسامة لا تفارق شفتيه.. مثلا سألته لو أصبح في يوم وليلة مأمورا لأحد السجون.. ماذا سيفعل مع هؤلاء الضيوف المساجين من المفكرين والمجرمين.. كما افترض فيه أن يكون في يوم من الأيام رئيسا للوزراء أو وزيرا للداخلية، وسألته عما سيكون موقفه من المفكرين وقضايا الفكر بشكل عام..

بادرني بقوله:: أولا لو كنت مأمورا للسجن .ز أطلق جميع المسجونين .. حتى المجرمين منهم.. لأنني أعتقد أن المسجون ما هو إلا مريض في حاجة إلى علاج.. وأعتقد أن علاجه لا يكون بحبسه أو سجنه.. أما بخصوص حكاية رئيس الوزراء أو وزير الداخلية.. فأولا أنني لا أصلح للوزارة، أو أن أكون وزيرا.. أنا فقط أصلح صحفيا وكاتبا.. ومع ذلك سيكون موقفي من الفكر والمفكرين ألا يسجن هؤلاء الين يحملون هذه الرسالة العظيمة رسالة الفكر والرأي.. وحتى لو كانت أفكارا معارضة.. لأن التغلب على الفكر المعارض لا يتم بالسجن.. بل يعرض أفكار أخرى مؤيدة.. وأنا أذكر لك بالمناسبة واقعة حدثت عام 1934 حين كان سعد زغلول رئيسا لوزارة مصر ووزيرا للداخلية، وجاءه مدير المطبوعات ومعه كتاب لمؤلف كبير عنوانه " لماذا أنا ملحد ؟ " .. وطلب مدير المطبوعات تكليف عشرة مؤلفين من الأزهر بمصادرة هذا الكتاب فرفض.. وطلب من مدير المطبوعات تكليف عشرة مؤلفين من الأزهر لتأليف كتاب بعنوان" لماذا أنا مؤمن؟" وبناء على ذلك رفض مصادرة الكتاب المذكور.. وبالفعل تم تكليف هؤلاء المؤلفين وصدر الكتاب الجديد الذي محى آثار الكتاب الأول..

وهكذا لابد من معالجة الأفكار بالأفكار.. وليست بالسجون.. لذلك لا أوافق أبدا على اعتقال أي مفكر حين أكون على الفرض في المنصب الذي طلبت مني أن أتخيل نفسي فيه..

• على الفرض ونحن نتحدث الآن وعبر التليفون طلب أحد الذين عذبوا الأستاذ مصطفى أمين مساعدته في أمر إنساني .. ماذا تقول له؟

- إذا كان داخل السجن أساعده.. ولكن خارج السجن أرفض.. وقد عشت هذا الموقف.. حين جاءني إلى مكتبي أحد الضباط الزبانية الذين عذبوني بقسوة وكان قد فصل من الخدمة.. والشيء المضحك أنه جاءني لأساعده في العودة للخدمة من جديد.. طبعا رفضت بشدة..

• وأخيرا .. هل تريدون إضافة كلمات أخرى؟..

قاطعني ضاحكا وعدل سؤالي بقوله: لازم تقول: هل لديك أقال أخرى.. ثم أجاب: أحب أقولك بكل صدق .. إن فترة السجن السابقة لم تكن لي أياما سوداء.. عكس ما يتصور الكثيرون منا.. لقد كانت دروسا طيبة خرجت بها عبر ثماني سنوات ونصف.. كما أحب أن أؤكد.. أن الفكر المصري الحديث لا يمكن أن ينتعش إلا في ظل احترام حقوق الإنسان عندئذ يصبح الفكر المصري حرا طليقا يعانق السماء السابعة.. ولا يتحقق ذلك بأمانة إلا في ظل ديمقراطية سليمة 100%.


الحكاية الثانية : محمود السعدني

الحكاية الثانية يرويها محمود السعد ني:

الولد الشقي .. يكتشف

حياة أخرى داخل السجن؛؛

رغم أنني قضيت معه أكثر من ساعتين.. في شرفة منزله المطل على نيل الجيزة. ونسمات الصيف تداعب الأوراق.. وتصنع بهمسات اللمس فوق الزجاج.. سيمفونية بدائية .. تعزفها هوائيات غجرية تطير هنا وهناك.. ورغم أنني قد تمكنت خلالها من تسجيل لقاء حيوي وحوار عاشت كلماته داخل أسوار السجن العلية.. إلا أنني أخذت أبحث جديا عن كلمات أخرى خارج هذا الحوار تكون مدخلا لرحلتي هذه داخل عقل المفكر والكاتب الصحفي " محمود السعدني" .. واكتشفت أن الولد الشقي قد سجل تجربته الطويلة في عالم السجون في كتاب واحد.. صدر له بعنوان " الولد الشقي في السجن"..

وعرفت حينما تقابلنا أنه ينوي أن يضيف تجاربه الأخرى خارج السجن وداخله في كتاب جديد.. لم يصدر حتى كتابة هذه السطور..

إن كلمات الأستاذ " محمود السعد ني" .. عن تجربة السجن في حياته كمفكر وكإنسان تكاد تكون طبق الأصل لحياته التي قضاها فوق الكرة الأرضية .. طولا وعرضا .. تعلو به الظروف.. ثم سرعان ما تعود به إلى ما كان عليه من قبل.. ولا أنوي هذه المرة أن أفصح عن تفاصيل أسئلة هذا الحوار.. فقد آثرت أن يجهد القارئ عقله في استنباط الأسئلة من خلال تتبع واع لحديث الولد الشقي.. وحتما لن يبعد حديثنا كثيرا عن موضوع هذا الكتاب.. الفكر والقضبان.. وكلمات أخرى يحتفظ بها الآن شريط التسجيل.. في انتظار اللحظة التي أعطى له فيها إشارة البدء.. ولكنني وكما قلت منذ لحظات في البداية الآن تفسح لها الطريق في كلمات سطرها الأستاذ محمود السعدني .. ولن نفصح عن عنوانها.. أو عنوان الكتاب الذي قرأنا فيه تلك الكلمات.

وكأنما كان يقرأ أفكاري قبل أن أذهب إليه حسب الميعاد المتفق عليه بيننا.. فقد قابلتني كلماته التي علقها فوق جدران منزله.. ومن الغوص داخل معانيها.. عرفت الطريق الصحيح نحو الحوار الذي دام ساعتين في أحد أيام الصيف.. تقول هذه الكلمات:

- " لقد سجنت عدة مرات.. ولكن لم تتح لي الظروف أن أرى السجن الحقيقي إلا في المرة الأخيرة.. فقد قدر لي أن أتعرف على عالم كنت سأذهب إلى قبري حزينا لو مت دون أن أراه.. واكتشفت أن السجن جزء من الحياة، وما يجري خارج الأسوار يجري مثله وبالضبط في السجن، وإذا كان خارج السجن أثرياء يموتون من التخمة، وفقراء يموتون من الضيم.. وإذا كان في الخارج أصحاب نفوذ وأبناء أكرمين وأبناء كلب.. وإذا كان هناك تسيب وسرقة ونهب ونصب، وإذا كان هناك فساد وأشياء لا ترضي الله ولا العباد.. ففي السجن أيضا تدور هذه الأشياء بالتمام والكمال وتركيز أشد مع فارق بسيط، هو أن نزلاء السجن أصدق وأشرف..

وفي تواصل مستمر لما كتبه " الولد الشقي". وما تناوله هذا الحوار.. وجدنا نقطة التقاء غريبة.. لعبت المصادفة دورها العظيم في ترتيبه.. فقد اكتشفن وأنا أعيد سماع الشريط من أجل تفريغه .. أن بداية الحوار كانت هكذا:

• نريد من الكاتب الساخر والمفكر الصحفي الكبير الأستاذ محمود السعدني أن يحدثنا عن تأثير تجربة السجن والاعتقال في حياته كمفكر وصاحب رأي أولا.. وكإنسان ثانيا؟..

- شوف السجن في حياة الإنسان حادث مؤسف.. يعني أسوأ من المرض، إنه أسوأ شيء في حياة الإنسان.. وليس من سلوكيات البشر.. وإلا فكيف تحبس شخصا ما وتتركه وحيدا وتنصرف عنه.. إن الحبس معناه أن تعزل هذا الشخص عن العالم.. إنها عقوبة يمكن أن تكون أشد خطرا على حياة البشرية من الجريمة التي ارتكبها الإنسان في حق نفسه وحق مجتمعه .. وفي تصوري أن الإعدام خير من السجن.. وأهون منه إلا إذا كان السجن فترة قصيرة.. شهرا أو شهرين.. في هذه الحالة يكون عقوبة مفيدة. إن السجن بعيد عن هذا المفهوم يحول الإنسان إلى حيوان.. لأنه بين يوم وليلة يجد نفسه بين أسوار عالية في عزلة تامة عن العالم .. وبين حراس وضباط..

إنه عالم آخر.. وحياة أخرى غير الحياة التي يعتاد عليها الإنسان.. أو الإنسان الذي ليس حيوانا.. ورغم أن السجن شيء صعب جدا.. إلا أنه من وجهة نظري لابد للإنسان أن يجربه بشرط أن يكون فترة قصيرة.. وتجدني شديد الأسى والأسف لهؤلاء المفكرين والصحفيين الذين قضوا فترة طويلة داخل السجن.. وعلى سبيل المثال المرحوم الكاتب الصحفي صلاح حافظ الذي عاش 9 سنوات متصلة في السجن، وقد دخلت عليه مرتين.. ولم يفقد فيهما روحه ومرحه..

وتستطيع أن تقول أيضا إن السجن هو اختراع إنساني سخيف.. وهو إجراء قديم قدم الإنسانية.. استخدم كثيرا لعقاب المفكرين والمعارضين وأصحاب الرأي والمجرمين.. مع ذلك فإن الجريمة كما هي لم تتغير ولم يستطيع الإنسان رغم تقدمه أن يقضي على الجريمة أو المجرمين.. من أجل ذلك بدأت بعض الدول الأوربية التفكير في تغيير أسلوب مقاومة الجريمة بغير السجون.

• يجرنا هذا الحديث غلى أن نسأل الأستاذ محمود السعدني عن عدد المرات التي دخل فيها السجن؟..

- أنا دخلت السجن 4 مرات.. أول مرة سنة 1944 أو 1945 عندما أقيلت حكومة الوفد وكنت وقتها تلميذا في المرحلة الثانوية بمدرسة ما زالت موجودة إلى الآن في ميدان لاظوغلي وتسمى " المعهد العلمي" .. وأنا أذكر تفاصيل هذا الاعتقال وسببه.. حيث كان بمناسبة ترشيح ناظر المدرسة واسمه مصطفى.. الذي بدأ في استخدام طلبة المدرسة في الدعاية الانتخابية وكان مرشحا مستقلا بجانب تمسكه بمبادئ حزب الهيئة السعدية.. وكان دوري في تلك الفترة.. أن أخرج التلاميذ وأنظمهم في مظاهرات.. وبالفعل اشتركت في لجنة الدعاية لمبادئ المدرسة التي شكلت برئاسة ضابط المدرسة والذي ما زال يعيش حتى الآن واسمه إبراهيم الحريري.. وهو رجل من أهالي عابدين الأشداء والمعروفين بالرجولة.. وكان من بين أعضاء اللجنة شاب اسمه عبد السلام صار فيما بعد حانوتي القلعة.. وآخر اسمه النواوي صار فيما بعد من كبار الجزارين بالمذبح .. وهؤلاء الذين ذكرت لك أسماءهم ظلت علاقتي بهم.. وانقطعت تقريبا منذ عام 1969..

في هذه الفترة قمنا بمظاهرات طلابية ضخمة ضايقت الحكومة إلى درجة الاشتباك بالأيدي مع مؤيدي مرشح الخصم.. فدبروا لنا مكيدة وعن طريقها قبضوا علينا.. ونقلونا إلى قسم السيدة زينب داخل الحجز.. ولأول مرة أدخل إلى قسم بوليس .. ولأول مرة أعرف ما اصطلح على تسميته بالحجز.. وبداخله تعرفنا على المجرمين .. وكنت وقتها في الثامنة عشرة من عمري.

المهم مكثنا طوال الليل.. وطول النهار.. وبعد يومين أعلنوا نتيجة الانتخابات ونجح ناظر المدرسة مصطفى عبد الهادي الذي صار فيما بعد صهر الملك فاروق.. حيث تزوجن ابنة أخته " ناريمان" الملك فاروق.. والذي توسط لدى مأمور السجن للإفراج عنا.. وخرجنا من حجز السيدة زينب.. وبعد الخروج لم أكن أتصور وجود مثل هذا المكان على وجه الأرض.. بهذه القذارة وبهذا السوء لقد قضيت بداخل هذا الحجز أربعة أيام.. خفت بعدها من السجن جدا..

أما في المرة الثانية.. فقد قبضوا على بعد أن أنهيت تعليمي.. وكنت وقتها مراسلا صحفيا في السويس لجريدة النداء لتغطية معارك القناة عام 1952.. معارك الفدائيين . وقتها دخلت في معارك عديدة قبل إتمام إلقاء القبض على في هذه الفترة.. وكنت وقتها في سن الخامسة والعشرين وكان معي في هذه الفترة مجموعة كبيرة من الصحفيين لتغطية معارك القناة وفي السويس قضيت أربعة أشهر وعندما نويت أن أغادرها .. عرفت أنه مطلوب القبض على.. وقد أبلغني بذلك أحد الضباط الوطنيين وأذكر اسمه الأول محمد ولا يزال يعيش حتى الآن.. وله ورشة بلاط في بور سعيد..

هذا الضابط الوطني كان يعلم تمام العلم أنني على خلاف مع بعض الضباط الكبار الذين كانوا يتعاونون مع الإنجليز والذين اتهمتهم علاني بعدائهم للمصريين وتعاونهم مع الإنجليز المحتلين لمصر آنذاك.. ووفقا لاقتراح الزميل الصحفي حمدي عبد العزيز. تقدمت لمحافظة السويس بطلب أثبت فيه أنني أحمل سلاحا بدون ترخيص من أحل أن يقبضوا على ويتم ترحيلي في حراسة إلى القاهرة بعيدا عن شبح الاغتيال والقتل الذي كان ينتظرني من هؤلاء الضباط الذين حكيت لك عنهم منذ لحظات. . ولكن ذلك لم يحدث.. كما تصور حمدي وأصر محافظ السويس أن أبقى بالمدينة من جديد في أمان.. إلا أن بعض الضباط المصريين الوطنيين وأذكر منهم ضابطا اسمه الصاغ زكي جبران اقترحوا أن أخرج من السويس حفاظا على حياتي عن طريق مركب.. ووقتها طلبوا مني مبلغ ستة جنيهات من أجل إتمام عملية الهروب هذه .. وبالفعل تم ذلك ووصلت عن طريقها إلى الإسكندرية.. ومنها إلى القاهرة التي وصلتها بعد الحريق.. وفور وصولي إليها تم إلقاء القبض على العبد لله بسبب ( حريق القاهرة) .. فدخلت حجز أحد الأقسام.. ومكثت هناك سنة وشهرا بالضبط وقد قاسيت خلالها ألوانا من التعذيب..

وقاطعته قائلا:

• وما هي التهمة يا أستاذ محمود؟..

- دا كان اعتقال.. ولا يقولون لك السبب.. ولم يكن يتم بمحاكمة ، المهم رأيت بعيني كيف يكون التعذيب على أصوله.. والشيء الغريب أنني في البداية كنت آخذ هذه المسألة " هزار في هزار".. لأنني كنت غير متصور حتى هذه اللحظة أنه سيفرج عني بسرعة.. وثانيا لأنني شاهدت ألوان التعذيب بل وتعرضت لها كثيرا. وأكثر من ذلك هناك في الواحات عهدوا إلينا بأشغال شاقة ومرهقة.. وتصور لقد كسرنا زلط الجبال هناك.. وحملنا الطوب والرمل فوق أكتافنا.. من أجل ذلك كنت أعتبرها فترة هزلية.. رغم أنها كانت أسوأ فترة اعتقال وسجن وتعذيب مرت علي..

• وتفتكر دا كان المقصود؟ ..

- وقتها كانت هناك معركة شرسة بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم.. وفي فترة الطفولة السياسية آنذاك انضم جزء من المفكرين المصريين إلى عبد الكريم قاسم حاكم العراق ضد جمال عبد الناصر.. المهم أن جمال عبد الناصر قد اعتقل هؤلاء ممن يعتنقون الشيوعية وكذلك المشتبه فيهم.. وكنت أنا من الصنف الثاني. ولحظتها كان النظام الناصري في عنفوانه.. وأنا أذكر وأنا داخل معتقل الواحات أن الدنيا قد تحولت في لحظة بالنسبة لي إلى مسرحية هزلية سخيفة.. والدليل أنهم كلما كانوا يضربونني كنت أضحك.. أقهقه.. لقد انتابني حالة من الهستريا..

ومن الواحات رجعت غلى سجن الفيوم حيث أقمت فيه أربعة أشهر ومن الفيوم أفرجوا عني.. يعني تقدر تقول مدة السجن هذه كانت سنة وستة أشهر أو ما يقرب من ثمانية عشر شهرا.. وقتها خرج معي لطفي الخولي الصحفي المعروف والدكتور لويس عوض.. بل أقول لقد خرجت بصدع شديد وإحساس بطعم آخر للحياة.. والسبب ربما كان يرجع إلى مقارنتي الدائمة بين الحجز في الأقسام وما كنت أراه فيه من قذارة ومجرمين.. وبين السجن والمعتقل وما قاسيت فيه من تعذيب وإهانة ولعلك تتعجب حين أقول لك إن السجن رغم ما كان فيه .. هو بالقياس أنظف من ذلك الحجز الذي حدثتك عنه منذ قليل.

المهم خرجت من هذه التجربة صاحب مرض مصحوب بحالة هستيريا أنقذني منها الدكتور أنور المفتي الله يرحمه.. وقتها امتنعت عن الكتابة.. وخاصمت العمل الصحفي.. ورفضت ما عرضه على الأستاذ إحسان عبد القدوس آنذاك.. لأنني بالفعل فضلت أن أجلس في بيتي هذه الفترة.. وبأمانة كنت أذهب إلى روز اليوسف أقبض مرتبي فقط.. حتى أقنعني الكاتب الروائي فتحي غانم أن أكتب بابا بعنوان " هذا الرجل" .. كانت تكتبه من قبل الزميلة فوزية مهران في مجلة صباح الخير.. هذا العمود بأمانة هو الذي أرجعني إلى الحياة من جديد.. ورويدا رويدا نسيت السجن وأهواله وعدت إلى الصحافة ومتاعبها وبدأت إخراج كتبي ونشرها.. وسافرت إلى الخارج.. واستمرت حياتي هكذا حتى عام 1971.. بعد وفاة جمال عبد الناصر.. وانتخاب الرئيس السادات..

تلك الفترة التي بدأت بالتحقيق معي في الاتحاد الاشتراكي آنذاك والتي قيل وقتها تلفيقا إنني اعتقلت بسبب اشتراكي في مؤامرة لقلب نظام الحكم..

• إذن ما هي حقيقة الاعتقال الأخير.. وأسبابه ؟ .. باعتبار أنه المرة الأخيرة التي دخل فيها الولد الشقي السجن..؟

- كل ما في الأمر أنهم ضبطوا في الجيزة أوراق انتخاب أنور السادات أكثر من عدد المسجلين في الدفاتر وحين سألوا المسئول آنذاك وهو على ما أذكر اسمه محمود عفيفي.. كيف تضع بطاقات انتخاب لأنور السادات بأسماء مزورة وغير موجودة بالكشوفات قال لهم.. محمود السعدني هو اللي قال لي.. فاستدعوني للاستفسار عن هذه الواقعة فأجبتهم بأنني الذي قلت له ذلك.. وأنا أذكر أيامها أنه كانت هناك مشكلة بين السادات وفريد عبد الكريم وأنا خفت يحدث أي تقصير في الجيزة فيقع اللوم على فريد عبد الكريم.. وعندما لاحظت أن أحدا لم يأت للانتخابات.. اقترحت إضافة أسماء وهمية وغير موجودة بالكشوفات..

وأمام أحد المحققين اعترفت أنني المسئول عن هذه الواقعة.. لأنني كنت أود أن ينال السادات أغلبية مطلقة بمحافظة الجيزة حتى أضمن عدم إحداث صدام بينه وبين فريد عبد الكريم.. هذه الواقعة كانت في أكتوبر.. وبعد 6 أشهر تم إلقاء القبض علي بتهمة الاشتراك في مؤامرة قلب نظام الحكم.. ولعلمك حينما ضبطوا شرائط المكالمات بيني وبين فريد عبد الكريم آنذاك وجدوا بها شتائم لا أكثر ولا أقل.. ولأنها كانت شتائم خارجة لم يذكروها في المحكمة.. المهم في النهاية دخلت السجن لمدة سنتين.. قضيتهم كالآتي: 3 شهور في مستشفى كلية الشرطة.. ثم 5 أشهر في السجن الحربي.. أما الباقي فقد قضيته في سجن القناطر الخيرية بالقاهرة.. وقابلت فيه حثالة المجتمع المصري من مجرمين ونشالين وقتلة ومكدس بأعداد كبيرة من كل الأصناف إن جاز هذا التعبير.

نعود إلى الحديث مع الولد الشقي عن أحوال السجن من خلال تجاربه الشخصية في هذا المجال؟..

- شوف .. اسمع.. أنا سوف أحدثك عن السجن في آخر فترة قضيتها فيه.. وهي فترة سجن القناطر.. ومن قبل حدثتك عن مثل ذلك في بقية السجن الخاصة بالقناطر.. أقول لك.. إنني كمسجون سياسي كنت في زنزانة مستقلة عن باقي المجرمين الآخرين.. وكانت هذه ميزة كبيرة رغم أنها كانت في أغلب الأحيان سجنا انفراديا.. وهناك فئات أخرى غير المساجين السياسيين كانت لهم أوضاع خاصة داخل سجن القناطر.. وعالمه الخاص أغرب مكان رأيته على ظهر الأرض لما فيه من تناقضات لا يصدقها غير الذي عاشها..

وأحب أن أؤكد لك أن أسوأ شيء واجهته في السجن.. هو الانتظار.. ليس انتظار الإفراج .. ولكن الانتظار لأنك لا تعرف ما الذي سيأتي به الغد.. ومع ذلك فإنني أؤكد لك أن هذه الفترة التي قضيتها في السجن أيام الرئيس السادات قد أفادتني كثيرا..

• ولكن كيف يا أستاذ محمود؟..

- أقول لك. حتى أيام السجن في عهد عبد الناصر أيضا أفادتني لأنه لم يكن مسموحا لنا بالقراءة ولا بالكتابة، فيما عدا قراءة الكتب الدينية لذا أقبلت على قراءتها كلها.. حتى الكتب الدينية المسيحية واليهودية.. وقد استفدت جدا لأنني بمساعدة بعض النزلاء تمكنت من الحصول على بعض كتب التراث مثل كتاب الأغاني وخلافه.. وعلى فكرة يوجد بالسجن مكتبة ضخمة أسسها من قبل الشيوعيون والإخوان المسلمون الذين سجنوا هناك.. وتحضوني قصة لطيفة متعلقة بقراءاتي داخل السجن.. ففي أحد الأيام ذهبت إلى المكتبة أبحث في دفاترها.. فاكتشفت وجود أجزاء كتاب " قصة الحضارة" وبعد بحث طويل.. اكتشف المسئول عن هذه المكتبة أن الكتاب غير موجود وأن أحد المساجين قد استعاره من قبل.. على كثرة عدد أجزائه..

ومرت الأيام .. وكلما أذهب للمسئول عن المكتبة أسأله عن أجزاء كتاب قصة الحضارة اكتشف أنها ما زالت مستعارة.. ولما شككت في الأمر طلبت مقابلة السجين الذي استعارها.. فقالوا لي إنه مقيم في عنبر (ب) بالدور الثالث بالزنزانة (17) .. واسمه أحمد قطقط .. مسجون مخدرات.. ومحكوم عليه بخمس عشرة سنة سجن.. ولما سألته عن الكتاب .. أبلغني أنه يستخدمه مخدة ينام فوقها .. لقد كان هذا الرجل ينام فوق قصة الحضارة.. لقد كانت فترة السجن الأخيرة فترة ثقافة إجبارية..

• طوال هذه الفترات التي اعتقلت خلالها.. هل تم اعتقالك وفقا لأصول قضائية.. أو بمعنى آخر.. هل حكمت عليك إحدى المحاكم المدنية بالسجن؟ .. أم كيف كان يتم ذلك؟..

- لا .. أنا لم أحاكم أمام محاكم مدنية إلا خلال عملي الصحفي أو ما يتعلق به.. أما بقية الاعتقالات فكانت تتم وفقا لمحاكم عسكرية.. وأيام الرئيس السادات حوكمت أمام محكمة تسمي " محكمة الثورة" كان يرأسها القاضي حافظ بدوي الله يرحمه.. وكنت أعرفه قبل دخولي السجن.. وكان فيها أيضا حسن التهامي.. وفي هذه المحاكمة حكموا على بالسجن سنتين.. ونفذ على الفور بتهمة الخيانة العظمى.. يعني أنا كنت قائدا عظيما وربما لم أكن أعرف..

وعلى أية حال أنا لم أخن مصر طوال حياتي ولن يحدث.. وبعد انتهاء مدة السجن خرجت فوجدت قرارا في انتظاري بعدم عودتي إلى عملي.. وبإبعادي عن الصحافة تماما.. فاشتغلت أياما مع عثمان أحمد عثمان في المقاولون العرب.. وبعد فترة رفضت مواصلة العمل مع المهندس عثمان أحمد عثمان لأنني لم أتحمله.. ولبت ضرورة أن يحل الرئيس السادات مشكلتي وإلا سوف أترك مصر.. وبالفعل حينما لم أعد إلى عملي الصحفي.. تركت مصر لمدة 9 سنوات .. ثم عدت بعدها.. وبدأت الحياة مرة أخرى .. وأنا أتمنى ألا تعود هذه الأيام من جديد لأنني اكتشفت أن السجن المتكرر تجربة سيئة وخاصة تجربة السجن في بلدنا.. لأنها تجربة تزيد جرعة الإجرام ولا تقضي عليه بالقدر المتعارف عليه..

وهذا الحديث يجرنا لسؤالك عن أحوال السجن.. وأقول لك إني اكتشفت تفرقة مريرة في المعاملة داخل هذه الجدران العالية كما اكتشفت وجود المسجون الثري المبسوط.. والمسجون الآخر المعدم والفقير.. وأنا أذكر لك على سبيل المثال.. إنه في يوم من الأيام طرق أحد المساجين على باب زنزانتي طالبا " حسنة يا بيه" .. والسبب ربما يرجع إلى أنه كانت توجد عصابات داخل السجن من المسجونين أنفسهم تستولي على الأطعمة والأغطية ولا تعطى إلا لمن يدفع.. وكنت أحد هؤلاء الملتزمين بالدفع فقد كنت أصرف أربع علب سجاير في الشهر لمثل هؤلاء حتى أضمن الغذاء النظيف والخدمة الجيدة..

• وهل يعتقد الأستاذ محمود السعدني أن هذه الظواهر الغريبة ما زالت موجودة في سجون مصر الآن..

- لا أستطيع أن أؤكد لك ذلك.. لأنني لم أدخل السجن في هذه الأيام.. وثانيا أنا لم أعد أعرف أحدا يقيم الآن في السجن.. فقد تركت السجن منذ ثمانية عشر عاما.. وأحب أن أؤكد لك أن هذه الصور كانت موجودة حتى خرجت.. لقد كان المسجون المصري يعيش حقيقة في محنة.. ولابد من تدارك هؤلاء .. لأنهم موتى على ظهر الأرض يتحركون.. ولا تستفيد منهم البلاد.. وهذا يجعلني أتساءل لماذا لا نقيم سجونا أخرى جديدة تلحق بها ورش ومصانع ومزارع يعمل بها هؤلاء المساجين حتى يتحولوا إلى بشر منتجين ونقضي على البطالة بينهم داخل هذه الجدران العالية، ولماذا لا نعطي المسجون بعض عائد هذه المشروعات كي يرسلها إلى أهله في خارج السجن حتى يضمن أن بيته لن يهدم بعد دخوله..

وخلاصة القول لابد من وجود نظرة جديدة للسجون المصرية.. بحيث تتحول إلى أماكن منتجة.. نقطة أخرى أقولها لك بهذه المناسبة.. أنه لابد من فصل إدارة السجون والإشراف عليها بعيدا عن وزارة الداخلية.. بحيث تنتهي علاقة لسجون إلى وزارة العدل.. لأنه حين ارتضيت أن يكون سجينا فلابد من احترامه والبعد عن تعذيبه وإهانته .. لأن المسجون الذي تهان كرامته داخل السجن يخرج من أجل أن ينتقم من المجتمع..

• معنى ذلك أن الولد الشقي.. يرى السجن ليس هو الوسيلة المناسبة الآن لعلاج ظاهرة الإجرام؟..

- طبعا .. وأقول لك ليه.. أنا الآن وبعد أن ترددت على جميع السجون الحربية منها والمدنية.. وبعد أن ذقت جميع أنواع الصفعات والشلاليت ومارست الأشغال الشاقة في صحراء الواحات.. أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير إن السجن ليس رادعا وليس وسيلة للعقاب ، لقد اخترع الإنسان السجن ليقضي على الجريمة، ولكن ها هو السجن قائم.. والجريمة موجودة يسيران معا جنبا إلى جنب.. ولا يلتقيان، كأنهما شريط سكة حديد يكملان بعضهما ولا يتعارضان .. واعتقد أن الإنسان لابد أن يسعى لاختراع بديل إذا أراد أن يقضي على المجرمين والإجرام..

وشيء آخر أن نزلاء السجن في بلد كمصر هم لا يتغيرون، بدليل أن المجتمع ثابت لا يتحرك والأوضاع السائدة فيه تجعل الناس شيء بقطع الشطرنج.. ثم شيء آخر.. وأخيرا لقد كان القصد من بناء السجن كما هو مكتوب عليه بحروف بارزة أعلى البوابات وعلى الأسوار " السجن تأديب وتهذيب وإصلاح" ولكن يبدو أن الأعمال ليست بالنيات في مصلحة السجون.. لأن السجن تحول بالفعل إلى تحطيم وتعذيب وإفساد..

وتسألني شخصيا ماذا استفدت من السجن؟.. وأقول لا شيء.. فالسجن ليس تجربة مفيدة.. لأن التجربة الحقيقية في الخارج، حيث الحياة عريضة والحركة سريعة. والاختبارات متعددة، ولكن السجن يوما واحدا ممل ومكرر وكثيب..

• أستاذنا محمود السعدني ..هل تأذن لي بسؤال .. عن كيفية معالجة الرأي المعارض أو الرأي الآخر؟ .. بعيدا عن عقوبة السجن..

- إذا كنا نؤمن بالديمقراطية ، فلابد أن نؤمن بالمعارضة.. ويكون لها نفس حقوقها.. وأنا أذكر لك مثلا بسيطا.. أنا توا قادم من بريطانيا ووقتها كانت هناك استعدادات لإجراء الانتخابات العامة .. ورأيت حزب العمال في كل قنوات التليفزيون يحاول فضح سياسة حزب المحافظين.. حزب الحكومة.. وقد حدث ذلك دون أدنى تدخل من أية جهة من الجهات التابعة لحزب المحافظين الحاكم.. لإيمانهم أن وسائل الإعلام هي ملك للشعب وليست ملكا لأي حزب من هذه الأحزاب..

وبالتالي فإن الشعب هو صاحب الاختيار، هذا ببساطة هو مفهوم المعارضة.. بعيدا عن شبح الاعتقال أو السجن لأصحاب الأفكار المعارضة للحكومة.. والسجن في هذه الحالة لا يكون إلا للمعارض الذي يحمل السلاح.. أما المعارضة بالفكر والرأي والقلم والندوات والمؤتمرات فلا غبار عليها.. ومسموح بها لكل أفراد الشعب.. ولكنك حين تحمل السلاح فلابد وأن تواجه بالسلاح.. هذه هي أزهى عصور الديمقراطية التي أحلم أن تكون في مصر. فيكون لكل مصري الحق في أن يقول كلمته.. وأن يكون له أيضا حق تكوين الأحزاب.. لأن الديمقراطية الحقيقية ليست حقا إلهيا لأحد فالحكم لمن يختاره الشعب والجماهير. وبناء على ذلك فيكون لكل مواطن حق إنشاء جريدة يقول من خلالها رأيه ورأي من يمثلهم.. ما دام ذلك يتم في حدود القوانين واللوائح ووفقا للدستور والعرف الموجود..

وأحب أن أؤكد لك أننا رغم وجودنا على بداية الطريق الديمقراطي إلا أننا بالنسبة للدول العربية الأخرى متقدمين جدا في هذا الميدان.. وهذه شهادة لوجه الله .. إنها بالفعل واحة الديمقراطية بالنسبة لبقية الدول العربية الأخرى.. إننا في مصر نعتبرها باريس الشرق العربي.. حتى في عهد عبد الناصر وعهد السادات.. ورغم قسوة ما يراه المسجون السياسي في مصر .. إلا أن ما يقاسيه لا يضاهي أبدا ما يتعرض له الإنسان العربي في سجون العراق وغيرها من الدول العربية.. وعلى وجه الخصوص في العراق في مختلف العهود والعصور..

ولسوف اضرب لك مثالا واحدا لما يحدث في مصر الآن.. إننا جميعا أصحاب رأي ومفكرين.. نختلف مع الحكومة وننتقدها بقسوة.. ومع ذلك لم يدخل واحدا منا السجن.. ولا نتصور أن هذه هي الديمقراطية التي نحلم بها.. إن هذا النوع من الديمقراطية هو أن يكون لكل فرد منا حرية تكوين الأحزاب وإصدار الصحف.. وكذلك حرية الانتخابات دون التدخل من أي جهة من الجهات.. لأننا جميعا نعمل من أجل شعب مصر.. والفيصل في الاختيار وصناديق الاقتراع.. وإنني أحلم بوصولنا لهذه الدرجة من الديمقراطية قريبا.. ووقتها لن نجد مسجونا سياسيا أو معارضا صاحب رأي داخل المعتقلات ، وسوف يقتصر هذا الأمر على الإرهابيين الذين يتحاورون بالسلاح.. وبالفعل تجد مثل هؤلاء الإرهابيين هم ضيوف السجون والمعتقلات في بريطانيا أن الديمقراطية الحديثة.. وأنا أقول لك أيضا إن ما حدث في الاتحاد السوفيتي من انهيار الشيوعية مرجعه غياب الديمقراطية..

• نعود إلى اللقطات الإنسانية في رحلة السجن الكبرى التي صاحبت حياة الولد الشقي .. ونسأل..

• هل تعرف محمود السعدني على شخصيات داخل السجن ما زال محتفظا بصداقتها حتى بعد الخروج؟.. وما هي الشخصيات الغريبة التي ما زالت عالقة في ذهنه داخل هذا العالم؟..

من هذه الناحية.. هناك أصدقاء كثيرون.. أذكر منهم مأمور ضرائب اسمه الأستاذ محمود.. وكانت هوايته الكبرى الأكل.. وما زالت علاقتي به قائمة حتى الآن نتزاور من حين لآخر.. فكان يحب الزبيب ولحوم البط، ودائما يوصيني بضرورة أن يبعثوا إلينا بما يحتاجه من هذه الأصناف في كل زيارة، وكان محكوما عليه بثلاث سنوات.. وقد تركته داخل السجن وخرجت قبله.. هو الآن محاسب كبير..

أما الشخصية الأخرى.. فهو شاب ظريف جدا تعرفت عليه داخل السجن حكم عليه في تهمة قتل عمد.. والقتلة في السجن عادة محترمون أو.. موهوبون .. لأنهم غير مجرمين مثل النشالين وغيرهم.. ويحضرني هنا موقف غريب من جملة سمعتها بعد دخولي سجن القناطر بيومين .. فقد شاهدت اثنين من المجرمين في خناقة حامية.. وكل واحد يقول للآخر: " عيب دا احنا مجرمين ومس لازم نتخانق أمام الأفندية دول".. هذه العبارة ظلت لاصقة في ذهني طويلا.. واكتشفت أنها حقيقة فعالم المجرمين مختلف تماما عن عالمنا نحن.. عالم المسجونين السياسيين وعالم القتلة الذين كثيرا ما يتميزون بالنظافة والنظام ولم لا ؟..

فكل واحد منهم على الأقل محكوم عليه بخمسة وعشرين عاما .. إنها حياة كاملة.. ولا يعلم وقت الخروج أو متى سيكون؟.. وأذكر أن الولد اسمه فتحي.. ويعمل الآن بإحدى المحلات بشارع الصحافة.. بجوار أخبار اليوم ونلتقي سويا من آن لآخر.. ففي العيد نلتقي .. ويفطر عندنا في رمضان مرة واحدة..

• لو أن أحد هؤلاء طلب منك أن تساعده أو تقدم إليه خدمة هل تسارع في تلبية هذا الطلب؟

- مفيش كلام. أساعده فورا .. ليس هذا فقط بل العساكر وضباط البوليس الذين ما زال بعضهم على علاقة بي حتى الآن.. وأنا أذكر أنه كان يحرسنا في فترة السجن الأخيرة حوالي تسعين ضابطا ثلاثة وثمانين منهم يمكن أن تزنهم بميزان الذهب.. و7 ضباط يعني تقدر تقول مش قد كده ومن هؤلاء الضباط الأوفياء على ما أذكر ضابط اسمه إبراهيم العزازي.. رجل بمعنى الكلمة.. وقد خرج على المعاش الآن برتبة لواء ويعمل في الكويت.. وفي كل زياراتي للكويت لابد وأن يزورني .. وآخر اسمه نبيل البرقوقي مدير كلية الشرطة للضباط المتخصصين السابق.. وثالث اسمه حسين حميدة .. وهو الآن برتبة لواء.. وقد التقينا منذ فترة قصيرة.. وللأسف لم أعرفه ولكنه عرفني بنفسه وتبادلنا الضحكات والذكريات..

• وما هي ذكريات محمود السعدني مع الجلادين داخل المعتقل؟

- ولا حاجة.. تقابلت مع بعضهم خارج السجن.. ولم نتبادل أي حديث.. وأنا أعرف واحدا منهم كان اسمه الأول حلمي وكان شخصية غير مرغوب فيها إطلاقا من جانب كافة المسجونين السياسيين.. ورغم وصوله إلى أعلى المناصب.. إلا أنني أعتبره لا ينفع في أي منصب من هذه المناصب الكبيرة.. وقد تقابلنا في مرة من المرات أثناء إحدى سفرياتي في داخل مطار القاهرة.. والتقينا لقاء فتور.. وبالطبع كان يعرف أنني محمود السعدني.. وثالث ضابط بوليس لا داعي لذكر اسمه.. أيضا التقيت به.. وكان من هؤلاء الضباط الأشرار.. وكما ذكرت لك فإن أغلبية الضباط الذين تعرفن عليهم آنذاك كانوا ضباطا أشرافا ورجالة.. وظلت علاقتهم قوية ومستمرة حتى بعد انتهاء مدة ا لعقوبة.. ولابد من ذكر المرحوم فريد شينيشن مأمور سجن الواحات الذي لم يسمح في فترة وجوده من قتل أي مسجون أو دفنه حيا.. كما كان يحدث قبله.. رغم قسوته فكان منصفا وحازما في الوقت الذي مات فيه الكثيرون من مساجين سجن أبو زعبل في ذلك الوقت.. هذا الضابط ظلت علاقتي به دائمة ومستمرة حتى وفاته.. حيث كان مديرا لأمن الدقهلية ثم رئيسا لمجلس مدينة جمصة.. وعايز أقول لك إن أغلب هؤلاء الجلادين كانوا " صولات" ثم ترقوا.. وكان عليهم أن يثبتوا كفاءتهم في ميدان التعذيب داخل السجن.. لو قلنا .. كم كتبا ألفه الأستاذ محمود السعدني داخل السجن؟ - لم أكتب حرفا داخل السجن..

• لماذا ؟ ..

- أولا.. أيام سجن عبد الناصر ..كان ممنوعا علينا القراءة والكتابة.. وفي سجن القناطر أيام السادات.. كان علينا أن نقرأ فقط باعتباري أحد المحكوم عليهم في قضية الخيانة العظمى التي حدثتك عنها من قبل.. وكان بالسجن مأمور أعرفه سابقا.. لذا لم أجد مشكلة في التعامل داخل الجدران العالية من هذه المرة معه.. وقد أبدى استعداده لتلبية كل طلباتي من الشاي والقهوة والأطعمة. إلا الورق والقلم.. فقد قالها لي بصراحة.. ( ممنوع الورق والقلم.. وإلا هنزعل من بعض) .. واتفقنا على عدم مطالبتي بالورق والقلم .. واستجابتي الكاملة لكل أوامره داخل السجن طلبا لراحة العقل والدماغ.. لكن مع ذلك كتبت بعض الكتب داخل السجن.. بس في دماغي.. مثلا كتاب " الولد الشقي في السجن" .. كونت فكرته في رأسي أيام السجن.. وكذلك كتاب " مصر من تاني" .. وعندما خرجت أفرغت ما في رأسي من أفكار داخل الكتب التي صدرت فيما بعد..

• ولو سألنا .. كم كتاب .. أو كم فكرة كتبها الولد الشقي بعد خروجه من لسجن تأثرا بهذه التجربة .. ماذا تقول؟

- هو كتاب واحد.. " الولد الشقي في السجن" .. وكتاب آخر أنشره مسلسلا بإحدى المجلات الأسبوعية اسمه " الطريق اللي مشي" عن فترة سجن الواحات.. وقد كتبته بعد هذه الفترة الطويلة من منطلق نظرية خاصة بي وهي أن مثل هذه الأحداث لابد وأن يكتبها المفكر بعد فترة زمنية طويلة، لأنه بالفعل لن يبقى في الذاكرة من هذه التجربة إلا ما يستحق أن يكتب فوق الورق.. والباقي سوف ينساه ..

• هل يعتقد الكاتب الصحفي محمود السعدني أن فترة السجن بالنسبة للمفكر يعتبرها فترة سوداء في حياته أو فترة بيضاء؟..

- إذا كانت متعلقة بمسألة سياسية فهي نقطة بيضاء ووسام يعلقه فوق صدره.. ما دام غير مجرم أو حرامي.. ولا مختلس أو قواد.. إنها تجربة رهيبة جدا.. فلابد من أن تكرم المفكر وتقيم له التماثيل وتعطيه الأوسمة لا أن تضعه في السجن.. وأحب أن أقول لك إن جميع كتاب ومفكري مصر جاءت عليهم فترة زمنية سجنوا جميعا إلا قلة قليلة جدا.. مثل فتحي غانم وموسى صبري ولطفي الخولي ويمكن أنيس منصور أيضا ومصطفي أمين.. كل هؤلاء وغيرهم ذاقوا مرارة هذه التجربة ..

ولعلك سوف تسألني عن ارتباط أسر اعتقال هؤلاء المفكرين بتوقيع رئيس الدولة.. وأقول لك بأمانة .. أنه زمان بالفعل كانت أوامر الاعتقال لابد وأن يوقعها رئيس الدولة، وربما يرجع السبب إلى سهولة هذه الطريقة لأن اعتقال أي إنسان مسألة صعبة جدا..بجانب أنهم لا يعتقلون إلا المفكر صاحب الرأي المؤثر في قطاع عريض من الجماهير والذي له علاقة بأمن الدولة.. وهذا لا يعني أن الكاتب أو المفكر كان له قيمة .. أبدا.. كانوا يقبضون عليه يضربونه ويعذبونه بقسوة.. وكل ما في الأمر أن رئيس الدولة كان ولابد أن يوقع على هذه الأوامر حتى يطمئن على عملية القبض على هؤلاء ويستريح من عناء أفكارهم ومشاكلهم لأنه كان يتصور أنهم أعداؤه.. ولابد من التخلص منهم ومحاربتهم بشتى الطرق.. واسمح لى أن أقول لك إنني رغم حبي لجمال عبد الناصر فقد اعتقلني كما رويت لك من قبل، ولم أكن ضده في يوم من الأيام ، ولو تسألني لماذا حدث كل ذلك .. أقول لك لا أعرف السبب أو الهدف..

وعلى فكرة .. أود أن أشير إلى حقيقة هامة هي أنه حينما تغيب الحرية وتسود الدكتاتورية .. يكثر اعتقال المفكين.. ويزج بهم داخل السجون والمعتقلات.. ولو كنت مكان رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو حتى مكان وزير الداخلية.. وعرض على كشف بأسماء مفكرين مطلوب اعتقالهم.. ومع الفرض أن ذلك لم ولم يحدث.. فإنني كنت سوف أوقع على هذا الكشف بالتنفيذ لأنني أؤمن أنهم وهم في أماكنهم هذه يرون أشياء لا نراها نحن الذين نجلس خارج السلطة..

وتقديرهم للأشياء غير تقديرنا.. ولو كنت مكانهم.. يجوز كنت مفكر مثلما يفكرون وربما أتخذ نفس إجراءاتهم.. وهذا للأسف من صنع الأجهزة المعاونة.. والحاكم الذي يعطي أذنه للأجهزة لا يكون عادلا.. وأضرب لك مثلا بعبد الناصر الذي أسلم قياد نفسه إلى تلك الأجهزة اللعينة التي قضت عليه في النهاية.. لأن بعض الضباط من رجال الثورة تصوروا أنفسهم أنهم جاءوا للقضاء على الملكية وإحلال ملكية أخرى.. هي ملكية كل منهم.. بحيث تحولوا في النهاية إلى أمراء وباشاوات مصر.. كله ينهب.. وكله يسرق.. وطبعا كان على رأسهم المشير عامر.. ومكتبه وشلته.. وعاشوا ولا الملوك الأوائل.. وللأسف انساق عبد الناصر معهم بكل قوته وعقله.. لأنه كان يعتبرهم مماليكه الخاصة..

ولا نبخس قدر أحد .. لذلك أقول أنه رغم ذلك.. كان من هؤلاء الضباط رجال لهم شرف وكرامة .. وعلى سبيل المثال شعراوي جمعه والذي اعتبره من أشرف الرجال الذين عرفتهم طوال حياتي ومحمد فايق وسعد زايد.. وعلى فكرة لو أن جمال عبد الناصر جاء من خلال جماهير الشعب لتغير موقعه تاريخيا رأسا على عقب.. ولتربع على عرش أبطال مصر الذين يشرفون تاريخ مصر طولا وعرضا..

• أنا أعرف أنني قد أثقلت على الولد الشقي بالأسئلة ولكثرتها ولطولها.. لذا أرجوك العفو.ز وأن تسمح لي بسؤال آخر يقول:

• ماذا لو كان محمود السعدني مأمورا لسجن القناطر أو الواحات أثناء فترة اعتقال كاتب مثل محمود السعدني..؟

- لو كنت مأمور السجن في فترة اعتقال محمود السعدني.. كنت أول حاجة سوف أقوم بها هي أن أضرب محمود السعدني.. وتعرف لماذا ؟ لأنني في منصب المأمور.. وشغلته في الأصل أن يضرب المسجونين لأن السجن في الأصل مؤسسة عقابية.. يعني مهمتي كمأمور سجن أن أضرب المعتقلين كعقاب لهم..

وعلى فكرة العقاب ينتج عقابا وللأسف الذي ينتج هذا العقاب ليس المأمور أو المدير.. ولكن عساكر السجن.. الذين اعتبرهم أسوأ فئة خلقها ربنا.. وقد عرفت أحدهم وكان يدعى " على حرب" الله يرحمه بقى دلوقت.. كان مشهورا بعصاه الغليظة وقلبه الميت.. واكتشفت وأنا داخل السجن أن أغلب هؤلاء العساكر من أيام زمان.. تقد تقول من أيام حيدر باشا.. بل قدم من ذلك كمان..

ولهؤلاء العساكر عذرهم.. فقد كان الواحد منهم يتقاضى مثلا 13 جنيها في الشهر.. فكيف كان يعيش.. وأنا أذكر لك بالمناسبة أنهم أيام عبد الناصر.. اتفقوا مع خبير يوغسلافيا لدراسة أحوال السجون المصرية فبعد أن لف على كل السجون كتب تقريرا يقول فيه : أنا حتى هذه اللحظة لا أعرف كيف يعيش المسجون المصري داخل هذه السجون ؟ .. وأنا أقترح أن تتركوها كما هي الآن .. لأنه لا حل لها.. إن السجون في مصر سيئة جدا ومسئولية خطيرة جدا.. ولابد من نظرة جذرية لحالة السجون حتى لا تفرز مجرمين آخرين.. وحتى تؤدي دورها في علاج المجرم بدلا من أن تساعده على العودة إلى عالم الإجرام..

كما يكون دورها أن تحول المجرم إلى مواطن صالح يخدم المجتمع بدلا من أن تنتقم منه .. لأنني أعتبر أن هذه المشاكل هي أخطر ما يواجهنا على طريق التنمية.. فكل واحد منا معرض أن يدخل السجن لأي سبب في أي لحظة .. فإذا دخله بالوضع الذي كان عليه .. حتما سيدخل مرة أخرى وثالثة ورابعة.. ولا تتخيل أنني حين أكون مأمور سجن سوف أصلح.. أبدا.. لأن المأمور أو المدير يعمل وفق لوائح وقوانين مفروضة عليه..

ولعل اسمه يدل على وظيفته .. إنه يا سيدي مأمور.. ووفقا لذلك لابد من تغيير هذه اللوائح والقوانين .. ولا تتخيل أنه توجد بهذه اللوائح ما يسمى بعلاوة الإجرام .. تصور يكافئون المسئول داخل السجن بعلاوة وزيادة في المرتب كلما زاد إجرامه.. وأنا أعتقد أن مثل هذه الصور الآن بدأت تتغير كثيرا.. كما أعتقد أن هناك رغبة أكيدة لدى المسئولين لتطوير سجون مصر وتحويلها إلى أماكن منتجة تساعد المسجون في حياته داخل السجن وخارجه.

• وهل يوجد في مصر الآن مسجون سياسي؟..

- أبدا.. فعلا مصر الآن خالية والحمد لله من المساجين السياسيين.. ولا أعتبر لموجودين الآن داخل السجن من أفراد جماعات التطرف من هذا الصنف.. لأنني سبق وقلت إن المفكر السجين السياسي هو الذي لا يستخدم السلاح.. وإذا لجأ إلى السلاح فإنه يتحول إلى إرهابي .. وبالتالي لابد من مقاومته بالسلاح أيضا..

وهذا القول لا ينطبق على أناس بعينهم أقول لك أي واحد يحمل السلاح فقد خرج من تصنيف المسجون السياسي وصاحب الرأي ، وتحول غلى مقاتل وإرهابي.ز ولعلمك لا توجد جماعة عبر التاريخ حملت السلاح ووصلت إلى السلطة.. لأن السلاح يولد السلاح.. والنتيجة هي الحرب.. ويا قاتل يا مقتول.. التاريخ يقول ذلك.. إنني أبعثها رسالة من خلال هذا اللقاء أقول فيها لابد أن نتحاور باللسان والقلم..


الحكاية الثالثة: د. عبد الصبور شاهين

الحكاية الثالثة يرويها د. عبد الصبور شاهين:

لم يستطع السجن أن ينزع

ما بداخلي من أفكار

كنت وما زلت مثل المئات غيري.. بل إن شئت قل مثل الآلاف من البشر الذين يتابعون بين الحين والآخر أستاذنا العالم الجليل الدكتور عبد الصبور شاهين ويلاحقون علمه الغزير الذي يفيض علينا وينقله إلينا من عدة منافذ ، ما بين منابر المساجد وموجات الإذاعة وشاشات التليفزيون .. وكانت علاقتي به قبل إجراء هذا الحوار مثل هؤلاء الذين يتشوقون إلى متابعة أعماله وسماع صوته الرزين الذي يدل على أصالته وعلمه وشدة إيمانه..

وفجأة احتل هذا العالم الجليل كل كياني.. وبات شغلي الشاغل ليس من حيث علمه وأماله ومؤلفاته المتنوعة.. بل من حيث هو إنسان عاش وقاسى وجرب.. وأيضا دخل السجن.. فما أقسى هذه الكلمة على النفس.. ولكنها الحقيقة المرة التي لفحت وجهي.. وأنا أعد هذه السلسلة الطويلة من الحوارات .. وتساءلت في داخلي.. عن البداية لأنني وكما سبق أن قلت.. إن أسخف عبارة اكتشفتها منذ تفكيري في إجراء هذه الحوارات.. أن أقول لضيفي .. العالم الجليل أو الصحفي الكاتب المفكر أو أستاذ الجامعة حامل مشاعل العالم والنور كم مرة دخلت فيها السجن؟

ومنذ نجاحي في الحصول على تليفون منزله.. وأنا أراجع نفسي وأحاول أن أختار الكلمة تلو الأخرى.. وتوكلت على الله في القيام بالمحاولة الأولى.. وجاء صوت الدكتور عبد الصبور شاهين رجل الدين المثقف عبر الأسلاك الصماء.. هادئا فيه رقة الأب نحو ابنه.. وأقولها بصدق لقد شجعني على المضي قدما فيما أقدمت عليه.. وعرضت على مفكرنا الجليل فكرة الحوار.. ومضمون موضوعه والهدف منه.. صحيح أنني لم أحصل على موافقة سريعة.. ولكني أخذت وعدا بالاستجابة لفكرتي حين معاودة الاتصال .. وقد كان .

ومما ساعد على سرعة إجراء هذا الحوار.. أنني في حديثي عبر التليفون ذكرت للدكتور عبد الصبور .. أن أحد أصدقائه الأعزاء هو الذي حكى لي جزءا من حكايته في السجن.. عندئذ خرج صوته الهادئ يضحك.. مصمما على أن يراني كي يحكي لي هو التجربة.. واتفقنا على موعد اللقاء.. وكان اللقاء في منزله القابع في بداية شارع الهرم ناحية محافظة الجيزة.. وداخل شقته حيث الأثاث الأنيق والاستقبال الحافل وأكواب الليمون التي قوبلت بها عند باب الصالون.. والجلباب الأزرق الذي يفضل أن يجلس به عندما يفرغ من عمله وعلمه..

وبعد لحظات الاستقبال المعتادة.. انتقلنا إلى الصالون الكبير الذي تحيط به تحفا إسلامية نادرة.. كان أبرزها سجادة باكستانية كثيرا ما حدثنا عنها أستاذنا العالم الجليل .. وعندما فكرنا بنية تصويره كي تكون الصورة مصاحبة لحديثه معنا.. انتقل على الفور إلى حجرة نومه.. حيث استعد ببدلة جميلة.. وهنا اكتملت كل مظاهر الود والحب.. وبات الاستعداد وشيكا من أجل تشغيل شريط التسجيل كي يسجل لي ولكم وقائع كلمات هذا الحوار.. وتجربة أحد علماء مصر ومفكريها مع السجن والاعتقال..

في هذه المرة بالذات.. وعند تسجيل هذا الحوار.. وجدت نفسي أتحدث بكلمات اعتذار كثيرة لإحساس أنني قد أثرت في نفس محدثي شجون الماضي التي ربما عفى عليها الزمن.. وخشيت أن أصيب بداخل مفكرنا الألم وإعادة نزيف جرح قديم.. وعلى ذلك تصورت أن مثل كلمات الاعتذار هذه ربما تخفف من وقع ما سوف يأتي من أسئلة.. وللمرة الثانية أحسست بصلابة الدكتور عبد الصبور شاهين وترحيبه الزائد عن الحد من أجل أن أبدأ ا لحديث.. وحتى لا يشعرني بمزيد من الحرج بادرني قبل أن أسوق إليه أسئلة الحوار..

في الحقيقة هناك أمران.. الأمر الأول: أن ما كان هو من اختيار الله سبحانه وتعالى.. وما اختاره الله هو الخير .. حيث قال أحد المريدين لشيخه أسأل الله لك العافية.. قال له إن العافية ما اختار الله سبحانه وتعالى ورسولنا الكريم حينما سأل ربه العافية من عليه بأكلة خيبر.. وهي الشاة المسمومة التي قيل إنها أحد أسباب وفاته صلى الله عليه وسلم ..

أما الأمر الثاني أن كثيرين ممن أعرفهم ذاقوا ويلات السجن أكثر مني.. ولا يحبون أن يتحدثوا عنه.. وأنا شخصيا أعذرهم وألومهم لأن دخولنا السجن لم يكن لعيب فينا ولم يكن لقضية شخصية.. حتى نقول إننا لن نتحدث خوفا من الرياء وضياع الأجر.. لقد كان دخولنا السجن لقضية البلد.. لقد كانت قضية فكر هدفها رفض الدكتاتورية.. ومن أجل ذلك ينبغي أن يعرف شباب مصر أن بها رجالا وعلماء قد رفضوا العيش في ظل الدكتاتورية وهي في عنفوانها .. وأن هؤلاء الرجال ما زالوا رجالا.. لم يستطع الطاغية أن يؤثر على قدراتهم وعطائهم الفكرية ما داموا قادرين على العطاء وإبداء الرأي والفكر..

ليسمح لي أستاذنا الداعية الإسلامي والمفكر الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين أن أقول إن الألم ما زال يعتصرني حين أسأل بصراحة كم مرة دخل فيها أستاذنا السجن؟

- ثلاث مرات .. أول مرة في عام 1954 وبالضبط من أكتوبر حتى منتصف ديسمبر عام 1954.. أيامها كنت في الليسانس وكان عمري وقتها 26 عاما.. وقد سبق اعتقالي في تلك الفترة هروب طويل في الشوارع.. خوفا من أهوال السجن.. كنت أعيش في القاهرة، وبالضبط في الإمام الشافعي وأهرب في عابدين.. والسبب يرجع إلى انتمائي إلى الإخوان المسلمين.. وفور حل الجماعة في عام 1954 بدأ مطاردة العناصر النشيطة بالجماعة وكنت وقتها من هذه العناصر.. حيث تم إغلاق مسجد الشاطبي الذي كنت أخطب فيه.. وبذلك أصبح لا موضع لي إلا السجن ، فهربت ..

ومن كثرة حالات هروبي وتنقلي هنا وهناك أشفقت على مكن كنت أهرب عندهم، لإحساسي بما لديهم من حرج حين أبيت عندهم، فعدت إلى بيتي في الإمام الشافعي وهناك وجدت المخبر ينتظرني فاستسلمت له.. وذهبت معه إلى السجن.. واعتقلوني لمدة أربعة أيام أو خمسة على ما أذكر.. وحين خرجت من السجن دخلت امتحان الفصل الدراسي الأول، في أول تجربة لتقسيم سنوات الدراسة إلى عدة فصول.. وكان من ذلك أن يبتعد الطلبة عن السياسة.. وهذا ما كانت تهدف إليه حكومة عبد الناصر.

أما الاعتقال الثاني فكان في 25 مارس عام 1955.. وكنت الأول على دفعتي في الفصل الدراسي الأول.. وبقيت بالسجن غلى آخر فبراير عام 1956.. ثم دخلت الفصل الدراسي الثاني.. فتخرجت من دار العلوم في نفس العام متأخرا عاما عن زملاء الدفعة بسبب هذا الاعتقال .. ومكثت خلالها أحد عشر شهرا ما بين سجون القلعة وسجن قنا.. حين أخرجوا تجار الحشيش ووضعونا بدلا منهم.. أي والله.. لقد كنا نشم رائحة الحشيش داخل الزنزانة.. من تأثير وجود هؤلاء التجار قبلنا.. وفي المرة الثالثة سجنت عام 1965.. وكنت وقتها قد حصلت على الدكتوراه.. ومكثت بالسجن آنذاك أربعة أشهر.. وكانوا يطلقون على حينئذ معتقل بدرجة دكتوراه..

• ما هو تأثير تجربة السجن خلال هذه المرات الثلاث على أستاذنا المفكر الدكتور عبد الصبور شاهين.. أولا كمفكر وثانيا كإنسان .. وثالثا كمصري؟

- أولا يجب أن نفرق بين حالتين .. حالة أن يكون الإنسان داخل السجن وحالة أن يرى الإنسان نفسه داخل السجن وهو خارج السجن فالرؤية هنا تختلف .. فأنت داخل السجن تعيش بإحساس غريب يجعلك لا تريد أن تخرج منه.. والسبب يرجع غلى أننا كنا نشعر ونحن داخل السجن أننا في أمان.. وقد لا ينطبق هذا الإحساس على المرة الأولى حيث كنت محتجزا بقسم الخليفة.. ولكن في المرة الثانية وهي مدة الأحد عشر شهرا تلك التي قضيتها داخل الاعتقال بدون سبب أو اسم أو عنوان أو أي هوية.

وأنا أتذكر حين وقع الاعتقال .. أنهم قد دخلوا غلى بيتي ليلا وأنا أذاكر تحت لمبة جاز وطلبوا مني الذهاب معهم لمدة خمس دقائق.. وبعدها استمرت الحبسة لمدة أحد عشر شهرا .. وفي المرة الثالثة على ما أذكر اعتقلت وأنا كنت مشرفا على أحد معسكرات الطلبة بحلوان.. وقتها كنت أستاذا بكلية دار العلوم وكنت ممثلا لها في الإشراف على هذا المعسكر الذي أقيم تحت رعاية الاتحاد الاشتراكي.. واعتقلت في ظروف اعتقال الداعية الإسلامي المرحوم سيد قطب.. لحظتها كنت أبيت تحت الخيمة .. وفي الصباح جاءوا حيث أنام .. وألقوا القبض علي.. وأنا سوف أقول لك شيئا مضحكا بهذه المناسبة.. إن هذا المعسكر قد أقيم كما ذكرت تحت إشراف الاتحاد الاشتراكي ، واشترك فيه الطلبة وأساتذة الجامعة من الذين تصوروا أنهم يؤيدون الثورة المباركة ومبادئها الاشتراكية.. وحقيقة لا أعرف كيف اختاروني وعلى أي أساس.. ربما جاءوا بي إلى هذا المعسكر كي يكون من السهل عليهم اعتقالي وبعد أربعة أشهر أفرجوا عني..

أعود وأقول لك .. إنني في تلك الفترة كنت أرحب بالسجن أكثر من وجودي خارجه.. لإحساسي بالأمان وأنا بداخله.. وقتها التقيت داخل السجن خاصة الاعتقال الأخير.. بالأستاذين كمال رفعت والدكتور عبد العزيز كامل.ز وقد جيء بهما من أجل القيام بعملية غسيل مخ لكل المعتقلين.. وطبعا وأنا منهم رغم أنني وكما سبق أن قلت لك كنت حاصلا على الدكتوراه.. وعندما أحسوا بذلك.. قدموا لنا الاعتذار.. وبعد نهاية اللقاء طلبت منهم أن يتوسطوا لدى المسئولين حتى لا يفرجوا عني .. رغم أنني كنت في غاية الشوق للخروج.. فأثار طلبي هذا تعجبهم واستياءهم عندئذ أكدت لهم.. أنني حين أخرج سوف أعيش في سجن آخر.. إذى أفضل العيش هنا في هذا السجن الصغير بدلا من السجن الكبير.. هذا السجن الذي تعودت عليه.. لأنني حين أخرج سوف يراقبونني ويضايقونني في حياتي وفي معيشتي.. بجانب أنني سوف اشعر بعزلتي السياسية .. لأنني كنت محروما من الإدلاء بصوتي..

خلاصة القول. كنت سوف أفقد حريتي.. غذ أنا هنا أعيش في أمان أكثر .. بعيدا عن الشعور بالمطاردة .. وكنت قد جربت تأثير ما بعد الاعتقال على حياتي في الفترة التي أعقبت المرة الثانية التي اعتقلت فيها عام 1956 وهي آثار خطيرة جدا..

مثلا .. كنت في الفرقة الرابعة من الليسانس.. وحين تخرجت بكلية التربية .. وكنت وقتها في حاجة إلى أن أعمل كي أعيش وعلى ذلك حاولت كثيرا أن أجد عملا.. فكنت أتقدم للمسابقات التي يعلن عنها في الوظائف الحكومية.. ورغم أنني كنت أتفوق على زملائي المتقدمين الآخرين في نفس الوظيفة.. إلا أنهم كانوا يرفضون تعييني.. وفي مرة من هذه المرات تقدمت لمسابقة مترجم بالإذاعة عام 1957.. وحصلت وقتها على المركز الأول.. ومع ذلك رفضوا تعييني..

إنني وقتها كنت متفوقا في اللغة الفرنسية التي أتقنتها في فترة اعتقالي.. واستطعت وأنا داخل السجن أن أترجم بعض الكتب الإسلامية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وعلى وجه الخصوص للمفكرين الجزائريين .. ومرة أخرى دخلت امتحان الملحقين السياسيين بالجامعة العربية رغم أنني كنت من خريجي دار العلوم لأنني دارس الحقوق السياسية ومتفوق كذلك في اللغة الفرنسية.. وأيضا لم أوفق في الالتصاق بهذا العمل.. وقد تتعجب حين أقول لك إنه في المرة الأولى التي دخلت فيها امتحان الإذاعة .. خرجت علينا مجلة الإذاعة .. خرجت علينا مجلة الإذاعة والتليفزيون بأسماء الناجحين في الامتحانات.. وكنت أنا الأول ثم أمين بسيوني وآخرون..

وقبل أن يقرروا تعييني .. طلبوني بالمباحث العامة.. من أجل أن أعلن توبتي وتنصلي من أفكار الإخوان المسلمين.. حتى يوافقوا على هذا التعيين.. فرفضت .. ورفضوا هم كذلك.. بل أبلغوني بأن هناك أكثر من ذلك.. فما دمت متمسكا بأفكاري هذه فلن أعثر على أي مكان في مصر.. خوفا من تأثيري المدمر على الثورة على حد تعبيرهم لقد أصدروا حكا بإعدامي فيما يتعلق بلقمة العيش..

من هذه اللحظة كان على أن أعتمد على نفسي لأنني وقتها كنت متزوجا وأعول.. وما داموا قد أعلنوا عن هذه النية فلا رجعة عنها من جانب حكومة الثورة.. وأحب أن أؤكد لك أنني في هذه الفترة رغم اشتغالي بالفكر السياسي إلا أنني كنت مهتما بالعلم ومتفوقا فيه.. خاصة في اللغات الأجنبية وهي التي نفعتني في هذه الشدة من منطلق إحساسي أن رجل السياسة لابد وأن يتفوق في مجالات حياته المختلفة .. ولإيماني بأن الزعيم يجب أن يكون أكثر الناس ثقافة وفكرا بخلاف ما اعتدنا عليه طوال التاريخ من أن يكون الزعيم متخلفا من منطلق أن الزعامة لا تفرضها غوغائية الشوارع.. بل تفرضها إمكانياتهم وكفاءتهم ودورهم في خدمة الآخرين..

ولا تتصور تأثير هذه المواجهة على حياتي .. حين أبلغونني بهذا القرار.. من ناحية كان المفروض على وقتها أن أخرج من مصر مثلما خرج غيري من العلماء والمثقفين أمثال الدكتور يوسف القرضاوي وآخرين.. أخرج هروبا وبحثا عن لقمة العيش.. ولكنني أصررت على البقاء رغم هذا التحدي ولن أترك مصر.. وعلى ذلك فكرت في الالتحاق بأي عمل لا تتحكم فيه سلطة الحكومة.. فبعد تجربتي مع الإذاعة والملحقين السياسيين.. عينت مدرسا فرفضوا .. وعينت معيدا أيضا رفضوا.. بل طردوني.. وأكثر من ذلك تم ترشيحي للسفر خلال أربع بعثات دراسية في خارج مصر.. وأيضا رفضوا هذا الترشيح ولم يوافقوا عليه..

ولا تتخيل حين أقول لك مدة هذه الحرب التي أعلنتها على حكومة ثورة 23 يوليو .. لقد بدأت منذ عام 1956 وحتى عام 1965 تسع سنوات كاملة والحرب دائرة ضدي وتقودها سلطات حكومة الثورة.. لقد طردت بالفعل من أربع وظائف.. حتى قيد الله لي الرجل الطيب المرحوم الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي رغم عدم معرفتي به وعدم لجوئي إليه من أجل الوظيفة، فتوسط لي لدى المسئولين حتى وافقوا على تعييني بالجامعة مرة أخرى.. وكما قلت من قبل إنني كنت قد قررت الاعتماد على نفسي والتكسب من الترجمة حيث معرفتي الطيبة باللغة الفرنسية.. وأنا أذكر أن أول كتاب ترجمته كان بعنوان " شروط النهضة" للمفكر الجزائري مالك بن نبي.. ذلك الكتاب العظيم الذي ألفه هذا الداعية باللغة الفرنسية.. ثم ترجمت له الكتاب الثاني وخرج بمقدمة كتبها المرحوم الرئيس أنور السادات والكلام ده كان عام 1957 في ديسمبر 1957..

أما الكتاب الثالث الذي ترجمته في ذات السلسلة فقد صدر عام 1958 .. وكنت وقتها قد عدت من جديد إلى التدريس بعد أن طردوني منه وبعد أن توسط المرحوم الشيخ الباقوري لدى زكريا محيي الدين .. ومن جديد بدأت أكافح من أجل العودة إلى.. وبالفعل عينت معيدا في سبتمبر عام 1958.. وكان عندي أربعة كتب مترجمة من الفرنسية.. وفي هذه المرحلة كنت قد ملكت ناصية الترجمة كفن.. ونذرت نفسي آنذاك لأستخدمها في نقلي الكتب الإسلامية في الوقت الذي كان فيه من المحرمات أن يكون لديك كتابا عن الإسلام.. وقد وفقني الله حيث كان الداعية الإسلامي الجزائري من بين الرجال الذين كانت ترضي عنهم حكومة الثورة في ذلك الوقت، وبالتالي كانت كتبه هي الكتب الإسلامية الوحيدة التي كان من المسموح اقتناؤها وقراءتها.. وكنت أري أن ترجمتي لهذه الكتب الإسلامية يمكن أن تعوض الشباب المصري عن ضياع الكتب الإسلامية ومحاربتها من جانب الثورة..

لقد كان الداعية الإسلامية مالك بن بني صديق الضابط كمال الدين حسين .. وحين أصل بك إلى الحديث عن تأثير تجربة عام 1965 كآخر مرة دخلت فيها المعتقل.. أقول لقد كانت فترة اعتقالات عن طريق الكشوف بمعنى أن الزعيم عبد الناصر كان يزور روسيا في تلك الفترة فوقف على باب الكرملين رحمة الله عليه أو لعنة الله عليه.. وأعلن الصحفيين أنه تم اعتقال 65 ألف مصري الليلة الماضية.. وأنه استطاع أن يجمعهم في ليلة واحدة وأنه قد قرر أن يضعهم في السجن إلى الأبد.. ولن يخرجوا من المعتقل إلا بوفاته.. ويبدو أنه لم يكن يدري أن الله كان يسمعه.. فلم يطل به المقام وعجل بنهايته كما عرفناها جميعا..

لقد تأثر الرئيس عبد الناصر كثيرا بموجات الإلحاد والشيوعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت للدرجة التي أعمته عن رؤية مشاكل شعبه وأهله.. بل إنه قد ابتعد في تلك الفترة عن مناهج الله وتعاليم الدين الإسلامي.. واتضح ذلك كثيرا فيما اتخذه من قرارات كانت ضد هذا الشعب المسكين.. والسبب أيضا يرجع إلى هؤلاء الذين أحاطوا به وأوهموه بأن الشيوعية هي الحق.. هؤلاء لا يزال بعضهم يعيش بيننا حتى هذه اللحظة.. والحمد لله أمد الله في أعمارنا حتى رأينا سقوط الطاغوت الأصغر.. والطاغوت الأكبر حيث انهارت دولة الشيوعية ورحلت إلى غير رجعة..

• كم كتابا ألفتموه داخل السجن أو خارجه تأثرا بهذه التجربة؟

- أنا لم أعمل في مجال السياسة كمحترف ولا كتبت كل ما عندي ولكنني قد تفرغت للعلم.. وجعلت ما عندي من أمور السياسة يخدم طبيعتي العلمية.. وأعتقد أنه قد آن الأوان وبالنسبة لي أن أجلس كي أكتب هذه التجربة.. وسيكون مجيئك إلينا هنا هو البداية.. ولم تكن فترة السجن كلها اطلاع وتحصيل فقط.. بل كنت وقتها أترجم كتبا إسلامية.. وأرسلها إلى الخارج كي أنشرها.. أيضا كانت فرصة السجن طيبة كي أتقن اللغة هذه من منطلق إحساسي بأهمية اللغات بالنسبة للداعية الإسلامي.. وندرة وجود المفكر الإسلامي الذي يعرف لغة الآخرين.. وهذه كانت في رأيي كارثة.. فكيف يكون الداعية الإسلامي جاهلا بلغات القوم الآخرين.. والدعاة في مصر بالذات كانوا لا يتمتعون بهذه الصفة الهامة.. واللغة الفرنسية كانت في رأيي هامة جدا لارتباطها بالعديد من الكتب الإسلامية التي كتبت بها سواء في شمال أفريقيا أو في أوربا.. وكانت الدافع بالنسبة لي من أجل إتقان هذه اللغة هو نقص العارفين بها آنذاك وإحساسي بأنها تخدم الدعوة الإسلامية.. وحين نعود من جديد للرد على سؤالك بخصوص تسجيل تجربتي في السجن .. أقول لك إنني من كثرة مشاغلي في مجال الدعوة الإسلامية لم أفكر في هذا الأمر.. ولكنني وكما سبق أن قلت آنفا أنه مشروع قادم إن شاء الله..

حتى المقالات لم أضمنها هذه التجربة من قريب أو بعيد.. وقد تتعجب حين أقول لك إن هذه أول مرة أتحدث فيها عن تجربتي في السجن والاعتقال، وصدقني لم أتحدث عن هذه التجارب لأحد غيرك من قبل، ولا أحب أن أصرح بها بعد ذلك..

ولكنني على ما أتذكر في مرة من المرات قد ألفت فصلا في أحد كتبي عن لغات أهل الإجرام الذين التقيت بهم داخل السجن ولكنه كتاب بشكل علمي.. سجلت من خلاله بعض الألفاظ التي كنت أسمعها من هؤلاء القوم الذين عاشرتهم طويلا خلف الجدران العالية..

• ولو قلنا بالنسبة لرأي المفكر الأستاذ الدكتور عبد الصبور لماذا يسجن المفكر؟..

- لأن أخطر شيء على الطاغية الدكتاتور الذي لا يملك شيئا سوى قوته بنفسه وبمن حوله.. وثانيا أنه يمتلئ خوفا ورعبا ممن يملكون العقول.. عندئذ يصبح شغله الشاغل القضاء على عقل الأمة ومفكريها ولعلنا نميز هذه الحقيقة فيما يخص عصر الرئيس السادات.. الذي كان رحمة الله عليه عندما مات عبد الناصر قد تولى السلطة بفكر آخر.. حيث كان الوجه الآخر من الملة.. ففي مصر بعد الثورة ظهرت العملة بوجهيها الأول وجه الدكتاتور أيام حكم عبد الناصر.. والوجه الثاني حين تولى مسئولية الحكم الرئيس السادات وسعى بكل ما يملك من أجل مقاومة فكر الدكتاتور والقضاء على زبانيته..

فجاء هذا الوجه مقاوما لهذا الفكر المتخلف.. وأنا أقول لك بمناسبة الحديث عن الرئيس عبد الناصر أن كل الذين يدافعون عنه، إنما يدافعون عن أنفسهم لأنهم مدانون مثله فيما اقترفته أيديهم حين ساد وجه الدكتاتورية البغيض..

ولأنهم في الحقيقة هم الذين صنعوا بداخله الدكتاتور البغيض.. ولأنهم في الحقيقة صنعوا بداخله الدكتاتور باستخدامهم أساليب النفاق والنفعية.. ولو كان هناك فكر حر لما خلقوا بداخل هذا الرجل الدكتاتور الملعون.. بل ربما قد تحول إلى رجل مفكر وعادل وإنسان يعمل لصالح شعبه ولصالح أمته.. لكن المشكلة أنه قد وجد في الفكر صعوبة .. وأفهموه أن الدكتاتورية أسهل .. وانظر إلى الفرق بين الراعي الذي يتعامل مع قطيعه باللين والحسنى حتى يستطيع أن يتحكم فيما يرعاه..

أما الدكتاتور الجزار.. فليس أمامه سوى العقاب حتى يرهب قطعانه.. ويتغلب عليهم.. وأعتقد أن الفرق كبير وواضح.. وطبعا في هذا الجو الإرهابي نجد الفكر يتراجع أو على الأقل يختفي لحظات.. ثم سرعان ما يعود.. والدكتاتور يفهم ذلك جيدا.. ولهذا يبادر من تلقاء نفسه من أجل القضاء على هؤلاء المفكرين حتى لا يعودوا من جديد.. ويكون رحيلهم بغير رجعة توجع قلبه وتسبب له المتاعب.. فالدكتاتور يحاول أن ينعم بحياته في غيابه هؤلاء المفكرين..

لذا عادة ما يكون مصيرهم القتل والاعتقال والنفي وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.. ولكن لله حكمة عظيمة جدا.. فالله سبحانه وتعالى حين يجعل للإنسان محنة يجعل له في طيها منحة.. وأعطيك مثالا واحدا أيام عبد الناصر .. حين قبضوا على المفكر والداعية الإسلامي سيد قطب.. كانت فرصة كي يستكمل دراسته الهامة التي صدرت فيما بعد تحت عنوان " في ظلال القرآن" وبقى نشر الكتاب.. فكان لابد وأن يسخر الله الطاغية كي يكون سببا في نشره .. فأخذوا الداعية سيد قطب وأعدموه.. فيتحرك تفسير سيد قطب من مصر إلى العالم كله..

وبالفعل قد تمت ترجمته إلى كل اللغات الأجنبية في أوربا وفي العالم الإسلامي كله ، ولينتشر سيد قطب في آفاق العالم كله أكثر مما كان عليه وهي حي.ز ودعني أقول لك.. هل هذه من حسنات عبد الناصر؟.. إن عبد الناصر فعلا له دور كبير في نشر فكر سيد قطب وفكر غيره من علماء الدين الإسلامي دون أن يدري أو يتدخل..

• ما هي أهم اللقطات الإنسانية التي عايشها مفكرنا الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين داخل السجن خلال هذه المرات الثلاث .. وما هي أهم الشخصيات التي تعرفتم عليها هناك؟..

- أولا اللقطات الإنسانية كثيرة جدا منها أن السجن هو في الحقيقة مطبخ يوحد بين المسجونين على اختلافهم.. وأذكر أني كنت وأنا في سجن مصر أتعاطف مع الشيوعيين مع العلم الأكيد بأنهم أعداء الدين وأعداء الإنسانية.. وكان من أهم أصدقائي في السجن مثلا الكاتب الكبير المرحوم الدكتور يوسف إدريس الذي سجنت معه عام 1955.. حيث كان يعيش في دور (9) بسجن مصر بالزنزانة رقم (4) وأنا كنت في دور عشرة وفي الزنزانة رقم 19.. وكانت تقابل زنزانة يوسف إدريس .. وكنا دائما نتبادل التحيات ونتجالس سويا حتى داخل الزنزانة.. وكان معه على ما أذكر طبيب يدعى حمزة البسيويني.. ليس الجلاد اللواء البسيوني قائد السجن الحربي.. بل طبيب يحمل نفس اسمه.. وقد استمرت علاقتنا متصلة حتى بعد الخروج من السجن.. وعلى ما أذكر أنني دعوته في مرة من المرات في عام 1970 كي يتحدث في برنامج كنت أعده بالتليفزيون اسمه" ندوة العلماء" .. ولكن ظروفه الصحية لم تساعده على تلبية هذا الطلب.

لقد كان يوسف إدريس رجلا عاقلا.. ولم يكن شيوعيا .. بل هو فنان .. يبحث في كل شيء مختلف في الحياة.. ولذلك كنت على ثقة من إمكانية تقديم الدكتور يوسف إدريس كعالم إسلامي يتحدث للناس في ندوة العلماء.. كما أتذكر ونحن نحضر سويا لهذه اللقاءات أن الدكتور يوسف إدريس قد اختار بعض الشخصيات المعروف عنها الميول الشيوعية.. وأكد أنهم في أعماقهم علماء مسلمين وليس كما هو معروف عنهم.. وبالفعل تحول بعضهم الآن إلى دعاة للإسلام في كل مكان..

وأذكر أن أحدهم يدعى الدكتور عودة وهو شقيق الأستاذ عبد القادر الشهيد الإسلامي العظيم.. وكذلك ذكر لي الأستاذ أنور عبد الملك من أجل استضافته في برنامج ندوة العلماء.. وعرفت من الدكتور يوسف إدريس أنه يتحدث عن الدين الإسلامي بسماحة العالم الجليل.. وعرفت من الدكتور يوسف كذلك أن معظم الشيوعيين المصريين لم يكونوا كذلك إلا من أجل الانتصار في بعض القضايا.. وحين يبلغون مأربهم يتراجعون عن طريق الشيوعية فورا.. وداخل السجن أيضا تعرفت على شخصية اقتصادية مصرية تتمتع بسمعة عالية في تخصصها.. إنه الأستاذ الدكتور محمود أبو السعود.. ثم الدكتور توفيق الشاوي الذي كان يعمل أستاذا للفقه الجنائي بالجامعة ولا يزال حيا متعه الله بالصحة وطول العمر.. وكانت طريقة التعارف فيما بيننا أنهما كانا يعرفان اللغة الفرنسية التي كنت أحبها في ذلك الوقت.. وكان وضعهما في السجن في أعوام 1955 و 1956 متميزا.. لذلك وجدت لديهما مجموعة كبيرة من الكتب الفرنسية والتي عن طريقها قويت هذه اللغة.. واستطعت أيضا من خلالهما الاطلاع على الفكر العلمي الذي كان يكتب أيضا باللغة الفرنسية في مختلف ألوان المعرفة وعلى وجه الخصوص علم النفس التحليلي لفرويد..

وهذه المرحلة وكما سبق وأن ذكرت لك قد نفعتني كثيرا حتى بعد خروجي من السجن.. فقد تمكنت بهذه اللغة من العيش عن طريق ترجمة الكتب حين أعلنت الحكومة الحرب على العبد لله وطردته من كل الوظائف الحكومية.. وهؤلاء العلماء الذين ذكرت لك بعض أسمائهم قد دفعوني إلى المزيد من الاطلاع والقراءة.. ورغم أن الكتب كانت في هذه الفترة وفي هذه الظروف ممنوعة، إلا أنني كنت أحصل عليها من العساكر بالرشوة.. وكنت على يقين أن عددا كبيرا من الضباط الذين كانوا يشرفون علينا داخل السجن كانوا يتعاطفون معنا كثيرا.. حتى مأمور السجن نفسه الذي ما زلت أذكر اسمه إنه اللواء محمود صاحب الذي كان بداخله تعاطف غريب مع المفكرين المسجونين لديه في سجن مصر..

وأنا أقول لك إن من بين الشخصيات العظيمة التي تعرفت عليها داخل هذه الجدران والذي تأثرت به وبأفعاله كثيرا.. فقد حضر إلى في يوم من أيام العيد وأنا مسجون انفراديا بسبب هتافي ضد عبد الناصر.. جاء إلى الزنزانة يحمل لي كعك العيد.. ثم ما لبث أن أخرجني كي انضم إلى زملائي في الاحتفال بهذا اليوم العظيم.. وأخذ يخطب فينا وقتها.. مبينا تعاطفه معنا ويكفيه القول بأنه قد رحمنا ورفض قتلنا مثلما كان يفعل غيره من ضباط السجن الآخرين لأننا فعلا كنا لديه داخل السجن بلا أسماء أو عناوين وحتى لو كنا قتلنا على حد قوله.. فلن يلومه أحد.. فقد كانت هذه هي سنة السجون في مصر آنذاك.. وأنا أ ذكر الكلمة التي قالها لي بالذات.. أنت هنا بدون إيصال .. ومن الممكن ألا ترجع إلى بيتك..

ومن غير المفكرين .. أنا لا أنسى الولد " بورق" .. فقد كان مدرسة وحده.. شهرته " بورق" .. وكان مجرما متمرسا.. تعرفت عليه حينما كان يأتي إلى زنزانتنا من أجل تنظيفها.. وقد قدم لي خدمات عديدة منها توصيل الرسائل إلى الأهل حين زيارتنا.. بل وتوصيل الرسائل عبر بعض العساكر إلى المنازل في مقابل أجر ثابت .. بأمانة لقد كنا نعيش مع هؤلاء في أمان نوعا ما .. ولقد لعب الأخ بورق دورا عظيما في هذا الشأن هذه الشخصية تعرفت عليها عام 1956 .. فقد كان مجرما ممارسا عاما وليس متخصصا.. وكانت لديه آلاف الألفاظ والمصطلحات الخاصة بعالم السرقة والإجرام.. وكم تعلمت منه الكثير من هذه المصطلحات.. تلك التي استفدت منها كثيرا في كتابي عن " اللغات الخاصة".

فقد خصصت لتلك المصطلحات فصلا كاملا بعنوان " علم اللغة العام".. وكان أيضا له الفضل في أن يكون لنا نحن المعتقلين السياسيين من المفكرين لغة خاصة.. فعلى سبيل المثال كلمة " خشب" كانت تعني الضابط.. أما العسكري فكانت إشارته الحذاء.. وهكذا.. أكثر من ذلك عرفت بعض المصطلحات الخاصة به وبعالم السرقة مثل كلمة " ذهوب" كانت تعني الجنيه.. وهكذا..

• ما هو تصور الدكتور عبد الصبور شاهين للطريق الأمثل نحو معالجة الرأي الآخر أو الرأي المعارض للحكومة أو للحاكم؟ غير عقوبة السجن؟..

- يجب أولا أن يكون لدى الحاكم استعدادا للفهم.. وليسمع وجهات النظر المختلفة.. لأن الحاكم من وجهة نظري هو مملوك للجماهير وللشعب وللرعية.. فلابد أن يستمع إليها.. مؤيدين ومعارضين.. في ظل إيمانه بالحرية .. ولذلك فإن أكبر جريمة يرتكبها الحاكم أن يصادر حرية الناس من منطلق أن رأي الحاكم لا يمكن أن يكون صادقا أو صائبا على طول الخط.. وكذلك المؤيدين له.. وأيضا المعارضين..

والمصيبة أن تغيب هذه الحقيقة عن الواقع.. ويحاول كل من يتصل بالحاكم أن يشبع بداخله شهوة الانفراد المصحوبة بالرأي الصائب.. دون الالتفات لرأي الآخرين.. ودعني أذكر لك مثالا من تاريخنا المعاصر.. فالرئيس السادات حينما جاء بعد فترة حكم طويلة من الدكتاتورية كان يحكم عقله وثقافته وكان يستمع لرأي الآخرين .. ولذلك نجده قد احترم المفكر والمفكرين وقربهم إليه.. وحينما غدر عليهم.. وضعهم في السجون.. وضع نهايته بيده.. وعجل بهذه النهاية لأنه تخاصم مع الفكر والمفكرين.

إن هاتين المرحلتين مختلفتان في عهد الرئيس السادات ولعلني أذكر أيضا فيما يخصني بعلاقتي بالرئيس السادات أنه في فترة من الفترات السابقة التي ارتبطت ببداية حكمه.. كنت دائما أخطب في أحد المساجد.. ولا أمل أبدا من توجيه الانتقاد لبعض سياسته.. وأقولها كلمة حق وشهادة لله في حق هذا الرجل.. لم يصبني أي شيء أو سوء من جراء هذا النقد مهما كانت قسوته حتى أصر السادات نفسه أن يحضر لي إحدى هذه التي كنت ألقيها قبل صلاة الجمعة ..

والحقيقة أنني فوجئت يومها بحضوره إلى المسجد.. ولم أغير من خطتي في نقد سياسته.. ورغم أنه غضب مني.. إلا أن الغضب لم يوصلني إلى السجن مثلما حدث أيام سلفه الرئيس عبد الناصر.. ولعلني أذكر أن أهم نقاط الخلاف التي أكدت عليها أيام الرئيس السادات قوله دائما.. أننا نطلب السلام من موقع القوة.. فكنت دائما أرد عليه علانية بأننا لابد وأن نطلب السلام من موقع الضعف كما أمرنا بذلك رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .. وأعود وأكرر أنني رغم ذلك لم أؤكد لك أن الرئيس السادات قد أخطأ في حق نفسه وفي حق المفكرين باعتقالات سبتمبر عام 1981 .. وأنا أعتقد أنه شخصيا قد اتخذ هذه القرارات ضد رغبته.. فلم يكن قراره من داخله.. بل كان قرارا نابعا من داخل نفس زوجته..

إنني ما زلت أعتقد ذلك، فهي التي قادته إلى هذا الفعل لأنه كان أنزه من أن يتخذ مثل هذا القرار.. عارف لماذا ؟

لأنه أي الرئيس السادات قد ذاق مرارة السجن.. ويعلم أن السجن لا يمكن أن يؤدب مفكرا.. أو يجعله يتراجع عما يعتنقه.. ولا أنسى أن أقول لك إنني من هؤلاء الذين فشل السجن في انتزاع م بداخلهم من أفكار..

وبالمناسبة أرجوك أن تسجل عني هذه الكلمات .. إننا الآن ننعم بقدر كبير من الحرية والاستقرار.. وأؤكد أن ما أقوله الآن وكل أسبوع في جامع عمرو بن العاص.. لو كنت أقول عشر معاشره أيام عبد الناصر لطارت رقبتي. وهذه شهادة مني بذلك.. إن هذه الحرية التي نعيشها الآن.. هي استمرار لجو الحرية الذي عشناه في السنوات الأولى لحكم الرئيس السادات.. ولولا اعتقالات سبتمبر عام 1981 .. لكنا قد سجلنا تاريخا مصريا عريقا على طريق الحرية.. ولكن والحمد لله نحن مستمرون في الطريق وندعو الله أن نصل إلى آخره حيث تسود الحرية أكثر وأكثر..

• لماذا يرتبط أمر اعتقال المفكر بتوقيع الرئيس أو رئيس الحكومة دائما في دول العالم الثالث؟..

- لأن الحكم والسلطة في هذا العالم الثالث مسخرة وموجهة لخدمة شخص واحد فقط هو رئيس الدولة.. فأمنه هو أمن الدولة.. وفزعه هو فزع الدولة.. ولعلك تذكر الآن أن كثيرين قد كتبوا وما زالوا يكتبون هذه الأيام أن أجهزة الأمن في الدولة قد انصرفت للحفاظ على الأمن السياسي وتركت الأمن الاجتماعي.. وهذا في تصوري صحيح .. ويرجع إلى أصل الموضوعات كأسباب لأخطر مشاكلنا الاجتماعية التي نعاني منها هذه الأيام.. إن الاهتمام بالأمن السياسي حقيقة قد جعل الأجهزة تتصرف كلية إلى الأمن الاجتماعي..

وفي واقع الأمر أنه حين تسود الديمقراطية في أي بلد من بلدان هذا العالم .. فعلا لن يكون هناك اعتقال لمفكر سواء بتوقيع رئيس الدولة أو بتوقيع غيره.. ما دام هذا الفكر لا يحمل إرهابا أو تدميرا لصالح المجموع والمجتمع.. وإنني على يقين أننا هنا في مصر من بين دول العالم الثالث المؤهلين في الواقع لحمل مشاعل الحرية والديمقراطية .. لأننا نعبد الحرية ونقدسها ونحترم الحاكم الذي يقدمها لنا ما دامت في حدود الشريعة وخدمة المجتمع.

وفي ظل هذا الحوار دعني أقول لم إنني أرى ضرورة إلغاء حالة الطوارئ الآن .. لأن مثل هذه القوانين الاستثنائية تبث الرعب في قلب الحاكم أكثر من الرعية ولعلك هنا تتعجب.. ودعني أحكي لك حكاية من واقع ذكر قانون الطوارئ.. وقد عرفتها داخل السجن..

لقد كنا نسمع داخل جدران السجن أن الحالة الآن (ج) .. ولن تنزل إلى الحالة (ب) .. لأن ضابط السجن كانوا يستفيدون ماديا من الحالة الأولى.. من أجل ذلك كانت حالة الطوارئ تستمر مفروضة علينا داخل السجن لا لشيء إلا من أجل زيادة مرتبات وبدلات القائمين على السجن.. وأنا أعتقد أن مثل هذه الأمور كانت صميمة إلى حد بعيد في عهد الرئيس عبد الناصر..

• وهل ترون أن يكون للمفكر سجنا خاصا به أن يزج به وسط بقية المجرمين؟..

- بالنسبة لي ولفكري.. أنا أرى أن العمل بالشريعة الإسلامية لن يبقى على وجود السجون إطلاقا.. لأن الحدود والتقارير تحسم القضايا .. وأنا أتصور أن هذه السجون والمعتقلات من سيئات القوانين الوضعية..

وعلى شماعة هذه السجون يعلق فشل القانون الوضعي في معالجة الجريمة، أو في توفير الأمن أو في حماية الحرية.. إذن لابد من الواجب أن نفرق بين الفكر وبين أنواع الجرائم الأخرى.. ومما يزري السلطة ويدينها.. أن تضع مثل المفكرين مشاعل الثقافة والرأي مع غيرهم من القتلة والمجرمين.

لابد من الفصل بين الاثنين .. وإن كان من الضروري قيام مثل هذا الاختلاط.. فأنا أرى من الضروري أن يعين المفكر داخل السجن حتى وهو سجين في وظيفة معلم لغيره من المجرمين.. وعلى ذلك يكون له احترامه ويمارس فكره داخل السجن.. لأنه سوف يمارس هذا الفكر شاءت السلطة أم أبت.. وكل ما هنالك أنه في مثل هذه الحالات .. يتم التنبيه على المفكر أنه سوف يتم حجب فكره عن العامة أي عموم الشعب والجماهير.. ومن حقه ممارسة هذا الفكر داخل السجن.. ويمكن له أن يوظف فكره هذا في إصلاح أحوال بقية المسجونين على ذمة قضايا الإجرام المختلفة وقد يكون ذلك نوعا من الإنسانية..

• وما رأيكم في سجون مصر الآن؟

- لدينا نوعان من السجون.. نوع يتسم بالأشغال الشاقة وهي أمور تمارس خلالها حرف وهي في الواقع أشياء عملية.. ولكن هناك أنواع من السجون ربما خصصت لبعض المدللين.. مثل المضبوطين في قضايا أخلاقية أو غلى آخره أو المدمنين .. وكلها أمور تدخل في إطار التخبط لأن السجن لابد أن يكون فقط سلب لحرية الإنسان لفترة محددة.. وأن يمارس خلالها إنسانيته وحياته.. بعيدا عن التعذيب والإهانات.. لأن السجن إذا أراد أن يصلح مجرما.. فلن يصلحه إلا بالتكريم وبالتربية الصالحة داخل السجن وإشعاره بالتأنيب .. ولابد أن يفهم السجين أنه رغم خطته ضد المجتمع.. فالمجتمع يعامله بخلاف الجرم الذي ارتكبه.. هذا من ناحية السجن كعقوبة.. أما أنا فأساسا أرفض حتى وجود عقوبة السجن من وجهة النظر الإسلامية.. لأن السجن في ظل التشريع الإسلامي لا وجود لع إلا على سبيل الحجز في انتظار الحسم وفقا للشريعة الإسلامية.. وليس للعقوبة طويلة المدى.. فإن أقصى عقوبة معترف بها شرعا هو تغريب عام بعد مائة جلدة.

- ولا تخص هذه العقوبة القتلة فإن من يقتل لابد وأن يقتل، لأن الحدود في الإسلام أساسها صلاح الرعية.. والهدف منها الردع وليس التشويه وأيضا لمنع الجريمة.. وهنا دعني أحدثك عن ضرورة وجود المجتمع الإسلامي الصحيح القائم على أسس صحيحة، منها التربية السليمة التي يكون أهم رسالتها خلق إنسان مسلم يبتعد كلما استطاع عن ارتكاب الجريمة.. وفي ظل أوضاع السجون الآن لا أجد غضاضة في القول بأنها تساعد على إفراز الجرائم أكثر من كونها أداة إصلاح.. وأنها بالفعل من وجهة نظري مدرسة تخرج المجرمين أكثر إجراما وأكثر تخصصا..

- فالمجرم سارق الفراخ منه أكثر خبرة فيتحول إلى سارق الشقق أو سارق بنوك.. إنه مدرسة حقيقية تخرج مجرمين متمرسين في الإجرام..

- وذلك عكس ما نتمناه وننشده .. لأن السجن معناه ردع المجرم وتخويفه حتى لا يرتكب الجريمة مرة أخرى.. وهذا للأسف مالا يحدث في سجوننا الآن.. وهذا التصور ليس بعيدا عن الواقع والممارسة.. بل أقول لك أكثر من ذلك.. إنني عرفت أوضاع هذه السجون قبل دخلوها.. من قراءاتي لمذكرات صول في البوليس يعمل سجانا.. وكنت وقتها طالبا بالثانوية.. وجاء لي بهذه المذكرات من أجل أن أصححها له لغويا قبل طبعها.. وعرفت منها أن السجن باعترافات هذا لرجل هي بحق بؤرة فساد قذرة وعالم رهيب.. وما شاهدته خلال رحلتي عبر السجون في المرات الثلاث أكد لي ما قرأته وربما أكثر .. ودعني أؤكد لك أن الأمن الذي يختل في الشوارع في المنازل وفي الأتوبيسات مصدره الحقيقي أصحاب السوابق الذين حولهم السجن إلى مجرمين متمرسين . . وتقدر تقول إنهم من نتاج صورة السجون السيئة وأوضاعها التي هي في حاجة إلى مزيد من الرعاية والإصلاح..

وماذا لو كان الدكتور عبد الصبور شاهين مأمورا للسجن؟

- أنا .. أنا كنت حولت السجن إلى جامعة.. والمسجونين إلى تلاميذ.. وأضع بين يدي كل منهم أستاذا في علم النفس كي يسجل لهم تقدمهم على طريق الصلاح والتوبة.. وهجران الجريمة إلى الأبد..

• وأخيرا ماذا لو كان الأستاذ الدكتور عبد الصبور رئيسا للحكومة أو وزيرا للداخلية .. وعرض عليه كشف بأسماء مفكرين مطلوب اعتقالهم كان يفعل؟

- عارف أقوم باستعراض أسماء هذا الكشف وأطلب فورا منح كل منهم وساما من الدرجة الأولى..


الحكاية الرابعة: ميلاد حنا

الحكاية الرابعة يرويها الدكتور ميلاد حنا:

دخلت السجن أستاذا جامعيا

وخرجت منه.. سياسيا ومفكرا

لا شك أن الحياة داخل المعتقلات حافلة وغريبة، ومليئة بالأعاجيب ورغم ما كتب عنها إلا أن المكتبة المصرية ما زالت بحاجة غلى رؤى جديدة من خبرات مختلفة لما جرى في سبتمبر الغاضب.. ولأن سبتمبر هذا هو خبرتي الأولى في الاعتقال أرجو أن تكون الأخيرة بحكم السن.. والموقع والتاريخ.. وقد تصادف أن كنت من ثمرات القطفة الأولى للمعتقلين، وتصادف أيضا أن كنت من المجموعة الأولى التي تم الإفراج عنها كي تنتقل من زنازينها إلى قصر رئيس الجمهورية مباشرة.. وبين تاريخ اعتقالي وتاريخ الإفراج في قصر الرئاسة تدفقت في النهر مياه كثيرة تروي حكايات بالغة العمق والدلالة..

هكذا بدأت كلمات الدكتور ميلاد حنا تنساب منذ اللحظة الأولى لإدارتي لشريط التسجيل الذي حمل إلينا نص هذا الحوار.. وكثيرا ما توقفت عند كلماته قبل التسجيل وبعده.. مثلا عند قوله : " أمضيت تسعة أسابيع مع الأساقفة والكهنة المسيحيين ، فكان احتكاكا جديدا بالنسبة لي ، إذ أن اعتقال وسجن رجال الدين المسيحي في مصر غير مسبوق في تاريخها المكتوب، وعندما ما أعلنت احتجاجي على ذلك لما يمثله من شرخ في جدار الوحدة الوطنية تم نقلي إلى سجن آخر من السياسيين .. فكان احتكاكا أكثر حدة وأكثر طرافة..

مثل هذه العبارات والجمل التي كان يخرجها الدكتور ميلاد حنا أستاذ الهندسة والسياسي الشهير، كانت تحمل في كل كلمة يقولها معنى المصيرية والحب المتأصل في دماء هؤلاء المصريين الذين يعشقون تلك الأرض الطيبة بصرف النظر عن الدين.. وحين تراه وهو يحكي ويقول لك لابد وأن تتوقف وتستمع حتى تستفيد.. وتعرف لأن حبه للحياة العملية والعلمية لم يجعله ينفصل عن حبه الأول للعمل السياسي من أجل مستقبل جديد.

وها نحن نتوقف مرة أخرى أمام كلماته قبل أن يدور بنا شريط التسجيل .. وتراه يحدثك بصوت العالم الواثق من كل معلوماته وأحاديثه.. وهو في كل ما كان يرويه صادق إلى حد بعيد.. ولقد شغله العمل السياسي كثيرا حتى وهو في منصبه الجامعي.. ففي عام 1969 على سبيل المثال كان نشاطه السياسي قد اتخذ أشكالا واضحة مما دفع جهات الأمن إلى طلب القبض عليه.. بل وطلب فصله من الجامعة.. بل تجاوز الطلب حد وضعه تحت الحراسة.. ولكن ذلك لم يحدث لأسباب سوف نحكيها فيما بعد.

المهم دخل الدكتور ميلاد حنا المعتقل.. وأول شيء صادفه ذلك الموقف الذي يحيكه بقوله: عندما انتهى الضابط من تسجيل مضبوطات الكاهن في محضر رسمي وطلب منه التنحي جانبا على أن يظل واقفا .. سال الضابط .. هل هناك معتقل ثان.. قلت نعم .. أنا ذلك الثاني واسمي ميلاد حنا..

وحين يدور شريط التسجيل .. وتبدأ في سماع كلمات هذا الحوار بأسئلته التقليدية يخرج علينا صوت الدكتور ميلاد حنا وهو يحكي الذكريات وكأنما يعزف على أوتار أحباله الصوتية.. وبدون الدخول في تفاصيل ذكر الأسئلة وإجابتها.. علينا من هذه اللحظة الإنصات جيدا من أجل تتبع واع لما سوف يرويه لنا هذا المفكر عن تأثير تجربة السجن والاعتقال في حياته..

وقبل أن يظهر صوت الضيف عبر جهاز التسجيل سبقته كلمات كاتب هذه السطور مقدما إياه بعبارات الود والتحية.. مثل قوله : بسم الله الرحمن الرحيم إنني في غاية السعادة لإجراء مثل هذا الحوار مع أحد المفكرين المصريين الذين لم يبخلوا ولو بحبة عرق من أ جل مصر.. سواء في الجامعة أو في ميدان العمل السياسي والعمل العام.. وأستاذنا الدكتور ميلاد حنا هو من المفكرين الذين أعطوا ولا يزالون يعطون من فكرهم لتلاميذهم في كل مكان . والذين وقع عليهم الاختيار ضمن المفكرين المصريين الذين ذاقوا مرارة السجن والاعتقال رغما عنهم أو بإرادتهم .. وهذا ما سوف نعرفه بعد لحظات وهذا حوار سيكون الأستاذ الدكتور ميلاد حنا ضيفا فيه من خلال مجموعة من الأسئلة.. وتدور جميعا حول مفهوم الفكر وارتباطه بالقضبان والسجون.. فأهلا بك معنا ومع هذه الكلمات كي تبعدنا بأصول هذه التجربة مع اعتقادنا بأنها تجربة مريرة وأليمة.. من منطلق أن مرارة جيل المفكرين الحاليين.. هي خير المصابيح التي تنير للأجيال القادمة طريق الفكر وتكون دفعا قويا من أجل المزيد من حرية الرأي..

وبعد عبارات الترحيب التقليدية .. بدأ الدكتور ميلاد حنا ذكرياته بقوله: أنا سوف أحكي لك بدون قلق.. وبداية أقول لك: لكل مرحلة تاريخية سمة من سمات النضال والكفاح.. فأنت ترى في سابق الأزمات الخصوم السياسيين كانوا لابد وأن يختفوا .. وبطرق مختلفة ومتنوعة.. مثلا كانوا يوضعون فوق خزوق ثم يوضعون في الزيت ثم يصلون غلى مرحلة العدم.. ولا يعرف عنهم أحد أي شيء ولا أي مصير.. ولكن في زمن الحضارة وظهور الاستعمار اتجه الفكر الاستعماري لانجلترا إلى النفي.. وتستطيع أن تقول إنها كانت مرحلة ثانية أو مرحلة أرقى من سابقتها..

وعرفت مصر الصراع آنذاك ضد الاحتلال البريطاني .. وكان مصير هؤلاء المفكرين الوطنيين هو النفي غلى المستعمرات البريطانية في دول وقارات أخرى مثل مالطة وسيشيل وما شابه ذلك.. أما في خارج مصر.. فقد نفوا نابليون غلى أن مات في نفيه. أما في لعصور الحديثة ماذا يستطيع الحاكم أي حاكم في ظل دولة مستقلة أن يقاوم خصومه السياسيين والمفكرين.. وهذا الحدث ينقلنا إلى المرحلة الوطنية التي مرت بها مصر بعد حصولها على الاستقلال يعني نقدر تقول الكلام القادم نخص به مصر فقط التي شهدت في المرحلة التي تلت الاستقلال اختفاء صفة نفي هؤلاء الخصوم.. ومن ثم الجديد هو لجوء الحكام إلى فكرة بديلة.. وهي الاعتقال.. أو السجن أو أسماء مختلفة.. وأنا أذكر لك بالنسبة لحالتي .. كان الاسم الرسمي لاعتقالي هو " التحفظ عليه".. وطبعا كان ذلك هو الاسم المستتر للسجن أو للاعتقال.. إذن أنت منذ هذه اللحظة أمام ظواهر جديدة ومختلفة.. ولو عدنا إلى تأصيل هذه الإجراءات وفقا لمفهوم اللغة العربية نجد أن ما تسميه أنت الاعتقال وما أسميه أنا التحفظ يعني لغويا " التوقيف" .. أي إيقاف هذا الإنسان عن الحياة.. وهذا الوصف ينطبق تماما على اعتقال الرئيس محمد نجيب.. الذي تم اعتقاله في مكانه .. في بيته.. أي تحديد إقامته.. إذن تجد أنك أمام مفاهيم مختلفة لهذا الفصل في العصر الحديث..

جانب آخر من جوانب اختلاف المفاهيم هو التعذيب فتجد التعذيب أيضا يختلف من مكان إلى مكان.. بالنسبة للمعارضة الوطنية.. وأصحاب الفكر الذين هم في صدام سلمي مع الحكومة.

وأحب أن أؤكد لك أنه رغم ما سوف أحكيه من تجاوزات ارتبطت بمفهوم السجن أو الاعتقال فإن مصر العظيمة وخاصة في العصر الحديث.. لم يسمح أي حاكم لن يقتل معارضا له.. مهما وصلت هذه المعارضة إلى الخصومة..

والصراع العلني يعكس ما كان بحدث ولا يزال في بعض الدول العربية وعلى سبيل المثال في دولة مثل العراق.. هناك لا يتعرفون بهذه الخصومات وبالتالي تجد المصير معروفا وهو التصفية الجسدية المستمرة لأولئك المعارضين وأصحاب الفكر الحر.. وبصرف النظر داخل هذا البلد عن اسم الحاكم أو شخصه.. إنه هناك يعتبر اتجاها عاما وسياسة معلنة.. ولعلك سمعت مثلي عما يحدث في بعض الدول العربية التي تستعين بقواتها الجوية من أجل تصفية المعارضين..

ودافعي الحقيقي لاستعراض هذا الأمر في عمومياته.. حتى يكون أمام الشباب بانورما لما يمكن أن يحدث تحت مسعى الاعتقال أو التصفية الجسدية .. و تحديد الإقامة .. والتحفظ.. أو أي مصطلح من هذه المصلحات التي اخترعت من أجل معاقبة المفكرين والخصوم السياسيين..

ودعني أقول لك وبشكل عام.. إن أنواع القضبان.. مختلفة وإن معاملة الخصوم السياسيين والمفكرين وأصحاب الرأي المخالف.. كانوا يعاملون بشكل أكثر احتراما أيام الاحتلال الإنجليزي عما كان عليه أيام ثورة 23 يوليو .. بصرف النظر عن التسميات التي أطلقناها على تلك الفترة.. ولا دخل لي بأن ذلك كان استعمارا أو غير استعمار.. المهم شكل المعاملة التي يلقاها هؤلاء المفكرين.. وكان ذلك يحدث من منطلق أن العادات والتقاليد السياسية الإنجليزية لم تكن تسمح حتى داخل انجلترا نفسها بمعاملة المعارض أو الخصم أو المفكر الذي يقف في صف المعارضة معاملة سيئة.. لقد كانوا يعاملونهم معاملة حضارية راقية.. ويكفي أن أقول لك وأصف سجن الأجانب والمعاملة الحضارية التي كانوا يعاملون بها المسجون السياسي بداخله..

• بعد هذا السرد التاريخي .. نريد أن نعرف من الدكتور ميلاد حنا.. كم مرة دخل فيها السجن.. بمفاهيمه المختلفة؟..

ملحوظة : ربما لاحظ القارئ أنني منذ البداية قد اخترت أن يقول لنا هذه المعلومة الدكتور ميلاد حنا ونقلها بحروفها كاملة من الكتاب الوحيد الذي سجل فيه مذكراته عن السجن بعد خروجه بست سنوات.. ومع ذلك تعمدت أن أكرر السؤال.. وأن يجيب عليه الدكتور ميلاد حنا.. لإحساسي بأنه يمكن أن يضيف الشيء الجديد.. ولسوف نرى بعد ذلك بلحظات من كتابة هذه الكلمة.. وفي رده قال لي:

- لابد لي أن أقول لك خلفية تاريخية.. أنا تربيتي الإنسانية يساري.. ومن ثم فقد كنت جزءا من الحركة الوطنية اليسارية ورغم ذلك لم أكن منضما إلى أية منظمة يسارية آنذاك وكنت متعاطفا مع بعضها ومتبرعا لبعضها بالمال.. وتقدر تقول ده كان سنوات 43، 44، 1945، 1946 ثم كنت جزءا من حركة الطلبة والعمال.. في نفس التيار اليساري في ذلك الوقت وذلك لأن أي مفكر أو سياسي لا يبدأ من فراغ.. وفي هذه الفترة تعرفت على العديد من أعضاء الحركة الوطنية اليسارية في ذلك الوقت مثل خالد محيي الدين وآخرين.

- ثم ذهبت إلى جامعة الإسكندرية وعينت بها معيدا بقسم الهندسة عام 1945 وكانت الحركة اليسارية في ذلك الوقت على أشدها وفي ازدهارها.. وفي هذه الفترة تعرفت على عزيز فهمي الذي كان يمثل ما يسعى بالطليعة الوفدية وكنت جزءا من هذه الطليعة.. حتى سافرت إلى بريطانيا.. وهناك كنت عضوا في اللجنة الوطنية للطلبة المصريين، ثم انتخبت عضوا في مجلس إدارة نادي الطلبة المصريين عام 1953.. وهناك وبعد معرفتنا بأحداث الثورة كنت أحد الذين طالبوا بعودة الجيش إلى سكناته بعد نجاحه في القيام بثورة 23 يوليو وأخذت موقفا عنيدا جاء ضد عبد الناصر من منطلق أننا لابد وأن نبعد عن حكم العسكريين.. وتوقع الكثير من زملائي أنني حين أصل غلى مصر سوف يتم اعتقالي فورا وفقا لهذا الموقف..

أما الذي حدث أن الله قد سلم ورجعت إلى مصر من جديد واستلمت عملي بالجامعة في هندسة عين شمس منذ عام 1954 وحتى هذه اللحظة .. وظلت كذلك أستاذا جامعيا.. وبعدت بعض الشيء عن مجال الحركة السياسية المصرية آنذاك.. لأنني عرفن أن عبد الناصر قد أمم العمل السياسي.. ومن ثم اتجهت إلى الفكر السياسي أكتب عنه وأمارسه.. وفي عام 1959 على ما أذكر أن كل زملائي من رفاق العمل السياسي اليساري قد تم اعتقالهم جميعا وكان على قمتهم الدكتور عبد العظيم أنيس.

وفي عام 1960 جاء عبد الناصر بحركة التأميمات التي نالت إعجابي الشخصي.. مما جعلني أشعر أن عبد الناصر قد تجاوز فكره العسكري.. وهو يحاول أن ينقل مصر غلى المعسكر الاشتراكي وفقا لمبادئ اليساريين.. ومن ثم تمت اتصالات بيني وبين الثورة، وعلى أثره دخلت الاتحاد الاشتراكي وكنت عضوا نشطا فيه.. إلى الدرجة التي كنت وقتها مرشحا وزيرا للإسكان.. وكان ذلك عام 1963 .. ولكنه لم يحدث لاعتراضي على وجود كافة الشيوعيين المصريين آنذاك في السجن.

وبعد هذا السرد التاريخي الذي أميل إليه كثيرا.. أستطيع أن أقول لك إن أول مرة أدخل فيها السجن معتقلا فكريا وسياسيا كانت عام 1981 ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة.. ومع ذلك تستطيع أن تقول إنني قبل هذا التاريخ كنت مؤهلا لدخول السجن في أي لحظة .. وعلى ما أذكر كان ذلك عام 1968 حينما قدت الطلبة بالجامعة وأنا أعمل أستاذا بها كزعيم لهم.. ووقتها أشيع أنني قد اعتقلت بالفعل.. ولكن ذلك لم يحدث.

ومرة أخرى عام1969 .. كان نشاطي السياسي في ازدياد مستمر ويميل بدرجة 90 درجة ناحية تزعم مطالب الطلبة آنذاك.. مما دفع جهات الأمن إلى طلب القبض على القرار من دائرة التنفيذ حتى تمكن أحد أصدقائي من ترتيب لقاء بيني وبين شعراوي جمعة وزير الداخلية آنذاك.. وبدلا من فصلي أو وضعي تحت الحراسة تصادفنا .. وأصبحنا نلتقي كثيرا لا لمناقشة أحداث الجامعة بل لمناقشة كل ما كان يدور حولنا في المجتمع.

وحين أعود لأحدثك عن ظروف اعتالقي عام 1981 كأول وآخر مرة، أقول لك إنني دخلت تجربة الاعتقال تحت مظلة.. وعبر تاريخ سياسي طويل اهتم بثلاث قضايا هي بالترتيب قضية إسكان الفقراء في مصر.. وهذه مشكلة اجتماعية لم تسبب لي أي مشاكل على الإطلاق.. بل أعطتني رصيدا كبيرا من الحب.. والقضية الثانية: قضية الديمقراطية في مصر.. وقد أوجدت لي متاعب كثيرة مع عبد الناصر ومع غيره.. ولا أقصد بها الرأي والرأي الآخر لأنني أعتبر هذه العبارة هي تسطيح لمفهوم الديمقراطية وذلك من منطلق إيماني أن الديمقراطية هي نظام متكامل يسير بآلية منتظمة.. وما الرأي الآخر إلا مناظرة تتم تحت مظلة الديمقراطية.. بمفهومها الواسع.. لأن الخلاف في الرأي يتم أيضا ضمن أعنى الأنظمة الديكتاتورية.

إن مفهوم الديمقراطية في خيالي هو نظام شامل ومتكامل يدور بآلية منتظمة نابعة من المجتمع وأفراده ووعيه.. وفي مفهومها العميق ما يسمح بتداول السلطة وفقا لرأي الجماهير .. هذه القضية الثانية التي أحدثك عنها وأعني بها قضية الديمقراطية هي شاغلي الشاغل الآن.. وفي المستقبل كما كانت في الماضي.. تلك القضية التي سببت لي العديد من المشاكل مع نظام الرئيس عبد الناصر ونظام الرئيس السادات.. أما القضية الثالثة والتي أزعم أنني قد اعتقلت بسببها.. وهذه الألفة بين المسلمين والأقباط التي عشتها في حياتي المبكرة منذ أن كان والدي عضوا بارزا في حزب الوفد الذي كان يمثل عنصري الأمة ووحدة الهلال مع الصليب.

ومع نهاية العهد الملكي.. ووصول أيام الثورة وعبد الناصر.. تلك الأيام التي لم تثر فيها مثل هذه القضية، ولم نشاهد أية مشاكل بين المسلمين والأقباط في ذلك الوقت.. وربما يرجع ذلك غلى العديد من الأسباب مثلا أولها يرجع إلى امتداد تأثير أفكار الوفد الذي استمد وجوده من عنصري الأمة.. وثانيا : قيام عبد الناصر بتأميم العمل السياسي الوطني لكل المصريين سواء المسلمين أو المسيحيين.. فلم يكن يسمح لتحرك سياسي على أعلى مستوى من هذه المستويات.. واستمر هذا الوضع الهادئ داخليا مستمرا فيما يخص الوحدة الوطنية المصرية أعوام 73 و 74و 1975 .. وعندما جاء الرئيس السادات إلى الحكم ودفع بالجماعات الإسلامية إلى الساحة السياسية .. وظلت الصراعات الطائفية تستشري في مصر منذ حريق كنيسة الخانكة عام 1972 .. حتى أحداث الزاوية الحمراء عام 1981.

والذي حدث بالنسبة لي تحديا.. أن هذا الموضوع قد أثارني ، وأحسست أن مصر على حافة الهاوية من ناحية الشرخ الطائفي بين الأقباط والمسلمين .. وهذا الأمر من أساسه مرفوض لأننا قد نختلف سياسيا أو اقتصاديا .. أما الاختلاف في رأيي كانت عندما أعلن الرئيس السادات في عام 1980 أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة.. هذا الموضوع أثارني إثارة شديدة للدرجة التي جعلتني أقرر النزول إلى الشارع السياسي والشارع الفكري في مصر من أجل إيقاف هذا الشرخ الذي ربما يتسع في لحظة من اللحظات.. ويأخذ في طريقه الأخضر واليابس.

وكانت الاستجابة خرافية من جانب عنصري الأمة حيث لم يوافق الأغلبية منهم على مثل هذا الموقف.. باعتبار أن مصر للجميع.. ولا فرق بين مسلم وقبطي ما داموا يشربون من ماء النيل.. ويعملون من أجل صالح مصر داخليا وخارجيا.. وقد برهن المسلمون المصريون أن الأقباط المصريين هم جزء من هذا المجتمع ومن أساسيات وجوده.. وفي وسط هذا المجهود الذي كنت أبذله من أجل الحفاظ على مجتمعنا المصري بعنصريه .. كنت لا آمل من ترديده عبارة وصلت وقتها إلى السادات.. أقول فيها: سيدي الرئيس أنت لست رئيسا لدولة مسلمة.. بل رئيس مصري لدولة مصرية.. ثم تصادف وقتها بجانب ذلك أن جمعت مادة علمية بسيطة وبسرعة طبعتها في كتاب صدر وقتها تحت عنوان " نعم أقباط.. ولكن مصريون" .. وقد تصور الرئيس السادات أنني بهذا الكتاب أرد على ما جاء في خطابه السياسي الذي قاله آنذاك.. وقد حاولت استغلال كل الظروف السياسية التي كانت سائدة في ذلك من أجل توصيل صوتي عاليا إلى الرئيس السادات.

ووقتها لاحظت أن قبضة الرئيس أصبحت شديدة.. وأنهم يحرصون على تسجيل كل ما أقوله من أجل نقله إلى الجهات المسئولية في مصر.. وكان النبوي إسماعيل وزيرا للداخلية في هذه الآونة .. وقد حذرني بعض زملائي في حزب التجمع الذي كنت أحد قياداته في تلك الفترة .. من عدم التعرض في أحاديثي لوزير الداخلية.. لأنه يملك المعتقلات والسجون.. وقد اعتبرت هذا التحذير نبوءة مبكرة لدخول السجن بالفعل.

وبالفعل في مساء يوم الأربعاء 2 سبتمبر عام 1981 وكنت في اجتماع روتيني بالحزب للجنة العلاقات الخارجية.. وكنت رئيسها.. جاءت إلينا أخبار من بعض المسجونين اليساريين في مزرعة طرة أن هناك ترتيبات داخل السجن لاستقبال عدد كبير من المعتقلين الجدد.. وعلينا أن نحذر .. وعندما علمت بالخبر، ظننت لأول وهلة أن الرئيس السادات سوف يعتقل بعض الجماعات الدينية قبل خطابه في 5 سبتمبر كإجراء وقائي، ولا مانع من اعتقال بعض شباب التجمع المعروفين.. ولم يدر في خلدي للحظة واحدة أنني شخصيا على رأس قائمة الاعتقالات الجديدة.

• وهل لا يزال الدكتور ميلاد حنا يتذكر لحظات اعتقاله؟

- طبعا مفيش كلام.. ودعني أحكي لك بعض تفاصيلها .. لقد اقتحمت القوات الخاصة من رجال الأمن منزلي.. وألقى علي .. وفي حراسة الشرطة أخذوني إلى قسم الدقي ثم إلى سجن الاستقبال بليمان طرة.. وهناك تعذر استقبالي بسبب التفرقة الدينية ، فتوجهنا من طره إلى سجن المرج شمال القاهرة.. وفي غرفة المأمور تجمعنا نحن المعتقلين الأقباط وكانت بشائر الفجر قد أطلت علينا.. وقد أمسك بكل منا حارسان أحدهما يتأبط الذراع اليمني والآخر يتأبط الذراع اليسرى وسرنا جميعا في هيئة طابور يجمع بين الكهنة والعلمانيين.

وتأكدت من عمق الشرخ الذي أصاب مصر آنذاك بعد أن أعدت وزارة الداخلية سجن المرج لاستقبال الأقباط وحدهم.. وبخطوات منتظمة تتناغم مع خطوات رجال الأمن الذين أمسكوا بنا.. وقد سرنا جميعا إلى السجن الداخلي وتوقفنا عند سجن التجربة وهو سجن داخل السجن.. وفي زنزانات باردة دفعوا بنا إلى ساحتها القذرة .. لقد كانت توحي إلينا بالرهبة والعقاب معا.. كما كانت توحي أيضا باستحالة الهرب.. وعلى وسادة من الكاوتش وبنفس الملابس التي غادرت بها منزلي ألقيت بجسدي المتعب وأنا في حالة من الذهول وانعدم الوزن.. وقتها لم أستطع النوم.. وبعد أقل من لحظة قصيرة.. فإذا بطابور جديد وإذا بهم يدفعون كاهنا للإقامة معي في زنزانتي.

• ما هو تأثير تجربة السجن التي عاشها الدكتور ميلاد حنا طوال الثلاثة والثمانين يوما.. ضمن اعتقالات سبتمبر عام 1981؟

- هو أولا.. عندما يفرض على الإنسان حبس لمدة عدد معين من السنوات، لابد أن يؤهل نفسه لمثل هذه الحبسة.. ولكن وجه الجمال والقهر معا فيما واجهته من اعتقال هو أننا دخلنا إلى المجهول.. فلم نستطع فور دخولنا السجن أن نعرف لماذا حبسونا.. وظللنا نضرب أخماسا في أسداس حول هذا السؤال.. وتساءلنا عن المصير.. باعتبار أن ذلك كان مم أصعب الأسئلة التي واجهتنا في تلك الفترة .. إنه المجهول بعينه.. وبمجرد اعتقالي وإيداعي سجن المرج في الساعة الثانية صباحا.. في الفجر.. ودخلت الزنزانة مع بداية الشروق .. وكان معي بها أحد الكهنة من رجال الدين المسيحي.

وكما ذكرت من قبل.. كان ذلك بداية تفرقة عنصرية.. الأمر الذي جعلني أقوم بإضراب داخل السجن على هذه التفرقة.. وهذه كانت تفاصيل دقيقة كتبها الأستاذ هيكل في كتابه.. وكذلك أنا كتبتها كذلك.. المهم.. هو أنني حين كنت في طريقي من غرفة مأمور السجن إلى الزنزانة بين حارسين من حراس السجن.. أحسست بنشوة غريبة..

وشعرت أنني قد انتقلت من الأستاذية الجامعية .. ومن رجل الفكر إلى النضال السياسي.. وأنني سأكون شخصية تاريخية بدلا من أن أكون شخصية جامعية علمية.. وما إن دخلت إلى الزنزانة وكانت انفرادية وكريهة الرائحة ومظلمة.. تخرج منها جيوش من الحشرات من كل الأنواع.. حتى نمت نوعا عميقا.. لم يحدث لي من قبل.. لأنني كنت قبل ذلك بأسبوع منفعلا بشدة لما حدث لمصر خاصة بعد أحداث الزاوية الحمراء.. وشعرت بأنني كان من الممكن أن أموت لو لم أدخل السجن في هذه الفترة.. واعتبرت اعتقالي منقذا من مثل هذا الموت المحقق..

وبالفعل تركت لنفسي ولجفوني الفرصة.. ونمت كما لم أنم من قبل.. ولا أذكر متى استيقظت لأن الزنزانة كانت مظلمة في كل الأوقات.. حتى جاء الحارس والسجان بكاهن آخر يزاملني بالزنزانة.. بعدها عشت بها ساعات طويلة منفردا.. وكان اسمه القص " اثناسيوس بطرس".. ولم يكن بيني وبينه معرفة مسبقة ولكنه قابلني بترحاب شديد.. وعشنا معا داخل هذه الجدران واعتبرني أستاذا له.. وما زالت تربطني به صداقة حتى الآن.. وكان رجلا دينا من القاهرة ومن حي المطرية.. وعرفت فيما بعد أن كل من دخل السجن من الكهنة والأساقفة كان بسبب مشكلة " الخط الهمايوني" وإمكانية بناء كنائس بطريقة معقولة.. وهذه كانت قضية سياسية ربما نتعرض لها فيما بعد.

• وبشكل عام .. هل يمكن أن تقول لنا.. ما هو تأثير هذه التجربة على الفكر الإنساني قديما وحديثا؟

- ابتداء في تقديري أن كل مسجون سياسي يعتبر السجن بالنسبة له في مراحله الأولى هو فترة الرجوع إلى الذات.. وتصحيح المسار.. وهي وقفة إجبارية ممتازة.. لأن الإنسان خارج السجن من النادر أن يقف مثل هذه الوقفة نظرا لمشاغل الحياة الكثيرة.. ومن هنا .. فمجرد أن دخلت السجن.. كانت توجهاتي على محاور مختلفة عندما كنت مع نفسي .. أولا تساءلت من أنا؟ .. وإلى أين سأكون؟ ومتا هو مصيري؟ .. وما هي فلسفتي في الحياة؟

إذن السجن هو المدرسة الكبيرة للفكر والفلسفة .. وأي مناضل سياسي لا يستغل فترة السجن في المزيد من التفكير والفلسفة.. وفي إعادة حساباته يخطيء في حق نفسه.. ويجد نفسه دون أن يعود إلى نفسه، وهذا خطأ شديد جدا.. والمسجون السياسي أو المفكر الذي يخرج من السجن ويناضل في نفس الطريق وبنفس الحماس وبنفس التجربة.. هو سجين لا يستحق أن يكون مفكرا .. ويمكن أن نلقبه بالمشاغب دون أن يكون مبدعا أو سياسيا أو أي شيء نافع لنفسه أو لوطنه.. وبالتالي.. لابد من اعتبارها فترة تصحيح مسار.. وبالنسبة لي كانت كذلك.. فقد بدأت أراجع تاريخ حياتي كله وأخذت أستعرض شريط ذكرياتي وأضع خطوطا حمراء تحت الأجزاء المضيئة وغير المضيئة.. ولابد لي هنا أن أقول.. إنني قد اكتشفت نفسي من جديد.. وتستطيع أن تقول إنها " بيروسترويكا الميلادية" نسبة لي.. وخرجت ولدي نقد شديد في نواح كثيرة.. منها النواحي السياسية بالذات وموقفي من حزب التجمع حيث وجهت إليه نقدا شديدا واختلفت مع مبادئه، لأنه يدعو إلى الاشتراكية من نهج ماركسي ويستبعد النهج الديمقراطي.

ومن هنا بالفعل قد أثر في تأثيرا شديدا.. ورفضت أن أكون فردا في قطيع، ورأيت أن تكون لي هذه الخصوصية في المزج بين الاشتراكية والديمقراطية.. وتجدني من هذا المنطلق قد اخترت طريق التعامل مع حزب الوفد.. وحرصت في الفترة الأخيرة أن أكون كاتبا في صحيفة الوفد لفترة طويلة.. لأنني وما زلت أن طريقي الوحيد يرتبط بالاشتراكية والديمقراطية كنهج واحد ومشترك.. لأنه لا يكفي أن تطعم الإنسان .. بل لابد وأن تعطيه حريته في الاختيار وحرية المطالبة بحقه في الحياة .. هذا هو البعد الأول.

أما البعد الثاني.. فهو أنني قد نشأت وتربيت في بيت قبطي في حي شبرا في جزيرة بدران وفي ارع مسرة بالتحديد، حيث توجد أقدم كنيسة بنيت في شبرا في عام 1924 وهو تاريخ ميلادي.. وكان جدي لأمي من الأثرياء حيث كان يرعى هذه الكنيسة.. وبالتالي كانت نشأتي دينية خالصة.. ارتبطت بحفظ الكتب الدينية والتراتيل.. ثم كنت قائدا لإحدي مدارس الأحد في منطقة جزيرة بدران.. ومصر القديمة.. حيث كنت زعيما في سن السادسة عشرة من عمري، وتعرفت على المناورات السياسية وغير ذلك.. ثم تعرفت على " نظير جيد".. الذي أصبح فيما بعد الباب " شنودة"..؟ حيث كان القائد في الجهة الأخرى من شارع شبرا وفي المنطقة المقابلة من نفس الحي فيما كان يعرف بالترعة البولاقية.

ثم سافرت إلى بريطانيا.. وهناك قرأت عن الفكر السياسي الحديث ثم أصبحت بعد فترة وجيزة عضوا بارزا في حزب العمال البريطاني .. وربما يكون انتمائي إلى الاشتراكية الديمقراطية يعود لتلك الجذور.. ومن ثم ابتعدت عن الفكرة الدينية .. وأصبحت علمانيا مفكرا وسياسيا.. وتحول انتمائي القبطي إلى انتماء أسري واجتماعي أكثر منه انتماء كنسي ديني.. ولكن عندما اعتقلت مع الأساقفة والرهبان.. أرجع هذا الاختلاط من جديد تراثي الديني السابق وأثار في وجداني كل مشاعر الطفولة.. وعلى الفور استعدت قدراتي على قول التراتيل وقراءة الإنجيل.. وعلى هذا أصابت الدهشة كل من حولي.ز لأنني كنت في أذهانهم أمثل الرجل العلماني الشيوعي.. وخلاصة القول أن هذه الحبسة قد اشتعلت في وجداني مرة أخرى التراث الديني المسيحي، وربطتني من جديد برجال الدين.. لأنني كنت بالنسبة لهم المدافع عنهم وعن حقوقهم الدينية والفكرية داخل القضبان وأمام مأمور السجن.

• وإذا ما عدنا إلى الحديث عن فترة وجودك بحزب العمال البريطاني ماذا تقول عنها بالتفصيل؟

- أنا قعدت في حزب العمال في حزب العمال البريطاني أعوام 48و 49و 1950 وانتخبت انتخابا حرا سكرتيرا للجنة الطلبة الاشتراكيين في الجامعة.. ثم انتخبت ممثلا عن هؤلاء الطلبة في المؤتمر القومي الذي عقد آنذاك في مدينة مانستر وكانت لدى حتى فترة وجيزة مكاتبات ورسائل بيني كممثل لهذه الجماعة وبين مستر بيفين وزير الخارجية البريطاني.. وكذلك مستر بيفان وزير الصحة البريطاني..

ولكنني للأسف أحرقت هذه الأوراق كلها خوفا من الاعتقالات في وقت عبد الناصر وخشيت أن أتهم بالعمالة.. ولكنها كانت في رأيي أوراقا تاريخية مهمة بالنسبة لي وبالنسبة لمصر.

• نتوقف عند نقطة مهمة.. وليسمح لنا الدكتور ميلاد حنا إثارتها.. وهي تتعلق بالشخصيات التي تعرفت عليها داخل السجن وخارجه.. ومدى تأثرك كمفكر سياسي بهؤلاء؟

- كان من الطبيعي داخل السجن.. وداخل هذه الجدران السوداء أن يسقط الزمن، وتفقد إحساسنا به.. فلا جرائد .. ولا معلومات.. وأصبحت كلها متشابهة.. فلا معنى لأسمائها أو تواريخها.. ورحنا جميعا ننشغل بحياتنا داخل السجن ونتصيد الأخبار بين الحين والحين..

وفي أيامنا الأولى لم نكن يعرف بعضنا البعض.. فالاتصال ممنوع والاختلاط مستحيل والغموض يسيطر على المكان.. حتى جاء صباح أحد الأيام وسمعنا صوتا يصيح أنا اسمي تادروس.. صحفي في أخبار اليوم ولابد أن يعرف بعضنا البعض، لأن أيام الاعتقال قد تمتد سنوات.. وكانت أبواب الزنازين من الحديد المصمت من الصاج، وبالجزء العلوي منها فتحة صغيرة لا يتعدى مقاسها 10 في 10 أسميناها " الطاقة" .. فهي مصدر النور الوحيد أثناء النهار.. وعن طريق هذه الطاقة عرف بعضنا البعض.. وعرفنا أن السجن به 28 زنزانة وساكونها هم الأساقفة والقساوسة والأفراد العاديين.

وقد حاول القمص بولس باسيلي عضو مجلس الشعب عن دائرة شبرا في أيام الرئيس السادات أن يخفف عنا.. وكان رجلا بليغا فأطلق على الزنزانة اسم " القلاية" وبذلك عرفنا أسماء الموجودين بالقلايات وعددهم، حيث كانت الزنزانة عندما استقرت الأمور تضم اثنين وبذلك يصبح عدد المسجونين في سجن التجربة 56 رجلا.. وقد لاحظت آنذاك أن إدارة السجن قد استبقت جميع الأساقفة والكهنة في سجن المرج.. وفي يوم من أيام سبتمبر.. انضم إلينا زميل جديد وهو أسقف بور سعيد.. إنه الأنبا تادرس.. الذي كان في مؤتمر خارج مصر أثناء حملة الاعتقالات ، وما أن علم بها حتى رفض الإقامة بالخارج وآثر العودة وبالفعل اقتادوا الرجل من المطار إلى السجن.

وفى وسط هذا الظلام.. كان السؤال الذي ظل يطاردني طوال الأيام الأولى من الاعتقال: ترى ما هي التهم الموجهة لنا؟ وهل هذا تحفظ أن سجن؟ وما علاقة ذلك بالتكييف القانوني.. وعلى ما أذكر كان في الزنزانة المقابلة لي.. كان يقيم محام من سوهاج اسمه الأستاذ وصفي وكان يصر دائما على ترديد حقيقة أنه كان عضوا بارزا في الحزب الوطني.. وكان الرجل في حالة من الذهول فهو أكثر الأعضاء داخل الحزب تأييدا للسادات في كل تصرفاته ، ويظل يضرب كفا بكف على هذه المفارقة الغريبة والموجهة.. ودعني أحكي لك ذكريات يوم السادس من أكتوبر عام 1981.. ففي هذا اليوم دخل علينا الصول بملابسه المدنية إلى عنبر سجن التجربة.. وقال لدينا إشارة من وزارة الداخلية بأن الأنبا صموئيل سوف يأتي إلى السجن للاجتماع بنا.. وكان السادات قد عينه رئيسا للجنة الخماسية البابوية التي انتقلت إليها سلطات البابا عقب قرار عزله.. ثم أضاف بأنه لم يعرف بعد ما إذا كان مجيئه قبل أو بعد انتهاء العرض العسكري بمدينة نصر.

ثم عاد الصول ليعلن أن الزيارة تحدد لها موعدا في الثالثة ظهرا بعد العض العسكري.. وجاءت الثالثة ولم يأت الأنبا صموئيل.. وفي الرابعة عاد الصول خليفة يحمل نبأ تأجيل الزيارة لصعوبة المرور عقب احتفالات أكتوبر.. ولم يكن أحد منا يعلم أن الزيارة قد تأجلت إلى الأبد.. وطبعا السبب معروف.. وفي مساء نفس اليوم جاءنا النقيب مجدي طبيب السجن وأخبرنا أن هناك تعليمات بفتح أبواب الزنازين للجلوس والتسامر.. وبالفعل كانت سهرة ممتعة.. وظل النقيب محتفظا بهدوئه وقوة أعصابه ولم يقل لنا أن مصر الغالية كانت تعيش أحداثا رهيبة في تلك الليلة.

وليلتها لم أنم.. فقد كنت على موعد زيارة أسرتي في الصباح وجاء صباح اليوم السابع من أكتوبر.. وفجأة انفتح باب الزنزانة ودخل مأمور السجن كي يبلغني بإلغاء الزيارة والسبب إعلان الأحكام العرفية.. وعندما سألته هل السادات مات؟ صمت.. ولم يرد.. وبعد دقائق صدرت الأوامر بفتح أبواب الزنازين على أن يقف كل منا أمام باب زنزانته لا حركة.. وفوق كرسي في منتصف العنبر وقف مأمور السجن.. كي يعلن أن السادات قد مات.. وأن الأحكام العرفية قد أعلنت.. لقد لفنا الذهول جميعا في تلك اللحظة.. ونحن مسمرون في أماكننا.. ولم ننتبه إلا على صوت الحرس بإدخالنا الزنازين مرة ثانية وممنوع الكلام.. لحظتها أحسست أن نسائم الحرية تقترب، وأنني سأعيش وسوف أعود إلى منزلي.. ولم تعد ثمة مسافة كبيرة بيني وبين يوم الإفراج عني.

وبعد أن هدأت الأمور.. ودخلنا إلى الزنازين علمنا بوفاة الأنبا صوئيل في حادث المنصة.. وفي يوم الأربعاء 14 أكتوبر فجئنا بالأوامر أن نستعد للرحيل.. البسطاء منا قالوا إنه الإفراج.. والآخرون قالوا سون ننتقل إلى القلعة أو إلى طرة للمحافظة على حياتنا.. وفي انضباط صارم وخطوات محسوبة خرجنا من سجن المرج إلى سجن وادي النطرون.. وكنت حتى هذه اللحظة لا أعرف الفرق بين السجن واليمان.. وهناك كان المكان أرحب والهواء أنقى والسماء صافية.. وشاهدنا المساجين بملابسهم الزرقاء وأدركنا أن في مصر إذاعة تسمع حتى في السجون.. فكل مسجون لديه راديو صغير.. كما شاهدنا كذلك داخل سجن وادي النطرون التليفزيون.

وكانت إقامتنا في هذا السجن في غرفة واحدة واسعة ولكنها كانت مهجورة من قبل تملؤها الفيران والصراصير وبداخلها دورة مياه قذرة وحقيرة.. ورغم ذلك فقد سعدنا بها أكثر من سجن المرج.. وكان عددنا داخلها 56 مسجونا.. وقد جاءتنا مأكولات وكتب من الأديرة المحيطة بنا.. وشعرنا بقرب الإفراج للمرة الثانية.

هؤلاء هم الأساقفة الذين تعرفت على بعضهم داخل سجن المرج.. وهناك شخصيات أخرى كانت لي علاقة قوية بها داخل السجن أيضا.. ولكن ليس في سجن المرج.. ولا سجن وادي النطرون..ن ه ولكن في سجن ليمان طرة كان لقائي بالقادة والزعماء والسياسيين.. ولانتقالي إلى هذا السجن قصة أخرى تستحق أن أرويها لك.. ففي يوم الأربعاء على أذكر الموافق 4 نوفمبر عام 1981 .. وفي لهجة حازمة.. طلب مني أحد الضباط أن أجمع أمتعتي وأشيائي.. قد تقرر نقلي إلى ليمان طرة .. حيث يقيم السياسيون في مبني " الملحق" وهو أحد العنابر الموجودة بسجن طرة.. وكانت الدولة في عهد عبد الناصر قد أنشأته خصيصا لهذا الغرض .. وقد تتعجب حين أقول لك إن هذا كان أول مطلب لي منذ اعتقالي مع الآباء والأساقفة في سجن المرج.. وكثيرا ما أردت التعبير عن هذا المطلب بالاحتجاج على تقسيم المعتقلين إلى مسلمين وأقباط وما يعنيه هذا التقسيم من وجهة نظري من أنه تقسيم لمصر كلها.. وليس للمعتقلين .. ولما كان الإضراب في السجون له قواعد وأصول فقد جاءت محاولتي غير مدروسة وباءت بالفشل الذريع.. الأمر الذي جعلني ألجأ إلى محاولة الانتحار.. حتى أنبه المسئولين في السجون إلى رغبتي هذه.. والحقيقة أن محاولتي لم تنجح في الانتقال إلى سجن السياسيين والزعماء إلا بعد اغتيال السادات حين وافقت وزارة الداخلية بإتمام نقلي إلى ليمان طره مع باقي السياسيين.

وتضم منطقة طرة ثلاثة سجون كبيرة بها حوالي 60% من السعة الفندقية للنزلاء.. الأول ليمان طره ويطل على الكورنيش .. أما السجن الثاني وهو مزرعة طره ويقع في الخلف شرقا مواجها سلسلة الجيل في امتداد المقطم ويبدو وكأنه مخصص لإقامة المساجين الأقل عنفا والمحكوم عليهم في جرائم مخففة.

أما السجن الثالث فهو مبنى جديد تماما وليس بسجن الاستقبال حيث يتم بالفعل استقبال المساجين.. وما إن دخلت سجن الملحق هذا حيث يقيم السياسيون حتى شعرت أنني في سجن خمس نجوم، فهو سجن له سور خاص ومعزول تماما.. وفيه يقيم بعض من حوكموا في أحداث 15 مايو عام 1971 مثل على صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف.. أما أبرز السماء التي ارتبطت بها بهذا السجن من رموز العهد الناصري هما محمد فايق وفريد عبد الكريم فقد عاشا في هذا السجن عشرة أعوام.

كذلك من الشخصيات السياسية المصرية التي التقيت بها داخل نفس السجن.. الأخ العزيز فؤاد سراج الدين الذي احتضنني بقوة وشعرت نحوه بمودة وإعزاز وبلقائي به نسيت أنني في السجن.. فعلى الرغم من أن الرجل تعود حياة القصور ومارس السلطة في شبابه وزيرا في أهم وزارات مصر- المالية والداخلية- إلا أنه كان صلبا في مواجهة السجن.. أيضا من الشخصيات الأخرى التي كانت لي علاقة قوية بهم.. الكهل العنيد عبد الفتاح حسن باشا الذي راح يقاوم بشدة كافة أشكال الظلم.. ولعل هذه اللقاءات تأثيرا لما تربطني به من علاقة خاصة.. لقد عرفت عبد العظيم أبو العطا في عام 1946 أثناء عملي في كلية الهندسة.. وفي أحداث الحركة الوطنية إبان فترة مقاومة اتفاقية صدقي- بيغن عام 1949 تصادفنا واستمرت صداقتنا حتى فارق الحياة.

وفى الملحق العظيم داخل نفس السجن التقيت بالصديق القديم محمود القاضي وبالدكتور إسماعيل صبري عبد الله والدكتور فؤاد مرسي .. كذلك الرجل الشجاع الدكتور محمد أحمد خلف الله بشعر رأسه الأبيض الفضي.. ونقطة أخرى مهمة أذكرها لك في سياق هذه الذكريات أنه قد جاءت إقامتي في الزنزانة رقم 11 بالدور الأرضي مع الزعيم فتحي رضوان.. وكان ثالثنا أحمد فرغلي الصحفي وعضو مجلس نقابة الصحفيين وعضو مجلس الشعب عن حزب العمل الاشتراكي.

وثمة اعتراف يجب أن أبوح لك به.. فقد كانت أشهى الأطعمة وأفخرها تلك التي تعدها السيدة هدايت حرم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.. فقد كان الرجل يصر دوما على أن أتناول غذائي معه كل يوم.. وكانت غرفة الأستاذ هيكل في الطابق الأعلى باعتبار أنه من أوائل المعتقلين الذين قدموا إلى سجن ملحق طرة.. وحيث اتفق الجميع على ترك الدور الأرضي للشيوخ والكهول الذين لا يتحملون صعود السلالم .. وغير هؤلاء وهؤلاء .. عرفت المحامي عبد العزيز محمد وعبد العظيم المغربي الذي كان مسئولا عن الإذاعة المحلية داخل السجن.

• في ضوء عقوبة السجن المرفوضة.. كيف ترون الطريقة المثلى لمعالجة الرأي الآخر أو الرأي المعارض؟

- طبعا قصة السجن مع أي مفكر سياسي تختلف باختلاف الظروف والأوقات وهي بالتالي جزء من تاريخ مصر.. وبالنسبة لي كنت حالة خاصة.. حيث اعتقلت في ظروف غير عادية.. بمعنى أنه وكما سبق أن ذكرت لك.. أنه حين اعتقالي حدثت تفرقة غريبة بين المسلمين والأقباط في سجن المرج.. ومن بعده انتقلت إلى سجن وادى النطرون ثم غلى سجن ليمان طره.. وفي هذه الحقبة.. كنا فيما يسمى التجربة.. وهو نوع من أعتى أنواع السجون وفيه يجربون المساجين الجدد داخل السجون كي يكتشفوا ويجربوا مدى تحملهم لهذه العقوبة.

ثم جانبا آخر هو السجن الذي يضعون فيه المحالين للأشغال الشاقة إلى الإعدام.. وقد قضيت فيه من 2 سبتمبر عام 1981 حتى 15 أو 20 أكتوبر من نفس العام.. ونعود للإجابة على سؤالك.. بالقول إنه سيأتي وقت ليس ببعيد عندما سيضحك الناس ويتندرون علينا لأننا نضع أصحاب الرأي المعارض داخل السجون لمجرد أنهم يعارضون بآرائهم وأفكارهم فقط، وهذه قضية مبدئية وخطيرة.. ونحن الآن ندهش بنفس القدر حين علمنا أن بعض أجدادنا في البشرية كانوا يضعون المعارضين لهم في أقفاص معلقة مع ألسود كوجبة شهية عقابا لهم على آرائهم المعارضة.. أو وضعهم في زيت مغلي أو وضعهم على خازوق.

إذن هي سمة من سمات تطور البشرية.. وفي كل فترة زمنية تختلف الوسائل .. ولكننا نلاحظ أنه كلما تقدم وتحضر الإنسان كلما قبل الخلاف في الرأي ورحب بالمعارضة.. ولكنى أزعم أنه أمامنا شوط طويل على هذا الدرب في مصر.. والسبب يرجع إلى أننا مررنا على عصور قهر شديدة ومتنوعة ووجود مثل هذه الفترات بدءا من أحداث التعذيب داخل السجن الحربي وخلافه.. ليست ببعيدة ولا خافية علينا.. أيضا ما يعانيه الآن بعض فئات المعارضة الأخرى رغم اختلافي معهم.. إلا أنني لا أقر عقوبة السجن أو التعذيب ما دامت التهمة هي الرأي والفكر.. ولابد لنا أن نفرق هنا بين موضوعين أساسيين الأول: محاولة قلب نظام الحكم بالقوة ومن هنا لابد على النظام سواء مصري أو غيره أن يدافع بالقوة عن مثل هذه المحاولات.. لأننا في هذه الحالة أمام نوع من المعارضة التي تستخدم العنف والسلاح والتآمر.. أما أن يحبس الإنسان لأن لديه عقيدة أو فكرا.. فإن ذلك في منتهى الخطورة وهذا هو الموضوع الثاني المتعلق بأصحاب الرأي الحر المستنير حتى ولو كان يتعارض مع رأي النظام.

وفي يقيني أن الزج بأصحاب الرأي والمفكرين داخل السجن لمجرد أنهم يعارضون يولد داخل أنفسهم العنف والحقد على النظام نفسه.. وبالتالي تجد أن النظام في هذه الحالة.. يخسر ولا يكسب ، وخسارته تكون كبيرة وعلى المدى البعيد.. وخذ مثالا واحدا على ذلك .. عبد الناصر حينما اعتقل كل الإخوان المسلمين وأدخلهم السجن.. هذه العقوبة أفرزت بداخلهم العنف الذي تمثل في ظهور جماعات دينية متطرفة مثل الجهاد وآخرين .. ولعلها دعوة أوجهها.. دعنا نتحاور ونختلف ما دمنا لا نستخدم السلاح .. لأن المحاورة تولد الأفكار الجديدة.. والعبرة في الاختيار لفكرة الأنسب والأصلح للمجتمع من منطلق أننا مقبلون على عصر قبول الاختلاف في الرأي وأنه لا يحتكر أحد الحكمة وحده.. وأنه لا غلبة لأصحاب الرأي بالقهر.

• وهل ترون أنهمن الضروري أن يكون هناك سجون خاصة للمفكرين وأصحاب الرأي .. أو أن يزج بهم وسط المجرمين والقتلة؟

- شوف.. لقد كانت هذه قضيتي وأنا عضو مجلس الشعب.. وتجربة السجن التي عايشتها كانت وما زالت ماثلة أمامي.. وقد آليت على نفسي طوال وجودي داخل المجلس آنذاك أن أحقق هذه الرغبة فطالبت أولا بفصل السجون عن وزارة الداخلية ونقل تبعيتها إلى وزارة العدل، لأنها جزء من تطبيق العقوبة. هذا بالنسبة لجميع الجرائم فلا ينبغي أن يكون السجن برئاسة ضابط يقهر النفس الإنسانية وإنما ينبغي أن يكون قائد السجن أستاذا جامعيا أو دارسا لعلوم النفس وعلوم الجريمة حتى يتحول السجن من مجرد أستاذا جامعيا أو دارسا لعلوم النفس وعلوم الجريمة حتى يتحول السجن من مجرد أداة للعقوبة فقط إلى أداة العقوبة والإصلاح في آن واحد.. ولا مانع من قرار العقاب كجزء من العودة إلى الذات.. ولا بأس من العزل.. حتى يفكر الإنسان في مصيره وفي أسباب وجوده هنا.. ولكي يصح مساره .. هذا جزء أساسي من العقوبة ..

وطالبت به كحق للمسجون العادي.. أما المسجون السياسي ورجل الفكر الذي ترى الحكومة أيا كان نوعها أن في وجوده خطرا عليها لأنه صاحب فكر معارض.. وتود أن تعزله فلابد أن يوضع في مكان أمين وآدمي، ويعامل معاملة إنسانية جيدة كأن يتم عزله في أحد القصور الملكية مثلا ويكرم.. ولا يتم تعذيبه أو إهانته .. ولقد عاهدت نفسي ومنذ خروجي من السجن أن أناضل وأكافح من أجل حياة أفضل لكافة المسجونين .. وعلى رأسهم المسجون صاحب الرأي وصاحب الفكر.

• نريد أن نعرف كم كتابا.. ألفه الدكتور ميلاد حنا داخل السجن أو خارجه تأثرا بهذه التجربة؟

- في الحقيقة أنا خرجت من السجن في انفعال شديد.. ولم يكن لدينا أي وقت على الإطلاق لتأليف كتب.. وانغمست في حياتي السياسية داخل حزب التجمع.. وبسرعة شديدة جاء عام 1984 واختارني الرئيس مبارك عضوا بالبرلمان.. ثم تم اختياري رئيسا للجنة الإسكان.. ومن ثم انخرطت في حياتي السياسية بالكامل .. ولم أفكر في تسجيل هذه التجربة في كتاب إلا في عام 1987 .. عندما حل البرلمان.. وهجرت العمل السياسي لشهور عديدة .. أي بعد خمس سنوات بالضباط. وعلى عجل استطعت أن أعيد الذاكرة من جديد.. وأحاول تسجيل ما شاهدته وشعرت به من خلال هذه التجربة.. عندئذ خرج كتاب " ذكريات سبتمبرية " .. وكان أول الكتب التي سجلت فيها هذه الفترة وهذه التجربة.. بخلاف ذلك عكفت على تأليف كتب أخرى في مجال الإسكان.. ثم كتاب آخر متأثرا بتجربة السجن وأصالة الإنسان المصري.. وخرج بعنوان " الأعمدة السبعة للشخصية المصرية".. وهذا بخلاف كتبي العلمية المتعلقة بتخصصي في فرع الهندسة.. وأقولها لك كما كتبتها في ظهر غلاف أحد كتبي لقد دخلت السجن أستاذا جامعيا.. وخرجت منه ممارسا سياسيا ومفكرا.

وفى ختام حديثي أقول : إنه عندنا في مصر الإنسان لا يكون سياسيا أو مفكرا أو زعيما إلا إذا دخل السجن.. فهو البوتقة ذات الحرارة العالية المكثفة التي تولد وتفجر طاقات في لنفس الإنسانية التي يصعب اكتشافها بدون تجربة السجن.


الحكاية الخامسة: لطفي الخولي

الحكاية الخامسة يرويها: لطفي الخولي:

اعتقلت 12 مرة .. خمس في عهد

الملكية.. والباقي في عهد الثورة

يبدو أننا سوف نقضي معظم الوقت داخل هذه الأوراق البيضاء عند حدود كلمات الحوار الذي أجريته مع الكاتب الصحفي والمفكر والأديب الأستاذ لطفي الخولي، وذلك لأنه لم يفعل كما فعل أغلب المفكرين الذين التقيت بهم.. من حيث إسراعهم في تسجيل تجربة السجن في حياتهم في كتاب..

والشيء الجديد الذي اتبعه الأستاذ لطفي الخولي على هذا الدرب أنه عندما خرج من المعتقل آخر مرة حرص على تجميع تجربته هذه التي سجلها في قصص قصيرة وأصدرها في مجموعة كبيرة صدرت في عام 1987 .. بمعنى أنه قد لجأ غلى الأسلوب الروائي في نقل تأثير تجربة السجن والاعتقال على حياته الفكرية والسياسية .. وأسفر هذا الأسلوب في نقل تأثير تجربة ا لسجن والاعتقال على حياته الفكرية والسياسية.. وأسفر هذا الأسلوب عن كتابة مجموعتين قصصيتين هما " رجال وحديد" وقد كتبها لطفي الخولي في سجن بني سويف عام 1953 .. قم مجموعة " ياقوت مطحون" التي كتبها ما بين سجن القلعة ومعتقل الفيوم والقصر العيني على امتداد أعوام 1959 و 1960 .. وقد نشرت هاتان المجموعتان منفصلتين أعوام 1953 و 1964 على التوالي..

وقد يبدو هذا المدخل للحديث عن الكاتب والمفكر لطفي الخولي غريبا للبعض منا.. وربما يرجع سبب الغرابة إلى أننا جميعا نعرف الأستاذ لطفي الخولي ككاتب سياسي في المقام الأول.. وصاحب رأي وفكر في هذا الميدان.. فله عدة دراسات سياسية تبلغ تسعة كتب كبيرة.. بجانب مقالاته السياسية المعروفة على هذا الدرب.. ولكن ما كتبته منذ لحظات لا يبدو لي غريبا على الإطلاق خصوصا وأنني اكتشفت أن لطفي الخولي يتسم بصفة الأديب أكثر من صفة الكاتب والمفكر السياسي.. وليس هذا الاكتشاف من اختراعي.. بل عرفته من السيرة الذاتية للمفكر لطفي الخولي.. ومن التعرف على بدايات كتاباته في هذا المجال.. وعلى حد قوله لي أثناء الحوار .. إن كل كتاباته الأدبية قد أفرزتها تجربة السجن والاعتقال.. فبجانب المجموعتين السابقتين هناك ثلاث مسرحيات هم : " قهوة الملوك" و " القضية" و " الأرانب"..

وهذه المسرحيات الثلاث شاهدها جمهور القاهرة في منتصف الستينات من هذا القرن.. بجانب ذلك فهو أيضا كاتب سيناريو مبدع.. كتب أكثر من عشرة سيناريوهات لأفلام روائية طويلة نذكر منها على سبيل المثال " ثمن الحرية" إخراج نور الدمرداش.. " القاهرة 30" إخراج صلاح أبو سيف و " العصفور" من إخراج يوسف شاهين..

ورغم أن الأستاذ لطفي الخولي قد ابتعد قليلا عن ميدان الأدب الذي أبدع فيه .. وكانت بدايته الحقيقية على أرضه.. حيث انشغل طويلا بهموم الفكر السياسي.. إلا أنه كان يعود من حين لآخر إلى ميدان الأدب والفن، فقد حرص على رئاسة وإدارة الدراسات التي نظمتها مؤسسة السينما الفرنسية بباريس عام 1973.. ونفس الشيء حدث لحلقات الدراسة عن السينما والعالم الثالث التي نظمها مهرجان قرطاج عام 1974..

لهذا كله .. لم أجد أي غرابة في حديثي عن الأديب لطفي الخولي كمدخل لحديث المفكر وتجربة السجن.. رغم أنني لم أعثر على أية ورقة سجل فيها لطفي الخولي تجربة السجن كذكريات مباشرة إلا أنني حاولت العثور على هذه الكلمات من خلال الخوض وراء سطور عباراته التي سجل بها انطباعاته عن تجربة السجن في مجموعته القصصية التي صدرت منذ عدة أعوام ..

وقد سطر بعض هذه الانطباعات في المقدمة التي حرص على كتابتها مشيرا إلى هذه التجربة والتي قال فيها: في تجربتي قصة من فصلين: فصل أسميه " ما قبل السجن" .. كانت نيران الحرب الثانية على وشك أن تتحول من ساخنة ملتهبة إلى باردة عاصفة في منتصف الأربعينات، عندما رحت أدرس القانون ، وأحضر نفسي للمحاماة.. يؤرقني مع شباب جيلي المتفجر هموم وطن محتل مطحون يسعى للخلاص بطرق شتى صاخبة.. ولأن المحامي أو المناضل السياسي سلاحه الكلمة وفن الخطابة.. أو هكذا تفتحت الرؤيا في أعماقي.. لجأت إلى الأدب والفن قراءة ومشاهدة.. وإذا بي أدخل عالما جديدا، الواقع فيها غير محسوس ، بيد أنه أكثر حيوية من الواقع المحسوس خارج الذات..

والفصل الثاني تحركت أحداثه بين فراغات الحرية وسط قيود السجن حيث تقزم القانون الذي حسبته يوما سيدا عملاقا، لا يرقى إليه إنسي ولا جني.. انسخط أمام عيني عبدا ذليلا يطيع بلا تردد أدنى إشارة من أصبعه الشاويش ، انحشر في الزنازين أكوام من البشر، تدل عليهم أرقام معدنية.. جاءوا من سراديب العالم السفلي.. سرق قانون المجتمع حقهم في الحياة.. وكنت حينما كان يغرق السجن في لجة الصمت بعد غروب كل شمس.. كنت أقبع في زنزانتي المنفردة، أجلس مع خبزي الجاف في الظلمة.. وحيدا إلى نفسي كأنها ذلك الآخر الذي عاد فجأة بعد غربة التشرد في الزمن العتيق الذي لا عمر له.. في هذا الجرح السجين، تفتت أولى كلماته الأدبية.. كانت قصة قصيرة بعنوان " وصرت رجلا" .. نشرتها فيما بعد في صحيفة في الخمسينات كتبتها آنذاك بقلم " كوبيا" في حجم عقلة الصباع على ورق " البفرة" الرقيق الذي كان يستخدم في لف السجاير.

ولسوف نجد أرضية مشتركة من الفهم إذا ما تعمقنا في كلمات الأستاذ لطفي الخولي.. ولعلها تنقلنا بصدق إلى الألم والظلم الذي لاقاه المفكر لطفي الخولي من جراء هذه التجربة.. وكانت التهمة هي القلم والكتابة وحرية الرأي.. ولسوف نلمس ذلك أكثر حين نتتبع بشكل واع كلمات هذا الحوار.. التي لم تخرج عن صلب موضوعنا الذي اخترناه عبر هذه الصفحات.. وهو تأثير تجربة السجن أو الاعتقال على الفكر المصري بشكل عام والمفكر بشكل خاص..

وضيفنا هو الكاتب الأستاذ لطفي الخولي.. مع وعد غير مؤكد من جانبنا يتمثل في محاولة الاستعانة ببعض الجمل والعبارات التي صور من خلالها الأستاذ لطفي واقع هذه التجربة مستخدما أسلوبه الأدبي في قصصه القصيرة التي نشرها.. ونوهنا عنها منذ لحظات .. كما سنحاول أيضا أن نقف خلف الأسئلة .. وربما لا نقولها صراحة .. حتى نفسح المجال أكثر لنص الحوار ويحاول القارئ من جانبه أن يقف على نصوص هذه الأسئلة من واقع تتبع كلمات الضيف.

وقبل أن ندير الشريط لابد أن نذكر أن هذا الحوار قد سجلناه في حلقتين.. وفي يومين متتاليين بناء على حماس الأستاذ لطفي الخولي ورغبته في أن يقول لنا كل تفاصيل هذه التجربة..

يقول الأستاذ لطفي الخولي : لو حسبنا مجموع السنوات التي سجنت خلالها تقدر تقول " دستة" .. يعني 12 مرة .. بخلاف " الفكة " .. وإذا حاولنا تفصيل ذكر هذه المرات أقول لك .. لقد اعتقلت خمس مرات في العهد الملكي.. المرة الأولى منذ تفتح الوعي السياسي بداخلي وانشغالي بهموم مصر آنذاك وبهموم الوطن في إطار الحركة الوطنية ابتداء من عام 1944 أو 1943 .. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وكان عمري في ذلك الوقت أربعة عشر عاما..

وتراها بداية مبكرة.. والسبب أنني قد تربيت في بيت سياسي.. فقد شاهدت فيه مناظرات ومناقشات سياسية من مختلف الاتجاهات والأحزاب من ناحية والدي الذي كان انتماؤه الحزب الوطني.. وخالي الذي كان من الوفد وعمي البهي الخولي أحد رجال مصر التسعة الذين أسسوا حركة الإخوان المسلمين . في ذلك الوقت المبكر من عمري كان منزلنا يضج بالمناقشات السياسية.. كما ترى على اختلاف ألوانها واتجاهاتها..

أضف إلى ذلك وجود تيار تاريخي آخر متمثل في حكايات والدي عن تاريخ مصر الوطني وأبطال هذا لتاريخ وعلاقاته مع زعماء الحزب الوطني ودورهم السياسي آنذاك .. وكذلك كان هناك كثير من الكتب والصحف التي كانت تعبر عن مختلف هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية .. أضف غلى ذلك انتعاش الحياة العامة مثل المظاهرات التي كانت تطالب بالانسحاب والحريات العامة التي كانت متوفرة آنذاك والتي في ظلها كنا وراء آبائنا نطالب بمحاربة أغنياء الحرب وهم الفئة القليلة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية..

كل هذه المؤثرات قد شكلتني في بداية حياتي السياسية.. وجعلتني أعيش هذا الواقع وأنا ما زلت صبيا.. وأذكر أن أول مرة اعتقلني قد سبقها موقف من انب والدي.. حيث شاهدني أشارك في مظاهرة من تلك المظاهرات التي كانت تطوف شوارع القاهرة.. والتي نجحت خلالها في الإفلات من رجال البوليس.. بينما قبضوا على غيري.. هذه المرة حين عدت إلى منزلنا فوجئت بوالدي الرجل الوطني المخلص الذي قدم لمصر الشيء الكثير.. يعنفني على اشتراكي في هذه الأعمال.. وهنا كانت علاقتي بالوالد علاقة متميزة.

فرغم هذه الوطنية .. وهذه الأعمال الجليلة إلا أنه كان ينظر إلى كابن يريد أن يبعد به عن هذا التيار .. فقد كانت تغلب عليه مشاعر الأبوة للدرجة التي هددني فيها بأنهم لو أمسكوني فسوف يتحلى عني ولن يسعى لإخراجي من السجن.. والشيء الغريب أنني أعرف نبرات صوت الوالد.. وأفهم منها ميوله وحالته النفسية.. وما يريد أن يقوله صادقا أو غير صادق.. وفي هذا الموقف بالذات فهمت أن والدي لا يعنفني من أجل أن أبتعد عن الإحساس الوطني والمشاركة في أحداث بلادي.. ولكن كان هدفه وكما سبق أن قلت كان يخاف علينا جدا.. لقد أحسست بالفعل أن هذا التهديد قد خرج من وراء قلبه وعقله..

وفي المرة الثانية.. رغم هذا التحذير اشتركت في المظاهرات وقبضوا على وسجنت.. وأذكر أن أول علاقة لي بعالم السجون والاعتقالات كان حجز قسم السيدة زينب.. وكان ذلك عام 1943 أو أوائل 1944.. وفي هذه التخشيبة التقيت لأول مرة مع قادة الحركة الفكرية والوطنية المصرية فكان معي الإخوان المسلمون.. والشيوعيون والوفديون والأحرار الدستوريون .. وفي هذه التخشيبة رأيت أيضا والدي يأتيني مسرعا.. بالطعام والشراب بخلاف ما كان منه سابقا.. واسمح لي أن أعود بك إلى الوراء قليلا حتى أقول بعض المعلومات عن أسرتي وأصلها.. إنني رغم ولادتي بالقاهرة إلا أن جذور أسرتنا من القرشية بمحافظة الغربية.. وهي قرية لعبت دورا كبيرا في تاريخ مصر .. وفي منتهى الأهمية..

ففي هذه القرية اختفى عبد الله النديم ثماني سنوات.. وتستر عليه أهل القرية ورفضوا تسليمه للسلطات آنذاك رغم المكافآت السخية التي أعلنوا عنها.. وقد قضى عبد الله النديم هذه السنوات الطوال داخل القرية معلما للأهالي على لمبة جاز.. وقد أثرت هذه الواقعة في نفسي.. تأثيرا كبيرا.. امتدت إلى سنوات طويلة.ز فقد اتخذت مع آخرين شعار " الحصيرة ولمبة الجاز" من أجل ثقافة وطنية.. وطبقناه عمليا بإنشاء دار نشر لتحقيق هذا الهدف .. بجانب ذلك تمتاز قرية القرشية بإنجاب شعراء رومانسيين على مستوى عال أمثال الشاعر أحمد الكاشف وكان من أكبر المعاصرين لأمير الشعراء أحمد شوقي..

المهم .. في هذا الإطار بدأت أتعرف على التيارات السياسية الموجودة آنذاك.. وتأثرت أولا بتيار الوفد الذي امتاز في هذه الفترة بدفاعه عن كل المساجين والمفكرين السياسيين من كل التيارات الأخرى بدون تفرقة.. فكان يوكل المحامين بما في ذلك للإخوان وللشيوعيين وكل التيارات التي تخالف تعاليم حزب الوفد.. من منطلق ما كان يريده النحاس باشا آنذاك من أن الوفد ليس حزبا .. وإنما هو يمثل الأمة المصرية كلها.. ومع ذلك فقد كنت أرى حزب الوفد تتوقف طموحاته السياسية عند التحرر من الاستعمار ووطنية الحكم، ولم يصل بفكره آنذاك إلى الأفكار التي بدأت تجتاح الساحة السياسية والتي كان يمثلها الشيوعيون..

بجانب الأفكار التي طرقها آنذاك الإخوان المسلمون والتي كنت أراها تمثل تيار الأصالة والمعاصرة من حيث التمسك بالقديم .. والبحث عن مل ما هو جديد .. لمن مع ذلك كنت تشعر أنهم يقدمون مواعظ.. وليست رؤى المستقبل.. وهذا في حد ذاته كان خلافي مع عمي الذي كان من رجال الإخوان في ذلك الوقت والذي كان له الفضل الكبير في تربيتي الدينية .. ولعلك تستغرب حين أقول لك: إنني دخلت المعتقل لأول مرة متأثرا بأفكار الإخوان المسلمين .. صحيح أنني لم أكن عضوا معم.. ولكنني كنت قريبا جدا من فكر هذه الجماعة بحكم تأثير عمي.. للدرجة التي كنت أذاكر فيها دروسي بمسجد السيدة زينب حتى لا يفوتني أي درس من الدروس الدينية ..

وتوالت عمليات الاعتقال .. بعد ذلك إلى أن أمسكوا بي في حريق القاهرة عام 1952 حيث أصبحت عضوا نشطا في الحركة اليسارية المصرية آنذاك أو ما يمكن أن تسميه الحركة الشيوعية أو الماركسية.. وكنت قد اكتشفت عند إلقاء القبض عل بسبب حريق القاهرة أنه ليس هناك حركة ماركسية واحدة.. بل عدة حركات مختلفة ومتنافرة في هذا الإطار..

وفي هذه المرة .. ساقونا إلى معتقل روض الفرج ولا أستطيع أن أحدد لك بالضبط عدد الأيام التي قضيتها في هذا المعتقل.. لكنني أستطيع أن أؤكد لك أن المرات الإثنتي عشرة التي دخلت فيها السجن يمكن أن تصل إلى حوالي ثلاث سنوات ونصف فقط.. في حين أن لي زملاء قضوا في سجن متصل ومرة واحدة أكثر من اثنتي عشرة سنة..

وأنا أعتبر في هذا المجال سعيد الحظ.. ليس فقط من ناحية المدة.. ولكن من حيث تنوع عدد مرات السجن واختلاف أماكنها.. وكان لكل مرة ومكان تأثير خاص على مسار حياتي السياسية والفكرية.. وأنا أذكر أن آخر مرة دخلت فيها السجن.. كانت أيام جمال عبد الناصر .. حين زرعوا التسجيلات في بيتي بعد مناقشة سياسية .. وبالتحديد في عام 1970 وقبيل وفاته.. حتى إنني كنت معتقلا بسجن القناطر حتى بعد وفاته وفي حبس انفرادي..

• لو قلنا .. ما هو تأثير تجربة السجن طوال هذه المرات على فكر لطفي الخولي؟..

- شوف .. أنا في السجن أولا تعرفت أكثر وبعمق وبشكل مباشر على المجتمع المصري.. كما لم أكن أعرفه من قبل.. لأنك داخل هذه الجدران الصماء تتعرف على أنماط بشرية غريبة ومتنوعة.. لأنك داخل هذه الجدران الصماء تتعرف على أنماط بشرية غريبة ومتنوعة.. رغم أن ذلك لم يكن من جراء الاختلاط.. لأنه كان هناك عزل تام بين المسجونين السياسيين وبقية المسجونين بتهم وجرائم أخرى.. وهذا العزل كنت أراه بدرجات مختلفة وكان في كثير من الأحيان عزلا شكليا.. ولكن المجتمع داخل السجن يكون نفسه رغم هذا العزل.. ويبدأ في عقد ارتباطات وعلاقات بعضها جيد وبعضها غير جيد.. ولكن بشكل عام هذا المجتمع لديه القدرة على تسيير الحياة داخل السجن أكثر من إدارة السجن نفسها.. بالإضافة غلى أنني لم أجد مجتمعا أنظف من مجتمع السجن.. في العلاقات الإنسانية فاللص يتخلى عن طبائعه داخل السجن .. فلا يسرق ولا يغش.. وإلا تعرض لعقوبة من زملاء السجن تكون أقسى مما يناله من عقوبات تفرضها عليه إدارة السجن.. وعلى سبيل المثال يمكن أن يحكموا عليه بالموت.. أيضا هناك مشاكل أخرى تعرفنا عليها داخل السجن.. إذن كأنما يحكم عليه بالموت.. أيضا هناك مشاكل أخرى تعرفنا عليها داخل السجن.. المساجين الفقراء.. وأصحاب التجارة الممنوعة والإتاوات.. كما اكتشفت أن أسوار السجن العالية قد فشلت في منع هؤلاء المساجين من الاتصال .. بالخارج..

لذلك تجد كل شئ موجودا داخل السجن وداخل هذه الأسوار.. أما الحاجة الثانية .. أنني اكتشفت داخل السجن أيضا أنهم يمنعون عنك الورق والقلم.. وأي شئ يقرأ فيما عدا الكتب المقدسة.. لكن مع ذلك كان هناك إمكانية لتهريب الصحف والورق والكتب والأقلام .. أما أصعب شيء واجهته داخل السجن هو الحبس الانفرادي.. الذي كان يعني .. أن تكون في زنزانة وحدة لمدة 23 ساعة.. مع نفسك فقط.. وتخرج لمدة ساعة واحدة في اليوم لقضاء حاجتك وللتريض.. وكانوا يسمونها " ساعة شمس".. فأنت طوال هذه الفترة الطويلة تجد نفسك أمام نفسك.. حينئذ تحاول اكتشاف نقاط الضعف والقوة فيها.. وقد صورت هذا ا لإحساس ونقلته بأمانة من خلال كلمات سطرتها في أحد كتبي الأدبية.. حين قلت:

في إحدى الليالي الليلاء.. أحكموا حبس السجن في القمقم عندما أعلنا إضرابا عن الطعام.. فلا ورقي ولا كتب ولا صحف.. ولا حتى نسمة هواء، تحمل إلينا زقزقة العصفور اليتيم الذي بنى عشه بين الأغصان الجرداء لتلك الشجرة البائة المصلوبة عند البوابة الكبيرة.. وحين كنت أتوسل في وحدتي ، سماع صوت، أي صوت.. حتى ولو كان طنين صمتي، داهمتني قوة روحية، لا عهد لي بها من قبل.. راحت تدب الحركة في أوصالي وتدفعني إلى نزع علامات الاستفهام عن الجدران وزرعها في النفس العارية.. وأعود وأؤكد لك أن هذه هي إحدى مميزات السجن، وإن شئت قل إحدى ميزات المحن الكبرى.. وفي هذا المجتمع المغلق وأنت مع نفسك تبدأ في تحديد اختياراتك وتسأل نفسك هل ستبدأ الطريق من جديد.. أم ستظل على ما أنت عليه.. المهم أنك تعيد حساباتك من جديد وعلى ضوء الحسابات تعرف هل ستستمر أم لا .. وطبعا كان من أهم أهداف البوليس السياسي في ذلك الوقت أن تتراجع عن أفكارك وآرائك وميولك .. وكان سبيلهم إلى ذلك مساعدة هؤلاء على الخروج مبكرا.. وكان شرطهم الوحيد أن تقدم تعهدا بعدم الرجوع مرة أخرى إلى تلك الأفكار ولتلك الممارسات السياسية التي يرونها تعارض أفكار النظام.. ويظل هذا التعهد موجودا بأيديهم سيفا مسلطا على رقاب المفكر السياسي.. حتى لا يفكر في العودة إلى ما اعتنقه وما أقر على الابتعاد عنه سلفا.. ".

بجانب ذلك رأيت داخل السجن ألوانا متعددة من التعذيب النفسي والبدني.. لذلك يواجهك الاختيار رغم أنفك.. وتعود وتسأل نفسك هل ستستمر وتتحمل كل هذه المشاق.. أم تستسلم وتتخلى عن أفكارك وآرائك..

الحاجة الثانية أنك خلال تلك اللحظات ترى نقاط ضعفك وقوتك وتحاول استخدام هذه النقاط في استكماله النقص الذي قد يعتري نفسك في وقت ما.

والحاجة الثالثة.. أنك تتعلم من مجتمع السجن وترى قيما جديدة تظهر لدى بعض الناس في لحظات معينة.. حينما يتخلون عن عالم الجريمة ويصبحون مجتمعا آخر يشعر كل منهم بأحاسيس الآخر.. إلى درجة أنك تكتشف وجود أناس ربما تراهم في عالم الحياة لأول مرة بهذه الشهامة وبهذه الرجولة..

ولعلي أقول لك.. إن أي إنسان حينما يدخل السجن لأول مرة .. تتصور أن هذا الإنسان المكبل بهذه القيود الحديدية وأسلوب الحياة الخشن إلى درجة بدائية.. بجانب الضرب والركل وألوان امتهان كرامة الإنسان ثم التجويع في بعض الأحيان.. عندئذ يعتقد أنه لن يستطيع أن يتحمل ساعة واحدة داخل هذه الجدران.. ثم تفاجأ بمرور الساعة وراء الأخرى ببطء شديد ويأتيك اليوم التالي.. وهكذا .. وبعد مرور عدة أيام تحاول أن تتأقلم داخل هذا المجتمع الجديد.. عندئذ تتفجر في الإنسان طاقات عظيمة تظل مختفية لحين ظهورها في وقت الأزمات والمحن، وأعظمها اللحظات داخل السجن، وتجعلك تتقبل العيش داخل جدران السجن..

وما أريد أن أصل إليه هو قدرة الإنسان على التكيف مع ظروف حياته الجديدة مهما كانت شاقة وعسيرة.. أيضا بخلاف ذلك تكتشف وأنت داخل السجن مناطق مجهولة داخل نفسك.. وبالنسبة لي.. فقد اكتشفت إمكانياتي وقدراتي وموهبتي الأدبية والفنية.. ولعلك تدهش أنني قد أنجزت معظم مؤلفاتي الأدبية والسينمائية داخل هذه الجدران فيما عدا قصة وحيدة خارج السجن وهي قصة " المجانين لا يركبون القطار" .. هذه القصة بالفعل كنت قد كتبتها بعد خروجي من السجن.. أما بالنسبة للقصص القصيرة التي أعادوا طبعها فقد كتبت لها مقدمة.. أوضحت فيها كيف اكتشفت هذه القدرة الكامنة في داخلي.. وكيف اكتشفت في نفس الوقت مواهبي الأدبية؟.. ودعني أقرأ لك بعض مشاهد قصص مجموعة رجال وحديد.. وهي المجموعة التي خصصتها لنقل مشاعري وعالمي داخل السجن..

تحت عنوان " الليلة الأولى" كتبت أقول : " دار مفتاح في ثقب الباب دورتين صاحبهما صرير رتيب.. وسمح حسن وقد صار وحيدا في الزنزانة رنين طرقة أو اثنتين أحس أنهما من صنع الطرف السفلي للمفتاح الذي أغلق دونه الباب الحديدي.. وتبع ذلك وقع أقدام ثقيلة تبتعد وصوت خشن يأتيه من خلال ضجيج المساجين الذين تتكدس بهم زنزانات العنبر: تصبح على خير يا أستاذنا.. ورغم أن التحية كانت قد نفذت تماما إلى أذن حسن غير أنه لم يستطع أن يحرك لسانه بردها إلا بعد مضي شوط غير يسير يستعرض من الصور العديدة التي تزاحمت في وعاء رأسه من الساعات القليلة الماضية.. وتذكر الزمن فجأة ..".

ومن مجموعتي القصصية الثانية.. والتي صدرت بعنوان " ياقوت مطحون" .. خصصت إحدى قصصها لنقل صور غريبة شاهدتها خلف القضبان.. وعلى سبيل المثال .. صورة الشذوذ الجنسي.. وعلى ما أذكر أن اسم هذه القصة هو " الصفيعة" .. ولعلي أقرأ لك منها بعض الجمل والعبارات..

" .. وبدأ الشاويش سليمان.. يتحرك ببطء في أرجاء المطبخ وتحركت معه عينا " سنقر" خطوة خطوة.. كانتا في ظهره عندما انحنى يختبر الأعشاب الخضراء المتربة التي يقوم بتقطيعها ثلاثة من المساجين لإعدادها للطبخ على أساس أنها ملوخية خضراء.. وكانتا فوق طرف حذائه الأيمن حين عن له أن يرتفع فجأة دون ما سبب ليركل السجين الهزيل كالعصا الخيزران.. فيد حرجه إلى الجدران مذعورا.. وكان يبدو أن ثمة حديثا صامتا قد دار بين " سنقر" والشاويش سليمان خلال النظرات المتبادلة وأنهما قد وصلا إلى اتفاق ..ولم يبق إلا مناقشة التفاصيل"..

• وهل هناك ذكريات أخرى تحملها بداخلك عن هذه التجربة؟

- طبعا .. خاصة آخر مرة دخلت فيها المعتقل.. لأنهم سجنوا معي زوجتي.. وعلى ما أذكر أنهم أيضا قد سجنوا سكرتيرة الأستاذ هيكل " مدام نوال وزوجها".. و كل ده كان أيام عبد الناصر .. وقد مات ونحن داخل السجن ثم أفرج عنا..

• نريد أن نعرف من الأستاذ لطفي الخولي.. وبشكل عام لماذا يسجن المفكر؟

- دا بيختلف من بلد إلى بلد.. ومن عصر إلى عصر.. أما بالنسبة لمصر.. فهناك سببان ونوعان من المفكرين .. وبشكل عام ليس هناك شك في أن السجن والاعتقال في ا تجاهه العام ضد الفكر ويكبته.. ولكنا رغم رفضنا لهذا الكبت وندينه.. إلا أننا نعتبره تحد جديد للفكر.. من حيث أنه يثقله ويحدد نشاطه.. ويكشف جوانب خفية جديدة في هذا الإطار وكثيرا ما أعتقد أن فترة السجن هذه نقطة تحول في حياة المفكر.. ولكن بشكل عام فإن المحن والمعضلات الحياتية في العالم محليا ودوليا وتصدي الفكر لها سواء في شكل فلسفي وتاريخي أو شكل اجتماعي أو فني.. هو التحدي المستمر للفكر أو بمعنى آخر أن تدخل في محنة بمعناها الواسع.. وليس كما نفهمها بمعناها الضيق..

وحين تسألني مثلا.. عن الأسباب التي تؤدي إلى سجن الفكر والزج به وراء القضبان.. أقول لك بشكل عام وطبقا لتجربتي هناك أنواع من سجن المفكر.. المفكر العضوي كما كان يعبر عنه الفيلسوف المفكر الإيطالي " جرامش".. والذي يقصد به ذلك المفكر الذي يعتبر أنه ملتزم بأن يدافع عن فكره اجتماعيا.. ويحشد له الناس في تنظيم أو أن يواجه النظام المعادي لفكره.. طبعا هنا لابد وأن يصطدم بالنظام والموروثات التقاليد ولابد من أجل ذلك أن يدفع الثمن.. إذن كل مفكر يختار هذا الطريق لعرض فكره داخل المجتمع عليه أن يتحمل نتائج هذا الطريق.. ولا نعتقد أن هذا الموقف قاصر على مجتمع بعينه.. بل نجده في كل المجتمعات المتخلفة منها والمتقدمة لأنك هنا تتحدى النظام.. وعلى القائمين على هذا النظام التصدي لأفكارك ومقاومتها.. وعادة ما يكون يتصدى للقائمين على السلطة، فقد يساهم في تكوين رأي عام كبير هو الذي يتقدم من أجل التصدي للقائمين على السلطة من وحي آراء هذا المفكر أو ذاك أو ذاك الذي ينظم قوى هذه الجماهير لحظة المواجهة والتصدي.. وعلى ذلك فلابد وأنت كمفكر في هذا الموقع عليك أن تكون مستعدا في أية لحظة لدفع الثمن.. لأنك هنا لم تتوقف عند مجرد قول الأفكار وترديدها.. بل تنزل إلى الشارع في الواقع كي تتحقق..

وهذا هو النوع الأول أو المدرسة الأولى من مدارس الفكر.. وما سميناه في الأول مدرسة الفكر العضوي..

أما النوع الثاني من المفكرين مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين يرون أن مهمتهم أن أكتب وأقول رأيي في هذا الموضوع.. وأنتج هذا الفكر.. فمن يريد أن يستفيد منه يقترب منه.. ومن لا يريد يبتعد .. والكثيرون يسمون هذا الاتجاه أو هذه المدرسة.. مدرسة مهادنة السلطة.. وهذا تصور خاطئ.. لأن مثل هذه الخطوات يراها المفكر من وجهة نظره الأصلح للمجتمع.. ولكل تصوره الخاص.. فهم يرون أن مهمتهم تتوقف عند التثقيف والتنوير .. وغيرهم يرون أن دورهم لا يتوقف عند ذلك فقط.. بل يمتد من أجل تنفيذ هذه الأفكار في الواقع.. وهؤلاء ينتمون إلى مختلف المدارس الفكرية اليسارية واليمينية والليبرالية وخلافه..

وبالنسبة لأصحاب الاتجاه الأول الذين يرون ضرورة النزول إلى أرض الواقع لتنفيذ أفكارهم.. يتوقف نجاحهم على سعة صدر السلطة من حيث وجود بعض التكوينات الديمقراطية .. التي تساعد على تقبل مثل هذه المفكر رغم اختلافها مع القائمين على السلطة.. هذا أولا.. أما ثانيا: تقبل السلطة أن يستمر هذا المفكر في نشر تلك الأفكار بحرية دون تدخل أو رقابة أو مضايقة ومن هنا تتفاوت ردود الفعل.. ومع ذلك من الممكن أن تحدث حالات لوي ذراع مثلما حدث مع المفكر توفيق الحكيم.. رغم أنه ينتمي إلى المدرسة الثانية التي تقف عند حد قول الفكرة دون السعي غلى تنفيذها.. ففي إحدى المرات نشر قصة قصيرة.. رأت فيها السلطة آنذاك أنه ضدها.. وكما كان يحكى لنا الله يرحمه.. عاقبوه بخصم نصف شهر من مرتبه.. وقد تصل إلى الإيقاف عن العمل مثلما حدث مع الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين .. أو إيقافه عند درجة مالية معينة.. ويتساوى هذا العقاب المادي والمعنوي.. وهذا في حد ذاته نوع من العقاب الذي يؤدي إلى الإيلام .. بحيث تشعر في النهاية بأنك مسجون داخل نفسك.. حتى ولو لم تدخل السجن وتعيش داخل جدرانه.. وفي كثير من الأحيان لا تصل إلى عقوبة السجن أو الاعتقال .. المهم يصاب المفكر في النهاية بالإحباط .. ويتوقف..

وفي هذا الإطار توقف الكثيرون من المفكرين عن العطاء.. وفقا لما عانوه من ألأوان التعذيب.. وإذا ما استمر في طرح أفكاره وعاند نفسه فهو يكون أمام أمرين: إما أنه مع هذا الإصرار في معرفة التصدي لأفكاره يتجه للعمل من أجل تنفيذ هذه الأفكار وبالتالي يتحول إلى الصدام المباشر مع السلطة.. ويكون مصيره في النهاية السجن والاعتقال.. أو أن الدولة تتركه يطرح أفكاره دون التصدي له.. باعتبار أن هذه الأفكار مجرد كلمات جوفاء لا تأثير لها.. ومتنفس ضعيف داخل المجتمع.. ولا خوف منه.. وعندما تشعر السلطة بخطر هذه الأفكار تتدخل فورا لمحاربته.. ولو بالسجن أو الاعتقال.. ولكن على العموم لا يجب اعتبار السجن التحدي الأكبر أو الوحيد للمفكر.. وإنما الاغتراب.. والضرب تحت الحزام.. هو أخطر ما يواجه المفكر داخل مجتمعه حتى ولو لم يدخل السجن..

• هل تعرفتم على شخصيات تأثر بها في فترة الاعتقال؟..

- طبعا .. وعليك بقراءة المجموعة القصصية " رجال وحديد".. وقبل أن أقرأ لك ما جاء في بعضها أذكر لك أسماء المفكرين الذين عرفتهم وتأثرت بهم كثيرا على هذا الدرب.. منهم الدكتور محمد الخفيف والمرحوم الدكتور لويس عوض.. ويوسف حلمي وعبد المنعم الغزالي ومحمد قطب أخو الأستاذ سيد قطب..

ومن غير هؤلاء مثلا " أبو السباع" .. ذلك السجين الذي كان اسمه الرسمي المسجل بدفاتر السجن والمكتوب بمداد أحمر باهت في أعلى " التذكرة" المثبتة بباب زنزانته رقم عشرة بالدور السابع إسماعيل محمد.. لكنهم أقصد كل من اتصل به في حياته العامة أو تلك التي قضاها خلال الأغلال لم ينادوه يوما إلا بـ " أبو السباع" .. وبالرغم من أن إسماعيل أو أبو السباع هذا .. أو سماعين كما كنت أسميه.. كائن حي.. يعيش ويتنفس ويدخن وتستطيع بكل سهولة أن تلمسه وتتحدث إليه إلا أنه لو حدث وصافحته مرة تحاشيت طوال حياتك أن تكرر ذلك مرة أخرى.. فإن يدك عندما تغوص في راحة يده الخشنة تحس وكأنك قد أطبقت على ثمرة من ثمار التين الشوكي تحيط بها عضلات ضاغطة في قوة لا عهد لك بها.. فكأنها من حديد.. وتحاول أن تخلص يدك بكل ما أوتيت من إرادة حب الحياة ولكنك تفشل.. فتتأوه لحظات وتئن أخرى.. ثم تصرخ ..

عندئذ يفرح أبو السباع ويفرج عن يدك وقد احتبس الدم في مواضع متفرقة منها وانبعثت من فمه الواسع ضحكته التقليدية .. والذين اتصلوا بـ " أبو السباع" يوما أو عاشوا معه ولو ساعات يسيرة يروون عن شخصيته وتصرفاته الأساطير.. ومع الزمن صار معروفا أن للسجن مديرين أحدهما الموظف العمومي الذي يرتدي السترة العسكرية الصفراء والآخر " أبو السباع" .. ذلك العملاق الذي يحس الناظر إليه أنه قد أدخل بصعوبة في لباس السجن الأزرق.. ولم تكن الزنزانة التي استقل بها أبو السباع تختلف كثيرا عن محل بقالة صغير وكان هذا المحل يتعامل مع جميع المساجين بأسعار يحددها بعدما راعى في ذلك أن تكون أقل ارتفاعا من تلك التي تسود في السوق السوداء والتي كان يباشرها كثير من السجناء في الخفاء.. ومن هنا كان دائما يدخل في منافسة مع تجار السوق ا لسوداء.. ولكنه كان الرابح دائما. وكان في كثير من الأحيان يتدخل تارة بيديه وتارة بواسطة " الحاجة" أي العصا الغليظة ليحمي عملاءه من بطش منافسيه عندما يحاولون تطبيق نصوص اللائحة عليهم..

والشخصية الثانية.. هو " أبو دراع" .. أو " اللومنجي" .. ذلك السجين الذي بدأ حكايته أيضا ولا الأساطير داخل جدران السجن.. فقد نشأ في الصعيد شابا شريدا لا يعرف له أصلا.. ولم يصادف الخوف في حياته.. بدأ عمله في الصعيد حارسا ليليا في منطقة مقابر القرية.. وكان الوحيد الذي قبل هذه الوظيفة بعد أن رفضها الكثيرون غيره.. وفي ذات يوم طلبه العمدة أن يتزعم تنفيذ مؤامرة لحرق أحد حقول القطن.. ثم تطورت هذه الطلبات من جانب العمدة من حرق الحقول وسرقة المواشي وتسميم الدواجن إلى سفك الدماء.. وجاء الوقت الذي خشي فيه أبو دراع أن العمدة يستغله ولا يدفع له.. لذلك قرر لانفصال عن العمدة وأن يدير أعماله العدوانية لحساب نفسه.. وبالفعل كون عصابة أفلحت بحوادثها الدامية في أن تشيع الإرهاب داخل القرية والقرى الأخرى.. ومنذ هذه اللحظة عاش أبو دراع مطاردا رسميا من الحكومة.. حتى تم القبض عليه.. وكان يطلب دائما للمساجين الجدد لاستماع إلى حكاية أبو دراع وهم واقفون في عيادة السجن الطبية ينتظرون العرض على الطبيب وحتى هذه اللحظة لم أعرف السبب..

خلاف ذلك هناك شخصية ثرية جدا تعرفت عليها داخل السجن وهي شخصية الشاويش رجب.. وأنا شخصيا اعترف أنها شخصية تهزك بعنف وتتأثر بها بسرعة.. وأنا أعتقد الآن أنه مات .. وعم رجب هذا كان في الستينات من عمره.. وكان العسكري الوحيد تقريبا الذي لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة .. وبالتالي خصصوه لحراسة السياسيين .. وكان يمتاز بإنسانيته الغريبة التي أبعدته عن صفات كل عساكر السجن الآخرين.. فلا يقبل نقودا ولا رشاوي ولا أي شيء من هذا القبيل.. لقد كان نموذجا فريدا يتسم بطبيعته السمحة راضيا بحياته عيشته.. وبالتالي كان يعتبر الرشوة من أجل أداء الخروج على الواجب وعلى مقتضيات الوظيفة حراما، وكان اختياره في هذا المكان موفقا.. لأن السجناء السياسيين كان أول عمل لهم داخل السجن هو تكوين شبكة من العساكر والشاويشية وعن طريقهم يتم تهريب كل شيء يتعلق بالفكر والثقافة.. وطبعا كله بالفلوس.. إلا مع عم رجب.. بجانب ذلك كان هؤلاء هم حلقة الاتصال بين المساجين السياسيين وبقية المساجين الآخرين ثم بينهم وبين الخارج..

إن عم رجب كان شخصية غير عادية.. وكان مسئولا عن مجموعة زنازين خصصوها للتأديب بسجن القناطر الخيرية .. وكنت سجين إحدى هذه الزنازين عام 1970.. وقد مر عليه عدد كبير من المساجين السياسيين.. مثل فؤاد باشا سراج الدين وآخرين .. هذا الرجل اتصافه بصفة الأمية ووجوده بصفة الأمية ووجوده بيننا كان مقصودا..

تتم عملية التجهيل التامة.. لأننا كنا دائما في شوق أن نعرف كل جديد في الصحف والمجلات.. فكيف يمكن أن يتم ذلك لنا والحارس لا يقرأ ولا يكتب.. بالفعل لقد كان عم رجب لا يعرف القراءة.. وبالتالي كنا كثيرا ما نفشل في معرفة أخبار العالم من صحف الصباح.. والشيء الغريب أن هذه الشخصية.. قد لفت على جميع السجون المصرية مصاحبا للمساجين السياسيين سواء في الواحات أو في السجون الأخرى.. وقد تأثر هذا الرجل بمصاحبة هؤلاء السياسيين فتحول مع الأيام رغم أنه كان جاهلا.. إلى أحد خبراء السياسة المصرية في وقت من الأوقات..

ولأنه بدأ يتعامل مع السياسيين فقد أصبح له موقفا.. وبدأ يتكون لديه قناعة بأن سجن هؤلاء الرجال غير طبيعي وغير قانوني كما بدا عليه عدم الاقتناع بالسلطة التي سجنت هؤلاء .. وبدأ يتكون لديه رأي مؤداه أن هؤلاء لابد وأن يخرجوا على الفور ويمارسوا حياتهم الفكرية دون قيود.. وعلى الناس أن تختار بين فكرهم.. ولماذا لا يكون هو من بين هؤلاء الذين لهم مثل هذا الاختيار.. فبدأ يأخذ موقفا من السلطة .. كما بدأ يأخذ موقفا مع أو ضد هذا التيار.. وفقا لاقتناعه بأفكاره.. دون التعرف على صحة أو خطأ هذا التيار أو ذاك.. بل أكثر من ذلك بدأ يتدخل معنا في حوار مثمر وثري.. كما بدأ يذهب غلى المقهى قبل دخوله إلينا في نوبة حراسته بالسجن.. ومن خلال حواراته مع أصدقاء المقهى.. ينقل إلينا النبض العام لهؤلاء الناس البسطاء.. وكان يشعر أحيانا أن من واجبه أن ينقل إلينا أو يبلغنا بقضية ما.. ويتم ذلك من تلقاء نفسه دون توجيه من أحد منا ودون أن يأخذ أجرا على ذلك.. وبذلك أصبح صديقا لكل المعتقلين السياسيين والمفكرين على اختلاف انتماءاتهم..

ومرة أخذ يحدثنا عن شجاعة وبطولة فؤاد سراج الدين بدرجة كبيرة.. وكان صديقا لنجم وإمام.. وكان يداري علينا فيما نكتبه داخل الجدران.. وبالنسبة لي شخصيا كان يخفي الأوراق التي كنت أكتبها عن سيناريو فيلم العصفور.. أيضا كان متعاطفا مع الإخوان المسلمين ويساعدهم كثيرا في تلبية طلباتهم رغم تحفظه على بعض آرائهم واختلافه معهم.. يعني تقدر تقول بخلاف ذلك: السجن مجتمع غني بالشخصيات..

ويحضرني بخلاف قصتي مع " عم رجب" .. قصة أخرى مع أحد صولات سجن الفيوم .. هذه الشخصية طيبة القلب.. رغم مظهرها القاسي.. كان يتعامل معنا بإنسانية غريبة.. ويتغلب كثيرا على التعليمات والأوامر التي تسري علينا كمسجونين سياسيين.. ودائما كان يكرر أمامنا أنه غليظ القلب وعنيف.. وكنا نلاحظ تكرار هذه العبارات أمام مسئولي السجن فقط ولكن حين يخلو بنا.. ينقلب إلى إنسان من نوع طيب.. وأستطيع أن أقول لك إنني ظللت على علاقة ببعض زملائي من المسجونين غير السياسيين حتى بعد الخروج ومن الضباط.. وللأسف .. كان منهم بعض الضباط الذين اشتركوا في تعذيبي كما لو كنا أعداء .. هذه العلاقة اتسمت بيننا بالود حتى إن بعضهم كان يطلب مني خدمات..

• ولماذا يرتبط أمر اعتقال المفكر في دول العالم الثالث بتوقيع رئيس الدولة؟..

- أنا أعتقد أن رئيس الدولة لا يعلم كل شيء قبل وقوعه.. بل قد يعرف بعد وقوعه .. ويؤكد لك ذلك ما سأرويه بعد لحظات.. فعندما كنت قريبا من الرئيس السادات وكانت علاقتي به طيبة حتى 18 و 19 يناير عام 1977 .. قال لي إن هناك طريقة ما يلجأ إليها الحاكم في حالة وجود ما يعكر صفو النظام.. وكان ذلك ردا على ما أثرته آنذاك من لجوء السلطة إلى تقييد حرية المفكر واعتقاله.. ومنعه من الكتابة دون أن يعرف هو ذلك.. وأحيانا يكون الاعتقال لأمور ملفقة يتم اكتشافها أثناء إجراء التحقيقات في النيابة أو أمام القضاء..

وفي رده على ما أثرته.. قل لي الرئيس السادات الذي كان يمتاز بحسن استماعه حتى لخصومه .. إن آلية هذا العمل يأتي بالشكل التالي: هناك مجموعة ما من الوزارة قد قررت أن تأخذ موقفا ما من كاتب أو مفكر.. مثلا من لطفي الخولي.. فعندما تشوع في كتابة تقاريرها للرئيس عبد الناصر تذكر اسمه بشكل هامشي في إحدى التقارير الأمنية.. أنه شوهد مثلا يصافح فلان وفلان.. وهما من أعداء عبد الناصر أو من خصومه.. ثم تمضي أسابيع ويذكر في تقرير آخر أن لطفي الخولي قد اجتمع مع بعض هؤلاء المعارضين.. وقال ضمن ما قال إنه لابد من إعادة النظر فيما هو قائم من نظام سياسي.. ثم يبدأ بعد سطر وسطرين.. ثم إلى فقرة.. ثم غلى ورقة في التقرير .. إلى أن يتم كتابة التقرير كله عن لطفي الخولي وعن تحركاته .. ويلاحظ أن ذلك يتم بشكل مكثف في فترة قصيرة.. مما يلفت نظر الرئيس عبد الناصر.. الذي يطلب من أحد معاونيه وليكن مثلا سيامي شرف.. معرفة حكاية لطفي الخولي بالتفصيل.. في الوقت الذي يكون فيه التقرير جاهزا للعرض على الرئيس وفيه كل ما يدين لطفي الخولي من اتهامات صحيحة وغير صحيحة .. وأحيانا عبد الناصر كان يرى بعد فوات الأوان أن ما جاء التقرير غير صحيح.. وكان عليه أن يأخذ به لأنه تقرير مرفوع إليه من جهات عليا في الدولة.. وأنا هنا لا أعفي عبد الناصر من المسئولية لأنه كن عليه أن يضع آلية معينة تضمن صحة التقارير التي ترفع إليه بدون تحيز أو اتهامات باطلة لأحد.. بجانب أن الاعتقال بدون تهمة هو شيء مذموم ..أضف إلى ذلك أن ما جاء بهذه التقارير يضعك تحت المراقبة وأحيانا تمنع من السفر ومضايقات أخرى كثيرة ..

وفي اعتقادي أن ما يحدث من مثل هذه الأمور هو جزء من الصراع السياسي الذي يعالج بطريقة غير صحيحة وفردية.. وعبد الناصر لم يكن دكتاتورا ولكنه كان حاكما فرديا .. لا يؤمن بالديمقراطية باعتبارها عقبة معطلة للانطلاق نحو التنمية .. وطبعا كان ذلك تصورا خاطئا إلى أبعد الحدود..

وبأمانة الكلمة.. أقول لك إن الرئيس السادات في نهاية تعقيبه على ما أثرته معه آنذاك.. قد وعدني بشكل عام أنه لن يلفت لتلك التقارير .. وأنه قد قطع عهدا على نفسه بأنه سوف يناقش كل مفكر يأتي ذكره في أحد هذه التقارير .. ومواجهته بهذه التهم..

• وأخيرا .. لو كان الأستاذ لطفي الخولي رئيسا للحكومة أو وزيرا للداخلية وعرضت عليه أسماء مفكرين معتقلين منهم لطفي الخولي.. ماذا سيفعل؟ ..

- الحقيقة أنك تضعني في موضع مستحيل .. وهذا نوع من الأسئلة الصحفية الذكية .. وأحب أن أؤكد لك أنني لم أجرب أن أكون رئيس حكومة أو وزيرا للداخلية.. ولذلك لا أستطيع أن أقول لك لأن رئيس الحكومة يكون مقيدا بأنظمة أمن معينة ومتطلبات جماهيرية مفروضة عليه.. ولكن بشكل عام أحب أن أؤكد لك إنني ضد الاعتقال على طول الخط لأنه لا يفيد.. ولم تنجح عملية اعتقال المفكرين.. لأنك في الحقيقة تعتقل الجسد ولكنك لا تستطيع أن تعتقل العقل الذي يخرج منه هذا الفكر.. لأن خروج الفكر من عقل الإنسان حتى في هذه الحالة يصبح الفكر ملكا للغير وليس ملكا للمفكر فقط..


الحكاية السادسة: جمال الغيطاني

الحكاية السادسة يرويها جمال الغيطاني:

واكتشفت أن صرخات التعذيب

داخل المعتقل.. اسطوانة

العثور على كلمة تصلح كي تكون بداية موفقة لمثل هذه الحوارات.. مهمة شاقة وعسيرة .. وربما تنبع هذه المشقة من إحساسك بأهمية الموضوع. . وأيضا أهمية الضيف المتحدث، من أجل ذلك وفي مثل هذه المواقف وهذه المهام العسيرة أستمع جيدا.. وأقرأ ذلك بنفس الصفة.. أملا في العثور على ما أبحث عنه وتكوين بداية طيبة ومرضية .. ومعبرة عما سوف أقوله بعدها..

والكاتب الأديب الصحفي المفكر الغيطاني يجعلك تعيش لحظات رهبة وخوف وقلق حين يحدثك عن مثل هذه التجربة التي أثارت بداخله الشجون.. وعادت بذكرياته ألف عام..حتى قبل أن يولد.. لأنه لم يكن يتصور في يوم من الأيام أنه سوف يدخل السجن ويزج به في زنزانة ضيقة.. وحيدا مكروبا .. ولسوف تشعر عزيزي القارئ بأنك مشدود مثلي مع كل كلمة قالها لنا خلال هذا الحوار الذي لم يدخل من لقطات إنسانية تذيب القلب.. وتوجع البدن والعقل..

وبالاستماع الجيد والإنصات لكلمات المفكر والأديب جمال الغيطاني من خلال شريط التسجيل اكتشفت أنه قد دخل تجربة الاعتقال، وهو لا يزال صغير السن.. وقبل أن يدخل عالم الصحافة.. فقد كان وقتها لا يزال في بداية الطريق نحو عالم الأدب وعالم الشهرة.. ولولا الإصرار بداخله.. وإحساسه بمرارة الظلم الذي وقع عليه لكان قد انسحب من الساحة كلية وآثر السلامة وأعطى للأدب والصحافة والفكر ظهره.. والتحم بالحياة العملية .. خوفا ورعبا من تكرار نفس التجربة.. ولكن الذي حدث هو العكس.. فقد ولدت لديه تلك التجربة الرغبة في مواصلة المشوار نحو عالم الفكر والأدب بمفهوم جديد.. لا يقترب من عالم السجن.. ولا يخاف منه.. ولكنه يحاول من خلال قلمه أن يقاومه كظلم يقع على الإنسان.. وتراه في ذلك قد عبر عن هذا العالم الغريب ومآسيه المتنوعة في العديد من كتبه ورواياته.. وإن لم يكن بشكل مباشر على طريقة كتابة المذكرات أو تسجيل وقتي لأحداث تلك الفترة..

أضف إلى ذلك أن تعرضه لمثل هذه التجربة وهو في سنه المبكرة دون أن يكون ذا باع طويل في عالم والمفكرين.. أثار حفيظته وخلخل كيانه.. وفرض على واقعه سلسلة طويلة لا تنتهي من الأسئلة.. يأتي في مقدمتها السؤال التقليدي.. لماذا ؟ .. ومن أجل البحث عن إجابة شافية له، قرر أن يدخل المعركة بفكرة وبقلمه ينقل الصورة بلا رتوش.. أملا في أن يستفيد غيره من المفكرين من هذه المحنة التي اعتبرها البداية الحقيقية لوجوده داخل هذا العالم.. وبصرف النظر عن الانتماء الفكري أو السياسي الذي ليس هو مقصدنا من هذا الحوار.. فقد دخل جمال الغيطاني السجن بتهمة الشيوعية .. وهو لم يكن يدري وقتها ضخامة هذه التهمة أو المصير الذي ينتظره من جراء الاقتراب من مجالها.. ولكن ذلك قد حدث وكان عليه أن يقرر وأن يختار..

وفي بحثنا الدائم عن كلمات سطرها المؤلف هنا أو هناك تكون معبرا نطمئن إليه.. في بداية حوارنا كمدخل للحديث القادم.. وجدنا تلك الكلمات نائمة في أحضان مجموعة قصصية .. صحيح أنها ليست الوحيدة من نوعها.. بل كتب غيرها الكثير متأثرا بتجربة السجن.. إلا أنه وبنفسه قد رشح لنا هذه المجموعة كي نبحث بين سطورها من أجل العثور على المطلوب.. ولقد وجدنا ضالتنا في بعض عبارات وجمل هذه القصص مثل قوله في قصة " رسالة فتاة من الشمال " : عبرت الأرض الساخنة الصفراء، حرارة تخترق نعل الحذاء الخفيف وتؤلم باطن قدمي.. لم يقترب موعد الغداء، عندما تتجاوز الشمس منتصف السماء وتميل عنه.. عندما يزحف الظل الرمادي من أول عنبر للنوم متسلقا جدران العنبر الثاني والثالث حتى الرابع.. ينطلق نفير الغداء، بجوار جدار حجري قصير البناء فكروا يوما في إقامته ثم عدلوا، جلس أربعة زملاء.. وفي موضع آخر من نفس القصة يقول معبرا عن تلك المشاعر التي سجن من أجلها على لسان الفتاة التي بعثت إليه برسالة من بلاد الجليد.. أنني آسفة قد أكون آلمتك بهذا الوصف لذوبان الجليد، لأنني أعرف أنك مقيد، لكنني أحترمك جدا.. ولا أعرف هذه المبادئ التي قيدوك من أجلها ربما لا أميل إليها لكنني أحبك وأحن إليك وإلى من معك.. فأي شيء أعظم من أن يسجن الإنسان من أجل مبادئ يؤمن بها.. إنني فتاة من آلاف يعشن في بلاد الثلوج البعيدة عنك، ولن تراني ولن نتصافح بالأيدي.. ولو لم أقرأ اسمك في نشرة الجمعية التي أنتمي إليها لما سمعت عني ابد.. كذلك أنا لا أعرف عمرك ولا سنك ولا أوصافك.. لكني أعرف أنك لا تمشي في الشارع كما تشاء ولا تأكل كما يجب ولا تنام كما ينبغي أن تنام.. وأعرف أنك إذا رغبت في رؤية أهلك لن تراهم .. كذلك صديقتك وزوجتك..

وكلمات كثيرة نثرها جمال الغيطاني هنا وهناك.. من أجل أن يصف لنا تجربته مع السجن.. وفي كل مرة سوف نتوقف عند إحداها.. وعلينا منذ هذه اللحظة أن نعد أنفسنا من أجل سماع تفاصيل الحوار الذي دام أكثر من ساعتين.. وتم تسجيله على ثلاث مراحل.. وقد لعبت الحالة النفسية للأديب والمفكر دورا عظيما في تحديد مواعيد هذه المرات الثلاث.. فلم أكن أتصور ولا هو كذلك أن مثل هذا الحوار سوف يفتح عليه أبواب التاريخ وذكريات الماضي.. ويقلب مواجع القلب التي لعب الزمان دوره في شفائها.. وكأنما رأيته لأول مرة وهو يدخل المعتقل.. خائفا مرتجفا.. صحيح أنه رحب بالفكرة.. ولكننا عندما بدأنا التسجيل .. ومع دوران الشريط.. انفعل بشدة.. وخرجت الذكريات من فمه مصحوبة بآلام ذلك الماضي القريب والبعيد في آن واحد..

وآه لو كنتم معي حين التسجيل.. وسمعتم كلماته التي أخذ رنينها يزداد داخل الغرفة التي ضمتنا لحظتها.. فحتما سون تشعرون بسخونة هذه الكلمات ولهيب تلك الجمل الاعتراضية العديدة التي نقلت لنا الصورة بدون رتوش.. وكان لابد من التسجيل.. فهي كلمة للتاريخ بصرف النظر عن الفكرة السياسية أو الانتماء .. ما دام صاحبها ينادي بها في الإسلام وبعيدا عن استخدام وسائل العنف، لإيماننا بأنه لا يقارع الحجة إلا بالحجة وأن اللجوء لاعتقال العقل والبدن كوسيلة لإبطال مفعول الفكرة.. هو تصرف عاجز.. ويدل على القصور في التصرف.. وما هذه الحوارات إلا خطوة على طريق تصحيح المسار وتنمية الشعور العام والإحساس بأن المفكرين مهما شطحت آراؤهم وأفكارهم لا يكون مصيرهم السجن ما داموا لا يلجئون إلى العنف من أجل تطبيق هذه الأفكار.. وحتى لو ثبت هذا الأمر.. فإنهم لابد وأن يحاكموا وفقا للقانون.. ولا يصدر ضدهم أوامر فوقية قبل سماع دفاعهم.. أو يزج بهم وراء القضبان قبل النطق بالحكم.. فالقضاء العادل هو رمز الحرية.. وهو السيف المسلط فوق جميع رقاب العباد دون تفرقة.. والعبرة هنا بالأدلة..

وكما تعودنا .. سوف نترك للضيف حرية التصرف.. وبداية الكلمة ونهايتها.. ولن نتدخل إلا من أجل إدارة الشريط وإيقاف دورانه.. أو وضع ملامح لسؤال نراه بداية لحوار جديد.

وكانت بداية الحوار هكذا بعد كلمات الترحيب والثناء المعتادة..

• نريد أن نعرف من الأديب المفكر الصحفي جمال الغيطاني كم مرة دخل فيها السجن؟..

- مرة واحدة فقط . وكانت بالتحديد في 9 أكتوبر 1966 فجرا، حين طرق الباب واقتحم شقتنا الصغيرة جدا بحي الجمالية ضابط مع مجموعة من العساكر بزيهم المدني.. وكان وقتها عمري لا يتعدي الواحد والعشرين عاما.. تقدم مني الضابط في ذلك الوقت المتأخر من الليل بعد أن فتحت له الباب .. وذكر لي اسما اعتقد أنه اسم غير حقيقي.. وإن كنت ما زلت أذكر ملامح وجهه جيدا حتى هذه اللحظة..

المهم دخل شقتنا ومعه ثلاثة من المخبرين الذي انتشروا بسرعة داخل الشقة التي كانت في ذلك الوقت غرفتين وصالة.. وبدأت عملية تفتيش واسعة لكل الموجود بالشقة.. ولفت نظري إصرارهم على تفتيش كل ورقة وكتاب موجود بالشقة.. ويبدو أنني كنت سيء الحظ.. لأن هذا الضابط أخذ مني كمية كتب ضخمة أنا ما زلت حتى هذه اللحظة متحسرا عليها وحزينا بشدة لأن أغلبها كانت كتبا من كتب التراث النادرة.. حيث كانت هوايتي في هذه السن المبكرة تدور في فلك كتب التراث القديمة.. وأسعى جاهدا لجمعها ولشرائها بأي ثمن.. أيضا استولى على كمية ضخمة من الكتب الماركسية التي كانت متداولة بكثرة في ذلك الوقت..

أيضا على ما أذكر استولى الضابط على كمية من الورق الأبيض الذي كنت أكتب عليه وكنت أحصل عليه من عملي أو من أحد أصدقائي العاملين بالآلة الكاتبة.. والغريب أن رزم الورق هذه قد آلمتني كثيرا وسببت لي أزمة نفسية لأنني أبدا لم أكن أكتب إلا وهي بجواري.. ونقدر نقول.. ربما يرجع ذلك إلى عدم إحساسي بالأمان في هذه الآونة والخوف.. وقد تتعجب حين أقول إن مجموع ما حصل عليه الضابط من هذه الكتب وهذه الأوراق قد ملأ ثلاث ملايات سرير.. حملها المخبرون فوق أكتافهم حين غادروا منزلنا وأنا معهم في الفجر..

ولا تتصور أن اعتقالي في مثل هذه السن المبكرة.. وبهذه الطريقة قد أثار أسرتي الصغيرة.. وأصابها بالفزع والهلع.. فوالدي رجل كان طول عمره في حاله.. وقد عاش في القاهرة لأكثر من خمسين عاما ولم يدخل خلالها إلى قسم بوليس أو ذهب في مرة من المرات إلى المحكمة.. أما بالنسبة لوالدتي.. فكان هذا الحدث في حياتها بمثابة الزلزال.. أضف غلى ذلك أنه بالنسبة لبقية أفراد أسرتي وعلى وجه الخصوص على أخي الصغير فقد أصيب بصرع منذ هذه الليلة.. وظهرت عليه هذه النوبات ابتداء من عام 1967 بعد الإفراج عني.. واستمرت معه هذه النوبات.. وظل يعالج حتى برأ منها منذ سنوات قريبة..

لقد ولد عنده هذا المشهد الذي رأي فيه هذا الحكم من رجال البوليس الخوف والفزع والصرع الذي ظل ملازما له طويلا واعتقد لمدة 18 عاما.. لقد كان ذلك إحدى النتائج المباشرة والعنيفة لعملية الاعتقال.. جانب آخر أن الاعتقال كان يتم في ظروف اقتحام.. ودون أن يذكروا لك أو لأسرتك إلى أين أنت ذاهب الآن.. وهل سترجع أم لا ؟.. لقد كنت تذهب إلى المجهول .. وفي حالات كثيرة كان يتم هذا الاعتقال بإهانة ووحشية.. سواء فيما يخص الشخص المطلوب اعتقاله أو أهله.. ومن هذا المنطلق أؤكد لك ظروفي فيما يتعلق بهذه الخصوصية كانت جيدة.. ولعب الحظ دوره في عدم تعرضي لأي نوع من أنواع هذه الإهانات التي كنا نسمع عنها أو شاهدنا بعضها.. بل بالعكس حاول الضابط وقتها أن يهون علينا هذا ا لأمر.. فتحدث مع والدي عن بلدته ومولده وأشياء أخرى من أجل التخفيف عليه من وقع هذه المصيبة.. ولكن حينما خرجت فوجئت بأفراد الشرطة وقد وضعوني بين أذرعهم خوفا من الهرب.. والمسدس في ظهري من جانب آخر.. وكانت من المشاهد التي أثارت سخريتي فيما بعد.. فقد تصورت نفسي من المجرمين العتاه.. أو زعيم عصابة.. لم يصدقوا أنفسهم حين اعتقلوه.. وعلى بعد خطوات من المنزل وخارج الحارة في شارع قصر الشوق بالجمالية.. وقفت سيارة شرطة رمادية اللون على رأس الشارع لأنها فشلت في دخول الحارة لضيق ممراتها.. وركبت معهم وسط حراسة مشددة.. إلى مبنى المباحث العامة.. ومكثت هناك ساعة.. وأذكر وأنا موجود في إحدى الغرف هناك أنني تقابلت مع أحد الصحفيين ويدعى محمود عزمي، وكانوا قد أتوا به مع مضبوطات من الورق والكتب.. وقد لفت نظري داخل هذه الغرفة كذلك صورة تعلو الحائط للسيد زكريا محي الدين ومن فوقها الآية القرآنية: " رب اجعل هذا البلد آمنا"..

ولقد لصقت بذهني طويلا للدرجة التي جعلتني أكررها كثيرا في روايتي " الزيني بركات".. طبعا أنا كنت داخل هذا المبنى.. وأثناء تنقلي في شوارع القاهرة قبل الوصول إليه.. كنت أسترجع الصور الحية للشوارع والأشجار والمباني.. لإيماني بأنني ربما لن أشاهدها مرة أخرى.. يعني احتمال القتل أو الموت كان ماثلا في ذهني، لأنه كانت لدي معرفة سابقة بأن مثل هذه الأمور تحدث وراء القضبان.. وربما تكون من نصيبي.. وكان السؤال الذي يتردد في ذهني وأنا أتجول ببصري طوال رحلتي داخل شوارع القاهرة قرب الفجر.. وأنا وسط هذه الحراسة المشددة.. هو متى أشاهد هذه الشوارع من جديد؟.. وهل سيقدر لي أن أراها مرة أخرى أم لا ؟.. وبعد أكثر من ساعة داخل مبنى المباحث العامة اقتادوني إلى سجن مزرعة طرة الذي كان مقاما في ذلك الوقت داخل أحد معسكرات الجيش.. ودخلت المعتقل.. وأثناء تدوين البيانات.. لاحظت أنهم كتبوا أمام اسمي " شيوعي" ونسيت أن أقول لك إنني طوال الرحلة من المباحث إلى السجن كنت مقيدا بالكلبشات ولا أعني المجرمين.. فكان ذلك طبعا شعورا غريبا بداخلي.. حيث أحسست فعلا أنني تحولت هذه اللحظة إلى زعيم عصابة.. وأنا هنا داخل المعتقل، ومما أثار نفسي أيضا أنني بمجرد دخولي تعرفت على أحد جيراننا بحارة الطبلاوي.. كان طول عمري أعرف ,اسمع عنه أنه دائم الدخول إلى المعتقلات بسبب أنه من الإخوان المسلمين منذ عام 1954.. ووجدته ينظف أرضية السجن ببدلته الزرقاء التي كانت تختلف عن البدلة التي كنت أرتديها.. وكان لونها الأبيض هو اللون المميز للمعتقلين.. وكان اسمه الأول أحمد..

وفور لقائي به.. أعطاني هدية غالية جدا لم أكتشف قيمتها إلا بعد فترة من وجودي بالسجن.. تعرف ماذا كانت هذه الهدية؟ قطعة جبنة مثلثة الشكل " نستو".. وأوصاني بضرورة الاحتفاظ بها وألا آكلها مباشرة.. وفعلا بعد فترة من وجودي داخل المعتقل اكتشفت قيمتها الغالية على حد تعبير عم أحمد.. وهذه النقطة تجرنا للحديث عن نوع المعيشة والطعام داخل الجدران السوداء.. فالوجبات الثلاث من الفول المهروس بالسوس والزلط.. وكنا نأكله بعد معالجة بالزيت وأشياء أخرى حتى يمكن ابتلاعه بسهولة..

وكانت أنواع الجبن والسالمون .. والمعلبات الأخرى نوعا من الترفيه لا يحصل عليه إلا المحظوظ.. وبوسائل ملتوية.. كنا في الغالب نحصل عليها بالفلوس لأنها كانت تباع لمن يقدر على الدفع.. المهم أنني دخلت حجرة كبيرة جدا.. وبداخلها فوجئت بعدد كبير من أصدقائي خارج السجن وعدد آخر ممن لا أعرفهم.. وعلى ما أذكر كان من بينهم صلاح عيسى الذي كانت تربطني به علاقة قوية في تلك الفترة للدرجة التي اعتبرت نفسي في طريق الاعتقال بمجرد أن عرفت أنه قد اعتقل قبلي، وآخرون سبقوني إلى نفس المعتقل منهم على ما أذكر عبد الرحمن الأبنودي.. وعلى الشوباشي.. لقد كانوا من الكتاب والمثقفين المصريين المستنيرين في تلك الفترة.. وبعد فترة اكتشفت أن هؤلاء قد اعتقلوا قبلنا ومنذ خمس سنوات.. أما أنا ومعي الشاعر سيد حجاب كنا ندخل المعتقل لأول مرة .. وهؤلاء كان يجمعهم انتماء واحد يدعى آنذاك " وحدة الشيوعيين " .. والذي دخلت السجن بسببه لأول مرة في حياتي..

في نفس الوقت تم اعتقال مجموعة من أعضاء الاتحاد الاشتراكي بتهم انتمائهم لتنظيم يدعى " القوميين العرب".. ومنهم مسئولون كبار في ذلك الوقت.. وعلى ما أذكر منهم الدكتور محمد الخفيف " الله يرحمه".. ولطفي الخولي.. وأمين عز الدين.. والدكتور إبراهيم سعد الدين هؤلاء الذي كانوا على مقربة من النظام في ذلك الوقت.. الأمر الذي جعلنا نتصور ببلاهة أنه قد وقع انقلاب يميني في مصر.. مما أدى بهؤلاء إلى دخول المعتقل..

• ليسمح لنا الأستاذ جمال الغيطاني أن نقاطعه كي نسأل ..كم مدة قضاها داخل السجن؟..

- أنا مش فاكر، لكن أقدر أقول لك.. إنها بدأت بأسبوعين انقطعنا خلالهما عن العالم تماما.. ثم بدأ استدعاؤنا في مجموعات إلى السلخانة وهو لفظ كان يطلق على سجن القلعة.. للتحقيق وقتها كنت أصغر معتقل ربما في مصر كلها، ولذلك لم أكن أملك خبرة في هذا المجال.. وقد تعرفت في هذه الآونة على بعض الشيوعيين من الطبقة العمالية منهم مثلا عم منصور زكي ومحمد بدر.. وقد بهرتني شخصيتهم.. واكتسبت من وجودهم قبلي خبرة طويلة.. للدرجة التي جعلتني مصدر تشجيع دائم لهم طوال إقامتي في السجن الحربي.. حتى وفي فترات التعذيب، أيضا.. المهم في ليلة من الليالي.. فوجئت بأنهم ينادون على اسمي.. فخرجت أنا والدكتور صبري حافظ.. أستاذ الأدب العربي.. وشخص ثالث لا أذكر اسمه.. وتوجهنا إلى إحدى السيارات التي سوف تنقلنا إلى سجن القلعة للتحقيق.. وأثناء جلوسي بالقرب من ضابط الحراسة وقع بصري على الجواب الخاص بالترحيل.. وقرأت فيه عبارات تقول: أمر بترحيل فلان وفلان.. وفلان.. تحت الحراسة المشددة مع العلم بأنهم من الخطرين..

وبناء على ذلك شددوا الحراسة علينا وأحاطوا سيارتنا بسيارات أخرى أمامنا وخلفنا.. وفي هذه اللحظة انتابني إحساس بأنني لن أعود مرة أخرى، خصوصا ونحن في طريقنا إلى السلخانة ومعقل التعذيب بأنواعه المختلفة.. وللمرة الثانية أسمح لخيالي بالتقاط صور من الشارع فربما لن يسعدني الحظ وأراها مرة أخرى.. وداخل القلعة توقفت بنا السيارة أمام باب أثري عتيق.. وأخذونا معصوبي العينين في طابور ، ووضعوني في زنزانة كان رقمها آنذاك( 34) وحبست فيها انفراديا.. وقبل أن أدخلها سبقني إليها أحد العساكر المدنيين حيث قام برش أرضية الزنزانة بماء مثلج.. وأمرني بعدها أن أدخل كي أنام.. وكنا وقتها في شهر أكتوبر والبرد على أشده.. ولا توجد أغطية سوى بطانية .. والنوم على الأسفلت .. لقد قضيت هذه الليلة واقفا..

وحين نعود لحكاية الأكل داخل هذا المعتقل الجديد.. أقولها كلمة حق أن نوع الأكل كان جيدا إلى حد ما عما رأيته في سجن مزرعة طره، وبعد يومين من وصولي .. بدأت حرب الأعصاب.. فقد بدأت أسمع يوميا صراخ طفل يعذبونه.. وعلى ما يبدو كانوا يصعقونه بالأسلاك الكهربائية قي بعض أعضائه التناسلية .. وأقول لك إنني لم أسمع في حياتي مثل هذا الصراخ الذي كان ينيب قلبي وعقلي ويهزني من الداخل للدرجة التي جعلتني أقضي يومي بأكمله داخل الزنزانة واقفا مرعوبا محاولا أن أبعد عن أذني هذا الصراخ المروع.. وفي تجربتي أعتقد أن صوت التعذيب أقوى تأثيرا من التعذيب نفسه.. وبعد أن مكثت أسبوعا على هذه الحالة السيئة وادخل الزنزانة الحقيرة التي لا يتعدى حجمها عن أربع خطوات.. استدعيت للتحقيق.. واقتادوني معصوب العينين مع وجبة دسمة من الضرب بالشوم والركل حتى تصل إلى المحقق.. وحتى عندما وصلت هناك دخلت مكانا لم أشاهد معالمه لأنني كنت لا أزال معصوب العينين .. وبعد لحظات أنهالوا على جسدي النحيل وفي هذه السن المبكرة ضربا وركلا بطريقة وحشية لم أسمع عنها من قبل..

ثم فوجئت بهم يرفعون عني عصابة العين ويدخل رجل أنيق طلب مني الجلوس.. بعد أن عنفهم على هذه الطريقة فجلست فوق كرسي بدون ظهر.. ويقف خلفي رجلان يحملان الشوم .. وبدأ يسألني عن شخصي واهتماماتي الشخصية وانتمائي السياسي.. ولما لم أستجب شتمني بأمي.. ولا أغلي حين أقول لك أن هذه الشتمة هي أكثر ما آلمني في هذه الرحلة.. ومن بعدها اقتادوني مرة أخرى بنفس الطريقة، حيث زنزانتي من جديد.. وهذه النمرة أحسست براحة نفسية بدون أن أعرف السبب.. واسمح لي أن أقول إنه تنتابني حالة عصبية كلما أحكي هذه المواقف فاعذرني..

ثم مرة أخرى استدعيت للتحقيق من جديد وتعرضت لنفس التعذيب.. وبعد أسبوع آخر اكتشفت ولعلك سوف تضحك أن صراخ الطفل الذي حكيت لك عنه منذ لحظات كان مجرد اسطوانة مسجل عليها هذا الصوت وكان الغرض منه إرهاب المعتقلين.. وقد اكتشفت ذلك من تكرار إذاعة نفس الصوت وبنفس الطريقة وربما في أوقات مختلفة.. وكانوا يتعمدون إذاعة هذه الاسطوانة عند قدوم دفعة جديدة من المعتقلين..

ولعلي أذكر أنني قد قضيت في الحبس الانفرادي داخل هذه الزنزانة أربعة وثلاثين يوما.. دون أن يتم أي اتصال بيننا.. ولكن مع الأيام استطعت أن أعرف منهم جيراني من المعتقلين وعلى ما أذكر كان في الزنزانة الانفرادية التي أمامي.. الشاعر عبد الرحمن الأبنودي.. وعرفت بوجوده بالقرب مني عن طريق المخبرين الذين كانوا يتسامرون معه اعتقادا منهم أنه شاعر الأغنية المشهورة " على حساب وداد جلبي" التي كان يغنيها عبد الحليم حافظ..

وقتها كان الأبنودي شاعرا مشهورا.. وكان نجما يحاول بعض المخبرين التقرب إليه.. واكتشفنا بعد ذلك أن تلك الحفاوة التي كانوا يعاملون بها الشاعر الأبنودي كانت تتم بناء على توجهات شعراوي جمعة – وزير الداخلية- في ذلك الوقت.. والذي تم اعتقالنا بعد دخوله الوزارة بأربعة أيام تقريبا.. وقد سمعت منه هذه التعليمات.. حين جاء لتعزيتي في وفاة والدتي عام 1982.. وقتها تغير الزمن.. وبعدها صرنا أصدقاء خلال فترة السبعينات وما بعدها..

وفي أثناء لقائي معه في سرادق العزاء سألني.. عل اعتقلوك يا جمال؟.. فأجبته بالقول : طبعا.. اعتقلت رابه يوم دخولك وزارة الداخلية يا سيادة الوزير .. وكان هذا اللقاء فرصة طيبة كي يحكي لي كيف تم اعتقالنا.. وكان يركز في حديث لي على وجهة نظره الأمنية فيما تم اتخاذه ضدي وضد الآخرين من رجال الفكر الذين اعتقلوا معي أو قبلي..

أعود بك من جديد إلى حديث السجن.. فقد نقلوني مرة أخرى غلى سجن مزرعة طرة بعد هذه الأيام السوداء.. ولا أذكر لحظات فرح في حياتي مثل لحظات خروجي من السجن الحربي إلى سجن طره.. وكأنما ولدت من جديد.. ودعني أقول لك إن لحظات الفرح في حياتي تعد على الأصابع منها يوم حصولي على دبلوم الصناعة.. ويوم أن استلمت أول مرتب لي .. واليوم الثالث يوم انتقالي من سجن القلعة. . وعلى ما أذكر حين عودتي ولقاء الأصدقاء.. وأخذت أتحدث معهم 12 ساعة متواصلة وبلا توقف.. وكانت المشكلة لمن كانوا معي في السجن الحربي وعادوا معي من جديد إلى سجن مزرعة طره.. هي من الذي له الحق في أن يتحدث أولا قبل الآخر..

وفي طره .. مكثت بالضبط خمسة أشهر وأربعة أيام.. وتم الإفراج عني بعدها حين جاء إلى مصر الفيلسوف الفرنسي سارتر.. وتقريبا كان ذلك في مارس عام 1967 .. ووقتها كان اعتقالنا له دوي خاص في أوساط المثقفين في أوربا.. الأمر الذي جعل الفيلسوف سارتر يحمل معه إلى القاهرة طلبا خاصا للرئيس عبد الناصر بضرورة الإفراج عنا.. وتمت الاستجابة لهذه الطلبات، حيث أفرج عنا.. وحين خرجت من المعتقل وجدت نفسي مفصولا بقرار جمهوري من عبد الناصر شخصيا.. وكنت أيامها أعمل موظفا كرسام سجاد في أدني درجات السلك الوظيفي، وقبل وجودي هنا في أخبار اليوم في مؤسسة التعاون الإنتاجي وفقا لتخصصي كحاصل على دبلوم الصناعة تخصص السجاد..

المهم حينما ذهب والدي لاستلام مرتبي كالمعتاد.. أبلغوه بأنني أحلت إلى الاستيداع.. ومعنى ذلك أنه سوف أتسلم مرتبي لمدة ستة أشهر ثم أستلم نصف المرتب لمدة ستة أشهر أخرى.. وقد شاهد والدي بنفسه توقيع جمال عبد الناصر الشخصي على قرار الإحالة والذي كانت تقول كلماته " يفصل جمال أحمد الغيطاني أخصائي السجاد بمؤسسة التعاون الإنتاجي ويحال إلى الاستيداع".

ولا تتصور كيف كان شعور والدي حين عرف بأنني قد فصلت بتوقيع عبد الناصر شخصيا.. فقد اعتقد أنني قد ارتكبت كارثة مثلا.. ضبطت في شبكة تجسس أو اشتركت في قلب الحكم.. حاجة كده تساوي توقيع الرئيس عبد الناصر الشخصي على قرار فصل موظف مثلي..

• نريد أن نعرف .. ما هو تأثير تجربة السجن على جمال الغيطاني كأديب وصحفي ومفكر أولا.. وثانيا على الفكر المصري بشكل عام؟ ..

- شوف .ز أستطيع أن أقول لك إنني لأول مرة داخل السجن آخذ فرصة إجبارية للانفراد بالذات.. خاصة طوال الأيام الأربعة والثلاثين داخل الحبس الانفرادي .. لدرجة أنني اكتشفت نفسي معجبة بهذه الوحدة الإجبارية .. ولعلمك الزمن داخل الزنزانة الانفرادية يمر بأسرع مما تتصور لعدم وجود حركة.. إذن الزمن في هذه الحالة قد تم إلغاؤه.. وفي داخل السجن قررت ألا يكون لي أي علاقة بأي حزب سياسي.. ثانيا: التفرغ التام للكتابة والفكر.. أما ثالثا: فقد زادت مرارتي من النظام.. الأمر الذي جعلني أعبر عن هذه المرارة في كل ما كتبت ..

ولعلي أذكر لك أنني عبرت عن هذه التجربة في أكثر من كتاب.. على سبيل المثال قصة قصيرة اسمها المغول وهي موجودة في المجموعة القصصية " أرض أرض" .. وفيها تجربة من التاريخ ثم المجموعة القصصية " الزيني بركات" .. المهم أن قضية قهر الفكر هذه ظلت شغلي الشاغل فترة طويلة حتى بعد خروجي من السجن، وتمثل ذلك في إحساسي بالمطاردة والخوف من المستقبل، وأيضا كان لها وقعها على نفسي حتى قبل دخولي السجن.. وعلى ما أذكر .. أنه في عام 1962 .. وكنت وقتها دائم الحضور في ندوة نجيب محفوظ التي كانت تعقد في كازينو الأوبرا القديمة بميدان الأوبرا ناحية العتبة وتصادف أن دخل علينا وقتها أحد الضباط.. وظل يراقبنا طويلا.. وبعد نصف ساعة تقريبا.. طلب من الأستاذ نجيب أن يكتب له تقريرا عما كان يدور بيننا.

طبعا رفض الأستاذ نجيب وأصر على إنهاء الندوة.. وعندما سألنا عن السبب عرفنا أن الرئيس عبد الناصر في تلك الفترة كان ينوي زيارة منطقة الأزهر والعتبة ومطلوب من رجال الأمن كتابة تقارير أمنية عن هذه المناطق.. يعني تقدر تقول إنه في ذلك الوقت كان هناك جو ملائم لحدوث مثل هذه التجاوزات مع المفكرين ومع غيرهم.. والأغلبية من المثقفين كانوا يعدون أنفسهم لمثل هذه المرحلة.. وقد تصورت هذه الفترة في قصة بعنوان " أيام الرعب" ولكنك تستطيع أن تجد تعبيرات مباشرة لي عن هذه التجربة في كتابي " تجليات " بجانب ذلك توجد بكل رواياتي إشارات لهذه الفترة ولهذه التجربة..

• ولماذا يسجن المفكر يا أستاذ جمال ؟..

- عندما يتناقض مع واقع النظام.. وعلى عكس ما يتصور البعض أن الفكر العربي منذ أزمان بعيدة دائم الصدام مع السلطة .. وتقدر تقول من أيام محنة الإمام أحمد بن حنبل الذي سجن بسبب اختلافه مع الخليفة في مسألة رأي لا غير.. فكان عليه إما أن يقول مثل قول الخليفة.. أو يسجن.. وقد فضل الاختيار الثاني.. إنها مشكلة موجودة ولا تزال سمة من سمات الثقافة العربية فإن الحاكم عادة ما يحاول أن يفرض رأيه ونظامه أولا باللين .. والمراوغة ..وأخيرا بالقهر والعنف..

والمثقف بطبيعة تكوينه قلق ولذلك تجد دائما بينه وبين الواقع خلاف.. وفي رأينا أنه إذا انتهي هذا الخلاف في داخل المفكر.. يكون مصيره في طريقه إلى النهاية .. في عالم المفكرين.. وفي حالة ما إذا أصبح المفكر مع أفكار السلطة على اقتناع حقيقي ودون تزييف أو منافقة، فإنه يصبح جزءا من النظام.. ويبتعد كلية عن طريقه أن يكون مفكرا إلى الأحسن.. أو تقدر تقول أنه أصبح مفكرا موقوفا.. أما إذا أيد السلطة والحاكم عن هدم قناعة.. فهو في هذه الحالة يتحول إلى نصاب ومهرج.. إن المشكلة أيضا هو كيف يفهم النظام في هذا الدولة أن المفكر إذا اختلف معه فهو ليس ضده وأن أفكاره لصالح بقية الناس.. والجماهير.. فكيف مثلا تقبض على كاتب قصة.. وتسجنه لمجرد أنه قد كتب كلمات ضد هذا النظام وشخصه.. ودعني أذكر لك واقعة مرتبطة بعالمنا الثقافي.. إنني رغم عدم معرفتي حتى هذه اللحظة بملابسات إعدام المفكر الإسلامي سيد قطب، إلا أنني على يقين أن الحوار معه كان سيكون أفيد وأعظم لمصر وللنظام من إعدامه.. لأن ارتكاب النظام لمثل هذه الواقعة قد فرخ الآلاف من سيد قطب، وأظن الساحة السياسية المصرية تشهد بذلك الآن..

• نعود نسأل الأستاذ جمال الغيطاني.. عن عدد الكتب التي كتبها سواء في مجال الرواية أو في غيرها داخل السجن أو تأثيرا بهذه التجربة رغم أننا عرفنا بعضها أثناء الحوار؟..

- طبعا ظهرت تجربة السجن بشكل غير مباشر في قصص قصيرة مثل " الزيني بركات" وكتاب " التجليات" وفي مجموعة " وقائع حارة الزعفراني" وإن كانت في كتاب التجليات تقترب من الواقع قليلا.. أما تجربتي داخل المعتقل لم أكتبها حتى الآن.. وفي داخل المعتقل لم أتمكن من كتابة أي عمل أدبي.. وذلك لأسباب وكما تعرف منها عدم استطاعة الإنسان العامل مع الورق والقلم، ومع ذلك فقد تمكنت من كتابة قصة صغيرة على ورق " البفرة" ورق لف السجاير زمان.. وقرأتها في إحدى الأمسيات التي كنا نعقدها يوميا داخل السجن.. ثم نشرتها بعد ذلك .. وكان اسمها " أحراش المدينة".. والغريب أنني كنت مشغولا بفكرة السجن قبل دخوله وقد بدا ذلك واضحا عندما كتبت قصة بعنوان " القلعة" عام 1963.. وقصة أخرى نشرت عام 1965 بعنوان " رسالة فتاة من الشمال"..

• وهل كانت تجربة السجن بالنسبة لك.. فترة تعتبرها سوداء أم كانت نقطة انطلاق نحو عالم أوسع داخل مجال الفكر والرأي؟..

- في بدايتها كانت فترة سوداء.. ولكنها فيما بعد تحولت إلى دفاع حقيقي نحو الاستمرار داخل عالم الفكر والرأي والأدب.. أنني أعتبرها بحق نقطة تحول.. بعد ما اكتسبت خبرة من واقع التجربة.. وربما يرجع سوداها في بداية التجربة إلى افتقادي لعامل الخبرة والخوف والفزع.. ولكنك حين تندمج في الحياة الجديدة وتخلو لنفسك كثيرا تتحول إلى إنسان آخر.. بفكر بعمق ويقرر أيضا بعمق ورؤية .. وانتصارك على نفسك في هذه الظروف يكون إحساسك بقيمتك وكيانك.. وبالتالي تقرر أن تواصل المسير نحو هذا العالم بثقة أكبر..

وأعود وأقول لك إنني أعتبر فقط.. فترة التحقيق معي في داخل السجن الحربي هي النقطة السوداء التي لا أحب أن أعود إلى ذكرها لأنه قد صاحبتها ، وكما ذكرت لك، ألوان من التعذيب لي ولغيري من المثقفين.. أما في أيام السجن الأخرى فقد كانت خلوة إجبارية تم خلالها عقد صفقة رابحة بيني وبين نفسي، حيث اتخذت مجموعة من القرارات وحددت لحياتي أساليب جديدة.. ما زلت أسير عليها حتى الآن.. ومن أبرز هذه القرارات اعتبار الأدب الاهتمام الأول والأخير لنفسي.. وإنه لا شيء يعادل تأثير الأدب بالنسبة للأديب إلا مواقفه المعلنة التي تكمل مسيرة حياته.. وبشكل عام كانت فترة السجن تحديا حقيقيا لنفسي.. ولقدراتي.. وإنني حينما أوضع في مثل هذه المواقف أكسب لقدرتي على تحمل المنافسة والتحديات لذلك كانت فترة خصبة في حياتي ..

وأعترف لك أن أكثر الأعمال الأدبية الجميلة التي كتبتها بعد خروجي من السجن مباشرة تأثرا بهذه التجربة لإيماني أن الشيء الصعب يمكن تحويله إلى دافع له أهمية يمكن أن يستفيد منه الإنسان بشرط توافر المقدرة لدى هذا الإنسان ..

• لو قلت لك.. ما رأيك في سجون مصر الآن.. وهل تواكب تطور الجريمة في مصر الآن؟..

- السجون في مصر الآن هي وريثة عصور مظلمة في التاريخ.. أيام العصر العثماني والمملوكي.. وكل ما أتمناه الآن أن تتحول السجون إلى معسكرات عمل للإنتاج.. فتصور لو كل هذا الجيش الكبير أو الطابور الطويل من المسجونين قد توجه إلى الصحراء.. لاستصلاحها.. طبعا النتيجة معروفة والفائدة كبيرة.. في مثل هذه المناطق يتم إنشاء وتكوين معسكرات عمل تضم هذه الطاقات المعطلة.. ولا أميل أبدا لتحويل السجون في مصر إلى سجون فندقية كما يحدث الآن في أوربا.. في هذه الحالة تخرج عن وظيفتها كوسيلة من وسائل العقاب والردع.. وبشكل عام فإن عالم السجون لدينا عالم رهيب ومخيف.. وبالنسبة لنا.. كان لدينا في المعتقل بعض التقاليد ومراعاة بعض الظروف الإنسانية.. ولكن ما كنا نسمعه عما يقاسيه المساجين الآخرين شيء لا يصدقه عقل..

وفي داخل هذا المجتمع تنتشر الجرائم والرذائل .. وبالتالي يتحول السجن في مثل هذه الظروف إلى بوتقة لتفريخ مجرمين آخرين.. إذن فالسجن هنا لا يؤدي دوره كوسيلة للإصلاح والتهذيب.. بل يساعد على المزيد من الجرائم.. أما فيما يتعلق بخصوصية تبعية السجون.. فأنا أفضل أن تكون تابعة لوزارة العدل وليس لوزارة الداخلية.. حتى يكون للوزارة حق التفتيش الدائم.. لأن السجين بعد الحكم عليه يتحول إلى وديعة في يد الدولة مسئولة عنه حتى يخرج.. وكذلك مصلحة السجون.. لابد أن تكون تابعة إداريا لوزارة الداخلية أما تفتيشا وإشرافا فلابد أن تتبع وزارة العدل..

• ولو كان جمال الغيطاني مأمورا لأحد السجون الموجود بداخلها مفكرين.. ماذا كان يفعل؟..

- في الواقع أنا أذكر أنه كان يوجد في المعتقل في فترة وجودي أحد الضباط اتصف بالإنسانية .. وعلى أية حال .. فإن مأمور السجن في كل الحالات ما هو إلا رجل منفذ للتعليمات.. وأقدر أقول لك من خلال تجربتي إنني قد تعرضت لنوعين من السجن.. سجن التحقيق وسجن الاعتقال.. الأول تديره المباحث العامة.. والآخر يديره أحد ضباط مصلحة السجون واسمه فتحي.. هذا الرجل كان على علاقة طيبة جدا بالمفكرين وكان صديقا للجميع كما كان يعرفنا جميعا.. ويدخل علينا الزنازين في أي وقت.. وكان بتصدي لحل أية مشكلة تواجهنا..

أما في حالة وجودي كمسئول عن السجن.. سوف أحاول إنسانيا أن أقترب من عدد أكبر من هؤلاء المسجونين المفكرين.. وأحاول التقرب منهم مع التزامي الكامل بالتعليمات والأوامر.. ويكون تعاملي مع المساجين في حدود هذه التعليمات وكذلك في التطبيق .. لأننا اكتشفنا في كثير من الحالات أن هناك تجاوزات عديدة تصدر من بعض الضباط والبعض الآخر كان ينفذ التعليمات وهو مجبر عليها.. وأحب أن أقول لك إنني لم أتخيل نفسي ولو في الأحلام ضابط سجون.. حتى ولو في أعمالي الروائية..

• ولو كنت رئيسا للحكومة أو وزيرا للداخلية .. وعرض عليك كشف بأسماء معتقلين مفكرين.. ماذا كنت تفعل؟..

- بصراحة ..أسعى للحوار معهم أولا.. وبالعكس بدلا من أن أصدر أوامري بالقبض عليهم أو اعتقالهم.. لأنني على يقين أن من يسجن مفكرا أو أديبا لا يستحق أن اسميه.. ومع ذلك لابد أن تعرف أنه ليس هناك أديبا أو مفكرا فوق القانون.. المهم أن تحاكمه أولا.. وإذا تمت إدانته يقبض عليه فورا وينفذ فيه العقوبة.. وهذه تتدرج تحت حالات الإدانة والتحقيق التي يتعرض لها أي إنسان في المجتمع.. ولكن إذا كانت التهمة فكرا معارضا فلا ألجأ مطلقا إلى عقوبة الاعتقال أو السجن.. بل أسعى إلى مجادلته وحواره .. وبالعكس فإن الآراء المعارضة عادة ما تؤدي إلى فائدة كبيرة للمجتمع.. وأضيف أنني إذا كنت رئيسا للحكومة ومقتنعا بالآراء المعارضة أسعى للحوار معها.. فمن المؤكد سوف اختار وزيرا للداخلية يتميز هو الآخر بنفس الصفة بجانب صفاته الأمنية الأخرى.. ولكن للأسف هذا لا يتم عادة في دول العالم الثالث.. لأن كل رئيس حكومة همه الأول إرضاء الحاكم وفقط..

الحكاية السابعة: صلاح عيسى

الحكاية السابعة يرويها صلاح عيسى:

حكايتي مع السجن

بدأت في عهد عبد الناصر

لم أجد كلمات تعبر عن محنة السجن بالنسبة للمفكر، فيها الصدق والمعاناة.. والألم والقوة.. سوى ما كتبه الزميل الصحفي صلاح عيسى من كلمات كان ينشرها هنا وهناك بين الحين والآخر.. هذه حقيقة نقلتها بإخلاص ولا أعرف السبب.. فقد حرصت أثناء إجراء هذه الحوارات على قراءة أكبر عدد من الكتب التي طرحها هؤلاء المفكرين.. سواء قبل أن أسجل معهم أو بعد التسجيل.. ورأيت في بعض كلماتهم التي سطروها في هذه الكتب مدخلا دفعني نحو المضي قدما نحو عالم السجن وتأثيره على المفكر وحياته وتكوينه..

وكثيرا ما كنت أمر على ما كتبوه بسرعة دون أن أتأثر أو يصيبني الغم والهم .. إلا صلاح عيسى .. لقد ظلت كلماته التي قرأتها عن تجربته في السجن واقفة فوق صدري ليال طويلة.. وكثيرا ما حاولت الهرب من تأثيرها.. وسرعان ما يهاجمني هذا التأثير كلما أعاود الكتابة عن هذه التجربة من واقع حواري معه مثل غيره من المفكرين المصريين الذين كانوا ضيوفي عبر هذه الصفحات.. وكنت أفكر في أن أنقل إليكم بعض هذه العبارات والكلمات، ولكنني تراجعت في الوقت المناسب.. وعقدت العزم على أن أكتفي فقط بما قاله لي وما سوف أنقله إليكم عبر هذه الصفحات من واقع شريط التسجيل ولكنني ربما أضطر إلى الاستعانة ببعض كلماته وسط الحوار.. كي أنقل صورة صادقة لمعاناة المفكر وأحواله داخل الزنزانة.. تعجبا على تلك الأوضاع السياسية التي تسمح لمن يقتربون منها بأن يتم وضعهم في السجن بلا محاكمة مع اقتناعهم الكامل بأن المفكر هو أثمن رجل في المجتمع.. وبه وبأفكاره يتم إنارة عقول الجماهير.. ولكنها الأزمنة الغابرة التي ترفض وتفرض على الإنسان والمجتمع أوضاعا يكرهها .. وإن قبلها فهو القهر بعينه..

وبصرف النظر عن شخصية الحاكم أو فترة الحكم.. فإن الحديث يتناول قضية تأثير السجن على الفكر المصري ولماذا يلجأ رجال السلطة عادة إلى السجن كعقوبة لأصحاب الفكر والرأي..

قبل كلمات هذه المقدمة بثوان كنت أفكر في استخدام عنصر الزمن كمدخل لحديث هذا الحوار.. ولكنني اكتشفت في اللحظة المناسبة أنني قد استخدمته من قبل.. ومن ثم كان علينا أن نبحث عن طريق غيره.. وقد كان.. لقد وجدت في كلمات صلاح عيسى التي كتبها في أحد كتبه تحت عنوان " تباريح جريح" خير مقدمة.. توجع القلب والعقل.. وتجعلك تخاف من الفكر حياة المفكرين.. ولكنها ضريبة الذين يحملون مشاعل الفكر.. ويحلمون بواقع حياة جديدة.. ويتوقعون أيضا حيلة النوم فوق الأسفلت وأكل الفول أبو زلط.. مع أنه من العدل أن يعيشوا وفقا لفكرهم ويستفاد بآرائهم مهما اختلفنا معهم.. فإن الخلاف في الرأي ليس معناه عقوبة السجن والاعتقال..

بقيت لنا كلمة قبل أن ندير الشريط كي نستطيع جميعا لتفاصيل الحوار، إنني لا أبغي من وراء هذا المجهود المضني سوى تسجيل كلمة حق لله وللتاريخ عن واقع فترة زمنية مرت بها بلدنا الحبيبة مصر.. بصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق في الرأي أو المذهب السياسي أو العقائدي.. لأن الفكر لا يفرق بين هذا وذاك ما دام الطريق الوحيد هو الكلمة .. ولا شيء غيرها..

والآن حان الوقت كي ندير الشريط ونسمع الأستاذ صلاح عيسى يتكلم وأنا من بعد التسجيل معه أنقل لكم تفاصيل الحوار عبر هذه الأوراق..

• نريد أن نعرف من الأستاذ صلاح عيسى.. كم مرة دخل فيها السجن أو المعتقل أو التحفظ باعتبار أنها ألفاظ لمسمى واحد؟..

- أنا اعتقلت في أول مرة في 4 أكتوبر عام 1966 والسبب ثلاث مقالات نشرتها في إحدى صحف بيروت وتسمى " ملحمة الحرية" .. والمقالات كانت بعنوان " الثورة بين المصير والمسير".. وقد اعتبرها القائمون على ثورة يوليو آنذاك أنها نقد حاد للثورة وقائدها.. هذه المقالات نشرت من يوليو إلى سبتمبر.. وبمجرد الانتهاء من نشرها اعتقلت..وكنت ضمن عدد كبير من الصحفيين والكتاب والمفكرين المصريين .. مثل سيد حجاب وجمال غيطان وعبد الرحمن الأبنودي وآخرين..

ورغم أن هذا الاعتقال كان قصير المدة فقد استغرق ستة أشهر، إلا أنه كان كثيف التعذيب في فترته الأولى.. وأفرج عنا في مارس عام 1967 ثم أعيد اعتقالي في مارس 1968.. والسبب الاتهام بالمشاركة في مظاهرات الطلبة التي اشتعلت آنذاك من 17 إلى 21 فبراير عام 1968 .. وهذا الاعتقال كان أطول من سابقه.. فقد مكثت ثلاث سنوات بالمعتقل وخرجت عام 1971.. أما المرة الثالثة.. فقد كانت من عام 1975 واستمرت كذلك عدة أشهر وفيها قدمت للنيابة من الناحية الظاهرية فقط.. أما في جوهرها فكانت أيضا اعتقال.. ومن عام 1971 حتى هذه الفترة لم أسلم من المضايقات والتحقيقات وبدا الاعتقال في صورة أخرى مثل الرفد من الوظيفة عام 1973..

في هذه المرة الأخيرة التي ذكرت لك فيها أنني مكثت أربعة أشهر تم الإفراج عني فيما يسمى قانونا على ذمة القضية التي لم تتم حتى الآن.. وفي المرة الرابعة عام 1971 طلبت في التحقيق بمناسبة أحداث 18 و 19 يناير ولكنني نجحت في الهرب هذه المرة لمدة عشر أشهر.. فقد جاءوني فعلا من أجل اعتقالي مثل كل مرة.. وفور معرفتهم بي نجحت في الإفلات والهرب غلى أن قبض علي في أكتوبر أو سبتمبر من نفس العام، وقدمت للمحاكمة على ذمة القضية بعد أن مكثت أربعة أشهر داخل السجن.. وكنت من بين الذين برأتهم المحكمة في هذه القضية..

أيضا في عام 1979 قدمت للمدعي الاشتراكي للتحقيق معي، ولم يصاحب هذا التحقيق دخول السجن.. وفي يناير عام 1981 ألقوا القبض علي عندما وزعنا بيانا في معرض الكتاب الذي عقد آنذاك نطالب فيه بمقاطعة الجناح الإسرائيلي في المعرض.. واعتقال هذه المرة لم يستمر طويلا.. لأنه قد أحدث ضجة في حينها .. وعلى ما أذكر استمر ثلاثة أسابيع.. وتم بعدها الإفراج عني على ذمة القضية.. ولتصفية حساب هذه الفترة تم اعتقالي أيضا لآخر مرة في سبتمبر عام 1981.. وتم الإفراج عني بعد وفاة الرئيس السادات.. وكنت ربما آخر دفعات هذا الإفراج..

• يعني نقدر نقول كم مرة يا أستاذ صلاح؟

- الحقيقة أنا لم أعدها، ولكن تقدر تقول.. ست مرات حتى الآن والحمد لله .. لم يمسسنا شيء في عهد الرئيس مبارك.. ولا أظن أنه سيحدث إن شاء الله ..

• في تصور الأستاذ صلاح عيسى.. ما هو سبب كل هذه الاعتقالات؟..

- طبعا السبب الأساسي هو في معظمه يتعلق بالفكر والموقف السياسي.. وأيضا بالصحافة كممارسة.. يعني المرة الأولى كانت بسبب مقالات نقدية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. وكنت أطالب من خلالها بمساحة أكبر مما كان متوفرا للحرية والديمقراطية .. وقد اعتبرها عبد الناصر كما نقل لي بعد ذلك خروجا على نظام الثورة.ز وعارف السبب يرجع إلى تفتح وعيي السياسي قبل الثورة وارتباطه بديمقراطية حزب الوفد.. لقد كانت قبضة الديمقراطية تأثرا بالجو الذي كان سائدا قبل الثورة .. هي شغلي الشاغل.

وعلى فكرة في المرة الأولى أنا لم أعتقل فقط، بل فصلت، فقد كنت موظفا وأكتب في الصحف المصرية والعربية.. وجاء هذا الإجراء بناء على مذكرة السيد على صبري نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت.. وقدمها إلى الرئيس عبد الناصر الذي وقع عليها بالتنفيذ للاعتقال والفصل..

برضه في المرات التالية.. كانت بسبب موقفي من الديمقراطية فمثلا في عام 1968.. كانت أول مظاهرات تقوم بعد الثورة ويتقدمها شباب الجامعات.. وفي عام 1975 كانت التهمة الموجهة إلى أنني كنت أذهب إلى الجامعة.. وألقي محاضرات.. وأنادي بالديمقراطية والتعددية الحزبية وفي عام 1977.. كذلك ارتبطت بقضية الديمقراطية رغم ارتباطها بانتفاضة الطعام.. وكانت التهمة أنني من خلال الكتابة والمحاضرات كنت أهيئ الجماهير وأثيرهم من أجل هذه الانتفاضة .. وفي وقتها حدث بيني وبين رجال النيابة مناقشات على جانب كبير من الأهمية.. لأنني اكتشفت أن ما أقوله في المحاضرات وما أكتبه وينقل عني.. كله فيه تحريف.. من هنا تستطيع أن تقول إن السبب يرجع إلى السعي الدائم من أجل قضية الديمقراطية رغم أنني كنت وما زلت اشتراكيا .. ولكن الديمقراطية في تصوري هي جزء من الاشتراكية.

• ما هو تأثير تجربة السجن على فكر صلاح عيسى أولا.. ثم على الفكر المصري آنذاك؟..

- هو طبعا تجربة السجن.. من التجارب التي لا يمكن أن يمر بها إنسان وخاصة لأسباب فكرية وسياسية دون أن تترك تأثيرات أساسية في حياته.. سلبية أو إيجابية حسب طريقة الإنسان في التفاعل مع التجربة وحسب الظروف السياسية التي تعتقل خلالها.. الحبس مثلا في عهد عبد الناصر، كان سببه معارضته شخصيا .. لأن المعارضة في أيامه لم تكن مقبولة.. وربما كان يرجع ذلك إلى قوة شخصيته التي جعلت إحساسك بالمعارضة أمامه لا تساوي شيء.. وأيضا إحساسك بأنك ريشة تقاوم تيارا قويا لدولة تملك كل شيء.. ورجل يحكم بمفرده..

وعلى سبيل المثال .. كنت أعمل موظفا في الدولة التي يحكمها عبد الناصر .. وبعد دخولي السجن وخروجي منه.. فصلت من العمل، وحاولت البحث عن عمل في مكان آخر ولم تفلح محاولاتي، لأن الدولة في ذلك الوقت كانت تملك كل شيء حتى مقادير وأرزاق الناس.. فالشركات ملك الدولة.. والحكومة ملك الدولة.. وكل شيء .. مما جعلني أعتبر هذا الرفد نوعا من الإعدام البطيء.. لأنني كنت موظفا حكوميا خريج جامعة.. وأعمل أخصائيا اجتماعيا.. ولو كان في يدي مهنة أخرى لكنت مارستها.. ولكنني خلقت هكذا موظف وكاتب ومفكر.. لقد كانت تجربة قاسية هزت داخلي بعنف.. ومع ذلك أقدر أقول لك إنها أعطتني في الوقت نفسه نوعا من التفاؤل الداخلي.. يعني كل شيء لا يدوم وأن الأمور في أصلها مصيرها الزوال، وبالتالي ولدت عندي قوة دفع إلى الأمام.. يمكن ذلك لم يظهر لي في أول مرة، فحين خرجت آنذاك أمشي بجوار الحائط تجنبا للإهانة التي ذقت مرارتها في أيام السجن داخل الزنزانة.. لأنني قد تربيت في أسرة عودتني على احترام الذات وكره الإهانة.. وبالتالي تولدت بداخلي ما يمكن أن تسميه كرامة الطبقة الوسطى.. ولكن بشكل مبالغ فيه بالنسبة لي شخصيا..

وفي الاعتقال الثاني.. حاول السيد خالد محيي الدين ونايف حواتمه التوسط لدى عبد الناصر للإفراج عني.. ولكنهما أرسلا لي رسولا يحمل لي كلمات عبد الناصر الذي نقل لهما أنه لن يفرج عن صلاح عيسى ما دام هو على قيد الحياة.. ولم يقصدني وحدي بل كنا ثلاثة معتقلين أنا والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.. فلا يمكن أن تتصور أنك سوف تخرج إلى الحياة بعد هذا التهديد.. ولم تكن بالتالي تتصور أنه سوف يموت وهو في عز قوته.. وبجانب أنني رغم هذا التهديد لم أكن أحسب أن يموت عبد الناصر..

بصرف النظر عما أنا لاقيته وزملائي من المفكرين على يد رجاله.. وكذلك تفاجأ بقدوم عام 1970 وأن عبد الناصر مات.. وأنك خرجت من المعتقل بعد وفاته.. وكأنما تحققت كلماته.. وفعلا لم نخرج إلا بعد أن مات.. فقد خرجت في فبراير بعد أربعة أشهر من وفاته حيث مات في سبتمبر عام 1970.. حين قرر الرئيس السادات تصفية المعتقلات ، يعني تقدر تقول حياتي منذ الاعتقال كانت بين الإفراج والاعتقال والرفد والصعلكة في الشوارع.. رغم أنني أنتمي إلى أسرة مستورة إلا أن اتجاهي السياسي لم يكن يروق لها.. أضف إلى ذلك أن بعض أفراد أسرتي أغلبهم يعمل في الحكومة في مناصب حساسة مثل البوليس.. الأمر الذي جعل أغلبيتهم يتنكر لي، خوفا عل مناصبهم..

من هنا أخذت اختياري على عاتقي وبمفردي.. واتخذت من عقوبة السجن وسيلة دفع إلى الأمام حيث الاستمرار في العمل السياسي والفكر والكتابة والتمسك بحرية الرأي والدفاع عنها.. وفي كل مرة أخرج فيها أجد الحياة بالنسبة لي تبدأ من جديد.. مثلا تجد عملا جديدا أو مصدر رزق جديد وهكذا.. لقد كان ذلك أحد التفاعلات الإيجابية الهامة لتجربة السجن.. من حيث أنها عودتني على الصبر وحسن الاختيار والانطلاق إلى الأمام بلا رجعة إلى الخلف.. ولذلك تجدني ووفقا لهذه التفاعلات لم أراجع اختياراتي كثيرا.. ورغم كراهيتي الشديدة لعقوبة السجن إلا أنني بعد المرة الأولى لم أخف من تكرارها في حياتي مرة أخرى.. وأبدأ في ممارسة طقوس هذه الفترة العقابية.

مثلا تجدني أظل نائما في زنزانتي أكثر من أسبوعين متواصلين لأنني بالفعل لم أكن أنام خارجها بالقدر الكافي، ربما بسبب التكالب على الرزق.. ومن جانب آخر لاعتقادي الشديد أنك يجب ألا تفكر في أمر الخروج. لأنك وحسب تجاربي في هذا الميدان.. لابد وأن تعيش خلف هذه الجدران أكثر من أربعة أشهر.. ثم تبدأ في التفكير في عملية الخروج أو الإفراج. إن السجن بشكل عام له أثر مهم وخطير على المفكر بشكل عام.. وأذكر لك مثلا المفكر المصري سلامة موسى.. في كتابه " تربية سلامة موسى" .. الذي سجل فيه تجربته داخل السجن.. حيث وجد نفسه بعد أربعين عاما من الكتابة والتفكير والعمل العام.. وسط الحرامية والنشالين والقتلة.. بدلا من التكريم.. وقد قبض عليه أيام صدقي باشا .. إن هذه التجربة تخلق لدى الإنسان نوعا من المرارة.. وعايز أقول لك إن السجن فعلا قرين التفكير في بلاد تسود فيها الدكتاتورية.. ولا تقبل الخلاف في الرأي وتضيق بأصحابه ، وتجد أن السجن هي المكان الطبيعي لهم.. ولكن من الناحية العملية تجد أن السجن فرصة للتأمل مفروضة عليك بالقوة.. وخاصة فيما يسمى بالحبس الانفرادي الذي جرمته منظمات حقوق الإنسان.. وكثيرا ما كنا نفكر ونتساءل عمن هو الشرير الذي ابتدع فكرة السجن الانفرادي.

لقد كانت مسألة صعبة جدا.. أن تأتي برجل وتضعه بين أربعة جدران وتتركه أياما أو شهرا دون أن تعذبه.. فذلك الموت بعينه ومقاومة هذا العذاب يتوقف على ثرائك الداخلي.. بحيث تحاول أن تستثمر هذا السجن وهذا العذاب المتمثل في الوحدة.. في إبداع فكرة.. أو تصور واقع.. أو تخطيط لحياة جديدة.. ويأتي ذلك كله من تركيز حياتك في التأمل.. وهذا في تصوري هو الطريق الذي يمكن أن يسلكه الكاتب والمفكر في كسر سم هذه الفترة.

• وإذا خصصنا هذا السؤال وقلنا.. لماذا يسجن المفكر في مصر أو في دول العالم الثالث على وجه العموم؟

- هو طبعا .. الأنظمة عموما في دول العالم الثالث وفي مصر في فترة من الفترات قد قامت على فكرة أن الحاكم لا يقبل الخلاف في الرأي ، وأن الخلاف بالنسبة له يعتبر تطاولا عليه شخصيا وانتقاصا مما قد يؤديه في وطنه.. وقد يكون يؤدي فعلا لوطنه خدمات، ولكن المسألة بالنسبة للمفكر هو حالة الاعتراض المستمرة والشاملة التي ربما تكون للكون كله، وفي هذه الحالة لا يجد الحاكم الدكتاتور أمامه من وسيلة لإسكات صوت المفكر إلا السجن والاعتقال.. وبالنسبة لمصر كان هناك في العهد الناصري خطة عن قناعة تبلورت في ضرورة تصفية العناصر المعارضة أو المضادة للثورة، ودمج كل التيارات المختلفة في تيار واحد يقف خلف الثورة.. والذي كان يخرج عن هذا التيار كان لابد من أن يتعرض لعملية بلورة داخل السجون والمعتقلات حتى يخرج كي يؤيد ويقف أمام النظام بدلا من الوقوف خلفه أو ضده، وذلك من جراء ما يلاقيه في هذه المعتقلات من معاملة غير إنسانية وعادة ما يصاحبها نوع من التعذيب والتغريب والمهانة.

- وحتى عندما تخرج من السجن تبدأ المرحلة الثانية من هذه البلورة والتي تتمثل كثيرا في عرض المناصب والإغراء المادي وأشياء كثيرة من هذا القبيل.. والنتيجة تكون كما يتوقع رجال الثورة.. يصبح المعارض رجلا مبسترا.. قابلا لأن يقف معهم بكل كيانه ويفقد بذلك فكرة ورأيه ويحضرني في ذلك مثال سمعته في جلسة خاصة.. كان يحكيه المتحدث كمثال لما يجري في أحد الأنظمة العربية. قال إن 90% من شعوب العالم الثالث تقبل العيش حتى على الكفاف.. والحاكم الدكتاتوري الشاطر هو الذي يستطيع أن يمد هذه النسبة بما يكفيه من الطعام والشراب، وهناك 7% من هذه الشعوب لأهم لهم سوى جمع الأموال والسرقة، وهؤلاء أمر معالجتهم ميسور.. أما نسبة الـ 3% الباقية فهي تمثل أصحاب الرأي والفكر.. وعادة ما يحاول الحاكم القضاء عليهم بالتصفية والقتل حتى يأمن شرهم.. ويتمكن من الاستمرار في حكمه فترة أطول.. لأنه يعرف مقدما أنه سوف يفشل في التفاهم معهم بالطرق العادية المرتبطة بالبطون والجيوب.. وأن القضاء عليهم بهذه الصورة سوف يجنبه شرهم الذي يمكن أن يمتد لبقية النسبة من السكان.

• وما هي الطريقة المثلى في رأيك لمعالجة الرأي الآخر.. بعيدا عن شبح السجن..؟

- أن تسود حقوق الإنسان في أن يعارض ويقول ما يشاء ويكتب ما يشاء.. ولابد من الاعتراف بها.. وتعظيم الوسائل التي بها تسود هذه الحريات.. عندئذ فإن حجم المخاوف المصاحبة لسيادة هذه الحريات.. حين الممارسة سوف تقل.. أو تنعدم.. والمهم هو الاعتراف بحرية الرأي والرأي الآخر وفقا للشريعة والقانون والأخذ بهذا الرأي مهما كان معارضا ما دام يقدم الحلول.. وعلى ذلك لابد من أن نتوقف عن الاعتقاد بأن الحاكم مقدس ولا يجب نقده.

• نريد أن نعرف بالضبط.. ما هي الشخصيات السياسية والشخصيات العامة التي تعرفتم بها داخل السجن؟ وما هي أهم المواقف الطريفة والمواقف المحزنة التي واجهتكم؟..

- ياه.. كتير قوي.. وفي كل مرة من مرات السجن أتعرف على الكثير ويمكن أعرفهم قبل الدخول إلى المعتقل بحكم انتمائي السياسي إلى اليسار المصري الذي كان في فترة من الفترات أكثر الجهات السياسية تعرضا للاعتقال.. ولكن في آخر مرة من مرات الاعتقال عام 1981 شاهدت داخل المعتقل نوعيات مختلفة من المفكرين والسياسيين المصريين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والفكرية.. وأنا أذكر في اليوم الأول لانتقالنا من سجن الاستقبال إلى السجن الملحق بطره.. وقفت في زنزانتي أتابع طابورا من رجال الحرس القديم يتوافدون إلى الزنازين المجاورة رجال تجاوزوا الستين أو اقتربوا منها.. تقلبت عليهم العهود والأزمان.. وقد استغرقني مشهد المرحوم عبد العزيز الشوربجي نقيب المحامين الأسبق.. وكانوا قد اعتقلوه من فراش المرض وهو يصعد السلم بأعوامه السبعين. بخطوات بطيئة واهنة وحوله عبد العزيز محمد وأحمد ناصر يحاولان مساعدته فيرفض بإباء..

- وحين استقرت الأوضاع وجدت نفسي في زنزانة واحدة وكانت رقم (14) مع محمد عبد السلام الزيات وفؤاد سراج الدين وقد قاوما بشدة ونبل حقيقي تطوعي بأن أقوم عنهما ببعض الأعمال البسيطة في زنزانتنا المشتركة بحكم سني الصغيرة، لكنهما اضطرا للرضوخ، ولأن الزنزانة كانت الوحيدة التي لا إضاءة بها، فقد أمضينا الليالي الأولى نستمع إلى ذكريات فؤاد سراج الدين ، بينما بقية الزملاء يقضونها في سمر.. ويوما بعد يوما كانت آلامي النفسية وشوقي لأبي يملأ القلب وخوفي أن يموت فتحول الأسوار بيني وبين أن أقبل جبينه.

هذه الآلام كنت اصرفها عادة في تأمل مناضلي الحرس القديم وهم يتجولون في فسحة الضحى أمام زنزانتي.. ومنهم كان فتحي رضوان الله يرحمه وفؤاد مرسي وإسماعيل صبري عبد الله وإبراهيم طلعت وآخرون .

ومن الشخصيات المهمة التي اقتربت منها كذلك في هذه الفترة عبد السلام الزيات الذي كان يتميز بأنه قليل الكلام ، وبدا لي في أوقات كثيرة كأنه رجل داخل نفسه.. وكان يوم 17 سبتمبر عام 1981 واحدا من أيام الحزن العظيم بالنسبة لعلاقتي بهذا الرجل.. فقد جاء الطبيب والمأمور كي يطلبا من الزيات أن يجمع حاجياته لينقل فورا إلى المستشفى ، فالسجن غير مسئول عن حياته لأن حالته الصحية حساسة للغاية ورفض الزيات بعناد أن يدخل مستشفى السجن.. وبعد عدة اتصالات وافق المسئولون على نقله إلى أحد المستشفيات الجامعية وليس إلى أحد مستشفيات المسئولون على نقله إلى أحد المستشفيات الجامعية وليس إلى أحد مستشفيات السجون.. ومن ثم غادرنا الزيات قيل الغروب بقليل واحتضنته مودعا ومشجعا..

أما عن الحكايات والمواقف المحزنة التي صادفتني وراء القضبان فهي حكاية موت عبد العظيم أبو العطا.. فلم يكن قد مضى علينا في السجن سوى عشرين يوما.. وأذكر أنه وصل ذات غروب.. حين صاح النقيب سامي سرحان من الدور السفلي أن ضيفا جديدا قد عاد من مستشفى سجن الاستقبال وهو عبد العظيم أبو العطا وزير الري الأسبق.. لقد رايته في الصباح وأنا أسلم الزنزانة رقم 17 صحفها، رحبت به وحييته وسألته عن أماناته وعما يريده من الكانتين كي أدبره له.. وفي ضحى اليوم نفسه رأيته مرة أخرى في العيادة والطبيب يفحصه وفد بدا لي شاحبا وهزيلا أكثر من المعتاد.. ولم تكن لدى فكرى عن حالته الصحية، لكن وزنه كان يزداد هزالا وكان مصابا بالقرحة في المعدة ويتطلب غذاء خاصا.. لذلك كان ولأسابيع طويلة يعيش على اللبن الزبادي فقط..

وفي اليوم المشئوم كنا في انتظاره، فاليوم كان مخصصا لمناقشة محاضرة ألقاها قبل أيام داخل السجن عن مشكلة الأرض الزراعية.. وكنت ما زلت أعد الكوبونات التي أوزعها على زملائي.. وكان عبد العظيم أبو العطا قد دخل زنزانته ليستريح كما سمعته يقول للأستاذ هيكل، ولا أذكر أنني رأيت زميلنا الطبيب على نويحي وكمال الإبراشي وهما يدخلان الزنزانة رقم 17، فقد فوجئت بالأخير يخرج منها مذعورا ويصرخ طالبا أنبوبة أوكسجين.

لقد تحركت على الفور فالأنبوبة كانت في عهدتي داخل الزنزانة وبسرعة شديدة انتقلت الأنبوبة الضخمة إلى الزنزانة رقم 17.. وجلست صامتا ولاهثا، عرف الوافدون للمشاركة في الندوة أن " أبو العطا " يمر بأزمة صحية، جلسوا قلقين صامتين.. ومرت دقائق طويلة.. وربما ثوان خرج الطبيب بعدها يصرخ: مات عبد العظيم أبو العطا.. وعلى الفور أخطر الشاويش محمود الإدارة.. ومضى وقت طويل قبل أن يأتوا بكامل هيئتم، ضباط كبار وضباط صغار.. دخلوا الزنزانة رقم 1 ، خرج كبيرهم وقال لنا البقية في حياتكم.. وأنا أذكر وقتها أنني ظللت جالسا أمام الزنزانة حتى تقدم الليل.. جهزوا الجثة استعدادا للرحيل خارج السجن إلى المقابر.. وقتها حاولت أن أمنع نفسي من البكاء فلم أستطع..

• نريد أن نعرف من الكاتب الصحفي والمفكر صلاح عيسى هل من رأيه أن يكون للمفكرين سجونا خاصة.. أم يزج بهم وسط غيرهم من المسجونين الذين تمت إدانتهم في قضايا سرقة ومخدرات؟..

- هو من ناحية الخبرة الإنسانية.. فإن معاشرة أي أنماط أخرى من البشر هي تجربة مفيدة بالنسبة للمفكر.. وبالنسبة لي أنا شخصيا فقد استفدت كثيرا من هذا الاختلاط، سواء وسط تجار المخدرات أو اللصوص أو القوادين.. أو جرائم الثأر.. لقد كان اختلاطا جميلا ومفيدا.. وعلى فكرة أن للسجن طقوسا خاصة به.. وتآلف وتعاطف اجتماعي بعيد الأثر، وأيضا تجد قوى الصراع والحاجة.. بحكم الظروف التي تفرض عليك داخل السجن وفيه أيضا نوع من التسامح باعتبار وجودنا داخل هذه الجدران إقامة جبرية.. وعلى ذلك فلا يجب علينا أن نتشاجر أو نتخاصم ونصدر أحكاما ضد بعض. ويحدث ذلك أيضا بالنسبة للجرائم الجنائية وإلى آخره.. ومحصلة التجربة .. عالم جديد بالنسبة للمفكرين من الممكن الاستفادة منه والخروج بتجربة ثرية وعظيمة.

ومن ناحية الراحة والمعاملة الحسنة والاحترام ، فلابد وأن يكون بالفعل للمفكرين سجنا خاصا بهم أو على الأقل إذا مكثوا في نفس السجن، فلابد وأن تتوافر لهم حياة أفضل ومعاملة أحسن.. لأن المفكر يحتاج إلى أشياء لا يحتاجها المسجون العادي.. من أجل ذلك إلى لم يكن هناك مكان خاص لهؤلاء المفكرين فلابد من الاستجابة لبعض هذه المطالب الأساسية مثلا المفكر يحتاج إلى القراءة والكتب والورق والقلم مثل الأكل والشرب تماما.. وأيضا الاستماع إلى الإذاعات.. فمثل هذه الحاجات لابد وأن تكون مكفولة له داخل السجن.. سواء داخل السجن الخاص به كمفكر أو السجن المختلط.. وعموما السجون المصرية تحتاج الآن إلى ثورة حقيقية لتغيير أوضاعها.. وكان كل ما يشغلنا ونحن داخل هذه الجدران أننا حين نخرج لابد لنا وأن نطالب بقوة من أجل وقفة جماعية عن طريقها نناشد بتغيير السجون المصرية شكلا وموضوعا.. وللأسف حينما نخرج لا يتم لنا ذلك وكأننا نريد أن ننسى هذه الفترة العقابية من حياتنا.. وفي إحدى المرات واتخذنا قرارات من أجل مناشدة المسئولين من أجل تحسين أوضاع السجون في مصر.. سواء كنا بداخله أو خارجه.

وعن نفسي حاولت الوفاء بهذا الوعد فور خروجي من السجن.. وعلى صفحات الأهالي خلال أعوام 82، 1983 حاولت أن ألفت الأنظار للمعاملة غير الإنسانية التي يلقاها الإنسان المصري داخل السجن وجندت لهذه الحملة مجموعة من المحررين الشبان من أجل إثارة هذه القضية ومحاولة تحسين الفلسفة العقابية من منطلق أن كل هذه السجون في مصر أقيمت في عهد الاستعمار.. أو قل معظمها.. وشهدت فترة من التخلف تبعد عن الفلسفة العقابية المقصود بها .. هو الانتفاع .. وليس الإصلاح.. ولكن الغريب إنني حينما حاولت أن ابدأ هذه التحقيقات.. فوجئنا بنقص المعلومات.. بل ورفض المسئولون عن السجون إعطاءنا بيانات صادقة عن السجون.

مثلا عددها وعدد المقيمين بها وهكذا .. أضف إلى ذلك أنني أعرف مثلا انخفاض مستوى معيشة السجانين .. الأمر الذي يؤدي إلى سوء المعاملة وتحولهم في بعض الأحيان إلى وحوش آدمية لا هدف لها سوى امتصاص دماء المسجونين ..

• ذكرتم لنا في حديثكم ردا على السؤال قبل السابق.. أنكم التقيتم بالعديد من الشخصيات العامة والسياسية.. فهل تذكرون شخصيات أخرى غير سياسية أو فكرية؟ وبالضبط شخصيات من المسجونين غير السياسيين؟

- طبعا .. لقد تعرفت على العديد منهم.. وبعضهم من الضباط.. أيوه بعضهم كان من ضباط السجن.. فقد تعرفت على اثنين من ضباط السجون.. منهم واحد كان وقتها عقيد واسمه ناصف مختار.. وأرجو من الله أن يكون ما يزال حيا.. لقد كان مدير معتقل طره السياسي وهو مسيحي.. في الفترة التي اعتقلت فيها عام 1966.. وأقول إنه كان مسيحي الديانة لأنه كان قائد معتقل طره الذي خصصته الحكومة لاعتقال الإخوان المسلمين، في ذروة معاداة النظام للإخوان.. وقد اكتشفت في هذا الضابط نموذجا عاليا من الرجل المصري الطيب الشهم.

بالفعل لقد كان نموذجا لضابط السجن المصري الذي يمكن أن تسميه رجل الواجب الذي يؤدي واجبه بالذمة والقانون والضمير وليس له شأن في أن يعامل الآخرين بما يفهم منه استغلال السلطات.. مع أنه كان يمكن أن يكون ذلك وأكثر.. واللوائح والقوانين كانت تعطيه هذا الحق.. إنني أشهد أن هذا الضابط المصري لم يستغل وظيفته ولا سلطاته في إيذاء الآخرين طوال إقامتي داخل سجن طره.. لقد كان نموذجا غير طبيعي.. وللأسف لم تدم علاقتي به الخروج، رغم أننا قد تعاهدنا على ذلك كثيرا معه.. ومع غيره من الأصدقاء.. وكان منهم مثلا اللواء أحمد مصطفى الذي كان في ذلك الوقت برتبة عميد..

لقد كان هؤلاء نموذجا مشرفا للضابط المصري الذي كان يعامل المساجين معاملة تليق بآدميتهم.. وكثيرا ما كان ينجح في التعامل مع مختلف المعتقلين من مختلف التيارات السياسية.. ولقد كان يتمتع بدرجة كبيرة من المرونة . وتطبيق القانون وروحه حتى المخبرين داخل السجن وجدت في بعضهم الإنسانية.. وأنا أذكر في مرة من المرات أنني كنت معلقا للتعذيب كذلك طويلا نظرا لتردد المخبرين في القيام بهذه المهمة اللإنسانية لقد شاهدت منظرا ملأ قلبي بالإيمان.. فقد رأيت أحدهم يحاول التهرب من تنفيذ عقوبة التعذيب الخاصة بي.. ويدفع زميلا آخر له.. الذي كاد أن يتنصل من هذه لولا نظرات الوعيد من أحد رؤسائه.

• وكم كتابا ألفه الأستاذ صلاح عيسى في السجن؟

- من الكتب التي ألفتها بشكل مباشر في السجن مجموعة قصصية صدرت بعنوان " بيان مشترك".. وقد نشرت في العديد من المجلات الأدبية فور خروجي من السجن.. ورواية أخرى بعنوان " مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا" وطبعت في بيروت عام 1979 .. ويعاد طبعها الآن..

هذه الكتب تم تأليفها مباشرة داخل المعتقل.. بجانب ذلك هناك فصول من ذكرياتي داخل السجن نشرت في بعض الكتب مثل كتاب " تباريح جريح" وبعضها نشت في الصحف والمجلات ولم يتم تجميعها لإصدارها في كتاب أيضا. وفكرة كتاب " حكايات من دفتر الوطن" نشأت وتبلورت داخل السجن.. ولم أستطع تنفيذها هناك لأنه احتاج مني العديد من المراجع.. ولكنني بعد الخروج انتهيت منه وهو الآن موجود بالأسواق.. وعلى فكرة أقدر أقول لك أنا لا أستطيع أن أحصر كل الأفكار والموضوعات التي نبتت في ذهني في هذه الفترات.. ولكن عموما لقد كانت فترة السجن فترة ثرية.. ومهمة.. خاصة لمن لديهم الاستعداد لإيماني أن هذه الفترة تفجر بداخلك طاقات كامنة يمكن استغلالها بنجاح، ودليل ذلك على ما أذكر أنه كان العمال مسجونا معنا في عام 1968 وكان يعمل برادا.. وكان بجواري في زنزانته الفنان التشكيلي محمد حسين هجرس.. الذي كان يمارس هوايته الفنية في فترة اعتقاله، ففوجئنا في لحظة أن صاحبنا الذي من حلوان يحاول تقليده ويصنع لنا تمثالا من الحديد والحجر، لقد تأثر بالجو الذي كان يعيشه.. وأعرف أيضا من بين الأدباء والشعراء الذين كتبوا في السجن الشاعر مجدي نجيب.. حيث كان محبوسا معنا عام 1966.. لقد سمعنا وعشنا آلاف القصص والحكايات التي صاحبت فترة السجن بالنسبة للفنانين والأدباء وكانت لهم مصدر إلهام وتفجير لطاقاتهم المكبوتة.

• ما رأي صلاح عيسى في سجون مصر الآن.. وهل يفضل أن تكون تبعية السجن لوزارة العدل أم لوزارة الداخلية.. ولماذا ؟

- سبق أن حدثتك عن أوضاع السجون في مصر من حيث المأكل والمشرب والمعاملة..

أما فيما يتعلق بالنصف الثاني من السؤال.. فأنا على ما أذكر أن السجن في فترة من فترات العهد الملكي كان يتبع وزارة الحربية وكان مرتبطا مثلا بشخصية اللواء محمد حيدر باشا.. فإذا أصبح وزيرا للحربية أصبح السجن تابعا لوزارته.. وإذا أصبح وزيرا للداخلية أصبح تابعا له.. وهكذا من منطلق أن الملك فاروق كان يريد تشغيل المساجين في جمع المحاصيل واستصلاح الأراضي.. وكانت هذه مهمة حيدر باشا شخصيا..

أما في الوضع الحالي فأنا أقترح أن تكون السجون تابعة لمؤسسة يشترك في إدارتها وزارتي الداخلية والعدل.. وأن يكون عليها رقابة قضائية صارمة تتابع تطبيق لوائحها وفقا للمعاملة الإنسانية.. وخصوصا معاملة المسجون المفكر.. إنني أؤكد لك أنه لابد من وجود رقابة قضائية مباشرة حتى في إطار القانون القائم لآن الذي يعطي للنيابة حق التفتيش على السجون.. وفي هذه الحالة يمكن اكتشاف المخالفات التي قد لا تتعلق بالمسجون نفسه.. ولكن بالأوضاع داخل السجن عموما من حيث السرقة والاختلاس وأشياء أخرى من هذا القبيل، خاصة وأن السجون تتعامل مع متعهدين وهيئات أخرى لها مصالحها أيضا بالنسبة للمسجون الذي يعتبر أمانة لدى الدولة وأن إساءة معاملته من الممكن أن يسيء للدولة نفسها.

• وماذا تفعل لو كنت مأمورا للسجن فترة اعتقال مفكرين ومنهم صلاح عيسى؟..

- بأمانة.. كنت سوف أفرج عن صلاح عيسى من السجن فورا.. وغير ذلك وإيمانا مني بأن الفلسفة العقابية من وراء السجن عي إصلاح السجين.. من المؤكد كنت سوف أقوم بمهمتي في حدود هذا التصور.. حتى يخرج مواطنا صالحا وليس الثأر مما ارتكبه .. لاعتقادي أن الإنسان دائما يخطئ ودائما في حاجة غلى من ينبهه للخطأ .. لذلك أرى أن الفلسفة العقابية لابد وأن تقوم على محاولة إصلاح السجين وإعادته إلى المجتمع نافعا وليس ناقعا.. فلو كنت مأمورا للسجن كنت أفرجت عن نفسي وطبقت هذه السياسة على 90% من المساجين إلا النسبة القليلة التي يستعصى عليها العلاج.. وهم ما نسميهم المرضى النفسيين الذين يحتاجون إلى جانب جهود المأمور.. جهود أطباء النفس..

• وماذا يكون رد الفعل لدى صلاح عيسى إذا كان في مقام رئيس الحكومة أو وزير الداخلية وعرض عليك أسماء معتقلين مفكرين مطلوب القبض عليهم؟

- أنا من حيث المبدأ مع مساواة المواطنين جميعا أمام القانون بشرط أن تسود الديمقراطية وتحقيق مصلحة عامة للوطن.. وبالتالي لابد أن يتساوى الجميع مفكرين وغيرهم أمام هذا القانون.. في ثلاث حالات إذا كان قانونا ديمقراطيا.. ويحقق مصلحة عامة.. وصادر عن إرادة الشعب.. فإذا ارتكب مفكر أو صحفي أو كاتب أو أي إنسان خطأ يعاقب عليه القانون بهذه المواصفات بما يعني وجود مخالفة تمس الصالح العام وفقا للقانون الذي ارتضيناه جميعا.. من هنا تكون الفلسفة العقابية قائمة على ردع الذين يرتكبون مخالفة ضد الصالح العام وليس ضد الحاكم وحده.. في هذه الحالة لا يكون من سلطاتي أو من صالحي استثناء مفكر أو غير مفكر من القبض عليه والتحقيق معه وفقا لهذا القانون.. لكنني في ضوء ملاحظاتي العامة لما يجري داخل المجتمع المصري لا أعتقد أن المفكر يرتكب مثل هذه المخالفات التي تمس سيادة الصالح العام.. فستكون القضية في واقع الأمر مجرد مخالفة في الرأي.. وفي هذه الحالة.. لابد وأنا في منصب رئيس الوزراء أو وزير الداخلية أن استدعى هؤلاء المفكرين وأناقشهم.. لاعتقادي أن المفكرين هم الذين يقدمون عصارة أفكارهم لخدمة المجتمع.

وحتى في حالة ارتكاب نوع من المخالفات .. فهي في اعتقادي تتم عفويا وبدون قصد.. وعلى هذا الأساس تدور مناقشاتنا ما دام هدفنا هو الصالح العام.. إما أن يقنعني أو أقنعه.. وحتى إذا اختلفنا وتمسك كلانا برأيه وقلمه فلا يجب أن أعتقله. بل أتركه لأنني على ثقة من أن المفكر ليس لديه في الحياة سوى رأيه وقلمه ولا خطر على المجتمع منه. ولا أقدم على خطوة الاعتقال إلا إذا تحول المفكر إلى إرهابي بمعنى أن يستبدل القلم بالسلاح.. ونادرا ما يحدث ذلك.. وحتى في هذا الحالة سوف أوافق على القبض عليه ومحاكمته وفقا للقانون الذي سبق وأن تحدثت معك عنه منذ لحظات والذي لا يفرق بين مفكر وغيره من أفراد المجتمع..

• في اعتقادي .. لماذا يرتبط أمر اعتقال المفكر بتوقيع رئيس الدولة؟..

_ لأنه قرار سيادي.. يرتبط بوجود أعلى سلطة في الدولة ولكنه يفوض فيه وزير الداخلية، وعادة ما يبادر رئيس الدولة بإصدار هذه الأوامر لأن المفكر له شعبيته وفكره وتلاميذه، وخوفا من إساءة استخدام السلطة ضده.. فهو يبادر بمتابعة أمر اعتقاله بنفسه ويحسب حسابه بدقة شديدة حتى لا يؤدي هذا الاعتقال غلى نتائج عكسية.. وهذا ما حدث في بعض الحالات.. لأن قرار الاعتقال.. هو في حد ذاته قرار مصادرة حرية الآخرين بدون سند قانوني .. أما إذا كان هناك سند قانوني فلا يلجأ الحاكم إلى الاعتقال بل يترك الأمر للنيابة والمحاكم.. فإذا رأت جريمة فلابد من معاقبته..

ومن هنا يظل الحاكم محتفظا بحقه في هذا الاعتقال.. من أجل تقييد حرية من يراه خطرا عليه وعلى خطه وعمله في مرحلة ما..

وكثيرا ما يخطئ الحاكم في استخدام هذا الحق.. وتقدر تقول إن ذلك لا يحدث دائما إلا في ظل أنظمة الحكم الدكتاتورية .. حيث هناك شبه إرادة على سلب حرية الآخرين الذين يقفون في صفوف معارضة الحاكم.. أما في حالة سيادة الديمقراطية .. فأنا أعتقد أن احتفاظ الحاكم بحق اعتقال المفكر يكون أفضل من احتفاظ غيره به.. وذلك لأنني أرى أن الحاكم في هذه الحالة هو أقدر الناس على تقدير الناس على تقدير قيمة المفكرين لاتساع أفقه وخبرته..


الحكاية الثامنة: جمال بدوي

الحكاية الثامنة يرويها جمال بدوي:

دخلت المعتقل.. وخرجت منه

أحترم وأقدس حرية الرأي

كل الذين قابلتهم وتحدثت معهم في هذه السلسلة من الحوارات أصيبوا بالدهشة حين علموا بأن أستاذنا الأديب والصحفي والمفكر جمال بدوي قد تعرض لتجربة السجن والاعتقال في بداية حياته العملية.. وهو لا يزال طالبا بالسنة الخامسة الثانوية.. وأن هذه التجربة المبكرة في حياته كانت الدافع الأساسي نحو دخوله عالم الصحافة والتمسك بمبدأ حرية الرأي.. رغم أنه كان فذ هذه السن المبكرة لا يزال يبحث عن ذاته.. ويتحسس البداية الذي سرعان ما وجدها في أفكار ومبادئ الإخوان المسلمين.. للدرجة التي جعلته ينخرط في فكر هذه الجماعة ويصبح وهو لا يزال طالبا في هذه السن المبكرة قائدا مهما داخل هذه الجماعة وفكرها.

كانت البداية وكما قال لي في عام 1954 حين ألقوا القبض عليه.. ولم يكن سنه في هذه الحقبة المبكرة يتعدى السادسة عشرة.. ولأول مرة يدخل السجن.. وقدم للمحاكمة آنذاك مع من قبض عليهم من زملائه.. ولصغر سنه.. ولظروف اجتماعية أخرى سوف نعرفها حين ندير شريط تسجيل الحوار.. قرروا الإفراج عنه ومع ذلك مكث في السجن أكثر من سنتين .. ولم تقبل الحكومة تنفيذ حكم القضاء بالإفراج عنه.

ومرة ثانية دخل المعتقل خطأ .. ومكث به ساعة واحدة.. ومن بعدها أفرجوا عنه .. ورغم قصر هذه الفترة التي قضاها إلا أنه أصيب بحالة من الهياج والإحباط.. أكثر مما أصيب في حالة دخوله السجن في المرة الأولى.. فقد ألقوا القبض عليه عام 1965 ضمن هوجة القبض على رجال الإخوان المسلمين آنذاك.. رغم أنه كان في تلك الفترة صحفيا كبيرا.. قريبا جدا من نظام عبد الناصر في تلك الفترة .. فقد تصادف قدومه من مدينة أسوان حيث احتفالات السد العالي، الذي كان يتابعها صحفيا هناك.

وعلى باب أخبار اليوم انتظروه.. وأبلغه أحد الزملاء أن أحد الضباط يسأل عنه.. وما هي إلا لحظات حتى كان في منزله كي يأخذ الشنطة التي أتى بها منذ ساعات من أسوان.. ولحظتها كانت القسوة تطل برأسها.. حين رأى طفلته الصغيرة تقف بباب المنزل.. وهم يأخذونه إلى سيارة البوليس.. وقتها لم يجد الكلمات التي يعبر بها عن هذه الرحلة المفاجئة، فتعلل بعودته إلى رحلة صحفية أخرى تم تكليفه بها وسوف تستغرق أياما وربما شهورا.

وبعد أن حبسوه مع آخرين لمدة ساعة واحدة.. جاء من يستدعيه إلى مكتب المسئول عن البوليس في تلك الفترة.. الضابط حسن أبو باشا الذي اعتذر له عن هذا الخطأ .

هذه مجرد بدايات حاولت التقاطها من صوت شريط التسجيل.. كي تكون مدخلا مثيرا لحكاية بدوي كمفكر وصحفي وأديب في عالم السجن والمعتقلات.

أما البداية الفعلية للقائنا عبر هذه الصفحات.. بين كاتب هذه السطور وبين المفكر والأديب والصحفي ورئيس تحرير جريدة الوفد أستاذنا جمال بدوي، عبر جهاز التسجيل ولقطات المصور.. فقد مر بالعديد من الظروف التي فرضت علينا تأجيل بداية الحوار أكثر من مرة .. ومع الإصرار على إتمام هذه الرحلة .. فضلت الرحيل مبكرا حيث مكتب الأستاذ جمال بدوي الذي يقع بالدور الأرضي بجريدة الوفد التي احتلت الآن بالمشاركة مع الحزب فيلا الشريعي باشا.. أمام مبنى كلية دار العلوم القديمة بالمنيرة.. وفي الموعد المحدد.. نادى على كل من حوله بضرورة إغلاق المكتب.. وقطع كل الاتصالات التليفونية حتى إشعار آخر.

وهكذا .. وعلى مدى أكثر من ساعة ونصف بدأت تشغيل شريط التسجيل.. وكان هذا الحوار .

• الأستاذ جمال بدوي.. نريد أن نعرف كم مرة دخلت فيها السجن أو المعتقل؟

- تقدر تقول في البداية إنها سلسلة .. والعبرة ليست بعدد المرات.. ولكنها مرتبطة بما اصطلح على تسميته " البلاك ليست" أو القائمة السوداء.. ووفقا لهذه القائمة.. فالإنسان معرض للاعتقال في أي لحظة.. ولقد كنت في شبابي ضمن هذه القائمة.. والسبب أنني كنت منتميا للإخوان المسلمين.. وتقدر تقول جاء هذا الانتماء في المرحلة الثانية أيام المرحوم حسن الهضيبي.. وليس أيام المرحوم حسن البنا.. وكان عمري وقتها 16 عاما.. ولقد استمر وضعنا في الإخوان المسلمين وخلال السنتين الأوليين من قيام الثورة يسير في طريقه السليم.. وعلى وفاق مع رجال الثورة.

- إلى أن حدث الصدام في عام 1954 .. حين تم حل الإخوان لأول مرة في يناير من نفس العام.. وتم اعتقالي في هذه الفترة حين كنت وقتها طالبا بالمدرسة الثانوية بمدينة طنطا.. ولم يستمر هذا الاعتقال سوى أيام أما حينما وقع حادث المنشية جاء دوري في الاعتقال الثاني.. مع هوجة الاعتقالات الكبيرة التي قام بها رجال الثورة ردا على هذا الحادث.. وبالفعل اعتقلت بدون جريمة وسجنت أيامها بالسجن الحربي بالقاهرة.. ثم رجعت مدينة طنطا مرة أخرى لاستكمال التحقيقات.. وبعدها قدمت للمحاكمة أمام محكمة الشعب الدائرة الثانية.. التي حكمت ببراءتي.. ورغم ذلك مررت على العديد من السجون مثل سجن مصر والقلعة والسجن الحربي حتى أفرج عني في يونيو عام 1956.

لقد مكثت في السجن في هذه الفترة عامين.. رغم قرار الإفراج والسبب يرجع إلى اعتقال البوليس لتنظيم من شباب الإخوان المسلمين يجمع تبرعات لأسر المسجونين.. الأمر ا لذي جعل عبد الناصر يرفض قرار الإفراج.. ثم اعتقلت مرة أخرى وأنا أعمل صحفيا بأخبار اليوم عام 1965 أيضا بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين.. رغم تغير الظروف.. واقترابي من السلطة آنذاك حيث كنت أيامها قادما من رحلة صحفية من أسوان لتغطية احتفالات السد العالي ، ولكنني فوجئت بالبوليس ينتظرني على باب أخبار اليوم وتم اعتقالي بالفعل.. ولهذه المرة الأخيرة قصة أغرب من الخيال دعني أحكيها لك.

فبعد وصولي إلى مبنى المباحث العامة.. وبعد لقائي بزملاء المعتقل.. وفور وضع شنطة الملابس التي أتيت بها إلى هنا.. استدعيت فورا.. ومشيت وراء الشرطي الذي جاءني، ففوجئت بأنني أمام غرفة مغلقة مكتوب عليها المدير العام.. فدخلت الغرفة ووجدت بداخلها شخصيا وقورا في غاية الاحترام.. طلب مني أن أجلس.. ولم أصدق.. وأصابني الخوف.. فأصر على أن أجلس أمامه.. وبأدب شديد فوجئت به يقول لي: إننا في غاية الأسف لاعتقالك .. ولم أصدق حديثه.. فكيف يأتون برجل اعتقلوه منذ لحظات.. كي يعتذر له مدير عام المباحث.

المهم .. مرت دقائق ولا يزال رجل البوليس الوقور يكرر اعتذاره هذا الرجل كان هو اللواء حسن أبو باشا.. ولحسن استقباله لي داخل المكتب فتحت معه حوارا ناقشت من خلاله آلامي الذي سببها هذا الاعتقال الأخير، وقتها اختلطت داخل نفسي مشاعر متضاربة بين الفرج والحزن والضيق.. كما قلت لك إن السبب يرجع إلى أنني وقتها كنت صحفيا أعمل بقسم التحقيقات بأخبار اليوم وكنت وقتها راجعا من رحلة صحفية من أسوان ومتابعة احتفالات الثورة بالسد العالي.. لقد وصلت القاهرة في ذلك الوقت الساعة التاسعة صباحا.. وهناك في أسوان أحسست بمشاعر الضيق والحزن الذي خيم على مدينة أسوان في ذلك الوقت لاشتداد تيارات الاعتقال بها خاصة اعتقال رجال الإخوان المسلمين.. وسط مشاعر فرح افتتاح السد العالي.. لقد عشت لحظات في منتهى التناقض.

في هذه الأثناء وعندما رجعت من أسوان كنت أشعر بالخوف لشيء لا أعلمه.. لقد توجهت من محطة الجيزة إلى منزلي في التاسعة صباحا.. وفور وصولي وضعت شنطة ملابسي ثم اتجهت إلى الجريدة كي أكتب الموضوع الذي كنت أتابعه هناك.. ولكنني في منزلي شاهدت أيضا الخوف يملأ الوجوه.. والرعب يسيطر عليهم.. ومما يدل على ذلك أن أختي الكبيرة جاءت من البلد.. وتعجبت من سرعة نزولي من المنزل في هذا الوقت العصيب من وجهة نظرها.. المهم كما قلت لك توجهت إلى الأخبار في هذه الساعة من الصباح.. وفور دخولي إلى صالة التحرير .. وبعد مرور أكثر من نصف ساعة فوجئت بزميلي الراحل الأستاذ إبراهيم يونس ينادي علي من أول صالة التحرير بأن هناك ضبطا واثنين من المخبرين يسألون عني.. ويطلبون مقابلتي.

وتتعجب حين أقول لك إنني وقبل وصولهم كنت أتحدث عن موضوع الاعتقالات ومنفعل به غاية الانفعال.. وربما يرجع ذلك إلى الخوف الذي لا يزال مسيطرا على نفسي حتى هذه اللحظة.. المهم طلبوا من الراحل إبراهيم يونس أن يناديني بصوت خافت.. وقد كان.. حيث اصطحبوني إلى سيارة البوليس التي كانت تقف بباب أخبار اليوم القديمة.. وبداخلها فوجئت بالعديد من المعتقلين من الإخوان.. وتعرفت على بعضهم كزملاء قدامى.. وفور دخولي إلى سيارة البوليس سألوني عن شنطة ملابسي.. وعندما عرفوا أنني تركتها منذ ساعة في منزلي استأذنوا الضابط أن يفوت بالسيارة على المنزل لإحضارها.

وفعلا رجعنا العجوزة حيث أعيش مع أسرتي وواجهت موقفا حرجا جدا تمثل في البحث عن حجة أقولها لأهلي ودون أن يعرفا الوجهة الحقيقة لي.. عندئذ ادعيت أنني ذاهب في رحلة صحفية جديدة إلى غزة.. وقد اخترت هذه المدينة بالذات لبعدها اقتناعا مني أنني لن أعود من هذا الاعتقال إلا بعد شهور وربما سنوات.. ووسط دهشتهم من هذا التصرف أخذت الشنطة ونزلت إلى السيارة من جديد.. ومما جعلني وقتها أشعر بألم نفسي شديد وضيق منظر شاهدته على باب العمارة وأنا أركب السيارة.. طفلتي الصغيرة التي كان عمرها في ذلك الوقت خمس سنوات، تنظر إلى في تساؤل غريب ولقد مكثت أنظر إليها فترة طويلة.. والسبب أن الضابط قد تركنا داخل السيارة واستأذن بعض الوقت للسؤال عن سمسار عقارات يبحث له عن شقة. فهل تتصور إنسانا يمر بهذا التناقض الغريب.. معتقل ينظر إلى طفلته الصغيرة التي تحاول أن تتساءل عن مصيره.. في الوقت الذي يبحث فيه الضابط المسئول عن الاعتقال عن سمسار وشقة للإيجار.. مما آلمني بشدة أن طفلتي الصغيرة " سمية" وهي الآن متزوجة ولها أولاد أخذت تنظر إلي في دهشة وتساؤل.. ولا تعرف أين أنا ذاهب الآن.

أما ألأمر الثاني الذي أثر في نفسي أكثر.. أن ضابط الشرطة المصاحب لنا.. كان يقف أمام العديد من المنازل في مختلف أحياء القاهرة وينزل من السيارة كي يسأل عن اسم أحد الأشخاص من أجل اعتقاله.. والمفاجأة أنه كثيرا ما كان يسمع عبارة دن مات من زمان أو ده هاجر خارج مصر.. هذه المشاهد كلها قد نقلتها بانفعال شديد للواء حسن أبو باشا أثناء لقائي به في مكتبه لحظة الاعتذار الذي ذكرته لك منذ قليل .. وركزت على شخصيتي كصحفي باعتبار أن الصحفي لا يجب اعتقاله بمثل هذه المهانة.. أضف إلى ذلك حكاية المعتقلين الموتى أو المهاجرين الذين اكتشفهم الضابط لحظة السؤال عنهم..والحقيقة أن الرجل قد امتص غضبي وقتها.. وشعرت باستجابة لما كنت أحكيه.

• طيب .. نقدر نقول كم من الوقت مكث الأستاذ جمال بدوي في السجن خلال هذا الاعتقال الأخير؟

- ساعة واحدة.. والساعة الثانية كانت في مكتب اللواء حسن أبو باشا.. وتعرف أخطر مشكلة واجهتني بعد قرار الإفراج والاعتذار هو كيف أستعيد شنطة ملابسي مرة أخرى.. وكنت قد تركتها مع زملائي المعتقلين وبعد هذه الساعة اضطررت للرجوع إلى مقر الاعتقال في مبنى المباحث.. والتقيت من جديد مع زملائي المعتقلين وأبلغتهم بقرار الإفراج العجيب.. ثم أخذت الشنطة ورجعت إل منزلي.. هناك أصابتهم الدهشة وتوالت الأسئلة .. لكن أظرف شيء واجهني بعد رجوعي إلى منزلي.. أن زملائي المرحوم إبراهيم يونس والأخ الزميل سيد الجبرتي.. حضرا إلى المنزل في الوقت الذي رجعت فيه بعد الإفراج .. عارف ليه.. كي يبلغوا زوجتي وأسرتي بقرار الاعتقال.

المرحوم إبراهيم يونس كان يرتدي نظارة سوداء تأثرا منه بهذا الاعتقال.. المهم عندما دخلا الشقة قمت بمقابلتهما.. وكانت قمة المفاجأة .. وصدقني كان مشهدا هزليا وامتزج فيه الضحك والبكاء.. لقد جاءا لإبلاغ أسرتي باعتقالي ولكنهما فوجئا بوجودي بينهما.. ولقد ظنا لأول وهلة أنني نجحت في الهرب من البوليس وجئت أختبئ في منزلي.. وبهدوء حكيت لهم القصة الغريبة.. قصة اعتقالي لمدة ساعة واحدة ثم الإفراج عني.. وانتهى الموقف بوليمة دسمة.. كانت قد جاءتني من البلد.

• ولو سألت الأستاذ جمال بدوي عن علاقته بالإخوان المسلمين .. ماذا يقول؟

- أرجوك أن تفسر.. ماذا تقصد بالفترة المعينة بالسؤال .. إذا كنت تقصد فترة الخمسينيات فأنا أقول لك إنها كانت فترة تربية.. حيث كنت وقتها عجينة تتشكل.. وبالفعل تربيت في أحضان الإخوان تربية دينية أمينة جدا.. لقد كانت مدرسة تربوية من أعظم مدارس التربية على المستوى الديني والوطني.. وكل المستويات.. وقد استفدت منا جدا.. ووقتها كنت عضوا مسئولا وعضوا نشطا له تأثير في جماعة الإخوان والدليل أنني اعتقلت وقدمت للمحاكمة.. والاعتقال في هذه الفترة بالنسبة لي لم يكن جزافا.. بل كان بسبب وجودي في التنظيم السري للجماعة.. وعندما قدمت للمحاكمة.. وكما سبق أن قلت لك.. أخذت هيئة المحكمة بعين الرأفة حيث كنت وقتها تلميذا ومتزوجا أيضا ولي أولاد.. ورغم أنني وقتها كنت رئيس المجموعة داخل التنظيم.

والعجيب أن زملائي ممن كنت أرأسهم داخل الخلية حكم عليهم بالسجن عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ وكانوا جميعا تلاميذ في مثل سني.. في مدرسة طنطا الثانوية.. ورغم حكم البراءة مكثت سنتين داخل سجون مصر إلى أن أفرج عني.

• ما هو تأثير تجربة عقوبة السجن على الفكر المصري بشكل عام؟

- أود أن أفرق لك أولا بين نوعين.. السجن والاعتقال.. لأنني لم أسجن.. بل تم اعتقالي.. والفرق بين النوعين شديد وكثير ، فالإنسان الذي يعتقل تقيد حريته.. ويشعر أنه لا يعرف مصيره.. من حيث متى سيخرج أو يتم التحقيق معه؟.. بعكس المسجون.. فله حقوق .. ويعرف المدة التي سيقضيها خلف الجدران.. ولديه إحساس بالذنب .. هذا الإحساس ارتبط في داخله بتنفيذ العقوبة.. ولا متى سيفرج عنه إنه إنسان يعيش حتى بلا أمل داخل جدران السجن.

الحاجة الثانية.. أن المعتقل ليس له قانون .. بعكس المسجون العادي الذي تحكمه داخل السجن لوائح.. وله حقوق وعليه واجبات، والدليل أننا كنا ممنوعين من القراءة أو الكتابة ولا نجرؤ على ذلك إطلاقا.. ومن يضبط لديه أي مكتوب يعاقب بشدة.. ودعني أحكي لك حكاية بهذه المناسبة وهي تصور ارتباطي بحاسة الصحفي في هذه السن المبكرة.. رغم أنني لم أكن صحفيا.. وإنما كما ذكرت لك سابقا كنت طالبا بالثانوي آنذاك.. المهم لقد دفعني حبي للقراءة أن أبحث عن أي شيء مكتوب حتى ولو على الجدران، للدرجة التي جعلتني أجمع قصاصات من الصحف.. كانوا يبيعون لنا فيها أقراص الطعمية داخل المعتقل.

وأنا أذكر أنني جمعت كمية كبيرة من هذه القصاصات الملوثة بالزيت والتراب.. وكنت أجمعها فيما يشبه بجريدة صغيرة.. ونظل نتناوبها في القراءة ليلا حتى لا يرانا أحد المسئولين عن السجن.. هذه القصاصات من ورق الصحف كانت تمثل لنا كنز المعرفة.. وقد تتعجب أكثر حين أقول لك إنني عرفت بموت الفتان أنور وجدي من تجميع هذه القصاصات .. فقد قرأت سطورا مبتورة لمقال كتبه المرحوم أستاذنا على أمين.. ينعي فيه ا لفنان الراحل.. وما زالت كلماته أحفظها حتى هذه اللحظة.. حيث كتب يقول : عاش شبابه كي يشتري المجد.. ثم قال البائع لا يكفي.. ثم عاد فلم يجد البائع ولم يجد الدكان.

وقبل أن أنسى أقول لك.. هذه الواقعة حدثت لي في سجن مصر الذي كان يسمى آنذاك " قره ميدان".. ولا تتخيل كيف كنا نقرأ الجريدة الصغيرة والبسيطة.. فرغم ما بها من زيت ورائحة الطعمية وملوثة بالأتربة إلا أننا كنا ننتظر قدوم الليل ونحاول قراءتها حتى تحت البطانية خوفا من بطش رجال السجن.

إذن المعتقل خطورته أنه لا يحكمه قانون.. ومن حق السلطة أن تفعل بك ما تشاء.. تعذبك وتهين كرامتك وأشياء أخرى كثيرة.. وكم من مرات عديدة تعرضت فيها أنا شخصيا لتعذيب شديد.. خاصة في فترة التحقيقات.. عندما كنا أذهب إلى السجن الحربي.. فكان لابد أن تذوق فيه ألوانا من التعذيب .. لأن من تقاليد هذا السجن العريق هو التعذيب البدني الشديد والقاسي.. ولقد وضعت الثورة هذا السجن من أجل الإبادة وليس من أجل التعذيب .. فكم من المصريين الشرفاء ماتوا ودفنوا من جراء هذا التعذيب.. والسجين منا حين يدخل السجن الحربي عليه أن يتوقع تعذيبا شديدا سواء كان بريئا أو مدانا.

المهم.. لابد وأن يأخذ جرعة شديدة من هذا الهول.. لقد كانت الإقامة في السجن الحربي شيئا لا يصدقه عقل حيث كانت اللغة المعترف بها بداخله هي لغة الكرباج.. وأنا مكثت بداخل هذا السجن فترتين وصلتا إلى أربعة أشهر منذ حادث المنشية عام 1954.. وحتى يناير عام 1955 ومن بعده انتقلنا إلى سجن القلعة الذي كان بالنسبة للسجن الحربي معناه أنك الآن مهيأ للخروج وللإفراج عنك في أي لحظة.. فقد تحول سجن القلعة من سجن المجزرة إلى سجن الإعداد والانتظار للخارجين والمفرج عنهم.. وسجن الإعداد وغسيل المخ.. وبداخله عشنا لحظات طيبة فقد كان كل اثنين ينامان على سرير .. وأكل نظيف.. وسلسلة من المحاضرات والمحاضرين العظماء.. وكانوا يحدثوننا عن أفكار جديدة ومشاريع وطنية كانت تنفذها حكومة الثورة.. إلى جانب درس ديني كان يلقيه علينا أحد مشايخ الأزهر.. يعني تقدر تقول كانت فترة إعداد ومصالحة.. وكنا على وشك الخروج لولا أنهم ضبطوا تنظيما من الإخوان المسلمين من الشباب يجمع تبرعات لصالح أسر المعتقلين.. وكان هذا التنظيم يسمى تنظيم مارس.. وهو تنظيم مشهور جدا.

ولما علم عبد الناصر بأمر القبض على التنظيم الجديد رفض الإفراج عنا.. وانتقلنا من سجن القلعة إلى سجن مصر.. حيث قضيت بقية مدة العقوبة وهي سنتان.. ثم عدت إلى سجن القلعة مرة ثانية حين قرروا الإفراج عني مرة لآخر مرة.. ومكثت به أسبوعين .. وأحب أن أؤكد لك أن سجن مصر لم يكن به تعذيب.. كنا أيامها موجودين بعنبر "ج" المطل على ميدان السيدة عائشة.. هذا السجن تم هدمه الآن وتحول إلى حدائق عامة.. وطوال فترة سجن مصر.. توالت علينا المحاضرات وتعرفت من خلالها على أساتذة تركوا أثرا طيبا في نفسي ، وأذكر منهم الأستاذ الدكتور توفيق الشاوي.. والدكتور محمود أبو السعود.. كنا وقتها نسمع محاضرات متنوعة في الأدب والدين.

• ما هو تأثير هذه التجربة على المفكر والكاتب الأستاذ جمال بدوي؟

- شوف .. أنا وقتها شعرت أنني ولابد وأن أعمل في المجال العام كرسالة لابد أن أؤديها بأمانة.. إنما إيه بالضبط؟ لم تكن الرؤية واضحة.. وفي تلك الفترة قرأت وأنا ما زلت على أبواب السنة النهائية من القسم الثانوية في إحدى المجلات عن وجود قسم جديد بكلية الآداب.. هو قسم الصحافة ، دوره غيه وماذا يقدم؟ لم أكن أعرف وقتها.. وكل ما عرفته هو ارتباطه بالدكتور عبد اللطيف حمزة.. وبدأت أجمع معلومات وأشغل ذهني بهذا القسم الجديد وأنا ما زلت مسجونا بسجن مصر.. إلى جانب التجربة نفسها وإحساسي آنذاك بقيمة الحرية وأثرها على مصير الإنسان وعلى حياته وفكره.. وظلت كقضية تشغلني بشدة وفرضت نفسها حتى على إحساسي بالعدل.. لأنني عرفت وقتها أن الحرية قرينة العدل.. والاعتقال في هذا السن المبكر جعل من هذه الحرية لدى نفسي قيمة ومبدأ لا مساومة عليه.

وهذا السبب هو الذي جعلني أغير فكري وأنتقل به إلى الفكر الليبرالي وأحيد عن فكر الإخوان المسلمين.. ولعلني أتحدث معك عن هذا التحول وربما لأول مرة.. لأنني بعد الخروج من المعتقل ويمكن قبل أن أخرج بدأت أفكر في مسألة الحريات العامة.. تلك القضية التي لم تكن واضحة في أذهاننا وتقت أن كنا في مدرسة الإخوان.. هذه القيمة الجديدة أضيفت غلى باقي القيم العظيمة التي تعلمناها في مدرسة الإخوان كالأمانة والصدق والوطنية.. ويمكن أن أقولك: إن قيمة الحرية في ذلك الوقت لم تكن مطروحة على الساحة السياسية آنذاك.. وفي داخل المعتقل عرفت بها وأحسست بقيمتها.. وعقدت العزم على أن أناضل من أجلها.. لإيماني بأن تلك الحرية أثمن شيء في وجود الإنسان.. وقد أكد هذه المعاني الجديدة في ذهني إقبالي على القراءة والاطلاع على الثقافات الأجنبية.. وأيضا تأثير تلك المحاضرات المهمة التي كانت تلقى علينا في تلك الفترة.

وخرجت من ذلك كله بنتيجة مهمة جدا وهي أنه لابد من وجود ضمانات واضحة لصيانة الحريات العامة.. وأنه إذا كان هناك أي كلام عن نظام حكم في الإسلام.. فلابد أن يأتي في المقدمة أهمية صيانة الحرية.. والاعتزاز بالحريات العامة.. من هنا تجدني أرفض أن يأتي أي حاكم أو خليفة مسلم أو أي نظام ينتسب إلى الإسلام ويضحي بالحرية من أجل أي هدف آخر.. فأنا بصراحة حينما تعمقت في قراءة نظام الحكم في الإسلام.. وجدته نظاما من الناحية النظرية لا يضاهيه أي نظام حكم في العالم.. ولكن المشكلة كانت في التطبيق.. فكما قدم لنا التاريخ نماذج طيبة من الحكم في الأيام الأولى للإسلام قدم لنا أيضا نماذج سيئة جدا لحكام يحكمون باسم الإسلام.. لا يعترفون بالحريات العامة ويدوسونها بأقدامهم.. رغم أن الإسلام في جوهره يقوم على احترام هذه الحريات.. إذن كانت هذه نقطة التحول الأساسية في حياتي الفكرية.. ولا أستطيع أن أقول لك التحول من فكر الإخوان المسلمين ولكن التحول إلى فكر أكثر إيمانا بالحرية.. وعلى وجه الخصوص هذا التحول قد تم وأنا في سجن مصر.. والسبب يرجع إلى أنني وجدت مصادفة بين مجموعة من الزملاء المثقفين داخل هذه الجدران العالية.. وهم من الإخوان المسلمين الذين كانوا أكثر مني استنارة.

هذه المجموعة كانت من شباب جامعة القاهرة.. وعلى ما أذكر منهم كان الدكتور ماهر حتحوت من شباب كلية الطب والأستاذ مدحت أبو الفضل من شباب كلية الحقوق وآخرين.. هؤلاء قد تأثرت بهم.. وهم ما زالوا من المتمسكين بالفكر الإسلامي.. ولا أستطيع أن أقول فكر الإخوان المسلمين.. وما حدث أن هذه المجموعة قد فتحت أمامي عالما جديدا.. ومحاضرات الدكتور الشاوي أيضا نقلتني إلى عالم آخر تحدث فيه عن الديمقراطية والحريات وكانت وقتها عبارات وشعارات جديدة.

كل ذلك بجانب قراءاتي المتعددة.. وقد صاحب هذا الجو الجديد إثارة آلاف الأسئلة داخل نفسي ، وكلها كانت تدور حول مفهوم الحريات وأهميتها بالنسبة لحياة الإنسان.. ولماذا نحن هنا داخل المعتقل؟ ومن أجل من نناضل ونفكر؟ تلك كانت البداية التي تبلورت في الكفاح ضد ديكتاتورية الفرد الذي تمثل في وجود جمال عبد الناصر وغياب الحرية في ظل هذه الديكتاتورية.

• وكم كتابا ألفتموه داخل السجن.. أو بعد الخروج منه تأثرا بهذه التجربة؟

- أنا لم أكتب عن هذه التجربة في كتب صدرت لي.. ولكنني على ما أذكر ألفت كتابا واحدا عن هذه التجربة اسمه " شهداء وضحايا من تاريخ الإسلام".. إن عنوانه يوحي بأنني أتحدث عن شهداء المعارك الإسلامية مثل موقعة بدر وخلافه، ولكني في الحقيقة كنت أقصد شهداء الحرية الذين ضحوا بحياتهم من أجل الفكر والرأي خلال التاريخ الإسلامي كله. وهذا ما كتبته فعلا.. إنهم شهداء الحرية على مر العصور الإسلامية أولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل الفكر والرأي خلال التاريخ الإسلامي كله.. وهذا ما كتبته فعلا.. إنهم شهداء الحرية على مر العصور الإسلامية أولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل حرية الفكر من أمثال عبد الله بن المقفع وغيره.

وهؤلاء الذين تعرضوا للاضطهاد أيضا تجد في الكتاب فصولا عن التعذيب والمهانة التي يلاقيها المفكر من أجل دفاعه عن الحرية.. لقد كان همي من خلال هذا الكتاب إبراز كفاح هؤلاء المفكرين من أجل إعلاء كلمة الحرية.. الكتاب صدر عام 1984 .. وكنت قد نشرته من قبل مسلسلا في جريدة الاتحاد في دولة أبو ظبي حيث كنت هناك في خلال فترة من فترات حياتي الصحفية.. وتقدر تقول أيضا إن كل مقالاتي التي أكتبها الآن وما زلت في جريدة الوفد التي أرأس تحريرها تعبر عن هذا المفهوم.. وتعتبر تأثرا بتجربة السجن والاعتقال، وهي نوع من الموضوعات التي أكتبها في هذا الإطار المتعلق بالسجن وتأثيره على الحياة الفكرية في مصر الآن وعلى الحريات العامة بشكل مجمل.

تلك القضية التي اكتشفت نفسي موجودا بداخلها بعد تجربة السجن الأخيرة عام 1965.. صحيح في هذه الفترة كنت أعمل صحفيا في أخبار اليوم وكنت مهتما بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية.. ولم أكن أقترب من القضايا السياسية.. ولكنني بعد هذا التاريخ ارتبط وجودي بقضية الحريات وضرورة الكفاح من أجلها.. وهناك كتب أخرى كتبتها تأثرا بهذه التجربة مثل كتاب تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، وهو جولة في تاريخ نظم الحكم السياسي في الإسلام عبر التاريخ.

• نريد أن نعرف من أستاذنا جمال بدوي رأيه في عقوبة السجن أو الاعتقال كوسيلة من وسائل قهر الفكر المعارض؟

- أنا زي ما قلت لك سابقا.. هناك فرق كبير بين السجن والاعتقال في مجال العقوبة.. السجن يصدر به حكم قضائي والمسجون بناء على ذلك له حقوق وعليه واجبات .. والإنسان يدخل السجن إذا ارتكب فعلا يخالف القانون الذي يردعه.. ولا جريمة على عقوبة إلا بنص.. أما الاعتقال فهو إجراء تعسفي تلجأ إليه السلطة من وراء القانون.. ويدخل صاحبه السجن في أي وقت وفي أي لحظة.. وبالتالي ليست له حقوق.. أما قولك بأن السجن يمكن أن يتحول إلى إحدى وسائل قهر الفكر وكبت الحريات.. فردي عليه.. شوف.. أقول لك رغم ذلك.. فإنني لا أدعو أبدا وفقا لحرية الفكر إلى حرية الإلحاد لأن رأيي فيها صريح ولا مناقشة فيه.

أما فيما يتعلق بقضايا الفكر الأخرى.. طبعا السجن لا يمكن أن يكون وسيلة لإسكات صوت الحرية.. وأنني أرفض ذلك تماما.. خاصة في مجال الرأي السياسي.. فإذا كانت الحكومة ديكتاتورية.. حتما سوف تصطدم بصاحب هذا الرأي.. ويكون مصيره كما تقول أنت السجن لتجنب شر فكره وآرائه.. وتشهر في وجهه القانون كسلاح.. مهما كانت التضحيات.. وفي ظل الديمقراطية عادة ما تلجأ الحكومات إلى القانون داخل المحكمة وليس القانون الخاص بها.. بمعنى أنك إذا كنت مخطئا في رأيك من وهو نظر الحكومة تحيلك إلى المحكمة وفقا للقانون من وجهة نظرها.. وربما يكون للمحكمة وجهة نظر أخرى.

أيضا بالقانون.. فترى مثلا أنك غير مذنب.. وبالتالي فلا تدخل السجن.. وهذا فرق كبير بين الحالتين.. ولكي نتم مشوارنا الديمقراطي علينا ونحن نضع الدستور أن ننتبه إلى تنقية مثل هذه القوانين حتى نضمن حرية الرأي وحرية الفكر.. وتأتي النصوص مسايرة للضمانات مثلما يحدث في أوربا مثلا.. وأعيد وأكرر عليك أن قهر الفكر والضيق من الحرية يتم بصورة كبيرة في ظل الحاكم الديكتاتور الذي تضايقه مثلا أن تختلف معه.. وفي ظل الأنظمة الديمقراطية تختفي صور القهر الفكري.. كلما كان هناك استقرار في الحكم.. وهذه نتيجة حتمية لهذا النوع من الحكم.. حيث يوجد احترام للحريات والحقوق.

ودعني أسألك هل سمعت في يوم من الأيام أن في بريطانيا انقلابا عسكريا؟ طبعا لن يحدث ذلك.. لأنك سوف تفاجأ بالشعب يخرج ويقذف الدبابات بالبيض ويتنصل من هذا الانقلاب ويقاومه.

• هل تعرف الأستاذ جمال بدوي خلال رحلته داخل المعتقل على شخصيات معينة.. أثرت في فكره؟ وما زال على علاقة بها حتى بعد خروجه؟

- آه طبعا.. لقد ذكرت لك أنني تعرفت على أخي وصديقي الأستاذ مدحت أبو الفضل.. وهو الآن محام كبير.. وكان قد مكث بدولة الكويت سنوات طويلة.. ثم عاد غلى القاهرة.. ومنذ ثلاث سنوات تجددت بيننا الصلات والعلاقات.. ومن هؤلاء كذلك الدكتور توفيق الشاوي كمحاضر وأفكاره عن الحرية والديمقراطية قد أحدثت ثقبا في عقلي أخذ يتسع مع الأيام فيما يتعلق بإيماني بما سمعت منه في المعتقل عن الديمقراطية وعظمتها وأهميتها في حياة الشعوب.. ومن غير المفكرين قد تأثرت بالعديد من الذين قابلتهم داخل السجن.. ولي معهم حكايات ومواقف جمعتنا داخل الجدران السوداء منها الطريفة ومنها الحزينة.. وعلى ما أذكر أنه كان لي أحد الأصدقاء الذين كنا أرأسهم داخل المجموعة.. وحكم عليه بالسجن عشر سنوات مع التنفيذ وظلت علاقتي به طيبة داخل الجدران السوداء.. وبعد أن أفرج عني وخرجت وتركته حيث قضى بعد خروجي أكثر من ثماني سنوات.

المهم حين علمت بخروجه.. كنت في غاية الشوق لرؤيته وظللت أبحث عن عنوانه .. حتى عثرت عليه.. وعرفت أنه يعمل موظفا في إحدى محافظات الدلتا.. وعقدت العزم على البحث عنه ولقائه بعد هذه الفترة الطويلة التي استمرت أكثر من عشرين عاما.. وفعلا نجحت في الوصول إليه.. ولكنه للأسف اختفى مني ورفض أن يقابلني ولا أعرف حتى هذه اللحظة السبب .. المهم بعدها عرف أخوه بهذه الحكاية وجاء كي يعتذر معللا السبب بأنه الخوف وأشياء أخرى. لحظتها أصابني الحزن.. لأنني بالفعل كنت أحب هذا الرجل وأود أن نتقابل من جديد.. وأقدم له أية خدمة.. لقد كنا أكثر من أخوين حيث كنا زملاء في المدرسة حتى قبل تجربة المعتقل.. ومن المواقف الأخرى التي صادفتني وزملائي في السجن الحربي.. أنه كان معنا أحد الطلبة الذي أصبح الآن من علماء الدين الإسلامي المعدودين وهو الدكتور عبد الودود شلبي الأمين العام لمجمع البحوث لإسلامية.

المهم ونحن داخل السجن.. لم يتمكن أحد الضباط من نطق اسمه كما يجب فناداه بقوله: عبد الود..ود.. فاستغرقنا في الضحك أوقاتا طويلة.. وكانت النتيجة أننا قد جلدنا جميعا عقابا على الضحك.. ويومها عذبونا أيضا.. لقد كنا نضحك على جهل هذا الضابط.. وأذكر موقفا آخر..رغم أنه كان محزنا ومؤلما في نفس الوقت.. ولكنني سوف أحكيه لك.. على ما أذكر وكنا أيضا في السجن الحربي.. وكان من أشق الأمور بداخله دورة المياه.. هذا السجن في الأصل كان به 245 زنزانة.. وكانت لا توجد به مياه كافية.. وهدد المعتقلين به أكثر من 5 آلاف شخص.. وتصور كيف يقضي هؤلاء حاجتهم وسط ندرة المياه.. وندرة المكان أيضا.. أضف إلى ذلك كنت وقتها محروما من النوم .. فقد كانوا يضعون في كل زنزانة لمبة قوتها أكثر من 10 آلاف وات.

ثم أنك مجبرا على عدم النوم لأنه من المحتمل أن تسمع اسمك في أية لحظة.. المهم نرجع إلى قصة أحد زملائي داخل المعتقل.. هذا الرجل تحامل على نفسه وغامر بدخول دورة الميه في آخر لحظة وقبل طابور التمام كما كانوا يقولون بلغة المعتقل.. وانتهزها فرصة وأخذ حماما بالماء والصابون.. فبعد أن نادى الضابط على كل المسجونين الذين أعلنوا وجودهم بالطابور.. جاء ذكر اسم هذا الرجل المسكين.. ولما لم يجدوه.. بحثوا عنه أولا في دورة المياه.. ووجدوه بداخلها.. فأخرجوه عاريا والصابون على وجهه وجسده.. ولا تتخيل ما حدث له وهو على هذه الحالة لقد أخذوا يضربونه بكل أنواع العصي والكرباج حتى فقد الوعي ووقع على الأرض وهو ينزف دما مخلوطا بالصابون.

• يمكن أن نخرج من هذا السؤال .. غلى سؤال آخر ربما يرتبط به من قريب أو بعيد.. وهو : نريد من أستاذنا جمال بدوي تقييما لموقف كل من عبد الناصر والسادات من قضية الفكر والمفكرين؟

- شوف هذه القضية يجيب عنها الواقع.. وهذا التقييم تحدده لنا الظروف والملابسات التي صاحبت الأحداث التي جرت في كل من العصرين فمثلا.. إذا كانت السجون والمعتقلات عقوبة المفكرين في عهد عبد الناصر يصبح هذا العهد متسما بالظلم ولابد أن يدمغ.. أما إذا جاء عصر سمح فيه للمفكرين بالقول والفعل والاختلاف.. بقدر كبير من الحرية.. فلابد أن نشيد بهذا وهذه بالطبع إحدى سمات عصر السادات.. ولكن حين يأتي الرئيس السادات بعد ذلك ويزج بالمفكرين داخل السجون والمعتقلات فلابد أن ندين هذا الفعل ونرفضه.. إذن المسألة في رأيي ليست مسألة أشخاص.. وإنما المسألة متعلقة أولا وأخيرا بالمواقف.. بمعنى أنه إذا أتيحت هذه القدرة وتمكن الناس من التعبير في حرية وبعيدا عن الخوف.. نرحب بذلك ونسعد، ولما تم التضييق على الناس في حياتهم وحرياتهم.. أصابنا الحزب والخوف على المصير.. لأن المفكرين هم حملة المشاعل الذين يضيئون الطريق نحو عالم أفضل.. فكلما أتيحت لهم فرص التعبير كلما واصلوا المسير .. والعكس هو الصحيح.

• ما رأيكم في سجون مصر الآن.. وهل هي بوضعها الحالي تواكب تطور عصر الجريمة؟

والله أنا لا أعرف.. لأن صلتي قد انقطعت بها منذ فترة طويلة ولكنني أسمع أنها سيئة جدا ولا تساعد على إصلاح أحوال المسجونين .. بل ربما تفسدهم أكثر.. ومما أكد لدينا هذا الإحساس مشاهدتي لأحد الأفلام الروائية الحديثة.. الذي عبر تعبيرا صادقا عن أحوال السجن في مصر.. ولما سألت عن حقيقة ما رايته، أكد لي البعض أن الصورة في الحقيقة أسوأ مما رأيته.. واسمح لي أن أقول لك لا أستطيع رغم ذلك أن أعطيك صورة صادقة ورأيا قاطعا إلا إذا شاهدت ذلك بنفسي.

• طيب.. ولماذا وأنت صحفي كبير.. لم تفكر في زيارة سجون مصر لتأكيد معرفتك بأحواله؟

- حرام عليك.. دا شيء كريه.. وأنا أذكر أنني في يوم من الأيام اضطررت أن أمر أمام السجن الحربي في مدينة نصر.. حتى بعد هدمه.. وشعرت بخوف وضيق وألم شديد.. وعلى الفور أسرعت من المكان.. ومرة أخرى دعوني لزيارة المتحف الحربي بالقلعة الذي أقيم مكان السجن.. ولحسن الحظ أو لسوئه الله يعلم.. تركوا زنزانتين على ما هما عليه.. هي الزنزانة الأولى والثانية.. وكنت في أيام المعتقل مسجونا في الزنزانة الثانية.. ولا تتصور حالتي النفسية.. فقد شعرت بانقباض شديد وألم نفسي.. وقد تحاملت.. حتى انتهت الزيارة غلى غير رجعة.. فلا أستطيع أن أقول لك إنني من الممكن أن أزور السجون الآن أو حتى أتب عنها.

وهنا تصور آخر لي في هذه النقطة.. إنني لا أكتب عن السجون ولكني أكتب عن الحريات حتى لا نفقدها مرة أخرى.. وندخل على إثر فقدها السجن، وأحب أن أؤكد لك أن السجن ليس شرا كله.. وإنما لابد منه كوسيلة عقابية، ولكنك تقدر تقول لابد من نظرة من أجل تطويره.. بعيدا عما كنا نسمع عنه مثلما يحدث في سجون أوربا.. والتي وكما يقولون تقارب في شكلها وفي خدماتها فنادق درجة ثانية.. وإلا تحولت بذلك السجون عن رسالتها.. وفقدت قوتها كوسيلة ردع للمجرمين .. ولا مانع مع ذلك من مراعاة الحالة النفسية والإنسانية للمسجون.

وهنا لابد أن نفرق بين سجن المفكر وسجن المجرم.. فلا يتصور أحد مثلا أن نضع المفكرين مع غيرهم من القتلة والقوادين في سجن واحد.. أيضا لأن المفكر لم يرتكب جريمة ولم يعاقبه القانون.. إذن لابد من وجود أماكن خاصة يحجز بها المفكر المعارض أو المختلف مع الحكومة أو السلطة.. وألا يزج به مع الحرامية والنشالين .. إن ذلك في رأيي جريمة أخرى في حق الحكومة.. لأن من الواجب علينا صيانة حقوق المفكر وصيانة كرامته.. حتى داخل السجن.

• لو كان الأستاذ جمال بدوي مأمورا للسجن.. في فترة اعتقال مفكرين.. ماذا كان يفعل؟

- يعني كنت أحول هذا المعتقل إلى منتدى.. وأحاول الاستفادة من هؤلاء المفكرين في إصلاح وتهذيب إخوانهم من المسجونين الآخرين وتثقيفهم.. بعيدا عن شبح التعذيب الذي أعتبره مرفوضا تماما ولا اقبله على المستويين .. مستوى السجين المفكر والسجين العادي.. وحتى إذا طلبوا مني القيام بهذه المهمة وفقا للوائح والقوانين.. أرفض ذلك.. أو على الأقل أستقيل.. أو أطلب نقلي إلى مكان آخر.

• وماذا تفعلون لو كنتم رئيسا للحكومة.. أو وزيرا للداخلية وعرض عليكم كشف بأسماء مفكرين مطلوب اعتقالهم؟

- لا .. شوف أقول لك حاجة.. أولا أنا لا أقبل مطلقا تقييد حرية أي إنسان.. سواء مفكر أو غير مفكر.. فما بالك بالمفكر.. خاصة السياسي منهم.. أرفض على الفور التوقيع على هذا الكشف.. أما بخصوص مسألة الإلحاد فإن موقفي معروف ولا حياد عنه.. لإيماني أن خلاف المفكرين مع السلطة.. لا يعطي لهم الحق في أمر اعتقالهم.. بل بالعكس أطلب مقابلتهم ومناقشتهم ولا ألجأ مطلقا إلى الاعتقال لأنني أعتبر من يلجأ إليه كوسيلة إنما هو في موقف الضعيف.. والحكومة التي تلجأ لمثل هذا الإجراء هي بالتالي حكومة ضعيفة ويبرر ضعفها من فشلها في الاقتراب من هؤلاء المفكرين والتعامل معهم الفكر بالفكر.

لكن عايز أقول لك حاجة مهمة جدا إن الفكر إذا اختلط بالسلاح فلابد وأن أوافق فورا على أمر الاعتقال بمعنى أنني إذا وجدت المفكر يلجأ إلى غير القلم من أجل تحقيق رأيه وأفكاره فلابد من القضاء عليه في حينه.. لأن ذلك يسمى إرهابا.. وأنا أشك أن المفكر الحقيقي يلجأ إلى العنف من أجل أن يقول رأيه وينشر فكره.. إن المفكر له مطلق الحرية في أن يقول ما يشاء دون أم يقترب من منطقة العنف. بل أكثر من ذلك أن إيماني بلا حدود في دور المفكرين في إبعاد الناس عن التعصب والعنف.. وليس أمامي من وسيلة لعلاج هذا الإرهاب الفكري.. إلا بالقانون.. حينما يقترن بالعنف.


الحكاية التاسعة: مختار السويفي

الحكاية التاسعة.. يرويها مختار السويفي

بسبب لم أعرفه دخلت السجن مظلوما

.. وتحدد اللقاء .. ومن بعده كان لابد من الذهاب غلى حيث حدد لنا الكاتب والمفكر والأديب مختار السويفي.. المكان الذي سوف نتقابل فيه.. وخلال جولة داخل شوارع القاهرة استغرقت نصف ساعة.. كنت هناك أقف أمام إحدى ناطحات السحاب المصرية.. أو ما يحلو لنا أن نطلق عليها عمارات الأبراج.. وطبقا للمعلومات التي دونتها في ورقة صغيرة كانت هي كل ما أحمله.. مع جهاز التسجيل وكشف بأسئلة الحوار.. وقفت أمام مكتب الاستعلامات داخل العمارة المدونة بالعنوان، والذي أكد لي أن الكاتب الكبير موجود بالفعل هنا.. ولكن في الدور الثامن والعشرين.. والمطلوب مني أن أستخدم الأسانسير الذي سوف ينقلنا من الأرض إلى السماء.. وقد كان.. ولن أصف بعد ذلك الإحساس الذي انتابني كلما اقتربت من شقة مختار السويفي.. بطبيعة الحال لم يكن السبب فيما أحسست به هو الرجل في حد ذاته أو شقته العامرة.. وإنما وسيلة المواصلات الفوقية التي نقلتني عبر ثمانية وعشرين دورا.. لقد مكثت أكثر من دقيقة داخل صندوق أنيق.. لا تسمع فيه إلا صوت الهواء الذي يصطدم مع الآلة الرافعة لذلك الصندوق العجيب. وقد تكررت نفس الرحلة بنفس الأحاسيس حين العودة.. لأننا بعد إتمام هذا اللقاء بسلام أخذني الكاتب الكبير في جولة سريعة داخل الشقة، فرأيت القاهرة الساحرة تنام في أحضان أضواء الكهرباء الجميلة. لقد نقلتني شرفة المنزل إلى مسافات عشرات الكيلو مترات.. ولولا زيادة كمية الضباب التي كانت عالقة بالجو آنذاك لرأيت كل معالم القاهرة.. الأهرامات والقلعة.. وبرج القاهرة وكل شيء بدون مجهود عضلي أو بصري.

وبعد هذه المقدمة التي رأيت أنها ربما تكون مدخلا طيبا لتخفيف وقع كلمات الحوار عليكم وعلينا.. رأيت أن أحدثكم عن شيء آخر أهم مما ذكرته آنفا.. وهو أنني قد اكتشفت أن هذا أول حوار أجريه عن هذه التجربة .. يتسم بالضحك والسخرية..

لقد اكتشفت أيضا أن الكاتب والمفكر مختار السويفي.. يتمتع بروح دعابة من النوع النادر.. هذه الروح هي التي مكنته من تحويل هذه المصيبة التي آتته ليلا إلى مسرحية هزلية أخذ يضحك منها وعليها.. وتراه كلما حكاها لغيره يستغرق في الضحك.. وحتما لابد وأن تشاركه هذه السخرية من خلال ما يحكيه لك من مواقف تتسم بالعبثية المطلقة.. ولن أغالي حين أقول أنني وطوال الخمسة والأربعين دقيقة التي قضيتها مع الأستاذ مختار السويفي أقول له السؤال وهو يجيب عليه.. ضحكت وكأنما لم أضحك من قبل.. وربما كانت هذه هي المرة الأولى منذ إجراء هذه السلسة الطويلة من الحوارات التي أشعر فيها بسرور وسعادة مصدرها الأساسي كان الشعور المتبادل بيننا والذي كان أساسه الحب والضحك.. ولو كانت الكلمات تسمع قبل أن تقرأ .. لدونت لكم هذه الضحكات عبر هذه الأوراق.. وهو ما سجله بالضبط شريط التسجيل الذي صاحبني في هذه الرحلة، على ارتفاع أكثر من مائة متر عن سطح الأرض.

ولسوف تشعر أنت أيضا عزيزي القارئ بهذه السخرية الممزوجة بالمرارة، حين تقرأ كلمات هذا الحوار.. والسبب يرجع إلى أنها تجربة خاضها مفكر كبير وعالم من علماء الآثار المصرية.. ووكيل وزارة للنقل البحري.. وأيضا كاتب ومؤلف لأكثر من خمسين كتابا في مختلف فنون المعرفة.. أضف إلى ذلك أنه كاتب صحفي وساخر عظيم.. أما الشيء الأكثر أهمية والذي نتج عنه القدر الكبير من الضحك والسخرية.. فهو أن صاحب هذه التجربة.. قد زجوا به خلف الجدران السوداء بلا تهمة ولا ذنب ارتكبه.. وإنما بسبب وشاية من آخرين.. هذه التهمة لم يقتنع بها حتى رجال الأمن الذين قدموا إليه مع ساعات الفجر الأولى.. ولم يجدوا في مكتبه سوى كتب تتغني بحب مصر وآثارها وآدابها وفنونها.. ومؤلفات كثيرة كتبها في التخصص الذي اشتهر به في مجال النقل البحري..

ولعلك حين تسمع صوت هذا المفكر والأديب وهو يحكي لك كيف جاءوه فجرا ودخلوا عليه إلى حجرة مكتبه، وهو لم ينم بعد، حيث كان منهمكا في إنجاز تقرير تفصيلي مطلوب على وجه السرعة، يتناول المشاكل والمعوقات وطرق إزالتها أو معالجتها حتى يتم نقل كميات المواد التموينية الضخمة التي تستوردها البلاد في مواعيد مناسبة وبإجراءات سلسلة وطرق صحية.. لا تملك إلا أن تتعجب على هذه الأوضاع التي كثيرا ما تثير السخرية والحزن وأيضا الاستغراق في الضحك.

حتى وهو رهين القيد الحديدي الذي وضعوه في معصمه خوفا من الهرب -على حد قولهم – لم يفقد الابتسامة التي عبر من خلالها عن هذه المسرحية الهزلية التي تمت وما زالت فصولها باقية.. لأن عليه أن يقضي عقوبة لجريمة لم يرتكبها ولم يعرف أبعادها بعد.. وهو يقول إن أول إشارة التقطها عقله وعرف من ذبذباتها أن التهمة ربما تكون بسبب الفكر والأدب والثقافة.. كانت حين عثروا على أربعة كتب، منها رواية الأم لمكسيم جوركي ومجموعة قصصية لأنطون تشيخوف.

وقد استكمل صورة ما دار في ذهنه حين زجوا به مع " الرفقاء" – وهي كلمة جمع.. مفردها " رفيق"- من أعضاء الحزب الشيوعي وبعض اليساريين المصريين . لقد تحول الكاتب والمفكر والإنسان مختار السويفي في لحظة واحدة- ودون أن يدري- إلى معارض شيوعي أو يساري مع أنه – وكما أكد لي وأكد لهم- لا يحب السياسة.. بل يكرهها كثيرا.. ولم يحد في حياته عن طريق الديمقراطية. ولكن على حد قوله: لا تجد من يسمع إلا بعد ثلاثين يوما.. حين تقدم على كتابة تظلم أمام قاض مدني.. والذي له الحق في الأخذ بما تروي ومن ثم يفرج عنك.

والأمر لم يكن بهذه السهولة .. كما يروي.ز أو كما أكتب.ز لقد وصل إلى سجن طره في الصباح المبكر.. ودون كلمة واحدة، وبعدما أخذوا منه كل متعلقاته .. رموه في زنزانة انفرادية لمدة ثلاثة أيام.

إنها بحق رحلة داخل عقل وقلب أحد فرسان الكلمة السوية الذين ما زالوا في عطاء دائم ولن ينقطع أبدا.. هذا العطاء المستمر لم يؤثر فيه مثل هذه الحادثة المنفردة التي جعلته يقضي أكثر من خمسة وأربعين يوما داخل جدران السجن .. وله ولنا مع هذه الأيام ذكريات نعرفها من خلال متابعة " متأنية " لتفاصيل هذا الحوار.

• كم مرة دخل فيها الأستاذ الكاتب الكبير والمفكر المصري المعاصر مختار السويفي السجن؟

- أنا الحمد لله لم أدخل السجن سوى مرة واحدة . وهي المرة التي سوف أحكي لك عنها وأرجو - وبل وأتمنى- أن تكون المرة الأولى والأخيرة.. وظروف هذه المرة .. أو تقدر تقول سببها أنني كنت قد نشرت كان مقالة في جريدتي الجمهورية والأهرام ما بين سنة 1974 وأواخر 1976..

• اسمح لي أن اقطع حوار هذه النقطة .. واسأل .. في سنة كان دخلت السجن؟

- في عام 1977.. في أعقاب الحركة التي تمت في مصر أيام 18 و19 يناير والتي أطلق عليها الرئيس السادات " انتفاضة" الحرامية..

وحين نعود لحديث الأسباب.. أقول لك إنني كنت قد نشرت عدة مقالات في جريدتي الجمهورية والأهرام.. وكنت وقتها أعمل " مدير عام" في قطاع النقل البحري، وكان الرئيس السادات قد أصدر ورقة أكتوبر التي كانت مقدمة لقرارات الانفتاح الاقتصادي.. وقد لاحظت من خلال متابعة خاصة أن هناك شبه هجم على قطاع النقل البحري الذي كنت أنتمي إليه.. هذا القطاع به العديد من التخصصات والأنشطة المتعددة.. ومع ذلك لاحظت وجود نوع من التركيز الهجومي على تخصص واحد فقط وهو " التوكيلات البحرية".. حيث اتضح أن غالبية الذين بدأوا في الأخذ بسياسة الانفتاح يركزون جهودهم على هذا الجانب دون جوانب النقل البحري الأخرى.. وطبعا السبب في ذلك أن هذا القطاع من أكسب وأربح قطاعات النقل البحري.. أضف إلى ذلك أنع قطاع لا يحتاج إلى جهد أو فن أو علم .. الحكاية مجرد دكانة أو مكان صغير حتى ولو صرف عليه نصف مليون جنيه.. واستطاع صاحب هذا المحل أن يحصل على توكيل ملاحي.. من المؤكد أنه سوف يعوض هذا النصف مليون في الأسبوع الأول.

إذن فيما يخص هذا القطاع لم تكن العملية مقصودا بها الانفتاح من أجل مساعدتنا.. ولكن من أجل نهب أموالنا.. وكان هذا هو موضوع مقالاتي التي كتبتها أولا في جريدة الأهرام.. وتساءلت من خلالها: لماذا التركيز على جانب التوكيلات الملاحية دون النظر إلى قطاعات النقل البحري الأخرى؟ وقد بلغ عدد هذه المقالات اثنتي عشرة مقالة.. ثماني مقالات بالجمهورية وأربع بالأهرام.. وكلها تناولت هذا الجانب وما يتفرع عنه من موضوعات أخرى.. أول مقالة نشرت في هذا الموضوع كانت في منتصف عام 1974 وآخرها في أواخر عام 1976.

ودعني أقول لك قبل الانتقال إلى سؤال آخر.. عن فحوى هذه المقالات لأنه رغم أنها كانت تتناول هذا الجانب من موضوع النقل البحري إلا أنها تناولته من مختلف الجوانب. فمثلا بعض هذه المقالات كان اقتصاديا صرفا.. يعني أقول فيه على سبيل المثال شروط الاستثمار في النقل البحري.. وطالبت في إحدى هذه المقالات بأنه إذا كان ولابد من تأثر النقل البحري بسياسة الانفتاح فلماذا لا يأتون إلينا بسفن جديدة ترفع أعلام مصر.. أو ناقلات بترول.. أو إنشاء موانئ جديدة حتى ولو كانت قطاعا خاصا.. أو يدعموا الأرصفة البحرية الموجودة، إلى آخره.. بجانب ذلك كانت هناك بعض المقالات نشرتها بمساعدة الكاتب الكبير محسن محمد الذي كان يرحب بهذه النوعية رغم خوفي شخصيا وخشيتي من رفضه لها.

ومن هذه النوعية ما كتبته عن أحد المستثمرين في مجال قطاع النقل البحري.. هذا المستثمر الذي ظهر فجأة على الساحة الاقتصادية المصرية.. حيث ادعى أنه مهندس وأطلق على نفسه كبير المستثمرين العرب إنه شيء وهمي من هذا القبيل. وهذا الرجل استطاع في سنوات قليلة أن يجمع ملايين الدولارات من المصريين في الدول العربية وجاء إلى مصر وافتتح شركة للملاحة البحرية.. وقد لاحظت أنه رغم ما يبدو على نشاطه من مشروعية، إلا أنني اكتشفت فيما بعد أن هذا المستثمر قد جاء من أجل تخريب الاقتصاد القومي مستغلا سياسة الانفتاح هذه ، وقد اتضح هذا الاتجاه حين لاحظت إنه كان يلجـأ إلى توظيف أبناء بعض المسئولين بالدولة من أجل التغطية عن أعماله غير المشروعة.. وطبعا الحكاية كانت معروفة.. فقد جمع هذا الرجل كل هذه الملايين وانطلق بها هاربا خارج مصر، وبذلك اتضحت صحة شكوكي التي كتبتها قبل هروبه بعدة سنوات.

والملحوظة التي تستطيع أن تصل إليها في نهاية الأمر أن كل هذه المقالات التي سجنت بسببها كانت مقالات في موضوعات بعيدة عن السياسة.. ولم تخرج عن خط نقد بعض السياسات الخاطئة في مجال النقل البحري ولعلك تندهش إذا ما عرفت أن هذه المقالات قد تركت أثرا طيبا على مستوى المهتمين بالنقل البحري كله.. بل وعلى مستوى بعض الاقتصاديين المهتمين بهذا القطاع..

ولم يدر في ذهني أبدا.. أنني يمكن أن أدخل السجن بسبب هذه المقالات التي لم تكن تهدف سوى الصالح العام. ولعلني أذكر لك أن هناك – بجانب هذه المقالات- أسبابا أخرى تأتي في المقام الثاني.. وهي موقفي من المرحون عصمت السادات وأخيه الذي أراد أن يدخل مجال النقل البحري.. ولولا وقوفي في هذا المجال لكان هو الآخر قد استطاع أن يجمع الملايين من قطاع التوكيلات البحرية.. ورغم أنني لا أجزم بوقوف عصمت السادات بشكل مباشر ضدي في هذه القضية إلا أنني استنتجت ذلك.. والسبب ربما يرجع إلى أن هذه المقابلة وقعت عام 1976 – ربما في سبتمبر أو نوفمبر من عام 1976 – وقبل وقوع هذه الأحداث بشهرين أو ثلاثة.

• ليسمح لنا الكاتب والمفكر أن يحكي لنا عن ظروف اعتقاله؟

- هو أنا كان يوم الجمعة الساعة الثانية والنصف صباح يوم 22 يناير عام 1977.. وأثناء وقوع الأحداث التي سبق وحكيت لك عنها وهي أحداث 18 و19 يناير وعلى ما أذكر أنه قد صاحب وقوع الانتفاضة منع التجول.. ومع ذلك لاحظت وأنا كنت ساكن وقتها بحي غمرة الذي يطل على شارع رمسيس .. وكنت وأنا سهران أسمع الناس تهتف في الشوارع رغم سريات هذا الحظر. ورغم أنني كنت أسكن بالدور السادس. وعلى فكرة أنا لا أنام بالليل كثيرا لأني أعشق الليل وأعشق العمل في هدوئه.. وقتها على ما أذكر كنت مشغولا للغاية في حل مشكلة بالنقل البحري.. وكنت وقتها أقلب في أوراقي الخاصة من أجل البحث عن حل.. وكان معي وقتذاك ملف هذه المشكلة كي أدرسه بعناية.. وكنت قد بدأت ساعتها كتابة التقرير المفروض أن أقدمه وفيه الحل الذي نبحث عنه.. وفجأة دق جرس باب شقتي.. وقد أصابتني الدهشة من طريقة الطرق على الباب لأنها كانت طريقة استفزازية .. وأقسم لك بالله أنني حتى تلك اللحظة لم أكن أتخيل أنهم قوة من رجال البوليس.. وكل ما تصورته أنهم مجموعة المشاغبين الذين كنت أسمع أصواتهم منذ دقائق في قلب الشارع لذلك أصابني القلق واتخذت وضع الاستعداد.. وقمت من فوري كي أتأكد مما تصورته.. فنظرت من العين السحرية الموجودة بالباب.. فوجئت برؤية عدة أنفار ومخبرين ومعهم اثنان من أمناء الشرطة وقائد من رجال البوليس بالزى المدني.. قمت بفتح الباب .. وعلى الفور سألوني.. أنت مختار السويفي؟

وقبل أن أجيبهم انطلقوا داخل الشقة وقاموا بحملة تفتيش واسعة، خاصة في المكتبة. وبعد أكثر من ربع ساعة رأيتهم وقد عثروا على بعض الكتب وأخذوها إلى جنب .. منها كتب أدبية لمجموعة من الأدباء الروس ويحضرني هنا أن أروي لك أنني قد عزمت على هؤلاء الضيوف أن أقدم لهم أي تحية حتى ولو كوب شاي.. فرفضوا وخاصة ضابط البوليس. ولكن منظر المخبرين والإرهاق في وجوههم جعلني أقدم لهم الشاي.. وسرعان ما استجاب الضابط هو الآخر حين عرضت عليه أن يشاركني في كوب الشاي.. بعد التفتيش عثروا كذلك في درج مكتبي على مبلغ ألف دولار وألف جنيه وتذكرة سفر.. ومنذ هذه اللحظة التي أخذوا فيها هذه النوعية من الكتب أحسست بما هو قادم.. إنني أصبحت الآن محسوبا على التيار الشيعي وإلا لماذا لم يأخذوا مثلا دائرة المعارف البريطانية أو كتبا أخرى من هذا القبيل.. ورغم ذلك كنت شديد الاطمئنان لأنني كنت قد اشتريت هذه الكتب من المكتبات العامة.. ولا ضرر من الاحتفاظ بها..

المهم .. أعود كي أحكي لك قصة الألف دولار التي عثروا عليها وهي خاصة بسفري إلى دولة سنغافورة .. لقد لاحظت أنهم أخذوا هذه الأموال.. وقد اعترضت بشدة، ولكن الضابط الذي تحول بعد لحظات إلى إنسان مصري لطيف طمأنني بأن كل شيء محفوظ.. وبالتالي وضعهم بجانب الكتب.. والألف دولار هذه لا تتصور قيمتها على نفسي كبيرة، فقد حصلت عليها من مكتب الأمم المتحدة كي اصرف منها خلال رحلتي إلى سنغافورة .. حيث اختاروني محاضرا دوليا في شئون النقل البحري ممثلا لمصر ولدول الشرق الأوسط. وكنت سوف أسافر بعد هذا الحادث المشئوم بأيام إلى سنغافورة كي التحق بدورة تدريبية لإعداد محاضرين في اقتصاديات النقل البحري للدول النامية.

ولكن للأسف لم يتحقق هذا الحلم.. وأقول للسف لأنني بعد نجاحي في الحصول على هذه المنحة الدولية ممثلا لمصر وممثلا للشرق الأوسط، لم أتمكن بسبب حادث السجن من تحقيق ههذ الرغبة. وأنا أذكر أن هذه الدورة كان من المفروض أن تبدأ من 6 فبراير عام 1977 وتستمر لمدة ستة أشهر. وبعد تفتيش الشقة.. طلب مني الضابط أن يحبني معه من أجل استكمال بعض الإجراءات على حد قوله وحتى هذه اللحظة لم أكن أتصور أن المسألة يمكن أن تكون عقوبة أو اعتقالا لأنني – وكما ذكرت لك- لم أرتكب ذنبا أعاقب عليه. وقد كرر الضابط على مسامعي أن المسألة مجرد شكليات وربما تستغرق ساعة واحدة، وبعدها تعود إلى المنزل، وقد وافقته على ما طلب مني.. وقد حدث أيضا شيء غريب في هذه اللحظة ويثير السخرية والضحك في آن واحد.. فعندما خرجت من غرفة المكتب من أجل تغيير ملابسي استعدادا للرحيل.. فوجئت باثنين من أمناء الشرطة يقفان على باب حجرة النوم التي أغير فيها ملابسي وطبعا خوفا من الهرب أو أنني قد أقفز من الشباك أو شيء من هذا القبيل.

وبعد أن ارتديت ملابسي.. أشار علي الضابط بهدوء أن آخذ بعض احتياجاتي الشخصية في شنطة صغيرة.. وعلى الفور بادرته بالقول: إذن المسألة حطول.. فردد نفس كلماته الأولى بأنها مجرد شكليات المهم أخذت الشنطة التي أشار علي بها.. وقبل أن نغادر الشقة استفسرت منه: هل لديه إذن من النيابة؟ .. وكان يحمل بالفعل هذا الإذن المدون فيه بعض المعلومات العامة. وليس فيه اسمي بالتحديد.. ونزلنا من الشقة وركبت معه في سيارته الملاكي الخاصة به. وانطلقنا نسير طوال الليل حتى سجن مزرعة طره.. حيث فوجئت بأن السيارة لم تذهب بنا إلى مكتب المباحث كما وعدني.. بل ظلت تسير بمحازاة كورنيش النيل مما زاد جرعة الشك في نفسي.. وأرد أن أتأكد فسألته للمرة الأخيرة .

ما هي الحكاية؟

وأين نحن ذاهبون؟ .. فرد على بنفس طريقته الهادئة : المسألة إن اسمك جاء في كشف المطلوب اعتقالهم.. وأنا من ناحيتي ..- والكلام ما يزال للضابط- أعرف أنك مظلوم.. وربما ما جعله يقول ذلك أنه حين جاء في الفجر فوجئ بي أكتب المذكرة التي حكيت له عنها، وكانت نحو عشرين صفحة كان يظنها في بداية الأمر منشورات وقد أكد هذا المفهوم بداخله أنني أيضا طلبت منه توصيل هذه المذكرات إلى مكتبي في النقل البحري لأهميتها بشديدة في العمل .. وللحق فقد قام بتوصيلها بكل أمانة.

المهم الآن ونحن على أبواب سجن طره.. شد هذا الضابط على يدي بقوة.. واعتذر لي باعتبار أن هذه المهمة من واجبه المكلف به. وقد ترك هذا السلوك في نفسي أثرا طيبا.. في وقت حدوث هذه المصيبة التي لم أكن أتوقعها.

وبعد دخولي إلى المعتقل.. وبعد حملة تفتيش واسعة لملابسي وملابس غيري من المعتقلين الآخرين الذين قدموا معنا.. وزعوا على الزنازين .. كل واحد في زنزانة انفرادية حقيرة وقذرة.. ولم يكن بها اي شيء يدل على حيتها للإقامة فيها حتى لكلب أجرب.. وظللت بها هكذا لمدة ثلاثة أيام حيث أضافوا لنا في نفس هذه الزنزانة ثلاث مساجين معتقلين مثلي.. ولم تتعد مساحة هذه الزنزانة مترين في متر فكيف نستطيع أن ننام بداخلها.. بل أكثر من ذلك وبعد ثلاثة أيام أخرى أضافوا لنا معتقلين جددا فأصبحنا خمسة أفراد في المساحة الضيقة.

ودعني أقول لك شيئا هاما جدا لحظة وجودي منفردا داخل هذه الزنزانة القذرة.. هو أن الثانية والدقيقة كانت شيئا ولا الدهر.

ولك أن تتصور أنني بعد قضاء أسبوع في هذا الحيز الغريب لم أكن أعرف سبب الاعتقال أو هدفه أو متى سينتهي؟ وكل ما كنت أسمعه من بقية الزملاء الموجودين بالزنازين الأخرى.. أنني اعتقلت بسبب الشيوعية.. وقد عرفني بذلك الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كان مسجونا في الزنزانة المجاورة.

• لو أردنا أن نعرف من الأستاذ مختار.. كم قضى في السجن.. ماذا يقول؟

- أنا قضيت في الاعتقال وفي سجن طره بالضبط 45 يوما.. وهي المدة الشرعية بتاعتهم التي بعدها لابد من الإفراج أو تجديد الاعتقال.. وطبعا يرجع الفضل في ذلك بعد ربنا إلى القضاء المصري المدني العادل.. حيث كانت إدارة السجن تسمح لكل معتقل أن يتظلم إلى محكمة مدنية.. ووفقا لما لدى هذه المحكمة من معلومات يحق لها لأن تفرج عن المسجون أو تجدد حبسه أو اعتقاله . وكان لابد أن يتم النظر في هذا التظلم خلال شهر من الاعتقال.. والشيء الغريب أنك لابد أن تمكث خمسة عشر يوما داخل السجن حتى بعد قرار المحكمة بالإفراج عنك. وهذا بالضبط ما حدث لي..

• يعني نقدر نقول : ما هي أهم الإجراءات التي تم اتخاذها من أجل الإفراج عنك؟

- أعود وأقول لك إن إدارة السجن في كل فترة تمر على الزنازين من أجل تسجيل أسماء المعتقلين الذين يطلبون التقدم بتظلم.. فيأخذون اسمك في كشف كبير ثم يخبرونك فيما بعد بموعد الجلسة. وقد تقدمت بتقييد اسمي بجانب ما قام به بعض المحامين من أصدقائي حيث بلغ عدد هؤلاء المحامين خمسة محامين.

وسبق أن ذكرت لك قصة الثلاثين يوما ثم قصة الخمسة عشر يوما التي يجب أن أقضيها في السجن حتى قرار المحكمة بالإفراج.. والسبب في ذلك إتاحة الفرصة للحاكم العسكري التصديق على الحكم إما بالموافقة على الإفراج أو الإلغاء .. ولك أن تتصور كيف قضيت هذه المدة. لقد عشت أياما مرعبة خاصة آخر يوم.. لقد كنت أتصور – رغم براءتي- أن الحاكم العسكري على قرار الإفراج وخرجت مساء اليوم الخامس والأربعين، ولعلني أسجل هنا بهذه المناسبة تحية خاصة لرجال القضاء المصري العادل الذي تحمل خلال هذه الفترة عبء الإفراج عني وعن غيري من الزملاء المفكرين المعتقلين وعلى ما أذكر أنه في نفس الجلسة قد تم الإفراج عن أكثر من تسعة عشر من غيري من المعتقلين.

• كما عرفنا سبب الاعتقال .. ما هي الأسباب التي استندت إليها المحكمة في قرار الإفراج؟

- والله الأسباب كما ذكرها المحامون المدافعون عني.. هي جهودي في مجال النقل البحري وجهودي الفكرية والأدبية.. بجانب أنني لم أكن منتميا لأي حزب أو جهة سياسية .. ولا تتصور أن هذه الأسباب قد قيلت أمام المحكمة فقط.. بل سبقها تحقيق داخل السجن.. ومن المؤكد أن المحكمة قد استندت إلى هذه الأسباب أيضا. فقد أجرت نيابة أمن الدولة معنا تحقيقا ونحن خلف الجدران.. وقلن فيه إنني جئن هنا على سبيل الخطأ. واكتشفت فيما بعد أنها كانت تحقيقات مبدئية للغاية. ولكنني في أثنائها عرفت التهمة الموجهة لي بالضبط .. لقد كنت متهما بالماركسية وأنني أكتب مقالات تهاجم الانفتاح الاقتصادي وتحمل أفكارا ماركسية.. وأنني كنت أعد خطة للهرب إلى سنغافورة بناء على تذكرة السعر التي ضبطت بدرج مكتبي.. ليس هذا فقط.. بل إنني قد تلقيت دعما ماديا من الخارج بسبب الألف دولار.. وأكثر منذ لك أن الألف جنيه المصرية التي حكيت لك عنها.. كانت مسلسلة الأرقام وكل مائة جنيه منها كانت مدبسة بدبوس.. الأمر الذي جعل جهات المباحث تعتقد- بل تكتب في تقاريرها- أن هذه الأموال كانت معدة للتوزيع ..

أيضا كانت هناك تهمة أخرى وهي أنني ألقيت محاضرة عن الديمقراطية لبعض العمال.. وكانت مفاجأة أيضا فلم يحدث أبدا أن ألقيت أي محاضرة من هذا النوع.. وفي التحقيق اكتشفت ما يمكن أن يضحك عاما كاملا.. فقد كنت أزور الفنان والرسام زهدي أثناء قيامه بإعادة طلاء شقته ، وكان بها آنذاك أحد العمال وزميلة.. وقد اشتركا معنا في مناقشة كانت بيني وبين زهدي وزائر آخر أعرفه.. حيث وجه أحد هذين العاملين سؤالا لي عن مفهوم الديمقراطية باعتبار أنها كلمة يسمعونها كثيرا ولا يعرفون معناها.. وبالتالي أخذت أشرح لهما معناها كما جاءت في اللغة اليونانية.. وتتصور أن الذي أوصل هذه المعلومة إلى رجال المباحث كان أحد هذين العاملين .. وقد وجدتها مدونة أمام المحقق الذي جاء كي يأخذ أقوالي فيما نسب لي.. ليس هذا فقط، بل فوجئت بأن الزائر الآخر الذي كان موجودا معنا في بيت زهدي وهو الصحفي الأستاذ الفنان عبد المنعم القصاص قد جروا رجليه في هذه القضية طبعا بالإضافة إلى الفنان زهدي .. وتعرف التهمة المدونة كانت إيه.. أننا نزود هؤلاء العمال بأفكار هدامة.. تصور، لقد كانت هذه التهم بالنسبة لي تهما بشعة ومرهقة نفسيا.

• وهل نستطيع أن نقول أن نزاهة القضاء المصري هي السبب في خروجك من هذه الورطة إن جاز التعبير؟

- دي فعلا حقيقة .. وكانت فرصة كي أرد على كل ما جاء بتقرير المباحث من اتهامات.. وكانت المحكمة آنذاك واسعة الصدر حيث استمع القاضي إلى كل ما قلته وبأمانة وعلى ما أذكر أن رئيس المحكمة كان هو المستشار الصدفي..

• ما هو تأثير تجربة السجن على الكاتب والإنسان مختار السويفي..؟

- تبدأ هذه التجربة منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها الزنزانة التي حكيت لك عنها.. في فجر يوم ترحيلنا من المنزل إلى سجن طره.. لحظتها فقط شعرت بقيمة الحرية التي وهبها الله للإنسان.. لقد اكتشفت أنها أعظم نعمة من الله، خاصة وأنت سجين زنزانة منفردة.. ومما زاد من آلام النفس قذارة المكان الذي دخلت إليه والذي بات عليك أن تقيم فيه رغما عنك.. ولا أستطيع أن اصف لك مقدار هذه القذارة النابعة من الروائح الكريهة المنبعثة من " جردل البول والبراز" الموجود بجانبي لمدة 24 ساعة.

أضف إلى ذلك شكل الباب الحديدي الكئيب.. وهو باب الزنزانة الذي ينبعث منه صوت مخيف حين إغلاقه. واستمرت هذه الوحدة في الحبس الانفرادي حتى أضيف لنا آخرون كما حيت من قبل.

• وبخصوص ما يتعلق بالورق والقلم.. هل كان يسمح لكم بالحصول عليه؟

- الورق والقلم كان من الأشياء المستحيلة.. لكن الشيء الجديد أنه في الأسبوع الأخير قبل الإفراج .. سمحوا لنا بقراءة الصحف، كما سمحوا لنا بالكتب سواء التي تأتينا من الخارج أو التي نستعيرها من مكتبة السجن.

• وهل تعرضتم لتعذيب؟

- أبدا.. وهذا هو الشيء الغريب الذي حدث في سجون مصر في فترة ما بعد منتصف السبعينات.. وهقولك ليه؟.. لأنه كان في هذه الفترة تجري محاكمة الضباط الذين اتهموا في قضايا تعذيب المعتقلين.. وطبعا كان هذا في تصوري هو السبب الرئيسي.. ولولاه لتعرضنا للتعذيب مثلما تعرض غيرنا من قبل. حتى أثناء إجراء التحقيقات معي داخل السجن.. كانت تتم بعيدا عن شبح التعذيب.. وأكثر من ذلك فقد اتسمت معاملات ضباط السجن آنذاك بشيء من الرحمة والإنسانية.. ويمكن ده كان موضع استغراب .. وربما يكون ذلك راجعا إلى إحساس الضباط أنفسهم بأنني دخلت هنا بقضية فكرية ملفقة.

• كم كتابا ألفتموه خلف الجدران؟ أو حتى ما هي الأفكار التي خرجت بها من هذه التجربة؟

- أنا لم أكتب .. كتبا في السجن.. ولكنني كتبت قصصا قصيرة وهربتها إلى خارج السجن ونشرت في مجلة صباح الخير وأنا مسجون . ومن بعد خروجي جمعت هذه القصص مع ما كتبته من قصص سابقة ونشرتها في كتاب باسم " مساخر من العاصمة والأقاليم" وعلى ما أذكر في هذه الفترة وأنا داخل هذه الجدران السوداء كتبت قصة بعنوان " واحدة أرتيست" .. وكان المرحوم حسن فؤاد رئيسا لتحرير صباح الخير، وكنت وقتها أنشر فيها القصص القصيرة التي أكتبها.. وبعد تهريبها نشرت في العدد الجديد.

وقد نبهني إلى نشرها حكمدار عنبر السجن وهو العقيد محمد صفوت.. وكان من الضباط المصريين المحترمين.. حيث جمعتنا سويا جلسات متعددة عرف من خلالها مشكلتي ووظيفتي.. وربما أقول إننا تحولنا إلى أصدقاء في الفترة التي سبقت خروجي من السجن مباشرة.

• .. وكم كتابا ألفتموه بشكل عام؟

- هم حتى الآن بلغوا 54 كتابا..

• .. وقبل الاعتقال .. كم كان عددهم؟

- مؤلفاتي جميعا قبل دخولي السجن.. كان معظمها في مجال النقل البحري.. وربما أكون المصري الوحيد الذي له مؤلفات بهذه الغزارة في هذا الميدان.. لأن أغلب هذه المؤلفات كانت باللغة الأجنبية.. وكتبها مؤلفون أجانب.. بالإضافة غلى ذلك كانت لي كتب أخرى في الفن والأدب ومسرح العرائس.

وقد تغير مؤشر النوعية بعد خروجي من السجن.. فكتبت أدبا ساخرا ومؤلفات عن آثار مصر وتاريخها القديم.. وما زلت أكتب كتبا عن النقل البحري وآخرها " قاموس مصطلحات النقل البحري والتجارة الخارجية".

• .. ومن هي أهم الشخصيات التي قابلتموها في فترة الاعتقال؟

- طبعا تعرفت على شخصيات كثيرة جدا.. بعضهم من اليساريين.. مثل الشاعر أحمد فؤاد نجم.. ومن غير اليساريين واسمه صلاح القفص.. وهو محام من محافظة الغربية وأيضا كانت تجمعني به علاقة خاصة من واقع دخوله السجن في قضية سياسية ملفقة مثلي تماما.

أيضا تعرفت على الصحفي الأستاذ عبد المنعم القصاص.. زوج الزميلة الأستاذ الصحفية أمينة شفيق، وأيضا العقيد محمد صفوت الذي سبق الحديث عنه.. وكذلك المستشار يوسف دراز الذي حقق معي أثناء اعتقالي في السجن.. وتقدر تقول إن علاقتي بهؤلاء قد قلت كثيرا.. وتتم الآن في صورة ضيقة وبشكل تلعب فيه الصدفة دورها.

• وهل هناك شخصيات أخرى جمعتكم بها قصص وحكايات داخل السجن غير الذين ذكرتهم؟

- طبعا فيه كتير.. ودعني أحكي لك عن بعض الحكايات الطريفة التي حدثت لي داخل السجن.. فقد كانوا يسمحون لنا بفسحة خارج الزنازين من الساعة العاشرة حتى الثانية عشرة ظهرا.. ثم فسحة أخرى من الساعة الثانية حتى الرابعة عصرا وهو موعد التمام وإغلاق الزناين على المساجين. وفي هذه الفسح تعرفت على الكثيرين من اليساريين الشباب المتحذلقين في الاشتراكية قوي قوي.. والذين يتكلمون بلغة " الحنجوري" حسب التعبير الظريف الذي ابتدعه الكاتب الساخر الأستاذ محمود السعدني.

وفي إحدى هذه الفسح تقدم مني أحد هؤلاء الشباب وسألني هامسا: هو حضرتك " طيار" ( هكذا سمعت الكلمة).

فقلت على الفور: لا .. أنا باشتغل في النقل البحري.

قال: أنا عارف.. بس هل صحيح أنت طيار.

قلت: يابنى بأقول لك أنا بشتغل في النقل البحري.. أبقى طيار إزاي..

قال: أنا قصدي هل أنت " تيار ثوري"..؟

قلت: وإيه الثوري ده كمان؟

قال: حضرتك متعرفش تنظيم التيار الثوري؟

قلت: لا والله.. دي أول مرة باسمع أن فيه تنظيم اسمه التيار الثوري؟

وانتهى الحوار عند هذا الحد.. ولكن في اليوم التالي ذكر لي الشاعر أحمد فؤاد نجم أن الشباب بتوع تنظيم (7 يناير) مبسوطين مني ومعجبين بي ويعتبروني قدوة في القيادة التنظيمية، نظرا لأني السكرتير العام للجنة المركزية لتنظيم " التيار الثوري" ومع ذلك فأنا أخفي المنصب التنظيمي الذي اشغله ولا أبوح بسره لأحد.

- يا نهار أسود.. إن ها الإعجاب يوديني في ستين داهية.. وإيه حكاية تنظيم (7 يناير" ده؟ استنكر أحدهم هذا السؤال وقال لي بحدة.

- أنت حتتريق علينا يا رفيق..؟

أجبته بحدة أكثر: والله عمري ما سمعت عن تنظيم اسمه "7 يناير" .. أنا أعرف إن 7 يناير هو عيد ميلاد المسيح عليه السلام لدى طوائف لكنيسة الشرقية.. وأنه أيضا تاريخ ميلادي أنا شخصيا.

وهنا تساءل بسخرية : يعني حضرتك عايز تقول إنك أنت اللي عملت تنظيم يناير..

كان من الصعب أن يتم حوار معقول بينك وبين مثل هؤلاء المتحذلقين " الأسياخ" .. كانوا لا يملون الحديث عن الاشتراكية والمادية الجدلية وأفكار ماركس وأنجلز ولينين وتروتسكي وموتسي تونج. ولا يطيقون الحديث عن تاريخ مصر القديم أو الحديث أو عن الزعماء الوطنيين أمثال عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول..

وحكاية طريفة لا تقل طرافة عن الحكاية السابقة.. فقد اكتشفت شيئا جميلا جدا في حوش العنبر الذي توجد الزنازين على جانبيه، وهو حوش واسع عرضه نحو ثلاثة أمتار وطوله نحو خمسة عشر مترا ويتجمع فيه ساعة الفسحة نحو مائة معتقل.. وقبيل الظهر من كل يوم، تنكسر أشعة الشمس متخطية الأسوار العالية التي تحيط بالعنبر من كل جانب ، وتنعكس على ركن الجدار الأيسر للعنبر.. وكانت هذه الجدران مدهونة بالجير الأبيض منذ مدة طويلة.. ربما منذ أيام محمد على الذي بنى ليمان طره في عهده.. وربما بسبب الرطوبة والزمن تخمرت طبقة الجير الأبيض وكونت ذراتها في بعض الأركان حبيبات أشعة الشمس المنكسرة عليها وتحللها إل جميع ألوان الطيف من اللون الأحمر في طرف إلى للون البنفسجي في الطرف الآخر، مرورا بالألوان المبهرة الأخرى كالأزرق والأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر.

كنت أجد متعة عظيمة في النظر إلى هذه الكريستالات من زوايا مختلفة، حيث تتشكل الألوان في تركيبات طبيعية في منتهى الجمال والروعة.. وكنت أقضي معظم وقت الفسحة متأملا في تلك التشكيلات اللونية ومستمتعا بسعادة لا حد لها.

وحتى هذه المتعة الرائعة لا يتركك الزملاء لكي تتمتع بها.. فقد تقدم إلى أحد اليساريين المعروفين- وكان اسمه الأستاذ فاروق- وجذبني من ذراعي وهو يعاتبني بشدة على هذا الانزواء والوحدة والصمت والانعزال عن الآخرين.. وهم لا يرضون أن أضع وجهي في الحائط بمجرد خروجي من الزنزانة، ويجب على أن أتحمل وألا أتألم على هذا النحو الغريب. وعبثا حاولت أن أشرح له أني لا أتألم ولا يحزنون، وإنما أتمتع بمشاهدة التشكيلات والتكوينات اللونية التي تكونها بللورات الجير، ولكنه لم يقتنع بهذا الكلام. وقال إن مثل هذه الخيالات قد تؤدي بي إلى الجنون إني لابد أن أختلط بالآخرين واندمج في الحديث مع الرفاق.

وطبعا تعرفت أيضا على بعض الشخصيات الأخرى من عالم السجن ، فقد كان هناك بعض المساجين يأتون بهم غلى العنابر التي نقيم بها من أجل تنظيفها.. وخدمتنا.. ومن أهم الشخصيات التي تعاملت معها من هؤلاء شخصية السجين الحلاق.. حيث سمحوا لنا بعد مرور أكثر من خمسة عشر يوما بحلاقة الذقن.. وطبعا لا يسمح لك في هذه الحالات باصطحاب أي ماكينة حلاقة أو موسي.. وأرسلت إلينا إدارة السجن هذا الحلاق ليحلق ذقن من يريد أن يحلق ذقنه.. وكان يستخدم في عمله قطعة " جريدة" طويلة وفي آخرها قطعة من شفرة موسي.. وتعرف كانت بتؤدي غرضها على أحسن وجه.. وبعد فترة من تعاملي مع الحلاق اكتشفت إنه محكوم عليه في قضية قتل، ولك أن تتصور مدى الرعب الذي انتابني بشدة.. ومن يومها رفضت تماما حلاقة ذقني حتى خرجت.

شخصية أخرى تعرفت عليها من هذه النوعية..ولكنه كان سجينا أمينا.. فقد توثقت علاقتي به غلى درجة أني اعتبرته أمين سر وجودي داخل الجدران.. فقد كان هو همزة الوصل بين أسرتي التي تبعث إلينا بالزيارة الأسبوعية وبيني.. وكان له معي مواقف شجاعة.. إذ تحمل في مرة من المرات تهريب إحدى خطاباتي لأسرتي. ولكن للأسف ضبط هذا الخطاب وعوقب السجين بسببي.. حيث رفض الاعتراف بأنني أرسلت معه الخطاب.. وهذا السجين كان يعرف كل أفراد أسرتي من كثرة تعامله معهم.

• .. وهل ترى السجن نقطة سوداء في حياة المفكر؟

- أنا اعتبرها أسود نقطة في حياة الإنسان.. والمفروض في السجن أن يكون رادعا لمن يرتكب جريمة.. ولكن المفكر لا يردع بالسجن.. وأسألك ولماذا ندخل في الأساس إلى هذا المكان اللعين؟. وأرجو أن أقول لك أيضا أن أسود نقاط السجن تكون بالنسبة للرجل المظلوم.

• .. وبشكل عام هل ترى في السجن عقوبة رادعة للحد من الإجرام؟

- شوف يا أستاذ .. إن الدارسين لعلم النفس الجنائي يرون في السجن مثلما نقول في سؤالك.. ولكن المفروض أن هذا الردع يخضع لعملية نسبية.. كيف.. أقول لك.. إن القانون بنصوصه موجود منذ بداية حضارة الإنسان .. فهل تمكن هذا القانون من مقاومة الجريمة.. لا أظن؟

وفي تصوري بالنسبة لأسباب وقوع الجرائم.. أرى ما يراه بعض الفلاسفة الذين شغلتهم هذه الخصوصية كثيرا من حيث أننا لو وفرنا الرفاهية التامة للناس فسوف تقع الجريمة.. وإذا عاش الناس في ضيق أيضا تكثر الجريمة.. وهنا تظهر نظرية النسبية في العقاب والتي حدثتك عنها.. فالجريمة إذن مرتبطة بحياة البشر على الأرض.. وبشكل عام لابد من العقاب الذي يختلف من مجتمع لآخر.. ونشترط ألا يصاحبه تعذيب.

وبالنسبة للمفكرين بوجه عام .. طبعا من العيب أن نزج بهم مع السفاحين والقتلة ومرتكبي الجرائم الأخلاقية.. وأتمنى ألا تكون هناك عقوبة أو سجن أو اعتقال للمفكر.. وإذا ما تحولت نظرة المسئولين إلى المفكرين على أنهم مجرمون.. فلابد أولا من محاكمتهم أمام محاكم مدنية.. ثم إفساح المجال أمامهم كي يقولوا كلمتهم.. وحتى لو فشلوا في إثبات أنهم ليسوا مذنبين.. وحكم عليهم بالعقوبة.. فلابد من معاملتهم معاملة تخالف معاملة غيرهم من المجرمين الآخرين، والجرائم كثيرة ومتنوعة، وأحب أن أسجل لك هنا شهادتي بهذا لخصوص .. إنه رغم السلبيات التي نعيشها وعشنا من خلالها، فإننا أسعد شعوب المنطقة العربية فيما يتعلق بهذه المسألة. فلدينا قدر كبير من الحرية .. وقدر كبير من الكلام.. حتى ولو لم يأخذ به، وهذا يجرنا إلى موضوع هام وهو كيف نعالج الرأي المعارض بعيدا الاعتقال أو السجون.

فلكل مفكر حريته فيما يشاء أن يقوله ما دام يبعد عن العنف ولا يخرج عن الورقة والقلم.. فالرأي المعارض له أيضا قيمة ولابد من الاستفادة به.. وليس معنى المعارضة الخصومة.. ولكن حين تخرج هذه المعارضة عن شرعية الأوراق والقلم وتلجأ إلى وسائل أخرى للعنف، فهنا لابد وأن يتدخل القانون- وبحزم- لوقف هذا العنف الذي خرج عن شرعية الفكر، الذي لا ينادي أبدا باستخدام أي وسيلة من وسائل العنف، وأمامنا القنوات التي يمكن أن نعبر من خلالها.. مثل وسائل الإعلام.

• وما رأي الأستاذ مختار السويفي في أحوال سجون مصر الآن؟ ..

- أنا حين اعتقلت دخلت مكان اسمه ليمان طره.. وبداخله وضعت في قسم اسمه قسم الاستقبال .. وكان في نظري- وحسب المدة التي قضيتها فيه- من أسوأ الأماكن في ليمان طره.. ولم شاهد أماكن داخل هذا الليمان أسوأ حالا منه.. ولكنني سمعت أن بداخل هذا الليمان أماكن أخرى جيدة.. وبها وسائل معيشة طيبة مثل السراير والبطاطين.

• .. ماذا لو كنتم مأمورا للسجن.. أثناء اعتقال مفكرين.. كيف سيكون تعاملكم مع هؤلاء المفكرين؟

- هو طبعا هذه الحكاية محكومة بلوائح ونصوص.. وأنا كدارس للقانون أرى أن هناك عدة طرق لتفسير هذه اللوائح وهذه القوانين .. وفعلا لو كنت كما تقول في هذا المنصب لأخذت الجانب غير الجامد في تنفيذ هذه اللوائح داخل السجن. وأنا نفسي كنت أعامل داخل السجن في أثناء فترة الاعتقال وفقا لهذه اللوائح، ولكن بتفسير غير جامد ويتسم بالإنسانية من جانب بعض ضباط السجن.. وأقول البعض.. لأن الأغلبية كانت تتمسك بتطبيق هذه النصوص بشكل جامد وقاس.. وبالنسبة للمفكرين كنت سوف أتعامل معهم من هذا المنطلق.. خاصة العامل الإنساني .. لأنني أتحرك في حدود اللوائح.

• .. وماذا لو كان الأستاذ مختار السويفي رئيسا للحكومة أو وزيرا للداخلية وعرضت عليه أسماء مفكرين مطلوب اعتقالهم . ما هو رد الفعل الذي سيكون لديه؟

- لو كانوا مفكرين ومطلوب القبض عليهم.. في هذه الحالة أرفض وأصر.. وأنا أعلم أنها أوامر عليا تفوق سلطاتي.. وأحاول أن أوصل صوتي بالاعتراض على هذا القرار.. وإذا لم أوفق أستقيل فورا. وقد يتم تقديم هذه الاستقالة وقبولها سرا.. وقد يشاع وقتها أنني قد أقلت من منصبي.. إلا أنه فيما بعد سوف يفصح عن مضمونها وأسبابها.. وعندئذ سيقال.. إن هذا الرجل المسئول قد استقال، لأنه رفض أن يسجن مفكرا.. وما أقصده هنا مرة أخرى هو المفكر الذي لا يستخدم وسائل العنف لتوصيل رأيه للناس.