من قتل المستشار العشماوى

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


من قتل المستشار العشماوى


بدت الجريمة مذهلة، وبدا الصمت مذهلا أيضا.


لم تنشر أخبار الجريمة ـ كما هي العادة ـ في صفحة الحوادث، بل في صفحة الوفيات، وربما تكون هذه الطريقة هي الأغرب من نوعها، اذ عمدت أسرة القاضي المصري أحمد عزت العشماوي الي نشر نعي مجدد في ذكري الأربعين علي رحيله، وهذه عادة معمول بها في مصر (عند القادرين طبعا)، فقد كان أنطون الجميل ـ رئيس تحرير الأهرام الأسبق ـ يقول من لم يمت في الأهرام ، فكأنه لم يمت ، لكن القاضي العشماوي لم يمت في الأهرام هذه المرة، بل قتل، فقد بدأ النعي بعد البسملة بايراد الآية القرآنية الكريمة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" ، بينما انتهي النعي ـ المنشور في 24 نيسان (إبريل) 2008 ـ باعلان عن الرغبة في الأخذ بالثأر، وبايراد الآية القرآنية الكريمة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".


بدت الطريقة فريدة في الاعلان المكتوم عن حادث قتل، فقد اعتبرت الأسرة أن عميدها القاضي العشماوي مات شهيدا، وأن طائر الثأر يطلب الدم، وبدت القصة مبهمة، وكأن أحدا يضع مسدسا كاتما للصوت علي رقبة الأسرة المكلومة، فلم تطلب الأسرة تحقيقا في مقتله أمام النائب العام، ولم تتقدم بشكوي من أي نوع الي أي جهة، بل التزمت حافة الصمت المطبق عندما علقت أقلام في صحف مصرية مستقلة، ولم ترد السلطات، ولا تقدم نادي القضاة ـ نقابة القضاة المصريين ـ بطلب تحقيق في الجريمة، ولا تحرك المجلس الأعلي للقضاء، وكأن شيئا لم يحدث علي الإطلاق، ورغم مرور عشرة أيام علي النعي المنشور بصفحة الأهرام الثامنة والثلاثين، وأكثر من خمسين يوما علي رحيل القاضي نفسه، فقد بدا الجميع كأنهم صم بكم عمي لا يفقهون!


ولا يبدو اسم القاضي العشماوي عابرا في الكلام العابر، وهو القتيل بلا قاتل معلن، والمعلق دمه بمصالح باطشة، فقد عرفت عن الرجل نزاهته المطلقة، وأحكامه شهيرة في قضايا فساد الكبار، فهو القاضي الذي حكم بالسجن علي رجال ونساء يوسف والي الأمين العام السابق للحزب الحاكم، والذي كان مقربا جدا من مبارك ومن إسرائيل في الوقت نفسه، ثم ان القاضي العشماوي اختفي من الحياة في لحظة حرج، مات وهو ينظر في قضية أكياس الدم الفاسدة، والمتهم فيها هاني سرور نائب الحزب الوطني المقرب من جماعة جمال مبارك، وانتقلت القضية الي دائرة أخري وقاض آخر بعد الوفاة المحيرة للعشماوي، وصدر حكم مفاجئ ببراءة ملياردير الدم المحظوظ، وكلها ألغاز ربما لن تجد حلا يريح الا أن ينتهي هذا كله، وتسقط عصابة المافيا التي تحكم مصر الآن، وتنفك عقد اللسان.


وبينما يبدو لغز مقتل العشماوي بغير تفسير مريح الي الآن، ويبدو استشهاده ـ ان صح ـ عملية معقدة جدا، فقد مات الرجل علي سرير في مستشفي، ولم يصب بضربة سكين ولا بطلقة مسدس كاتم للصوت، وهو ما قد يعني أنها جريمة قتل بالسم المدروس، وعلي طريقة اغتيال ياسر عرفات، ولو صح أن الرجل قتل بهذه الطريقة، فنحن بصدد جريمة نظام لا جريمة أفراد، بصدد جريمة تواطؤ أو تسهيل أو اهمال بالعمد، وربما تكون موصولة في خيوطها ـ لا في الموضوع ـ بسوابق للنظام ذاته، وربما نتذكر جريمة اختفاء رضا هلال ـ مدير تحرير الأهرام ـ كأنه (فص ملح وذاب)، وقد جري الحادث قبل سنوات، وبغير تفسير مقنع، ولا جثة ظاهرة الي الآن، والقصة موصولة بحوادث اختفاء غامض لشخصيات معروفة للرأي العام، وعلي طريقة ما جري للعالم النووي المصري سعيد بدير في الأسكندرية أواخر الثمانينيات، وما جري في موت جمال حمدان مفكر مصر الأعظم في شقة عزلته بالجيزة أوائل التسعينيات، وكلها ظلت مواضيع لتخمينات لا لتحقيقات، وكأننا في فيلم رعب هيتشكوكي لا تنفد فيه عناصر الاثارة الغامضة.


غير أن هذه الحوادث لا تبدو فريدة في بابها، فثمة حوادث اعتداء غامض ـ لم تصل الي القتل ـ بحق صحافيين معارضين كبار، وأسدل الستار علي حقائقها الي الآن، كما جري لجمال بدوي رئيس تحرير الوفد الأسبق، ولمجدي أحمد حسين رئيس تحرير الشعب ـ الاسلامية ـ قبل اغلاقها، ولكاتب السطور حين كان رئيسا لتحرير جريدة العربي ، وفي ذروة حملته الصحافية غير المسبوقة ضد حكم عائلة الأب والابن والأم، اذ أن التحقيقات ظلت كلها محفوظة في الأدراج، وفي حالتي بالذات، جرت ترقية النائب العام المشرف علي التحقيقات الي منصب رئيس المحكمة الدستورية العليا، وأبلغت ـ بطريق غير مباشر ـ بحقيقة ما جري في حادث خطف واعتداء بات معروفا للكافة، وبحقيقة التشكيل العصابي المنفذ بالقرب من بيت الرئاسة، وربما لا تكون اذاعة التفاصيل واردة الآن، فطاحونة القتل تواصل الدوران، وليست بعيدة واقعة اختفاء ومقتل منصور الكخيا وزير الخارجية الليبي الأسبق، وهو مقيم في فندق شهير بحي الدقي، وقد كان وقتها ضيفا في القاهرة، ومشاركا في اجتماعات مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الانسان، واختفا ء الكخيا ـ بغير جثة الي الآن ـ بدا غريبا علي تقاليد الأمن المصرية، فهو يوحي بنهاية القصة القديمة عن دقة وحذر الأمن المصري الذي يسمع دبة النملة، فيما بدا اختلاط مصالح المال ظاهرا مع جهات أمن ومع علاقات دولية ملتبسة، أضف الي ذلك أن شهوة قتل الخصوم بدت جامحة، ليس فقط بأحكام الاعدام الرسمية، وبأحكام محاكم استثنائية أو عسكرية أو عدمها، وعلي طريقة ما جري لمئات من أبناء الجماعات الاسلامية الراديكالية، كانت تلك هي القمة الظاهرة الطافية ـ فقط ـ لجبل الدم المخفي، فقد سرت في بدن النظام وحشية غير مسبوقة باطلاق مراحل التاريخ المصري الحديث والمعاصر، وبدأت سياسة الضرب في المليان مع وزير داخلية مبارك الأكثر شراسة اللواء زكي بدر، أي أن يتحول النظام الي عصابة طريق، ولا يكتفي بالاعتقال أو بالمحاكمة حتي لو كان القانون غاية في شذوذه، وأن يقتل الخصوم متي وأين وجدهم، في أي طريق أو عند أقرب ناصية.


وكان قتل علاء محيي الدين الناطق الاعلامي باسم الجماعة الاسلامية أول طريق الدم المسال علي الأرصفة، وهي الحادثة التي تبعتها عشرات من نوعها، قبلها كان الموت الغامض للشهيد سليمان خاطر في سجنه قبل المحاكمة، وقد كان متهما بقتل اسرائيليين في سيناء، وبعدها كانت حوادث الاختفاء القسري لمعتقلين من الجماعات الاسلامية بالذات، تأخذهم السلطات من بيوتهم، وتذهب بهم الي حيث لا يعرف أحد، ثم يسأل الأهل فلا يأتي الجواب، وكأن الأبناء لم يولدوا أبدا، أو كأنهم كانوا وهما تبدد، والظاهرة متضخمة وتتسع لمئات، وان كانت تقارير منظمات حقوق الانسان قد توقفت في التوثيق عند رصد ما يقرب من ستين حالة اختفاء قسري، وهي ظاهرة لم تعرف في مصر قبل عهد مبارك أبدا.


أضف الي ذلك حالة التوحش في الاعتقال تحت ظل حكم طوارئ ممتد منذ اغتيال السادات, فقد صدر ـ طبقا لتقارير حقوقية ـ أكثر من مئة ألف أمر اعتقال في أيام مبارك، وبلغ عدد المعتقلين من جماعة الاخوان وحدها ثلاثين ألفا في الخمس عشرة سنة الأخيرة، ولا توجد أرقام رسمية عن عدد المعتقلين العالقين الي الآن، وان كان تقرير للمجلس القومي لحقوق الانسان قدرهم بحوالي خمسة وعشرين ألفا، وقد تحولت المعتقلات الي محارق، ومات المئات تحت التعذيب، وبينهم ـ غالبا ـ ضحايا حالات الاختفاء القسري.


وفي حالات بعينها جرت اثارة ضجة اعلامية وبرلمانية دون أن تنتهي الي تحقيق شاف، وكما جري في حالة المحامي حارث مدني، وفي حالة أكرم الزهيري، وقد ماتا وهما تحت الاحتجاز، وكما جري ـ أيضا ـ في حالة أيمن إسماعيل الشاهد الرئيسي في قضية أيمن نور، وقد قيل ـ رسميا ـ انه شنق نفسه في سجنه علي طريقة سليمان خاطر، وربما تكون الصورة الاجمالية قريبة من هول ما جري، لو تذكرنا أن جملة التعويضات التي قضت بها المحاكم في حالات التعذيب والاعتقال العشوائي بلغت ما يقرب من 20 مليار جنيه، مع الأخذ في الاعتبار حقائق مهمة، بينها أن اثبات التعذيب دونه حواجز مانعة في أغلب الأحيان، فالتعرف علي ضباط التعذيب يبدو مستحيلا في المعتقلات، فهم يستخدمون أسماء حركية غالبا، ولا يرتدون الزي الرسمي، بينما الضحية يكون معصوب العينين، وفي حالة فوات بدني وعقلي لا يستطيع معها تذكر اسمه الشخصي ، ثم ان القانون المصري لا يجيز التحقيق في مطلق حالات التعذيب، ويقتصر بشمولها علي الضحية المستدعي في دعوي قضائية أو في تهمة محددة، وهو ما لا يحدث غالبا، فالتعذيب مجاني تماما كالاعتقال، وأوامر الاعتقال مزاجية تماما، وفي التقرير الأخير للمجلس القومي لحقوق الانسان، وهو هيئة شبه حكومية، فقد بلغ عدد الذين ماتوا تحت التعذيب 21 شخصا في أقسام الشرطة دون المعتقلات، وفي السنة الأخيرة وحدها!


باختصار، يبدو الموت المستعجل هو القدر المفضل للمصريين في ظل حكم مبارك، ثلاثة وسبعون ألفا ماتوا في حوادث الطرق في سنة! والرقم ضعف عدد الشهداء في حروب مصر كلها، ونصف مليون مصري يصابون بالتسمم والسرطانات من تلوث المياه، والرقم لدراسة علمية نشرتها الأهرام الرسمية، وربع مليون مصري يضافون سنويا لحساب فواتير السرطان القاتل، ومصر هي الأولي عالميا في عدد المصابين بالتهاب الكبد الوبائي، ولدينا ثلث المصابين بمرض الكبد القاتل في الدنيا كلها، أضف الي ذلك الانتحار فقرا، والموت في طوابير الخبز، وآلاف الشهداء في العبارات الغارقة، أو في القطارات المحترقة، أو الموت غرقا في مغامرات الهروب عبر البحر المتوسط، فأفضل انجاز حققه مبارك هو انه جعل المصريين يكرهون مصر، وانه جعلهم نفايات بشر ينتظرون الموت المستعجل في بلادهم أو علي أرصفة الغربة.


انها حرب ابادة، غامضة وظاهرة، ويراد وضع المسؤولية عنها في رقبة المجهول، بينما ـ حسني مبارك ـ يحتفل بعيد ميلاده الثمانين!